أمالي المرتضى الجزء ١

أمالي المرتضى5%

أمالي المرتضى مؤلف:
تصنيف: مكتبة اللغة والأدب
الصفحات: 679

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 679 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 323820 / تحميل: 11627
الحجم الحجم الحجم
أمالي المرتضى

أمالي المرتضى الجزء ١

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

وأعيش بالبلل القليل وقد أرى

أنّ الرّموس مصارع الفتيان(١)

وأخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال: حدثني عليّ بن منصور قال: أخبرني محمد بن موسى عن دعبل بن عليّ قال قال عقيل بن علّفة: - وذكر الأبيات الثلاثة، وزاد فيها:

ولقد علمت لئن هلكت ليذكرن

قومي إذا علن النّجي مكاني(٢)

***

قال سيدنا الشريف المرتضى أدام الله تأييده: وكان عقيل بن علّفة مع قوّة شعره جيّد الكلام حكيم الألفاظ. وروى المدائنى قال: قال عبد الملك بن مروان لعقيل بن علّفة المرّيّ:

ما أحسن(٣) أموالكم؟ فقال: ما ناله أحدنا عن أصحابه تفضّلا، قال: ثم أيّها؟ قال:

مواريثنا، قال: فأيّها أشرف؟ قال: ما استفدناه بوقعة خوّلت نعما، وأفادت عزّا، قال:

فما مبلغ عزّكم؟ قال: ما لم يطمع فينا، ولم نؤمن، قال: فما مبلغ جودكم؟ قال: ما عقدنا به مننا، وأبقينا به ذكرا، قال: فما مبلغ حفاظكم؟ قال: يدفع كل رجل منّا عن المستجير به كدفاعه عن نفسه؛ قال عبد الملك: هكذا فليصف الرجل قومه.

وروي أنه قيل لعقيل بن علّفة: قد عنّست(٤) بناتك، أفما تخشى عليهنّ الفساد؟ قال:

كلاّ، إني خلّفت عندهن الحافظين، قيل: وما هما؟ قال: الجوع والعري، أجيعهن فلا يأشرن، وأعرّيهنّ(٥) فلا يظهرن.

وقال له عبد الله يوما: ما لك تهجو قومك؟ قال: لأنهم أشباه الغنم، إذا صيح بها رفعت، وإذا سكت عنها رتعت، قال: إنّما تقول البيت والبيتين، قال: حسبي من القلادة ما أحاط بالعنق.

____________________

(١) البلل في الأصل: ما بل الحلق من ماء أو لبن أو غيره.

(٢) حاشية الأصل: (يصف نفسه بحفظ الأسرار؛ يقول: إذا مت والناس يناجون غيري فيفشي أسرارهم؛ يذكرونني عند ذلك ويذكرون مكاني).

(٣) من نسخة بحواشي الاصل، ت، ف: (ما أخس).

(٤) من نسخة بحاشيتي الأصل، ت: (عنست بناتك؛ بتاء الخطاب؛ أي أخرتهن عن التزويج).

(٥) حواشي الأصل، ت، ف: (في معناه الحديث: (اعروا النساء يلزمن الحجال)).

٤٠١

فأما معنى (علّفة) اسم أبيه، فإن ابن الأعرابي قال: العلّفة مثل الباقلاّء الرّطبة تكون تحت الزهرة من البقل وغيره. وقال أبو سعيد السّكّري: العلّفة ضرب من أوعية بزر بعض النبات مثل قشرة الباقلاّء. واللّوبيا؛ وهو الغلاف الّذي يجمع عدّة حبّ.

وقيل: إن عقيلا كان يكنى بأبي الوليد، وكان رجلا غيورا موصوفا بشدة الغيرة، وروى أبو عمرو بن العلاء أنّه حمل يوما ابنة له وأنشأ يقول:

إني وإن سيق إلي المهر

ألف وعبدان وذود عشر(١)

أحبّ أصهاري إليّ القبر

وذكر الأصمعي أن عقيلا كان لغيرته إذا رأى الرجل يتحدث إلى النساء أخذه، ودهن أرفاغه(٢) ومغابنه بزبد وربطه وطرحه في قرية النمل، فلا يعود إلى محادثتهنّ.

وروى الأصمعي قال: كان(٣) عقيل بن علّفة في بعض سفره، ومعه ابنه العملّس وابنته الجرباء، فأنشأ يقول:

قضت وطرا من دير سعد وربّما

على عجل ناطحنه بالجماجم(٤)

ثم أقبل على ابنه فقال: أجزيا عملّس، فقال:

وأصبحن بالموماة يحملن فتية

نشاوى من الإدلاج ميل العمائم(٥)

____________________

(١) الذود: القطيع من الإبل.

(٢) الأرفاغ: جمع رفع؛ وهو أصل الفخذ، والمغابن: جمع مغبن، كمنزل وهو الإبط.

(٣) الخبر في الأغاني ١٢: ٢٥٦ - ٢٥٧ (طبع دار الكتب المصرية).

(٤) دير سعد: بين بلاد غطفان والشام، وبعده في رواية الأغاني:

إذا هبطت أرضا يموت غرابها

بها عطشا أعطينهم بالخزائم

والخزائم: جمع خزامة، وهي حلقة من شعر تجعل في أحد جاني منخري البعير لينقاد بها.

(٥) الموماة: المفازة الواسعة. نشاوى: سكارى. الإدلاج: السير من أول الليل، وبعده في رواية الأغاني:

إذا علم غادرنه بتنوفة

تذارعن بالأيدي لآخر طاسم

- والعلم: شيء ينصب في الفلوات تهتدي به الضالة. التنوفة: المفازة. تذارعن: سرن، وأصله أن يذرع البعير بيديه في سيره ذرعا إذا سار على قدر سعة خطوه. رسم طاسم: دارس.

٤٠٢

ثم أقبل على ابنته، فقال: أجيزي ياجرباء، فقالت:

كأنّ الكرى سقّاهم صرخديّة

عقارا تمشّت في المطا والقوائم(١)

قال: فأقبل على ابنته يضربها ويقول: والله ما وصفتها بهذه الصفة حتى شربتها، فوثب عليه إخوتها فقاتلوه دونها، ثم رماه أحدهم بسهم فانتظم فخذيه، فقال عقيل:

إنّ بنيّ زمّلوني بالدّم(٢)

من يلق أبطال الرّجال يكلم(٣)

ومن يكن ذا أود يقوّم

شنشنة أعرفها من أخزم

الشنشنة: الطبيعة والسجية. وقيل الشبه، وهذا مثل اجتلبه عقيل(٤) ، وقد قيل قبله؛ ولعقيل:

وللدّهر أثواب فكن في لباسه

كلبسته يوما أجدّ وأخلقا(٥)

وكن أكيس الكيسى إذا كنت فيهم

وإن كنت في الحمقى فكن أنت أحمقا

____________________

(١) الصرخدية: منسوبة إلى صرخد، وهو بلد ملاصق لبلاد حوران من أعمال دمشق. العقار:

الخمر. المطا: الظهر.

(٢) رواية الأغاني: (سربلوني)،

(٣) رواية اللسان (شنن): (آساد الرجال).

(٤) حاشية الأصل: (قال س: قرأت في أمالي ابن الجبان الأصبهاني: شنشنة [بالفتح]، وشنشنة [بالكسر]، ونشنشة [بالفتح]، ونشنشة [بالكسر]، قال: قد فسروها بالطبيعة وبالمضغة من اللحم وبالمجامعة. ضارب هذا المثل حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج بن أخزم الطائي حين نشأ حاتم، وتقيل أخلاق جده أخزم في الجود فقال: (شنشنة أعرفها من أخزم)، وتمثل به عقيل ابن علفة) وفي اللسان عن ابن بري: (كان أخزم عاقا لأبيه، فمات وترك بنين عقوا جدهم وضربوه وأدموه، فقال ذلك).

وانظر ترجمة عقيل وأخباره وأشعاره في (الأغاني ١١: ٨١ - ٨٩).

(٥) حاشية ف: (المعنى: فالبس مع الدهر لبوسه؛ إن لبس الجديد فالبس أيضا أنت الجديد، وبالعكس).

٤٠٣

[٢٨]

مجلس آخر [المجلس الثامن والعشرون:]

تأويل آية:( وَإِلَى الله تُرْجَعُ الآمُورُ )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( وَإِلَى الله تُرْجَعُ الآمُورُ ) ؛ [البقرة: ٢١٠] فقال: كيف يصحّ القول بأنّها رجعت عليه وهي لم تخرج عن يده؟.

الجواب، قلنا قد ذكر في ذلك وجوه:

أولها أنّ الناس في دار المحنة والتكليف قد يغترّ بعضهم ببعض، ويعتقدون فيهم أنهم يملكون جرّ المنافع إليهم وصرف المضارّ عنهم، وقد تدخل عليهم الشّبه لتقصيرهم في النظر، وعدولهم عن وجهه وطريقه، فيعبد قوم الأصنام وغيرها من المعبودات الجامدة الهامدة التي لا تسمع ولا تبصر، ويعبد آخرون البشر، ويجعلونهم شركاء للّه تعالى في استحقاق العبادة؛ ويضيف كلّ هؤلاء أفعال الله عز وجل فيهم إلى غيره، فإذا جاءت الآخرة، وانكشف الغطاء واضطرّوا إلى المعارف زال ما كانوا عليه في الدنيا من الضلال واعتقاد الباطل، وأيقن الكلّ أنّه لا خالق ولا رازق ولا ضارّ ولا نافع غير الله تعالى فردوا إليه أمورهم، وانقطعت آمالهم من غيره، وعلموا أنّ الّذي كانوا عليه من عبادة غيره، وتأميله للضّرّ والنفع غرور وزور، فقال الله تعالى:( وَإِلَى الله تُرْجَعُ الآمُورُ ) لهذا المعنى.

والوجه الثاني أن يكون معنى الآية في الأمور أنّ الأمور كلّها للّه تعالى، وفي يده وقبضته من غير خروج ورجوع حقيقي؛ وقد تقول العرب: قد رجع عليّ من فلان مكروه، بمعنى صار إلي منه؛ ولم يكن سبق إلى قبل هذا الوقت، وكذلك يقولون: قد عاد عليّ من زيد كذا وكذا وإن وقع منه على سبيل الابتداء قال الشاعر:

وإن تكن الأيّام أحسن مرّة

إلي فقد عادت لهنّ ذنوب

٤٠٤

أي صارت لها ذنوب لم تكن من قبل؛ بل كان قبلها إحسان فحمل الآية على هذا المعنى شائع جائز تشهد له اللغة.

والوجه الثالث أنّا قد علمنا أنّ الله تعالى قد ملّك العباد في دار التكليف أمورا تنقطع بانقطاع التكليف، وإفضاء الأمر إلى الدار الآخرة، مثل ما ملّكه الموالي من العبيد، وما ملّكه الحكام من الحكم وعير ذلك؛ فيجوز أن يريد تعالى برجوع الأمر إليه انتهاء ما ذكرناه من الأمور التي يملكها غيره بتمليكه إلى أن يكون هو وحده مالكها ومدبّرها.

ويمكن في الآية وجه آخر؛ وهو أن يكون المراد بها أنّ الأمر ينتهي إلى ألاّ يكون موجود قادر غيره، ويفضي الأمر في الانتهاء إلى ما كان عليه في الابتداء، لأن قبل إنشاء الخلق هكذا كانت الصورة، وبعد إفنائهم هكذا تصير وتكون الكناية برجوع الأمر إليه عن هذا المعنى، وهو رجوع حقيقي، لأنه عاد إلى ما كان عليه متقدما.

ويحتمل أيضا أنّ المراد بذلك أنّ إلى قدرته تعود المقدورات، لأن ما أفناه من مقدوراته الباقية كالجواهر والأعراض ترجع إلى قدرته، ويصحّ منه تعالى إيجاده لعوده إلى ما كان عليه، وإن كان ذلك لا يصحّ في مقدورات البشر، وإن كانت باقية لما دلّ عليه الدليل، من اختصاص مقدور القدر باستحالة العود إليها، من حيث لم يجز فيها التقديم والتأخير، وهذا أيضا حكم، هو تعالى المتفرد به دون غيره من سائر القادرين، والله أعلم بما أراد.

تأويل آية أخرى:( وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها ) ، [البقرة: ١٨٩].

فقال: أي معنى لذكر البيوت وظهورها وأبوابها؟ وهل المراد بذلك البيوت المسكونة

٤٠٥

على الحقيقة، أو كنّى بهذه اللفظة عن غيرها؟ فإن كان الأول فما الفائدة في إتيانها من أبوابها دون ظهورها؟ وإن كانت كناية فبيّنوا وجهها ومعناها.

الجواب قيل له في الآية وجوه.

أولها ما ذكر من أنّ الرجل من العرب كان إذا قصد حاجة فلم تقض له، ولم ينجح فيها رجع فدخل من مؤخّر البيت، ولم يدخل من بابه تطيّرا، فدلّهم الله تعالى على أنّ هذا من فعلهم لا برّ فيه، وأمرهم من التّقى بما ينفعهم ويقرّبهم إليه، وقد نهى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عن التطيّر وقال: ( لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر)؛ أي لا يعدي شيء شيئا. وقالعليه‌السلام : (لا يورد ذو عاهة على مصحّ)؛ ومعنى هذا الكلام أنّ من لحقت إبله آفة أو مرض فلا ينبغي أن يوردها على إبل لغيره صحاح، لأنّه متى لحق الصّحاح مثل هذه العاهة اتفاقا، لا لأجل العدوى لم يؤمن من صاحب الصّحاح أن يقول إنما لحق إبلي هذه الآفة من تلك الإبل، وهي أعدت إبلي، فنهى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عن هذا، ليزول المأثم بين الفريقين والظّنّ القبيح.

وثانيها أن العرب إلاّ قريشا ومن ولدته قريش كانوا إذا أحرموا في غير الأشهر الحرم لم يدخلوا بيوتهم من أبوابها، ودخلوها من ظهورها إذا كانوا من أهل الوبر، وإذا كانوا من أهل المدر نقبوا في بيوتهم ما يدخلون ويخرجون منه، ولم يدخلوا ولم يخرجوا من أبواب البيوت؛ فنهاهم الله تعالى عن ذلك، وأعلمهم أنه لا معنى له، وأنه ليس من البرّ وأن البرّ غيره.

وثالثها - وهو جواب أبي عبيدة معمر بن المثنى - أن المعنى ليس البرّ بأن تطلبوا الخير من غير أهله، وتلتمسوه من غير بابه،( وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها ) ، معناه: واطلبوا الخير من وجهه، ومن عند أهله.

ورابعها - وهو جواب أبي عليّ الجبّائي - أن تكون الفائدة في هذا الكلام ضرب المثل،

٤٠٦

وأراد: ليس البرّ أن يأتي الرجل الشيء من خلاف جهته؛ لأن إتيانه من خلاف جهته يخرج الفعل عن حد الصواب والبرّ إلى الإثم والخطأ، وبيّن البرّ والتقوى، وأمر بإتيان الأمور من وجوهها، وأن تفعل على الوجوه التي لها وجبت وحسنت، وجعل تعالى ذكر البيوت وظهورها وأبوابها مثلا؛ لأن العادل في الأمر عن وجهه كالعادل في البيت عن بابه.

وخامسها أن تكون البيوت كناية عن النساء، ويكون المعنى: وأتوا النساء من حيث أمركم الله، والعرب تسمّي المرأة بيتا؛ قال الشاعر:

ما لي إذا أنزعها صأيت

أكبر غيّرني أم بيت(١)

أراد بالبيت: المرأة.

ومما يمكن أن يكون شاهدا للجواب الّذي حكيناه عن أبي عليّ الجبّائي، والجواب عن أبي عبيدة أيضا ما أخبرنا به أبو القاسم عبيد الله عثمان بن يحيى قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن أحمد الحكيمي قال: أملى علينا أبو العباس أحمد بن يحيى النحوي قال: أنشدنا ابن الأعرابي(٢) :

إني عجبت لأمّ العمر إذ هزئت

من شيب رأسي وما بالشّيب من عار(٣)

ما شقوة المرء بالإقتار يقتره

ولا سعادته يوما بإكثار

إنّ الشّقي الّذي في النّار منزله

والفوز فوز الّذي ينجو من النّار

أعوذ بالله من أمر يزيّن لي

شتم العشيرة أو يدني من العار

وخير دنيا ينسّي أمر آخرة

وسوف يبدي لي الجبّار أسراري(٤)

____________________

(١) البيان في اللسان (صأى) وفي حاشية الأصل: (هذا مستق يستقي الماء من البئر وينزع الدلو.

والهاء في قوله: (أنزعها) راجعة إلى الدلو؛ وقيل الضمير للقوس؛ يقال: (صأى يصأى، مثل صعى يصعى؛ إذا صوت).

(٢) أبيات منها في الكامل ٢: ٥١ - ٥٢ - بشرح المرصفي؛ عن ابن الأعرابي، ونسبها إلى أحد ابني حبناء، قال: (وأحسبه صخرا).

(٣) حاشية الأصل: (ويروى: (لأم الغمر - بالغين المعجمة)، ورواية الكامل:

إنّي هزئت من أمّ الغمر إذ هزئت

بشيب رأسي، وما بالشّيب من عار

 (٤) د:

* وسوف تبدو إلى الجبّار أسراري*

٤٠٧

لا أدخل البيت أحبو من مؤخّره

ولا أكسّر في ابن العمّ أظفاري

فقوله:

* لا أدخل البيت أحبو من مؤخّره*

يحتمل أن يريد به: إنني لا آتي الأمور من غير وجهها، على أحد الأجوبة في الآية، ويحتمل أيضا أني لا أطلب الخير إلا من أهله على جواب أبي عبيدة، ويحتمل وجها آخر(١) ؛ وهو أن يريد أنني لا أقصد البيت للرّيبة والفساد، لأنّ من شأن من يسعى إلى إفساد الحرم، ويقصد البيوت للريبة أن يعدل عن أبوابها طلبا لإخفاء أمره، فكأنه نفى عن نفسه بهذا القول القبيح، وتنزّه عنه؛ كما تنزه بقوله:

* ولا أكسّر في ابن العمّ أظفاري*

عن مثله، وأراد أنه لا يندى(٢) ابن العمّ مني السوء، ولا يتألم بشيء من جهتي، فأكون كأنني قد جرحته بأظفاري، وكسرتها في لحمه؛ وهذه كنايات بليغة مشهورة للعرب.

***

[أبيات لهلال بن خثعم وشرح ما ورد فيها من الغريب:]

ويجري مجرى هذه الأبيات ويقاربها في المعنى وحسن الكناية قول هلال بن خثعم:

وإني لعفّ عن زيارة جارتي

وإني لمشنوء إلي اغتيابها

إذا غاب عنها بعلها لم أكن لها

زءورا ولم تنبح عليّ كلابها(٣)

وما أنا بالدّاري أحاديث بيتها

ولا عالم من أي حوك ثيابها

وإنّ قراب البطن يكفيك ملؤه

ويكفيك عورات الأمور اجتنابها(٤)

____________________

(١) حاشية ت (من نسخة): (ووجه آخر).

(٢) حواشي الأصل، ت، ف: (من حر كلامهم: ما ينداك مني سوء، أي ما يصيبك، ويقال: ما نديت بهذا الأمر ولا نطقت به، ولا بللت به، أي ما علمته ولا أصبته، قال النابغة:

ولا نديت بشيء أنت تكرهه

إذا فلا رفعت سوطي إليّ يدي

 (٣) يقال رجل زوار وزءور، كذا ذكره صاحب اللسان واستشهد بالبيت.

(٤) حاشية الأصل: (القراب: ما دون المل ء أو قريب منه).

٤٠٨

قال سيدنا أدام الله علوّه: وقد جمعت هذه الأبيات فقرا عجيبة، وكنايات بليغة، لأنه نفى عن نفسه زيارة جارته عند غيبة بعلها، وخصّ حال الغيبة لأنها أدنى إلى الرّيبة وأخصّ بالتهمة فقال: (ولم تنبح عليّ كلابها)، أراد: إني لا أطرقها ليلا مستخفيا متنكّرا فتنكرني كلابها، وتنبحني، وهذه الكناية تجري مجرى قول الشاعر المتقدم:

* لا أدخل البيت أحبو من مؤخّره*

وقد روي: (ولم تأنس إلى كلابها) وهذا معنى آخر، كأنه أراد أنه ليس يكثر الطروق لها والغشيان لمنزلها، فتأنس به كلابها لأن الأنس لا يكون إلاّ مع المواصلة والمواترة.

وقوله:

* وما أنا بالدّاري أحاديث بيتها*

أراد به أيضا التأكيد في نفي زيارتها وطروقها عن نفسه؛ لأنه إذا أدمن الزيارة عرف أحاديث بيتها، فإذا لم يزرها وصارمها لم يعرف، ويحتمل أن يريد: إنني لا أسأل عن أحوالها وأحاديثها كما يفعل أهل الفضول؛ فنزّه نفسه عن ذلك.

وقوله:

* ولا عالم من أي حوك ثيابها*

كناية مليحة عن أنّه لا يجتمع معها، ولا يقرب منها؛ فيعرف صفة ثيابها.

***

[إيراد مقطعات مختلفة لحارثة بن بدر الغداني:]

وبالإسناد المتقدّم لحارثة بن بدر الغداني(١) .

إذا الهمّ أمسى وهو داء فأمضه

ولست بممضيه وأنت تعادله

ولا تنزلن أمر الشّديدة بامرئ

إذا همّ أمرا عوّقته عواذله(٢)

____________________

(١) هو حارثة بن بدر بن حصين بن قطن بن غدانة؛ من بني يربوع. كان من فرسان بني تميم ووجوهها وسادتها، ولم يكن معدودا في فحول الشعراء، ولكنه كان يعارض نظراءه في الشعر. (وانظر أخباره وأشعاره في الأغاني ٢١: ١٣ - ٣١)

(٢) حواشي الأصل، ت، ف: (سوفته عواذله).

٤٠٩

فما كلّ ما حاولته الموت دونه،

ولا دونه أرصاده وحبائله

وما الفتك ما آمرت فيه ولا الّذي

تحدّث من لاقيت أنّك فاعله(١)

وما الفتك إلاّ لامرئ ذي حفيظة

إذا صال لم ترعد إليه خصائله(٢)

ولا تجعلن سرّا إلى غير أهله

فتقعد إن أفشى عليك تجادله

ولا تسأل المال البخيل ترى له

غنى بعد ضرّ أورثته أوائله(٣)

أرى المال أفياء الظّلال فتارة

يئوب، وأخرى يختل المال خاتله

معنى (آمرت) شاورت. والخصائل: كل لحم مجتمع.

وقد روينا في هذه الأبيات زيادة على القدر الّذي ذكرناه:

أخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال حدثني الحسن بن عليّ قال حدثنا محمد بن العباس قال حدّثني الفضل بن محمد عن أبي المنهال المهلّبي قال: من الأبيات السائرة قول حارثة ابن بدر الغداني:

لعمرك ما أبقى لي الدّهر من أخ

حفي ولا ذي خلّة لي أواصله(٤)

ولا من خليل ليس فيه غوائل

فشرّ الأخلاّء الكثير غوائله

وقل لفؤاد إن نزا بك نزوة

من الرّوع أفرخ، أكثر الرّوع باطله(٥)

معنى (أفرخ) أي اسكن، يقال: أفرخ روعه إذا سكن.

وما كلّ ما حاولته، الموت دونه

 ... ... ... ... ... ... ....

____________________

(١) حاشية ت (من نسخة): (ولا الفتك). وآمرت: شاورت.

(٢) من نسخة بحاشية الأصل: (لم ترعد إليه) وفيها: (الخصائل: جمع خصلة، وهي كل لحم مجتمع، مثل الساقين والفخذين).

(٣) حواشي الأصل، ت، ف: (يجوز أن يكون ضمير المال أو البخل).

(٤) الحفي: الّذي يكرم خليله ويبالغ في إكرامه، مع إظهار المسرة والفرح.

(٥) حاشية الأصل (من نسخة): (إنما نكر الفؤاد على اعتبار أن له فؤادين، أحدهما يشجعه والآخر يجبنه، فقال: لا تطع المجبن؛ وإنما جعل لنفسه فؤادين ينقسمان للخوف والأمن، لكيلا يكون في حال من الأحوال جبانا مطلقا، بل يكون مترنحا بينهما). وفي حاشية ت (من نسخة): (للفؤاد).

٤١٠

وذكر البيتين اللذين بعده، وزاد:

وكن أنت ترعى سرّ نفسك واعلمن

بأنّ أقلّ النّاس للنّاس حامله(١)

إذا ما قتلت الشّيء علما فبح به(٢)

ولا تقل الشّيء الّذي أنت جاهله

ومما يستحسن لحارثة بن بدر قوله:

لنا نبعة كانت تقينا فروعها

وقد بلغت إلاّ قليلا عروقها(٣)

وإنّا لتستحلى المنايا نفوسنا

ونترك أخرى مرّة لا تذوقها(٤)

وشيّب رأسي قبل حين مشيبه

رعود المنايا بيننا وبروقها

قوله:

* لنا نبعة كانت تقينا فروعها*

مثل ضربه، وإنما أراد عشيرته وأهل بيته.

وقد روى هذه الأبيات عليّ بن سليمان الأخفش عن أبي العباس ثعلب، وزاد فيها:

رأيت المنايا باديات وعوّدا

إلى دارنا سهلا إلينا طريقها

وقد قسمت نفسي فريقين منهما:

فريق مع الموتى، وعندي فريقها

وبينا نرجّي النّفس ما هو نازح

من الأمر لاقت دونها ما يعوقها

وروى أبو العيناء قال: أنشد الشعبي عبد الله بن جعفر الأبيات الثلاثة الأول،

____________________

(١) د: (للسر)، وفي حاشية ت: (نسخة الشجري: (أقل الناس للسر حامله)، كأنه أقلهم لحمله.

(٢) قلت الشيء علما، أي علمته علما تاما، ومن نسخة بحواشي الأصل، ت، ف: (فقل به.

(٣) النبع: شجر ينبت في قلة الجبل، تتخذ منه العسى.

(٤) من نسخة بحاشيتي الأصل، ت: (مرة لا نذوقها)، وفي حاشية ف: مثله (قول السموءل ابن عاديا اليهودي:

يقرّب حبّ الموت آجالنا

وتكرهه آجالهم فتطول

أي حبنا الموت؛ ويجوز أن يكون أضاف الحبّ من قوله: (حبّ الموت) إلى الفاعل؛ فيكون المعنى:

يقرب حب الموت لنا آجالنا؛ ويكون هذا كقول طرفة:

أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي

عقيلة مال الفاحش المتشدّد

٤١١

فقال عبد الله: لمن هذا ياشعبي؟ فقال: لحارثة بن بدر، فقال: نحن أحقّ بهذا، ثم أمر للشّعبي بأربعمائة دينار.

[طرف من أخبار حارثة بن بدر وبعض نوادره:]

ومن مستحسن قول حارثة:

ولقد وليت إمارة فرجعتها

في المال سالمة ولم أتموّل(١)

ولقد منعت النّصح من متقبّل

ولقد رفدت النّصح من لم يقبل

فبأي لمسة لامس لم ألتمس

وبأي حيلة حائل لم أحتل(٢)

يا طالب الحاجات يرجو نجحها

ليس النجاح مع الأخفّ الأعجل

فاصدق إذا حدّثت تكتب صادقا

وإذا حلفت مماريا فتحلّل(٣)

- معنى (تكتب صادقا)، أي تكون عند الله صادقا. وقوله: (فتحلّل) أي استثن -

وإذا رأيت الباهشين إلى العلى

غبرا أكفّهم بريث فاعجل

- معنى الباهشين: المادّين أيديهم إلى الشيء المهتشّين(٤) له -

واحذر مكان السّوء لا تحلل به(٥)

وإذا نبا بك منزل فتحوّل

وإذا ابن عمّك لجّ بعض لجاجة

فانظر به عدة ولا تستعجل

وإذا افتقرت فلا تكن متخشّعا

ترجو الفواضل عند غير المفضل

واستغن ما أغناك ربّك بالغنى

وإذا تكون خصاصة فتجمّل

وأخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال حدّثنا محمد بن أبي الأزهر قال حدثنا محمد بن يزيد

____________________

(١) عجز البيت الخامس والبيت ٦، ٧، ٨، ٩، ١٠ نسبت إلى عبد قيس بن خفاف البرجمي في قصيدة مفضلية. ٧٥ - ٧٥٣ مطلعها:

أجبيل إنّ أباك كارب يومه

فإذا دعيت إلى العظائم فاعجل

(٢) من نسخة بحاشيتي الأصل ف: (ختلة خاتل لم أختل).

(٣) مماريا: مجادلا.

(٤) ف، ومن نسخة بحاشيتي الأصل، ت: (المشتهين).

(٥) حاشية ت (من نسخة): (لا تنزل به).

٤١٢

النحوي قال: كان(١) حارثة بن بدر الغداني رجل تميم في وقته، وكان قد غلب على زياد، وكان الشراب قد غلب عليه، فقيل لزياد: إن هذا قد غلب عليك، وهو مستهتر(٢) بالشراب؛ فقال زياد: كيف باطّراح رجل هو يسايرني مذ دخلت العراق، لم يصكك ركابي ركاباه(٣) ، ولا تقدمني فنظرت إلى قفاه، ولا تأخّر عني فلويت عنقي إليه، ولا أخذ عليّ الشمس في شتاء قط، ولا الرّوح(٤) في صيف قطّ، ولا سألته عن علم إلا ظننته لا يحسن غيره! فلما مات زياد جفاه ابنه عبيد الله، فقال له حارثة: أيها الأمير، ما هذا الجفاء مع معرفتك بالحال عند أبي المغيرة(٥) ! فقال له عبيد الله: إن أبا المغيرة قد كان برع بروعا لا يلحقه معه عيب، وأنا حدث، وإنما أنسب إلى من يغلب عليّ، وأنت رجل تديم الشّراب، فمتى قرّبتك وظهرت منك رائحة الشراب لم آمن أن يظنّ بي، فدع الشراب، وكن أول داخل عليّ، وآخر خارج، فقال له حارثة: أنا لا أدعه لمن يملك ضرّي ونفعي، أفدعه للحال عندك! قال: فاختر من عملي ما شئت. قال: توليني رامهرمز(٦) ، فإنها أرض عذاة(٧) ، وسرّق(٨) ؛ فإن بها شرابا وصف لي. فولاّه إياها، فلما شيّعه الناس قال أنس بن أبي أنيس(٩) - وقيل: ابن أبي إياس الدّيلي:

أحار بن بدر قد وليت إمارة

فكن جرذا فيها تخون وتسرق(١٠)

ولا تحقرن ياحار شيئا وجدته

فحظّك من ملك العراقين سرّق

____________________

(١) الخبر في الكامل - بشرح المرصفي ٣ - ١٩١ - ١٩٢.

(٢) مستهتر بالشراب: مولع به؛ من استهتر بكذا، مبنيا لما لم يسم فاعله: أولع به لا يفعل غيره، ولا يتحدث إلا به.

(٣) من نسخة بحاشيتي ف، ت: (يصطك ركابي ركابه).

(٤) الروح: برد النسيم.

(٥) أبو المغيرة: كنية زياد.

(٦) رامهرمز: مدينة مشهورة بنواحي خوزستان من بلاد الفرس.

(٧) الأرض العذاة: الطيبة التربة، البعيدة من الأنهار والنجود والسباخ.

(٨) سرق: إحدى كور الأهواز.

(٩) من نسخة بحواشي الأصل، ت، ف: (ابن أبي أنس). وفي الشعر والشعراء: ٧١٤: (أنس بن أبي أناس)، من كنانة، من الدؤل، رهط أبي الأسود الدؤلي.

(١٠) الأبيات في الشعر والشعراء: ٧١٥.

٤١٣

وباه تميما بالغنى إنّ للغنى

لسانا به العي الهيوبة ينطق(١)

فإنّ جميع النّاس؛ إمّا مكذّب

يقول بما يهوى، وإما مصدّق(٢)

يقولون أقوالا ولا يعلمونها

فإن قيل هاتوا حقّقوا لم يحقّقوا

وهذه الأبيات تروى لأبي الأسود الدّؤليّ، وأنه كتب بها إلى حارثة لما ردّت إليه سرّق، ويزاد فيها:

وكن حازما في اليوم إنّ الّذي به

يجئ غد يوم على الناس مطبق(٣)

ولا تعجزن فالعجز أوطأ مركب

وما كلّ من يدعو إلى الخير يرزق

إذا ما دعاك القوم عدّوك آكلا

وكل حار أوجع؛ لست ممّن يحمّق

ويقال إن حارثة بن بدر أجاب عن هذه الأبيات بقوله:

جزاك إله الناس خير جزائه

فقد قلت معروفا وأوصيت كافيا

أشرت بأمر لو أشرت بغيره

لألفيتني فيه لرأيك عاصيا(٤)

ويقال إن حارثة بن بدر والأحنف بن قيس دخلا على ابن زياد، فقال لحارثة: أي الشراب أطيب؟ وكان يتّهم(٥) ، فقال: برّة طاسارية، وأقطة غنويّة، وسمنة عنبريّة، وسكّرة سوسية، ونطفة مسرقانيّة(٦) . فقال للأحنف: ياأبا بحر، ما أطيب الشراب؟ قال:

____________________

(١) الهيوية: الّذي يهاب الناس؛ والهاء فيه لتأكيد المبالغة.

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): (تهوى).

(٣) حاشية الأصل: (يقال غمام مطبق؛ أي ذو طبق؛ وقد أطبقت السماء).

(٤) البيتان في الأغاني ٢١: ٢٣، وبعدهما:

ستلقى أخا يصفيك بالودّ حاضرا

ويوليك حفظ الغيب إن كنت نائيا

(٥) ت، ومن نسخة بحاشية الأصل: (وكان بينهم).

(٦) حواشي الأصل، ت، ف: (ذكره يزيد بن مفرغ الحميري:

سقى هزم الأوساط منبجس العرا

منازلها من مسرقان فسرّقا

- هزم الأسواط؛ أي مجلجل بالرعد، وهزيم الرعد: صوته، وأوساطه؛ أي أوساط السحاب).

٤١٤

الخمر، قال: وما يدريك ولست من أهلها؟ قال: رأيت فيها خصلتين عرفت أنها أطيب الشراب بهما، قال: وما هما؟ قال: رأيت من أحلّت له لا يتعدّاها إلى غيرها، ومن حرّمت عليه يتناولها، فعرفت أنها أطيب الشراب.

ولحارثة بن بدر يخاطب عبيد الله بن زياد لما تغيّر عليه بعد اختصاصه كان بأبيه(١) :

أهان وأقصى ثمّ تنتصحونني

وأي امرئ يعطى نصيحته قسرا!

رأيت الأكفّ المصلتين عليكم

ملاء، وكفّي من عطاياكم صفرا

وإني مع السّاعي إليكم بسيفه

إذا أحدث الأيّام في عظمكم كسرا

متى تسألوني ما عليّ وتمنعوا ال

لذي لي لا أسطع على ذلكم صبرا

وقال يعاتبه:

وكم من أمير قد تجبّر بعد ما

مريت له الدّنيا بسيفي فدرّت

إذا زبنته عن فواق أتت به

دعاني ولا ادعى إذا ما أقرّت

إذا ما هي احلولت محا حقّ مقسمي

ويقسم لي منها إذا ما أمرّت

زبنته: أي دفعته عن أن يحلبها. والفواق: اجتماع اللّبن في الضّرع بين الحلبتين.

ومعنى أقرت: تركته يحلبها.

ويشبه أبيات حارثة هذه قول عبد الله بن الزّبير الأسدي يعاتب معاوية ومروان وأهل بيته؛ من جملة قصيدة، وهي أبيات قوية جدّا:

عطاؤكم للضّاربين رقابكم

وندعى إذا ما كان حزّ الكراكر(٢)

أنحن أخوكم في المضيق وسهمنا

إذا ما قسمتم في الحظاء الأصاغر

- الحظاء: سهام صغار -.

____________________

(١) الخبر مبسوط في (الأغاني ٢١: ١٥)، والأبيات فيه منسوبة إلى أنس بن زنيم الليثيّ.

(٢) الكراكر: جمع كركرة؛ وهي صدر البعير. وفي حاشية الأصل: (مثله:

وإذا تكون كريهة ادعى لها

وإذا يحاس الحيس يدعى جندب

٤١٥

وثديكم الأدنى إذا ما سألتم

ونلقى بثدي حين نسأل باسر(١)

وإن كان فينا الذّنب في الناس مثله

أخذنا به من قبل ناه وآمر(٢)

- معنى (من قبل ناه وآمر)، أي من قبل أن ننهى عنه أو نؤمر به، أي باجتنابه -

وإن جاءكم منّا غريب بأرضكم

لويتم له يوما جنوب المناخر

فهل يفعل الأعداء إلاّ كفعلكم

هوان السّراة وابتغاء العواثر(٣)

وغيّر نفسي عنكم ما فعلتم

وذكر هوان منكم متظاهر

جفاؤكم من عالج الحرب عنكم

وأعداؤكم من بين جاب وعاشر(٤)

فلا تسألوني عن هواي وودّكم

وقل في فؤاد قد توجّه نافر(٥)

ولحارثة يرثي زيادا:

لهفي عليك للهفة من خائف

يبغي جوارك حين ليس مجير

أمّا القبور فإنّهنّ أوانس

بجوار قبرك والدّيار قبور

عمّت فواضله فعمّ مصابه

فالنّاس فيه كلّهم مأجور

ردّت صنائعه إليه حياته

فكأنّه من نشرها منشور

قال سيدنا الشريف المرتضى أدام الله علوّه: وأظن أبا تمام الطائي نظر إلى قول حارثة ابن بدر (ردت صنائعه إليه حياته) في قوله:

ألم تمت ياشقيق النّفس مذ زمن؟

فقال لي: لم يمت من لم يمت كرمه(٦)

وأخبرنا عليّ بن محمد الكاتب قال: أخبرنا ابن دريد قال: أخبرنا عبد الرحمن - يعني ابن أخي الأصمعي عن عمه قال: مرّ حارثة بن بدر الغداني، ومعه كعب مولاه، فجعل لا يمرّ

____________________

(١) باسر: قليل اللبن.

(٢) حاشية ت: (أي إن أذنبنا الذنب الّذي يذنب الناس مثله أخذنا به من قبل أن ننهى عنه أو نؤمر بالانكفاف عنه).

(٣) من نسخة بحاشيتي الأصل، ت: (هوان) بضم النون.

(٤) الجابي: الّذي يأخذ الجباية، والعاشر الّذي يأخذ العشر.

(٥) حاشية الأصل: (أي توجه إلى غيركم ونفر عنكم). وفي ت وحاشية الأصل (من نسخة): (قد توجد).

(٦) من نسخة بحواشي الأصل، ت، ف: (ياشقيق الجود).

٤١٦

بمجلس من مجالس تميم إلاّ قالوا: مرحبا بسيدنا. فقال كعب: ما سمعت كلاما قطّ هو أقرّ لعيني، وألذّ في سمعي مما سمعته اليوم! فقال حارثة: ولكنّي ما سمعت كلاما قطّ هو أكره إلي منه، ثم قال:

ذهب الرّجال فسدت غير مدافع

ومن الشّقاء تفرّدي بالسّؤدد(١)

وهذا البيت يقال إنه لحارثة، لا أنه تمثّل به.

وأخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال حدثني عبد الله بن جعفر قال حدثنا محمد بن يزيد قال قال الكناني: مرّ حارثة بن بدر بالأحنف بن قيس فقال: لولا أنّك مستعجل لشاورتك، قال له: أجل، كانوا يكرهون أن يشاور الجائع حتى يشبع، والظمآن حتى ينقع، والمضلّ(٢) حتى يجد، والغضبان حتى يرضى، والمحزون حتى يفيق.

____________________

(١) من نسخة بحاشيتي الأصل، ت: (غير مسود).

(٢) المضل: الّذي ذهب بعيره.

٤١٧

[٢٩]

مجلس آخر [المجلس التاسع والعشرون:]

تأويل آية:( أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَالله سَرِيعُ الْحِسابِ ) ؛ [البقرة: ٢٠٢].

فقال: أي تمدّح في سرعة الحساب، وليس بظاهر وجه المدحة فيه؟.

الجواب، قلنا في ذلك وجوه:

أولها أن يكون المعنى أنّه سريع المجازاة(١) للعباد على أعمالهم، وأنّ وقت الجزاء قريب وإن تأخر، ويجري مجرى قوله تعالى:( وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ) ؛ [النحل: ٧٧].

وإنما جاز أن يعبّر عن المجازاة أو الجزاء بالحساب؛ لأنّ ما يجازى به العبد هو كفء لفعله ولمقداره، فهو حساب له إذا كان مماثلا مكافئا.

وممّا يشهد بأنّ في الحساب معنى الكفاية والمكافأة قوله تعالى:( جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً ) ؛ [النبأ: ٣٦]، أي عطاء كافيا، ويقال: أحسبني الطعام يحسبني إحسابا إذا كفاني، قال الشاعر:

وإذ لا ترى في النّاس حسنا يفوتها وفي النّاس حسن لو تأمّلت محسب(٢) معناه كاف.

____________________

(١) ت: (الحساب).

(٢) في حاشيتي الأصل، ف: (يصف امرأة بالحسن ويبالغ في وصفها؛ يقول: ما رأينا حسنا فات هذه المرأة وتعداها مع أن ما في الناس كفاية حسن).

٤١٨

وثانيها أن يكون المراد أنّه عزّ وجل يحاسب الخلق جميعا في أوقات يسيرة، ويقال:

إنّ مقدار ذلك مقدار حلب شاة؛ لأنه تعالى لا يشغله محاسبة بعضهم عن محاسبة غيره(١) ؛ بل يكلّمهم جميعا ويحاسبهم كلّهم على أعمالهم في وقت واحد؛ وهذا أحد ما يدلّ على أنّه تعالى ليس بجسم، وأنّه لا يحتاج في فعل الكلام إلى آلة؛ لأنه لو كان بهذه الصفات - تعالى عنها - لما جاز أن يخاطب اثنين في وقت واحد بمخاطبتين مختلفتين؛ ولكان خطاب بعض الناس يشغله عن خطاب غيره، ولكانت مدة محاسبته للخلق على أعمالهم طويلة غير قصيرة؛ كما أنّ جميع ذلك واجب في المحدثين الذين يفتقرون في الكلام إلى الآلات.

وثالثها ما ذكره بعضهم من أنّ المراد بالآية أنه سريع العلم بكل محسوب، وأنّه لما كانت عادة بني الدنيا أن يستعملوا الحساب والإحصاء في أكثر أمورهم؛ أعلمهم الله تعالى أنّه يعلم ما يحسبون بغير حساب؛ وإنما سمّي العلم حسابا لأنّ الحساب إنما يراد به العلم؛ وهذا جواب ضعيف؛ لأن العلم بالحساب أو المحسوب لا يسمّى حسابا، ولو سمّي بذلك لما جاز أيضا أن يقال إنه سريع العلم بكذا؛ لأنّ علمه بالأشياء مما لا يتجدّد فيوصف بالسرعة.

ورابعها أنّ الله تعالى سريع القبول لدعاء عباده والإجابة لهم؛ وذلك أنّه يسأل في وقت واحد سؤالات مختلفة من أمور الدنيا والآخرة، فيجزى كلّ عبد بمقدار استحقاقه ومصلحته، فيوصل إليه عند دعائه ومسألته ما يستوجبه بحد ومقدار؛ فلو كان الأمر على ما يتعارفه الناس لطال العدد واتصل الحساب، فأعلمنا تعالى أنّه سريع الحساب، أي سريع القبول للدعاء بغير إحساس وبحث عن المقدار الّذي يستحقّه الداعي؛ كما يبحث المخلوقون للحساب والإحصاء؛ وهذا الجواب مبني أيضا على دعوى أنّ قبول الدعاء لا يسمّى حسابا في لغة ولا عرف ولا شرع. وقد كان يجب على من أجاب بهذا الجواب أن يستشهد على ذلك بما يكون حجة فيه، وإلاّ فلا طائل فيما ذكره.

____________________

(١) حاشية ت (من نسخة): (بعض).

٤١٩

ويمكن في الآية وجه آخر، وهو أن يكون المراد بالحساب محاسبة الخلق على أعمالهم يوم القيامة وموافقتهم عليها، وتكون الفائدة في الإخبار بسرعته الإخبار عن قرب الساعة؛ كما قال تعالى:( سَرِيعُ الْعِقابِ ) .

وليس لأحد أن يقول: فهذا هو الجواب الأول الّذي حكيتموه؛ وذلك أن بينهما فرقا؛ لأن الأول مبني على أن الحساب في الآية هو الجزاء والمكافأة على الأعمال، وفي هذا الجواب لم يخرج الحساب عن بابه وعن معنى المحاسبة، والمقابلة بالأعمال وترجيحها، وذلك غير الجزاء الّذي يفضي الحساب إليه.

وقد طعن بعضهم في الجواب الثاني معترضا على أبي عليّ الجبّائي في اعتماده إياه(١) بأن قال(١) : مخرج الكلام في الآية على وجه الوعيد، وليس في خفّة الحساب وسرعة زمانه ما يقتضي زجرا، ولا هو مما يتوعد بمثله؛ فيجب أن يكون المراد الإخبار عن قرب أمر الآخرة والمجازاة على الأعمال.

وهذا الجواب ليس أبو عليّ هو المبتدئ به، بل قد حكي عن الحسن البصري، واعتمده أيضا قطرب بن المستنير النحوي: وذكره المفضّل بن سلمة، وليس الطّعن الّذي حكيناه عن هذا الطاعن بمبطل له، لأنه اعتمد على أنّ مخرج الآية مخرج الوعيد، وليس كذلك، لأنه تعالى قال:( فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ. أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَالله سَرِيعُ الْحِسابِ ) ؛ [البقرة: ٢٠٠ - ٢٠٢]، فالأشبه بالظاهر أن يكون الكلام وعدا بالثواب، وراجعا إلى الذين يقولون:( رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ ) ، أو يكون راجعا إلى الجميع، فيكون المعنى:

إن للجميع نصيبا مما كسبوا؛ فلا يكون وعيدا خالصا؛ بل إما أن يكون وعدا خالصا أو وعدا ووعيدا، على أنه لو كان وعيدا خالصا على ما ذكر الطاعن لكان لقوله تعالى:

____________________

(١) ت: (فقال).

٤٢٠

( وَالله سَرِيعُ الْحِسابِ ) ، على تأويل من أراد قصر الزمان، وسرعة الموافقة وجه وتعلّق بالوعد والوعيد؛ لأن الكلام على كل حال متضمّن لوقوع المحاسبة على أعمال العباد، والإحاطة بخيرها وشرّها؛ وإن وصف الحساب مع ذلك بالسرعة؛ وفي هذا ترغيب وترهيب لا محالة، لأن من علم أنه يحاسب بأعماله، ويواقف(١) على جميلها وقبيحها انزجر عن القبيح ورغب في فعل الواجب.

فبهذا ينصر الجواب، وإن كنا لا ندفع أن في حمل الحساب على قرب المجازاة، أو قرب المحاسبة على الأعمال ترغيبا في الطاعات وزجرا عن المقبّحات؛ فالتأويل الأول أشبه بالظاهر ونسق الآية، إلا أن التأويل الآخر غير مدفوع أيضا ولا مرذول(٢) .

تأويل آية أخرى:( وَالله يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( وَالله يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ ) ؛ [البقرة: ٢١٢].

فقال: أي تمدّح في الإعطاء بغير حساب، وقد يكون المعطي بحساب أجزل عطية من المعطي بغير حساب؟.

الجواب، قلنا في هذه الآية وجوه:

أولها أن تكون الفائدة أنه تعالى يرزق من يشاء بغير تقدير من المرزوق ولا احتساب منه، فالحساب هاهنا راجع إلى المرزوق لا إليه تعالى؛ كما يقول القائل: ما كان كذا وكذا في حسابي، أي لم أؤمله، ولم أقدّر أنه يكون؛ وهذا وصف للرزق بأحسن الأوصاف؛ لأن الرزق إذا لم يكن محتسبا كان أهنأ له وأحلى؛ وقد روي عن ابن عباسرضي‌الله‌عنه في تفسير هذه الآية أنه قال: عنى بها أموال بني قريظة والنّضير، وأنّها تصير إليكم بغير حساب ولا قتال، على أسهل الأمور وأقربها وأيسرها.

____________________

(١) ط: (ويوقف).

(٢) د: (مردود).

٤٢١

وثانيها أن الله تعالى يرزق من يشاء رزقا غير مضيّق ولا مقتّر؛ بل يزيد في السّعة والكثرة على كل عطاء المخلوقين(١) ، فيكون نفي الحساب فيه نفيا(٢) للتّضييق، ومبالغة في وصفه بالسّعة، والعرب تسمّى العطاء القليل محسوبا، قال قيس بن الخطيم:

أنّى سربت وكنت غير سروب!

وتقرّب الأحلام غير قريب(٣)

ما تمنعي يقظي فقد تؤتينه

في النّوم غير مصرّد محسوب(٤)

وثالثها أن يكون المعنى أنه يرزق من يشاء، أي من غير طلب للمكافأة أو إراغة لفائدة تعود إليه، أو منفعة ترجع عليه، لأنّ من شأن أهل الدنيا أن يعطوا ليكافئوا ولينتفعوا، ولهذا يقال فيمن يقصد بالعطية إلى هذه الأمور: فلان يحاسب الناس فيما يعطيهم، ويناقشهم فيما يوصّله إليهم، وما أشبه ذلك، فلما انتفت هذه الأمور من عطاياه سبحانه جاز أن يقول إنه يرزق بغير حساب.

ورابعها ما أجاب به قطرب، قال: معنى الآية يعطى العدد الكثير لا ممّا(٥) يضبطه الحساب، أو يأتي(٦) عليه العدد، لأن مقدوره تعالى لا يتناهى، وما في خزائنه لا ينحصر، ولا يصحّ عليه النفاد؛ وليس كالمعطي منّا الألف من الألفين، والعشرة من المائة؛ لأن مقدار ما يتّبع له ويتمكّن منه محدود متناه، ولا تناهي ولا انقطاع لما يقدّر سبحانه عليه.

وخامسها أنه يعطي عباده في الجنة من النعيم واللذات أكثر مما استحقوا، وأزيد مما وجب لهم، بمحاسبته إياهم على طاعتهم كما قال تعالى:( مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ الله قَرْضاً

____________________

(١) ت، وحاشية الأصل (من نسخة): (عطاء للمخلوقين).

(٢) حاشية الأصل (من نسخة) (نقيضا).

(٣) ديوانه: ٥، وأمالي العالي ٢: ٢٧٣، وحماسة ابن الشجري: ١٨٩، واللآلئ: ٥٢٤. وفي حاشية الأصل: (يخاطب خيال امرأت رآها في المنام؛ يتعجب من سير خيالها إليه وكانت غير معتادة للسير، والسروب: الساري، وقيل: السرب سير النهار). وفي حاشية ت: (أني سريت ).

(٤) المصرّد: المقطع؛ وفي حاشية ت: (وبعده:

كان المنى بلقائها فلقيتها

فلهوت من لهو امرئ مكذوب

(٥) من نسخة بحواشي الأصل، ت، ف: (مما لا يضبطه الحساب).

(٦) ت: (إذ يأتي عليه العدد).

٤٢٢

حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً ) ؛ [البقرة: ٢٤٥] وكما قال عز وجل:( إِنْ تُقْرِضُوا الله قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ) ؛ [التغابن: ١٧]، وكما قال تعالى:( لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ) ؛ [فاطر: ٣٠].

وسادسها أن يكون المعطي منّا غيره شيئا والرازق سواه رزقا قد يكون له ذلك، فيكون فعله حسنا لا يسأل عنه، ولا يؤاخذ به، ولا يحاسب عليه؛ وربما لم يكن له ذلك، فيكون فعله قبيحا يؤاخذ به، ويحاسب عليه، فنفى الله تعالى عن نفسه أن يفعل من الرزق القبيح، وما ليس له أن يفعله بنفي الحساب عنه، وأنبأ أنه لا يرزق ولا يعطي إلا على أفضل الوجوه وأحسنها وأبعدها من الذمّ؛ وتجري الآية مجرى قوله تعالى:( لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ ) ؛ [الأنبياء: ٢٣]، وإنما أراد أنه تعالى من حيث وقعت أفعاله كلّها حسنة غير قبيحة لم يجز أن يسأل عنها وإن سئل العباد عن أفعالهم، لأنهم يفعلون الحسن والقبيح معا.

وسابعها أنّ الله تعالى إذا رزق العبد وأعطاه من فضله كان الحساب عن العبد ساقطا من جهة الناس، فليس لأحد أن يقول له: لم رزقت؟ ولا يقول لربه: لم رزقته؟

ولا يسأله ربّه عن الرزق، وإنما يسأله عن إنفاقه في الوجوه التي ينفقه فيها، فيسقط(١) الحساب من هذه الوجوه عمّا يرزقه الله تعالى، ولذلك قال تعالى:( بِغَيْرِ حِسابٍ ) .

وثامنها أن يكون المراد ب مَنْ يَشاءُ أن يرزقه من أهل الجنة، لأنه يرزقهم رزقا لا يصحّ أن يتناول جميعه الحساب، ولا العدد والإحصاء من حيث لا نهاية له ولا انقطاع للمستحقّ منه؛ ويطابق هذه الآية قوله تعالى في موضع آخر:( فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ ) ؛ [غافر: ٤٠].

____________________

(١) ت: (فسقط).

٤٢٣

تأويل خبر [ (توضّئوا ممّا غيّرت النار) ]

إن سأل سائل عن الخبر الّذي يروى عن زيد بن ثابت عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال: (توضّئوا ممّا غيّرت النار)، فقال: ما المراد بالوضوء هاهنا ومذهبكم أن مسّ ما غيّرته النار لا يوجب وضوءا؟

الجواب، إن معنى (توضئوا) أي نظّفوا أيديكم من الزّهومة، لأنه روي أنّ جماعة من الأعراب كانوا لا يغسلون أيديهم من الزّهومة ويقولون: فقدها أشدّ علينا من ريحها، فأمرعليه‌السلام بتنظيف الأيدي لذلك(١) .

فإن قيل: كيف يصحّ أن تحملوا الخبر على اللفظ اللغوي، مع انتقاله بالعرف الشرعي إلى الأفعال المخصوصة، بدلالة أنّ من غسل يده أو وجهه لا يقول بالإطلاق: (توضأت)، ومتى سلم لكم أن الوضوء أصله من النظافة لم ينفعكم مع الانتقال الّذي ذكرناه، وكلامهعليه‌السلام أخصّ بالعرف الشرعي، وحمله عليه أولى من حمله على اللغة.

قلنا: ليس ينكر(٢) أن يكون إطلاق الوضوء هو المنتقل من اللغة إلى عرف الشرع، والمختصّ بالأفعال المعيّنة، وكذلك المضاف منه إلى الحدث أو الصلاة وما أشبههما(٣) . فأما المضاف إلى الطعام وما جرى مجراه فباق على أصله؛ ألا ترى أنّهم لو قالوا: توضأت من الطعام، ومن الغمر(٤) ، أو توضأت للطعام لم يفهم منه إلاّ الغسل والتنظيف، وإذا قالوا:

توضأت إطلاقا، أو توضأت من الحدث أو للصلاة فهم منه الأفعال الشرعية؛ فليس ينكر ما ذكرناه من اختصاص النّقل، لأنه كما يجوز انتقال اللفظة من فائدة في اللغة إلى فائدة في الشرع على كلّ وجه، كذلك يجوز أن تنتقل على وجه دون وجه، وتبقى من الوجه الّذي لم تنتقل منه على ما كان عليه في اللغة.

وقد ذهب كثير من الناس إلى أنّ إطلاق لفظة (مؤمن) منتقل من اللغة إلى عرف

____________________

(١) حاشية ت (من نسخة): (عن ذلك).

(٢) حاشية ت (من نسخة): (ليس ننكر).

(٣) في حاشيتي ت (من نسخة): (وما أشبهها).

(٤) الغمر، بالتحريك: زنخ اللحم.

٤٢٤

الدين ومختصّ باستحقاق الثواب، وإن كان مقيّدها باقيا على ما كان عليه في اللغة.

ويبيّن ذلك أيضا ما روي عن الحسن أنه قال: (الوضوء قبل الطعام ينفي الفقر، وبعده ينفي اللّمم)؛ وإنما أراد غسل اليدين بغير شك. وروي عن قتادة أنه قال: (غسل اليد وضوء) وروى عكراش(١) أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أكل(٢) وغسل يده ومسح ببلل يده وجهه(٢) وذراعيه ورأسه(٣) ، وقال: (هكذا الوضوء ممّا مست النار)، على أنه لو كانت هذه اللفظة منتقلة على كلّ حال إلى الأفعال الشرعية المخصوصة لصحّ أن نحمله(٤) في الخبر على خلاف ذلك، ونردّها إلى أصلها بالأدلّة، وإن كان الأولى لولا الأدلة أن تحمل على مقتضى الشرع(٥) .

فمن الأدلة على ما ذكرناه ما رواه ابن عباس أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أكل كتف شاة، وقام فصلّى ولم يتوضأ. وروى عطاء عن أمّ سلمة قالت: قرّبت جنبا مشويا إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأكل منه، وصلّى ولم يتوضأ. وروى محمد بن المنكدر عن جابر أنه قال: كان آخر الأمرين من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ترك الوضوء ممّا مسّت النار(٦) .

وكلّ هذه الأخبار توجب العدول عن ظاهر الخبر الأول لو كان له ظاهر، فكيف وقد بيّنا أنّه لا ظاهر له!

فأما اشتقاق الوضوء فهو من الوضاءة التي هي الحسن، فلما كان من غسل يده ونظفها قد حسّنها قيل وضّأها؛ ويقال: فلان وضيء الوجه وقوم وضاء، قال الشاعر:

____________________

(١) هو عكراش بن ذؤيب بن حرقوس، وفي ت، ف: (عكرمة عن أنس).

(٢ - ٢) حاشية ت (من نسخة): (وغسل يديه، ومسح ببلل يديه).

(٣) حاشية ت (من نسخة): (وببلل ذراعيه رأسه).

(٤) ت، د، ومن نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (نحملها).

(٥) حواشي الأصل، ت، ف: (إنما نحمل اللفظة على العرف الشرعي فيما يتعلق بالأحكام الشرعية فحسب).

(٦) في حاشيتي الأصل، ف: (كان في الأول يتوضأ مما مسته النار ثم ترك).

٤٢٥

مساميح الفعال ذوو أناة

مراجيح وأوجههم وضاء(١)

والوضوء، بضم الواو: المصدر، وكذلك أيضا التّوضؤ والوضوء، بفتح الواو: اسم ما يتوضأ به، وكذلك الوقود اسم لما توقد به النار: والوقود، بالضم: المصدر، ومثله التوقّد، وقد يجوز أن يكون الوقود، بفتح الواو: المصدر، وكذلك الوضوء بفتح الواو؛ كما قالوا:

حسن القبول، فجعلوا القبول مصدرا، وهو مفتوح الأول، ولا يجوز في الوقود والوضوء بالضم إلا معنى المصدر وحده، قال جرير.

أهوى أراك برامتين وقودا

أم بالجنينة من مدافع أودا(٢)

وقال آخر:

إذا سهيل لاح كالوقود

فردا كشاة البقر المطرود

وقال آخر:

وأجّجنا بكلّ يفاع أرض

وقود النّار للمتنوّرينا(٣)

***

[بعض أخبار عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وطائفة من شعره:]

أخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال حدّثني محمد بن إبراهيم قال حدثنا أحمد بن يحيى قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدثنا إبراهيم بن المنذر قال حدثني إبراهيم بن محمد عن عبد العزيز ابن عمر بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن ابن شهاب قال: أتيت عبيد الله بن عبد الله ابن عتبة بن مسعود(٤) يوما في منزله، فإذا هو مغيظ(٥) ينفخ، فقلت له: ما لي أراك هكذا! قال: دخل عليّ(٦) عاملكم هذا - يعني عمر بن عبد العزيز - ومعه عبد الله بن عمرو بن عثمان

____________________

(١) حاشية ف: (السمح: الجواد والجمع سمحاء؛ ومساميح؛ كأنه جمع مسماح. والمراجيح:

الحلماء).

(٢) ديوانه ١٦٩. ورامة والجنينة وأود: مواضع. والمدافع: جمع مدفع؛ وهو مسيل الماء إلى الوادي وفي حاشيتي الأصل، ف: (يقول: الّذي يريك وقود النار بهذه المواضع عشق هذا).

(٣) اليفاع: المرتفع من الأرض؛ والمتنور: من ينظر إلى النار من بعيد؛ قال امرؤ القيس:

تنوّرتها من أذرعات وأهلها

بيثرب أدنى دارها نظر عال

 (٤) أحد الفقهاء السبعة بالمدينة توفي سنة ٩٨؛ وكان ضريرا؛ ذكره الصفدي في نكت الهميان:

١٩٧ - ١٩٨، وانظر ترجمته وأشعاره في الأغاني ٨: ٨٨ - ٩٥.

(٥) من نسخة بحواشي الأصل، ت، ف: (متغيظ).

(٦) ت: (دخلت على عاملكم.

٤٢٦

فسلّمت، فلم يردّا عليّ السلام، فقلت(١) :

ألا أبلغا عنّي عراك بن مالك

فإن أنت لم تفعل فأبلغ أبا بكر(٢)

فقد جعلت تبدو شواكل منكما

فإنّكما بي موقران من الصّخر(٣)

وطاوعتما بي غادرا ذا معاكة

لعمري لقد أورى وما مثله يوري(٤)

- يقال: معك به وسدل به(٥) إذا تعرّض له بشرّ(٥)   -

فلولا اتّقاء الله اتّقائي فيكما

للمتكما لوما أحرّ من الجمر(٦)

فمسّا تراب الأرض، منها خلقتما

وفيها المعاد والمقام إلى الحشر

ولا تأنفا أن تغشيا فتكلّما

فما حشي الأقوام شرّا من الكبر(٧)

ولو شئت أدلي فيكما غير واحد

علانية أو قال عندي في السّرّ(٨)

 - معناه: لو شئت اغتابكما عندي غير واحد -

فإن أنا لم آمر ولم أنه عنكما

ضحكت له حتّى يلجّ ويستشري(٩)

وكيف تريدان ابن سبعين حجّة

على ما أتى وهو ابن عشرين أو عشر(١٠)

____________________

(١) الخبر بروايته عن ابن شهاب في (الأغاني ٨: ٩١ - ٩٢)، وفيه رواية أخرى أيضا ص ٩١ عن ابن اديس: (كان عراك بن مالك وأبو بكر بن حزم وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة يتجالسون بالمدينة زمانا؛ ثم إن ابن حزم ولي إمرتها، وولي عراك القضاء، وكانا يمران بعبيد الله فلا يسلمان عليه ولا يقفان - وكان ضريرا - فأخبر بذلك فأنشأ يقول )، وأورد الأبيات.

(٢) حاشية ت (من نسخة): (ألا أبلغن)

(٣) الشواكل: جمع شاكلة؛ وهي الخاصرة، وأراد بها هاهنا أمورا ينكرها. وبي؛ أي بمكاني

(٤) في حاشيتي الأصل، ف: (قوله: (وطاوعتماني) في حيز التشبيه؛ يقول: كأنكما موقران، وكأنكما إذ طاوعتماني طاوعتما غادرا عريضا. ثم قال: لعمري لقد أورى هذا الفعل منكما؛ أي فسد؛ من ورى جوفه؛ أو أوقد - يعني شرا، أي أثر وكنت لا أتأثر بمثل ذلك).

(٥ - ٥) ت: (إذا تعرض به لشر).

(٦) حاشية ف: (أي لولا اتقائي بتقى الله للمتكما؛ وهو مثل؛ ويجوز أن يكون قوله: (اتقائي) مفعولا له؛ أي للاتقاء.

(٧) ت، حاشية الأصل (من نسخة): (تكلما)، بكسر اللام المشددة وفي حاشية الأصل أيضا (من نسخة): (أن ترجعا فتسلما).

(٨) من نسخة بحاشيتي الأصل، ت: (عندي في سر). يقال: أدلى فلان في فلان إذا قال فيه قولا قبيحا.

(٩) الضمير في (له) يعود إلى المغتاب، واستشرى في الأمر: لج فيه؛ أي يجترئ ويظهر؛ وأصل الكلمة الاستخراج.

(١٠) يريد أن يقول: كيف تريد اثني على ما امتنعت عنه وأنا صبي!

٤٢٧

لقد علقت دلوا كما دلو حوّل

من القوم لا رخو المراس ولا نزر(١)

قال ابن شهاب: فقلت له: مثلك يرحمك الله مع نسكك وفضلك وفهمك(٢) يقول الشعر! فقال: إن المصدور إذا نفث برئ.

وإنما ذكر عراك بن مالك وأبا بكر بن عمرو بن حزم - وكانا صديقيه - كناية بذكرهما عن ذكر غيرهما.

وقد جاءت رواية أخرى أن أبا بكر بن عمر(٣) بن حزم وعراك بن مالك كانا يجتازان على عبيد الله فلا يسلّمان عليه، فقال الأبيات يخاطبهما بها.

وروى محمد بن سلاّم لعبيد الله بن عبد الله بن عتبة:

إذا كان لي سرّ فحدّثته العدى

وضاق به صدري، فللنّاس أعذر(٤)

هو السّرّ ما استودعته وكتمته

وليس بسرّ حين يفشو ويظهر(٥)

وانشد مصعب الزبيري لعبيد الله بن عتبة بن مسعود:

أواخي رجالا لست مطلع بعضهم

على سرّ بعض إنّ صدري واسعه

إذا هي حلّت وسط عوذ ابن غالب

فذلك ودّ نازح لا أطالعه(٦)

تلاقت حيازيمي على قلب حازم

كتوم لما ضمّت عليه أضالعه(٧)

بنى لي عبد الله في سورة العلى

وعتبة مجدا لا تنال مصانعه(٨)

والبيت الأول يشبه قول مسكين الدارمي:

وفتيان صدق لست مطلع بعضهم

على سرّ بعض غير أني جماعها(٩)

____________________

(١) حول: شديد الاحتيال؛ أي أنكما، وقعتما على من لا تطيقان دفعه عن أنفسكما.

(٢) من نسخة بحواشي الأصل، ت، ف: (وفقهك).

(٣) حاشية (من نسخة): (عمرو).

(٤) العدى بالكسر: الأجانب، وبالضم الأعداء.

(٥) حاشية ت (من نسخة): (وحفظته).

(٦) الضمير يعود على المودة، وعوذ: جمع عائذ، وهي الحديثة النتاج من الإبل وغيرها.

(٧) في الأغاني: (شددت حيازيمي). والحيزوم: وسط الصدر. ومن نسخة بحاشيتي الأصل، ت: (ضمت)، بالبناء للمعلوم.

(٨) المصانع: الأبنية.

(٩) الحماسة - بشرح التبريزي ٣: ١٢٦.

٤٢٨

ومما يستحسن لعبيد الله بن عبد الله بن عتبة قوله:

تغلغل حبّ عثمة في فؤادي

فباديه مع الخافي يسير(١)

تغلغل حيث لم يبلغ شراب

ولا حزن ولم يبلغ سرور

شققت القلب ثمّ ذررت فيه

هواك فليم فالتأم الفطور(٢)

أكاد إذا ذكرت العهد منها

أطير لو أنّ إنسانا يطير

غني النّفس أن أزداد حبّا

ولكنّي إلى وصل فقير(٣)

وأخذ هذا المعنى أبو نواس فقال:

أحللت في قلبي هواك محلّة

ما حلّها المشروب والمأكول(٤)

وأخذه المتنبي في قوله:

وللسّرّ مني موضع لا يناله

نديم ولا يفضي إليه شراب(٥)

وكأنّ العباس بن الأحنف ألمّ به في قوله:

لو شقّ عن قلبي قري وسطه

اسمك والتوحيد في سطر

وقال الصاحب اسماعيل بن عباد:

لو شقّ قلبي لرأوا وسطه

سطر بن قد خطّا بلا كاتب

العدل والتّوحيد في جانب

وحبّ أهل البيت في جانب

وقول عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أحسن من الجميع وبعده بيت المتنبي.

ولعبيد الله بن عبد الله بن عتبة:

لعمر أبي المحصين أيّام نلتقي

لما لا نلاقيها من الدّهر أكثر

____________________

(١) الأبيات في أمالي القالي ٣: ٢١٧، وذكر صاحب الأغاني أن عثمة زوجه.

(٢) الفطور: الشقوق.

(٣) حاشية ت: (يعني أنه يستغني عن ازدياد حب إلى حبه، لأنه قد تناهى. وأن أزداد، يعني: عن أن ازداد).

(٤) حاشية الأصل (من نسخة): (المأكول المشروب).

(٥) ديوانه: ١٩٢.

٤٢٩

يعدّون يوما واحدا إن أتيتها

وينسون ما كانت على الدّهر تهجر

فإن يكن الواشون أغروا بهجرنا(١)

فإنّا بتجديد المودّة أجدر

ومن مستحسن قوله:

لعمري لئن شطّت بعثمة دارها

لقد كنت في وشك الفراق أليح(٢)

أروح بهمّ ثمّ أغدو بمثله

ويحسب أنّي في الثّياب صحيح

أخذ هذا المعنى بشار، فقصّر عنه في قوله:

يصبح محزونا ويمسي به

وليس يدري ماله عندك

____________________

(١) م: (بهجرها).

(٢) ت، وحاشية الأصل من نسخة: (من وشك الفراق).

وأليح: أشفق.

٤٣٠

[٣٠]

مجلس آخر [المجلس الثلاثون:]

تأويل آية:( قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى الله كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ )

إن سأل سائل عن قوله تعالى حاكيا عن شعيبعليه‌السلام :( قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى الله كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاّ أَنْ يَشاءَ الله رَبُّنا ) ؛ [الأعراف: ٨٩].

فقال: أليس هذا تصريحا منه بأنّ الله تعالى يجوز أن يشاء الكفر والقبيح؛ لأن ملّة قومه كانت كفرا وضلالا، وقد أخبر أنّه لا يعود فيها إلاّ أن يشاء الله؟

الجواب، قيل له في هذه الآية وجوه:

أولها أن تكون الملّة التي عناها الله إنما هي العبادات الشرعيات؛ التي كان قوم شعيب متمسكين بها؛ وهي منسوخة عنهم، ولم يعن بها ما يرجع إلى الاعتقادات في الله وصفاته؛ مما لا يجوز أن تختلف(١) العبادة فيه، والشرعيات يجوز فيها اختلاف العبادة؛ من حيث تبعت(٢) المصالح والألطاف والمعلوم من أحوال المكلّفين؛ فكأنّه قال: إنّ ملتكم لا نعود فيها؛ مع علمنا بأنّ الله تعالى قد نسخها وأزال حكمها، إلاّ أن يشاء الله أن يتعبّدنا بمثلها فنعود إليها؛ وتلك الأفعال التي كانوا متمسّكين بها؛ مع نسخها عنهم ونهيهم عنها - وإن كانت ضلالا وكفرا - فقد كان يجوز فيما هو مثلها أن يكون إيمانا وهدى؛ بل فيها أنفسها قد كان يجوز ذلك؛ وليس تجري هذه الأفعال مجرى الجهل بالله تعالى، الّذي لا يجوز أن يكون إلاّ قبيحا.

وقد طعن بعضهم على هذا الجواب فقال: كيف يجوز أن يتعبّدهم الله تعالى بتلك الملّة مع قوله:( قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى الله كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْها ) ؟

____________________

(١) ت: (اختلاف العبادة).

(٢) حاشية ت (من نسخة): (تتبع).

٤٣١

فيقال له: لم ينف عودهم إليها على كل وجه؛ وإنما نفى العود إليها مع كونها منسوخة منهيّا عنها؛ والّذي علّقه بمشيئة الله تعالى من العود إليها هو بشرط أن يأمر بها، ويتعبّد بمثلها، والجواب مستقيم لا خلل فيه.

وثانيها أنّه أراد أنّ ذلك لا يكون أبدا من حيث علّقه بمشيئة الله تعالى لما كان معلوما أنّه لا يشاؤه؛ وكلّ أمر علّق بما لا يكون فقد نفى كونه على أبعد الوجوه؛ وتجري الآية مجرى قوله تعالى:( لا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ ) ؛ [الأعراف: ٤٠] وكما يقول القائل: أنا لا أفعل كذا حتى يبيضّ القار؛ أو يشيب الغراب؛ وكما قال الشاعر:

وحتّى يئوب القارظان كلاهما

وينشر في القتلى كليب لوائل(١)

والقارظان لا يئوبان أبدا، وكليب لا ينشر أبدا؛ فكأنه قال: إنّ هذا لا يكون أبدا.

وثالثها ما ذكره قطرب بن المستنير من أنّ في الكلام تقديما وتأخيرا، وأنّ الاستثناء من الكفار وقع لا من شعيب؛ فكأنه تعالى قال حاكيا عن الكفار:( لَنُخْرِجَنَّكَ ياشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا ) ؛ [الأعراف: ٨٨]، إلاّ أن يشاء الله أن تعود في ملّتنا؛ ثم قال تعالى حاكيا عن شعيب:( وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها ) على كل حال.

ورابعها أن تعود الهاء التي في قوله: فِيها إلى القرية لا إلى الملّة؛ لأن ذكر القرية قد تقدّم كما تقدم ذكر الملّة؛ ويكون تلخيص الكلام: إنّا سنخرج من قريتكم، ولا نعود فيها إلاّ أن يشاء الله بما ينجزه لنا من الوعد في الإظهار عليكم، والظّفر بكم، فنعود إليها.

وخامسها أن يكون المعنى: إلاّ أن يشاء الله أن يردّكم إلى الحق، فنكون جميعا على

____________________

(١) البيت لأبي ذؤيب الهذلي، ديوان الهذليين ١: ١٤٥. والقارظان هما رجلان من عنزة؛ خرجا ينتحيان القرظ ويجتنيانه، فلم يرجعا؛ فضرب بهما المثل؛ وانظر اللسان (قرظ)، وشرح ديوان الهذليين.

٤٣٢

ملة واحدة غير مختلفة؛ لأنّه لما قال تعالى حاكيا عنهم:( أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا ) كان معناه: أو لنكوننّ على ملة واحدة غير مختلفة، فحسن أن يقول من بعد: إلاّ أن يشاء الله أن يجمعكم معنا على ملة واحدة.

فإن قيل: الاستثناء بالمشيئة إنما كان بعد قوله:( وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها ) ؛ فكأنه قال: ليس نعود فيها إلاّ أن يشاء الله، فكيف يصحّ هذا الجواب؟

قلنا: هو كذلك؛ إلاّ أنه لما كان معنى أَنْ نَعُودَ فِيها، هو أن تصير ملتنا واحدة غير مختلفة جاز أن يوقع الاستثناء على المعنى فيقول:( إِلاّ أَنْ يَشاءَ الله ) أن نتّفق في الملة بأن ترجعوا أنتم إلى الحق.

فإن قيل: فكأنّ الله تعالى ما شاء أن يرجع الكفار إلى الحق!

قلنا: بلى قد شاء ذلك، إلاّ أنه ما شاءه على كل حال، بل من وجه دون وجه، وهو أن يؤمنوا ويصيروا إلى الحق مختارين؛ ليستحقّوا الثواب الّذي أجري(١) بالتكليف إليه، ولو شاءه على كل حال لما جاز ألاّ يقع منهم؛ فكأن شعيباعليه‌السلام قال: إن ملّتنا لا تكون واحدة أبدا؛ إلا أن يشاء الله أن يلجئكم إلى الاجتماع معنا على ديننا وموافقتنا في ملتنا؛ والفائدة في ذلك واضحة؛ لأنه لو أطلق أنّا لا نتفق أبدا، ولا تصير ملتنا واحدة لتوهّم متوهّم أنّ ذلك مما لا يمكن على حال من الأحوال؛ فأفاد بتعليقه(٢) له بالمشيئة هذا الوجه؛ ويجري قوله تعالى:( إِلاّ أَنْ يَشاءَ الله ) مجرى قوله تعالى:( وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً ) ؛ [يونس: ٩٩].

وسادسها أن يكون المعنى: إلاّ أن يشاء الله أن يمكّنكم من إكراهنا، ويخلّي بينكم وبينه، فنعود إلى(٣) إظهارها مكرهين؛ ويقوّي هذا الوجه قوله تعالى:( أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ ) ؛ [الأعراف: ٨٨].

____________________

(١) حاشية ت (من نسخة): (الّذي أجرى) بالألف.

(٢) حاشية ت (من نسخة): (فأفاد تعليقه).

(٣) حاشية ت (من نسخة): (فنعود في إظهارها).

٤٣٣

وسابعها أن يكون المعنى إلاّ أن يشاء الله أن يتعبّدنا بإظهار ملّتكم مع الإكراه؛ لأنّ إظهار كلمة الكفر قد تحسن في بعض الأحوال إذا تعبّد الله تعالى بإظهارها؛ وقوله:

( أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ ) يقوّي هذا الوجه أيضا.

فإن قيل: فكيف يجوز من نبي من أنبياء الله تعالى أن يتعبّد بإظهار الكفر وخلاف ما جاء به من الشّرع؟

قلنا: يجوز أن يكون لم يرد بالاستثناء نفسه بل قومه؛ فكأنه قال: وما يكون لي ولا لأمّتي أن نعود فيها إلاّ أن يشاء الله أن يتعبّد أمتي بإظهار ملّتكم على سبيل الإكراه؛ وهذا جائز غير ممتنع.

تأويل خبر [: (خير الصّدقة ما أبقت غنى) ]

روى أبو هريرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال: (خير الصّدقة ما أبقت غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول).

وقد قيل في قوله: (خير الصّدقة ما أبقت غنى): قولان:

أحدهما أنّ خير ما تصدّقت به ما فضل عن(١) قوت عيالك وكفايتهم، فإذا خرجت صدقتك عنك إلى من أعطيت خرجت عن استغناء منك ومن عيالك عنها؛ ومثله في الحديث الآخر: (إنما الصّدقة عن ظهر غنى). وقال ابن عباس رحمة الله عليه في قوله تعالى:

( وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ) ؛ [البقرة: ٢١٩]؛ قال: ما فضل عن أهلك.

والجواب الآخر، أن يكون أراد: خير الصّدقة ما أغنيت به من أعطيت عن المسألة، أي تجزل له في العطيّة، فيستغني بها ويكفّ عن المسألة؛ وذلك مثل أن يريد الرجل أن يتصدق بمائة درهم، فيدفعها إلى رجل واحد محتاج، فيستغني بها ويكفّ عن المسألة، فذلك أفضل من أن يدفعها إلى مائة رجل لا تبين عليهم.

____________________

(١) حاشية ت (من نسخة): (ما فضل من قوت عيالك).

٤٣٤

والتأويل الأوّل يشهد له آخر الخبر وهو قوله: (وابدأ بمن تعول)، ويشهد له الحديث الآخر أيضا: (إنّما الصدقة عن ظهر غنى).

وقوله: (اليد العليا خير من اليد السّفلى)، قال قوم: يريد أنّ اليد المعطية خير من الآخذة، وقال آخرون: إنّ العليا هي الآخذة، والسفلى هي المعطية.

وقال ابن قتيبة: ولا أرى هؤلاء إلاّ قوما استطابوا السؤال؛ فهم يحتجّون للدناءة؛ ولو كان هذا يجوز لقيل: إن المولى من فوق هو الّذي أعتق، والمولى من أسفل هو الّذي أعتق، والناس إنّما يعلون بالعطايا لا بالسؤال.

قال سيدنا أدام الله علوّه: وعندي أن معنى قولهعليه‌السلام : (اليد العليا خير من اليد السّفلى) غير ما ذكر من الوجهين جميعا؛ وهو أن تكون اليد هاهنا هي العطية والنعمة؛ لأنّ النعمة قد تسمّى يدا في مذهب أهل اللسان بغير شكّ؛ فكأنهصلى‌الله‌عليه‌وآله أراد أنّ العطية الجزيلة خير من العطية القليلة. وهذا حث منهصلى‌الله‌عليه‌وآله على المكارم، وتحضيض على اصطناع المعروف بأوجز الكلام وأحسنه مخرجا.

ويشهد لهذا التأويل أحد التأويلين(١) المتقدمين في قوله: (ما أبقت غنى)، وهذا أشبه وأولى من أن تحمل اليد على الجارحة؛ لأنّ من ذهب إلى ذلك وجعل المعطية خيرا من الآخذة لا يستمرّ قوله؛ لأنّ فيمن يأخذ من هو خير عند الله تعالى ممّن يعطي؛ ولفظة (خير) لا تحمل إلاّ على الفضل في الدين واستحقاق الثواب؛ فأمّا من جعل الآخذة خيرا من المعطية فيدخل عليه هذا الطعن أيضا؛ مع أنّه قد قال قولا شنعا(٢) ، وعكس الأمر على ما ذكر(٣) ابن قتيبة.

فإن قيل: كيف يصحّ تأويلكم مع قولهعليه‌السلام : (خير الصّدقة ما أبقت غنى) وهي(٤) لا تبقي غنى إلاّ بعد أن تنقص من غيرها؟ وإذا كانت العطية التي هي أجزل

____________________

(١) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (أحد الخبرين).

(٢) م: (شنيعا).

(٣) م: (ما قال).

(٤) ت: (فهي).

٤٣٥

أفضل فتلك لا تبقي غنى، والتي تبقي غنى ليست الجزيلة، وهذا تناقض.

قلنا: أما تأويلنا فمطابق(١) للوجهين المذكورين في قوله: (ما بقّت(٢) غنى)؛ لأنّ من تأوّل ذلك على أنّ المراد بها المعطى، وأنّ خير العطية ما أغنته عن المسألة فالمطابقة ظاهرة، ومن تأوّله على الوجه الآخر، وحمل ما أبقى الغنى على المعطي وأهله وأقاربه؛ فتأويلنا أيضا مطابق له، لأنه قد يكون في العطايا التي يبقى بعدها الغنى على الأهل والأقارب جزيل وغير جزيل، فقالعليه‌السلام : (خير الصدقة ما بقّت(٢) غنى) بعد إخراجها؛ والعطية الجزيلة التي تبقي بعدها غنى خير من القليلة، فمدحعليه‌السلام بعد إبقاء الغنى جزيل العطية، وحثّ على الكرم والفضل.

***

[ذكر أبيات تروى لثابت قطنة وعروة بن أذينة:]

أخبرنا أبو القاسم عبيد الله بن عثمان بن يحيى بن جنيقا قال أخبرنا أبو عبد الله الحكيمي قال أملى علينا أبو العباس أحمد بن يحيى النحوي قال: أنشدنا ابن الأعرابي لثابت قطنة العتكي(٣) :

ياهند كيف بنصب بات يبكيني

وعائر في سواد العين يؤذيني(٤)

كأنّ ليلي والأصداء هاجدة

ليل السّليم وأعيا من يداويني

لما حنى الدّهر من قوسي وعذّرني

شيبي وقاسيت أمر الغلظ واللّين(٥)

____________________

(١) من نسخة بحاشيتي الأصل، ت: (فيطابق الوجهين).

(٢) ت: (ما أبقت).

(٣) هو أبو العلاء ثابت بن كعب، شاعر فارس؛ من شعراء الدولة الأموية، وكان في صحابة يزيد بن المهلب، ولقب قطنة؛ لأن سهما أصابه في عينه في بعض حروب الترك. وانظر ترجمته وأخباره وأشعاره في (الأغاني ١٣: ٤٧ - ٥٤، والخزانة ٤: ١٨٥ - ١٨٧، والشعر والشعراء ٦١٢ - ٦١٣).

(٤) القصيدة في رثاء المفضل بن المهلب؛ وهند هي بنت المفضل؛ دخل عليها ثابت، والناس حولها جلوس يعزونها؛ فلما أنشدها هذه القصيدة قالت: ليست المصيبة في قتل من استشهد ذابا عن دينه، مطيعا لربه؛ وإنما المصيبة فيمن قلت بصيرته، وخمل ذكره بعد موته؛ وأرجو ألا يكون المفضل عند الله خاملا).

والقصيدة في (أمالي الزجاجي ١٣٠ - ١٣١، وأبيات منها في الأغاني ١٣: ٥١ - ٥٢). النصب: البلاء والعذاب. والعائر: القذى والرمد، وكذلك العوّار.

(٥) عذرني شيبي؛ أي شيبني من جانبي وجهي؛ من العذارين.

٤٣٦

إذا ذكرت أبا غسّان أرّقني

همّ إذا عرض السّارون يشجيني(١)

كان المفضّل عزّا في ذوي يمن

وعصمة وثمالا للمساكين(٢)

غيثا لدى أزمة غبراء شاتية

من السّنين ومأوى كلّ مسكين(٣)

إني تذكّرت قتلى لو شهدتهم

في حومة الحرب لم يصلوا بها دوني

لا خير في العيش إذ لم نجن بعدهم

حربا تنيئ بهم قتلى فتشفيني

لا خير في طمع يدني إلى طبع،

وغفّة من قوام العيش تكفيني(٤)

[أنظر في الأمر يعنيني الجواب به

ولست أنظر فيما ليس يعنيني](٥)

لا أركب الأمر تزري بي عواقبه

ولا يعاب به عرضي ولا ديني

لا يغلب الجهل حلمي عند مقدرة

ولا العضيهة من ذي الضّغن تكبيني(٦)

كم من عدوّ رماني لو قصدت له

لم يأخذ النّصف منّي حين يرميني(٧)

قال سيدنا أدام الله علوّه: وهذه الأبيات يروى بعضها لعروة بن أذينة(٨) وتداخل أبياتا على هذا الوزن؛ وهي التي يقول فيها:

لقد علمت وما الإشراف من خلقي

أنّ الّذي هو رزقي سوف يأتيني

أسعى له فيعنّيني تطلّبه

ولو قعدت أتاني لا يعنّيني

____________________

(١) ت: (إذا غرض)، م: (إذا عرّس).

(٢) في ذوي يمن، أي في اليمانين، وفي حاشية الأصل (من نسخة): (في ذرى يمن)، جمع ذروة. وثمال المساكين: غياث لهم، من ثملهم ثملا إذا أطعمهم وسقاهم وقام بأمرهم.

(٣) من نسخة بحواشي الاصل، ت، ف: (لذي أزمة). والأزمة: القحط.

ويقال: شتا القوم إذا أجدبوا في الشتاء خاصة، وقال الأزهري: العرب تسمي القحط شتاء، لأن المجاعات أكثر ما تصيبهم في الشتاء البارد.

(٤) الغفة: البلغة من العيش. وفي أمالي الزجاجي: (من قليل العيش).

(٥) تكملة من ت، ف، د، وأمالي الزجاجي ومن نسخة بحاشيتي ت، ف: (وانظر الأمر).

(٦) العضيهة: الإفك والبهتان، أي لا أكبر إذا عضهني ذو الضغن.

(٧) النصف: الانتصاف.

(٨) هو عروة بن أذينة بن مالك، من بني الليث. شاعر غزل مقدم من شعراء أهل المدينة، وهو معدود أيضا في الفقهاء والمحدثين. وانظر ترجمته وأشعاره وأخباره في (الأغاني ٢١: ١٠٥ - ١١١، والشعر والشعراء ٥٦٠ - ٥٦٢).

٤٣٧

كم قد أفدت وكم أتلفت من نشب

ومن معاريض رزق غير ممنون

فما أشرت على يسر وما ضرعت

نفسي لخلّة عسر جاء يبلوني(١)

خيمي كريم ونفسي لا تحدّثني

أنّ الإله بلا رزق يخلّيني

ولا اشتريت بمالي قطّ مكرمة

إلاّ تيقّنت أنّي غير مغبون

ولا دعيت إلى مجد ومحمدة(٢)

إلاّ أجبت إليه من يناديني

لا أبتغي وصل من يبغي مفارقتي(٣)

ولا ألين لمن لا يبتغي ليني

إني سيعرفني من لست أعرفه

ولو كرهت، وأبدو حين يخفيني

فغطّني جاهدا واجهد عليّ إذا

لاقيت قومك فانظر هل تغطّيني(٤)

- وقوم يخطئون(٥) فيروون قوله:

* لقد علمت وما الإسراف من خلقي*

____________________

(١) حواشي الأصل، ت، ف: (يقال: ضرع يضرع [بالفتح] ضراعة، وضرع [بالكسر] يضرع ضرعا [بالفتح]، فهو ضارع.

(٢) ت: (مكرمة)، وفي حواشي الأصل ت، ف: (يقال: محمدة، بفتح الميم، مثل مذمة، والفصيح: المحمدة، بكسر الميم، وهو المسموع).

(٣) حاشية الأصل: (من نسخة): (مصارمتي).

(٤) حواشي الأصل، ت، ف: (روي أن عروة هذا وفد على هشام بن عبد الملك في جماعة من الشعراء، فلما دخلوا عليه عرف عروة فقال له: ألست القائل:

لقد علمت وما الإشراف من خلقي

أنّ الّذي هو رزقي سوف يأتيني

أسعى له فيعنّيني تطلّبه

ولو قعدت أتاني لا يعنّيني

وأراك قد جئت تضرب من الحجاز إلى الشام في طلب الرزق! فقال له: لقد وعظت ياأمير المؤمنين وبالغت في الوعظ، وأذكرت بما أنسانيه الدهر. وخرج من فوره إلى راحلته فركبها، ثم سار راجعا نحو الحجاز؛ فمكث هشام يومه غافلا عنه، فلما كان في الليل تعارّ على فراشه فذكره وقال في نفسه: رجل من قريش قال حكمة، ووفد إلي فجبهته ورددته عن حاجته، وهو مع هذا شاعر لا آمن ما يقول! فلما أصبح سأل عنه فأخبر بانصرافه، فقال: لا جرم! ليعلمن أن الرزق سيأتيه، ودعا مولى له وأعطاه ألفي دينار، وقال له: الحق ابن أذينة، فأعطه إياها، قال: فلم أدركه إلا قد دخل بيته، فقرعت الباب عليه، فخرج فأعطيته المال، فقال: أبلغ أمير المؤمنين السلام؛ وقل له: كيف رأيت قولي! سعيت فأكديت، ورجعت إلى بيتي فأتاني فيه الرزق).

(٥) د، ومن نسخة بحواشي الأصل، ت، ف (يخبطون).

٤٣٨

بالسين غير معجمة(١) ، وذلك خطأ، وإنما أراد بالإشراف أني لا أستشرف وأتطلّع(٢) إلى ما فاتني من أمور الدنيا ومكاسبها، ولا تتبعها نفسي(٣) .

***

[أبيات للسيد المرتضى في معنى أبيات ثابت قطنة وعروة بن أذينة المذكورة:]

قال سيدنا أدام الله تأييده: ولي أبيات في معنى بعض أبيات ثابت قطنة، وعروة بن أذينة التي تقدمت، وهي من جملة قصيدة طويلة خرجت عنّي منذ اثنتي عشرة سنة؛ والأبيات:

تعاقبني بؤس الزّمان وخفضه

وأدّبني حرب الزّمان وسلمه

وقد علم المغرور بالدّهر أنّه

وراء سرور المرء في الدّهر غمّه

وما المرء إلاّ نهب يوم وليلة

تخبّ به شهب الفناء ودهمه(٤)

يعلّله برد الحياة يمسّه

ويغترّه روح النّسيم يشمّه(٥)

وكان بعيدا عن منازعة الرّدى

فألقته في كفّ المنيّة أمّه(٦)

ألا إنّ خير الزّاد ما سدّ فاقة

وخير تلادي الّذي لا أجمّه(٧)

وإنّ الطّوى بالعزّ أحسن بالفتى

إذا كان من كسب المذلّة طعمه(٨)

وإني لأنهى النّفس عن كلّ لذّة

إذا ما ارتقى منها إلى العرض وصمه

وأعرض عن نيل الثّريّا إذا بدا

وفي نيله سوء المقال وذمّه

أعفّ وما الفحشاء عنّي بعيدة

وحسبي في صدّ عن الأمر إثمه(٩)

____________________

(١) حاشية ت (من نسخة): (المعجمة).

(٢) حاشية ت (من نسخة): (وأطلع).

(٣) حواشي الأصل، ت، ف: (العجب من تخطئة السيدرضي‌الله‌عنه رواية من روى بالسين المهملة؛ وهو أكثر الروايات، ومعناه واضح).

(٤) حاشية الأصل: (دهمه؛ جمع أدهم؛ وهو كناية عن الليل والنهار).

(٥) من نسخة بحواشي الأصل، ت، ف: (برد النسيم).

(٦) ت، حاشية الأصل (من نسخة) (من منازعة الردى).

(٧) حواشي الأصل، ت، ف: (أي لا أتركه يجم ويكثر، من جم الماء يجم جموما؛ إذا كثر واجتمع، ولا يبعد أن يكون من أجممت الفرس، أي أرحته).

(٨) ت: (كسب المنية).

(٩) حاشية الاصل: (ذكر الفحشاء دليل على شبابه، وكناية عنه).

٤٣٩

وما العفّ من ولى عن الضّرب سيفه

ولكنّ من ولى عن السّوء حزمه

ولى في معنى قوله: (وما الإشراف من خلقي):

ما خامر الرّزق قلبي قبل فجأته

ولا بسطت له في النّائبات يدي

كم قد ترادف لم أحفل زيادته

ولو تجاوزني ما فتّ من عضدي

إن أسخط الأمر أدرك عنه مضطربا

وإن أرد بدلا من مذهب أجد(١)

ومعنى (ما خامر الرّزق قلبي) أي لم أتمنّه، ولا تطلّعت إلى حضوره، ولا خطر لي ببال تنزّها وتقنعا؛ والوجه في تخصيص نفي بسط اليد بالنوائب، لأن النوائب(٢) يضرع عندها في الأكثر المتنزّه، ويطلب المتعفّف؛ فمن لزم النزاهة مع الحاجة وشدّة الضرورة فهو الكامل المروءة.

ومعنى البيت الثاني ظاهر.

فأما الثالث فالمراد به أنني ممّن إذا كره شيئا تمكّن من مفارقته والنزوع عنه، ولست ممّن تضيق حيلته، وتقصر قدرته عن استدراك ما يحب بما يكره. وفيه فائدة أخرى، وهي أنني ممن لا تملكه العادات، وتقتاده الأهواء؛ بل متى أردت مفارقة خلق إلى غيره، وعادة إلى سواها لم يكن ذلك عليّ متعذّرا؛ من حيث كان لرأيي على هواي السلطان والرجحان.

***

[خبر عروة بن عبيد الله عن عروة بن أذينة وروايته أبياتا له:]

أخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال حدثني محمد بن إبراهيم قال حدثنا أحمد بن يحيى النحوي قال أخبرنا الزبير بن بكّار قال حدّثني عروة بن عبيد الله بن عروة بن الزبير قال: كان عروة ابن أذينة نازلا مع أبي في قصر عروة بالعقيق، فسمعته ينشد لنفسه:

إنّ الّتي زعمت فؤادك ملّها

خلقت هواك كما خلقت هوى لها(٣)

____________________

(١) ت، وحاشية الأصل (من نسخة): (إن أسخط الرزق).

(٢) حاشية ت (من نسخة): (أن النوائب).

(٣) الأبيات في زهر الآداب: ١٦٦ (طبعة الحلبي)، وبعضها في أمالي القالي ١: ١٥٦، والموشح: ٢٣٠، وحماسة أبي تمام - بشرح التبريزي ٣: ٢١ - ٢١٣. ونسب ابن قتيبة في الشعراء: ٥٥٤ أبياتا منها للمجنون. والهوى، بمعنى المهوي.

٤٤٠

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679