أمالي المرتضى الجزء ١

أمالي المرتضى0%

أمالي المرتضى مؤلف:
تصنيف: مكتبة اللغة والأدب
الصفحات: 679

أمالي المرتضى

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشريف أبى القاسم على بن الطاهر أبى أحمد الحسين
تصنيف: الصفحات: 679
المشاهدات: 308080
تحميل: 10900


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 679 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 308080 / تحميل: 10900
الحجم الحجم الحجم
أمالي المرتضى

أمالي المرتضى الجزء 1

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فإن تجمّع أوتاد وأعمدة

وساكن بلغوا الأمر الّذي كادوا

أي أرادوا.

وقال بعضهم: معنى قوله تعالى:( كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ) ؛ [يوسف: ٧٦]، أي أردنا ليوسف.

وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: معناه كذلك صنعنا ليوسف.

ومما يشهد لمن جعل لفظة يَكَدْ زائدة في الآية قول الشاعر:

سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه

فما إن يكاد قرنه يتنفّس

أي فما إن يتنفس قرنه، و (يكاد) مزيدة للتوكيد، وقال حسان:

وتكاد تكسل أن تجئ فراشها

في جسم خرعبة وحسن قوام

معناه وتكسل أن تجئ فراشها، وقال الآخر:

وألاّ ألوم النّفس فيما أصابني

وألاّ أكاد بالذي نلت أنجح

أي لا أنجح بالذي نلت؛ ولو لم يكن الأمر على هذا لم يكن البيت مدحا.

وروى عبد الصمد بن المعذّل بن غيلان عن أبيه عن جدّه غيلان(١) قال: قدم علينا ذو الرّمة الكوفة، فأنشدنا بالكناسة - وهو على راحلته - قصيدته الحائية؛ التي يقول فيها:

إذا غيّر النّأي المحبّين لم يكد

رسيس الهوى من حبّ ميّة يبرح(٢)

فقال له عبد الله بن شبرمة(٣) : قد برح ياذا الرّمة، ففكّر ساعة ثم قال:

إذ غيّر النّأي المحبّين لم أجد

رسيس الهوى من حبّ ميّة يبرح

قال: فأخبرت أبي بما كان من قول ذي الرّمة واعتراض ابن شبرمة عليه، فقال:

____________________

(١) حاشية ت (من نسخة): (عيلان)، وفيها: (وفي نسختين صحيحتين من ديوانه: غيلان)

(٢) ديوانه: ٧٨.

(٣) حواشي الأصل، ت، ف: (هو شبرمة بن الطفيل) بكسر الطاء وسكون الفاء، الّذي يقول:

ويوم كظلّ الرّمح قصّر طوله

دم الزّقّ عنّا واصطفاق المزاهر

والبيت من أبيات ثلاثة، ذكرها أبو تمام في الحماسة - بشرح التبريزي ٣: ٢٣٦.

٣٦١

أخطأ ذو الرّمة في رجوعه عن قوله الأوّل، وأخطأ ابن شبرمة في اعتراضه عليه؛ هذا كقوله عز وجل:( إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها ) ، أي لم يرها.

فأما قوله عز وجل:( إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها ) ؛ [طه: - ١٥]، فيحتمل أن يكون المعنى: أريد أخفيها لكي تجزى كلّ نفس بما تسعى. ويجوز أن تكون زائدة ويكون المعنى إنّ الساعة آتية أخفيها لتجزى كلّ نفس. وقد قيل فيه وجه آخر؛ وهو أن يتم الكلام عند قوله تعالى:( آتِيَةٌ أَكادُ ) ، ويكون المعنى: أكاد آتي بها، ويقع الابتداء بقوله( أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ ) ؛ ومما يشهد لهذا الوجه قول ضابئ البرجمي:

هممت ولم أفعل وكدت وليتني

تركت على عثمان تبكي حلائله(١)

أراد: وكدت أقتله، فحذف الفعل لبيان معناه.

وروي عن سعيد بن جبير أنّه كان يقرأ:( أَكادُ أُخْفِيها ) ، فمعنى أخفيها على هذا الوجه أظهرها؛ قال عبدة بن الطبيب يصف ثورا:

يخفي التّراب بأظلاف ثمانية

في أربع مسّهنّ الأرض تحليل(٢)

أراد أنه يظهر التراب ويستخرجه بأظلافه، وقال امرؤ القيس:

فإن تدفنوا الدّاء لا نخفه

وإن تبعثوا الحرب لا نقعد(٣)

أي لا نظهره؛ وقال النابغة:

تخفي بأظلافها حتّى إذا بلغت

يبس الكثيب تداعى التّرب فانهدما(٤)

____________________

(١) الشعر والشعراء: ٣١٠.

(٢) من قصيدة مفضلية ٢٦٨ - ٢٩٣ بشرح ابن الأنباري.

وفي حاشية الأصل: (يصف شدة عدو الثور، وأنه يثير الغبار بأظلاف ثمانية وأربع قوائم؛ مقدار مسهن الأرض تحليل، أي قول الرجل في يمينه إن شاء الله). وفي حواشي، ت، ف أيضا: (التحليل ضد التحريم؛ يقال: حللته تحليلا وتحلة؛ وتقول: لم أفعل ذلك إلا تحلة القسم؛ أي القدر الّذي لا أحنث معه، ولم أبالغ فيه؛ ثم توسع فيه؛ فقيل لكل شيء لم يبالغ فيه تحليل؛ يقال: ضربته تحليلا).

(٣) مختار الشعر الجاهلي: ١٣١.

(٤) البيت ليس في ديوانه، وفي حاشية ت: (ولامرئ القيس يصف فرسا أخرج اليرابيع من حجرتها بعدوه:

خفاهنّ من أنفاقهنّ كأنّما

خفاهنّ ودق من سحاب مركّب

وانظر ديوانه ٨٦.

٣٦٢

وقد روى أهل العربية: أخفيت الشيء يعني(١) سترته، وأخفيته بمعنى أظهرته، وكأنّ القراءة بالضم تحتمل الأمرين: الإظهار والستر، والقراءة بالفتح لا تحتمل غير الإظهار؛ وإذا كانت بمعنى الإظهار كان الكلام في (كاد) واحتمالها للوجوه الثلاثة التي ذكرناها كالكلام فيها إذا كانت بمعنى الستر والتغطية.

فإن قيل: فأي معنى لقوله: إني أسترها لتجزى كلّ نفس بما تسعى، أو أظهرها على الوجهين جميعا؟ وأي فائدة في ذلك؟

قلنا: الوجه في هذا ظاهر، لأنه تعالى إذا ستر عنّا وقت الساعة كانت دواعينا إلى فعل الحسن والقبيح مترددة، وإذا عرّفنا وقتها بعينه كنا ملجئين إلى التوبة، بعد مقارفة الذنوب ونقض ذلك الغرض بالتكليف واستحقاق الثواب به، فصار ما أريد من المجازاة للمكلّفين بسعيهم، وإيصال ثواب أعمالهم يمنع من اطلاعهم على وقت انقطاع التكليف عنهم.

فأما إذا كانت لفظة أُخْفِيها بمعنى الإظهار فوجهه أيضا واضح؛ لأنه تعالى إنما يقيم القيامة، ويقطع التكليف ليجازي كلاّ باستحقاقه، ويوفّي مستحقّ الثواب ثوابه، ويعاقب المسيء باستحقاقه، فوضح وجه قوله تعالى:( أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى ) على المعنيين جميعا.

قال سيدنا الشريف الأجل المرتضى أطال الله بقاءه: وجدت أبا بكر محمد بن القاسم الأنباري يطعن على جواب من أجاب في قوله:( وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ ) بأنّ معناه كادت تبلغ الحناجر، ويقول: (كاد) لا تضمر، ولا بدّ من أن يكون منطوقا بها، ولو جاز ضميرها لجاز: قام عبد الله بمعنى كاد عبد الله يقوم، فيكون تأويل قام عبد الله لم يقم عبد الله؛ لأن معنى كاد عبد الله يقوم لم يقم، وهذا الّذي ذكره غير صحيح. ونظنّ أن الّذي حمله على الطّعن في هذا الوجه حكايته له عن ابن قتيبة، لأنّ من شأنه أن يردّ كل ما يأتي به ابن

____________________

(١) حاشية ت: (أخفيته إذا كان بمعنى أظهرته كانت الألف للسلب، والمعنى: سلبته الخفاء؛ مثل شكاني فأشكيته).

٣٦٣

قتيبة، وإن تعسّف في الطعن عليه. والّذي استبعده غير بعيد؛ لأنّ (كاد) قد تضمر في مواضع يقتضيها بعض الكلام وإن لم تكن في صريحه؛ ألا ترى أنهم يقولون: أوردت على فلان من العتاب والتوبيخ والتقريع ما مات عنده، وخرجت نفسه، ولما رأى فلان فلانا لم يبق فيه روح، وما أشبه ذلك. ومعنى جميع ما ذكرناه المقاربة، ولا بد من إضمار (كاد) فيه، وقال جرير:

إنّ العيون التي في طرفها مرض

قتلنا ثمّ لم يحيين قتلانا(١)

وإنما المعنى أنهن كدن يقتلننا؛ وهذا أكثر في الشعر والكلام من أن نذكره.

فأما قوله: (يحيين قتلانا) فالأظهر في معناه أنهن لم يزلن ما قاربنا عنده الموت والقتل من الصدود والهجر وما أشبه ذلك، وسمّى هذه الأمور حياة كما سمى أضدادها قتلا، وقد قيل إن معنى (يحيين قتلانا) أنهن لم يدين قتلانا، من الدّية، لأنّ دية القتيل عند العرب كالحياة له، وقد روي: (ثم لم يجننّ قتلانا)، وهذه رواية شاذة لم تسمع من عالم ولا محصّل ومعناها ركيك ضعيف؛ وإذا كان الأمر على ما ذكرناه لم يمتنع أن يقال: قام فلان بمعنى كاد يقوم، إذا دلّت الحال على ذلك؛ كما يقال: مات بمعنى كاد يموت.

فأما قوله: (فيكون تأويل قوله: قام عبد الله، لم يقم عبد الله) فخطأ؛ لأنه ليس معنى كاد يقوم إنه لم يقم كما ظنّ بل معنا. أنه قارب القيام ودنا منه، فمن قال: قام عبد الله وأراد كاد يقوم؛ فقد أفاد ما لا يفيده لم يقم.

____________________

(١) ديوانه: ٥٩٥؛ وفي حواشي الأصل، ت، ف: (روي أنه وقع الخلاف بين هارون الرشيد وزبيدة فى هذا البيت؛ فكان هارون يقول: (يحيين)، وزبيدة تقول: هو: (يجنن)، بالجيم والنون؛ فتخاطرا على ذلك بألفي دينار، ودعوا مسرورا الخادم، وأعطياه على أن يخرج فيسأل أفضل من ببغداد من أهل العلم؛ فإن صوب قول هارون أعطاه ألفا، وإن صوب قول زبيدة فألفها، فخرج مسرور بالشموع يطلب من يفتيه في ذلك؛ فدل على الكسائي؛ وكان قريب عهد القدوم من الكوفة إلى بغداد؛ وكان يأوي إلى مسجد؛ فدخل مسرور عليه بخيله وحشمه؛ فتحفز له الكسائي؛ فقال: لا بأس؛ إنه بيت قد أشكل علينا، واستفتاه في الكلمتين فصوبهما جميعا؛ فأعطاه الألفين؛ فأصبح وقد استفاد بكلمة أوضحها ما أغناه؛ وهذا دليل على حسن تأتيه ولطافة أدبه).

٣٦٤

وأما قوله تعالى: زاغَتِ الأبْصارُ فمعناه زاغت عن النظر إلى كل شيء فلم تلتفت إلا إلى عدوها، ويجوز أن يكون المراد ب زاغَتِ، أي جارت(١) ومالت عن القصد في النظر دهشا وتحيرا.

فأما قوله تعالى:( وَتَظُنُّونَ بِالله الظُّنُونَا ) ، معناه أنكم تظنون مرة أنكم تنصرون وتظهرون على عدوّكم، ومرة أنكم تبتلون وتمتحنون بالتخلية بينكم وبينهم.

ويجوز أيضا أن يريد الله تعالى أن ظنونكم اختلفت، فظنّ المنافقون منكم خلاف ما وعدكم الله تعالى به من النصر، وشكّوا في خبره عز وجل كما قال تعالى حكاية عنهم:( ما وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ إِلاّ غُرُوراً ) ، فظنّ المؤمنون ما طابق وعد الله تعالى لهم كما حكى عز وجل عنهم في قوله:( هذا ما وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ الله وَرَسُولُهُ ) .

وكل ما ذكرناه واضح في تأويل الآية وما تعلّق بها.

____________________

(١) ت وحاشية الأصل (من نسخة): (حادت)، ومن نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (حارت).

٣٦٥

[٢٥]

مجلس آخر [المجلس الخامس والعشرون:]

تأويل آية:( وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً ) ؛ [النبأ: ٩].

فقال: إذا كان السّبات هو النوم؛ فكأنه قال: وجعلنا نومكم نوما، وهذا مما لا فائدة فيه.

الجواب، قيل له في هذه الآية وجوه:

منها أن يكون المراد بالسّبات الراحة والدّعة، وقد قال قوم: إنّ اجتماع الخلق كان في يوم الجمعة، والفراغ منه في يوم السبت، فسمّي اليوم بالسبت للفراغ الّذي كان فيه؛ ولأن الله تعالى أمر بني إسرائيل فيه بالاستراحة من الأعمال؛ قيل: وأصل السّبات التمدّد؛ يقال:

سبتت المرأة شعرها إذا حلّته من العقص وأرسلته، قال الشاعر:

وإن سبتته مال جثلا كأنّه

سدى واهلات من نواسج خثعما(١)

أراد: إن أرسلته.

ومنها أن يكون المراد بذلك القطع؛ لأن السبت القطع، والسبت أيضا الحلق؛ يقال:

سبت شعره سبتا إذا حلقه، وهو يرجع إلى معنى القطع، والنعال السّبتيّة التي لا شعر عليها؛ قال عنترة:

بطل كأنّ ثيابه في سرحة،

يحذى نعال السّبت، ليس بتوأم(٢)

____________________

(١) الجثل من الشعر: ما كشف واسود، وفي حواشي الأصل، ت، ف: (شبه شعرها في وقت الإرسال بسدى ثياب مسترخيات مرسلات. والنواسج: جمع ناسجة، وخثعم: قبيلة).

(٢) المعلقة: ١٩٩ - بشرح التبريزي، وفي حاشيتي الأصل، ف: (السرحة: شجرة طويلة، يصفه بالطول. وأراد بقوله: (يحذى نعال السبت) أنه من الملوك؛ لأن نعال السبت نعال الملوك. والسبت:

شيء يشبه القرظ، تدبغ به النعال؛ ووصفه بالشدة والقوة في قوله: (ليس بتوأم)، لأنه إذا لم يكن معه توأم كان أقوى وأتم لخلقه).

٣٦٦

 ويقال لكل أرض مرتفعة منقطعة ممّا حولها: سبتاء، وجمعها سباتى، فيكون المعنى على هذا الجواب: جعلنا نومكم سباتا، أي قطعا لأعمالكم وتصرّفكم. ومن أجاب بهذا الجواب يقول: إنما سمّي يوم السبت بذلك لأنّ بدء الخلق كان يوم الأحد؛ وجمع يوم الجمعة، وقطع يوم السبت، فترجع التسمية إلى معنى القطع.

وقد اختلف الناس في ابتداء الخلق فقال أهل التوراة: إنّ الله تعالى ابتدأه في يوم الأحد، فكان الخلق في يوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة، ثم فرغ في يوم السبت؛ وهذا قول أهل التوراة.

وقال آخرون: إن الابتداء كان في يوم الاثنين إلى السبت، وفرغ في يوم الأحد؛ وهذا قول أهل الإنجيل.

فأما قول أهل الإسلام فهو أن ابتداء الخلق كان في يوم السبت، واتصل إلى الخميس، وجعلت الجمعة عيدا؛ فعلى هذا القول الأخير يمكن أن يسمّى اليوم بالسبت، من حيث قطع فيه بعض خلق الأرض، فقد روى أبو هريرة عن النبيعليه‌السلام أنه قال: (إن الله تعالى خلق التّربة(١) في يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد).

ومنها أن يكون المراد بذلك أنّا جعلنا نومكم سباتا ليس بموت؛ لأن النائم قد يفقد من علومه وقصوده وأحواله أشياء كثيرة يفقدها الميت؛ فأراد تعالى أن يمتنّ علينا بأن جعل نومنا الّذي تضاهى فيه بعض أحوالنا أحوال الميت ليس بموت على الحقيقة، ولا بمخرج لنا عن الحياة والإدراك؛ فجعل التأكيد بذكر المصدر قائما مقام نفي الموت، وسادّا مسدّ قوله:

( وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ ) ليس بموت.

ويمكن أن يكون في الآية وجه آخر لم يذكر فيها، وهو أن السّبات ليس هو كلّ نوم، وإنما هو من صفات النوم إذا وقع على بعض الوجوه، والسّبات هو النوم الممتد الطويل

____________________

(١) من نسخة بحاشيتي ت، ف: (البرية).

٣٦٧

السكون(١) ، ولهذا يقال فيمن وصف بكثرة النوم إنه مسبوت، وبه سبات؛ ولا يقال ذلك في كلّ نائم، وإذا كان الأمر على هذا لم يجر قوله:( وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً ) مجرى أن يقول: وجعلنا نومكم نوما.

والوجه في الامتنان علينا بأن جعل نومنا ممتدا طويلا - ظاهر، وهو لما في ذلك لنا من المنفعة والراحة؛ لأن التهويم والنوم الغرار لا يكسبان(٢) شيئا من الراحة؛ بل يصحبهما في الأكثر القلق والانزعاج، والهموم هي التي تقلّل النوم وتنزّره، وفراغ القلب ورخاء البال يكون معهما غزارة النوم وامتداده؛ وهذا واضح.

قال سيدنا الشريف الأجل المرتضى أدام الله علوّه: وجدت أبا بكر محمد بن القاسم الأنباري يطعن على الجواب الّذي ذكرناه أوّلا، ويقول: إن ابن قتيبة أخطأ في اعتماده؛ لأنّ الراحة لا يقال لها: سبات، ولا يقال: سبت(٣) الرجل بمعنى استراح وأراح، ويعتمد على الجواب الّذي ثنّينا بذكره، ويقول فيما استشهد به ابن قتيبة من قولهم سبتت المرأة شعرها: إن معناه أيضا القطع، لأن ذلك إنما يكون بإزالة الشّداد الّذي كان مجموعا به وقطعه.

والمقدار الّذي ذكره ابن الأنباري لا يقدح في جواب ابن قتيبة؛ لأنه لا ينكر أن يكون السبات هو الراحة والدّعة إذا كانتا عن نوم، وإن لم توصف كل راحة بأنها سبات، ويكون هذا الاسم يخصّ(٤) الراحة إذا كانت على هذا الوجه؛ ولهذا نظائر كثيرة في الأسماء، وإذا أمكن ذلك لم يكن في امتناع قولهم: سبت الرجل بمعنى استراح في كل موضع دلالة على أنّ السّبات لا يكون اسما للراحة عند النوم؛ والّذي يبقى على ابن قتيبة أن يبيّن أن السبات هو الراحة والدّعة، ويستشهد على ذلك بشعر أو لغة، فإن البيت الّذي ذكره يمكن أن يكون المراد به القطع دون التمدّد والاسترسال.

____________________

(١) حاشية ف (من نسخة): (السكوت).

(٢) ت، ف: (لا يكسبان)، بضم الياء.

(٣) حاشية ت (من نسخة): (سبت)، بالبناء للمجهول.

(٤) من نسخة بحاشيتي ت، ف: (يختص بالراحة).

٣٦٨

فإن قيل: فما الفرق بين جواب ابن قتيبة وجوابكم الّذي ذكرتموه أخيرا؟ قلنا: الفرق بينهما بيّن، لأنّ ابن قتيبة جعل السّبات نفسه راحة، وجعله عبارة عنها، وأخذ يستشهد على ذلك بالتمدّد وغيره، ونحن جعلنا السّبات من صفات النوم، والراحة واقعة عنده للامتداد وطول السكون فيه؛ فلا يلزمنا أن يقال: سبت الرجل بمعنى استراح؛ لأنّ الشيء لا يسمّى بما يقع عنده حقيقة، والاستراحة تقع على جوابنا عند السّبات(١) ، وليس السبات إياها بعينها؛ على أن في الجواب الّذي اختاره ابن الأنباري ضربا من الكلام؛ لأن السّبت وإن كان القطع على ذكره فلم يسمع فيه البناء الّذي ذكره وهو السّبات، ويحتاج في إثبات مثل هذا البناء إلى سمع(٢) عن أهل اللغة، وقد كان يجب أن يورد من أي وجه؛ إذا كان السبت هو القطع جاز أن يقال سبات على هذا المعنى؛ ولم نره فعل ذلك.

تأويل خبر [ (إنّ الميت ليعذّب ببكاء الحي عليه):]

إن قال قائل: ما تأويل الخبر الّذي روي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : (إنّ الميت ليعذّب ببكاء الحي عليه)، وفي رواية أخرى: (إن الميت يعذّب في قبره بالنّياحة عليه)، وقد روي هذا المعنى المغيرة بن شعبة أيضا فقال: سمعت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: (من نيح عليه فإنّه يعذّب بما نيح عليه).

الجواب، إنّا إذا كنا قد علمنا بأدلة العقل التي لا يدخلها الاحتمال ولا الاتساع والمجاز قبح مؤاخذة أحد يذنب غيره، وعلمنا أيضا ذلك بأدلة السمع مثل قوله تعالى:( وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) ؛ [الأنعام: ١٦٤]، فلا بدّ أن نصرف ما ظاهره بخلاف هذه الأدلة إلى ما يطابقها.

والمعنى في الأخبار التي سئلنا عنها - إن صحّت روايتها - أنه إذا أوصى موص بأن يناح

____________________

(١) في حواشي الأصل، ت، ف: (قال ابن دريد: السبات: السكون؛ والرجل مسبوت؛ وقال الجوهري: السبت والسبات: السكون والراحة؛ وقد سبت يسبت، بالضم).

(٢) ت، د، حاشية ف (من نسخة): (سماع).

٣٦٩

عليه ففعل ذلك بأمره وعن إذنه فإنّه يعذّب بالنياحة عليه؛ وليس معنى يعذّب بها أنه يؤاخذ بفعل النّواح، وإنما معناه أن يؤاخذ بأمره بها ووصيته بفعلها، وإنما قالصلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك لأنّ الجاهلية كانوا يرون البكاء عليهم والنوح فيأمرون به، ويؤكدون الوصية بفعله وهذا مشهور عنهم؛ قال طرفة بن العبد:

فإن متّ فانعيني بما أنا أهله

وشقّي عليّ الجيب ياأمّ معبد(١)

وقال بشر بن أبي خازم لابنته عميرة(٢) :

فمن يك سائلا عن بيت بشر

فإنّ له بجنب الرّدة بابا(٣)

ثوى في ملحد لا بدّ منه

كفى بالموت نأيا واغترابا(٤)

رهين بلى وكلّ فتى سيبلى

فأذري الدّمع وانتحبي انتحابا

وقد روي عن ابن عباس في هذا الخبر أنه قال: وهل(٥) ابن عمر، إنما مرّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على يهودي فقال: (إنّكم لتبكون عليه، وإنه ليعذّب في قبره).

وقد روي إنكار هذا الخبر أيضا عن بعض أزواج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنها قالت لما أخبرت بروايته: وهل أبو عبد الرحمن كما وهل يوم قليب بدر، إنما قالعليه‌السلام : (إن أهل الميت ليبكون عليه، وإنه ليعذب بجرمه)

____________________

(١) المعلقة ٩٦ - بشرح التبريزي. والرواية فيها:

* وشقّي عليّ الجيب ياابنة معبد*

(٢) مختارات ابن الشجري ٢: ٣٢؛ من قصيدة قالها وهو يجود بنفسه بعد أن طعنه غلام من بني وائلة بسهم فأثخنه، ومطلعها:

أسائلة عميرة عن أبيها

خلال الجيش تعترف الرّكابا

(٣) الرده: جمع ردهة؛ وهي نقرة في صخرة يستنقع فيها الماء.

(٤) في مختارات ابن الشجري: (هوى في ملحد).

(٥) في حواشي الأصل، ت، ف: (قال أبو زيد: وهلت [بكسر الهاء] في الشيء وعنه أوهل وهلا [بفتحتين] إذا غلطت فيه، ووهلت [بفتح الهاء] إلى الشيء أهل وهلا [بسكون الهاء] إذا ذهب وهمك إليه، ووهلت [بكسر الهاء] أوهل وهلا [بفتحتين]: فزعت).

٣٧٠

قال سيدنا الشريف المرتضى أدام الله علوّه: معنى (وهل) أي ذهب وهمه إلى غير الصواب، يقال وهلت إلى الشيء فأنا أهل وهلا إذا ذهب وهمك إليه، ووهلت عنه أهل وهلا، أي نسيته وغلطت فيه، ووهل الرجل يوهل وهلا إذا فزع، والوهل: الفزع.

فأما (القليب) فهي البئر، والجمع القلب، قال حسان بن ثابت يذكر قتلى بدر من المشركين:

يناديهم رسول الله لما

قذفناهم كباكب في القليب(١)

ألم تجدوا حديثي كان حقّا

وأمر الله يأخذ بالقلوب

وقال آخر يبكي على قتلى بدر من المشركين:

فماذا بالقليب قليب بدر

من القينات والشّرب الكرام(٢)

وماذا بالقليب قليب بدر

من الشّيزى يكلّل بالسّنام(٣)

ومعنى وهله في ذكر القليب أنه روي أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وقف على قليب بدر فقال: (هل وجدتم ما وعد ربّكم حقّا)؟ ثم قال: (إنهم ليسمعون ما أقول)، فأنكر ذلك عليه؛ وقيل إنما قالعليه‌السلام : (إنهم الآن ليعلمون أنّ الّذي كنت أقول لهم هو الحق)، واستشهد بقول الله تعالى:( إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى ) ؛ [النمل: ٨٠]. وأهل القليب جماعة من قريش؛ منهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة، والوليد بن عتبة، وغيرهم.

وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: بينما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ذات يوم قائما يصلّي بمكة وأناس من قريش في حلقة، فيهم أبو جهل بن هشام، فقال: ما يمنع أحدكم أن يأتي الجزور التي نحرها آل فلان، فيأخذ سلاها ثم يأتي به حتى إذا سجد وضعه على ظهره؟

قال عبد الله: فانبعث أشقى القوم - وأنا أنظر إليه - فجاوبه حتى وضعه على ظهره، قال عبد الله: فلو كانت لي يومئذ منعة لمنعته. وجاءت فاطمةعليها‌السلام عليه، وهي يومئذ صبية حتى أماطته عن ظهر أبيها ثم جاءت حتى قامت على رءوسهم فأوسعتهم شتما، قال:

فو الله لقد رأيت بعضهم يضحك، حتى إنّه ليطرح نفسه على صاحبه من الضحك، فلما

____________________

(١) ديوانه: ١١ - ١٢. الكباكب: الجماعات.

(٢) ت، د، حاشية ف (من نسخة): (من الفتيان).

(٣) الشيزى: شجر عظيم يتخذ منه الجفان، وهو الآبنوس.

٣٧١

سلّم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أقبل على القوم فقال: (اللهمّ عليك بفلان وفلان)، فلما رأوا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قد دعا عليهم أسقط في أيديهم، فو الله الّذي لا إله غيره ما سمّى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يومئذ أحدا إلاّ وقد رأيته يوم بدر، وقد أخذ برجله يجرّ إلى القليب مقتولا.

وقوله: (فيأخذ سلاها) أي جلدتها التي فيها ولدها ما دام في بطنها، والجميع(١) الأسلاء؛ وقال ابن حبيب(٢) : الأسلاء التي فيها الأولاد، قال الأخطل:

ويطرحن بالثّغر السّخال كأنّما

يشقّقن بالأسلاء أردية العصب(٣)

وقال الشّماخ:

والعيس ذامية المناسم ضمّر

يقذفن بالأسلاء تحت الأركب(٤)

قال الفرّاء. سقط في أيديهم من الندامة، وأسقط لغتان، وهي بغير ألف أكثر وأجود.

ويمكن أن يكون في قوله: (يعذّب ببكاء أهله عليه) وجه آخر؛ وهو أن يكون المعنى أن الله تعالى إذا أعلمه ببكاء أهله وأعزّائه عليه وما لحقهم بعده من الحزن والهمّ تألم بذلك؛ فكان عذابا له؛ والعذاب ليس بجار مجرى العقاب الّذي لا يكون إلاّ على ذنب متقدّم؛ بل قد يستعمل كثيرا بحيث يستعمل الألم والضرر؛ ألا ترى أنّ القائل قد يقول لمن ابتدأه بالضرر والألم: قد عذّبتني بكذا وكذا؛ كما يقول: أضررت بي وآلمتني؛ وإنما لم يستعمل العقاب حقيقة في الآلام المبتدأة من حيث كان اشتقاق لفظه من المعاقبة، التي لا بد من تقدم سبب لها، وليس هذا في العذاب.

____________________

(١) ف: (الجمع).

(٢) حواشي الأصل، ت، ف: (محمد بن حبيب اللغوي، وحبيب أمه؛ وكان ولد ملاعنة فلا ينسب إلى أبيه).

(٣) ديوانه: ٢٠، وفي حاشيتي الأصل، ف:

الثغر: موضع المخافة؛ ويمكن أن يريد به هاهنا موضعا بعينه؛ يصف الإبل بالكد والجهد؛ حتى طرحت أولادها وأسلاءها مشقوقة؛ وشبه الأسلاء في حال انشقاقها عن السخال بأردية من برود اليمن).

(٤) لم يرد البيت في ديوانه وفي حاشيتي الأصل، ف: (العيس: الإبل البيض. والمناسم: مقدمة الخف. والأركب: جمع ركب، والركب: جمع ركبة؛ ويمكن أن تكون الأركب بمعنى الركبان).

٣٧٢

تأويل خبر آخر [: (ما من أحد يدخله عمله الجنة، وينجيه من النار) ]

إن سأل سائل عن الخبر الّذي يرويه أبو هريرة عن النبيعليه‌السلام أنه قال: (ما من أحد يدخله عمله الجنة، وينجيه من النار)، قيل: ولا أنت يارسول الله؟ قال: (ولا أنا؛ إلاّ أن يتغمّدني الله برحمة منه وفضل)، يقولها ثلاثا.

فقال: أو ليس في هذا دلالة على أنّ الله تعالى يتفضّل بالثواب، وأنه غير مستحق عليه؟

ومذهبكم بخلاف ذلك.

الجواب، قلنا: فائدة الخبر ومعناه بيان فقر المكلّفين إلى الله تعالى، وحاجتهم إلى ألطافه وتوفيقاته ومعوناته، وأنّ العبد لو أخرج إلى نفسه، وقطع الله تعالى موادّ المعونة واللطف عنه لم يدخل بعمله الجنة، ولا نجا من النار؛ فكأنهعليه‌السلام أراد أنّ أحدا لا يدخل الجنة بعمله الّذي لم يعنه الله تعالى عليه، ولا لطف له فيه، ولا أرشده إليه؛ وهذا هو الحق الّذي لا شبهة فيه؛ فأما الثواب فما نأبى القول بأنه تفضّل؛ بمعنى أنّ الله تعالى تفضّل بسببه الّذي هو التكليف، ولهذا نقول: إنه لا يجب على الله تعالى شيء ابتداء، وإنما يجب عليه ما أوجبه على نفسه، فالثواب مما كان أوجبه على نفسه بالتكليف؛ وكذلك التمكين والإلطاف، وكل ما يجلبه ويوجبه التكليف، ولولا إيجابه له على نفسه بالتكليف لما وجب.

فإن قيل: فقد سمى الرسول ما يفعل به فضلا فقال: (إلاّ أن يتغمّدني الله برحمة منه وفضل)، قلنا هذا يطابق ما ذكرناه، لأنّ الرحمة النعمة والثواب نعمة، وهو يفضّل من الوجه الّذي ذكرناه، وإن حملنا قولهعليه‌السلام : (برحمة منه وفضل) على ما يفعل به من الألطاف والمعونات فهي أيضا فضل وتفضّل لأنّ سببها غير واجب.

فأما قوله عليه الصلاة والسلام: (يتغمدني) فمعناه يسترني، يقال غمدت السيف في غمده إذا سترته، قال الشاعر:

نصبنا رماحا فوقها جدّ عامر

كظلّ السّماء، كلّ أرض تغمّدا

٣٧٣

فالجدّ هاهنا: الحظ، وشبّه ما قسم لعامر من الغلبة والظفر بظلّ السماء الّذي يستر كلّ شيء، ويظهر عليه.

***

أخبرنا أبو القاسم عبيد الله بن عثمان بن يحيى بن جنيقا قال أخبرنا أبو عبد الله محمد بن أحمد الحكيمي قراءة عليه قال أملى علينا أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب النحوي قال أخبرنا ابن الأعرابي قال: يقال للقوم إذا دعوت عليهم: بهرهم الله، والمبهور هو المكروب، وأنشدنا:

أبرزوها مثل المهاة تهادى

بين خمس كواعب أتراب(١)

ثمّ قالوا: تحبّها؟ قلت: بهرا

عدد الرّمل والحصى والتّراب(٢)

قال سيدنا أدام الله أيامه: وقد قيل في معنى قوله: (بهرا) غير هذا الوجه.

أخبرنا أبو عبيد الله محمد بن عمران المرزباني قال أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا القاسم بن إسماعيل قال حدثنا التّوزي عن أبي عمرو الأسدي قال سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول: عمر ابن أبي ربيعة حجّة في العربية، وما أخذ عليه شيء إلا قوله:

* ثم قالوا: تحبها؟ قلت: بهرا*

وله فيه عذر إن أراد الخبر لا الاستفهام، كأنهم قالوا: أنت تحبها؛ على وجه الإخبار منهم لا الاستفهام، فوكّد هو إخبارهم بجوابه، فهذا حسن. و (بهرا) يجوز أن يكون أراد:

نعم حبّا بهرني بهرا، ويكون أيضا بمعنى (عقرا وتعسا)، دعاء عليهم إذ جهلوا من حبّه لها ما لا يجهل مثله، وأنشد أبو عمرو:

____________________

(١) من قصيدة في الديوان، مطلعها:

قال لي صاحبي ليعلم ما بي:

أتحب القتول أخت الرباب؟

(٢) ف، ومن نسخة بحاشيتي الأصل، ت: (عدد القطر)، وفي الديوان: (عدد النجم). و (بهرا):

مصدر بمعنى الغلبة؛ وكأنه قال: غلبني حبها واستولى عليّ.

٣٧٤

لحا الله قومي إذ يبيعون مهجتي

بجارية، بهرا لهم بعدها بهرا(١)

قال أبو عمرو: ويكون (بهرا) بمعنى (ظاهرا)؛ يريد حبّا ظاهرا، من قولهم: قمر باهر، وقد روى بعض الرواة أنه قال:

* قيل لي: هل تحبها؟ قلت: بهرا*

والرواية الأولى هي المشهورة، ولعلّ من روى ذلك فرّ بهذه الرواية من اللّحن.

[أبيات لعمر بن أبي ربيعة يقولها في الثريا بنت عبد الله:]

وهذان البيتان لعمر بن أبي ربيعة المخزومي، من جملة أبيات منها:

من رسولي إلى الثّريّا بأني

ضقت ذرعا بهجرها والكتاب(٢)

وهي مكنونة تحيّر منها

في أديم الخدّين ماء الشّباب

سلبتني مجاجة المسك عقلي

فسلوها بما يحلّ اغتصابي

أرهقت(٣) أمّ نوفل إذ دعتها

مهجتي، ما لقاتلي من متاب

حين قالت لها: أجيبي، فقالت:

من دعاني؟ قالت: أبو الخطّاب

أبرزوها مثل المهاة تهادى

بين خمس كواعب أتراب

ثمّ قالوا: تحبّها؟ قلت: بهرا

عدد القطر والحصى والتّراب

والثريّا هي التي عناها عمر أمويّة، وقد اختلف في نسبها، فقيل: إنها الثريّا بنت عبد الله بن الحارث بن أمية الأصغر. أبو عبد شمس، وقيل: إنها الثريّا بنت عليّ بن عبد الله بن الحارث بن أمية الأصغر. وذكر الزبير بن بكّار أن الثريا هي بنت عبد الله بن محمد

____________________

(١) البيت لابن ميادة، وهو في اللسان (بهر)، والرواية فيه:

* تفاقد قومي إذ يبيعون مهجتي*

وفي حواشي الأصل، ت، ف: (قوله: (بهرا لهم بعدها بهرا) يجوز أن يكون الضمير في (بعدها) للجارية؛ ويكون قد كرر (بهرا)، ويجوز أن يكون الضمير (لبهرا) الأولى؛ أي بهرا لهم بعدها بهرا؛ وإنما أنت لأنها كلمة، وتكون الجملة التي هي (بعدها بهرا) في موضع الصفة لبهرا الأولى، ويجوز أن يكون الضمير للفعلة؛ أي البيعة).

(٢) في حاشيتي ت، ف: (أي امتناعها من الكتاب إلى، وقيل: هو يحلف بالمصحف).

(٣) ت، ومن نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (أزهقت).

٣٧٥

ابن عبد الله بن الحارث بن أميّة الأصغر، وأنها أخت محمد بن عبد الله المعروف بأبي جراب العبلي(١) الّذي قتله داود بن عليّ.

[خبر عمر بن أبي ربيعة وابن أبي عتيق والثريا بنت عبد الله:]

وأخبرنا أبو عبيد الله قال حدثني محمد بن عبد الله(٢) قال حدثنا أحمد بن يحيى عن الزّبير بن بكّار قال حدثني موسى بن عمر بن الأفلح قال: أخبرني بلال، مولى ابن أبي عتيق في حديث طويل لعمر بن أبي ربيعة مع الثريّا اختصرناه وأوردنا بعضه قال: لما سمع ابن أبي عتيق قول عمر:

* من رسولي إلى الثريّا بأنّي*

قال: إياي أراد: وبي نوّه، لا جرم! والله لا أذوق أكالا حتى أشخص إليه لأصلح بينهما، فنهض ونهضت معه، فجاء قوما من بني الدّيل بن بكر، لم تكن النجائب تفارقهم يكرونها فاكترى منهم راحلتين، وأعلى لهم بهما، فقلت له: استوضعهم شيئا، أو دعني أماكسهم فقد اشتطّوا، فقال لي: ويحك! أما علمت أن المكاس ليس من خلق الكرام! وركب إحداهما، وركبت الأخرى، فسار سيرا شديدا، فقلت له. ارفق على نفسك، فإنّ ما تريد لا يفوتك، فقال: ويحك!

* أبادر حبل الود أن يتقضّبا*

وما ملح الدنيا إن يتمّ الصّدع بين عمر والثّريا! فقدمنا مكة ليلا غير محرمين، فدق على عمر بابه، فخرج إليه فسلّم عليه، فما نزل ابن أبي عتيق عن راحلته، وقال لعمر: اركب أصلح بينك وبين الثريّا، فأنا رسولك الّذي سألت عنه، فركب معه، فقدمنا الطائف، فقال ابن أبي عتيق للثريّا: هذا عمر، قد جشّمني إليك سفر المدينة، فجئتك به، معترفا بذنب لم يجنه، معتذرا من إساءتك إليه، فدعيني من التّعداد والتّرداد، فإنه من الشعراء الذين يقولون ما لا يفعلون؛ فصالحته أحسن صلح، وكررنا راجعين إلى المدينة، ولم يقم ابن أبي عتيق بمكة ساعة واحدة.

____________________

(١) في حاشيتي ت، ف: (عبلة: اسم جارية؛ وأمية الصغرى، وهم حي من قريش؛ يقال لهم:

العبلات؛ بالتحريك، والنسبة إليهم عبلي [بسكون الباء] ردا إلى الواحد لأن أمهم عبلة).

(٢) ت: (محمد بن إبراهيم)؛ وهو من رواة المرزباني أيضا، وانظر الموشح: ٤٥.

٣٧٦

وفي الثريا يقول عمر أيضا لما تزوّجها سهيل بن عبد الرحمن بن عوف؛ المكتني بأبي الأبيض، وقيل بل تزوّجها سهيل بن عبد العزيز بن مروان:

أيّها المنكح الثّريّا سهيلا

عمرك الله كيف يلتقيان!(١)

هي شاميّة إذا ما استقلّت

وسهيل إذا استقلّ يماني

____________________

(١) ديوانه: ٤٩٥.

٣٧٧

[٢٦]

مجلس آخر [المجلس السادس والعشرون:]

تأويل آية:( فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ ) ؛ [طه: ٧٨].

فقال: ما الفائدة في قوله:( ما غَشِيَهُمْ ) ، وقوله:( غَشِيَهُمْ ) يدل عليه، ويستغني به عنه، لأن( غَشِيَهُمْ ) لا يكون إلاّ الّذي غشيهم، وما الوجه في ذلك؟

قلنا: قد ذكر في هذا أجوبة:

أحدها أن يكون المعنى: فغشيهم من اليمّ البعض الّذي غشيهم، لأنه لم يغشهم جميع مائه، بل غشيهم بعضه، فقال تعالى:( ما غَشِيَهُمْ ) ؛ ليدل على أنّ الّذي غرّقهم بعض الماء، وأنّهم لم يغرقوا بجميعه؛ وهذا الوجه حكي عن الفرّاء، وذكره أبو بكر الأنباري، واعتمده، وغيره أوضح منه.

واليم هو البحر، قال الشاعر:

وبني تبّع على اليمّ قصرا

عاليا مشرفا على البنيان

وثانيها أن يكون المعنى: فغشيهم من اليم ما غشى موسى وأصحابه؛ وذلك أن موسىعليه‌السلام وأصحابه، وفرعون وأصحابه سلكوا جميعا البحر، وغشيهم كلّهم؛ إلاّ أنّ فرعون وقومه لما غشيهم غرّقهم، وموسىعليه‌السلام وقومه جعل لهم في البحر طريق يبس، فقال تعالى:

فغشي فرعون وقومه من ماء اليم ما غشى موسى وقومه، فنجا هؤلاء، وهلك هؤلاء.

وعلى هذا الوجه والتأويل تكون الهاء في قوله:( ما غَشِيَهُمْ ) كناية عن غير من كنّي عنه بقوله:( فَغَشِيَهُمْ ) ؛ لأن الأولى كناية عن فرعون وقومه، والثانية كناية عن موسى وقومه.

وثالثها أنه غشيهم من عذاب اليمّ وإهلاكه لهم ما غشي الأمم السالفة من العذاب

٣٧٨

والهلاك عند تكذيبهم أنبياءهم، وإقامتهم على ردّ أقوالهم والعدول عن إرشادهم، والأمم السالفة؛ وإن لم يغشهم العذاب والإهلاك من قبل البحر، فقد غشيهم عذاب وإهلاك استحقوهما بكفرهم وتكذيبهم أنبياءهم، فشبّه بينه وبين هؤلاء من حيث اشتمال العذاب على جميعهم عقوبة على التكذيب.

ورابعها أن يكون المعنى: فغشيهم من قبل اليم ما غشيهم من العطب والهلاك؛ فتكون لفظة( غَشِيَهُمْ ) الأولى للبحر والثانية للهلاك والعطب اللذين لحقاهم من قبل البحر.

ويمكن في الآية وجه آخر لم يذكر فيها، يليق بمذاهب العرب في استعمال مثل هذا اللفظ، وهو أن تكون الفائدة في قوله تعالى:( ما غَشِيَهُمْ ) تعظيم الأمر وتفخيمه؛ كما يقول القائل:

فعل فلان ما فعل، وأقدم على ما أقدم، إذا أراد التفخيم وكما قال تعالى:( وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ ) ؛ [الشعراء: ١٩]، وما يجري هذا المجرى؛ ويدخل في هذا الباب قولهم للرجل: هذا هذا، وأنت أنت. وفي القوم: هم هم؛ قال الهذلي(١) :

رفوني وقالوا: ياخويلد لا ترع

فقلت، وأنكرت الوجوه: هم هم(٢)

وقال أبو النجم:

* أنا أبو النّجم، وشعري شعري(٣) *

كل ذلك أرادوا تعظيم الأمر وتكبيره:

____________________

(١) هو أبو خراش الهذلي.

(٢) ديوان الهذليين ٢: ١٤٤. ورفوني: سكنوني، وأصلها: (رفئوني)، بالهمز.

(٣) معاهد التنصيص، وبعده:

* للّه درّي ما يجنّ صدري*

٣٧٩

تأويل آية أخرى:( فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ ) ؛ [النحل: ٢٦]

فقال: ما الفائدة في قوله:( مِنْ فَوْقِهِمْ ) ؛ وهو لا يفيد إلا ما يفيده قوله:( فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ ) ؛ لأنّ مع الاقتصار على القول الأول لا يذهب وهم أحد إلى أن السقف يخرّ من تحتهم؟

الجواب، قيل له في ذلك أجوبة:

أولها: أن يكون (على) بمعنى (عن)، فيكون المعنى: فخرّ عنهم السقف من فوقهم؛ أي خرّ عن كفرهم وجحودهم بالله تعالى وآياته، كما يقول القائل: اشتكى فلان عن دواء شربه، وعلى دواء شربه، فيكون (على) و (عن) بمعنى من أجل الدّواء؛ كذلك يكون معنى الآية فخرّ من أجل كفرهم السّقف من فوقهم؛ قال الشاعر:

أرمي عليها وهي فرع أجمع

وهي ثلاث أذرع وإصبع

أراد: أرمي عنها؛ لأن كلام العرب: رميت عن القوس، فأقام (على) مقام (عن)، ولو أنه قال تعالى على هذا المعنى:( فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ ) ، ولم يقل( مِنْ فَوْقِهِمْ ) جاز أن يتوهم متوهم أن السقف خرّ وليس هم تحته.

وثانيها: أن يكون (على) بمعنى اللام؛ والمراد: فخر لهم السقف؛ فإن (على) قد تقام مقام اللام؛ وحكي عن العرب: ما أغيظك عليّ! وما أغمّك عليّ! يريدون: ما أغيظك، وما أغمّك لي!، قال الطّرمّاح يصف ناقة:

كأنّ مخوّاها على ثفناتها

معرّس خمس وقّعت للجناجن(١)

____________________

(١) ديوانه: ١٦٨. يقال: خوى البعير؛ إذا تجافى في بروكه ومكن لثفناته، والثفنات: جمع ثفنة؛ وهو من البعير ركبته، وما مس الأرض من كركرته وأصول أفخاذه، والمعرس: محل التعريس، وهو النزول -

٣٨٠