أمالي المرتضى الجزء ١

أمالي المرتضى0%

أمالي المرتضى مؤلف:
تصنيف: مكتبة اللغة والأدب
الصفحات: 679

أمالي المرتضى

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشريف أبى القاسم على بن الطاهر أبى أحمد الحسين
تصنيف: الصفحات: 679
المشاهدات: 307809
تحميل: 10900


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 679 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 307809 / تحميل: 10900
الحجم الحجم الحجم
أمالي المرتضى

أمالي المرتضى الجزء 1

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

( وَالله سَرِيعُ الْحِسابِ ) ، على تأويل من أراد قصر الزمان، وسرعة الموافقة وجه وتعلّق بالوعد والوعيد؛ لأن الكلام على كل حال متضمّن لوقوع المحاسبة على أعمال العباد، والإحاطة بخيرها وشرّها؛ وإن وصف الحساب مع ذلك بالسرعة؛ وفي هذا ترغيب وترهيب لا محالة، لأن من علم أنه يحاسب بأعماله، ويواقف(١) على جميلها وقبيحها انزجر عن القبيح ورغب في فعل الواجب.

فبهذا ينصر الجواب، وإن كنا لا ندفع أن في حمل الحساب على قرب المجازاة، أو قرب المحاسبة على الأعمال ترغيبا في الطاعات وزجرا عن المقبّحات؛ فالتأويل الأول أشبه بالظاهر ونسق الآية، إلا أن التأويل الآخر غير مدفوع أيضا ولا مرذول(٢) .

تأويل آية أخرى:( وَالله يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( وَالله يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ ) ؛ [البقرة: ٢١٢].

فقال: أي تمدّح في الإعطاء بغير حساب، وقد يكون المعطي بحساب أجزل عطية من المعطي بغير حساب؟.

الجواب، قلنا في هذه الآية وجوه:

أولها أن تكون الفائدة أنه تعالى يرزق من يشاء بغير تقدير من المرزوق ولا احتساب منه، فالحساب هاهنا راجع إلى المرزوق لا إليه تعالى؛ كما يقول القائل: ما كان كذا وكذا في حسابي، أي لم أؤمله، ولم أقدّر أنه يكون؛ وهذا وصف للرزق بأحسن الأوصاف؛ لأن الرزق إذا لم يكن محتسبا كان أهنأ له وأحلى؛ وقد روي عن ابن عباسرضي‌الله‌عنه في تفسير هذه الآية أنه قال: عنى بها أموال بني قريظة والنّضير، وأنّها تصير إليكم بغير حساب ولا قتال، على أسهل الأمور وأقربها وأيسرها.

____________________

(١) ط: (ويوقف).

(٢) د: (مردود).

٤٢١

وثانيها أن الله تعالى يرزق من يشاء رزقا غير مضيّق ولا مقتّر؛ بل يزيد في السّعة والكثرة على كل عطاء المخلوقين(١) ، فيكون نفي الحساب فيه نفيا(٢) للتّضييق، ومبالغة في وصفه بالسّعة، والعرب تسمّى العطاء القليل محسوبا، قال قيس بن الخطيم:

أنّى سربت وكنت غير سروب!

وتقرّب الأحلام غير قريب(٣)

ما تمنعي يقظي فقد تؤتينه

في النّوم غير مصرّد محسوب(٤)

وثالثها أن يكون المعنى أنه يرزق من يشاء، أي من غير طلب للمكافأة أو إراغة لفائدة تعود إليه، أو منفعة ترجع عليه، لأنّ من شأن أهل الدنيا أن يعطوا ليكافئوا ولينتفعوا، ولهذا يقال فيمن يقصد بالعطية إلى هذه الأمور: فلان يحاسب الناس فيما يعطيهم، ويناقشهم فيما يوصّله إليهم، وما أشبه ذلك، فلما انتفت هذه الأمور من عطاياه سبحانه جاز أن يقول إنه يرزق بغير حساب.

ورابعها ما أجاب به قطرب، قال: معنى الآية يعطى العدد الكثير لا ممّا(٥) يضبطه الحساب، أو يأتي(٦) عليه العدد، لأن مقدوره تعالى لا يتناهى، وما في خزائنه لا ينحصر، ولا يصحّ عليه النفاد؛ وليس كالمعطي منّا الألف من الألفين، والعشرة من المائة؛ لأن مقدار ما يتّبع له ويتمكّن منه محدود متناه، ولا تناهي ولا انقطاع لما يقدّر سبحانه عليه.

وخامسها أنه يعطي عباده في الجنة من النعيم واللذات أكثر مما استحقوا، وأزيد مما وجب لهم، بمحاسبته إياهم على طاعتهم كما قال تعالى:( مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ الله قَرْضاً

____________________

(١) ت، وحاشية الأصل (من نسخة): (عطاء للمخلوقين).

(٢) حاشية الأصل (من نسخة) (نقيضا).

(٣) ديوانه: ٥، وأمالي العالي ٢: ٢٧٣، وحماسة ابن الشجري: ١٨٩، واللآلئ: ٥٢٤. وفي حاشية الأصل: (يخاطب خيال امرأت رآها في المنام؛ يتعجب من سير خيالها إليه وكانت غير معتادة للسير، والسروب: الساري، وقيل: السرب سير النهار). وفي حاشية ت: (أني سريت ).

(٤) المصرّد: المقطع؛ وفي حاشية ت: (وبعده:

كان المنى بلقائها فلقيتها

فلهوت من لهو امرئ مكذوب

(٥) من نسخة بحواشي الأصل، ت، ف: (مما لا يضبطه الحساب).

(٦) ت: (إذ يأتي عليه العدد).

٤٢٢

حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً ) ؛ [البقرة: ٢٤٥] وكما قال عز وجل:( إِنْ تُقْرِضُوا الله قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ) ؛ [التغابن: ١٧]، وكما قال تعالى:( لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ) ؛ [فاطر: ٣٠].

وسادسها أن يكون المعطي منّا غيره شيئا والرازق سواه رزقا قد يكون له ذلك، فيكون فعله حسنا لا يسأل عنه، ولا يؤاخذ به، ولا يحاسب عليه؛ وربما لم يكن له ذلك، فيكون فعله قبيحا يؤاخذ به، ويحاسب عليه، فنفى الله تعالى عن نفسه أن يفعل من الرزق القبيح، وما ليس له أن يفعله بنفي الحساب عنه، وأنبأ أنه لا يرزق ولا يعطي إلا على أفضل الوجوه وأحسنها وأبعدها من الذمّ؛ وتجري الآية مجرى قوله تعالى:( لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ ) ؛ [الأنبياء: ٢٣]، وإنما أراد أنه تعالى من حيث وقعت أفعاله كلّها حسنة غير قبيحة لم يجز أن يسأل عنها وإن سئل العباد عن أفعالهم، لأنهم يفعلون الحسن والقبيح معا.

وسابعها أنّ الله تعالى إذا رزق العبد وأعطاه من فضله كان الحساب عن العبد ساقطا من جهة الناس، فليس لأحد أن يقول له: لم رزقت؟ ولا يقول لربه: لم رزقته؟

ولا يسأله ربّه عن الرزق، وإنما يسأله عن إنفاقه في الوجوه التي ينفقه فيها، فيسقط(١) الحساب من هذه الوجوه عمّا يرزقه الله تعالى، ولذلك قال تعالى:( بِغَيْرِ حِسابٍ ) .

وثامنها أن يكون المراد ب مَنْ يَشاءُ أن يرزقه من أهل الجنة، لأنه يرزقهم رزقا لا يصحّ أن يتناول جميعه الحساب، ولا العدد والإحصاء من حيث لا نهاية له ولا انقطاع للمستحقّ منه؛ ويطابق هذه الآية قوله تعالى في موضع آخر:( فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ ) ؛ [غافر: ٤٠].

____________________

(١) ت: (فسقط).

٤٢٣

تأويل خبر [ (توضّئوا ممّا غيّرت النار) ]

إن سأل سائل عن الخبر الّذي يروى عن زيد بن ثابت عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال: (توضّئوا ممّا غيّرت النار)، فقال: ما المراد بالوضوء هاهنا ومذهبكم أن مسّ ما غيّرته النار لا يوجب وضوءا؟

الجواب، إن معنى (توضئوا) أي نظّفوا أيديكم من الزّهومة، لأنه روي أنّ جماعة من الأعراب كانوا لا يغسلون أيديهم من الزّهومة ويقولون: فقدها أشدّ علينا من ريحها، فأمرعليه‌السلام بتنظيف الأيدي لذلك(١) .

فإن قيل: كيف يصحّ أن تحملوا الخبر على اللفظ اللغوي، مع انتقاله بالعرف الشرعي إلى الأفعال المخصوصة، بدلالة أنّ من غسل يده أو وجهه لا يقول بالإطلاق: (توضأت)، ومتى سلم لكم أن الوضوء أصله من النظافة لم ينفعكم مع الانتقال الّذي ذكرناه، وكلامهعليه‌السلام أخصّ بالعرف الشرعي، وحمله عليه أولى من حمله على اللغة.

قلنا: ليس ينكر(٢) أن يكون إطلاق الوضوء هو المنتقل من اللغة إلى عرف الشرع، والمختصّ بالأفعال المعيّنة، وكذلك المضاف منه إلى الحدث أو الصلاة وما أشبههما(٣) . فأما المضاف إلى الطعام وما جرى مجراه فباق على أصله؛ ألا ترى أنّهم لو قالوا: توضأت من الطعام، ومن الغمر(٤) ، أو توضأت للطعام لم يفهم منه إلاّ الغسل والتنظيف، وإذا قالوا:

توضأت إطلاقا، أو توضأت من الحدث أو للصلاة فهم منه الأفعال الشرعية؛ فليس ينكر ما ذكرناه من اختصاص النّقل، لأنه كما يجوز انتقال اللفظة من فائدة في اللغة إلى فائدة في الشرع على كلّ وجه، كذلك يجوز أن تنتقل على وجه دون وجه، وتبقى من الوجه الّذي لم تنتقل منه على ما كان عليه في اللغة.

وقد ذهب كثير من الناس إلى أنّ إطلاق لفظة (مؤمن) منتقل من اللغة إلى عرف

____________________

(١) حاشية ت (من نسخة): (عن ذلك).

(٢) حاشية ت (من نسخة): (ليس ننكر).

(٣) في حاشيتي ت (من نسخة): (وما أشبهها).

(٤) الغمر، بالتحريك: زنخ اللحم.

٤٢٤

الدين ومختصّ باستحقاق الثواب، وإن كان مقيّدها باقيا على ما كان عليه في اللغة.

ويبيّن ذلك أيضا ما روي عن الحسن أنه قال: (الوضوء قبل الطعام ينفي الفقر، وبعده ينفي اللّمم)؛ وإنما أراد غسل اليدين بغير شك. وروي عن قتادة أنه قال: (غسل اليد وضوء) وروى عكراش(١) أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أكل(٢) وغسل يده ومسح ببلل يده وجهه(٢) وذراعيه ورأسه(٣) ، وقال: (هكذا الوضوء ممّا مست النار)، على أنه لو كانت هذه اللفظة منتقلة على كلّ حال إلى الأفعال الشرعية المخصوصة لصحّ أن نحمله(٤) في الخبر على خلاف ذلك، ونردّها إلى أصلها بالأدلّة، وإن كان الأولى لولا الأدلة أن تحمل على مقتضى الشرع(٥) .

فمن الأدلة على ما ذكرناه ما رواه ابن عباس أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أكل كتف شاة، وقام فصلّى ولم يتوضأ. وروى عطاء عن أمّ سلمة قالت: قرّبت جنبا مشويا إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأكل منه، وصلّى ولم يتوضأ. وروى محمد بن المنكدر عن جابر أنه قال: كان آخر الأمرين من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ترك الوضوء ممّا مسّت النار(٦) .

وكلّ هذه الأخبار توجب العدول عن ظاهر الخبر الأول لو كان له ظاهر، فكيف وقد بيّنا أنّه لا ظاهر له!

فأما اشتقاق الوضوء فهو من الوضاءة التي هي الحسن، فلما كان من غسل يده ونظفها قد حسّنها قيل وضّأها؛ ويقال: فلان وضيء الوجه وقوم وضاء، قال الشاعر:

____________________

(١) هو عكراش بن ذؤيب بن حرقوس، وفي ت، ف: (عكرمة عن أنس).

(٢ - ٢) حاشية ت (من نسخة): (وغسل يديه، ومسح ببلل يديه).

(٣) حاشية ت (من نسخة): (وببلل ذراعيه رأسه).

(٤) ت، د، ومن نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (نحملها).

(٥) حواشي الأصل، ت، ف: (إنما نحمل اللفظة على العرف الشرعي فيما يتعلق بالأحكام الشرعية فحسب).

(٦) في حاشيتي الأصل، ف: (كان في الأول يتوضأ مما مسته النار ثم ترك).

٤٢٥

مساميح الفعال ذوو أناة

مراجيح وأوجههم وضاء(١)

والوضوء، بضم الواو: المصدر، وكذلك أيضا التّوضؤ والوضوء، بفتح الواو: اسم ما يتوضأ به، وكذلك الوقود اسم لما توقد به النار: والوقود، بالضم: المصدر، ومثله التوقّد، وقد يجوز أن يكون الوقود، بفتح الواو: المصدر، وكذلك الوضوء بفتح الواو؛ كما قالوا:

حسن القبول، فجعلوا القبول مصدرا، وهو مفتوح الأول، ولا يجوز في الوقود والوضوء بالضم إلا معنى المصدر وحده، قال جرير.

أهوى أراك برامتين وقودا

أم بالجنينة من مدافع أودا(٢)

وقال آخر:

إذا سهيل لاح كالوقود

فردا كشاة البقر المطرود

وقال آخر:

وأجّجنا بكلّ يفاع أرض

وقود النّار للمتنوّرينا(٣)

***

[بعض أخبار عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وطائفة من شعره:]

أخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال حدّثني محمد بن إبراهيم قال حدثنا أحمد بن يحيى قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدثنا إبراهيم بن المنذر قال حدثني إبراهيم بن محمد عن عبد العزيز ابن عمر بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن ابن شهاب قال: أتيت عبيد الله بن عبد الله ابن عتبة بن مسعود(٤) يوما في منزله، فإذا هو مغيظ(٥) ينفخ، فقلت له: ما لي أراك هكذا! قال: دخل عليّ(٦) عاملكم هذا - يعني عمر بن عبد العزيز - ومعه عبد الله بن عمرو بن عثمان

____________________

(١) حاشية ف: (السمح: الجواد والجمع سمحاء؛ ومساميح؛ كأنه جمع مسماح. والمراجيح:

الحلماء).

(٢) ديوانه ١٦٩. ورامة والجنينة وأود: مواضع. والمدافع: جمع مدفع؛ وهو مسيل الماء إلى الوادي وفي حاشيتي الأصل، ف: (يقول: الّذي يريك وقود النار بهذه المواضع عشق هذا).

(٣) اليفاع: المرتفع من الأرض؛ والمتنور: من ينظر إلى النار من بعيد؛ قال امرؤ القيس:

تنوّرتها من أذرعات وأهلها

بيثرب أدنى دارها نظر عال

 (٤) أحد الفقهاء السبعة بالمدينة توفي سنة ٩٨؛ وكان ضريرا؛ ذكره الصفدي في نكت الهميان:

١٩٧ - ١٩٨، وانظر ترجمته وأشعاره في الأغاني ٨: ٨٨ - ٩٥.

(٥) من نسخة بحواشي الأصل، ت، ف: (متغيظ).

(٦) ت: (دخلت على عاملكم.

٤٢٦

فسلّمت، فلم يردّا عليّ السلام، فقلت(١) :

ألا أبلغا عنّي عراك بن مالك

فإن أنت لم تفعل فأبلغ أبا بكر(٢)

فقد جعلت تبدو شواكل منكما

فإنّكما بي موقران من الصّخر(٣)

وطاوعتما بي غادرا ذا معاكة

لعمري لقد أورى وما مثله يوري(٤)

- يقال: معك به وسدل به(٥) إذا تعرّض له بشرّ(٥)   -

فلولا اتّقاء الله اتّقائي فيكما

للمتكما لوما أحرّ من الجمر(٦)

فمسّا تراب الأرض، منها خلقتما

وفيها المعاد والمقام إلى الحشر

ولا تأنفا أن تغشيا فتكلّما

فما حشي الأقوام شرّا من الكبر(٧)

ولو شئت أدلي فيكما غير واحد

علانية أو قال عندي في السّرّ(٨)

 - معناه: لو شئت اغتابكما عندي غير واحد -

فإن أنا لم آمر ولم أنه عنكما

ضحكت له حتّى يلجّ ويستشري(٩)

وكيف تريدان ابن سبعين حجّة

على ما أتى وهو ابن عشرين أو عشر(١٠)

____________________

(١) الخبر بروايته عن ابن شهاب في (الأغاني ٨: ٩١ - ٩٢)، وفيه رواية أخرى أيضا ص ٩١ عن ابن اديس: (كان عراك بن مالك وأبو بكر بن حزم وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة يتجالسون بالمدينة زمانا؛ ثم إن ابن حزم ولي إمرتها، وولي عراك القضاء، وكانا يمران بعبيد الله فلا يسلمان عليه ولا يقفان - وكان ضريرا - فأخبر بذلك فأنشأ يقول )، وأورد الأبيات.

(٢) حاشية ت (من نسخة): (ألا أبلغن)

(٣) الشواكل: جمع شاكلة؛ وهي الخاصرة، وأراد بها هاهنا أمورا ينكرها. وبي؛ أي بمكاني

(٤) في حاشيتي الأصل، ف: (قوله: (وطاوعتماني) في حيز التشبيه؛ يقول: كأنكما موقران، وكأنكما إذ طاوعتماني طاوعتما غادرا عريضا. ثم قال: لعمري لقد أورى هذا الفعل منكما؛ أي فسد؛ من ورى جوفه؛ أو أوقد - يعني شرا، أي أثر وكنت لا أتأثر بمثل ذلك).

(٥ - ٥) ت: (إذا تعرض به لشر).

(٦) حاشية ف: (أي لولا اتقائي بتقى الله للمتكما؛ وهو مثل؛ ويجوز أن يكون قوله: (اتقائي) مفعولا له؛ أي للاتقاء.

(٧) ت، حاشية الأصل (من نسخة): (تكلما)، بكسر اللام المشددة وفي حاشية الأصل أيضا (من نسخة): (أن ترجعا فتسلما).

(٨) من نسخة بحاشيتي الأصل، ت: (عندي في سر). يقال: أدلى فلان في فلان إذا قال فيه قولا قبيحا.

(٩) الضمير في (له) يعود إلى المغتاب، واستشرى في الأمر: لج فيه؛ أي يجترئ ويظهر؛ وأصل الكلمة الاستخراج.

(١٠) يريد أن يقول: كيف تريد اثني على ما امتنعت عنه وأنا صبي!

٤٢٧

لقد علقت دلوا كما دلو حوّل

من القوم لا رخو المراس ولا نزر(١)

قال ابن شهاب: فقلت له: مثلك يرحمك الله مع نسكك وفضلك وفهمك(٢) يقول الشعر! فقال: إن المصدور إذا نفث برئ.

وإنما ذكر عراك بن مالك وأبا بكر بن عمرو بن حزم - وكانا صديقيه - كناية بذكرهما عن ذكر غيرهما.

وقد جاءت رواية أخرى أن أبا بكر بن عمر(٣) بن حزم وعراك بن مالك كانا يجتازان على عبيد الله فلا يسلّمان عليه، فقال الأبيات يخاطبهما بها.

وروى محمد بن سلاّم لعبيد الله بن عبد الله بن عتبة:

إذا كان لي سرّ فحدّثته العدى

وضاق به صدري، فللنّاس أعذر(٤)

هو السّرّ ما استودعته وكتمته

وليس بسرّ حين يفشو ويظهر(٥)

وانشد مصعب الزبيري لعبيد الله بن عتبة بن مسعود:

أواخي رجالا لست مطلع بعضهم

على سرّ بعض إنّ صدري واسعه

إذا هي حلّت وسط عوذ ابن غالب

فذلك ودّ نازح لا أطالعه(٦)

تلاقت حيازيمي على قلب حازم

كتوم لما ضمّت عليه أضالعه(٧)

بنى لي عبد الله في سورة العلى

وعتبة مجدا لا تنال مصانعه(٨)

والبيت الأول يشبه قول مسكين الدارمي:

وفتيان صدق لست مطلع بعضهم

على سرّ بعض غير أني جماعها(٩)

____________________

(١) حول: شديد الاحتيال؛ أي أنكما، وقعتما على من لا تطيقان دفعه عن أنفسكما.

(٢) من نسخة بحواشي الأصل، ت، ف: (وفقهك).

(٣) حاشية (من نسخة): (عمرو).

(٤) العدى بالكسر: الأجانب، وبالضم الأعداء.

(٥) حاشية ت (من نسخة): (وحفظته).

(٦) الضمير يعود على المودة، وعوذ: جمع عائذ، وهي الحديثة النتاج من الإبل وغيرها.

(٧) في الأغاني: (شددت حيازيمي). والحيزوم: وسط الصدر. ومن نسخة بحاشيتي الأصل، ت: (ضمت)، بالبناء للمعلوم.

(٨) المصانع: الأبنية.

(٩) الحماسة - بشرح التبريزي ٣: ١٢٦.

٤٢٨

ومما يستحسن لعبيد الله بن عبد الله بن عتبة قوله:

تغلغل حبّ عثمة في فؤادي

فباديه مع الخافي يسير(١)

تغلغل حيث لم يبلغ شراب

ولا حزن ولم يبلغ سرور

شققت القلب ثمّ ذررت فيه

هواك فليم فالتأم الفطور(٢)

أكاد إذا ذكرت العهد منها

أطير لو أنّ إنسانا يطير

غني النّفس أن أزداد حبّا

ولكنّي إلى وصل فقير(٣)

وأخذ هذا المعنى أبو نواس فقال:

أحللت في قلبي هواك محلّة

ما حلّها المشروب والمأكول(٤)

وأخذه المتنبي في قوله:

وللسّرّ مني موضع لا يناله

نديم ولا يفضي إليه شراب(٥)

وكأنّ العباس بن الأحنف ألمّ به في قوله:

لو شقّ عن قلبي قري وسطه

اسمك والتوحيد في سطر

وقال الصاحب اسماعيل بن عباد:

لو شقّ قلبي لرأوا وسطه

سطر بن قد خطّا بلا كاتب

العدل والتّوحيد في جانب

وحبّ أهل البيت في جانب

وقول عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أحسن من الجميع وبعده بيت المتنبي.

ولعبيد الله بن عبد الله بن عتبة:

لعمر أبي المحصين أيّام نلتقي

لما لا نلاقيها من الدّهر أكثر

____________________

(١) الأبيات في أمالي القالي ٣: ٢١٧، وذكر صاحب الأغاني أن عثمة زوجه.

(٢) الفطور: الشقوق.

(٣) حاشية ت: (يعني أنه يستغني عن ازدياد حب إلى حبه، لأنه قد تناهى. وأن أزداد، يعني: عن أن ازداد).

(٤) حاشية الأصل (من نسخة): (المأكول المشروب).

(٥) ديوانه: ١٩٢.

٤٢٩

يعدّون يوما واحدا إن أتيتها

وينسون ما كانت على الدّهر تهجر

فإن يكن الواشون أغروا بهجرنا(١)

فإنّا بتجديد المودّة أجدر

ومن مستحسن قوله:

لعمري لئن شطّت بعثمة دارها

لقد كنت في وشك الفراق أليح(٢)

أروح بهمّ ثمّ أغدو بمثله

ويحسب أنّي في الثّياب صحيح

أخذ هذا المعنى بشار، فقصّر عنه في قوله:

يصبح محزونا ويمسي به

وليس يدري ماله عندك

____________________

(١) م: (بهجرها).

(٢) ت، وحاشية الأصل من نسخة: (من وشك الفراق).

وأليح: أشفق.

٤٣٠

[٣٠]

مجلس آخر [المجلس الثلاثون:]

تأويل آية:( قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى الله كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ )

إن سأل سائل عن قوله تعالى حاكيا عن شعيبعليه‌السلام :( قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى الله كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاّ أَنْ يَشاءَ الله رَبُّنا ) ؛ [الأعراف: ٨٩].

فقال: أليس هذا تصريحا منه بأنّ الله تعالى يجوز أن يشاء الكفر والقبيح؛ لأن ملّة قومه كانت كفرا وضلالا، وقد أخبر أنّه لا يعود فيها إلاّ أن يشاء الله؟

الجواب، قيل له في هذه الآية وجوه:

أولها أن تكون الملّة التي عناها الله إنما هي العبادات الشرعيات؛ التي كان قوم شعيب متمسكين بها؛ وهي منسوخة عنهم، ولم يعن بها ما يرجع إلى الاعتقادات في الله وصفاته؛ مما لا يجوز أن تختلف(١) العبادة فيه، والشرعيات يجوز فيها اختلاف العبادة؛ من حيث تبعت(٢) المصالح والألطاف والمعلوم من أحوال المكلّفين؛ فكأنّه قال: إنّ ملتكم لا نعود فيها؛ مع علمنا بأنّ الله تعالى قد نسخها وأزال حكمها، إلاّ أن يشاء الله أن يتعبّدنا بمثلها فنعود إليها؛ وتلك الأفعال التي كانوا متمسّكين بها؛ مع نسخها عنهم ونهيهم عنها - وإن كانت ضلالا وكفرا - فقد كان يجوز فيما هو مثلها أن يكون إيمانا وهدى؛ بل فيها أنفسها قد كان يجوز ذلك؛ وليس تجري هذه الأفعال مجرى الجهل بالله تعالى، الّذي لا يجوز أن يكون إلاّ قبيحا.

وقد طعن بعضهم على هذا الجواب فقال: كيف يجوز أن يتعبّدهم الله تعالى بتلك الملّة مع قوله:( قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى الله كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْها ) ؟

____________________

(١) ت: (اختلاف العبادة).

(٢) حاشية ت (من نسخة): (تتبع).

٤٣١

فيقال له: لم ينف عودهم إليها على كل وجه؛ وإنما نفى العود إليها مع كونها منسوخة منهيّا عنها؛ والّذي علّقه بمشيئة الله تعالى من العود إليها هو بشرط أن يأمر بها، ويتعبّد بمثلها، والجواب مستقيم لا خلل فيه.

وثانيها أنّه أراد أنّ ذلك لا يكون أبدا من حيث علّقه بمشيئة الله تعالى لما كان معلوما أنّه لا يشاؤه؛ وكلّ أمر علّق بما لا يكون فقد نفى كونه على أبعد الوجوه؛ وتجري الآية مجرى قوله تعالى:( لا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ ) ؛ [الأعراف: ٤٠] وكما يقول القائل: أنا لا أفعل كذا حتى يبيضّ القار؛ أو يشيب الغراب؛ وكما قال الشاعر:

وحتّى يئوب القارظان كلاهما

وينشر في القتلى كليب لوائل(١)

والقارظان لا يئوبان أبدا، وكليب لا ينشر أبدا؛ فكأنه قال: إنّ هذا لا يكون أبدا.

وثالثها ما ذكره قطرب بن المستنير من أنّ في الكلام تقديما وتأخيرا، وأنّ الاستثناء من الكفار وقع لا من شعيب؛ فكأنه تعالى قال حاكيا عن الكفار:( لَنُخْرِجَنَّكَ ياشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا ) ؛ [الأعراف: ٨٨]، إلاّ أن يشاء الله أن تعود في ملّتنا؛ ثم قال تعالى حاكيا عن شعيب:( وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها ) على كل حال.

ورابعها أن تعود الهاء التي في قوله: فِيها إلى القرية لا إلى الملّة؛ لأن ذكر القرية قد تقدّم كما تقدم ذكر الملّة؛ ويكون تلخيص الكلام: إنّا سنخرج من قريتكم، ولا نعود فيها إلاّ أن يشاء الله بما ينجزه لنا من الوعد في الإظهار عليكم، والظّفر بكم، فنعود إليها.

وخامسها أن يكون المعنى: إلاّ أن يشاء الله أن يردّكم إلى الحق، فنكون جميعا على

____________________

(١) البيت لأبي ذؤيب الهذلي، ديوان الهذليين ١: ١٤٥. والقارظان هما رجلان من عنزة؛ خرجا ينتحيان القرظ ويجتنيانه، فلم يرجعا؛ فضرب بهما المثل؛ وانظر اللسان (قرظ)، وشرح ديوان الهذليين.

٤٣٢

ملة واحدة غير مختلفة؛ لأنّه لما قال تعالى حاكيا عنهم:( أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا ) كان معناه: أو لنكوننّ على ملة واحدة غير مختلفة، فحسن أن يقول من بعد: إلاّ أن يشاء الله أن يجمعكم معنا على ملة واحدة.

فإن قيل: الاستثناء بالمشيئة إنما كان بعد قوله:( وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها ) ؛ فكأنه قال: ليس نعود فيها إلاّ أن يشاء الله، فكيف يصحّ هذا الجواب؟

قلنا: هو كذلك؛ إلاّ أنه لما كان معنى أَنْ نَعُودَ فِيها، هو أن تصير ملتنا واحدة غير مختلفة جاز أن يوقع الاستثناء على المعنى فيقول:( إِلاّ أَنْ يَشاءَ الله ) أن نتّفق في الملة بأن ترجعوا أنتم إلى الحق.

فإن قيل: فكأنّ الله تعالى ما شاء أن يرجع الكفار إلى الحق!

قلنا: بلى قد شاء ذلك، إلاّ أنه ما شاءه على كل حال، بل من وجه دون وجه، وهو أن يؤمنوا ويصيروا إلى الحق مختارين؛ ليستحقّوا الثواب الّذي أجري(١) بالتكليف إليه، ولو شاءه على كل حال لما جاز ألاّ يقع منهم؛ فكأن شعيباعليه‌السلام قال: إن ملّتنا لا تكون واحدة أبدا؛ إلا أن يشاء الله أن يلجئكم إلى الاجتماع معنا على ديننا وموافقتنا في ملتنا؛ والفائدة في ذلك واضحة؛ لأنه لو أطلق أنّا لا نتفق أبدا، ولا تصير ملتنا واحدة لتوهّم متوهّم أنّ ذلك مما لا يمكن على حال من الأحوال؛ فأفاد بتعليقه(٢) له بالمشيئة هذا الوجه؛ ويجري قوله تعالى:( إِلاّ أَنْ يَشاءَ الله ) مجرى قوله تعالى:( وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً ) ؛ [يونس: ٩٩].

وسادسها أن يكون المعنى: إلاّ أن يشاء الله أن يمكّنكم من إكراهنا، ويخلّي بينكم وبينه، فنعود إلى(٣) إظهارها مكرهين؛ ويقوّي هذا الوجه قوله تعالى:( أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ ) ؛ [الأعراف: ٨٨].

____________________

(١) حاشية ت (من نسخة): (الّذي أجرى) بالألف.

(٢) حاشية ت (من نسخة): (فأفاد تعليقه).

(٣) حاشية ت (من نسخة): (فنعود في إظهارها).

٤٣٣

وسابعها أن يكون المعنى إلاّ أن يشاء الله أن يتعبّدنا بإظهار ملّتكم مع الإكراه؛ لأنّ إظهار كلمة الكفر قد تحسن في بعض الأحوال إذا تعبّد الله تعالى بإظهارها؛ وقوله:

( أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ ) يقوّي هذا الوجه أيضا.

فإن قيل: فكيف يجوز من نبي من أنبياء الله تعالى أن يتعبّد بإظهار الكفر وخلاف ما جاء به من الشّرع؟

قلنا: يجوز أن يكون لم يرد بالاستثناء نفسه بل قومه؛ فكأنه قال: وما يكون لي ولا لأمّتي أن نعود فيها إلاّ أن يشاء الله أن يتعبّد أمتي بإظهار ملّتكم على سبيل الإكراه؛ وهذا جائز غير ممتنع.

تأويل خبر [: (خير الصّدقة ما أبقت غنى) ]

روى أبو هريرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال: (خير الصّدقة ما أبقت غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول).

وقد قيل في قوله: (خير الصّدقة ما أبقت غنى): قولان:

أحدهما أنّ خير ما تصدّقت به ما فضل عن(١) قوت عيالك وكفايتهم، فإذا خرجت صدقتك عنك إلى من أعطيت خرجت عن استغناء منك ومن عيالك عنها؛ ومثله في الحديث الآخر: (إنما الصّدقة عن ظهر غنى). وقال ابن عباس رحمة الله عليه في قوله تعالى:

( وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ) ؛ [البقرة: ٢١٩]؛ قال: ما فضل عن أهلك.

والجواب الآخر، أن يكون أراد: خير الصّدقة ما أغنيت به من أعطيت عن المسألة، أي تجزل له في العطيّة، فيستغني بها ويكفّ عن المسألة؛ وذلك مثل أن يريد الرجل أن يتصدق بمائة درهم، فيدفعها إلى رجل واحد محتاج، فيستغني بها ويكفّ عن المسألة، فذلك أفضل من أن يدفعها إلى مائة رجل لا تبين عليهم.

____________________

(١) حاشية ت (من نسخة): (ما فضل من قوت عيالك).

٤٣٤

والتأويل الأوّل يشهد له آخر الخبر وهو قوله: (وابدأ بمن تعول)، ويشهد له الحديث الآخر أيضا: (إنّما الصدقة عن ظهر غنى).

وقوله: (اليد العليا خير من اليد السّفلى)، قال قوم: يريد أنّ اليد المعطية خير من الآخذة، وقال آخرون: إنّ العليا هي الآخذة، والسفلى هي المعطية.

وقال ابن قتيبة: ولا أرى هؤلاء إلاّ قوما استطابوا السؤال؛ فهم يحتجّون للدناءة؛ ولو كان هذا يجوز لقيل: إن المولى من فوق هو الّذي أعتق، والمولى من أسفل هو الّذي أعتق، والناس إنّما يعلون بالعطايا لا بالسؤال.

قال سيدنا أدام الله علوّه: وعندي أن معنى قولهعليه‌السلام : (اليد العليا خير من اليد السّفلى) غير ما ذكر من الوجهين جميعا؛ وهو أن تكون اليد هاهنا هي العطية والنعمة؛ لأنّ النعمة قد تسمّى يدا في مذهب أهل اللسان بغير شكّ؛ فكأنهصلى‌الله‌عليه‌وآله أراد أنّ العطية الجزيلة خير من العطية القليلة. وهذا حث منهصلى‌الله‌عليه‌وآله على المكارم، وتحضيض على اصطناع المعروف بأوجز الكلام وأحسنه مخرجا.

ويشهد لهذا التأويل أحد التأويلين(١) المتقدمين في قوله: (ما أبقت غنى)، وهذا أشبه وأولى من أن تحمل اليد على الجارحة؛ لأنّ من ذهب إلى ذلك وجعل المعطية خيرا من الآخذة لا يستمرّ قوله؛ لأنّ فيمن يأخذ من هو خير عند الله تعالى ممّن يعطي؛ ولفظة (خير) لا تحمل إلاّ على الفضل في الدين واستحقاق الثواب؛ فأمّا من جعل الآخذة خيرا من المعطية فيدخل عليه هذا الطعن أيضا؛ مع أنّه قد قال قولا شنعا(٢) ، وعكس الأمر على ما ذكر(٣) ابن قتيبة.

فإن قيل: كيف يصحّ تأويلكم مع قولهعليه‌السلام : (خير الصّدقة ما أبقت غنى) وهي(٤) لا تبقي غنى إلاّ بعد أن تنقص من غيرها؟ وإذا كانت العطية التي هي أجزل

____________________

(١) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (أحد الخبرين).

(٢) م: (شنيعا).

(٣) م: (ما قال).

(٤) ت: (فهي).

٤٣٥

أفضل فتلك لا تبقي غنى، والتي تبقي غنى ليست الجزيلة، وهذا تناقض.

قلنا: أما تأويلنا فمطابق(١) للوجهين المذكورين في قوله: (ما بقّت(٢) غنى)؛ لأنّ من تأوّل ذلك على أنّ المراد بها المعطى، وأنّ خير العطية ما أغنته عن المسألة فالمطابقة ظاهرة، ومن تأوّله على الوجه الآخر، وحمل ما أبقى الغنى على المعطي وأهله وأقاربه؛ فتأويلنا أيضا مطابق له، لأنه قد يكون في العطايا التي يبقى بعدها الغنى على الأهل والأقارب جزيل وغير جزيل، فقالعليه‌السلام : (خير الصدقة ما بقّت(٢) غنى) بعد إخراجها؛ والعطية الجزيلة التي تبقي بعدها غنى خير من القليلة، فمدحعليه‌السلام بعد إبقاء الغنى جزيل العطية، وحثّ على الكرم والفضل.

***

[ذكر أبيات تروى لثابت قطنة وعروة بن أذينة:]

أخبرنا أبو القاسم عبيد الله بن عثمان بن يحيى بن جنيقا قال أخبرنا أبو عبد الله الحكيمي قال أملى علينا أبو العباس أحمد بن يحيى النحوي قال: أنشدنا ابن الأعرابي لثابت قطنة العتكي(٣) :

ياهند كيف بنصب بات يبكيني

وعائر في سواد العين يؤذيني(٤)

كأنّ ليلي والأصداء هاجدة

ليل السّليم وأعيا من يداويني

لما حنى الدّهر من قوسي وعذّرني

شيبي وقاسيت أمر الغلظ واللّين(٥)

____________________

(١) من نسخة بحاشيتي الأصل، ت: (فيطابق الوجهين).

(٢) ت: (ما أبقت).

(٣) هو أبو العلاء ثابت بن كعب، شاعر فارس؛ من شعراء الدولة الأموية، وكان في صحابة يزيد بن المهلب، ولقب قطنة؛ لأن سهما أصابه في عينه في بعض حروب الترك. وانظر ترجمته وأخباره وأشعاره في (الأغاني ١٣: ٤٧ - ٥٤، والخزانة ٤: ١٨٥ - ١٨٧، والشعر والشعراء ٦١٢ - ٦١٣).

(٤) القصيدة في رثاء المفضل بن المهلب؛ وهند هي بنت المفضل؛ دخل عليها ثابت، والناس حولها جلوس يعزونها؛ فلما أنشدها هذه القصيدة قالت: ليست المصيبة في قتل من استشهد ذابا عن دينه، مطيعا لربه؛ وإنما المصيبة فيمن قلت بصيرته، وخمل ذكره بعد موته؛ وأرجو ألا يكون المفضل عند الله خاملا).

والقصيدة في (أمالي الزجاجي ١٣٠ - ١٣١، وأبيات منها في الأغاني ١٣: ٥١ - ٥٢). النصب: البلاء والعذاب. والعائر: القذى والرمد، وكذلك العوّار.

(٥) عذرني شيبي؛ أي شيبني من جانبي وجهي؛ من العذارين.

٤٣٦

إذا ذكرت أبا غسّان أرّقني

همّ إذا عرض السّارون يشجيني(١)

كان المفضّل عزّا في ذوي يمن

وعصمة وثمالا للمساكين(٢)

غيثا لدى أزمة غبراء شاتية

من السّنين ومأوى كلّ مسكين(٣)

إني تذكّرت قتلى لو شهدتهم

في حومة الحرب لم يصلوا بها دوني

لا خير في العيش إذ لم نجن بعدهم

حربا تنيئ بهم قتلى فتشفيني

لا خير في طمع يدني إلى طبع،

وغفّة من قوام العيش تكفيني(٤)

[أنظر في الأمر يعنيني الجواب به

ولست أنظر فيما ليس يعنيني](٥)

لا أركب الأمر تزري بي عواقبه

ولا يعاب به عرضي ولا ديني

لا يغلب الجهل حلمي عند مقدرة

ولا العضيهة من ذي الضّغن تكبيني(٦)

كم من عدوّ رماني لو قصدت له

لم يأخذ النّصف منّي حين يرميني(٧)

قال سيدنا أدام الله علوّه: وهذه الأبيات يروى بعضها لعروة بن أذينة(٨) وتداخل أبياتا على هذا الوزن؛ وهي التي يقول فيها:

لقد علمت وما الإشراف من خلقي

أنّ الّذي هو رزقي سوف يأتيني

أسعى له فيعنّيني تطلّبه

ولو قعدت أتاني لا يعنّيني

____________________

(١) ت: (إذا غرض)، م: (إذا عرّس).

(٢) في ذوي يمن، أي في اليمانين، وفي حاشية الأصل (من نسخة): (في ذرى يمن)، جمع ذروة. وثمال المساكين: غياث لهم، من ثملهم ثملا إذا أطعمهم وسقاهم وقام بأمرهم.

(٣) من نسخة بحواشي الاصل، ت، ف: (لذي أزمة). والأزمة: القحط.

ويقال: شتا القوم إذا أجدبوا في الشتاء خاصة، وقال الأزهري: العرب تسمي القحط شتاء، لأن المجاعات أكثر ما تصيبهم في الشتاء البارد.

(٤) الغفة: البلغة من العيش. وفي أمالي الزجاجي: (من قليل العيش).

(٥) تكملة من ت، ف، د، وأمالي الزجاجي ومن نسخة بحاشيتي ت، ف: (وانظر الأمر).

(٦) العضيهة: الإفك والبهتان، أي لا أكبر إذا عضهني ذو الضغن.

(٧) النصف: الانتصاف.

(٨) هو عروة بن أذينة بن مالك، من بني الليث. شاعر غزل مقدم من شعراء أهل المدينة، وهو معدود أيضا في الفقهاء والمحدثين. وانظر ترجمته وأشعاره وأخباره في (الأغاني ٢١: ١٠٥ - ١١١، والشعر والشعراء ٥٦٠ - ٥٦٢).

٤٣٧

كم قد أفدت وكم أتلفت من نشب

ومن معاريض رزق غير ممنون

فما أشرت على يسر وما ضرعت

نفسي لخلّة عسر جاء يبلوني(١)

خيمي كريم ونفسي لا تحدّثني

أنّ الإله بلا رزق يخلّيني

ولا اشتريت بمالي قطّ مكرمة

إلاّ تيقّنت أنّي غير مغبون

ولا دعيت إلى مجد ومحمدة(٢)

إلاّ أجبت إليه من يناديني

لا أبتغي وصل من يبغي مفارقتي(٣)

ولا ألين لمن لا يبتغي ليني

إني سيعرفني من لست أعرفه

ولو كرهت، وأبدو حين يخفيني

فغطّني جاهدا واجهد عليّ إذا

لاقيت قومك فانظر هل تغطّيني(٤)

- وقوم يخطئون(٥) فيروون قوله:

* لقد علمت وما الإسراف من خلقي*

____________________

(١) حواشي الأصل، ت، ف: (يقال: ضرع يضرع [بالفتح] ضراعة، وضرع [بالكسر] يضرع ضرعا [بالفتح]، فهو ضارع.

(٢) ت: (مكرمة)، وفي حواشي الأصل ت، ف: (يقال: محمدة، بفتح الميم، مثل مذمة، والفصيح: المحمدة، بكسر الميم، وهو المسموع).

(٣) حاشية الأصل: (من نسخة): (مصارمتي).

(٤) حواشي الأصل، ت، ف: (روي أن عروة هذا وفد على هشام بن عبد الملك في جماعة من الشعراء، فلما دخلوا عليه عرف عروة فقال له: ألست القائل:

لقد علمت وما الإشراف من خلقي

أنّ الّذي هو رزقي سوف يأتيني

أسعى له فيعنّيني تطلّبه

ولو قعدت أتاني لا يعنّيني

وأراك قد جئت تضرب من الحجاز إلى الشام في طلب الرزق! فقال له: لقد وعظت ياأمير المؤمنين وبالغت في الوعظ، وأذكرت بما أنسانيه الدهر. وخرج من فوره إلى راحلته فركبها، ثم سار راجعا نحو الحجاز؛ فمكث هشام يومه غافلا عنه، فلما كان في الليل تعارّ على فراشه فذكره وقال في نفسه: رجل من قريش قال حكمة، ووفد إلي فجبهته ورددته عن حاجته، وهو مع هذا شاعر لا آمن ما يقول! فلما أصبح سأل عنه فأخبر بانصرافه، فقال: لا جرم! ليعلمن أن الرزق سيأتيه، ودعا مولى له وأعطاه ألفي دينار، وقال له: الحق ابن أذينة، فأعطه إياها، قال: فلم أدركه إلا قد دخل بيته، فقرعت الباب عليه، فخرج فأعطيته المال، فقال: أبلغ أمير المؤمنين السلام؛ وقل له: كيف رأيت قولي! سعيت فأكديت، ورجعت إلى بيتي فأتاني فيه الرزق).

(٥) د، ومن نسخة بحواشي الأصل، ت، ف (يخبطون).

٤٣٨

بالسين غير معجمة(١) ، وذلك خطأ، وإنما أراد بالإشراف أني لا أستشرف وأتطلّع(٢) إلى ما فاتني من أمور الدنيا ومكاسبها، ولا تتبعها نفسي(٣) .

***

[أبيات للسيد المرتضى في معنى أبيات ثابت قطنة وعروة بن أذينة المذكورة:]

قال سيدنا أدام الله تأييده: ولي أبيات في معنى بعض أبيات ثابت قطنة، وعروة بن أذينة التي تقدمت، وهي من جملة قصيدة طويلة خرجت عنّي منذ اثنتي عشرة سنة؛ والأبيات:

تعاقبني بؤس الزّمان وخفضه

وأدّبني حرب الزّمان وسلمه

وقد علم المغرور بالدّهر أنّه

وراء سرور المرء في الدّهر غمّه

وما المرء إلاّ نهب يوم وليلة

تخبّ به شهب الفناء ودهمه(٤)

يعلّله برد الحياة يمسّه

ويغترّه روح النّسيم يشمّه(٥)

وكان بعيدا عن منازعة الرّدى

فألقته في كفّ المنيّة أمّه(٦)

ألا إنّ خير الزّاد ما سدّ فاقة

وخير تلادي الّذي لا أجمّه(٧)

وإنّ الطّوى بالعزّ أحسن بالفتى

إذا كان من كسب المذلّة طعمه(٨)

وإني لأنهى النّفس عن كلّ لذّة

إذا ما ارتقى منها إلى العرض وصمه

وأعرض عن نيل الثّريّا إذا بدا

وفي نيله سوء المقال وذمّه

أعفّ وما الفحشاء عنّي بعيدة

وحسبي في صدّ عن الأمر إثمه(٩)

____________________

(١) حاشية ت (من نسخة): (المعجمة).

(٢) حاشية ت (من نسخة): (وأطلع).

(٣) حواشي الأصل، ت، ف: (العجب من تخطئة السيدرضي‌الله‌عنه رواية من روى بالسين المهملة؛ وهو أكثر الروايات، ومعناه واضح).

(٤) حاشية الأصل: (دهمه؛ جمع أدهم؛ وهو كناية عن الليل والنهار).

(٥) من نسخة بحواشي الأصل، ت، ف: (برد النسيم).

(٦) ت، حاشية الأصل (من نسخة) (من منازعة الردى).

(٧) حواشي الأصل، ت، ف: (أي لا أتركه يجم ويكثر، من جم الماء يجم جموما؛ إذا كثر واجتمع، ولا يبعد أن يكون من أجممت الفرس، أي أرحته).

(٨) ت: (كسب المنية).

(٩) حاشية الاصل: (ذكر الفحشاء دليل على شبابه، وكناية عنه).

٤٣٩

وما العفّ من ولى عن الضّرب سيفه

ولكنّ من ولى عن السّوء حزمه

ولى في معنى قوله: (وما الإشراف من خلقي):

ما خامر الرّزق قلبي قبل فجأته

ولا بسطت له في النّائبات يدي

كم قد ترادف لم أحفل زيادته

ولو تجاوزني ما فتّ من عضدي

إن أسخط الأمر أدرك عنه مضطربا

وإن أرد بدلا من مذهب أجد(١)

ومعنى (ما خامر الرّزق قلبي) أي لم أتمنّه، ولا تطلّعت إلى حضوره، ولا خطر لي ببال تنزّها وتقنعا؛ والوجه في تخصيص نفي بسط اليد بالنوائب، لأن النوائب(٢) يضرع عندها في الأكثر المتنزّه، ويطلب المتعفّف؛ فمن لزم النزاهة مع الحاجة وشدّة الضرورة فهو الكامل المروءة.

ومعنى البيت الثاني ظاهر.

فأما الثالث فالمراد به أنني ممّن إذا كره شيئا تمكّن من مفارقته والنزوع عنه، ولست ممّن تضيق حيلته، وتقصر قدرته عن استدراك ما يحب بما يكره. وفيه فائدة أخرى، وهي أنني ممن لا تملكه العادات، وتقتاده الأهواء؛ بل متى أردت مفارقة خلق إلى غيره، وعادة إلى سواها لم يكن ذلك عليّ متعذّرا؛ من حيث كان لرأيي على هواي السلطان والرجحان.

***

[خبر عروة بن عبيد الله عن عروة بن أذينة وروايته أبياتا له:]

أخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال حدثني محمد بن إبراهيم قال حدثنا أحمد بن يحيى النحوي قال أخبرنا الزبير بن بكّار قال حدّثني عروة بن عبيد الله بن عروة بن الزبير قال: كان عروة ابن أذينة نازلا مع أبي في قصر عروة بالعقيق، فسمعته ينشد لنفسه:

إنّ الّتي زعمت فؤادك ملّها

خلقت هواك كما خلقت هوى لها(٣)

____________________

(١) ت، وحاشية الأصل (من نسخة): (إن أسخط الرزق).

(٢) حاشية ت (من نسخة): (أن النوائب).

(٣) الأبيات في زهر الآداب: ١٦٦ (طبعة الحلبي)، وبعضها في أمالي القالي ١: ١٥٦، والموشح: ٢٣٠، وحماسة أبي تمام - بشرح التبريزي ٣: ٢١ - ٢١٣. ونسب ابن قتيبة في الشعراء: ٥٥٤ أبياتا منها للمجنون. والهوى، بمعنى المهوي.

٤٤٠