أمالي المرتضى الجزء ١

أمالي المرتضى5%

أمالي المرتضى مؤلف:
تصنيف: مكتبة اللغة والأدب
الصفحات: 679

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 679 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 325167 / تحميل: 11701
الحجم الحجم الحجم
أمالي المرتضى

أمالي المرتضى الجزء ١

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

أراد: وقّعت على الجناجن؛ وهي عظام الصدر، فأقام اللام مقام (على).

وقد يقول القائل أيضا: تداعت على فلان داره، واستهدم عليه حائطه، ولا يريد أنه كان تحته؛ فأخبر تعالى بقوله:( مِنْ فَوْقِهِمْ ) عن فائدة؛ لولاه ما فهمت. ولا جاز أن يتوهّم متوهّم في قوله تعالى:( فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ ) ما يتوهمه من قوله: خرب عليه ربعه، ووقفت عليه دابته، وأشباه ذلك.

وللعرب في هذا مذهب ظريف لطيف؛ لأنهم لا يستعملون لفظة (على) في مثل هذا الموضع إلا في الشرّ والأمر المكروه الضارّ، ويستعملون اللام وغيرها في خلاف ذلك؛ ألا ترى أنهم لا يقولون: عمرت على فلان ضيعته، بدلا من قولهم: خربت عليه ضيعته، ولا ولدت عليه جاريته؛ بل يقولون: عمرت له ضيعته، وولدت له جاريته؛ وهكذا من شأنهم إذا قالوا: (قال عليّ)؛ و (روى عليّ)؛ فإنه يقال في الشرّ والكذب، وفي الخير والحق؛ يقولون: (قال عنّي) و (روي عنّي)؛ ومثل ذلك قوله تعالى:( وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ ) ؛ [البقرة: ١٠٢]، لأنهم لما أضافوا الشّرّ والكفر إلى ملك سليمان حسن أن يقال: (يتلون عليه)، ولو كان خيرا لقيل عنه، ومثله( وَيَقُولُونَ عَلَى الله الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) ؛ [آل عمران: ٧٥]، وقوله:( أَتَقُولُونَ عَلَى الله ما لا تَعْلَمُونَ ) ، [يونس: ٦٨]؛ وقال الشاعر(١) :

عرضت نصيحة منّي ليحيى

فقال: غششتني، والنّصح(٢) مرّ

وما بي أن أكون أعيب يحيى

ويحيى طاهر الأخلاق برّ

____________________

 - آخر الليل. وفي حاشية الأصل: (يعني كأن تجاوف أعضائها المتجافية عند البروك معرس لخمس أنوق)؛ والبيت برواية القالي (الأمالي ٣: ١٦٥):

لها تفرات تحتها وقصارها

على مشرة لم تعتلق بالمحاجن

(١) فى حواشى الأصل، ت، ف: (كان رجل من بني حنيفة يقال له يحيى، يجيء إلى امرأة يقال لها بقعاء في قرية من قرى اليمامة، فنهاه ابن أرطاة الأعرجي عنها، فلم يقبل إلى أن رصد فجرح، فقال الأعرجي: عرضت الأبيات).

(٢) الأبيات في الكامل ١: ١٥٨ - بشرح المرصفي.

٣٨١

ولكن قد أتاني أنّ يحيى

يقال عليه في بقعاء شرّ(١)

فقلت له: تجنّب كلّ شيء

يعاب عليك، إنّ الحرّ حرّ

ومثله قول الفرزدق في عنبسة بن معدان المعروف بعنبسة الفيل - وقد كان يتتبّع شعره ويخطّئه ويلحّنه:

لقد كان في معدان والفيل زاجر

لعنبسة الراوي عليّ القصائدا

فقال: (عليّ) ولم يقل: (عنّي) للمعنى الّذي ذكرناه.

وثالث الوجوه أن يكون( مِنْ فَوْقِهِمْ ) تأكيدا للكلام وزيادة في البيان، كما قال تعالى:

( وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ) ؛ [الحج: ٤٦]، والقلب لا يكون إلاّ في الصدر؛ ونظائر ذلك في الكتاب وكلام العرب كثيرة(٢) .

________________________________________

(١) حواشي الأصل، ت، ف: (بقعاء في البيت: اسم امرأة. وبقعاء: ماء بالبادية، قالت امرأة من العرب:

ومن يهد لي من ماء بقعاء شربة

فإنّ له من ماء لينة أربعا

لقد زادني حبّا لبقعاء أنّني

رأيت مطايانا بلينة ظلّعا

فمن مبلغ أختي بالرّمل أنّني

بكيت فلم أترك بعيني مدمعا!

- بقعاء ماؤها زعاق، وماء لينة عذب، وإنما تشكو لينة؛ لأن زوجها حملها إليها وهو عنين، فذلك قولها:

* رأيت مطايانا بلينة ظلّعا*

ومثله:

تظلّ المطايا حائدات عن الهدى

إذا ما المطايا لم تجد من يقيمها

(٢) حواشي الأصل، ت، ف: (من ذلك قوله تعالى:( وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ ) ، وقوله عز من قائل:( فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ، تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ) .

٣٨٢

تأويل خبر [: (إنّ هذا القرآن مأدبة الله ]

إن سأل سائل عن الخبر الّذي يرويه نافع عن أبي إسحاق الهجري عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: (إنّ هذا القرآن مأدبة الله، فتعلّموا مأدبته ما استطعتم؛ وإنّ أصفر البيوت لجوف(١) أصفر من كتاب الله تعالى)

فقال: ما تأويله؟ وكيف بيان غريبه؟.

الجواب؛ قلنا: المأدبة في كلام العرب هي الطعام، يصنعه(٢) الرجل ويدعو الناس إليه؛ فشبه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ما يكتسبه الإنسان من خير القرآن ونفعه وعائدته عليه إذا قرأه وحفظه؛ بما يناله المدعوّ من طعام الداعي وانتفاعه به؛ يقال: قد أدب الرجل يأدب فهو آدب؛ إذا دعا الناس إلى طعامه. ويقال للمأدبة المدعاة؛ وذكر الأحمر أنه يقال فيها أيضا:

مأدبة، بفتح الدال؛ قال طرفة:

نحن في المشتاة ندعو الجفلى

لا ترى الآدب فينا ينتقر(٣)

ومعنى (الجفلى) أنه عمّ بدعوته ولم يخصّ بها قوما دون قوم، والنّقرى إذا خصّ بها بعضا دون بعض، ومعنى (ينتقر) من النّقرى؛ قال بعض هذيل:

وليلة يصطلى بالفرث جازرها

يختصّ بالنّقرى المثرين داعيها(٤)

لا ينبح الكلب فيها غير واحدة

عند الصّباح ولا تسري أفاعيها

معنى (يصطلي بالفرث جازرها) أن الجازر إذا شقّ فيها الكرش أدخل يده لشدّة البرد في الفرث مستدفئا به. ومعنى: (يختصّ بالنّقرى المثرين داعيها)؛ أنه يخصّ بدعائه إلى طعامه الأغنياء الذين يطمع من جهتهم في المكافأة، وقال الآخر:

____________________

(١) حاشية ت (من نسخة): (لبيت).

(٢) ت: (يضعه).

(٣) ديوانه: ٦٨

(٤) البيتان من مقطوعة في (ديوان الهذليين ٣: ١٢٦)، منسوبة إلى جنوب في رثاء أخيها عمرو ذي الكلب.

٣٨٣

قالوا ثلاثاؤه خصب ومأدبة

فكلّ أيّامه يوم الثّلاثاء

وقال الهذلي(١) يصف عقابا:

كأنّ قلوب الطّير في جوف وكرها

نوى القسب يلقى عند بعض المآدب(٢)

أراد جمع مأدبة.

وقد روي هذا الحديث بفتح الدال (مأدبة)، وقال الأحمر: المراد بهذه اللفظة مع الفتح هو المراد بها مع الضمّ.

وقال غيره: المأدبة، بفتح الدال (مفعلة) من الأدب؛ معناه أنّ الله تعالى أنزل القرآن أدبا للخلق، وتقويما لهم، وإنما دخلت الهاء في مأدبة ومأدبة، والقرآن مذكّر، لمعنى المبالغة؛ كما قالوا: هذا شراب مطيبة للنفس؛ وكما قال عنترة:

* والكفر مخبثة لنفس المنعم(٣) *

وجرى ذلك مجرى قولهم: رجل علاّمة ونسّابة في باب المدح على جهة التشبيه بالداهية، ورجل هلباجة(٤) في باب الذم على جهة التشبيه بالبهيمة.

[ذكر أنواع المآدب وأسمائها وما ورد في ذلك من الشعر:]

ويقال لطعام الإملاك: وليمة، ولطعام الختان: العذيرة، ولطعام الزّفاف: العرس، ولطعام بناء الدار: الوكيرة، ولطعام حلق(٥) الشعر: العقيقة، ولطعام القادم من السفر: النّقيعة، ولطعام النّفاس: الخرس، والّذي تطعمه النّفساء: الخرسة، قال الشاعر:

إذا النّفساء لم تخرّس ببكرها

غلاما ولم يسكت بحتر فطيمها(٦)

الحتر: الشيء القليل، وقال آخر:

____________________

(١) هو صخر الغي.

(٢) ديوان الهذليين ٢: ٥٥، والقسب: التمر اليابس يتفتت في الفم.

(٣) من المعلقة، ص ٢٠١ - بشرح التبريزي؛ وصدره:

* نبّئت عمرا غير شاكر نعمتي*

(٤) الهلباجة: الفدم الضخم الأكول.

(٥) حاشية ت (من نسخة): (حلق الرأس).

(٦) ت: (بختر) والبيت للأعلم الهذلي؛ كما في اللسان (خرس - حتر)، وهو أيضا في المقاييس ٢: ١٦٧، وفي حواشي الأصل، ت، ف: (كأنه يصف سنة، وأن النفساء المنفوسة بالبكر الغلام لا تخرس، ولا يسكت فطيمها بأدنى شيء).

٣٨٤

كلّ الطّعام تشتهي ربيعه

الخرس والإعذار والنّقيعه(١)

ويروى: (العرس). وينشد أيضا في النقيعة قول الشاعر:

إنّا لنضرب بالسّيوف رءوسهم

ضرب القدار نقيعة القدّام(٢)

والقدار: الجزّار. والقدّام: جمع قادم.

وقال أبو زيد: يقال لطعام الإملاك: النّقيعة، ولطعام بناء الدار: الوكيرة، ولطعام الختان: الإعذار والعذيرة.

وقال الفرّاء: الشّندخي(٣) : طعام الإملاك، والوليمة: طعام العرس.

وقال أبو زيد: يقال من النّقيعة نقعت. وقال الفراء: منها أنقعت.

وقال ابن السّكّيت: يقال للطعام الّذي يتعلّل به قدّام الغداء؛ السّلفة واللهنة؛ يقال:

الأصمعي: فلان لهّنوا ضيفكم، أي أطعموه اللهنة، قال الشاعر:

عجيّز عارضها منفلّ

طعامها اللهنة أو أقلّ(٤)

وقال ابن السّكّيت: يقال فلان يأكل الوزمة إذا كان يأكل أكلة في اليوم. وقال يأكل الوجبة، إذا كان يأكل في اليوم والليلة أكلة، قال بشار:

فاستغن بالوجبات عن ذهب

لم يبق فيه لامرئ ذهبه

وقال ابن السّكّيت: قال الأصمعي لرجل أسرع في سيره: كيف كان سيرك؟ فقال:

____________________

(١) البيتان في اللسان (خرس).

(٢) البيت في اللسان (قدر)، ونسبه إلى المهلهل، وفي حاشية الأصل: (هذا من باب تسمية الشيء بما يئول إليه؛ أي اللحم الّذي يصير نقيعا؛ كقوله تعالى:( إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً ) .

(٣) ت: (الشندخي)، بضم الشين وفتح الدال، وفي د، وحاشية ت (من نسخة): (الشندخي)، بضم الشين مع الألف المقصورة، وفي ج، ش: الشندخي)، بفتح الشين وضم الدال. وفي حواشي الأصل، ت، ف: (رواه الأزهري الهروي عن الفراء (الشنداخي)، وهو الصحيح، وقال: هو طعام البناء).

(٤) البيتان في اللسان (فلل)؛ والثاني في اللسان أيضا (لهن)، ونسبه إلى عطية الديبري. العارض: السن التي في عرض الفم، وانفل: تكسر.

٣٨٥

كنت آكل الوجبة، وأنجو الوقعة، وأعرّس إذا أفجرت، وأرتحل إذا أسفرت، وأسير الوضع، وأجتنب الملع، فجئتكم لمسي سبع.

قوله: (أنجو الوقعة)، معناه أقضي حاجتي مرة في اليوم، وهو من النّجو.

وقوله: (أسير الوضع)، فالوضع: سير فيه بعض الإسراع، والملع: سير أشدّ منه، فأراد أنه يجتنب الشديد من السير؛ كراهة أن يقف ظهره قبل أن يبلغ الأرض التي يقصد لها؛ ويقال: شرّ السّير الحقحقة، أي السير الحديد(١) الّذي يقطع صاحبه عن بلوغ بغيته، قال الشاعر:

إذ ما أردت الأرض ثمّ تباعدت

عليك فضع رحل المطيّة وانزل

أي استرح حتى تقوى على السير، فإن جهدت نفسك لم تقطع أرضا، ولم تبق ظهرا؛ وهذا من أبيات المعاني التي يسأل عنها، والّذي قيل فيه ما ذكرناه. ويمكن أن يكون معنى البيت: إذا بعدت عليك أرض فدعها واسل عنها؛ كما يقال: دواء ما عزّ مطلبه الصّبر؛ وما جرى مجرى ذلك من ألفاظ التسلية؛ والأمر بالعدول عن تتبّع ما صعب من الأمور(٢) .

وقال الآخر في معنى البيت الأول:

نقطّع بالنّزول الأرض عنّا

وبعد الأرض يقطعه النّزول

وقوله: (لمسي سبع)، معناه لمساء سبع ليال.

ويقال للذي يحضر طعام القوم من غير أن يدعوه إليه: الوارش والوروش.

وقول العامة: طفيلي مولّد لا يوجد في العتيق من كلام العرب، وأصل ذلك أن رجلا يقال له طفيل، كان بالكوفة لا يفقد من وليمة من غير أن يدعى إليها، فقيل للوارش: طفيلي؛ تشبيها بطفيل هذا في وقته.

____________________

(١) ت، د، ف، حاشية الأصل (من نسخة): (الشديد).

(٢) حواشي الأصل، ت، ف: (مثله: أرخص ما يكون النفط إذا غلا؛ يعني أنه لا يشرى فيكون رخيصا).

٣٨٦

ويقال للذي يحضر شراب القوم من غير أن يدعى إليه واغل؛ قال امرؤ القيس:

فاليوم فاشرب غير مستحقب

إثما من الله ولا واغل(١)

ويقال لما يشربه الواغل: الوغل، قال الشاعر:

إن أك مسكرا فلا أشرب ال

وغل ولا يسلم منّي البعير(٢)

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (إنّ أصفر البيوت لجوف أصفر من كتاب الله)، معناه:

أخلى البيوت؛ والصّفر عند العرب: الخالي؛ من الآنية وغيرها. ويمكن في قوله: (مأدبة) وجه آخر؛ وهو أن يكون وجه التشبيه للقرآن بالمأدبة وتسميته بها من حيث دعا الخلق إليه، وأمرهم بالاجتماع عليه، فسماهعليه‌السلام (مأدبة) لهذا الوجه، لأن المأدبة هي التي يدعى الناس إليها، ويجتمعون عليها؛ وهذا الوجه يخالف الأول، لأن الأول تضمّن أنّ وجه التشبيه من حيث النفع العائد على الحافظ للقرآن كما ينتفع المدعوّ إلى المأدبة بما يصيبه من الطّعام. وهذا الوجه الآخر تضمّن أن التشبيه وقع لاجتماع الناس في الدعاء إليه، والإرشاد إلى إصابته. وليس يبعد أن يريدعليه‌السلام بالخبر المعنيين معا، فلا تنافي بينهما(٣) .

***

[أخبار متفرقة عن الأصمعي وحضور ذهنه عند إنشاء الشعر:]

أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد الكاتب قال أخبرنا ابن دريد قال أخبرنا أبو حاتم قال:

____________________

(١) ديوانه: ١٥٠، والرواية فيه:

* فاليوم أسقى غير مستحقب*

وفي حاشية ت (من نسخة):

* فاليوم أشرب غير مستحقب*

(٢) اللسان (وغل)، ونسبه لعمرو بن قميئة.

(٣) في حاشيتي الأصل، ف: (ويمكن أن يكون في معنى الخبر وجه آخر، وهو أنهعليه‌السلام إنما شبه القرآن بالمأدبة لما اشتملت عليه المأدبة من أنواع الأطعمة، من الحلو والحامض والمالح وغير ذلك مما لا يكون في غير المآدب، فكذلك القرآن يشتمل على أنواع من العلوم لا توجد في غيره، كما قال تعالى:( وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ ) ، وهذا وجه عن الشيخ الإمام جمال الدين أبي الفتوح الرازي رحمه الله في أثناء الدرس، وهو أقرب وأشبه من الوجهين المذكورين).

٣٨٧

كنّا في مجلس الأصمعي إذ أقبل أعرابي فقال: أين عميدكم؟ فأشرنا إلى الأصمعي، فقال له:

ما معنى قول الشاعر:

لا مال إلاّ العطاف تؤزره

أمّ ثلاثين وابنة الجبل(١)

لا يرتقي النزّ في ذلاذله

ولا يعدّي نعليه من بلل(٢)

فقال الأصمعي:

عصرته نطفة تضمّنها

لصب تلقّي مواضع السّبل

أو وجبة من جناة أشكلة

إن لم يرغها بالقوس لم تنل(٣)

قال: فأدبر الأعرابي وهو يقول: لم أر كاليوم عضلة(٤) .

قال ابن دريد: إنما وصف رجلا خائفا في رأس جبل؛ يقول: لا مال له إلاّ العطاف - وهو السّيف - تؤزره أمّ ثلاثين؛ يعني كنانة فيها ثلاثون سهما. وابنة الجبل؛ يعني القوس، لأنها تعمل من شجر الجبال مثل النّبع وغيره.

وقوله: (لا يرتقي النّزّ في ذلاذله)، لأنه في رأس جبل؛ فلا نزّ هناك يتعلق بما يفضل من ثيابه، ولا بلل يعدّي نعليه عنهما.

والعصرة: الملجأ. والنّطفة: الماء المجتمع في صخر أو غيره من بقيّة ماء المطر. واللّصب:

الشّق في الجبل أضيق من اللهب(٥) وأوسع من الشّعب. والسّبل: المطر.

والوجبة: أن يأكل كلّ يوم مرة. والأشكل: السّدر الجبلي، واحده أشكلة؛ يقول:

____________________

(١) الأبيات في اللسان (عطف)، وروي عن ثعلب أنها في وصف صعلوك. وفي حواشي الأصل، ت، ف: (أصل العطاف الرداء؛ فشبه به السيف)، وتؤزره: تعينه.

(٢) النز: الماء الّذي يتحلب من الأرض والذلاذل: أسافل القميص الطويل.

(٣) حاشية الأصل (من نسخة): (يرغها) بفتح الياء وضم الراء، وفيها: (أراغ معناه طلب، وراغ: مال؛ يقال:

راغ إليه؛ فحذف حرف الجر، وأوصل الفعل؛ ومن ذلك قوله تعالى:( وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ ) .

(٤) العضلة: الداهية؛ يقال: فلان عضلة وعضل، أي شديد داهية.

(٥) اللهب: الطريق بين الجبلين.

٣٨٨

فهذه النطفة والوجبة من الأشكلة عصرتاه. وقوله: (إن لم يرغها بالقوس)؛ يعني أنها لا تنال باليد حتى تحرّك بالقوس.

قال سيدنا أدام الله علوّه: وإنما جعل الأصمعي إنشاد باقي الأبيات دلالة على معرفة معناها؛ لأنه يبعد أن يعرفها ولا يعرف معناها، والأعرابي إنما سأل عن المعنى، فأقام إنشاده لها مقام تفسيرها، واستغنى الأعرابي بذلك وعلم بإتمامه للأبيات معرفته بمعانيها.

وكان الأصمعي كثيرا إذا أنشد شيئا من الشعر ينشد في معناه في الحال، فمن ذلك أن إسحاق بن إبراهيم الموصلي أنشده يوما لنفسه:

إذا كانت الأحرار أصلي ومنصبي

وقام بنصري خازم وابن خازم

عطست بأنف شامخ وتناولت

يداي الثّريّا قاعدا غير قائم

قال: فلما فرغت من إنشادهما أنشد بعقب ذلك:

ألا أيّها السائلي جاهلا

ليعرفني، أنا أنف الكرم

نمت في الكرام بني عامر(١)

فروعي وأصلي قريش العجم(٢)

قال: فجاء والله بالشّعر الّذي نحوته وعملت بيتي عليه.

وأخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال حدثنا محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا عون بن محمد قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال: ما أنشدت الأصمعي شيئا قط إلا أنشدني مثله؛ كأنه أعدّه لي، فأنشدته يوما للأعشى:

علّقتها عرضا وعلّقت رجلا

غيري وعلّق أخرى غيرها الرّجل(٣)

____________________

(١) حاشية الأصل (من نسخة):

* نمت في الكرام بنو عامر*

(٢) حاشية الأصل: (يقول: أصلي قريش الذين يسكنون بلاد العجم وفرعي بنو عامر؛ كأن أباه قرشي وأمه عامرية).

(٣) ديوانه: ٤٣، وفي حاشية الأصل: (أي عشقتها اعتراضا لا قصدا واعتزاما، ومثله:

جننت بليلي وهي جنّت بغيرنا

وأخرى بنا مجنونة لا نريدها

٣٨٩

فأنشدني من وقته:

قتلتك أخت بني لؤي إذ رمت

وأصاب نبلك إذ رميت سواها(١)

وأعارها الحدثان منك مودّة

وأعار غيرك ودّها وهواها

وذكر أبو العيناء قال: كان الأصمعي إذا سمع إنسانا ينشد شعرا في معنى أنشد في ذلك المعنى من غير أن يريه أنه أراده، فأنشده رجل قول القطامي:

والناس من يلق خيرا قائلون له

ما يشتهي، ولأمّ المخطئ الهبل(٢)

فأنشد هو قول قعنب الفزاري:

فمن يلق خيرا يحمد النّاس أمره

ومن يغو لا يعدم على الغي لائما(٣)

وروى ميمون بن هارون قال: سمعت إسحاق بن إبراهيم يقول: أنشدت الأصمعي قول الأعشى، طلبا أن ينشدني مثله - وكان مع بخله بالعلم لا يضنّ بمثل هذا:

إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا

أو تنزلون فإنّا معشر نزل(٤)

فأنشدني لربيعة بن مقروم الضبي.

ولقد شهدت الخيل يوم طرادها

بسليم أو ظفة القوائم هيكل(٥)

فدعوا نزال، فكنت أوّل نازل

وعلام أركبه إذا لم أنزل!

وروي عن إسحاق بن إبراهيم أيضا أنه قال: دخل يوما إلى الأصمعي، وعندي أخ

____________________

(١) البيتان لعدي بن الرقاع؛ وهما في مجموعة الطرائف ٩٢، ومعجم البلدان ٨: ٢٠٤.

(٢) جمهرة الأشعار: ٣٠٣؛ وفي حاشية الأصل: (يقول: من أصاب مالا قيل له ما يشتهي ولا يخالف، ومن تجاوزه المال خولف في كل شيء ولعن).

(٣) كذا ذكره المؤلف؛ ونسبه المفضل الضبي إلى المرقش الأصغر، وانظر المفضليات: ٢٤٧ (طبعة المعارف).

(٤) ديوانه: ٤٨، وروايته:

* قالوا الرّكوب فقلنا تلك عادتنا*

(٥) خزانة الأدب ٣: ٥٦٥. الأوظفة: جمع وظيف، وهو مستدق الذراع والساق من الخيل.

والهيكل: الضخم المشرف.

٣٩٠

للعماني الراجز، حافظ رواية، فلما دخل عبث به أخو العماني(١) ، فقال له: من هذا؟ قال: هو الباهلي الّذي يقول(١) :

فما صحفة مأدومة بإهالة

بأطيب من فيها ولا أقط رطب(٢)

فقال له قبل أن يستتم كلامه: هو على كلّ حال أصلح من قول أخيك العماني:

ياربّ جارية حوراء ناعمة

كأنّها عومة في جوف راقود(٣)

قال إسحاق: فقلت له: أكنت أعددت هذا الجواب؟ قال: لا، ولكن ما مرّ بي شيء إلا وأنا أعرف منه طرفا.

____________________

(١ - ١) من نسخة بحاشيتي الأصل، ت: (فقال: من هذا الباهلي الّذي يقول).

(٢) الصحفة: قصعة دون الجفنة والإهالة: الشحم المذاب. والأقط: شيء يتخذ من المخيض الغنمي.

(٣) حواشي الأصل، ت، ف: (العومة: دويبة تسبح في الماء، كأنها فص أسود مدملك.

والعومة: ضرب من السمك معروف). والراقود: دن كبير.

٣٩١

[٢٧]

مجلس آخر [المجلس السابع والعشرون:]

تأويل آية:( وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ الله )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ الله وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ الله ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ ) ؛ [التوبة: ٣٠].

فقال: أي معنى لقوله:( بِأَفْواهِهِمْ ) ومعلوم أنّ القول لا يكون إلا بالأفواه؟.

الجواب، قلنا: المقول يحتمل معنيين في لغة العرب: أحدهما القول باللّسان، والآخر بالقلب، فالقول الّذي يضاف إلى القلب هو الظّنّ والاعتقاد، ولهذا المعنى ذهبت العرب بالقول مذهب الظّن فقالوا: أتقول عبد الله خارجا؟ ومتى تقول محمدا منطلقا؟ يريدون: متى تظن؟

قال الشاعر:

أما الرّحيل فدون بعد غد

فمتى تقول الدّار تجمعنا!(١)

أراد: فمتى تظن الدار! وقال الآخر:

أجهّالا تقول بني لؤي

لعمر أبيك أم متجاهلينا!(٢)

أراد: تظن بني لؤي، وقال توبة بن الحميّر:

ألا ياصفي النّفس كيف تقولها

لو أنّ طريدا خائفا يستجيرها(٣)

____________________

(١) البيت لعمر بن أبي ربيعة، ديوانه: ٣٩٤.

(٢) البيت للكميت بن زيد الأسدي؛ وهو من (شواهد ابن عقيل على الألفية ١: ٣٩٧)، وفي حاشية الأصل: (لا يجوز أن تنصب جهالا بتقول إذا جعلته على معنى القول، لأن القول لا يتعدى إلى ما كان مما لا يندرج تحت السمع، والجهال جثت، فلا يتأنى ذلك فيها، فلا بد أن يكون قال بمعنى ظن، ولهذا يصح أن تقول: سمعت زيدا يقرأ ويقول ويتكلم ويشعر، ولا تقول: سمعت زيدا يضرب؛ لأن السمع يقع على ما يسمع).

(٣) البيتان من قصيدة طويلة؛ ذكرت بتمامها في تزيين الأسواق ٩٦ - ٩٨.

٣٩٢

تخبّر إن شطّت بها غربة النّوى

ستنعم ليلى أو يفكّ أسيرها(١)

أراد: كيف تظنها؟ فلما كان القول يستعمل في الأمرين معا أفاد قوله تعالى:( بِأَفْواهِهِمْ ) قصر المعنى على ما يكون باللسان دون القلب، ولو أطلق القول، ولم يأت بذكر الأفواه لجاز أن يتوهّم المعنى الآخر:

ومما يشهد لذلك قوله تعالى:( إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله وَالله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَالله يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ ) ؛ [المنافقون: ١]، فلم يكذّب الله تعالى قول ألسنتهم: لأنهم لم يخبروا بأفواههم إلاّ بالحق، بل كذّب ما يرجع إلى قلوبهم من الاعتقادات.

ووجه آخر وهو أن تكون الفائدة في قوله تعالى:( بِأَفْواهِهِمْ ) أنّ القول لا برهان عليه، وأنه باطل كذب لا يرجع فيه إلاّ إلى مجرّد القول باللسان؛ لأن الإنسان قد يقول بلسانه الحقّ والباطل، وإنما يكون قوله حقّا إذا كان راجعا إلى قلبه، فتكون إضافة القول إلى اللسان تقتضي ما ذكرناه من الفائدة، وهذا كما يقول القائل لمن يشكّ في قوله أو يكذبه:

هكذا تقول بلسانك، وليس الشأن فيما تقوله وتتفوّه به وتقلّب به لسانك؛ فكأنّهم أرادوا أن يقولوا: هذا قول لا برهان عليه، فأقاموا قولهم: هكذا تقول بلسانك، وإنما يقولون كذا بأفواههم مقام ذلك؛ والمعنى أنه قول لا تعضده حجّة ولا برهان، ولا يرجع فيه إلا إلى اللسان.

____________________

(١) حواشي الأصل، ت، ف: (في ديوانه: (تجير وإن شطت)، يخاطب الشاعر صديقا له فيقول: ياصفي نفسي، كيف تظن ليلى الأخيلية لو استجار بها مستجير! ثم استأنف فقال: هي تجير وإن كانت قد عذبتنا بالفراق، ثم قال: ستنعم ليلى أو يفادى أسيرها، ويعني بالأسير نفسه، أي ستجود يوما أو أفتدي نفسي منها، هذا إذا روي: (تجير وإن شطت)، وكذلك هو في ديوانه، وأما وجه ما رواه السيد: (تخبر)، فمعناه: تخبرني أنت ياصفي نفسي إن تناءت أنها ستنعم، وإن رويت: (أن شطت) بالفتح كان المعنى: لأن تناءت. وعلى ما ذكره السيدرضي‌الله‌عنه يمكن أن يذكر للبيت وجه آخر؛ وهو أنه يقول ويخاطب صديقا له: كيف تظنها لو أني استجرت بها! كنى عن نفسه بالخائف المستجير ثم يقول:

تخبر ياخليلي، يعني أني أعلم أنك تقول: هي إما أن تنعم بالوصال أو أنا أسلو؛ وهذا معنى: (يفك أسيرها)، لأنه إذا سلا فقد فك أسره؛ وهذا الوجه الأخير مستفاد من ملك النحاة).

٣٩٣

ووجه آخر، وهو أن تكون الفائدة في ذلك التأكيد، فقد جرت به عادة العرب في كلامها، وما تقدم من الوجهين أولى؛ لأنّ حمل كلامه تعالى على الفائدة أولى من حمله على ما تسقط معه الفائدة.

تأويل آية أخرى:( أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاّ الله جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ ) ؛ [إبراهيم: ٩].

فقال: أي معنى لردّ الأيدي في الأفواه؟ وأي مدخل لذلك في التكذيب بالرسلعليهم‌السلام ؟

الجواب، قلنا في ذلك وجوه:

أولها أن يكون إخبارا عن القوم بأنّهم ردّوا أيديهم في أفواههم، عاضّين عليها غيظا وحنقا على الأنبياء، كما يفعل المتوعّد لغيره، المبالغ في معاندته ومكايدته؛ وهذه عادة معروفة في المغيظ المحنق أنّه يعضّ على أصابعه، ويفرك أنامله، ويضرب بإحدى يديه على الأخرى؛ وما شاكل ذلك من الأفعال.

وثانيها أن تكون الهاء في الأيدي للكفار المكذّبين، والهاء التي في الأفواه للرسلعليهم‌السلام ؛ فكأنّهم لما سمعوا وعظ الرسل ودعاءهم وإنذارهم أشاروا بأيديهم إلى أفواه الرسل، مانعين لهم عن الكلام كما يفعل المسكّت منّا لصاحبه، الرّادّ لقوله.

وثالثها أن تكون الهاء في الأيدي والتي في الأفواه معا للرسل؛ والمعنى أنهم كانوا يأخذون أيدي الرسل فيضعونها على أفواههم ليسكتوهم، ويقطعوا كلامهم.

٣٩٤

ورابعها أن تكون الهاءان جميعا يرجعان إلى الكفار(١) لا إلى الرسل؛ فيكون المعنى أنّهم إذا سمعوا وعظهم وإنذارهم وضعوا أيدي أنفسهم على أفواههم؛ مشيرين لهم بذلك إلى الكفّ عن الكلام والإمساك عنه؛ كما يفعل من يريد منّا أن يسكّت غيره، ومنعه من الكلام، من وضع إصبعه على في نفسه.

وخامسها أن يكون المعنى: فردّوا القول بأيدي أنفسهم إلى أفواه الرّسل، أي أنّهم كذّبوهم، ولم يصغوا إلى أقوالهم، فالهاء الأولى للقوم، والثانية للرسل؛ والأيدي إنما ذكرت مثلا وتأكيدا؛ كما يقول القائل: أهلك فلان نفسه بيده، أي وقع الهلاك به من جهته، لا من جهة غيره.

وسادسها أن المراد بالأيدي النعم وفِي محمولة على الباء، والهاء الثانية للقوم المكذبين والتي قبلها للرّسل، والتقدير: فردّوا بأفواههم نعم الرّسل؛ أي ردّوا وعظهم وإنذارهم وتنبيههم على مصالحهم الّذي لو قبلوه لكان نعما عليهم.

ويجوز أيضا أن تكون الهاء التي في الأيدي للقوم الكفار، لأنها نعم من الله تعالى عليهم، فيجوز إضافتها إليهم وحمل لفظة فِي على معنى الباء جائز لقيام بعض الصّفات مقام بعض؛ يقولون: رضيت عنك، ورضيت عليك وحكي في لغة طيئ: أدخلك الله بالجنة، يريدون في الجنة، فيعبرون بالباء عن معنى (في)؛ كذلك أيضا يصح أن يعبروا بفي عن الباء؛ قال الشاعر:

وأرغب فيها عن لقيط ورهطه

ولكنّني عن سنبس لست أرغب

أراد: وأرغب بها فحمل (في) على الباء.

____________________

(١) في حاشيتي الأصل، ف: (يمكن أن يجعل الضميران جميعا للرسلعليهم‌السلام ، على معنى أنهم لما لم يقبلوا وعظهم وإنذارهم رد الرسل بأيديهم إلى أفواه أنفسهم، إشارة إلى أنا قد سكتنا، فافعلوا ما شئتم تهديدا وتهويلا).

٣٩٥

وسابعها - وهو جواب اختاره أبو مسلم بن بحر، وزعم أنّه أولى من غيره - قال خ خ المضمرون في قوله: أَيْدِيهِمْ الرسل، وكذلك المضمرون في أَفْواهِهِمْ، والمراد باليد هاهنا ما نطق به الرسل من الحجج والبيّنات التي ذكر الله تعالى أنهم جاءوا بها قومهم؛ واليد في كلام العرب قد تقع على النعمة وعلى السلطان أيضا، وعلى الملك، وعلى العهد والعقد؛ ولكل ذلك شاهد من كلامهم؛ والّذي أتى به الأنبياء قومهم هو الحجة والسلطان، وهو النعمة، وهو العهد، وكلّ ذلك يقع عليه اسم اليد. ولمّا كان ما يعظ به الأنبياء قومهم وينذرونهم به إنما يخرج من أفواههم، فردوه وكذبوه قيل: إنهم ردّوا أيديهم في أفواههم، أي أنهم ردّوا القول من حيث جاء قال: ولا يجوز أن يكون الضمير في ذلك للمرسل إليهم كما تأوله بعض المفسرين، وذكر أن معناه أنهم عضّوا عليهم أناملهم غيظا؛ لأن رافع يده إلى فيه، والعاضّ عليها لا يسمّى رادّا ليده إلى فيه، إلا إذا كانت يده في فيه فيخرجها ثم يردّها.

قال سيدنا الشريف أدام الله علوّه: وليس ما استنكره أبو مسلم من رد الأيدي إلى الأفواه بمستنكر ولا بعيد، لأنه قد يقال: ردّ يده إلى فيه، وإلى وجهه، وعاد فلان يقول كذا، ورجع يفعل كذا؛ وإن لم يتقدم ذلك الفعل منه. ولو لم يسغ هذا القول تحقيقا؛ لساغ تجوّزا واتساعا؛ وليس يجب أن تؤخذ العرب بالتحقيق في كلامها؛ فإن تجوّزها واستعاراتها أكثر، على أنه يمكن أن يكون المراد بذلك أنهم فعلوا ذلك الفعل شيئا بعد شيء، وتكرّر منهم، فلهذا جاز أن يقول: ردّوا أيديهم في أفواههم، لأنه قد تقدم منهم مثل هذا الفعل، فلما تكرّر جازت العبارة عنه بالرّد، وهذا يبطل استضعافه للجواب إذا صرنا إلى مراده.

٣٩٦

تأويل خبر [: خبر النبيعليه‌السلام حين سمع رجلا ينشد شعرا لسويد بن عامر وتأويل ما ورد فيه الغريب]

روي أن مسلما الخزاعي ثم المصطلقي قال: شهدت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله - وقد أنشده منشد قول سويد بن عامر المصطلقي(١) :

لا تأمننّ وإن أمسيت في حرم

إنّ المنايا بكفّي كلّ إنسان(٢)

واسلك طريقك تمشي غير مختشع(٣)

حتّى تبيّن ما يمنى لك الماني

فكلّ ذي صاحب يوما يفارقه(٤)

وكلّ زاد وإن أبقيته فان

والخير والشّرّ مقرونان في قرن(٥)

بكلّ ذلك يأتيك الجديدان

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (لو أدركته لأسلم)، فبكى مسلم، فقال له ابنه:

ياأبه، ما يبكيك من مشرك مات في الجاهلية! فقال: يابنيّ، لا تفعل فما رأيت مشركة تلقّفت من مشرك خيرا من سويد.

قوله: (ما يمني لك الماني) معناه ما يقدّر لك القادر؛ قال الفرّاء: يقال: مني الله عليه الموت؛ أي قدّر الله عليه الموت. وقال يعقوب: مناك الله بما يسرّك، أي قدّر الله لك ما يسرّك، وأنشد:

____________________

(١) نسب البيت الأول والثاني والرابع إلى أبي قلادة الهذلي، من قصيدة أولها:

يادار أعرفها وحشا منازلها

بين القوائم من رهط فألبان

مع اختلاف في روايتها وترتيبها، وانظر ديوان الهذليين ٣: ٣٦ - ٣٩، واللسان (مني).

(٢) حواشي الأصل، ت، ف: (المعروف (بجنبي)، هذا هو الصحيح)، وهي أيضا رواية ديوان الهذليين؛ يقول: لا تأمنن أن تأتيك منيتك وإن كنت بالحرم حيث يأمن الطير).

(٣) رواية اللسان:

* واسلك طريقك فيها غير محتشم*

ورواية ديوان الهذليين:

* ولا تقولن لشيء سوف أفعله*

(٤) حاشية ت (من نسخة): (مفارقه).

(٥) رواية ديوان الهذليين:

* إنّ الرّشاد وإنّ الغي في قرن*

٣٩٧

لعمر أبي عمرو لقد ساقه المنى

إلى جدث يوزى له بالأهاضب(١)

وقال ابن الأعرابي: ساقه المنى، أي ساقه القدر؛ وأنشد ابن الأعرابي:

منت لك أن تلاقيني المنايا

أحاد أحاد في الشّهر الحلال(٢)

معناه قدّرت لك.

وقال أبو عبيدة في قوله تعالى:( مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى ) ؛ [النجم: ٤٦]، معناه إذا تخلق وتقدّر.

وقال بعض أهل اللغة: إنّما سمي (منّي) لما يمنى فيه من ثواب الله تعالى؛ أي يقدّر فيه؛ وقيل أيضا بما يمنى فيه من الدّم(٣) ؛ وقيل: إنما سمي بذلك لأن إبراهيمعليه‌السلام لما انتهى إليه قال له الملك: تمنّ، قال: أتمنّى الجنة، فسمي منى لذلك. ومنى يذكر ويؤنث، والتذكير أجود، قال الشاعر في التذكير:

سقى منى ثم روّاه وساكنه

ومن ثوى فيه واهي الودق منبعق(٤)

وقال آخر في التأنيث:

ليومنا بمنى إذ نحن ننزلها

أسرّ من يومنا بالعرج أو ملل(٥)

____________________

(١) البيت مطلع قصيدة لصخر الغي، يرثي أخاه أبا عمرو بن عبد الله، وقد نهشته حية فمات؛ (ديوان الهذليين ٢: ٥١ - ٥٧). وفي حواشي الأصل، ت، ف: (يؤزى، من الإزاء، والإزاء: مصب الماء في الحوض، يقال: أزيت الحوض [بالتضعيف]، وآزيته، والإزاء للقبر في الحقيقة؛ إلا أنه على الاستعارة.

ويجوز أن يكون الضمير في (له) للمرثى؛ أي يهيأ له؛ هذا إذا همزت (يؤزى)؛ وهو قول الأصمعي، فأما إذا لم تهمزه فمعنى يؤزى ينصب ويشخص؛ يقال: أوزى ظهره إلى الحائط؛ أي أسنده ويقال: هضبة وهضبات وهضاب وأهضاب وأهاضب وأهاضيب).

(٢) اللسان (منى)، وفي حاشية الأصل: (أي قدرت المنايا ملاقاتها إياي لأجلك).

(٣) المراد بيمنى هاهنا: يراق.

(٤) الودق: المطر، والواهي: المندفع بالماء، وكذلك المنبعق، وفي حاشيتي الأصل، ف: (جعل للسحاب سقاء، ثم جعله واهي العقد، فهو أشد إرسالا، وهذا مثل).

(٥) العرج: موضع قريب من الطائف، وإليه ينسب العرجي الشاعر، وهو عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان. وملل: موضع في طريق مكة.

٣٩٨

فأما قوله:

* والخير والشّرّ مقرونان في قرن*

فالقرن الحبل؛ وأراد أنهما مجموعان لا يفترقان؛ من حيث لا يكاد يصيب الإنسان في الدنيا خير صرف لا شرّ فيه؛ فلهذا قال إنهما مقرونان. ويجوز أيضا أن يريد أنّ لسرعة تقلّب الدنيا وإبدالها الخير بالشر كأن الخير والشرّ مقرونان مجموعان معا، لتقارب ما بينهما.

فأما الجديدان، فهما اللّيل والنهار، وهما أيضا الأجدّان، والملوان، والفتيان، والرّدفان، والعصران؛ قال الشاعر:

إنّ الجديدين في طول اختلافهما

لا يفسدان ولكن يفسد النّاس(١)

وقال آخر:

وأمطله العصرين حتّى يملّني

ويرضى بنصف الدّين والأنف راغم(٢)

وقال أبو عبيدة: ويقال الليل والنهار ابنا سبات، وأنشد ابن الأعرابي:

وكنّا وهم كابني سبات تفرّقا

سوى ثمّ كانا منجدا وتهاميا(٣)

ويقال للغداة والعشي: القرّتان(٤) ، والبردان، والصّرعان(٥) .

***

[أبيات لرفيع الوالبي:]

أخبرنا أبو القاسم عبيد الله بن عثمان بن يحيى قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن أحمد الحكيمي قال: أملى علينا أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب النحوي قال: أنشدنا ابن الأعرابي لرفيع الوالبي:

كذبتك ما وعدتك أمس صلاح

وعسى يكون لما وعدت نجاح(٦)

____________________

(١) البيت للخنساء، ديوانها: ١٥٥.

(٢) الحيوان ٣: ٢٤٩، وإصلاح المنطق: ٤٣٧، من غير عزو.

(٣) اللسان (سبت)، ونسبه إلى ابن أحمر، وفيه عن ابن حبيب: (أن ابني سبات رجلان، رأى أحدهما صاحبه في المنام ثم انتبه، وأحدهما بنجد والآخر بتهامة)

(٤) ت: (القرنان).

(٥) حاشية الأصل: (أصل الصرع الّذي يصارعك).

(٦) صلاح: اسم امرأة، وفي حاشية الأصل: (كأنها وعدته بالوصال الّذي يبرئ سقمه).

٣٩٩

برء من السّقم الطّويل ضمانه

لا يستوي سقم بكم وصحاح

إصلاح إنّك قد رميت نوافذا

وجوائفا ليست لهنّ جراح(١)

ولقد رأيتك بالقوادم لمحة

وعليّ من سدف العشي رياح(٢)

- معنى رياح هاهنا، أي عليّ وقت من العشي، ومثله رواح؛ وقوم يروونه بالكسر وليس بشيء -

ما كان أبصرني بغرّات الصّبا

فاليوم قد شفعت لي الأشباح(٣)

ومشى بجنب الشّخص شخص مثله

والأرض نائية الشّخوص براح(٤)

حلق الحوادث لمّتي فتركن لي

رأسا يصلّ كأنّه جمّاح

وذكا بأصداغي وقرن ذؤابتي

قبس المشيب كأنّه مصباح

قال: كأنّه جمّاح من امّلاسه، وجمّاح: سهم أو قصبة يجعل عليه طين، ثم يرمى به الطير.

وبهذا الإسناد لبعضهم:

أرى النّاس للصّعلوك حربا ولا أرى

لذي نشب إلاّ خليلا مصافيا

أرى المال يغشى ذا الوصوم فلا ترى

ويدعى من الأشراف من كان غانيا(٥)

الصعلوك: الفقير، وهو أيضا القرضوب، والسّبروت. والوصوم: العيوب.

[أخبار عقيل بن علّفة وإيراد طائفة من شعره:]

وبهذا الإسناد لعقيل بن علّفة:

إني ليحمدني الخليل إذا اجتدى

مالي ويكرهني ذوو الأضغان

وأبيت تخلجني الهموم كأنّني

دلو السّقاة تمدّ بالأشطان(٦)

____________________

(١) نوافذ؛ أي سهاما نافذة، وجوائف، أي تبلغ الجوف.

(٢) البيت في اللسان (روح)، ورواه: (رياح) بالكسر. والقوادم: أوائل النظر. والسدف: جمع سدفة؛ وهي الظلمة.

(٣) شفعت: صارت شفعا، أي أصبح يرى الشيء شيئين كما يراه الأحول؛ يصف ضعف بصره.

(٤) حاشية ت (من نسخة): (نابية).

(٥) حاشية ت: (غانيا؛ أي غنيا؛ ومعناه ذا غنى، كلابن وتامر).

(٦) تخلجني: تشغلني؛ كذا ذكره صاحب اللسان واستشهد بالبيت. والأشطان. الحبال.

٤٠٠

وأعيش بالبلل القليل وقد أرى

أنّ الرّموس مصارع الفتيان(١)

وأخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال: حدثني عليّ بن منصور قال: أخبرني محمد بن موسى عن دعبل بن عليّ قال قال عقيل بن علّفة: - وذكر الأبيات الثلاثة، وزاد فيها:

ولقد علمت لئن هلكت ليذكرن

قومي إذا علن النّجي مكاني(٢)

***

قال سيدنا الشريف المرتضى أدام الله تأييده: وكان عقيل بن علّفة مع قوّة شعره جيّد الكلام حكيم الألفاظ. وروى المدائنى قال: قال عبد الملك بن مروان لعقيل بن علّفة المرّيّ:

ما أحسن(٣) أموالكم؟ فقال: ما ناله أحدنا عن أصحابه تفضّلا، قال: ثم أيّها؟ قال:

مواريثنا، قال: فأيّها أشرف؟ قال: ما استفدناه بوقعة خوّلت نعما، وأفادت عزّا، قال:

فما مبلغ عزّكم؟ قال: ما لم يطمع فينا، ولم نؤمن، قال: فما مبلغ جودكم؟ قال: ما عقدنا به مننا، وأبقينا به ذكرا، قال: فما مبلغ حفاظكم؟ قال: يدفع كل رجل منّا عن المستجير به كدفاعه عن نفسه؛ قال عبد الملك: هكذا فليصف الرجل قومه.

وروي أنه قيل لعقيل بن علّفة: قد عنّست(٤) بناتك، أفما تخشى عليهنّ الفساد؟ قال:

كلاّ، إني خلّفت عندهن الحافظين، قيل: وما هما؟ قال: الجوع والعري، أجيعهن فلا يأشرن، وأعرّيهنّ(٥) فلا يظهرن.

وقال له عبد الله يوما: ما لك تهجو قومك؟ قال: لأنهم أشباه الغنم، إذا صيح بها رفعت، وإذا سكت عنها رتعت، قال: إنّما تقول البيت والبيتين، قال: حسبي من القلادة ما أحاط بالعنق.

____________________

(١) البلل في الأصل: ما بل الحلق من ماء أو لبن أو غيره.

(٢) حاشية الأصل: (يصف نفسه بحفظ الأسرار؛ يقول: إذا مت والناس يناجون غيري فيفشي أسرارهم؛ يذكرونني عند ذلك ويذكرون مكاني).

(٣) من نسخة بحواشي الاصل، ت، ف: (ما أخس).

(٤) من نسخة بحاشيتي الأصل، ت: (عنست بناتك؛ بتاء الخطاب؛ أي أخرتهن عن التزويج).

(٥) حواشي الأصل، ت، ف: (في معناه الحديث: (اعروا النساء يلزمن الحجال)).

٤٠١

فأما معنى (علّفة) اسم أبيه، فإن ابن الأعرابي قال: العلّفة مثل الباقلاّء الرّطبة تكون تحت الزهرة من البقل وغيره. وقال أبو سعيد السّكّري: العلّفة ضرب من أوعية بزر بعض النبات مثل قشرة الباقلاّء. واللّوبيا؛ وهو الغلاف الّذي يجمع عدّة حبّ.

وقيل: إن عقيلا كان يكنى بأبي الوليد، وكان رجلا غيورا موصوفا بشدة الغيرة، وروى أبو عمرو بن العلاء أنّه حمل يوما ابنة له وأنشأ يقول:

إني وإن سيق إلي المهر

ألف وعبدان وذود عشر(١)

أحبّ أصهاري إليّ القبر

وذكر الأصمعي أن عقيلا كان لغيرته إذا رأى الرجل يتحدث إلى النساء أخذه، ودهن أرفاغه(٢) ومغابنه بزبد وربطه وطرحه في قرية النمل، فلا يعود إلى محادثتهنّ.

وروى الأصمعي قال: كان(٣) عقيل بن علّفة في بعض سفره، ومعه ابنه العملّس وابنته الجرباء، فأنشأ يقول:

قضت وطرا من دير سعد وربّما

على عجل ناطحنه بالجماجم(٤)

ثم أقبل على ابنه فقال: أجزيا عملّس، فقال:

وأصبحن بالموماة يحملن فتية

نشاوى من الإدلاج ميل العمائم(٥)

____________________

(١) الذود: القطيع من الإبل.

(٢) الأرفاغ: جمع رفع؛ وهو أصل الفخذ، والمغابن: جمع مغبن، كمنزل وهو الإبط.

(٣) الخبر في الأغاني ١٢: ٢٥٦ - ٢٥٧ (طبع دار الكتب المصرية).

(٤) دير سعد: بين بلاد غطفان والشام، وبعده في رواية الأغاني:

إذا هبطت أرضا يموت غرابها

بها عطشا أعطينهم بالخزائم

والخزائم: جمع خزامة، وهي حلقة من شعر تجعل في أحد جاني منخري البعير لينقاد بها.

(٥) الموماة: المفازة الواسعة. نشاوى: سكارى. الإدلاج: السير من أول الليل، وبعده في رواية الأغاني:

إذا علم غادرنه بتنوفة

تذارعن بالأيدي لآخر طاسم

- والعلم: شيء ينصب في الفلوات تهتدي به الضالة. التنوفة: المفازة. تذارعن: سرن، وأصله أن يذرع البعير بيديه في سيره ذرعا إذا سار على قدر سعة خطوه. رسم طاسم: دارس.

٤٠٢

ثم أقبل على ابنته، فقال: أجيزي ياجرباء، فقالت:

كأنّ الكرى سقّاهم صرخديّة

عقارا تمشّت في المطا والقوائم(١)

قال: فأقبل على ابنته يضربها ويقول: والله ما وصفتها بهذه الصفة حتى شربتها، فوثب عليه إخوتها فقاتلوه دونها، ثم رماه أحدهم بسهم فانتظم فخذيه، فقال عقيل:

إنّ بنيّ زمّلوني بالدّم(٢)

من يلق أبطال الرّجال يكلم(٣)

ومن يكن ذا أود يقوّم

شنشنة أعرفها من أخزم

الشنشنة: الطبيعة والسجية. وقيل الشبه، وهذا مثل اجتلبه عقيل(٤) ، وقد قيل قبله؛ ولعقيل:

وللدّهر أثواب فكن في لباسه

كلبسته يوما أجدّ وأخلقا(٥)

وكن أكيس الكيسى إذا كنت فيهم

وإن كنت في الحمقى فكن أنت أحمقا

____________________

(١) الصرخدية: منسوبة إلى صرخد، وهو بلد ملاصق لبلاد حوران من أعمال دمشق. العقار:

الخمر. المطا: الظهر.

(٢) رواية الأغاني: (سربلوني)،

(٣) رواية اللسان (شنن): (آساد الرجال).

(٤) حاشية الأصل: (قال س: قرأت في أمالي ابن الجبان الأصبهاني: شنشنة [بالفتح]، وشنشنة [بالكسر]، ونشنشة [بالفتح]، ونشنشة [بالكسر]، قال: قد فسروها بالطبيعة وبالمضغة من اللحم وبالمجامعة. ضارب هذا المثل حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج بن أخزم الطائي حين نشأ حاتم، وتقيل أخلاق جده أخزم في الجود فقال: (شنشنة أعرفها من أخزم)، وتمثل به عقيل ابن علفة) وفي اللسان عن ابن بري: (كان أخزم عاقا لأبيه، فمات وترك بنين عقوا جدهم وضربوه وأدموه، فقال ذلك).

وانظر ترجمة عقيل وأخباره وأشعاره في (الأغاني ١١: ٨١ - ٨٩).

(٥) حاشية ف: (المعنى: فالبس مع الدهر لبوسه؛ إن لبس الجديد فالبس أيضا أنت الجديد، وبالعكس).

٤٠٣

[٢٨]

مجلس آخر [المجلس الثامن والعشرون:]

تأويل آية:( وَإِلَى الله تُرْجَعُ الآمُورُ )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( وَإِلَى الله تُرْجَعُ الآمُورُ ) ؛ [البقرة: ٢١٠] فقال: كيف يصحّ القول بأنّها رجعت عليه وهي لم تخرج عن يده؟.

الجواب، قلنا قد ذكر في ذلك وجوه:

أولها أنّ الناس في دار المحنة والتكليف قد يغترّ بعضهم ببعض، ويعتقدون فيهم أنهم يملكون جرّ المنافع إليهم وصرف المضارّ عنهم، وقد تدخل عليهم الشّبه لتقصيرهم في النظر، وعدولهم عن وجهه وطريقه، فيعبد قوم الأصنام وغيرها من المعبودات الجامدة الهامدة التي لا تسمع ولا تبصر، ويعبد آخرون البشر، ويجعلونهم شركاء للّه تعالى في استحقاق العبادة؛ ويضيف كلّ هؤلاء أفعال الله عز وجل فيهم إلى غيره، فإذا جاءت الآخرة، وانكشف الغطاء واضطرّوا إلى المعارف زال ما كانوا عليه في الدنيا من الضلال واعتقاد الباطل، وأيقن الكلّ أنّه لا خالق ولا رازق ولا ضارّ ولا نافع غير الله تعالى فردوا إليه أمورهم، وانقطعت آمالهم من غيره، وعلموا أنّ الّذي كانوا عليه من عبادة غيره، وتأميله للضّرّ والنفع غرور وزور، فقال الله تعالى:( وَإِلَى الله تُرْجَعُ الآمُورُ ) لهذا المعنى.

والوجه الثاني أن يكون معنى الآية في الأمور أنّ الأمور كلّها للّه تعالى، وفي يده وقبضته من غير خروج ورجوع حقيقي؛ وقد تقول العرب: قد رجع عليّ من فلان مكروه، بمعنى صار إلي منه؛ ولم يكن سبق إلى قبل هذا الوقت، وكذلك يقولون: قد عاد عليّ من زيد كذا وكذا وإن وقع منه على سبيل الابتداء قال الشاعر:

وإن تكن الأيّام أحسن مرّة

إلي فقد عادت لهنّ ذنوب

٤٠٤

أي صارت لها ذنوب لم تكن من قبل؛ بل كان قبلها إحسان فحمل الآية على هذا المعنى شائع جائز تشهد له اللغة.

والوجه الثالث أنّا قد علمنا أنّ الله تعالى قد ملّك العباد في دار التكليف أمورا تنقطع بانقطاع التكليف، وإفضاء الأمر إلى الدار الآخرة، مثل ما ملّكه الموالي من العبيد، وما ملّكه الحكام من الحكم وعير ذلك؛ فيجوز أن يريد تعالى برجوع الأمر إليه انتهاء ما ذكرناه من الأمور التي يملكها غيره بتمليكه إلى أن يكون هو وحده مالكها ومدبّرها.

ويمكن في الآية وجه آخر؛ وهو أن يكون المراد بها أنّ الأمر ينتهي إلى ألاّ يكون موجود قادر غيره، ويفضي الأمر في الانتهاء إلى ما كان عليه في الابتداء، لأن قبل إنشاء الخلق هكذا كانت الصورة، وبعد إفنائهم هكذا تصير وتكون الكناية برجوع الأمر إليه عن هذا المعنى، وهو رجوع حقيقي، لأنه عاد إلى ما كان عليه متقدما.

ويحتمل أيضا أنّ المراد بذلك أنّ إلى قدرته تعود المقدورات، لأن ما أفناه من مقدوراته الباقية كالجواهر والأعراض ترجع إلى قدرته، ويصحّ منه تعالى إيجاده لعوده إلى ما كان عليه، وإن كان ذلك لا يصحّ في مقدورات البشر، وإن كانت باقية لما دلّ عليه الدليل، من اختصاص مقدور القدر باستحالة العود إليها، من حيث لم يجز فيها التقديم والتأخير، وهذا أيضا حكم، هو تعالى المتفرد به دون غيره من سائر القادرين، والله أعلم بما أراد.

تأويل آية أخرى:( وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها ) ، [البقرة: ١٨٩].

فقال: أي معنى لذكر البيوت وظهورها وأبوابها؟ وهل المراد بذلك البيوت المسكونة

٤٠٥

على الحقيقة، أو كنّى بهذه اللفظة عن غيرها؟ فإن كان الأول فما الفائدة في إتيانها من أبوابها دون ظهورها؟ وإن كانت كناية فبيّنوا وجهها ومعناها.

الجواب قيل له في الآية وجوه.

أولها ما ذكر من أنّ الرجل من العرب كان إذا قصد حاجة فلم تقض له، ولم ينجح فيها رجع فدخل من مؤخّر البيت، ولم يدخل من بابه تطيّرا، فدلّهم الله تعالى على أنّ هذا من فعلهم لا برّ فيه، وأمرهم من التّقى بما ينفعهم ويقرّبهم إليه، وقد نهى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عن التطيّر وقال: ( لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر)؛ أي لا يعدي شيء شيئا. وقالعليه‌السلام : (لا يورد ذو عاهة على مصحّ)؛ ومعنى هذا الكلام أنّ من لحقت إبله آفة أو مرض فلا ينبغي أن يوردها على إبل لغيره صحاح، لأنّه متى لحق الصّحاح مثل هذه العاهة اتفاقا، لا لأجل العدوى لم يؤمن من صاحب الصّحاح أن يقول إنما لحق إبلي هذه الآفة من تلك الإبل، وهي أعدت إبلي، فنهى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عن هذا، ليزول المأثم بين الفريقين والظّنّ القبيح.

وثانيها أن العرب إلاّ قريشا ومن ولدته قريش كانوا إذا أحرموا في غير الأشهر الحرم لم يدخلوا بيوتهم من أبوابها، ودخلوها من ظهورها إذا كانوا من أهل الوبر، وإذا كانوا من أهل المدر نقبوا في بيوتهم ما يدخلون ويخرجون منه، ولم يدخلوا ولم يخرجوا من أبواب البيوت؛ فنهاهم الله تعالى عن ذلك، وأعلمهم أنه لا معنى له، وأنه ليس من البرّ وأن البرّ غيره.

وثالثها - وهو جواب أبي عبيدة معمر بن المثنى - أن المعنى ليس البرّ بأن تطلبوا الخير من غير أهله، وتلتمسوه من غير بابه،( وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها ) ، معناه: واطلبوا الخير من وجهه، ومن عند أهله.

ورابعها - وهو جواب أبي عليّ الجبّائي - أن تكون الفائدة في هذا الكلام ضرب المثل،

٤٠٦

وأراد: ليس البرّ أن يأتي الرجل الشيء من خلاف جهته؛ لأن إتيانه من خلاف جهته يخرج الفعل عن حد الصواب والبرّ إلى الإثم والخطأ، وبيّن البرّ والتقوى، وأمر بإتيان الأمور من وجوهها، وأن تفعل على الوجوه التي لها وجبت وحسنت، وجعل تعالى ذكر البيوت وظهورها وأبوابها مثلا؛ لأن العادل في الأمر عن وجهه كالعادل في البيت عن بابه.

وخامسها أن تكون البيوت كناية عن النساء، ويكون المعنى: وأتوا النساء من حيث أمركم الله، والعرب تسمّي المرأة بيتا؛ قال الشاعر:

ما لي إذا أنزعها صأيت

أكبر غيّرني أم بيت(١)

أراد بالبيت: المرأة.

ومما يمكن أن يكون شاهدا للجواب الّذي حكيناه عن أبي عليّ الجبّائي، والجواب عن أبي عبيدة أيضا ما أخبرنا به أبو القاسم عبيد الله عثمان بن يحيى قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن أحمد الحكيمي قال: أملى علينا أبو العباس أحمد بن يحيى النحوي قال: أنشدنا ابن الأعرابي(٢) :

إني عجبت لأمّ العمر إذ هزئت

من شيب رأسي وما بالشّيب من عار(٣)

ما شقوة المرء بالإقتار يقتره

ولا سعادته يوما بإكثار

إنّ الشّقي الّذي في النّار منزله

والفوز فوز الّذي ينجو من النّار

أعوذ بالله من أمر يزيّن لي

شتم العشيرة أو يدني من العار

وخير دنيا ينسّي أمر آخرة

وسوف يبدي لي الجبّار أسراري(٤)

____________________

(١) البيان في اللسان (صأى) وفي حاشية الأصل: (هذا مستق يستقي الماء من البئر وينزع الدلو.

والهاء في قوله: (أنزعها) راجعة إلى الدلو؛ وقيل الضمير للقوس؛ يقال: (صأى يصأى، مثل صعى يصعى؛ إذا صوت).

(٢) أبيات منها في الكامل ٢: ٥١ - ٥٢ - بشرح المرصفي؛ عن ابن الأعرابي، ونسبها إلى أحد ابني حبناء، قال: (وأحسبه صخرا).

(٣) حاشية الأصل: (ويروى: (لأم الغمر - بالغين المعجمة)، ورواية الكامل:

إنّي هزئت من أمّ الغمر إذ هزئت

بشيب رأسي، وما بالشّيب من عار

 (٤) د:

* وسوف تبدو إلى الجبّار أسراري*

٤٠٧

لا أدخل البيت أحبو من مؤخّره

ولا أكسّر في ابن العمّ أظفاري

فقوله:

* لا أدخل البيت أحبو من مؤخّره*

يحتمل أن يريد به: إنني لا آتي الأمور من غير وجهها، على أحد الأجوبة في الآية، ويحتمل أيضا أني لا أطلب الخير إلا من أهله على جواب أبي عبيدة، ويحتمل وجها آخر(١) ؛ وهو أن يريد أنني لا أقصد البيت للرّيبة والفساد، لأنّ من شأن من يسعى إلى إفساد الحرم، ويقصد البيوت للريبة أن يعدل عن أبوابها طلبا لإخفاء أمره، فكأنه نفى عن نفسه بهذا القول القبيح، وتنزّه عنه؛ كما تنزه بقوله:

* ولا أكسّر في ابن العمّ أظفاري*

عن مثله، وأراد أنه لا يندى(٢) ابن العمّ مني السوء، ولا يتألم بشيء من جهتي، فأكون كأنني قد جرحته بأظفاري، وكسرتها في لحمه؛ وهذه كنايات بليغة مشهورة للعرب.

***

[أبيات لهلال بن خثعم وشرح ما ورد فيها من الغريب:]

ويجري مجرى هذه الأبيات ويقاربها في المعنى وحسن الكناية قول هلال بن خثعم:

وإني لعفّ عن زيارة جارتي

وإني لمشنوء إلي اغتيابها

إذا غاب عنها بعلها لم أكن لها

زءورا ولم تنبح عليّ كلابها(٣)

وما أنا بالدّاري أحاديث بيتها

ولا عالم من أي حوك ثيابها

وإنّ قراب البطن يكفيك ملؤه

ويكفيك عورات الأمور اجتنابها(٤)

____________________

(١) حاشية ت (من نسخة): (ووجه آخر).

(٢) حواشي الأصل، ت، ف: (من حر كلامهم: ما ينداك مني سوء، أي ما يصيبك، ويقال: ما نديت بهذا الأمر ولا نطقت به، ولا بللت به، أي ما علمته ولا أصبته، قال النابغة:

ولا نديت بشيء أنت تكرهه

إذا فلا رفعت سوطي إليّ يدي

 (٣) يقال رجل زوار وزءور، كذا ذكره صاحب اللسان واستشهد بالبيت.

(٤) حاشية الأصل: (القراب: ما دون المل ء أو قريب منه).

٤٠٨

قال سيدنا أدام الله علوّه: وقد جمعت هذه الأبيات فقرا عجيبة، وكنايات بليغة، لأنه نفى عن نفسه زيارة جارته عند غيبة بعلها، وخصّ حال الغيبة لأنها أدنى إلى الرّيبة وأخصّ بالتهمة فقال: (ولم تنبح عليّ كلابها)، أراد: إني لا أطرقها ليلا مستخفيا متنكّرا فتنكرني كلابها، وتنبحني، وهذه الكناية تجري مجرى قول الشاعر المتقدم:

* لا أدخل البيت أحبو من مؤخّره*

وقد روي: (ولم تأنس إلى كلابها) وهذا معنى آخر، كأنه أراد أنه ليس يكثر الطروق لها والغشيان لمنزلها، فتأنس به كلابها لأن الأنس لا يكون إلاّ مع المواصلة والمواترة.

وقوله:

* وما أنا بالدّاري أحاديث بيتها*

أراد به أيضا التأكيد في نفي زيارتها وطروقها عن نفسه؛ لأنه إذا أدمن الزيارة عرف أحاديث بيتها، فإذا لم يزرها وصارمها لم يعرف، ويحتمل أن يريد: إنني لا أسأل عن أحوالها وأحاديثها كما يفعل أهل الفضول؛ فنزّه نفسه عن ذلك.

وقوله:

* ولا عالم من أي حوك ثيابها*

كناية مليحة عن أنّه لا يجتمع معها، ولا يقرب منها؛ فيعرف صفة ثيابها.

***

[إيراد مقطعات مختلفة لحارثة بن بدر الغداني:]

وبالإسناد المتقدّم لحارثة بن بدر الغداني(١) .

إذا الهمّ أمسى وهو داء فأمضه

ولست بممضيه وأنت تعادله

ولا تنزلن أمر الشّديدة بامرئ

إذا همّ أمرا عوّقته عواذله(٢)

____________________

(١) هو حارثة بن بدر بن حصين بن قطن بن غدانة؛ من بني يربوع. كان من فرسان بني تميم ووجوهها وسادتها، ولم يكن معدودا في فحول الشعراء، ولكنه كان يعارض نظراءه في الشعر. (وانظر أخباره وأشعاره في الأغاني ٢١: ١٣ - ٣١)

(٢) حواشي الأصل، ت، ف: (سوفته عواذله).

٤٠٩

فما كلّ ما حاولته الموت دونه،

ولا دونه أرصاده وحبائله

وما الفتك ما آمرت فيه ولا الّذي

تحدّث من لاقيت أنّك فاعله(١)

وما الفتك إلاّ لامرئ ذي حفيظة

إذا صال لم ترعد إليه خصائله(٢)

ولا تجعلن سرّا إلى غير أهله

فتقعد إن أفشى عليك تجادله

ولا تسأل المال البخيل ترى له

غنى بعد ضرّ أورثته أوائله(٣)

أرى المال أفياء الظّلال فتارة

يئوب، وأخرى يختل المال خاتله

معنى (آمرت) شاورت. والخصائل: كل لحم مجتمع.

وقد روينا في هذه الأبيات زيادة على القدر الّذي ذكرناه:

أخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال حدثني الحسن بن عليّ قال حدثنا محمد بن العباس قال حدّثني الفضل بن محمد عن أبي المنهال المهلّبي قال: من الأبيات السائرة قول حارثة ابن بدر الغداني:

لعمرك ما أبقى لي الدّهر من أخ

حفي ولا ذي خلّة لي أواصله(٤)

ولا من خليل ليس فيه غوائل

فشرّ الأخلاّء الكثير غوائله

وقل لفؤاد إن نزا بك نزوة

من الرّوع أفرخ، أكثر الرّوع باطله(٥)

معنى (أفرخ) أي اسكن، يقال: أفرخ روعه إذا سكن.

وما كلّ ما حاولته، الموت دونه

 ... ... ... ... ... ... ....

____________________

(١) حاشية ت (من نسخة): (ولا الفتك). وآمرت: شاورت.

(٢) من نسخة بحاشية الأصل: (لم ترعد إليه) وفيها: (الخصائل: جمع خصلة، وهي كل لحم مجتمع، مثل الساقين والفخذين).

(٣) حواشي الأصل، ت، ف: (يجوز أن يكون ضمير المال أو البخل).

(٤) الحفي: الّذي يكرم خليله ويبالغ في إكرامه، مع إظهار المسرة والفرح.

(٥) حاشية الأصل (من نسخة): (إنما نكر الفؤاد على اعتبار أن له فؤادين، أحدهما يشجعه والآخر يجبنه، فقال: لا تطع المجبن؛ وإنما جعل لنفسه فؤادين ينقسمان للخوف والأمن، لكيلا يكون في حال من الأحوال جبانا مطلقا، بل يكون مترنحا بينهما). وفي حاشية ت (من نسخة): (للفؤاد).

٤١٠

وذكر البيتين اللذين بعده، وزاد:

وكن أنت ترعى سرّ نفسك واعلمن

بأنّ أقلّ النّاس للنّاس حامله(١)

إذا ما قتلت الشّيء علما فبح به(٢)

ولا تقل الشّيء الّذي أنت جاهله

ومما يستحسن لحارثة بن بدر قوله:

لنا نبعة كانت تقينا فروعها

وقد بلغت إلاّ قليلا عروقها(٣)

وإنّا لتستحلى المنايا نفوسنا

ونترك أخرى مرّة لا تذوقها(٤)

وشيّب رأسي قبل حين مشيبه

رعود المنايا بيننا وبروقها

قوله:

* لنا نبعة كانت تقينا فروعها*

مثل ضربه، وإنما أراد عشيرته وأهل بيته.

وقد روى هذه الأبيات عليّ بن سليمان الأخفش عن أبي العباس ثعلب، وزاد فيها:

رأيت المنايا باديات وعوّدا

إلى دارنا سهلا إلينا طريقها

وقد قسمت نفسي فريقين منهما:

فريق مع الموتى، وعندي فريقها

وبينا نرجّي النّفس ما هو نازح

من الأمر لاقت دونها ما يعوقها

وروى أبو العيناء قال: أنشد الشعبي عبد الله بن جعفر الأبيات الثلاثة الأول،

____________________

(١) د: (للسر)، وفي حاشية ت: (نسخة الشجري: (أقل الناس للسر حامله)، كأنه أقلهم لحمله.

(٢) قلت الشيء علما، أي علمته علما تاما، ومن نسخة بحواشي الأصل، ت، ف: (فقل به.

(٣) النبع: شجر ينبت في قلة الجبل، تتخذ منه العسى.

(٤) من نسخة بحاشيتي الأصل، ت: (مرة لا نذوقها)، وفي حاشية ف: مثله (قول السموءل ابن عاديا اليهودي:

يقرّب حبّ الموت آجالنا

وتكرهه آجالهم فتطول

أي حبنا الموت؛ ويجوز أن يكون أضاف الحبّ من قوله: (حبّ الموت) إلى الفاعل؛ فيكون المعنى:

يقرب حب الموت لنا آجالنا؛ ويكون هذا كقول طرفة:

أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي

عقيلة مال الفاحش المتشدّد

٤١١

فقال عبد الله: لمن هذا ياشعبي؟ فقال: لحارثة بن بدر، فقال: نحن أحقّ بهذا، ثم أمر للشّعبي بأربعمائة دينار.

[طرف من أخبار حارثة بن بدر وبعض نوادره:]

ومن مستحسن قول حارثة:

ولقد وليت إمارة فرجعتها

في المال سالمة ولم أتموّل(١)

ولقد منعت النّصح من متقبّل

ولقد رفدت النّصح من لم يقبل

فبأي لمسة لامس لم ألتمس

وبأي حيلة حائل لم أحتل(٢)

يا طالب الحاجات يرجو نجحها

ليس النجاح مع الأخفّ الأعجل

فاصدق إذا حدّثت تكتب صادقا

وإذا حلفت مماريا فتحلّل(٣)

- معنى (تكتب صادقا)، أي تكون عند الله صادقا. وقوله: (فتحلّل) أي استثن -

وإذا رأيت الباهشين إلى العلى

غبرا أكفّهم بريث فاعجل

- معنى الباهشين: المادّين أيديهم إلى الشيء المهتشّين(٤) له -

واحذر مكان السّوء لا تحلل به(٥)

وإذا نبا بك منزل فتحوّل

وإذا ابن عمّك لجّ بعض لجاجة

فانظر به عدة ولا تستعجل

وإذا افتقرت فلا تكن متخشّعا

ترجو الفواضل عند غير المفضل

واستغن ما أغناك ربّك بالغنى

وإذا تكون خصاصة فتجمّل

وأخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال حدّثنا محمد بن أبي الأزهر قال حدثنا محمد بن يزيد

____________________

(١) عجز البيت الخامس والبيت ٦، ٧، ٨، ٩، ١٠ نسبت إلى عبد قيس بن خفاف البرجمي في قصيدة مفضلية. ٧٥ - ٧٥٣ مطلعها:

أجبيل إنّ أباك كارب يومه

فإذا دعيت إلى العظائم فاعجل

(٢) من نسخة بحاشيتي الأصل ف: (ختلة خاتل لم أختل).

(٣) مماريا: مجادلا.

(٤) ف، ومن نسخة بحاشيتي الأصل، ت: (المشتهين).

(٥) حاشية ت (من نسخة): (لا تنزل به).

٤١٢

النحوي قال: كان(١) حارثة بن بدر الغداني رجل تميم في وقته، وكان قد غلب على زياد، وكان الشراب قد غلب عليه، فقيل لزياد: إن هذا قد غلب عليك، وهو مستهتر(٢) بالشراب؛ فقال زياد: كيف باطّراح رجل هو يسايرني مذ دخلت العراق، لم يصكك ركابي ركاباه(٣) ، ولا تقدمني فنظرت إلى قفاه، ولا تأخّر عني فلويت عنقي إليه، ولا أخذ عليّ الشمس في شتاء قط، ولا الرّوح(٤) في صيف قطّ، ولا سألته عن علم إلا ظننته لا يحسن غيره! فلما مات زياد جفاه ابنه عبيد الله، فقال له حارثة: أيها الأمير، ما هذا الجفاء مع معرفتك بالحال عند أبي المغيرة(٥) ! فقال له عبيد الله: إن أبا المغيرة قد كان برع بروعا لا يلحقه معه عيب، وأنا حدث، وإنما أنسب إلى من يغلب عليّ، وأنت رجل تديم الشّراب، فمتى قرّبتك وظهرت منك رائحة الشراب لم آمن أن يظنّ بي، فدع الشراب، وكن أول داخل عليّ، وآخر خارج، فقال له حارثة: أنا لا أدعه لمن يملك ضرّي ونفعي، أفدعه للحال عندك! قال: فاختر من عملي ما شئت. قال: توليني رامهرمز(٦) ، فإنها أرض عذاة(٧) ، وسرّق(٨) ؛ فإن بها شرابا وصف لي. فولاّه إياها، فلما شيّعه الناس قال أنس بن أبي أنيس(٩) - وقيل: ابن أبي إياس الدّيلي:

أحار بن بدر قد وليت إمارة

فكن جرذا فيها تخون وتسرق(١٠)

ولا تحقرن ياحار شيئا وجدته

فحظّك من ملك العراقين سرّق

____________________

(١) الخبر في الكامل - بشرح المرصفي ٣ - ١٩١ - ١٩٢.

(٢) مستهتر بالشراب: مولع به؛ من استهتر بكذا، مبنيا لما لم يسم فاعله: أولع به لا يفعل غيره، ولا يتحدث إلا به.

(٣) من نسخة بحاشيتي ف، ت: (يصطك ركابي ركابه).

(٤) الروح: برد النسيم.

(٥) أبو المغيرة: كنية زياد.

(٦) رامهرمز: مدينة مشهورة بنواحي خوزستان من بلاد الفرس.

(٧) الأرض العذاة: الطيبة التربة، البعيدة من الأنهار والنجود والسباخ.

(٨) سرق: إحدى كور الأهواز.

(٩) من نسخة بحواشي الأصل، ت، ف: (ابن أبي أنس). وفي الشعر والشعراء: ٧١٤: (أنس بن أبي أناس)، من كنانة، من الدؤل، رهط أبي الأسود الدؤلي.

(١٠) الأبيات في الشعر والشعراء: ٧١٥.

٤١٣

وباه تميما بالغنى إنّ للغنى

لسانا به العي الهيوبة ينطق(١)

فإنّ جميع النّاس؛ إمّا مكذّب

يقول بما يهوى، وإما مصدّق(٢)

يقولون أقوالا ولا يعلمونها

فإن قيل هاتوا حقّقوا لم يحقّقوا

وهذه الأبيات تروى لأبي الأسود الدّؤليّ، وأنه كتب بها إلى حارثة لما ردّت إليه سرّق، ويزاد فيها:

وكن حازما في اليوم إنّ الّذي به

يجئ غد يوم على الناس مطبق(٣)

ولا تعجزن فالعجز أوطأ مركب

وما كلّ من يدعو إلى الخير يرزق

إذا ما دعاك القوم عدّوك آكلا

وكل حار أوجع؛ لست ممّن يحمّق

ويقال إن حارثة بن بدر أجاب عن هذه الأبيات بقوله:

جزاك إله الناس خير جزائه

فقد قلت معروفا وأوصيت كافيا

أشرت بأمر لو أشرت بغيره

لألفيتني فيه لرأيك عاصيا(٤)

ويقال إن حارثة بن بدر والأحنف بن قيس دخلا على ابن زياد، فقال لحارثة: أي الشراب أطيب؟ وكان يتّهم(٥) ، فقال: برّة طاسارية، وأقطة غنويّة، وسمنة عنبريّة، وسكّرة سوسية، ونطفة مسرقانيّة(٦) . فقال للأحنف: ياأبا بحر، ما أطيب الشراب؟ قال:

____________________

(١) الهيوية: الّذي يهاب الناس؛ والهاء فيه لتأكيد المبالغة.

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): (تهوى).

(٣) حاشية الأصل: (يقال غمام مطبق؛ أي ذو طبق؛ وقد أطبقت السماء).

(٤) البيتان في الأغاني ٢١: ٢٣، وبعدهما:

ستلقى أخا يصفيك بالودّ حاضرا

ويوليك حفظ الغيب إن كنت نائيا

(٥) ت، ومن نسخة بحاشية الأصل: (وكان بينهم).

(٦) حواشي الأصل، ت، ف: (ذكره يزيد بن مفرغ الحميري:

سقى هزم الأوساط منبجس العرا

منازلها من مسرقان فسرّقا

- هزم الأسواط؛ أي مجلجل بالرعد، وهزيم الرعد: صوته، وأوساطه؛ أي أوساط السحاب).

٤١٤

الخمر، قال: وما يدريك ولست من أهلها؟ قال: رأيت فيها خصلتين عرفت أنها أطيب الشراب بهما، قال: وما هما؟ قال: رأيت من أحلّت له لا يتعدّاها إلى غيرها، ومن حرّمت عليه يتناولها، فعرفت أنها أطيب الشراب.

ولحارثة بن بدر يخاطب عبيد الله بن زياد لما تغيّر عليه بعد اختصاصه كان بأبيه(١) :

أهان وأقصى ثمّ تنتصحونني

وأي امرئ يعطى نصيحته قسرا!

رأيت الأكفّ المصلتين عليكم

ملاء، وكفّي من عطاياكم صفرا

وإني مع السّاعي إليكم بسيفه

إذا أحدث الأيّام في عظمكم كسرا

متى تسألوني ما عليّ وتمنعوا ال

لذي لي لا أسطع على ذلكم صبرا

وقال يعاتبه:

وكم من أمير قد تجبّر بعد ما

مريت له الدّنيا بسيفي فدرّت

إذا زبنته عن فواق أتت به

دعاني ولا ادعى إذا ما أقرّت

إذا ما هي احلولت محا حقّ مقسمي

ويقسم لي منها إذا ما أمرّت

زبنته: أي دفعته عن أن يحلبها. والفواق: اجتماع اللّبن في الضّرع بين الحلبتين.

ومعنى أقرت: تركته يحلبها.

ويشبه أبيات حارثة هذه قول عبد الله بن الزّبير الأسدي يعاتب معاوية ومروان وأهل بيته؛ من جملة قصيدة، وهي أبيات قوية جدّا:

عطاؤكم للضّاربين رقابكم

وندعى إذا ما كان حزّ الكراكر(٢)

أنحن أخوكم في المضيق وسهمنا

إذا ما قسمتم في الحظاء الأصاغر

- الحظاء: سهام صغار -.

____________________

(١) الخبر مبسوط في (الأغاني ٢١: ١٥)، والأبيات فيه منسوبة إلى أنس بن زنيم الليثيّ.

(٢) الكراكر: جمع كركرة؛ وهي صدر البعير. وفي حاشية الأصل: (مثله:

وإذا تكون كريهة ادعى لها

وإذا يحاس الحيس يدعى جندب

٤١٥

وثديكم الأدنى إذا ما سألتم

ونلقى بثدي حين نسأل باسر(١)

وإن كان فينا الذّنب في الناس مثله

أخذنا به من قبل ناه وآمر(٢)

- معنى (من قبل ناه وآمر)، أي من قبل أن ننهى عنه أو نؤمر به، أي باجتنابه -

وإن جاءكم منّا غريب بأرضكم

لويتم له يوما جنوب المناخر

فهل يفعل الأعداء إلاّ كفعلكم

هوان السّراة وابتغاء العواثر(٣)

وغيّر نفسي عنكم ما فعلتم

وذكر هوان منكم متظاهر

جفاؤكم من عالج الحرب عنكم

وأعداؤكم من بين جاب وعاشر(٤)

فلا تسألوني عن هواي وودّكم

وقل في فؤاد قد توجّه نافر(٥)

ولحارثة يرثي زيادا:

لهفي عليك للهفة من خائف

يبغي جوارك حين ليس مجير

أمّا القبور فإنّهنّ أوانس

بجوار قبرك والدّيار قبور

عمّت فواضله فعمّ مصابه

فالنّاس فيه كلّهم مأجور

ردّت صنائعه إليه حياته

فكأنّه من نشرها منشور

قال سيدنا الشريف المرتضى أدام الله علوّه: وأظن أبا تمام الطائي نظر إلى قول حارثة ابن بدر (ردت صنائعه إليه حياته) في قوله:

ألم تمت ياشقيق النّفس مذ زمن؟

فقال لي: لم يمت من لم يمت كرمه(٦)

وأخبرنا عليّ بن محمد الكاتب قال: أخبرنا ابن دريد قال: أخبرنا عبد الرحمن - يعني ابن أخي الأصمعي عن عمه قال: مرّ حارثة بن بدر الغداني، ومعه كعب مولاه، فجعل لا يمرّ

____________________

(١) باسر: قليل اللبن.

(٢) حاشية ت: (أي إن أذنبنا الذنب الّذي يذنب الناس مثله أخذنا به من قبل أن ننهى عنه أو نؤمر بالانكفاف عنه).

(٣) من نسخة بحاشيتي الأصل، ت: (هوان) بضم النون.

(٤) الجابي: الّذي يأخذ الجباية، والعاشر الّذي يأخذ العشر.

(٥) حاشية الأصل: (أي توجه إلى غيركم ونفر عنكم). وفي ت وحاشية الأصل (من نسخة): (قد توجد).

(٦) من نسخة بحواشي الأصل، ت، ف: (ياشقيق الجود).

٤١٦

بمجلس من مجالس تميم إلاّ قالوا: مرحبا بسيدنا. فقال كعب: ما سمعت كلاما قطّ هو أقرّ لعيني، وألذّ في سمعي مما سمعته اليوم! فقال حارثة: ولكنّي ما سمعت كلاما قطّ هو أكره إلي منه، ثم قال:

ذهب الرّجال فسدت غير مدافع

ومن الشّقاء تفرّدي بالسّؤدد(١)

وهذا البيت يقال إنه لحارثة، لا أنه تمثّل به.

وأخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال حدثني عبد الله بن جعفر قال حدثنا محمد بن يزيد قال قال الكناني: مرّ حارثة بن بدر بالأحنف بن قيس فقال: لولا أنّك مستعجل لشاورتك، قال له: أجل، كانوا يكرهون أن يشاور الجائع حتى يشبع، والظمآن حتى ينقع، والمضلّ(٢) حتى يجد، والغضبان حتى يرضى، والمحزون حتى يفيق.

____________________

(١) من نسخة بحاشيتي الأصل، ت: (غير مسود).

(٢) المضل: الّذي ذهب بعيره.

٤١٧

[٢٩]

مجلس آخر [المجلس التاسع والعشرون:]

تأويل آية:( أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَالله سَرِيعُ الْحِسابِ ) ؛ [البقرة: ٢٠٢].

فقال: أي تمدّح في سرعة الحساب، وليس بظاهر وجه المدحة فيه؟.

الجواب، قلنا في ذلك وجوه:

أولها أن يكون المعنى أنّه سريع المجازاة(١) للعباد على أعمالهم، وأنّ وقت الجزاء قريب وإن تأخر، ويجري مجرى قوله تعالى:( وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ) ؛ [النحل: ٧٧].

وإنما جاز أن يعبّر عن المجازاة أو الجزاء بالحساب؛ لأنّ ما يجازى به العبد هو كفء لفعله ولمقداره، فهو حساب له إذا كان مماثلا مكافئا.

وممّا يشهد بأنّ في الحساب معنى الكفاية والمكافأة قوله تعالى:( جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً ) ؛ [النبأ: ٣٦]، أي عطاء كافيا، ويقال: أحسبني الطعام يحسبني إحسابا إذا كفاني، قال الشاعر:

وإذ لا ترى في النّاس حسنا يفوتها وفي النّاس حسن لو تأمّلت محسب(٢) معناه كاف.

____________________

(١) ت: (الحساب).

(٢) في حاشيتي الأصل، ف: (يصف امرأة بالحسن ويبالغ في وصفها؛ يقول: ما رأينا حسنا فات هذه المرأة وتعداها مع أن ما في الناس كفاية حسن).

٤١٨

وثانيها أن يكون المراد أنّه عزّ وجل يحاسب الخلق جميعا في أوقات يسيرة، ويقال:

إنّ مقدار ذلك مقدار حلب شاة؛ لأنه تعالى لا يشغله محاسبة بعضهم عن محاسبة غيره(١) ؛ بل يكلّمهم جميعا ويحاسبهم كلّهم على أعمالهم في وقت واحد؛ وهذا أحد ما يدلّ على أنّه تعالى ليس بجسم، وأنّه لا يحتاج في فعل الكلام إلى آلة؛ لأنه لو كان بهذه الصفات - تعالى عنها - لما جاز أن يخاطب اثنين في وقت واحد بمخاطبتين مختلفتين؛ ولكان خطاب بعض الناس يشغله عن خطاب غيره، ولكانت مدة محاسبته للخلق على أعمالهم طويلة غير قصيرة؛ كما أنّ جميع ذلك واجب في المحدثين الذين يفتقرون في الكلام إلى الآلات.

وثالثها ما ذكره بعضهم من أنّ المراد بالآية أنه سريع العلم بكل محسوب، وأنّه لما كانت عادة بني الدنيا أن يستعملوا الحساب والإحصاء في أكثر أمورهم؛ أعلمهم الله تعالى أنّه يعلم ما يحسبون بغير حساب؛ وإنما سمّي العلم حسابا لأنّ الحساب إنما يراد به العلم؛ وهذا جواب ضعيف؛ لأن العلم بالحساب أو المحسوب لا يسمّى حسابا، ولو سمّي بذلك لما جاز أيضا أن يقال إنه سريع العلم بكذا؛ لأنّ علمه بالأشياء مما لا يتجدّد فيوصف بالسرعة.

ورابعها أنّ الله تعالى سريع القبول لدعاء عباده والإجابة لهم؛ وذلك أنّه يسأل في وقت واحد سؤالات مختلفة من أمور الدنيا والآخرة، فيجزى كلّ عبد بمقدار استحقاقه ومصلحته، فيوصل إليه عند دعائه ومسألته ما يستوجبه بحد ومقدار؛ فلو كان الأمر على ما يتعارفه الناس لطال العدد واتصل الحساب، فأعلمنا تعالى أنّه سريع الحساب، أي سريع القبول للدعاء بغير إحساس وبحث عن المقدار الّذي يستحقّه الداعي؛ كما يبحث المخلوقون للحساب والإحصاء؛ وهذا الجواب مبني أيضا على دعوى أنّ قبول الدعاء لا يسمّى حسابا في لغة ولا عرف ولا شرع. وقد كان يجب على من أجاب بهذا الجواب أن يستشهد على ذلك بما يكون حجة فيه، وإلاّ فلا طائل فيما ذكره.

____________________

(١) حاشية ت (من نسخة): (بعض).

٤١٩

ويمكن في الآية وجه آخر، وهو أن يكون المراد بالحساب محاسبة الخلق على أعمالهم يوم القيامة وموافقتهم عليها، وتكون الفائدة في الإخبار بسرعته الإخبار عن قرب الساعة؛ كما قال تعالى:( سَرِيعُ الْعِقابِ ) .

وليس لأحد أن يقول: فهذا هو الجواب الأول الّذي حكيتموه؛ وذلك أن بينهما فرقا؛ لأن الأول مبني على أن الحساب في الآية هو الجزاء والمكافأة على الأعمال، وفي هذا الجواب لم يخرج الحساب عن بابه وعن معنى المحاسبة، والمقابلة بالأعمال وترجيحها، وذلك غير الجزاء الّذي يفضي الحساب إليه.

وقد طعن بعضهم في الجواب الثاني معترضا على أبي عليّ الجبّائي في اعتماده إياه(١) بأن قال(١) : مخرج الكلام في الآية على وجه الوعيد، وليس في خفّة الحساب وسرعة زمانه ما يقتضي زجرا، ولا هو مما يتوعد بمثله؛ فيجب أن يكون المراد الإخبار عن قرب أمر الآخرة والمجازاة على الأعمال.

وهذا الجواب ليس أبو عليّ هو المبتدئ به، بل قد حكي عن الحسن البصري، واعتمده أيضا قطرب بن المستنير النحوي: وذكره المفضّل بن سلمة، وليس الطّعن الّذي حكيناه عن هذا الطاعن بمبطل له، لأنه اعتمد على أنّ مخرج الآية مخرج الوعيد، وليس كذلك، لأنه تعالى قال:( فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ. أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَالله سَرِيعُ الْحِسابِ ) ؛ [البقرة: ٢٠٠ - ٢٠٢]، فالأشبه بالظاهر أن يكون الكلام وعدا بالثواب، وراجعا إلى الذين يقولون:( رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ ) ، أو يكون راجعا إلى الجميع، فيكون المعنى:

إن للجميع نصيبا مما كسبوا؛ فلا يكون وعيدا خالصا؛ بل إما أن يكون وعدا خالصا أو وعدا ووعيدا، على أنه لو كان وعيدا خالصا على ما ذكر الطاعن لكان لقوله تعالى:

____________________

(١) ت: (فقال).

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679