أمالي المرتضى الجزء ١

أمالي المرتضى11%

أمالي المرتضى مؤلف:
تصنيف: مكتبة اللغة والأدب
الصفحات: 679

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 679 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 322851 / تحميل: 11598
الحجم الحجم الحجم
أمالي المرتضى

أمالي المرتضى الجزء ١

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

وثانيها أن القوم إنما سألوه عن الرّوح: هل هي محدثة مخلوقة أو ليست(١) كذلك؟

فأجابهم إنها من أمر ربي، وهو جوابهم عما سألوه(٢) عنه بعينه؛ لأنّه لا فرق بين أن يقول في الجواب: إنها محدثة مخلوقة، وبين قوله إنها من أمر ربّي؛ لأنه إنما أراد أنها من فعله وخلقه، وسواء على هذا الجواب أن تكون الرّوح التي سألوا عنها هي التي بها قوام الجسد أم عيسىعليه‌السلام ، أم جبرئيل صلى الله عليه. وقد سمّى الله تعالى جبرئيل روحا، وعيسى أيضا مسمّى بذلك في القرآن.

وثالثها أنهم سألوا عن الرّوح الّذي هو القرآن، وقد سمّى الله القرآن روحا في مواضع من الكتاب؛ وإذا كان السؤال عن القرآن فقد وقع الجواب موقعه، لأنه قال لهم:

الروح(٣) الّذي هو القرآن من أمر ربّي، ومما(٤) أنزله على نبيه صلى الله عليه؛ ليجعله دلالة وعلما على صدقه، وليس من فعل المخلوقين، ولا ممّن يدخل في إمكانهم؛ وهذا جواب الحسن البصري.

ويقويه قوله تعالى بعد هذه الآية:( وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ، ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً ) . [الإسراء: ٨٦]. فكأنّه قال تعالى: إن القرآن من أمري وفعلي(٥) وممّا أنزلته علما على نبوّة رسولي، ولو شئت لرفعته وأزلته وتصرّفت فيه؛ كما يتصرّف الفاعل فيما يفعله.

____________________

 - لها جباء؛ وهي من رستاق كارور من ناحية الأهواز، ويقال لأهل هذه الناحية الربعيون؛ لأنهم كانوا استنفروا ليقاتلوا الحسينعليه‌السلام ، فجاءوا وقد فرغ من أمره، فطلبوا الأجرة، فقال ابن زياد: إنكم لم تبلوا بلاء، وأعطى كل واحد منهم ربع دينار. قال دامت أيامه: أخبرني بذلك العراقي العلوي البصري).

وكانت وفاة أبي علي هذا في سنة ٣٠٦. (وانظر ترجمته في ابن خلكان: ٤٨٠ - ٤٨١).

(١) ف، حاشية الأصل (من نسخة): (أم ليست).

(٢) ت، ف: (سألوا عنه).

(٣) حاشية الأصل (من نسخة): (إن الروح).

(٤) ش: (وما أنزله).

(٥) حاشية الأصل: (ليس في الآية دليل على قوله:" وفعلي"؛ كتب هذا الشيخ عبد الرحيم البغدادي رحمه الله على حواشي نسخة السيد الإمام).

٤١

فصل [تأويل قوله تعالى:( وَالأرْضَ مَدَدْناها ... ) ]

قال الشّريف المرتضىرضي‌الله‌عنه : قال أبو مسلم محمد بن بحر الأصبهاني(١) في قوله تعالى:( وَالأرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ ) . [الحجر: ١٩]؛ قال: إنما خصّ الموزون دون المكيل بالذّكر لوجهين:

أحدهما أن غاية المكيل تنتهي إلى الوزن لأن سائر المكيلات إذا صارت طعاما دخلت في باب الوزن وخرجت عن باب الكيل؛ فكأنّ الوزن أعمّ من الكيل.

والوجه الآخر أن في الوزن معنى الكيل؛ لأن الوزن هو طلب مساواة الشيء بالشيء.

ومقايسته إليه، وتعديله به؛ وهذا المعنى ثابت في الكيل، فخصّ الوزن بالذّكر لاشتماله على معنى الكيل.

هذا قول أبي مسلم، ووجه الآية وما يشهد له ظاهر لفظها غير ما سلكه أبو مسلم، وإنما أراد تعالى بالموزون المقدّر الواقع بحسب الحاجة؛ فلا يكون ناقصا عنها، ولا زائدا عليها زيادة مضرّة أو داخلة في باب العبث. ونظير ذلك من كلامهم(٢) قولهم: كلام فلان(٣) موزون، وأفعاله مقدّرة موزونة؛ وإنما يراد ما أشرنا إليه، وعلى هذا المعنى تأوّل المفسرون ذكر الموازين في القرآن على أحد التأويلين، وأنها التعديل والمساواة بين الثّواب والعقاب، قال الشاعر(٤) :

لها بشر مثل الحرير ومنطق

رخيم الحواشي لا هراء ولا نزر

والهراء: الكثير، والنزر: القليل؛ فكأنه قال: إن حديثها لا يقلّ عن الحاجة

____________________

(١) كان أبو مسلم الأصبهاني على مذهب المعتزلة؛ وصنف التفسير على طريقتهم، وتوفي سنة ٣٧٠.

(لسان الميزان ٥: ٨٩).

(٢) ش: (في كلامهم).

(٣) حاشية الأصل (من نسخة): (زيد).

(٤) في م، وحاشيتي الأصل، ف: (وهو ذو الرمة)؛ والبيت في ديوانه: ٢١٢.

٤٢

ولا يزيد عليها؛ وهذا يجرى مجرى أن تقول: هو موزون. وقال مالك بن أسماء ابن خارجة الفزاري(١) :

وحديث ألذّه هو ممّا

ينعت الناعتون يوزن وزنا(٢)

منطق صائب وتلحن أحيا

نا وخير الحديث ما كان لحنا

وهذا الوجه الّذي ذكرناه أشبه بمراد الله تعالى في الآية، وأليق بفصاحة القرآن وبلاغته الموفيتين(٣) على فصاحة سائر الفصحاء وبلاغتهم؛ فأمّا قول الشاعر الّذي استشهدنا بشعره: (وتلحن أحيانا) فلم يرد اللّحن في الإعراب الّذي هو ضد الصواب(٤) ؛ وإنما أراد الكناية عن الشيء والتعريض بذكره والعدول عن الإفصاح عنه؛ على معنى قوله تعالى:( وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ) . [محمد: ٣٠]، وقول الشاعر(٥) :

ولقد وحيت لكم لكيما تفطنوا

ولحنت لحنا ليس بالمرتاب(٦)

وقد قيل: إن اللحن الّذي عني في البيت هو الفطنة وسرعة الفهم؛ على ما روي عن

____________________

(١) هو مالك بن أسماء بن خارجة بن حصن الفزاري؛ شاعر إسلامي غزل. (الشعر والشعراء ٧٥٦ - ٧٥٨).

(٢) حواشي الأصل، ت، ف: (حديث معطوف على كلام قبله؛ أي لها وجه، ولها حياء، ولها حديث، أو مثل ذلك. وقوله: (ألذه)، أي أستلذه؛ يقال: لذذت به ولذذته، وقوله: (مما ينعت الناعتون)، أي مما ينعته الناعتون. وقوله: (مما يوزن وزنا)، أي موزونا، فهو في موضع الحال).

(٣) حاشية الأصل: (الموفيتين: المشرفتين).

(٤) حواشي الأصل، ت، وف: (المسألة محتملة لأنه يريد باللحن ضد صواب الإعراب؛ لأن مقابل المنطق الصائب الملحون، واللحن من الغواني والفتيات غير مستكره ولا منكر، بل قد يستحب ذلك منهن؛ لأنه بالتأنيث أشبه، وللشهوة ادعى، ومع الغزل أحرى؛ والإعراب جد، وليس الجد من التعشق والتغزل بشيء، ثم ما الموجب لأن يتمحل للبيت وجه يسلبه حسن الطباق؟ ولو أراد به الملاحنة التي هي الفطانة لكان ملغيا بذكر اللحن؛ لأن اللحن في هذا المعنى صائب، فيذهب الاتساق بذهاب الطباق؛ فبان لك أن المعنى هو اللحن الّذي يضاد صواب الإعراب وإقامته؛ وإن كان كذلك المعنى الثاني محتملا).

(٥) هو القتال الكلابي؛ والبيت في (الأمالي ١: ٥، واللسان - لحن)، وقبله:

هل من معاشر غيركم أدعوهم

فلقد سئمت دعاء يالكلاب!

 (٦) حاشية الأصل: (الوحي: الإشارة والرسالة والكلام الخفي؛ يقال: وحيت إليه في الكلام، -

٤٣

[تفسير معنى (اللحن) عند العرب:]

النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لعلّ أحدكم أن يكون ألحن بحجّته) أي أفطن لها، وأغوص عليها.

ومما يشهد بما ذكرناه ما أخبرنا به أبو عبيد الله محمد بن عمران بن موسى المرزباني(١) قال حدّثنا أحمد بن عبد الله العسكري قال حدثنا العنزي قال حدثنا علي بن إسماعيل اليزيدي قال أخبرنا إسحاق بن إبراهيم قال: تكلّمت هند بنت أسماء بن خارجة فلحنت، وهي عند الحجاج، فقال لها: أتلحنين وأنت شريفة في بيت قيس؟! فقالت: أما سمعت قول أخي مالك لامرأته الأنصارية؟ قال: وما هو؟ قالت: قال(٢) :

منطق صائب وتلحن أحيا

نا وخير الحديث ما كان لحنا

فقال لها الحجاج: إنما عنى أخوك اللحن في القول؛ إذا كنّى المحدّث عمّا يريد، ولم يعن اللحن في العربية(٣) ، فأصلحي لسانك.

وقد ظنّ عمرو بن بحر الجاحظ مثل هذا بعينه وقال: إن اللّحن مستحسن(٤) في النساء الغرائر(٥) ، وليس بمستحبّ منهن كلّ الصواب والتشبّه بفحول الرجال، واستشهد بأبيات مالك بعينها، وظن أنه أراد باللحن ما يخالف الصواب(٦) . وتبعه على هذا الغلط عبد الله ابن مسلم بن قتيبة الدينوري، فذكر في كتابه المعروف بعيون الأخبار(٧) أبيات الفزاري، واعتذر بها من لحن إن أصيب في كتابه.

قال الشريف المرتضىرضي‌الله‌عنه : وأخبرنا المرزباني قال أخبرني محمد بن يحيى

____________________

 - وأوحيت بمعنى؛ وقوله: المرتاب، يجوز أن يكون المرتاب مصدرا كالارتياب، ويجوز أن يكون مفعولا، والتقدير: ليس بالمرتاب فيه).

(١) هو أبو عبيد الله محمد بن عمران بن موسى المرزباني الكاتب صاحب كتاب الموشح ومعجم الشعراء وغيرهما من المصنفات؛ روى عن ابن دريد وطبقته، وكان مائلا إلى التشيع، وهو أحد شيوخ الشريف المرتضى؛ توفي سنة ٣٨٤. (ابن خلكان ١: ٥٠٧ - ٥٠٨).

(٢) حاشية ت (من نسخة): (قوله).

(٣) في نسخة بحواشي الأصل، ت، ف: (الإعراب).

(٤) في ت، ونسخة بحاشية الأصل: (من النساء).

(٥) حاشية الأصل: (جمع غريرة؛ وهي التي لم تجرب الأمور).

(٦) الخبر في (البيان والتبيين ١: ١٤٧).

(٧) عيون الأخبار ٢: ١٦١.

٤٤

الصّولي قال حدثني يحيى بن علي المنجّم قال حدثني أبي قال: قلت للجاحظ: مثلك في عقلك وعلمك بالأدب ينشد قول الفزاري ويفسّره على أنه أراد اللحن في الإعراب! وإنما أراد وصفها بالظّرف والفطنة وأنها تورّى(١) بما قصدت له وتتنكّب التصريح به، فقال له:

قد فطنت لذلك بعد، فقلت(٢) : فغيّره من كتابك، فقال: فكيف بما سارت به الركبان! قال الصّولي: فهو في كتابه على خطئه.

***

[خبر أسير بني العنبر في بكر بن وائل ورسالته إلى قومه وشرح ما فيه من كنايات]

 ومن حسن اللحن الّذي هو التعريض والكناية ما أخبرنا به أبو الحسن عليّ بن محمد الكاتب قال: حدّثنا محمد بن الحسن بن دريد الأزدي أنّ رجلا من بني العنبر حصل أسيرا في بكر بن وائل، فسألهم رسولا إلى قومه فقالوا: لا ترسل إلا بحضرتنا؛ لأنهم كانوا عزموا على غزو قومه، فخافوا أن ينذرهم؛ فجيء بعبد أسود، فقال له: أتعقل؟ قال: نعم؛ إني لعاقل، قال: ما أراك عاقلا، وأشار بيده إلى الليل فقال: ما هذا؟ فقال: هذا الليل، قال:

أراك عاقلا، ثم ملأ كفّيه من الرّمل فقال: كم؟ فقال: لا أدري وإنّه لكثير. فقال:

أيّما أكثر؟ النجوم أم النيران(٣) ؟ فقال: كلّ كثير، فقال: أبلغ قومي التحية، وقل لهم:

ليكرموا فلانا - يعني أسيرا كان في أيديهم من بكر - فإنّ قومه لي مكرمون، وقل لهم:

إن العرفج قد أدبي(٤) ، وشكت النساء؛ وأمرهم(٥) أن يعروا ناقتي الحمراء فقد أطالوا ركوبها، وأن يركبوا جملي الأصهب(٦) ، بآية ما أكلت معكم حيسا، واسألوا عن خبري أخي الحارث.

فلما أدّى العبد الرسالة إليهم قالوا: لقد جنّ الأعور، والله ما نعرف له ناقة حمراء ولا جملا أصهب، ثم سرّحوا العبد، ودعوا الحارث فقصّوا عليه القصّة، فقال: قد أنذركم،

____________________

(١) ت، وحاشية الأصل (من نسخة): (تورى عما قصدت).

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): (قلت).

(٣) م: (أم التراب).

(٤) في حاشيتي الأصل، ف: (العرفج:

جنس من الشوك، وأدبي الرمث إذا أشبه ما يخرج من ورقه الدبا، والدبا: صغار الجراد؛ وحينئذ يصلح أن يؤكل، والرمث: من مراعي الإبل؛ وهو من الحمض).

(٥) في نسخة بحواشي الأصل، ت، ف: (ومرهم).

(٦) في حاشيتي الأصل، ف: (الأصهب: ما اختلط البياض بحمرته).

٤٥

أمّا قوله: (أدبي العرفج) يريد أن الرجال قد استلأموا ولبسوا السلاح، وقوله: (شكت النساء)؛ أي اتخذن الشّكاء(١) للسّفر، وقوله: (الناقة الحمراء)، أي ارتحلوا عن الدّهناء. واركبوا الصّمّان(٢) ؛ وهو الجمل الأصهب(٣) . وقوله: (أكلت معكم حيسا) يريد أخلاطا من الناس قد غزوكم، لأن الحيس يجمع التمر والسمن والأقط. فامتثلوا ما قال، وعرفوا لحن كلامه.

تأويل خبر (*) [ (من أحبّنا أهل البيت؛ فليستعدّ للفقر جلبابا، أو تجفافا]

روى أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه غريب الحديث، عن أمير المؤمنينعليه‌السلام (٤) أنه قال: (من أحبّنا أهل البيت؛ فليستعدّ(٥) للفقر جلبابا، أو تجفافا(٦) ).

قال أبو عبيد: قد تأوّل بعض الناس هذا الخبر على أنه أراد به الفقر في الدّنيا، قال:

وليس ذلك كذلك؛ لأنّا نرى فيمن يحبّهم مثل ما نرى في سائر الناس، من الغنى والفقر، ولا تمييز(٧) بينهما، قال: والصّحيح أنه أراد الفقر في يوم القيامة، وأخرج الكلام مخرج الموعظة والنصيحة والحثّ على الطاعات، فكأنه أراد: من أحبنا فليعدّ لفقره يوم القيامة ما يجبره(٨) من الثّواب، والقرب إلى الله تعالى، والزّلف(٩) عنده.

____________________

(١) في حاشيتي الأصل، ف: (جمع شكوة، وهي السقاء الصغيرة).

(٢) حواشي الأصل، ت، ف: (الدهناء: هي أرض في بلاد تميم، يمد ويقصر. والصمان: أصله الأرض الغليظة، والصمان: موضع إلى جنب رمل عالج؛ وقال:

حتى أتى علم الدّهنا يواعسه

والله أعلم بالصّمّان ما جشموا

قوله: (يواعسه)، من الوعساء، وهي الرمل، وهو في موضع الحال، أي مواعسا آخذا في اللين من الأرض، وقوله: (ما جشموا) يجوز أن تكون (ما) استفهامية، ويجوز أن تكون بمعنى الّذي؛ وفي كلا الوجهين يكون نصبا لما دل عليه (أعلم) من الفعل).

(٣) حاشية ف: (أراد بالصمان الأرض؛ وكنى عنها بالجمل الأصهب).

* ف: قبل هذا العنوان: (مجلس آخر).

(٤) ت: (صلوات الله عليه).

(٥) حاشية الأصل (من نسخة): (فليعد).

(٦) التجفاف؛ بكسر الباء وفتحها: ما يجلل به الفرس من سلاح وآلة تقيه الجراح، وقد يلبسه الإنسان أيضا.

(٧) ت: (ولا نميز)، وفي ف، وحاشية الأصل (من نسخة): (ولا تميز).

(٨) في ف، ونسخة بحاشيتي الأصل، ت: (ما يجيره).

(٩) حاشية ت (من نسخة): (الزافي).

٤٦

قال أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة: وجه الحديث خلاف ما قاله أبو عبيد، ولم يرد إلا الفقر في الدّنيا؛ ومعنى الخبر أن من أحبّنا فليصبر على التقلّل من الدنيا والتقنّع فيها، وليأخذ نفسه بالكفّ عن أحوال الدنيا وأعراضها؛ وشبّه الصبر على الفقر بالتّجفاف أو الجلباب؛ لأنه يستر الفقر كما يستر الجلباب أو التّجفاف البدن. قال: ويشهد لصحة هذا التأويل ما روي عنهعليه‌السلام أنه رأى قوما على بابه، فقال: ياقنبر، من هؤلاء؟ فقال له قنبر: هؤلاء شيعتك، فقال: ما لي لا أرى فيهم سيما(١) الشيعة؟ قال:

وما سيما الشّيعة؟ قال: خمص البطون من الطّوى، يبس الشفاه من الظّما، عمش العيون من البكاء؛ هذا كله قول ابن قتيبة.

والوجهان جميعا في الخبر(٢) حسنان؛ وإن كان الوجه الّذي ذكره ابن قتيبة أحسن وأنصع(٣) .

ويمكن أن يكون في الخبر وجه ثالث تشهد بصحته اللّغة؛ وهو أن أحد وجوه معنى لفظة الفقر أن يحزّ أنف البعير حتى يخلص إلى العظم أو قريب منه، ثم يلوى عليه حبل، يذلّل بذلك الصّعب، يقال: فقره يفقره فقرا إذا فعل ذلك به، وبعير مفقور وبه فقرة، وكلّ شيء حززته وأثّرت فيه فقد فقّرته تفقيرا؛ ومنه سمّيت الفاقرة(٤) ، وقيل سيف مفقّر(٥) ؛ فيحمل(٦) القول على أنهعليه‌السلام أراد(٦) : من أحبّنا فليزمّ نفسه وليخطمها وليقدها إلى الطاعات، ويصرفها عمّا تميل طباعها إليه من الشّهوات، وليذللها على الصّبر عما كره منها، ومشقة ما أريد منها(٧) ؛ كما يفعل ذلك بالبعير الصّعب؛ وهذا وجه في الخبر ثالث لم يذكر، وليس يجب أن يستبعد حمل الكلام على بعض ما يحتمله إذا كان له شاهد

____________________

(١) حاشية ت (من نسخة): (سيمياء)، وفي حاشية الأصل: (سيما وسيمياء بمعنى).

(٢) حاشية ت (من نسخة): (في هذا الخبر).

(٣) في حاشيتي الأصل، ف: (نصع الخضاب، أي لمع وصار سواده براقا ناصعا).

(٤) حاشية الأصل: (الفاقرة: الداهية؛ وإنما سميت بذلك لأنها كاسرة فقار الظهر، من قولهم فقره، إذا أصاب فقار ظهره).

(٥) في حاشيتي الأصل، ف: (السيف المفقر: الّذي في متنه حزوز أي خطوط منقورة).

(٦ - ٦) ت: (فيحتمل القول أن يكونعليه‌السلام أراد).

(٧) ط، م: (بها)

٤٧

من اللغة وكلام العرب؛ لأن الواجب على من يتعاطى تفسير غريب الكلام والشّعر أن يذكر كلّ ما يحتمله الكلام من وجوه المعاني؛ فيجوز(١) أن يكون أراد المخاطب كلّ واحد منها منفردا، وليس عليه العلم بمراده بعينه؛ فإن مراده مغيّب عنه، وأكثر ما يلزمه ما ذكرناه من ذكر وجوه احتمال الكلام.

فصل [ذكر بعض أخبار الشعراء المتقدمين ممن كان على مذاهب أهل العدل]

قال الشريف المرتضىرضي‌الله‌عنه : وممّن كان من مشهوري الشعراء ومتقدّميهم على مذاهب أهل العدل ذو الرّمة؛ واسمه غيلان بن عقبة، وكنيته أبو الحارث، وذو الرّمة لقب لقّب به لبيت قاله، وهو قوله في صفة الوتد:

* أشعث(٢) باقي رمّة التّقليد*

والرّمة: القطعة البالية من الحبل؛ يقال: حبل أرمام؛ إذا كان ضعيفا باليا؛ وقيل إنه إنما لقّب بذي الرّمة لأنه كان - وهو غلام - يتفزّع، فجاءته أمّه بمن كتب له كتابا وعلّقته عليه برمّة من حبل؛ فسمّي ذا الرّمة.

ويشهد بمذهبه في العدل ما أخبرنا به أبو عبيد الله محمد بن عمران المرزباني قال حدّثنا ابن دريد قال حدثنا أبو عثمان الأشنانداني عن التّوزيّ عن أبي عبيدة قال:

اختصم رؤبة وذو الرّمّة عند بلال بن أبي بردة، فقال رؤبة: والله ما فحص طائر أفحوصا، ولا تقرمص سبع قرموصا(٣) إلاّ بقضاء من الله وقدر؛ فقال له ذو الرّمة: والله ما قدّر الله على الذّئب أن يأكل حلوبة(٤) عيائل(٥) ضرائك؛ فقال رؤبة: أفبقدرته أكلها؟ هذا كذب

____________________

(١) حاشية الأصل (من نسخة): (ويجوز).

(٢) حاشية الأصل: (بكسر الثاء؛ لأن قبله:

* وغير مشجوج القفا موتود* أشعث ...

وفي حاشية ف: (رمة التقليد؛ أي الرمة التي يجيء منها تقليد الوتد بها)، والبيت في ديوانه:

١٥٥.

(٣) في حاشيتي الأصل، ف (تقرمص؛ أي اتخذ قرموصا، وهو الموضع الّذي يأوي إليه).

(٤) في حاشيتي الأصل، ف: (الحلوبة: التي بها لبن يحلب؛ وأكثر ذلك في النوق، وقد تستعمل في غيرها).

(٥) في حاشيتي ت، ف: (عيال الرجل: من يعوله، وواحد العيال عيل، مثل جيد وجياد وجيائد. والضريك: الضرير البائس الفقير؛ ولا يصرف له فعل، ولا يقال: ضركه بمعنى ضره؛ والجمع ضرائك وضركاء).

٤٨

على الذئب ثان(١) ، فقال ذو الرّمّة: الكذب على الذّئب خير من الكذب على ربّ الذّئب.

وهذا الخبر صريح في قوله بالعدل واحتجاجه عليه، وبصيرته فيه؛ فأما العيائل فهو جمع عيّل، وهو ذو العيال. والضرائك: جمع ضريك وهو الفقير.

قال الشريف المرتضىرضي‌الله‌عنه : وأخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال حدّثنا أحمد ابن محمد المكي عن أبي العيناء عن الأصمعي عن إسحاق بن سويد قال: أنشدني ذو الرّمة:

وعينان قال الله كونا فكانتا

فعولان بالألباب ما تفعل الخمر(٢)

فقلت له: (فعولين) خبر الكون، فقال لي: لو سبّحت ربحت، إنما قلت: (وعينان فعولان) وصفتهما بذلك. وإنما تحرّز ذو الرّمة بهذا الكلام من القول بخلاف العدل.

وقد روى هذا الخبر على خلاف هذا الوجه(٣) ؛ أخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال حدثني أحمد بن خالد النحاس(٤) قال حدّثني(٥) محمد بن القاسم أبو العيناء قال حدّثنا الأصمعي قال: لما أنشد ذو الرّمة قوله:

وعينان قال الله كونا فكانتا

فعولين بالألباب ما تفعل الخمر

- وهو يريد: كونا فكانتا فعولين حيث كانتا(٦) - قال له عمرو بن عبيد(٧) : ويحك! قلت عظيما، فقل: (فعولان بالألباب)، فقال له ذو الرّمة، ما أبالي: أقلت هذا أم سبّحت، فلما علم بما ذهب إليه عمرو قال: سبحان الله! لو عنيت ما ظننت كنت جاهلا.

____________________

(١) حواشي الأصل، ت، ف: (قوله (ثان) لا يعني أنه كذب على الذئب مرتين؛ وإنما المعنى: إنك كاذب على الخلق في أن أفعالهم ليست بفضاء من الله وقدر؛ لأنه وإن ذكر الطائر والسبع؛ فإنه يعني به الخلق؛ ثم لما ذكر ذو الرمة الذئب قال رؤبة: هذا كذب على الذئب ثان لذلك الكذب الأول الّذي استشهدت عليه بالطائر والسبع).

(٢) ديوانه: ٢١٣.

(٣) الخبر في (الأغاني ١٦: ١١٧)، وفيه: (لو قلت: سبحان الله، والحمد للّه، ولا إله إلا الله، والله أكبر؛ كان خيرا لك).

(٤) حاشية ت (من نسخة): (النخاس).

(٥) حاشية ت (من نسخة): (حدثنا).

(٦) ت (خبر كانتا)، ولعله تحريف.

(٧) حاشية الأصل: (كان معتزليا عدليا).

٤٩

قال الشريف المرتضىرضي‌الله‌عنه : وممّن روى أنه كان على مذاهب أهل العدل من شعراء الطبقة الأولى أعشى(١) قيس بن ثعلبة، واستشهد بقوله:

استأثر الله بالوفاء وبال

عدل وولّى الملامة الرّجلا(٢)

[ذكر بعض أخبار الشعراء المتقدمين ممن كان على مذهب أهل الجبر]

وممّن قيل إنه كان على مذاهب أهل الجبر من المشهورين أيضا لبيد بن ربيعة العامري، واستدلّ بقوله:

إنّ تقوى ربّنا خير نفل

وبإذن الله ريثي وعجل(٣)

من هداه سبل الخير اهتدى

ناعم البال ومن شاء أضلّ

وإن كان لا طريق(٤) إلى نسب الجبر إلى مذهب لبيد إلا هذان البيتان فليس فيهما دلالة على ذلك، أما قوله:

* وبإذن الله ريثي وعجل*

فيحتمل أن يريد: بعلمه؛ كما يتأول عليه قوله تعالى: وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاّ بِإِذْنِ الله [البقرة: ١٠٢]؛ أي بعلمه، وإن قيل في هذه الآية، إنه أراد: بتخليته وتمكينه، وإن كان لا شاهد لذلك في اللغة أمكن مثله في قول لبيد؛ فأما قوله: (من هداه اهتدى ومن شاء أضل) فيحتمل أن يكون مصروفا إلى بعض الوجوه التي يتأول عليها الضّلال والهدى المذكوران في القرآن؛ مما يليق بالعدل ولا يقتضي الإجبار؛ اللهم إلا أن يكون مذهب لبيد في الإجبار معروفا بغير هذه الأبيات؛ فلا يتأوّل له هذا التأويل؛ بل يحمل مراده على موافقة المعروف من مذهبه.

____________________

(١) حاشية الأصل: (قبيلة الأعشى).

(٢) ديوانه ١٥٥؛ وفي حاشيتي الأصل، ف: (استأثر الله؛ تستعمل مع الباء؛ يقال: استأثر الله به).

(٣) ديوانه: ٣٩.

(٤) حاشية الأصل (من نسخة): (لا سبيل).

٥٠

مسألة [في الاستدلال على نفي الرؤية بالأبصار]

قال الشّريف المرتضىرضي‌الله‌عنه : اعلم أن أصحابنا لما استدلّوا على نفي الرؤية بالأبصار عن الله تعالى بقوله:( لا تُدْرِكُهُ الأبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) [الأنعام: ١٠٣]، وبينوا أنه تعالى تمدّح بنفي الإدراك(١) الّذي هو رؤية البصر عن نفسه على وجه يرجع إلى ذاته؛ فيجب أن يكون في ثبوت الرؤية له في وقت من الأوقات نقص وذمّ. قال لهم مخالفوهم: كيف يتمدّح بأنه لا يرى، وقد يشاركه في نفي الرؤية ما ليس بممدوح؛ كالمعدومات والإرادات والاعتقادات؟ فقالوا لهم: لم يتمدّح تعالى بنفي الرؤية فقط، وإنما تمدّح بنفي الرؤية عنه وإثباتها له، فتمدّحه بمجموع(٢) الأمرين؛ وليس يشاركه في هاتين الصفتين مشارك؛ لأن الموجودات المحدثات على ضروب؛ منها ما لا يرى ولا يرى كالإرادات والاعتقادات، ومنها ما يرى ولا يرى كالألوان، ومنها ما يرى ويرى كالإنسان وضروب الأحياء؛ وليس فيها ما يرى ولا يرى؛ فثبتت المدحة للّه تعالى بمتضمّن الآية.

فقال لهم المخالفون: وكيف يجوز أن تكون صفة لا تقتضي المدحة بانفرادها، ثم تصير تقتضيها مع غيرها! ولئن جاز هذا ليجوزنّ أن يتمدّح متمدح بأنه شيء عالم، أو موجود قادر؛ فإذا كان لا مدحة في وصف الذات بأنها شيء وموجودة(٣) ، وإن انضمّت إلى صفة مدح من حيث كانت بانفرادها لا تقتضي مدحا، فكذلك لا مدحة في نفي الرؤية عمّن ثبتت(٤) له، من حيث كانت بانفرادها لا تقتضي مدحا.

فأجاب أصحابنا عن هذا الكلام بأن قالوا: ليس يمتنع في الصّفة أن تكون لا تقتضي مدحا إذا انفردت، وتقتضيه إذا انضمت إلى غيرها، ومثّلوا ذلك بقوله تعالى:( لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ ) [البقرة: ٢٥٥]. وإنّ نفي السّنة والنّوم هاهنا إنما يكون مدحا إذا انتفى عمّن هو بصفة الأحياء، وإن كان بانفراده لا يقتضي مدحا لمشاركة ذوات كثيرة غير

____________________

(١) ت: (بنفي إدراك البصر).

(٢) ت: (جميع)؛ وفي حاشيتها (من نسخة): (فتمدح بمجموع الأمرين).

(٣) د، ونسخة بحواشي الأصل، ت، ف: (بأنها شيء موجود).

(٤) ش: (تثبت).

٥١

ممدوحة فيه، وفصلوا بين الوصف بالشيء والوجود، وبين ما ذكروا من حيث لا تأثير لهاتينك(١) الصّفتين في المدح.

واعلم أنّ صفات المدح المتضمنة للإثبات ما تكاد(٢) تفتقر إلى شرط في كونها مدحا.

وصفات النفي إذا كانت مدحا فلا بدّ فيها من شرط؛ وإنما افترق الأمران من حيث كان النّفي أعمّ من الإثبات؛ فيدخل تحته الممدوح وغير الممدوح، والإثبات أشدّ اختصاصا؛ ألا ترى أنّ ما ليس بعالم من الذّوات وليس بموجود أكثر مما ثبت له العلم والوجود منها؟

لأنّ الأول لا يكون إلا غير متناه، والثاني لا بدّ أن يكون متناهيا، فلما شملت صفات النفي الممدوح وغير الممدوح احتاجت إلى شرط يخصّصها.

وأنت إذا اعتبرت سائر صفات النّفي التي يتمدّح بها وجدتها مفتقرة إلى الشروط؛ ألا ترى أنّ من ليس بجاهل إنما يكون ممدوحا بهذا النفي إذا كان حيّا ذاكرا، ومن ليس بعاجز إنما يكون ممدوحا إذا كان أيضا موجودا حيا، ومن ليس بظالم إنما يكون ممدوحا إذا كان قادرا على الظلم وله دواع إليه، ولا بدّ في الشرط الّذي يحتاج إليه في صفات النفي حتى تكون مدحا من أن يكون أيضا إثباتا أو جاريا مجرى الإثبات، ولا يكون نفيا لأنه إن(٣) كان نفيا لم يتخصص، وساوى(٤) فيه الممدوح ما ليس بممدوح؛ مثال ذلك أنا إذا مدحنا غيرنا بأنه لا يظلم، وشرطنا في هذه المدحة أنه لم يدعه داع(٥) إلى الظلم لم تحصل المدحة، لأنه قد يشاركه في نفي الظلم ونفي الدواعي إليه ما ليس بممدوح، فلا بدّ من شرط يجري مجرى الإثبات؛ وهو أن تقول: وهو ممّن تدعوه الدواعي إلى الأفعال ويتصرّف فيها بحسب حاجته ودواعيه. فإذا صحّت هذه الجملة فالوجه أن نقول: إن المدحة في الآية إنما تتعلّق بنفي الإدراك عن القديم تعالى، لكن بشرط أن يكون مدركا، ولا نجعل(٦) كلّ

____________________

(١) في نسخة بحاشيتي ت، ف: (لتينك)، وفي حاشية ت أيضا (من نسخة أخرى): (لهاتين).

(٢) من نسخة بحواشي الأصل، ت، ف: (لا تكاد).

(٣) حاشية ت (من نسخة): (إذا).

(٤) حاشية ت (من نسخة): (وشارك).

(٥) ت: (لم يدعه الداعي).

(٦) في الأصل: (ونجعل)، وصححت في الحاشية، وفي حاشيتي الأصل، ف: (في النسخة المقروءة على السيدرضي‌الله‌عنه : (ولا نجعل)؛ كذا كان بخط الشجري، وفي نسخة ص أيضا).

٥٢

واحدة من الصفتين تقتضي المدح مجتمعا؛ مع أنّ كل واحدة لا تقتضيه على سبيل الانفراد.

وليس بمنكر أن يقتضي الشيء غيره بشرط متى وجد حصل المقتضي، وإذا لم يحصل(١) لم يحصل مقتضاه، ونفي السّنة والنوم والظلم عن الله تعالى إنما كان مدحا بشروط معروفة على نحو ما ذكرناه؛ وهذا التلخيص في هذا الموضع أولى وأحسم للشّبه(٢) مما تقدّم ذكره.

____________________

(١) في نسخة بحواشي الأصل، ت، ف: (لم يوجد).

(٢) حاشية ت (من نسخة): (للشبهة).

٥٣

[٣]

مجلس آخر(*) [المجلس الثالث:]

تأويل آية( فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ )

إن سأل سائل فقال: ما تقولون في قوله تعالى حكاية عن موسىعليه‌السلام :( فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ ) [الشعراء: ٣٢]، وقال في موضع آخر:( وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ ) (١) [القصص: ٣١].

والثّعبان هو الحيّة العظيمة الخلقة، والجانّ الصغير من الحيّات، فكيف اختلف الوصفان والقصة واحدة؟ وكيف يجوز أن تكون العصا في حالة واحدة من صفة ما عظم خلقه من الحيّات، وبصفة ما صغر منها؟ وبأي شيء تزيلون التناقض عن هذا الكلام؟.

الجواب: أول ما نقوله(٢) : إن الّذي ظنه السائل من كون الآيتين خبرا عن قصة واحدة باطل؛ بل الحالتان مختلفتان؛ فالحال(٣) التي أخبر عن العصا فيها بصفة الجان(٣) كانت في ابتداء النبوّة، وقبل مصير موسىعليه‌السلام إلى فرعون، والحال التي صارت العصا فيها ثعبانا كانت عند لقائه فرعون وإبلاغه الرسالة؛ والتلاوة تدلّ على ذلك؛ وإذا اختلفت القصّتان فلا مسألة.

على أن قوما من المفسّرين قد تعاطوا الجواب عن هذا السؤال؛ إمّا لظنّهم أن القصة واحدة، أو لاعتقادهم أن العصا الواحدة لا يجوز أن تنقلب في حالتين: تارة إلى صفة الجانّ،

____________________

* كذا في ت، وفي الأصل، ف: (مجلس آخر ثالث).

(١) حواشي الأصل، ت، ف: (لم يعقب: لم يرجع؛ وقيل لم يلتفت، وقيل لم يعطف ولم ينتظر؛ يقال: كر على القوم وما عقب. ويرى أهل النظر أنه مأخوذ من العقب؛ وروي عن سفيان: لم يعقب:

لم يمكث، ويقال: عقب في الأمر إذا تردد في طلبه مجدا؛ وقوله تعالى:( لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ) ؛ أي لا يحكم بعد حكمه حاكم، والمعقب: الّذي بكر على الشيء، وقوله تعالى:( لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ) ، أي للإنسان ملائكة يعقب بعضهم بعضا. وقال الفراء: ملائكة الليل تعقب ملائكة النهار؛ يعني أنهم يتعاقبون ليلا ونهارا).

(٢) ت، د: (أول ما نقوله في هذا).

(٣) ت: (فالحال التي أخبر أن العصا صارت فيها بصفة الجان ).

٥٤

وتارة إلى صفة الثعبان؛ أو على سبيل الاستظهار في الحجة، وأن الحال لو كانت واحدة على ما ظنّ لم يكن بين الآيتين تناقض؛ وهذا الوجه أحسن ما تكلّفوا الجواب لأجله؛ لأن الأولين لا يكونان إلا عن غلط أو غفلة، وذكروا وجهين تزول بكل واحد منهما الشبهة في تأويلها:

أحدهما أنه تعالى إنما شبّهها بالثعبان في إحدى الآيتين لعظم خلقها، وكبر جسمها، وهول منظرها؛ وشبّهها في الآية الأخرى بالجانّ لسرعة حركتها ونشاطها وخفّتها؛ فاجتمع لها مع أنها في جسم الثعبان وكبر خلقه نشاط الجان، وسرعة حركته؛ وهذا أبهر في باب الإعجاز، وأبلغ في خرق العادة؛ ولا(١) تناقض معه بين الآيتين؛ وليس يجب إذا شبّهها بالثعبان أن يكون لها جميع صفات الثعبان، ولا إذا شبّهها بالجان أن يكون لها جميع صفاته، وقد قال الله تعالى:( وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا ) . قوارير من فضّة [الدهر: ١٥، ١٦]. ولم يرد تعالى أنّ الفضّة قوارير على الحقيقة؛ وإنما وصفها بذلك لأنه اجتمع لها صفاء القوارير وشفوفها ورقّتها؛ مع أنها من فضة؛ وقد تشبّه العرب الشيء بغيره في بعض وجوهه؛ فيشبّهون المرأة بالظّبية والبقرة(٢) ونحن نعلم أن في الظباء والبقر من الصّفات ما لا يستحسن أن يكون في النساء، وإنما وقع التشبيه في صفة دون صفة، ومن وجه دون وجه(٣) .

والجواب الثاني أنه تعالى لم يرد بذكر الجانّ في الآية الأخرى الحيّة؛ وإنما أراد أحد الجنّ؛ فكأنه تعالى خبّر(٤) بأن العصا صارت ثعبانا في الخلقة وعظم الجسم؛ وكانت مع ذلك كأحد الجن في هول المنظر وإفزاعها لمن شاهدها؛ ولهذا قال تعالى:( فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ ) .

____________________

(١) حاشية الأصل (من نسخة): (فلا).

(٢) ت: (وبالبقرة).

(٣) ت: (دون آخر).

(٤) حاشية الأصل (من نسخة): (أخبر).

٥٥

ويمكن أن يكون في الآية تأويل آخر استخرجناه؛ إن لم يزد على الوجهين الأوّلين لم ينقص عنهما؛ والوجه في تكلّفنا له ما بيّناه من الاستظهار في الحجّة، وأنّ التناقض الّذي توهّم زائل على كل وجه(١) ؛ وهو أنّ العصا لما انقلبت حيّة صارت أولا بصفة الجانّ وعلى صورته؛ ثم صارت بصفة الثّعبان؛ على تدريج؛ ولم تصر كذلك ضربة واحدة؛ فتتّفق الآيتان على هذا التأويل، ولا يختلف حكمهما، وتكون الآية الأولى التي تتضمن ذكر الثعبان إخبارا عن غاية حال العصا، وتكون الآية الثانية تتضمّن ذكر الحال التي ولى موسى فيها هاربا؛ وهي حال انقلاب العصا إلى خلقة الجان؛ وإن كانت بعد ذلك الحال انتهت إلى صورة الثعبان.

فإن قيل على هذا الوجه: كيف يصح ما ذكرتموه مع قوله تعالى:( فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ ) ؛ وهذا يقتضي أنها صارت ثعبانا بعد الإلقاء بلا فصل؟ قلنا: تفيد(٢) الآية ما ظنّ؛ وإنما فائدة قوله تعالى:( فَإِذا هِيَ ) الإخبار) عن قرب الحال التي صارت فيها بتلك الصّفة؛ وأنّه لم يطل الزّمان في مصيرها كذلك، ويجري هذا مجرى قوله تعالى:( أَوَلَمْ يَرَ الآنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ) [يس: ٧٧]؛ مع تباعد ما بين كونه نطفة وكونه خصيما مبينا، وقولهم: ركب فلان من منزله فإذا هو في ضيعته، وسقط من أعلى الحائط فإذا هو في الأرض؛ ونحن نعلم أنّ بين خروجه من منزله وبلوغه ضيعته زمانا، وأنّه لم يصل إليها إلا على تدريج؛ وكذلك الهابط من الحائط؛ وإنما فائدة الكلام الإخبار عن تقارب الزّمان؛ وأنه لم يطل ولم يمتدّ.

____________________

(١) ت: (على كل حال).

(٢) ت (من نسخة): (تقدير).

٥٦

تأويل آية أخرى( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ )

قال الشريف المرتضىرضي‌الله‌عنه : قال الله تعالى:( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ. أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ) [الأعراف: ١٧٢، ١٧٣].

وقد ظنّ بعض من لا بصيرة له، ولا فطنة عنده أن تأويل هذه الآية أنّ الله تعالى استخرج من ظهر آدمعليه‌السلام جميع ذريته، وهم في خلق الذّرّ، فقرّرهم بمعرفته، وأشهدهم على أنفسهم.

وهذا التأويل - مع أنّ العقل يبطله ويحيله - مما يشهد ظاهر القرآن بخلافه؛ لأن الله تعالى قال:( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ ) ، ولم يقل: من آدم، وقال:( مِنْ ظُهُورِهِمْ ) ، ولم يقل: من ظهره، وقال:( ذُرِّيَّتَهُمْ ) ، ولم يقل: ذرّيته؛ ثم أخبر تعالى بأنه فعل ذلك لئلا يقولوا يوم القيامة: إنهم كانوا عن ذلك غافلين، أو يعتذروا بشرك آبائهم، وأنّهم نشئوا على دينهم وسنّتهم؛ وهذا يقتضي أنّ الآية لم تتناول ولد آدمعليه‌السلام لصلبه؛ وأنها إنما(١) تناولت من كان له آباء مشركون؛ وهذا يدلّ على اختصاصها ببعض ذرّية(٢) بني آدم؛ فهذه شهادة الظّاهر ببطلان تأويلهم، فأما شهادة العقول(٣) فمن حيث لا تخلو هذه الذّرّية التي استخرجت من ظهر آدمعليه‌السلام فخوطبت وقرّرت من أن تكون كاملة العقول، مستوفية لشروط التكليف؛ أو لا تكون كذلك(٤) .

فإن كانت بالصفة الأولى وجب أن يذكر هؤلاء بعد خلقهم وإنشائهم، وإكمال عقولهم ما كانوا عليه في تلك الحال، وما قرّروا به، واستشهدوا عليه؛ لأنّ العاقل لا ينسى ما جرى هذا المجرى، وإن بعد العهد وطال الزمان؛ ولهذا لا يجوز أن يتصرّف أحدنا في بلد من البلدان وهو عاقل كامل فينسى مع بعد العهد جميع تصرّفه المتقدّم وسائر أحواله.

____________________

(١) ساقطة من ت، ف.

(٢) ت: (ولد آدم).

(٣) ت: (العقل).

(٤) ت: (أو لا تكون كاملة العقول مستوفية لشروط التكليف).

٥٧

وليس أيضا لتخلّل الموت بين الحالين تأثير؛ لأنه لو كان تخلّل الموت يزيل الذكر لكان تخلّل النوم والسّكر والجنون والإغماء بين أحوال العقلاء يزيل ذكرهم لما مضى من أحوالهم؛ لأنّ سائر ما عددناه مما ينفي العلوم يجري مجرى الموت في هذا الباب. وليس لهم أن يقولوا:

إذا جاز في العاقل الكامل أن ينسى ما كان عليه في حال الطفوليّة جاز ما ذكرناه؛ وذلك أنّا إنما أوجبنا ذكر العقلاء لما ادّعوه إذا كملت عقولهم من حيث جرى لهم(١) وهم كاملو العقول، ولو كانوا بصفة الأطفال في تلك الحال لم نوجب عليهم ما أوجبناه.

على أن تجويز النّسيان عليهم ينقض الغرض في الآية، وذلك أنّ الله تعالى أخبر بأنه إنما قرّرهم وأشهدهم لئلا يدّعوا يوم القيامة الغفلة عن ذلك، وسقوط الحجّة عنهم(٢) فيه؛ فإذا جاز نسيانهم له عاد الأمر إلى سقوط الحجة وزوالها، وإن كانوا على الصّفة الثانية من فقد العقل وشرائط التكليف قبح خطابهم وتقريرهم وإشهادهم، وصار ذلك عبثا قبيحا؛ يتعالى الله عنه.

فإن قيل: قد أبطلتم تأويل(٣) مخالفيكم، فما تأويلها الصحيح عندكم؟ قلنا في هذه الآية وجهان:

أحدهما أن يكون تعالى إنما عنى جماعة من ذرّية بني آدم خلقهم وبلّغهم وأكمل عقولهم، وقرّرهم على ألسن(٤) رسلهعليهم‌السلام بمعرفته وما يجب(٥) من طاعته، فأقرّوا بذلك، وأشهدهم على أنفسهم به؛ لئلا يقولوا يوم القيامة إنّا كنّا عن هذا غافلين، أو يعتذروا بشرك آبائهم. وإنما أتى من اشتبه عليه تأويل الآية من حيث ظنّ أنّ اسم الذرية لا يقع إلاّ على من لم يكن كاملا عاقلا؛ وليس الأمر كما ظنّ؛ لأنّا نسمّي جميع البشر بأنهم ذرية آدم؛ وإن دخل فيهم العقلاء الكاملون، وقد قال الله تعالى:( رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ

____________________

(١) حاشية الأصل (من نسخة)، ت، ف: (عليهم).

(٢) ت، حاشية الأصل (من نسخة) (عليهم).

(٣) م: (قول).

(٤) ت، د، حاشية ف (من نسخة): (لسان).

(٥) د، ت: (وما يجب عليهم).

٥٨

جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ) [غافر: ٨].

ولفظ الصالح لا يطلق إلا على من كان كاملا عاقلا؛ فإن استبعدوا تأويلنا وحملنا الآية على البالغين المكلّفين؛ فهذا جوابهم.

والجواب الثاني أنّه تعالى لما خلقهم وركّبهم تركيبا يدلّ على معرفته ويشهد بقدرته ووجوب عبادته، وأراهم العبر والآيات والدّلائل في أنفسهم وفي غيرهم كان بمنزلة المشهد لهم على أنفسهم، وكانوا في مشاهدة ذلك ومعرفته وظهوره فيهم على الوجه الّذي أراده تعالى، وتعذّر امتناعهم منه، وانفكاكهم من دلالته بمنزلة المقرّ المعترف؛ وإن لم يكن هناك إشهاد ولا اعتراف على الحقيقة؛ ويجري ذلك مجرى قوله تعالى:( ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ ) [فصلت: ١١]، وإن لم يكن منه تعالى قول على الحقيقة، ولا منهما جواب، ومثله قوله تعالى:( شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ ) [التوبة: ١٧]. ونحن نعلم أنّ الكفار لم يعترفوا بالكفر بألسنتهم؛ وإنما(١) لما ظهر منهم ظهورا لا يتمكّنون من دفعه كانوا بمنزلة المعترفين به؛ ومثل هذا قولهم: جوارحي تشهد بنعمتك، وحالي معترفة بإحسانك. وما روي عن بعض الخطباء(٢) من قوله: سل(٣) الأرض: من شقّ أنهارك، وغرس أشجارك، وجنى ثمارك؟ فإن لم تجبك حوارا أجابتك اعتبارا.

وهذا باب كبير، وله نظائر كثيرة في النظم والنثر؛ يغني عن ذكر جميعها القدر الّذي ذكرناه منها.

____________________

(١) د، ونسخة بحاشيتي الأصل، ف: (وإنما ذلك).

(٢) في نسخة بحواشي الأصل، ت، ف: (الحكماء).

(٣) في نسخة بحواشي الأصل، ت، ف: (هذا من كلام الفضل بن عيسى بن أبان، ذكره في قصصه).

٥٩

تأويل خبر [ (ليس منّا من لم يتغنّ بالقرآن) ]

قال أبو عبيد القاسم بن سلاّم فيما يروى عن النبي صلى عليه وآله: (ليس منّا من لم يتغنّ بالقرآن). قال: أراد: يستغني به، واحتجّ بقولهم: تغنّيت تغنيا، وتغانيت تغانيا، وأنشد بيت الأعشى:

و

كنت امرأ زمنا بالعراق

عفيف المناخ طويل التّغنّ(١)

وقول الآخر:

كلانا غني عن أخيه حياته

ونحن إذا متنا أشدّ تغانيا(٢)

واحتجّ أيضا بقول ابن مسعود: (من قرأ سورة آل عمران فهو غني)، أي مستغن، وبالحديث الآخر: (نعم كنز الصّعلوك سورة آل عمران يقوم بها(٣) في آخر الليل)؛ والصّعلوك الفقير، واحتجّ بحديث آخر يروى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وسلم هو أنه قال: (لا ينبغي لحامل القرآن أن يظنّ أنّ أحدا أعطي أفضل مما أعطي، لأنّه لو ملك الدنيا بأسرها لكان القرآن أفضل ممّا ملكه). واحتجّ أيضا بخبر يرفعه(٤) عن عبد الله بن نهيك أنه دخل على سعد(٥) بيته(٦) ، فإذا مثال رثّ، ومتاع رثّ، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن).

قال أبو عبيد: فذكره المتاع الرثّ، والمثال الرثّ يدلّ على أن التغنّي بالقرآن الاستغناء به

____________________

(١) ديوانه: ٢٢، واللسان (غنى).

(٢) نسبه صاحب اللسان في (غنى) إلى المغيرة بن حبناء التميمي؛ وذكره المبرد في (الكامل ٣: ١٤ - بشرح المرصفي) ضمن أبيات لعبد الله ابن معاوية، أولها:

رأيت فضيلا كان شيئا ملفّفا

فكشّفه التّمحيص حتّى بدا ليا

وقبله:

فعين الرّضا عن كلّ عيب كليلة

ولكنّ عين السّخط تبدى المساويا

 (٣) حاشية الأصل: (بقراءتها).

(٤) في نسخة بحواشي الأصل، ت، ف: (يرويه).

(٥) حاشية الأصل: (هو سعد بن أبي وقاص).

(٦) كذا في الأصل، وحاشية ف؛ وفي د، ف، وحاشية ت (من نسخة): (في بيته).

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

أن يلغى نظام الربا من اول خطوة، وعند الغائه سوف يبرز الى الوجود نظام غير ربوي حسب متطلبات الحياة وتشريعات الاسلام.

وليس من السهل الغاء نظام الربا في حياة اقتصادية كهذه، فان للربا جذورا قوية في قلوب الافراد، فلابد أن يستعان بالاسلام في قراراته لمصارعة الربا، فان الاسلام لم يذكر معايب الربا فحسب وانما حرمه وبغضه الى النفوس وابطل الصفقات القائمة عليه بموجب القانون الالهي، فهو من الناحية التكليفية محرم ومن الناحية الوضعية باطل لايترتب عليه أي أثر. وأكثر من ذلك فان الاسلام اعتبر آخذ الربا ومعطيه وكاتبه وشاهديه قد فعلوا جريمة فلعنهم على لسان الحديث، ويعاقب الاسلام مرتكبي الربا بالقتل لا حرمة الربا من ضرورات الدين، فمستحله يدخل في سلك الكافرين، بالاضافة الى أن الاسلام اسس نظاما للمالية جعل قسما منه الزكاة وقسما منه الخمس، وهما لاصلاح عامة الناس وتربيتهم لتنمو في انفسهم صفات يجري فيها روح الايثار والتعاون والتكافل بعكس نتائج الربا المتقدمة، فالنظام الاسلامي هو المعين على ترك الربا.

ولكن يبقى التعجب من المسلمين في البلدان الاسلامية التي أخذت النظام الربوي من دون تفحص وروية، ونذكر هنا ماقاله السيد قطب «في عالم الاقتصاد لايلجأ الفرد الى الاستدانة، وله رصيد مذخور، قبل ان يراجع رصيده، فيرى ان كان فيه غناء... ولاتلجأ الدولة الى الاستيراد قبل أن تراجع خزائنها وتنظر في خدماتها ومقدوراتها كذلك، افلا يقوم رصيد الروح، وزاد الفكر ووراثات القلب والضمير، كما تقوم السلع والاموال في حياة الناس؟!... بلى! ولكن الناس في هذا العالم الذي يطلق عليه اسم (العالم الاسلامي) لاتراجع رصيدها الروحي وتراثها الفكري، قبل أن تفكر في استيراد المباديء والخطط واستعارة النظم والشرائع من خلف السهوب ومن وراء البحار!»(١) .

____________________

(١) العدالة الاجتماعية في الاسلام ص٣.

٤٢١

وحقا أن بلاد المسلمين اليوم تستورد المباديء والخطط وتستعير النظم من دون أن تراجع رصيدها الروحي والفكري وخططها ونظمها الاصلية في مبدئها الاسلام، وما نظام الربا الا من هذا القبيل، فان الربا انتشر انتشارا واسعا في الغرب وقامت المصارف الربوية هناك بشكل واسع وأخذها المسلمون منهم وأقرها القانون الوضعي في بلاد الاسلام من دون أن يراجعوا رصيدهم الذي يضمن لهم تقدما اقتصاديا مرموقا.

ولو راجعنا الخطط الاسلامية التي شرعها الاسلام للبشر لوجدنا نظام المضاربة «القراض» الذي شرعه الاسلام وهو خير بديل للنظام الربوي لانه يقوم على أساس المشاركة في الخسارة والربح، والنتائج المترتبة عليه تفوق النتائج المرتبة على النظام الربوي بالاضافة الى عدم وجود المساويء والهزات الاقتصادية التي هي موجودة في النظام الربوي كما تقدم.

بيت المال المركزي

ان بيت المال المركزي في الاسلام هو النموذج للمصرف المركزي الحديث، الا أن الفارق واضح وهو أن نظام بيت المال المركزي خال من عيوب نظام المصرف المركزي الحالي. ويمكن للمصارف الحالية أن تستمر في ظل الدولة الاسلامية بشرطين: يمكن أن نرجعهما الى شرط واحد وهو الغاء النظام الربوي، فينبغي الا تدفع اية فوائد للمودعين والاتتقاضى المصارف أية فوائد من عملائها. و«يوجد حاليا في انجلترا عدد من المصارف لاتدفع أية فوائد على الحسابات الجارية، والفوائد الضئيلة التي تدفع في انجلترا على الايداعات الثابتة، والتي تتراوح بين ربع في المائة او(١) في المائة، يمكن الغاؤها بسهولة دون أن يحدث ذلك أي أثر في المدخرات»(١) . وقد يتولد من هذا الذي

____________________

(١) الاسلام والربا/ص١٧٩.

٤٢٢

تقدم سؤال هو: لو كانت المصارف لاتأخذ فوائد على اقراض المال فكيف توجه تكاليف الانشاء والخدمات؟.

وجواب ذلك: ان خدمات المصارف التي فيها منافع كثيرة، يمكن أن تكون مثل كل الخدمات الضرورية كبناء المستشفيات وغيرها، ولماذا لاتتحمل الدولة نفقات الانشاء والخدمات؟ ويقوى هذا الجواب في ظل النظام الاسلامي فان المصارف ستكون قادرة على مواجهة جميع التكاليف وتكون عونا للامة.

وهذا يتم أيضا لو أصبحت المصارف شريكة في الصناعة والتجارة والاعمال على اساس المضاربة، فالمصارف يمكن لها أن تقدم الاموال للانتاج وتصبح شريكة بالربح والخسارة. ويمكنها أيضا أن تسحب الاموال من الافراد وتجعل نفسها وكيلة في اعطائها للانتاج مع أموالها ويكون الربح المتفق عليه مع المنتجين للمصرف ولاصحاب الاموال الذين جعلوا المصرف وكيلا عهم في المضاربة.

وهنا يوجد التوفيق بين المال والصناعة، وستكون ارباح المصارف نتيجة المضاربة أكثر من نفقات الانشاء والمصروفات الاخرى «ولو كان التعاون بين رأس المال والتجارة على الشروط المعقولة لسار ومازال يسير نظام الدنيا الاقتصادي على الطريق السوي بالامن والسلامة»(١) .

وعلينا هنا أن نعرض اعمال المصارف الربوية لنرى هل يمكن أن تسير عملياتها بدون ربا على اساس المضاربة وهي المشاركة في الربح والخسارة؟ وهذا يستدعي أن نسرح النظر في نظرية عقد المضاربة ايضا، فنعرضها اولا ثم نعرض اعمال المصارف التي يمكن أن تستبدل بنظام اسلامي.

____________________

(١) الربا المودودي ص٢٧.

٤٢٣

نظرية المضاربة «القرض»

ان مفهوم المضاربة في الفقه الاسلامي يختلف عن مصطلحها في الاقتصاد الحديث، فهي في الاقتصاد الحديث كما قدمنا «رغبة بعض الافراد في تحقيق الارباح عن طريق الاستفادة من تقلبات معدلات الفائدة الناجمة من تغيرات أسعار السندات»(١) .

أما في الفقه الاسلامي فهي عقد خاص بين مالك رأس المال والمستثمر، فيكون المال من الاول والعمل من الثاني لانشاء تجارة على أن تحدد حصة كل منهما من الربح بنسبة مئوية «ومعنى المضاربة في اللغة اتجار الانسان بمال غيره»(٢) وفي مجمع البحرين «المضاربة مفاعلة من الضرب في الارض والسير فيها للتجارة»(٣) .

وقبل أن تبدأ بعرض صورة المضاربة نبين موقفين من الطريقة الوقائية التي يتبعها الاسلام في تشريعاته الاقتصادية وهما:

١ - الموقف السلبي: وهو الوقوف امام مناشيء المشاكل الاقتصادية واسبابها وتحريمها، واعتبار المعاملات القائمة عليها باطلة، أي لانرتب الاثر على المعاملات غير المشروعة. ويدخل في ضمن هذا الموقف السلبي تحريم الربا، فان الاسلام وقف امام اهم مناشىء المرض الاقتصادي الفاتك وهو الربا فحرمه تحريما قاطعا.

٢ - الموقف الايجابي: وهو «تشريع معاملات اقتصادية حرة عادلة تقوم

____________________

(١) الدخل القومي والاستثمار ص١٧٣.

(٢) المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الاسلامية/ د. محمد العربي ص٨٣.

(٣) ج٢ باب ضرب ص١٠٧.

٤٢٤

بدور تداول الثروة وتوزيعها بين أبناء الامة بالشكل الذي يحقق التوازن الاقتصادي للمجتمع»(١) .

ويدخل في ضمن هذا الموقف الايجابي نظرية المضاربة فانها معاملة اقتصادية عادلة حرة تقوم بتوزيع الثروة على ابناء الامة بالشكل الذي يحقق التوازن الاقتصادي.

والطريقة الوقائية المتقدمة بقسميها مع الطريقة العلاجية - وهي التي تحل المشاكل وتعالجها - طريقتان عامتان يتبعهما الاسلام في تشريعاته الاقتصادية.

والصورة العامة للمضاربة في الفقه الاسلامي هي: ان المضاربة من العقود الدائرة بين النفع والضرر، وتنقسم الى قسمين: مطلقة ومقيدة، فالمطلقة هي التي لاتتقيد بزمان ولابمكان ولابنوع التجارة وغير ذلك، والمقيدة هي التي تتقيد ببعض القيود كزمان او مكان خاصين او بنوع من انواع التجارة دون الباقي. ويشترط ان يكون رأس المال(٢) معلوما ببيان قدره ووصفه ونوعه او بالاشارة اليه، ويشترط أن يكون الربح مشاعا كالنصف او الثلث او غير ذلك لاحدهما والباقي للاخر، لانه يحتمل أن الربح لايأتي زائدا على ذلك المقدار المعين بغير الاشاعة، فيفوت الغرض من المضاربة، والمضارب ليس له الا من الربح فلو اشترط شيئا من راس المال فسدت المضاربة، وكذلك يبطل اشتراط الخسارة

____________________

(١) مجلة النجف/ عبد الهادي الفضلي محاضرة المضاربة ودورها في تداول توزيع الثروة ص٤٥ - ٤٦.

(٢) ذكروا أن المال لابد أن يكون ذهبا أو فضة مسكوكين، ولكن بعض الفقهاء ذكروا جريان المضاربة بهذه الاوراق النقدية المتداولة، وقد يكون دليل الاول انصراف لفظة المال الى الذهب والفضة ولكن نقول الاطلاق محكم، وحتى مع عدم وجود الاطلاق فالمضاربة بالنقود الورقية عقد لم يردع عنه فيشمله «أوفوا بالعقود».

٤٢٥

على المضارب، والمضارب امين على راس المال وهو كالوكيل من جهة تصرفه فيه، ولو خسرت المضاربة فالخسارة تقع على راس المال لا على العامل لان العامل خسر عمله. وان بقي رأس المال كما هو لم يربح ولم ينقص لم يكن لصاحب المال الا المال وليس للعامل شيء. وتتكون عملية المضاربة من المضارب والمضارب، ويمكن أن تكون من ثلاثة أو أكثر، وقد يكون احد الاطراف مشرفا في عملية المضاربة بالاضافة الى كونه عضوا، فمثلا قد تتكون المضاربة من:

١ - المضارب، مثل العامل او المستثمر.

٢ - المضارب مثل المودع في البنك الذي يجعل البنك وكيلا مطلقا في المضاربة بها.

٣ - الوسيط ويمكن ان يكون هو البنك او أي وسيط آخر يستطيع أن يجمع الاموال ويفتش عن المستثمرين، وقد يكون البنك وكيلا عن المودعين في عملية المضاربة وأصيلا عن نفسه فيما اذا جعل من أمواله مع أموال المودعين في عملية المضاربة.

عناصر المضاربة

وتتكون المضاربة من عناصر مهمة دخيلة في تكوينها هي:

١ - صاحب المال

٢ - المال

٣ - العامل

٤ - العمل

٥ - توزيع الربح بالنسبة

٦ - الايجاب

٧ - القبول.

وقد ذكر السيد الاستاذ الصدر (قده) شروطا للاعضاء المشتركين في عملية المضاربة التي تحل محل النظام الربوي «في صورة كون البنك وكيلا عن المودعين في انشاء عقد المضاربة» ويمكن أن تجعل شروطا في عمليات المضاربة مطلقا وهي:

٤٢٦

شروط المودع (المضارب)

١ - «أن يلتزم المودع بملزم شرعي بابقاء وديعته مدة لاتقل عن ستة أشهر تحت تصرف البنك» والملزم الشرعي يمكن أن يكون شرطا في ضمن عقد.

٢ - «أن يقر المودع ويوافق على الصيغة التي يقترحها البنك للمضاربة والشروط التي تتبنى ادراجها في تلك الصيغة» ولايتبادرالى الذهن أن مثل هذا العقد يكون شبيها بعقود الاذعان، لان الشروط المقررة هنا لصالح الطرفين ولانجاح المشروع من دون تغليب لصالح طرف البنك او المضارب بعكس شروط الاذعان. وقد يوجد هذان الشرطان فيما اذا وكل صاحب المال البنك في عملية عقد المضاربة واشترط البنك على صاحب المال عدم الفسخ لمدة معينة.

شروط المستثمر (المضارب)

١ - أن يكون أمينا، ويشهد على أمانته ووثاقته شخصان يعرفهما البنك.

٢ - أن تكون له كفاءة وقدرة على الاستثمار اوله خبرة سابقة في المجال الذي سيستثمر فيه المال.

٣ - أن تكون العملية محددة ومفهومة لدى البنك ليقدر نتائجها.

٤ - يفضل من له سابقة حسنة مع البنك على غيره.

٥ - أن يخضع المستثمر للشروط التي يضعها البنك وهي:

أ - شروط تتعلق بتقسيم الارباح.

ب - يفتح للمستثمر حسابا جاريا للمضاربة.

ج - التزام بضبط استثمار المال في سجلات خاصة.

٤٢٧

د - افتتاح اضبارة لكل عملية مضاربة يرفق فيها كل مايتعلق بتلك العملية.

ه- - يشترط على العامل أن يزود البنك بجميع المعلومات عن سير دورة حياة عملية المضاربة من ساعة تنفيذ العقد حتى انتهاء العقد. كما على البنك أن يسعى لتوفير المضاربة الناجحة ولايجوز له تأجيل استثمار الودائع الثابتة التي يتسلمها، ولاالتماهل في تهيئة الفرصة الناجحة بقصد توفير سيولة نقدية١.

ويظهر أن اشتراط بعض هذه الشروط لتحقيق نجاح المشروع فان البنك اللاربوي(١) يعمل بصورة مستقلة عن سائر جوانب المجتمع مع بقاء المؤسسات الربوية الاخرى من بنوك وغيرها، فلابد له من احراز النجاح بهذه الشروط. على أن بعض هذه الشروط ليست مما تختص بالمضارب.

البنك له حصة

قد لايكون البنك عاملا في المضاربة ولاصاحب مال وانماله دور المشرف على اجراء عملية المضاربة حتى النهاية، وهنا يكون البنك طرفا أجنبيا عن عملية المضاربة، فيصح له أن يضمن خسارة المال الى صاحبه على تقدير الخسارة وأما حصة البنك هنا فهي تكون على أساس الجعالة اذا أعجز المضاربة وواصل الاشراف عليها الى النهاية، وقد جاءت الاخبار تؤيد ذلك ففي صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد اللهعليه‌السلام أنه قال: في رجل قال لرجل: بع ثوبي هذا بعشرة دراهم فما فضل فهو لك، قال (ع) ليس به بأس(٢) . ويمكن أن تكون حصة البنك على اساس الشرط في ضمن العقد، اما بنحو شرط النتيجة أو نحو شرط الفعل، وقد تكون حصته هي اجرة المثل للوكالة.

____________________

(١) للتوسع يراجع البنك اللاربوي ص٢٦.

(٢) الوسائل ج١٢ باب ١٠ من أبواب احكام العقود ص٣٨١. وغيرها اذ فرض الجعل جزء من الثمن على تقدير الزيادة.

٤٢٨

وقد قلنا فيما سبق ان البنك يمكن أن يكون احد أصحاب الاموال وهو وكيل عن الباقين في عملية المضاربة والاشراف عليها وتقسيم المال حسب مايراه البنك مع المستثمر، فهنا يكون البنك احد اصحاب الاموال فيصح ضمانه للاخرين على تقدير الخسارة(١) (لانه ليس عاملا فلايصح ضمانه الخسارة). واما الحصة التي يأخذها البنك فهي على أساس أنه احد أفراد أصحاب الاموال.

ثم بعد أن عرضنا نظرية المضاربة يحسن بنا أن نعرض أعمال المصارف كلها لنرى هل يوجد لها بديل أفضل في ظل النظام الاسلامي؟.

وظائف البنك

والبنك يعرفه علماء الاقتصاد بأنه «جهاز يتولى تقديم الائتمان لعملائه ويتلقى الودائع النقدية منهم»(٢) . والائتمان هو «مقدرة الحصول على سلع او خدمات او نقود حاضرة مقابل الوعد برد مايعاد لها مستقبلا»(٣) .

وان أهم نشاط يقوم به البنك هو الاقتراض بفائدة كما في الودائع الثابتة او بدون فائدة كما في الودائع المتحركة، ثم الاقراض بفائدة أكبر، والدخل الربوي يتكون من الفرق بين الفائدتين او من الفائدة التي يتقاضاها حالة اقتراضه بدون فائدة كما في الودائع المتحركة.

ومن هنا نعرف أن البنك وظيفته في الواقع هي وظيفة وسيط بين رأس المال

____________________

(١) أي بمعنى ان البنك يعطي لهم مايخسرون على تقدير الخسران، وهذا وعد صحيح الا انه غير واجب على البنك، اما اذا كان بمعنى الخسران عليه فهو غير صحيح.

(٢) المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الاسلامية/ د. محمد العربي ص٨٧ الازهر سنة١٩٦٥.

(٣) النقود والبنوك في البلاد العربية/ فؤاد مرسي ص٣٧.

٤٢٩

والعمل، والبنك باعتباره مدينا للمودعين يدفع لهم الفائدة اذا كانت الودائع ثابتة، وباعتباره دائنا للمستثمرين يأخذ منهم الفائدة، فارتباط نظام البنك وهو الايداع والاقراض بالربا واضح.

وللبنك وظائف أساسية نعرضها بايجاز، وهي.

١- تيسير التبادل.

٢- تيسير الانتاج.

٣- الاستثمار.

اولا: تيسير التبادل : ويتم التبادل بالوعد بالدفع، ويكون للوعد بالدفع صور:

١- الشيك: يصدر العميل الى مصرفه (شيكا) يأمره بدفع مبلغ معين الى شخص معين او للحامل، وحينئذ يقوم البنك بدفع القيمة للحامل من حساب العميل. فاذا كان للحامل حساب مع البنك وهو عميل البنك، فيحصل على قيمة الشيك بتقييدها في حسابه الجاري.

٢ - فتح الاعتماد: قد يتعهد البنك لاحد عملائه بجعل مبلغ معين من المال تحت تصرف عميله يستطيع أن يسحب منه مايشاء، وهذه الصورة تفرض البنوك عليها فائدة ربوية. وهذا مايسمى بالسحب على المكشوف، وقد قلنا فيما تقدم ان السحب من دون رصيد هو في الحقيقة قرض لصاحب الحساب فيكون أخذ الفائدة عليه ربا محرما بلا كلام.

٣ - خطاب الاعتماد: واذا أراد العميل السفر الى دولة اخرى فيأخذ من المصرف (خطاب اعتماد) يوجهه الى فرعه في تلك الدولة او الى مصرف آخر يأمره بدفع مبلغ من المال الى العميل الذي له ودائع في المصرف الاول.

٤٣٠

والمصرف في هذه الصورة يأخذ عمولة نصف أو ربع بالمائة. وهذه العملية تقدم الكلام عنها ايضا تحت عنوان الحوالة، وقد قلنا بجواز أخذ العمولة بتقريب فقهي فليراجع.

واذا لم يكن المحول اليه عميلا فيقوم بعملية (التحويل لامره) فيدفع الى البنك قيمة المبلغ الذي يريد الحصول عليه في بلدة اخرى نقدا ثم يتسلمه في تلك البلدة من أحد الفروع او من بنك مراسل.

٤ - السند الاذني٢ وهو التزام مكتوب يتعهد فيه المحرر بدفع مبلغ معين في تأريخ معين لشخص آخر ويسمى (المستفيد) ويستطيع المستفيد أن يصرف قيمة السند من البنك فورا قبل حلول التأريخ بأقل من قيمته، وهذا ان رجع الى كون المصدر للسند مديناالى الشخص الاخر فحكمه حكم الكمبيالة الحقيقية وان لم يكن مدينا حقيقة فحكمه حكم الكمبيالة الصورية.

٥ - الكمبيالة: «وهو أمر مكتوب يتوجه به شخص يسمى الساحب الى شخص آخر يسمى المسحوب عليه طالبا منه دفع مبلغ معين لاذن شخص ثالث يسمى المستفيد. فاذا قدم المستفيد هذه الكمبيالة الى مصرفه بعد أن أظهرها المسحوب عليه دفع البنك قيمة الكمبيالة بعد خصم الفائدة الربوية على المدة التي سوف تمضي قبل حلول أجل الوفاء المقرر في الكمبيالة»(١) وقد قلنا فيما سبق بجواز هذه العملية اذا كانت الكمبيالة حقيقية بأن كان الموقع عليها مدينا حقيقة لمن استلمها بخلاف الكمبيالة الصورية.

٦- تحصيل الكمبيالة لحساب العميل: يقوم البنك بارسال اخطار للمدين

____________________

(١) المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الاسلامية/ د. محمد العربي ص٨٨.

٤٣١

يوضح فيه رقم الكمبيالة وتاريخ استحقاقها وقيمتها، وبعد أن يحصل على قيمتها يقيدها في رصيد الدائن بعد خصم المصاريف. وقد تقدم أيضا جواز أخذ عمولة على هذا العمل المحترم. نعم اذا كان صاحب الكمبيالة له رصيد في البنك وقد أمر البنك بخصمها من حسابه فلا يجوز للبنك أخذ عمولة هنا، اذ يجب على البنك تسديد الدين.

٧ - التحصيل المستند: «يقدم المصدر الى مصرفه المستندات المتفق عليها بينه وبين المستورد ويتولى البنك ارسال هذه المستندات الى مراسله في بلد المستورد ويطلب منه تسليم مستندات الشحن الى المستورد مقابل دفع ثمن البضاعة، وعندما يسدد المستورد يخطر البنك المراسل بنك المصدر بما يفيد تحصيل القيمة وقيدها في الحساب الجاري له»(١) . وهي من تيسير التبادل لان مؤادها توسط البنك في ايصال مستندات الشحن الى المستورد عن طريق مراسله في بلد ذلك المستورد وتسلم الثمن عن طريق المراسل. وقد تقدم أيضا جواز هذه العملية واطلقنا عليها اسم (اعتماد التصدير) اذ يكون البنك هنا في الحقيقة مستأجرا في مقابل أجر معين او مجعول له قبال عمله.

٨ - قبول الودائع المصرفية: يقبل البنك الودائع من عملائه وتقسم الى قسمين:

أ - ودائع تحت الطلب (الحساب الجاري).

ب - ودائع لاجل (ودائع توفير او ادخار). والوديعة هي مبلغ من النقود يودع لدى البنك. ومفهوم الوديعة في الفقه الاسلامي يختلف عن مفهوم الوديعة هنا، فالبنك يعتبر الوديعة قروضا مستحقة الوفاء في أجل محدد او دائما «لان

____________________

(١) البنك اللاربوي في الاسلام ص ١١١ و٨٤.

٤٣٢

ملكية العميل تزول نهائيا عن المبلغ الذي وضعه لدى البنك ويصبح للبنك السلطة الكاملة في التصرف فيه... وهذا مالا يتفق مع طبيعة الوديعة(١) في الفقه الاسلامي، اذ أنها في الفقه الاسلامي لايمكن للمودع عنده أن يتصرف في الوديعة مطلقا وللمستودع أن يطلب عينها متى شاء. وكلمة الوديعة المستعملة، تدل على أن البنك في اول نشأته كان يقبل الودائع بمفهوم اسلامي ويأخذ اجرة عليها، ولكنها تطورت الى الشكل الاخير وبقيت محتفظة من الناحية الوضعية باسم الودائع. وهناك الوديعة الحقيقة: وهي عبارة عن أشياء معينة يود أصحابها الاحتفاظ بها لتجنب مخاطر الضياع والسرقة والحريق فتودع لدى البنك على أن يستردها بنفس مظهرها المادي، ويقوم البنك باعداد خزائن خاصة ويتقاضى أجرا على ذلك منهم، وهي ودائع بالمعنى الفقهي الكامل.

٩ - الحوالة المصرفية: وهي أمر كتابي يصدره العميل المدين الى البنك لان يدفع مبلغا من النقود لشخص آخر في دولة اخرى، فالبنك يتولى الاتصال بفرعه في الدولة الاخرى لتنفيذ أمر عميله، والفرع يتصل بالمحول اليه طالبا منه الحضور لتسلم قيمة الحوالة أو يقوم البنك بنفسه بتقييد المبلغ في الحساب الجاري للمستفيد اذا كان له حساب جاري ويرسل اشعارا الى المستفيد بالعملية.

١٠ - حفظ الاوراق المالية: اذا كان لدى العملاء اوراقا مالية فيودعونها لدى البنك للمحافظة عليها، والبنك في هذه الحالة يهييء خزائن لحفظ هذه الاوراق مقابل أجر الحفظ. وهذا لابأس به اذا كانت نفس الاموال تحفظ بمعنى الوديعة الحقيقي.

١١ - خطابات الضمان (الكفالات): «وهو تعهد من البنك بقبول دفع مبلغ معين لدى الطلب الى المستفيد في ذلك الخطاب نيابة عن طالب الضمان

____________________

(١) البنك اللاربوي في الاسلام ص ١١١ و٨٤.

٤٣٣

عند عدم قيام الطالب بالتزامات معينة قبل المستفيد»(١) كالكفالة الشخصية.

وتقسم الكفالات الى قسمين: ابتدائية، ونهائية.

فالابتدائية: هي تعهد من جانب الى المستفيد وهو الجانب الاخر لدفع مبلغ من النقود من قيمة العملية التي يتنافس طالب خطاب الضمان للحصول عليها ويستحق المستفيد الدفع عند عدم قيام الطالب باتخاذ الترتيبات اللازمة عند رسو العملية عليه.

والنهائية: وهي تعهد من جهة لجهة اخرى وهو (المستفيد) لضمان دفع مبلغ من النقود يعادل نسبة اكبر من قيمة العملية التي في ذمة الجهة الثالثة، والدفع يكون واجبا عند تخلف الجهة الثالثة التي صدرت الكفالة لصالحها بالتزاماته المنصوص عليها في العقد النهائي بين المستفيد والجهة التي طلب اصدار الخطاب لها.

وقد قلنا سابقا بصحة أخذ العموله على هذا العمل، اذ يكون البنك مستأجرا للمتعهد للقيام بتعهده فيعزز قيمة ألتزامات الشخص المقاول فيستحق على عمله أجرا، ولكن هنا نتكلم بصورة أوسع عن أخذ البنك عمولةعلى عمله مع قيام المقاول بما في ذمته فنقول: ان عقد الايجار الذي تحقق بين المقاول وجهة حكومية مثلا اشترط فيه أن على المقاول أن يدفع مبلغا من المال عند تخلفه عن التزاماته، وهذا شرط نافذ لانه واقع في ضمن عقد الايجار. ثم طلب من البنك أن يتعهد بهذا الشرط(٢) اذا لم يف به المشروط عليه، فقام البنك بتعهده واصدر خطاب الضمان للجهة الحكومية مثلا، حينئذ اذا امتنع

____________________

(١) المصدر السابق ص١٢٨ - ١٣١ للتوسع.

(٢) التعهد بالشرط للجهة الحكومية مثل التعهد للدائن باداء الدين، ويدل عليه الارتكاز العقلائي الممضى شرعا.

٤٣٤

المقاول من تنفيذ الشرط عند عدم التزامه بما في ذمته فترجع الجهة الحكومية على البنك في هذه الحالة، وهنا البنك يرجع على المقاول لاخذ المبلغ منه لان المقاول هو الذي طلب من البنك أن يتعهد شرطه فيكون ضامنا لما يتلف على البنك عند اصداره خطاب الضمان. وهنا لابد أن نلتفت الى أن البنك له حق أن يأخذ عمولة على عمله في اصدار خطاب الضمان، أما اذا لم يقم المقاول بالتزاماته ودفع البنك قيمة خطاب الضمان فلايحق للبنك أن يأخذ أكثر مما دفع الى الجهة الحكومية.

ثم اننا نقول فيما اذا كان خطاب الضمان ابتدائيا بصحة أخذ البنك عمولة عليه، لانه كما قلنا يعزز قيمة التزامات المقاول مثلا فهو عمل محترم، واذا افترضنا أن المقاول طلب من البنك أن يصدر خطابا الى الجهة الحكومية بدفع كمية من المال اليها عند عدم قيامه بالترتيبات اللازمة عند رسو العملية عليه، وكان البنك قد أصدر هذا الخطاب الى الجهة الحكومية ولم يقم المقاول بالترتيبات اللازمة عند رسو العملية عليه، ورجعت الحكومة على البنك وأخذت كمية النقود بحسب خطاب الضمان، فيصح للبنك أن يرجع على طالب صدور خطاب الضمان لانه أمر البنك باتلاف شيء عليه فيكون ضامنا.

١٢ - الاعتمادات المستندية: «وهي تعني تعهدا من قبل البنك للمستفيد وهو البائع بناء على طلب فاتح الاعتماد وهو المشتري، ويقرر البنك في هذا التعهد أنه قد اعتمد تحت تصرف المستفيد (البائع) مبلغا من المال يدفع له مقابل مستندات محددة تبين شحن سلعة معينة خلال مدة معينة» وهذا تقدم الكلام فيه مفصلا فراجع.

١٣ - تخزين البضائع: قد تخصص البنوك مخازن لخزن البضائع عند مجيئها قبل تسلم المستورد المستندات الخاصة بتلك البضاعة لتأخرهم أو امتناعهم

٤٣٥

عن التسلم.

١٤ - (الكاميبو) عمليات الصرف الخارجية: قد تنشأ ديون وطلبات بين افراد من دولتين لكل منهما عملتها الخاصة، فالمستورد اذا أصبح مدينا بألف دينار لمصدر يمكنه ان يسدد الدين عن طريق ورقة تجارية كالشيك فيحصل من بنك المستورد شيكا محسوبا على بنك في دولة المصدربقيمة الدين، أو أن يجد شخصا من مكان المستورد مصدرا لدولة المصدر بالمبلغ نفسه وعنده شيكا على دولة المستورد، فيشتري منه الشيك ويرسله الى المصدر وفاءا لدينه. وهذه العملة لابأس بها لان العملية الاولى عبارة عن حوالة المستورد على بنكه في دولته وحوالة البنك على بنك في دولةالمصدر. والعملية الثانية عبارة عن شراء المستورد الدين الذي يملكه المصدر في ذمة شخص بالدولة الخارجية، ثم يحول دائنه الذي في الخارج على صاحب الشيك.

٥١ - بيع وشراء العملات الاجنبية: قد تقوم البنوك بشراء وبيع العملات الاجنبية التي يحملها السياح لغرض توفير قدر كاف منها لمواجهة حاجات العملاء او لاجل الحصول على ربح اذا كانت أسعار الشراء أقل من أسعار البيع، وشراء العملية الاجنبية بتحويل قيمة الكمية المطلوب شراءها الى عملة محلية بالسعر الرسمي. وهذه العملية جائزة نقدا ونسيئة على مذهب المشهور من أن أحكام الصرف لاتأتي هنا، أما اذا قلنا بجريانها كما عن السيد الشهيد، فهذه العملية تجوز نقدا لانسيئة، لكن السيد الشهيد قال بجوازها نسيئة أيضا(١) .

١٦ - الحوالات المصرفية الصادرة: يمكن للبنك نفسه أن يقوم بعملية التحويل حينما يكون التاجر المستورد مدينا لمصدر أجنبي، يلجأ الى البنك ليجري البنك تحويلا لصالح المصدر على مراسله أو فرعه في البلد الساكن فيه

____________________

(١) البنك اللاربوي ص١٣٨.

٤٣٦

الدائن، فيفتح البنك حساباته لدى الفروع أو المراسلين ويخصم قيمة الحوالة من ذلك الحساب، والعميل يدفع قيمة الحوالة بعملة البلد نقدا أو يخصم من رصيده، ويأخذ البنك عمولة على عملية التحويل. والحوالات المصرفية الواردة يكون النظر اليها من زاوية الفرع أو المرسل بناءا على طلب عميل بنك المستورد. وهذا تقدم حكمه أيضا فراجع.

ثانيا: تيسير الانتاج : بتقديم القروض والتسهيلات.

وللقروض الربوية صور كثيرة منها:

أ - سلفة مالية يقدمها البنك لاغراض استهلاكية وعليها فائدة.

ب - قرض مالي لمشروع انتاجي وعليه ربا، أو فتح اعتماد لشخص.

والاعتمادات المستندية وخطابات الضمان وخطابات الاعتماد الشخصية اذا كانت غير مغطاة غطاء كاملا اعتبرت تسهيلات في نفس الوقت بالمقدار المكشوف من غطائها وهي تتدرج في نطاق القروض وتعتبر تسهيلات، والتسهيلات أعم من القروض لانها تشمل ماتنتهي الى القروض ومالاتنتهي اليها، والقروض تنقسم الى طويلة الاجل ومتوسطة وقصيرة الاجل.

خصم الاوراق التجارية:

اذا كان للمستفيد ورقة تجارية ذات أجل محدد فاذا اراد أن يحصل على قيمتها فيدفعها للبنك ليحصل على قيمتها بعد استنزال مبلغ معين هو عمولة وفائدة. واذا حل موعد الوفاء فان البنك يطالب محرر الورقة بقيمتها ويحصل عليها البنك واذا تخلف المدين عن دفع قيمة الورقة المستحقة عليه يكون المجير الاخير الذي خصم له البنك الورقة هو المسؤول أمام البنك عن دفع المبلغ، ويحسب

٤٣٧

البنك فائدة على التأخير بعد حلول الموعد اذا اتفق وتتقاضى هذه الفوائدة من محرر الكمبيالة.

ونتيجة هذه العملية هو أن البنك يقدم قروضا الى المستفيد لتلك الكمبيالة مع تحويل المستفيد البنك على محرر الكمبيالة، وهو تحويل على المدين ويمكن أن يكون خصم الاوراق التجارية على أساس البيع فان المستفيد يبيع الدين الذي تمثله الورقة ب-(٩٥) دينارا اذا كانت الورقة تمثل (١٠٠) دينار مثلا، ويكون من قبيل البيع بأقل منه، وهو صحيح اذا لم يكن الدين من الفضة أو الذهب أو من المكيل أو الموزون كما تقدم ذلك.

ولكن هناك روايات خاصة دلت على أن الدائن اذا باع دينه بأقل منه، فالمشتري لايستحق اكثر مما دفع الى البائع، والزائد ساقط من ذمة المدين بمعنى تنازل الدائن عن الزائد لصالح المدين دائمالإ لا لصالح المشتري وان قصد الدائن ذلك، وهذا من موارد تخلف القصد مع صحة العقد، ولكن الرواية الظاهرة في هذا المعنى ضعيفة بمحمد بن الفضيل(١) الذي ضعفه الشيخ في الفهرست.

ثالثا: الاستثمار: او توفير رأس المال:

ان الاستثمار في الواقع هو نتيجة لتيسير الانتاج وهو الهدف الثاني، فان تيسير الانتاج يؤدي الى توفير رأس المال وكثرة الاستثمار. ولما كان المال متيسرا كما في الهدف الثاني أصبح التخصص في الانتاج واضحا والعمل مقسما الى أقسام، كل قسم يقوم به منتج معين، فساعد على توسيع نطاق الانتاج وبالتالي على توفير رأس المال الذي تمثل في أدوات الانتاج والمال، فتوفر رأس المال

____________________

(١) الوسائل/ج١٣ باب ١٥ من أبواب الدين/ ص٩٩.

٤٣٨

النقدي والعيني(١) .

ولما يتوفر رأس المال فانه يستغل في الاستثمار ويقصد بالاستثمار: «توظيف البنك لجزء من أمواله الخاصة والاموال المودعة لديه في شراء الاوراق المالية والتي تكون غالبا على شكل سندات توخيا للربح وحفاظا على درجة من السيولة التي تتمتع بها تلك الاوراق المالية لامكان تحويلها السريع الى نقود في اكثر الاحيان»(٢) .

وتتميز الاستثمارت عن القروض من الناحية الفنية بأمور:

١ - الاستثمارات تؤدي الى استعمال الاموال في آماد طويلة في اكثر الاحيان.

٢ - دور البنك في الاستثمار هو الذي يبدأ في المعاملة ويعرض المال ليوظف في فترة طويلة.

٣ - دور البنك في الاستثمار كدور أحد المستثمرين بعكس القرض لانه أهم المقرضين(٣) .

وذكر أن وظائف البنك هي:

أ - قبول الودائع.

ب - عمليات التسليف.

ج - فتح الاعتماد.

د - الائتمان بتقسيماته(٤) . وقد تقدم الكلام عن أحكامها في بحث الربا عند الامامية.

____________________

(١) المؤتمر الثاني لجمع البحوث الاسلامية د. محمد العربي ص٩٠.

(٢) البنك اللاربوي في الاسلام ص ١٦١ - ١٦٢.

(٣) البنك اللاربوي في الاسلام ص١٦١ - ١٦٢.

(٤) النقود والبنوك في الدول العربية/ فؤاد مرسي ص٣٣ ومابعدها.

٤٣٩

وهنا بعد أن عرضنا وظائف البنوك التي يشتمل بعضها على فائدة، وقد حرمها الاسلام، والاسلام لابد له أن يماشي روح العصر والتطور، بمعنى أنه شامل لجميع شؤون الحياة فلابد له من حل لهذه المشاكل التي تحدث، ولابد من نظريات فقهية تتكيف عليها أعمال الناس، على أن أحكامه ثابتة غير متطورة، فما هو البديل الاسلامي لعمليات البنوك الربوية؟.

وقولنا ان الاسلام لابد له من أن يماشي روح العصر والتطور ليس معناه أنه يخالف ما أثبته اولا، وانما للاحكام الاسلامية قواعد كلية غير متغيرة تنطبق على ما تستجد من المصاديق، فيحاول علماء الاسلام التفتيش عن القاعدة الكلية التي تنطبق على هذا المصداق ويجتهد ويفرغ وسعه في طلب هذا الشيء.

البنك الاسلامي:

وبما أن البنك الاسلامي يمنع التعامل بالربا فعليه أن يبرز عنصر العمل البشري في النشاطات، وعليه أيضا أن يؤكد على العمولة بأنها أجرة عمل، ويكون البنك وظيفته وظيفة الوسيط بين المودعين والمستثمرين، وان يكون بعيدا عن الروح اللااسلامية فلايهمه الربح الكثير بقدر ماتهمه مصلحة الجماهير. وعمله هذا ليس للربح التجاري فحسب وانما للعبادة والجهاد في أعباء الرسالة وانقاذ الامة من الكفر. ثم ان الربح الذي يكسبه البنك اللاربوي انما يكون بواسطة تطبيقه لرسالة السماء في الارض، وهو لوحده كسب ليس بعده كسب، نعم يجوز للبنك الاسلامي أن يودع بفائدة لدى البنوك الكافرة أي البنوك التي لاتلتزم بشرائط الذمة من اهل الكتاب، وهذا جائز كما تقدم.

٤٤٠

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679