أمالي المرتضى الجزء ١

أمالي المرتضى0%

أمالي المرتضى مؤلف:
تصنيف: مكتبة اللغة والأدب
الصفحات: 679

أمالي المرتضى

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشريف أبى القاسم على بن الطاهر أبى أحمد الحسين
تصنيف: الصفحات: 679
المشاهدات: 308008
تحميل: 10900


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 679 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 308008 / تحميل: 10900
الحجم الحجم الحجم
أمالي المرتضى

أمالي المرتضى الجزء 1

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

أراد: وقّعت على الجناجن؛ وهي عظام الصدر، فأقام اللام مقام (على).

وقد يقول القائل أيضا: تداعت على فلان داره، واستهدم عليه حائطه، ولا يريد أنه كان تحته؛ فأخبر تعالى بقوله:( مِنْ فَوْقِهِمْ ) عن فائدة؛ لولاه ما فهمت. ولا جاز أن يتوهّم متوهّم في قوله تعالى:( فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ ) ما يتوهمه من قوله: خرب عليه ربعه، ووقفت عليه دابته، وأشباه ذلك.

وللعرب في هذا مذهب ظريف لطيف؛ لأنهم لا يستعملون لفظة (على) في مثل هذا الموضع إلا في الشرّ والأمر المكروه الضارّ، ويستعملون اللام وغيرها في خلاف ذلك؛ ألا ترى أنهم لا يقولون: عمرت على فلان ضيعته، بدلا من قولهم: خربت عليه ضيعته، ولا ولدت عليه جاريته؛ بل يقولون: عمرت له ضيعته، وولدت له جاريته؛ وهكذا من شأنهم إذا قالوا: (قال عليّ)؛ و (روى عليّ)؛ فإنه يقال في الشرّ والكذب، وفي الخير والحق؛ يقولون: (قال عنّي) و (روي عنّي)؛ ومثل ذلك قوله تعالى:( وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ ) ؛ [البقرة: ١٠٢]، لأنهم لما أضافوا الشّرّ والكفر إلى ملك سليمان حسن أن يقال: (يتلون عليه)، ولو كان خيرا لقيل عنه، ومثله( وَيَقُولُونَ عَلَى الله الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) ؛ [آل عمران: ٧٥]، وقوله:( أَتَقُولُونَ عَلَى الله ما لا تَعْلَمُونَ ) ، [يونس: ٦٨]؛ وقال الشاعر(١) :

عرضت نصيحة منّي ليحيى

فقال: غششتني، والنّصح(٢) مرّ

وما بي أن أكون أعيب يحيى

ويحيى طاهر الأخلاق برّ

____________________

 - آخر الليل. وفي حاشية الأصل: (يعني كأن تجاوف أعضائها المتجافية عند البروك معرس لخمس أنوق)؛ والبيت برواية القالي (الأمالي ٣: ١٦٥):

لها تفرات تحتها وقصارها

على مشرة لم تعتلق بالمحاجن

(١) فى حواشى الأصل، ت، ف: (كان رجل من بني حنيفة يقال له يحيى، يجيء إلى امرأة يقال لها بقعاء في قرية من قرى اليمامة، فنهاه ابن أرطاة الأعرجي عنها، فلم يقبل إلى أن رصد فجرح، فقال الأعرجي: عرضت الأبيات).

(٢) الأبيات في الكامل ١: ١٥٨ - بشرح المرصفي.

٣٨١

ولكن قد أتاني أنّ يحيى

يقال عليه في بقعاء شرّ(١)

فقلت له: تجنّب كلّ شيء

يعاب عليك، إنّ الحرّ حرّ

ومثله قول الفرزدق في عنبسة بن معدان المعروف بعنبسة الفيل - وقد كان يتتبّع شعره ويخطّئه ويلحّنه:

لقد كان في معدان والفيل زاجر

لعنبسة الراوي عليّ القصائدا

فقال: (عليّ) ولم يقل: (عنّي) للمعنى الّذي ذكرناه.

وثالث الوجوه أن يكون( مِنْ فَوْقِهِمْ ) تأكيدا للكلام وزيادة في البيان، كما قال تعالى:

( وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ) ؛ [الحج: ٤٦]، والقلب لا يكون إلاّ في الصدر؛ ونظائر ذلك في الكتاب وكلام العرب كثيرة(٢) .

________________________________________

(١) حواشي الأصل، ت، ف: (بقعاء في البيت: اسم امرأة. وبقعاء: ماء بالبادية، قالت امرأة من العرب:

ومن يهد لي من ماء بقعاء شربة

فإنّ له من ماء لينة أربعا

لقد زادني حبّا لبقعاء أنّني

رأيت مطايانا بلينة ظلّعا

فمن مبلغ أختي بالرّمل أنّني

بكيت فلم أترك بعيني مدمعا!

- بقعاء ماؤها زعاق، وماء لينة عذب، وإنما تشكو لينة؛ لأن زوجها حملها إليها وهو عنين، فذلك قولها:

* رأيت مطايانا بلينة ظلّعا*

ومثله:

تظلّ المطايا حائدات عن الهدى

إذا ما المطايا لم تجد من يقيمها

(٢) حواشي الأصل، ت، ف: (من ذلك قوله تعالى:( وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ ) ، وقوله عز من قائل:( فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ، تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ) .

٣٨٢

تأويل خبر [: (إنّ هذا القرآن مأدبة الله ]

إن سأل سائل عن الخبر الّذي يرويه نافع عن أبي إسحاق الهجري عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: (إنّ هذا القرآن مأدبة الله، فتعلّموا مأدبته ما استطعتم؛ وإنّ أصفر البيوت لجوف(١) أصفر من كتاب الله تعالى)

فقال: ما تأويله؟ وكيف بيان غريبه؟.

الجواب؛ قلنا: المأدبة في كلام العرب هي الطعام، يصنعه(٢) الرجل ويدعو الناس إليه؛ فشبه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ما يكتسبه الإنسان من خير القرآن ونفعه وعائدته عليه إذا قرأه وحفظه؛ بما يناله المدعوّ من طعام الداعي وانتفاعه به؛ يقال: قد أدب الرجل يأدب فهو آدب؛ إذا دعا الناس إلى طعامه. ويقال للمأدبة المدعاة؛ وذكر الأحمر أنه يقال فيها أيضا:

مأدبة، بفتح الدال؛ قال طرفة:

نحن في المشتاة ندعو الجفلى

لا ترى الآدب فينا ينتقر(٣)

ومعنى (الجفلى) أنه عمّ بدعوته ولم يخصّ بها قوما دون قوم، والنّقرى إذا خصّ بها بعضا دون بعض، ومعنى (ينتقر) من النّقرى؛ قال بعض هذيل:

وليلة يصطلى بالفرث جازرها

يختصّ بالنّقرى المثرين داعيها(٤)

لا ينبح الكلب فيها غير واحدة

عند الصّباح ولا تسري أفاعيها

معنى (يصطلي بالفرث جازرها) أن الجازر إذا شقّ فيها الكرش أدخل يده لشدّة البرد في الفرث مستدفئا به. ومعنى: (يختصّ بالنّقرى المثرين داعيها)؛ أنه يخصّ بدعائه إلى طعامه الأغنياء الذين يطمع من جهتهم في المكافأة، وقال الآخر:

____________________

(١) حاشية ت (من نسخة): (لبيت).

(٢) ت: (يضعه).

(٣) ديوانه: ٦٨

(٤) البيتان من مقطوعة في (ديوان الهذليين ٣: ١٢٦)، منسوبة إلى جنوب في رثاء أخيها عمرو ذي الكلب.

٣٨٣

قالوا ثلاثاؤه خصب ومأدبة

فكلّ أيّامه يوم الثّلاثاء

وقال الهذلي(١) يصف عقابا:

كأنّ قلوب الطّير في جوف وكرها

نوى القسب يلقى عند بعض المآدب(٢)

أراد جمع مأدبة.

وقد روي هذا الحديث بفتح الدال (مأدبة)، وقال الأحمر: المراد بهذه اللفظة مع الفتح هو المراد بها مع الضمّ.

وقال غيره: المأدبة، بفتح الدال (مفعلة) من الأدب؛ معناه أنّ الله تعالى أنزل القرآن أدبا للخلق، وتقويما لهم، وإنما دخلت الهاء في مأدبة ومأدبة، والقرآن مذكّر، لمعنى المبالغة؛ كما قالوا: هذا شراب مطيبة للنفس؛ وكما قال عنترة:

* والكفر مخبثة لنفس المنعم(٣) *

وجرى ذلك مجرى قولهم: رجل علاّمة ونسّابة في باب المدح على جهة التشبيه بالداهية، ورجل هلباجة(٤) في باب الذم على جهة التشبيه بالبهيمة.

[ذكر أنواع المآدب وأسمائها وما ورد في ذلك من الشعر:]

ويقال لطعام الإملاك: وليمة، ولطعام الختان: العذيرة، ولطعام الزّفاف: العرس، ولطعام بناء الدار: الوكيرة، ولطعام حلق(٥) الشعر: العقيقة، ولطعام القادم من السفر: النّقيعة، ولطعام النّفاس: الخرس، والّذي تطعمه النّفساء: الخرسة، قال الشاعر:

إذا النّفساء لم تخرّس ببكرها

غلاما ولم يسكت بحتر فطيمها(٦)

الحتر: الشيء القليل، وقال آخر:

____________________

(١) هو صخر الغي.

(٢) ديوان الهذليين ٢: ٥٥، والقسب: التمر اليابس يتفتت في الفم.

(٣) من المعلقة، ص ٢٠١ - بشرح التبريزي؛ وصدره:

* نبّئت عمرا غير شاكر نعمتي*

(٤) الهلباجة: الفدم الضخم الأكول.

(٥) حاشية ت (من نسخة): (حلق الرأس).

(٦) ت: (بختر) والبيت للأعلم الهذلي؛ كما في اللسان (خرس - حتر)، وهو أيضا في المقاييس ٢: ١٦٧، وفي حواشي الأصل، ت، ف: (كأنه يصف سنة، وأن النفساء المنفوسة بالبكر الغلام لا تخرس، ولا يسكت فطيمها بأدنى شيء).

٣٨٤

كلّ الطّعام تشتهي ربيعه

الخرس والإعذار والنّقيعه(١)

ويروى: (العرس). وينشد أيضا في النقيعة قول الشاعر:

إنّا لنضرب بالسّيوف رءوسهم

ضرب القدار نقيعة القدّام(٢)

والقدار: الجزّار. والقدّام: جمع قادم.

وقال أبو زيد: يقال لطعام الإملاك: النّقيعة، ولطعام بناء الدار: الوكيرة، ولطعام الختان: الإعذار والعذيرة.

وقال الفرّاء: الشّندخي(٣) : طعام الإملاك، والوليمة: طعام العرس.

وقال أبو زيد: يقال من النّقيعة نقعت. وقال الفراء: منها أنقعت.

وقال ابن السّكّيت: يقال للطعام الّذي يتعلّل به قدّام الغداء؛ السّلفة واللهنة؛ يقال:

الأصمعي: فلان لهّنوا ضيفكم، أي أطعموه اللهنة، قال الشاعر:

عجيّز عارضها منفلّ

طعامها اللهنة أو أقلّ(٤)

وقال ابن السّكّيت: يقال فلان يأكل الوزمة إذا كان يأكل أكلة في اليوم. وقال يأكل الوجبة، إذا كان يأكل في اليوم والليلة أكلة، قال بشار:

فاستغن بالوجبات عن ذهب

لم يبق فيه لامرئ ذهبه

وقال ابن السّكّيت: قال الأصمعي لرجل أسرع في سيره: كيف كان سيرك؟ فقال:

____________________

(١) البيتان في اللسان (خرس).

(٢) البيت في اللسان (قدر)، ونسبه إلى المهلهل، وفي حاشية الأصل: (هذا من باب تسمية الشيء بما يئول إليه؛ أي اللحم الّذي يصير نقيعا؛ كقوله تعالى:( إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً ) .

(٣) ت: (الشندخي)، بضم الشين وفتح الدال، وفي د، وحاشية ت (من نسخة): (الشندخي)، بضم الشين مع الألف المقصورة، وفي ج، ش: الشندخي)، بفتح الشين وضم الدال. وفي حواشي الأصل، ت، ف: (رواه الأزهري الهروي عن الفراء (الشنداخي)، وهو الصحيح، وقال: هو طعام البناء).

(٤) البيتان في اللسان (فلل)؛ والثاني في اللسان أيضا (لهن)، ونسبه إلى عطية الديبري. العارض: السن التي في عرض الفم، وانفل: تكسر.

٣٨٥

كنت آكل الوجبة، وأنجو الوقعة، وأعرّس إذا أفجرت، وأرتحل إذا أسفرت، وأسير الوضع، وأجتنب الملع، فجئتكم لمسي سبع.

قوله: (أنجو الوقعة)، معناه أقضي حاجتي مرة في اليوم، وهو من النّجو.

وقوله: (أسير الوضع)، فالوضع: سير فيه بعض الإسراع، والملع: سير أشدّ منه، فأراد أنه يجتنب الشديد من السير؛ كراهة أن يقف ظهره قبل أن يبلغ الأرض التي يقصد لها؛ ويقال: شرّ السّير الحقحقة، أي السير الحديد(١) الّذي يقطع صاحبه عن بلوغ بغيته، قال الشاعر:

إذ ما أردت الأرض ثمّ تباعدت

عليك فضع رحل المطيّة وانزل

أي استرح حتى تقوى على السير، فإن جهدت نفسك لم تقطع أرضا، ولم تبق ظهرا؛ وهذا من أبيات المعاني التي يسأل عنها، والّذي قيل فيه ما ذكرناه. ويمكن أن يكون معنى البيت: إذا بعدت عليك أرض فدعها واسل عنها؛ كما يقال: دواء ما عزّ مطلبه الصّبر؛ وما جرى مجرى ذلك من ألفاظ التسلية؛ والأمر بالعدول عن تتبّع ما صعب من الأمور(٢) .

وقال الآخر في معنى البيت الأول:

نقطّع بالنّزول الأرض عنّا

وبعد الأرض يقطعه النّزول

وقوله: (لمسي سبع)، معناه لمساء سبع ليال.

ويقال للذي يحضر طعام القوم من غير أن يدعوه إليه: الوارش والوروش.

وقول العامة: طفيلي مولّد لا يوجد في العتيق من كلام العرب، وأصل ذلك أن رجلا يقال له طفيل، كان بالكوفة لا يفقد من وليمة من غير أن يدعى إليها، فقيل للوارش: طفيلي؛ تشبيها بطفيل هذا في وقته.

____________________

(١) ت، د، ف، حاشية الأصل (من نسخة): (الشديد).

(٢) حواشي الأصل، ت، ف: (مثله: أرخص ما يكون النفط إذا غلا؛ يعني أنه لا يشرى فيكون رخيصا).

٣٨٦

ويقال للذي يحضر شراب القوم من غير أن يدعى إليه واغل؛ قال امرؤ القيس:

فاليوم فاشرب غير مستحقب

إثما من الله ولا واغل(١)

ويقال لما يشربه الواغل: الوغل، قال الشاعر:

إن أك مسكرا فلا أشرب ال

وغل ولا يسلم منّي البعير(٢)

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (إنّ أصفر البيوت لجوف أصفر من كتاب الله)، معناه:

أخلى البيوت؛ والصّفر عند العرب: الخالي؛ من الآنية وغيرها. ويمكن في قوله: (مأدبة) وجه آخر؛ وهو أن يكون وجه التشبيه للقرآن بالمأدبة وتسميته بها من حيث دعا الخلق إليه، وأمرهم بالاجتماع عليه، فسماهعليه‌السلام (مأدبة) لهذا الوجه، لأن المأدبة هي التي يدعى الناس إليها، ويجتمعون عليها؛ وهذا الوجه يخالف الأول، لأن الأول تضمّن أنّ وجه التشبيه من حيث النفع العائد على الحافظ للقرآن كما ينتفع المدعوّ إلى المأدبة بما يصيبه من الطّعام. وهذا الوجه الآخر تضمّن أن التشبيه وقع لاجتماع الناس في الدعاء إليه، والإرشاد إلى إصابته. وليس يبعد أن يريدعليه‌السلام بالخبر المعنيين معا، فلا تنافي بينهما(٣) .

***

[أخبار متفرقة عن الأصمعي وحضور ذهنه عند إنشاء الشعر:]

أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد الكاتب قال أخبرنا ابن دريد قال أخبرنا أبو حاتم قال:

____________________

(١) ديوانه: ١٥٠، والرواية فيه:

* فاليوم أسقى غير مستحقب*

وفي حاشية ت (من نسخة):

* فاليوم أشرب غير مستحقب*

(٢) اللسان (وغل)، ونسبه لعمرو بن قميئة.

(٣) في حاشيتي الأصل، ف: (ويمكن أن يكون في معنى الخبر وجه آخر، وهو أنهعليه‌السلام إنما شبه القرآن بالمأدبة لما اشتملت عليه المأدبة من أنواع الأطعمة، من الحلو والحامض والمالح وغير ذلك مما لا يكون في غير المآدب، فكذلك القرآن يشتمل على أنواع من العلوم لا توجد في غيره، كما قال تعالى:( وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ ) ، وهذا وجه عن الشيخ الإمام جمال الدين أبي الفتوح الرازي رحمه الله في أثناء الدرس، وهو أقرب وأشبه من الوجهين المذكورين).

٣٨٧

كنّا في مجلس الأصمعي إذ أقبل أعرابي فقال: أين عميدكم؟ فأشرنا إلى الأصمعي، فقال له:

ما معنى قول الشاعر:

لا مال إلاّ العطاف تؤزره

أمّ ثلاثين وابنة الجبل(١)

لا يرتقي النزّ في ذلاذله

ولا يعدّي نعليه من بلل(٢)

فقال الأصمعي:

عصرته نطفة تضمّنها

لصب تلقّي مواضع السّبل

أو وجبة من جناة أشكلة

إن لم يرغها بالقوس لم تنل(٣)

قال: فأدبر الأعرابي وهو يقول: لم أر كاليوم عضلة(٤) .

قال ابن دريد: إنما وصف رجلا خائفا في رأس جبل؛ يقول: لا مال له إلاّ العطاف - وهو السّيف - تؤزره أمّ ثلاثين؛ يعني كنانة فيها ثلاثون سهما. وابنة الجبل؛ يعني القوس، لأنها تعمل من شجر الجبال مثل النّبع وغيره.

وقوله: (لا يرتقي النّزّ في ذلاذله)، لأنه في رأس جبل؛ فلا نزّ هناك يتعلق بما يفضل من ثيابه، ولا بلل يعدّي نعليه عنهما.

والعصرة: الملجأ. والنّطفة: الماء المجتمع في صخر أو غيره من بقيّة ماء المطر. واللّصب:

الشّق في الجبل أضيق من اللهب(٥) وأوسع من الشّعب. والسّبل: المطر.

والوجبة: أن يأكل كلّ يوم مرة. والأشكل: السّدر الجبلي، واحده أشكلة؛ يقول:

____________________

(١) الأبيات في اللسان (عطف)، وروي عن ثعلب أنها في وصف صعلوك. وفي حواشي الأصل، ت، ف: (أصل العطاف الرداء؛ فشبه به السيف)، وتؤزره: تعينه.

(٢) النز: الماء الّذي يتحلب من الأرض والذلاذل: أسافل القميص الطويل.

(٣) حاشية الأصل (من نسخة): (يرغها) بفتح الياء وضم الراء، وفيها: (أراغ معناه طلب، وراغ: مال؛ يقال:

راغ إليه؛ فحذف حرف الجر، وأوصل الفعل؛ ومن ذلك قوله تعالى:( وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ ) .

(٤) العضلة: الداهية؛ يقال: فلان عضلة وعضل، أي شديد داهية.

(٥) اللهب: الطريق بين الجبلين.

٣٨٨

فهذه النطفة والوجبة من الأشكلة عصرتاه. وقوله: (إن لم يرغها بالقوس)؛ يعني أنها لا تنال باليد حتى تحرّك بالقوس.

قال سيدنا أدام الله علوّه: وإنما جعل الأصمعي إنشاد باقي الأبيات دلالة على معرفة معناها؛ لأنه يبعد أن يعرفها ولا يعرف معناها، والأعرابي إنما سأل عن المعنى، فأقام إنشاده لها مقام تفسيرها، واستغنى الأعرابي بذلك وعلم بإتمامه للأبيات معرفته بمعانيها.

وكان الأصمعي كثيرا إذا أنشد شيئا من الشعر ينشد في معناه في الحال، فمن ذلك أن إسحاق بن إبراهيم الموصلي أنشده يوما لنفسه:

إذا كانت الأحرار أصلي ومنصبي

وقام بنصري خازم وابن خازم

عطست بأنف شامخ وتناولت

يداي الثّريّا قاعدا غير قائم

قال: فلما فرغت من إنشادهما أنشد بعقب ذلك:

ألا أيّها السائلي جاهلا

ليعرفني، أنا أنف الكرم

نمت في الكرام بني عامر(١)

فروعي وأصلي قريش العجم(٢)

قال: فجاء والله بالشّعر الّذي نحوته وعملت بيتي عليه.

وأخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال حدثنا محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا عون بن محمد قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال: ما أنشدت الأصمعي شيئا قط إلا أنشدني مثله؛ كأنه أعدّه لي، فأنشدته يوما للأعشى:

علّقتها عرضا وعلّقت رجلا

غيري وعلّق أخرى غيرها الرّجل(٣)

____________________

(١) حاشية الأصل (من نسخة):

* نمت في الكرام بنو عامر*

(٢) حاشية الأصل: (يقول: أصلي قريش الذين يسكنون بلاد العجم وفرعي بنو عامر؛ كأن أباه قرشي وأمه عامرية).

(٣) ديوانه: ٤٣، وفي حاشية الأصل: (أي عشقتها اعتراضا لا قصدا واعتزاما، ومثله:

جننت بليلي وهي جنّت بغيرنا

وأخرى بنا مجنونة لا نريدها

٣٨٩

فأنشدني من وقته:

قتلتك أخت بني لؤي إذ رمت

وأصاب نبلك إذ رميت سواها(١)

وأعارها الحدثان منك مودّة

وأعار غيرك ودّها وهواها

وذكر أبو العيناء قال: كان الأصمعي إذا سمع إنسانا ينشد شعرا في معنى أنشد في ذلك المعنى من غير أن يريه أنه أراده، فأنشده رجل قول القطامي:

والناس من يلق خيرا قائلون له

ما يشتهي، ولأمّ المخطئ الهبل(٢)

فأنشد هو قول قعنب الفزاري:

فمن يلق خيرا يحمد النّاس أمره

ومن يغو لا يعدم على الغي لائما(٣)

وروى ميمون بن هارون قال: سمعت إسحاق بن إبراهيم يقول: أنشدت الأصمعي قول الأعشى، طلبا أن ينشدني مثله - وكان مع بخله بالعلم لا يضنّ بمثل هذا:

إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا

أو تنزلون فإنّا معشر نزل(٤)

فأنشدني لربيعة بن مقروم الضبي.

ولقد شهدت الخيل يوم طرادها

بسليم أو ظفة القوائم هيكل(٥)

فدعوا نزال، فكنت أوّل نازل

وعلام أركبه إذا لم أنزل!

وروي عن إسحاق بن إبراهيم أيضا أنه قال: دخل يوما إلى الأصمعي، وعندي أخ

____________________

(١) البيتان لعدي بن الرقاع؛ وهما في مجموعة الطرائف ٩٢، ومعجم البلدان ٨: ٢٠٤.

(٢) جمهرة الأشعار: ٣٠٣؛ وفي حاشية الأصل: (يقول: من أصاب مالا قيل له ما يشتهي ولا يخالف، ومن تجاوزه المال خولف في كل شيء ولعن).

(٣) كذا ذكره المؤلف؛ ونسبه المفضل الضبي إلى المرقش الأصغر، وانظر المفضليات: ٢٤٧ (طبعة المعارف).

(٤) ديوانه: ٤٨، وروايته:

* قالوا الرّكوب فقلنا تلك عادتنا*

(٥) خزانة الأدب ٣: ٥٦٥. الأوظفة: جمع وظيف، وهو مستدق الذراع والساق من الخيل.

والهيكل: الضخم المشرف.

٣٩٠

للعماني الراجز، حافظ رواية، فلما دخل عبث به أخو العماني(١) ، فقال له: من هذا؟ قال: هو الباهلي الّذي يقول(١) :

فما صحفة مأدومة بإهالة

بأطيب من فيها ولا أقط رطب(٢)

فقال له قبل أن يستتم كلامه: هو على كلّ حال أصلح من قول أخيك العماني:

ياربّ جارية حوراء ناعمة

كأنّها عومة في جوف راقود(٣)

قال إسحاق: فقلت له: أكنت أعددت هذا الجواب؟ قال: لا، ولكن ما مرّ بي شيء إلا وأنا أعرف منه طرفا.

____________________

(١ - ١) من نسخة بحاشيتي الأصل، ت: (فقال: من هذا الباهلي الّذي يقول).

(٢) الصحفة: قصعة دون الجفنة والإهالة: الشحم المذاب. والأقط: شيء يتخذ من المخيض الغنمي.

(٣) حواشي الأصل، ت، ف: (العومة: دويبة تسبح في الماء، كأنها فص أسود مدملك.

والعومة: ضرب من السمك معروف). والراقود: دن كبير.

٣٩١

[٢٧]

مجلس آخر [المجلس السابع والعشرون:]

تأويل آية:( وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ الله )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ الله وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ الله ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ ) ؛ [التوبة: ٣٠].

فقال: أي معنى لقوله:( بِأَفْواهِهِمْ ) ومعلوم أنّ القول لا يكون إلا بالأفواه؟.

الجواب، قلنا: المقول يحتمل معنيين في لغة العرب: أحدهما القول باللّسان، والآخر بالقلب، فالقول الّذي يضاف إلى القلب هو الظّنّ والاعتقاد، ولهذا المعنى ذهبت العرب بالقول مذهب الظّن فقالوا: أتقول عبد الله خارجا؟ ومتى تقول محمدا منطلقا؟ يريدون: متى تظن؟

قال الشاعر:

أما الرّحيل فدون بعد غد

فمتى تقول الدّار تجمعنا!(١)

أراد: فمتى تظن الدار! وقال الآخر:

أجهّالا تقول بني لؤي

لعمر أبيك أم متجاهلينا!(٢)

أراد: تظن بني لؤي، وقال توبة بن الحميّر:

ألا ياصفي النّفس كيف تقولها

لو أنّ طريدا خائفا يستجيرها(٣)

____________________

(١) البيت لعمر بن أبي ربيعة، ديوانه: ٣٩٤.

(٢) البيت للكميت بن زيد الأسدي؛ وهو من (شواهد ابن عقيل على الألفية ١: ٣٩٧)، وفي حاشية الأصل: (لا يجوز أن تنصب جهالا بتقول إذا جعلته على معنى القول، لأن القول لا يتعدى إلى ما كان مما لا يندرج تحت السمع، والجهال جثت، فلا يتأنى ذلك فيها، فلا بد أن يكون قال بمعنى ظن، ولهذا يصح أن تقول: سمعت زيدا يقرأ ويقول ويتكلم ويشعر، ولا تقول: سمعت زيدا يضرب؛ لأن السمع يقع على ما يسمع).

(٣) البيتان من قصيدة طويلة؛ ذكرت بتمامها في تزيين الأسواق ٩٦ - ٩٨.

٣٩٢

تخبّر إن شطّت بها غربة النّوى

ستنعم ليلى أو يفكّ أسيرها(١)

أراد: كيف تظنها؟ فلما كان القول يستعمل في الأمرين معا أفاد قوله تعالى:( بِأَفْواهِهِمْ ) قصر المعنى على ما يكون باللسان دون القلب، ولو أطلق القول، ولم يأت بذكر الأفواه لجاز أن يتوهّم المعنى الآخر:

ومما يشهد لذلك قوله تعالى:( إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله وَالله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَالله يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ ) ؛ [المنافقون: ١]، فلم يكذّب الله تعالى قول ألسنتهم: لأنهم لم يخبروا بأفواههم إلاّ بالحق، بل كذّب ما يرجع إلى قلوبهم من الاعتقادات.

ووجه آخر وهو أن تكون الفائدة في قوله تعالى:( بِأَفْواهِهِمْ ) أنّ القول لا برهان عليه، وأنه باطل كذب لا يرجع فيه إلاّ إلى مجرّد القول باللسان؛ لأن الإنسان قد يقول بلسانه الحقّ والباطل، وإنما يكون قوله حقّا إذا كان راجعا إلى قلبه، فتكون إضافة القول إلى اللسان تقتضي ما ذكرناه من الفائدة، وهذا كما يقول القائل لمن يشكّ في قوله أو يكذبه:

هكذا تقول بلسانك، وليس الشأن فيما تقوله وتتفوّه به وتقلّب به لسانك؛ فكأنّهم أرادوا أن يقولوا: هذا قول لا برهان عليه، فأقاموا قولهم: هكذا تقول بلسانك، وإنما يقولون كذا بأفواههم مقام ذلك؛ والمعنى أنه قول لا تعضده حجّة ولا برهان، ولا يرجع فيه إلا إلى اللسان.

____________________

(١) حواشي الأصل، ت، ف: (في ديوانه: (تجير وإن شطت)، يخاطب الشاعر صديقا له فيقول: ياصفي نفسي، كيف تظن ليلى الأخيلية لو استجار بها مستجير! ثم استأنف فقال: هي تجير وإن كانت قد عذبتنا بالفراق، ثم قال: ستنعم ليلى أو يفادى أسيرها، ويعني بالأسير نفسه، أي ستجود يوما أو أفتدي نفسي منها، هذا إذا روي: (تجير وإن شطت)، وكذلك هو في ديوانه، وأما وجه ما رواه السيد: (تخبر)، فمعناه: تخبرني أنت ياصفي نفسي إن تناءت أنها ستنعم، وإن رويت: (أن شطت) بالفتح كان المعنى: لأن تناءت. وعلى ما ذكره السيدرضي‌الله‌عنه يمكن أن يذكر للبيت وجه آخر؛ وهو أنه يقول ويخاطب صديقا له: كيف تظنها لو أني استجرت بها! كنى عن نفسه بالخائف المستجير ثم يقول:

تخبر ياخليلي، يعني أني أعلم أنك تقول: هي إما أن تنعم بالوصال أو أنا أسلو؛ وهذا معنى: (يفك أسيرها)، لأنه إذا سلا فقد فك أسره؛ وهذا الوجه الأخير مستفاد من ملك النحاة).

٣٩٣

ووجه آخر، وهو أن تكون الفائدة في ذلك التأكيد، فقد جرت به عادة العرب في كلامها، وما تقدم من الوجهين أولى؛ لأنّ حمل كلامه تعالى على الفائدة أولى من حمله على ما تسقط معه الفائدة.

تأويل آية أخرى:( أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاّ الله جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ ) ؛ [إبراهيم: ٩].

فقال: أي معنى لردّ الأيدي في الأفواه؟ وأي مدخل لذلك في التكذيب بالرسلعليهم‌السلام ؟

الجواب، قلنا في ذلك وجوه:

أولها أن يكون إخبارا عن القوم بأنّهم ردّوا أيديهم في أفواههم، عاضّين عليها غيظا وحنقا على الأنبياء، كما يفعل المتوعّد لغيره، المبالغ في معاندته ومكايدته؛ وهذه عادة معروفة في المغيظ المحنق أنّه يعضّ على أصابعه، ويفرك أنامله، ويضرب بإحدى يديه على الأخرى؛ وما شاكل ذلك من الأفعال.

وثانيها أن تكون الهاء في الأيدي للكفار المكذّبين، والهاء التي في الأفواه للرسلعليهم‌السلام ؛ فكأنّهم لما سمعوا وعظ الرسل ودعاءهم وإنذارهم أشاروا بأيديهم إلى أفواه الرسل، مانعين لهم عن الكلام كما يفعل المسكّت منّا لصاحبه، الرّادّ لقوله.

وثالثها أن تكون الهاء في الأيدي والتي في الأفواه معا للرسل؛ والمعنى أنهم كانوا يأخذون أيدي الرسل فيضعونها على أفواههم ليسكتوهم، ويقطعوا كلامهم.

٣٩٤

ورابعها أن تكون الهاءان جميعا يرجعان إلى الكفار(١) لا إلى الرسل؛ فيكون المعنى أنّهم إذا سمعوا وعظهم وإنذارهم وضعوا أيدي أنفسهم على أفواههم؛ مشيرين لهم بذلك إلى الكفّ عن الكلام والإمساك عنه؛ كما يفعل من يريد منّا أن يسكّت غيره، ومنعه من الكلام، من وضع إصبعه على في نفسه.

وخامسها أن يكون المعنى: فردّوا القول بأيدي أنفسهم إلى أفواه الرّسل، أي أنّهم كذّبوهم، ولم يصغوا إلى أقوالهم، فالهاء الأولى للقوم، والثانية للرسل؛ والأيدي إنما ذكرت مثلا وتأكيدا؛ كما يقول القائل: أهلك فلان نفسه بيده، أي وقع الهلاك به من جهته، لا من جهة غيره.

وسادسها أن المراد بالأيدي النعم وفِي محمولة على الباء، والهاء الثانية للقوم المكذبين والتي قبلها للرّسل، والتقدير: فردّوا بأفواههم نعم الرّسل؛ أي ردّوا وعظهم وإنذارهم وتنبيههم على مصالحهم الّذي لو قبلوه لكان نعما عليهم.

ويجوز أيضا أن تكون الهاء التي في الأيدي للقوم الكفار، لأنها نعم من الله تعالى عليهم، فيجوز إضافتها إليهم وحمل لفظة فِي على معنى الباء جائز لقيام بعض الصّفات مقام بعض؛ يقولون: رضيت عنك، ورضيت عليك وحكي في لغة طيئ: أدخلك الله بالجنة، يريدون في الجنة، فيعبرون بالباء عن معنى (في)؛ كذلك أيضا يصح أن يعبروا بفي عن الباء؛ قال الشاعر:

وأرغب فيها عن لقيط ورهطه

ولكنّني عن سنبس لست أرغب

أراد: وأرغب بها فحمل (في) على الباء.

____________________

(١) في حاشيتي الأصل، ف: (يمكن أن يجعل الضميران جميعا للرسلعليهم‌السلام ، على معنى أنهم لما لم يقبلوا وعظهم وإنذارهم رد الرسل بأيديهم إلى أفواه أنفسهم، إشارة إلى أنا قد سكتنا، فافعلوا ما شئتم تهديدا وتهويلا).

٣٩٥

وسابعها - وهو جواب اختاره أبو مسلم بن بحر، وزعم أنّه أولى من غيره - قال خ خ المضمرون في قوله: أَيْدِيهِمْ الرسل، وكذلك المضمرون في أَفْواهِهِمْ، والمراد باليد هاهنا ما نطق به الرسل من الحجج والبيّنات التي ذكر الله تعالى أنهم جاءوا بها قومهم؛ واليد في كلام العرب قد تقع على النعمة وعلى السلطان أيضا، وعلى الملك، وعلى العهد والعقد؛ ولكل ذلك شاهد من كلامهم؛ والّذي أتى به الأنبياء قومهم هو الحجة والسلطان، وهو النعمة، وهو العهد، وكلّ ذلك يقع عليه اسم اليد. ولمّا كان ما يعظ به الأنبياء قومهم وينذرونهم به إنما يخرج من أفواههم، فردوه وكذبوه قيل: إنهم ردّوا أيديهم في أفواههم، أي أنهم ردّوا القول من حيث جاء قال: ولا يجوز أن يكون الضمير في ذلك للمرسل إليهم كما تأوله بعض المفسرين، وذكر أن معناه أنهم عضّوا عليهم أناملهم غيظا؛ لأن رافع يده إلى فيه، والعاضّ عليها لا يسمّى رادّا ليده إلى فيه، إلا إذا كانت يده في فيه فيخرجها ثم يردّها.

قال سيدنا الشريف أدام الله علوّه: وليس ما استنكره أبو مسلم من رد الأيدي إلى الأفواه بمستنكر ولا بعيد، لأنه قد يقال: ردّ يده إلى فيه، وإلى وجهه، وعاد فلان يقول كذا، ورجع يفعل كذا؛ وإن لم يتقدم ذلك الفعل منه. ولو لم يسغ هذا القول تحقيقا؛ لساغ تجوّزا واتساعا؛ وليس يجب أن تؤخذ العرب بالتحقيق في كلامها؛ فإن تجوّزها واستعاراتها أكثر، على أنه يمكن أن يكون المراد بذلك أنهم فعلوا ذلك الفعل شيئا بعد شيء، وتكرّر منهم، فلهذا جاز أن يقول: ردّوا أيديهم في أفواههم، لأنه قد تقدم منهم مثل هذا الفعل، فلما تكرّر جازت العبارة عنه بالرّد، وهذا يبطل استضعافه للجواب إذا صرنا إلى مراده.

٣٩٦

تأويل خبر [: خبر النبيعليه‌السلام حين سمع رجلا ينشد شعرا لسويد بن عامر وتأويل ما ورد فيه الغريب]

روي أن مسلما الخزاعي ثم المصطلقي قال: شهدت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله - وقد أنشده منشد قول سويد بن عامر المصطلقي(١) :

لا تأمننّ وإن أمسيت في حرم

إنّ المنايا بكفّي كلّ إنسان(٢)

واسلك طريقك تمشي غير مختشع(٣)

حتّى تبيّن ما يمنى لك الماني

فكلّ ذي صاحب يوما يفارقه(٤)

وكلّ زاد وإن أبقيته فان

والخير والشّرّ مقرونان في قرن(٥)

بكلّ ذلك يأتيك الجديدان

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (لو أدركته لأسلم)، فبكى مسلم، فقال له ابنه:

ياأبه، ما يبكيك من مشرك مات في الجاهلية! فقال: يابنيّ، لا تفعل فما رأيت مشركة تلقّفت من مشرك خيرا من سويد.

قوله: (ما يمني لك الماني) معناه ما يقدّر لك القادر؛ قال الفرّاء: يقال: مني الله عليه الموت؛ أي قدّر الله عليه الموت. وقال يعقوب: مناك الله بما يسرّك، أي قدّر الله لك ما يسرّك، وأنشد:

____________________

(١) نسب البيت الأول والثاني والرابع إلى أبي قلادة الهذلي، من قصيدة أولها:

يادار أعرفها وحشا منازلها

بين القوائم من رهط فألبان

مع اختلاف في روايتها وترتيبها، وانظر ديوان الهذليين ٣: ٣٦ - ٣٩، واللسان (مني).

(٢) حواشي الأصل، ت، ف: (المعروف (بجنبي)، هذا هو الصحيح)، وهي أيضا رواية ديوان الهذليين؛ يقول: لا تأمنن أن تأتيك منيتك وإن كنت بالحرم حيث يأمن الطير).

(٣) رواية اللسان:

* واسلك طريقك فيها غير محتشم*

ورواية ديوان الهذليين:

* ولا تقولن لشيء سوف أفعله*

(٤) حاشية ت (من نسخة): (مفارقه).

(٥) رواية ديوان الهذليين:

* إنّ الرّشاد وإنّ الغي في قرن*

٣٩٧

لعمر أبي عمرو لقد ساقه المنى

إلى جدث يوزى له بالأهاضب(١)

وقال ابن الأعرابي: ساقه المنى، أي ساقه القدر؛ وأنشد ابن الأعرابي:

منت لك أن تلاقيني المنايا

أحاد أحاد في الشّهر الحلال(٢)

معناه قدّرت لك.

وقال أبو عبيدة في قوله تعالى:( مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى ) ؛ [النجم: ٤٦]، معناه إذا تخلق وتقدّر.

وقال بعض أهل اللغة: إنّما سمي (منّي) لما يمنى فيه من ثواب الله تعالى؛ أي يقدّر فيه؛ وقيل أيضا بما يمنى فيه من الدّم(٣) ؛ وقيل: إنما سمي بذلك لأن إبراهيمعليه‌السلام لما انتهى إليه قال له الملك: تمنّ، قال: أتمنّى الجنة، فسمي منى لذلك. ومنى يذكر ويؤنث، والتذكير أجود، قال الشاعر في التذكير:

سقى منى ثم روّاه وساكنه

ومن ثوى فيه واهي الودق منبعق(٤)

وقال آخر في التأنيث:

ليومنا بمنى إذ نحن ننزلها

أسرّ من يومنا بالعرج أو ملل(٥)

____________________

(١) البيت مطلع قصيدة لصخر الغي، يرثي أخاه أبا عمرو بن عبد الله، وقد نهشته حية فمات؛ (ديوان الهذليين ٢: ٥١ - ٥٧). وفي حواشي الأصل، ت، ف: (يؤزى، من الإزاء، والإزاء: مصب الماء في الحوض، يقال: أزيت الحوض [بالتضعيف]، وآزيته، والإزاء للقبر في الحقيقة؛ إلا أنه على الاستعارة.

ويجوز أن يكون الضمير في (له) للمرثى؛ أي يهيأ له؛ هذا إذا همزت (يؤزى)؛ وهو قول الأصمعي، فأما إذا لم تهمزه فمعنى يؤزى ينصب ويشخص؛ يقال: أوزى ظهره إلى الحائط؛ أي أسنده ويقال: هضبة وهضبات وهضاب وأهضاب وأهاضب وأهاضيب).

(٢) اللسان (منى)، وفي حاشية الأصل: (أي قدرت المنايا ملاقاتها إياي لأجلك).

(٣) المراد بيمنى هاهنا: يراق.

(٤) الودق: المطر، والواهي: المندفع بالماء، وكذلك المنبعق، وفي حاشيتي الأصل، ف: (جعل للسحاب سقاء، ثم جعله واهي العقد، فهو أشد إرسالا، وهذا مثل).

(٥) العرج: موضع قريب من الطائف، وإليه ينسب العرجي الشاعر، وهو عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان. وملل: موضع في طريق مكة.

٣٩٨

فأما قوله:

* والخير والشّرّ مقرونان في قرن*

فالقرن الحبل؛ وأراد أنهما مجموعان لا يفترقان؛ من حيث لا يكاد يصيب الإنسان في الدنيا خير صرف لا شرّ فيه؛ فلهذا قال إنهما مقرونان. ويجوز أيضا أن يريد أنّ لسرعة تقلّب الدنيا وإبدالها الخير بالشر كأن الخير والشرّ مقرونان مجموعان معا، لتقارب ما بينهما.

فأما الجديدان، فهما اللّيل والنهار، وهما أيضا الأجدّان، والملوان، والفتيان، والرّدفان، والعصران؛ قال الشاعر:

إنّ الجديدين في طول اختلافهما

لا يفسدان ولكن يفسد النّاس(١)

وقال آخر:

وأمطله العصرين حتّى يملّني

ويرضى بنصف الدّين والأنف راغم(٢)

وقال أبو عبيدة: ويقال الليل والنهار ابنا سبات، وأنشد ابن الأعرابي:

وكنّا وهم كابني سبات تفرّقا

سوى ثمّ كانا منجدا وتهاميا(٣)

ويقال للغداة والعشي: القرّتان(٤) ، والبردان، والصّرعان(٥) .

***

[أبيات لرفيع الوالبي:]

أخبرنا أبو القاسم عبيد الله بن عثمان بن يحيى قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن أحمد الحكيمي قال: أملى علينا أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب النحوي قال: أنشدنا ابن الأعرابي لرفيع الوالبي:

كذبتك ما وعدتك أمس صلاح

وعسى يكون لما وعدت نجاح(٦)

____________________

(١) البيت للخنساء، ديوانها: ١٥٥.

(٢) الحيوان ٣: ٢٤٩، وإصلاح المنطق: ٤٣٧، من غير عزو.

(٣) اللسان (سبت)، ونسبه إلى ابن أحمر، وفيه عن ابن حبيب: (أن ابني سبات رجلان، رأى أحدهما صاحبه في المنام ثم انتبه، وأحدهما بنجد والآخر بتهامة)

(٤) ت: (القرنان).

(٥) حاشية الأصل: (أصل الصرع الّذي يصارعك).

(٦) صلاح: اسم امرأة، وفي حاشية الأصل: (كأنها وعدته بالوصال الّذي يبرئ سقمه).

٣٩٩

برء من السّقم الطّويل ضمانه

لا يستوي سقم بكم وصحاح

إصلاح إنّك قد رميت نوافذا

وجوائفا ليست لهنّ جراح(١)

ولقد رأيتك بالقوادم لمحة

وعليّ من سدف العشي رياح(٢)

- معنى رياح هاهنا، أي عليّ وقت من العشي، ومثله رواح؛ وقوم يروونه بالكسر وليس بشيء -

ما كان أبصرني بغرّات الصّبا

فاليوم قد شفعت لي الأشباح(٣)

ومشى بجنب الشّخص شخص مثله

والأرض نائية الشّخوص براح(٤)

حلق الحوادث لمّتي فتركن لي

رأسا يصلّ كأنّه جمّاح

وذكا بأصداغي وقرن ذؤابتي

قبس المشيب كأنّه مصباح

قال: كأنّه جمّاح من امّلاسه، وجمّاح: سهم أو قصبة يجعل عليه طين، ثم يرمى به الطير.

وبهذا الإسناد لبعضهم:

أرى النّاس للصّعلوك حربا ولا أرى

لذي نشب إلاّ خليلا مصافيا

أرى المال يغشى ذا الوصوم فلا ترى

ويدعى من الأشراف من كان غانيا(٥)

الصعلوك: الفقير، وهو أيضا القرضوب، والسّبروت. والوصوم: العيوب.

[أخبار عقيل بن علّفة وإيراد طائفة من شعره:]

وبهذا الإسناد لعقيل بن علّفة:

إني ليحمدني الخليل إذا اجتدى

مالي ويكرهني ذوو الأضغان

وأبيت تخلجني الهموم كأنّني

دلو السّقاة تمدّ بالأشطان(٦)

____________________

(١) نوافذ؛ أي سهاما نافذة، وجوائف، أي تبلغ الجوف.

(٢) البيت في اللسان (روح)، ورواه: (رياح) بالكسر. والقوادم: أوائل النظر. والسدف: جمع سدفة؛ وهي الظلمة.

(٣) شفعت: صارت شفعا، أي أصبح يرى الشيء شيئين كما يراه الأحول؛ يصف ضعف بصره.

(٤) حاشية ت (من نسخة): (نابية).

(٥) حاشية ت: (غانيا؛ أي غنيا؛ ومعناه ذا غنى، كلابن وتامر).

(٦) تخلجني: تشغلني؛ كذا ذكره صاحب اللسان واستشهد بالبيت. والأشطان. الحبال.

٤٠٠