أمالي المرتضى الجزء ١

أمالي المرتضى5%

أمالي المرتضى مؤلف:
تصنيف: مكتبة اللغة والأدب
الصفحات: 679

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 679 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 323739 / تحميل: 11617
الحجم الحجم الحجم
أمالي المرتضى

أمالي المرتضى الجزء ١

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

معصوما من القبائح بعصمة الله تعالى له وبلطفه وتوفيقه.

فإن قيل: الظاهر خلاف ذلك لأنه قال:( وَإِلاّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَ ) فيجب أن يكون المراد ما يمنعهم من الكيد ويرفعه؛ والّذي ذكرتموه من انصرافه عن المعصية لا يقتضي ارتفاع الكيد والانصراف عنه.

قلنا: معنى الكلام: وإلا تصرف عنى ضرر كيدهنّ والغرض به؛ لأنهنّ إنما أجرين بكيدهنّ إلى مساعدته لهنّ على المعصية، فإذا عصم منها ولطف له في الانصراف عنها؛ فكأنّ الكيد قد انصرف عنه ولم يقع به، من حيث لم يقع ضرره وما أجرى به إليه، ولهذا يقال لمن أجرى بكلامه إلى غرض لم يقع: ما قلت شيئا، ولمن فعل ما لا تأثير له: ما فعلت شيئا، وهذا بيّن بحمد الله ومنّه.

تأويل خبر [: (من يتّبع المشمعة يشمّع الله به) ]

إن سأل سائل عن تأويل الخبر الّذي يرويه عقبة بن عامر أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال في خطبة طويلة خطبها: (من يتّبع المشمعة يشمّع الله به).

والجواب، إن المشمعة هي الضّحك والمزاح واللعب، يقال: شمع الرّجل يشمع شموعا، وامرأة شموع إذا كانت كثيرة المزاح والضّحك: قال أبو ذؤيب يصف الحمير:

بقرار قيعان سقاها وابل

واه فأثجم برهة لا يقلع(١)

فلبثن حينا يعتلجن بروضة

فيجدّ حينا في العلاج ويشمع(٢)

أراد أنّ هذا الحمار الّذي وصف حاله مع الأتن، وأنه معهنّ في بعض القيعان يعارك هذه الأتن.

____________________

(١) ديوان الهذليين ١: ٥ القرار: مستقر الماء. والقيعان: مناقع الماء في حر الطين؛ وفي حاشيتي الأصل، ف: (سقاها، أي سقى القيعان واه؛ أي سحاب كثير المطر؛ وهذه استعارة؛ أي كأن هذا السحاب ضعيف فينهل عنه الماء انهلالا. وأثجم: أقام برهة؛ أي مدة من الزمان لا يقلع ولا يذهب).

(٢) حاشية الأصل: (يروى، (بروضه)، والضمير للعير الّذي يصفه، أو للقرار، أو للوابل).

٥٢١

ومعنى (يعتلجن) يعاضّ بعضها بعضا، ويترامحن من النشاط فيجدّ الفحل معهنّ مرّة، وأخرى يأخذ معهنّ في اللعب فيشمع، وفي يجدّ لغتان: يجد ويجدّ، والمفتوح لغة هذيل؛ ويقال فلان جادّ مجدّ على اللغتين معا.

وقيل إن معنى يشمع الحمار أنه يتشمّع، ثم يرفع رأسه فيكشّر عن أسنانه، فجعل ذلك بمنزلة الضحك، قال الشّماخ:

ولو أنّي أشاء كننت نفسي

إلى لبّات بهكنة شموع(١)

وقال المتنخل الهذلي:

ولا والله نادى الحي ضيفي

هدوءا بالمساءة والعلاط(٢)

سأبدؤهم بمشمعة وأثني

بجهدي من طعام أو بساط

أراد بقوله (نادى الحي ضيفي) أي لا ينادونه، من النداء بالسوء والمكروه ولا يتلقونه بما لا يؤثر. والعلاط: من أعلطه واعتلط به؛ إذا خاصمه وشاغبه ووسمه بالشر؛ وأصله من علاط البعير، وهو وسم في عنقه.

وقيل إن معنى (نادى الحي) من النادي؛ أي لا يجالسونه بالمكروه والسوء.

ومعنى (سأبدؤهم بمشمعة) أي بلعب وضحك، لأن ذلك من علامات الكرم والسرور بالضيف، والقصد إلى إيناسه وبسطه، ومنه قول الآخر:

وربّ ضيف طرق الحي سرى

صادف زادا وحديثا ما اشتهى

إنّ الحديث جانب من القرى(٣)

وروى الأصمعي عن خلف الأحمر قال: سنّة الأعراب أنهم إذا حدّثوا الرجل الغريب

____________________

(١) ديوانه: ١٧؛ وروايته: (هيكلة)؛ وهي الضخمة. وكننت نفسي: سترتها. ولبات:

جمع لبة؛ هي موضع القلادة؛ والبهكنة: الغضة الحسنة الخلق.

(٢) ديوان الهذليين ٢: ٢١.

(٣) الأبيات للشماخ يقولها في عبد الله بن جعفر، وقبلها:

إنّك ياابن جعفر نعم الفتى

ونعم مأوى طارق إذا أتى

وانظر الأغاني ٩: ١٦٨ (طبع دار الكتب المصرية).

٥٢٢

وهشّوا إليه ومازحوه أيقن بالقرى، وإذا أعرضوا عنه عرف الحرمان.

ومعنى: (أثنى* بجهدى من طعام أو بساط)، أي أتبع ذلك بهذا.

ومعنى الخبر على هذا أنّ من كان من شأنه العبث بالناس والاستهزاء بهم، والضحك منهم أصاره الله تعالى إلى حالة يعبث به فيها، ويستهزئ أمنه.

ويقارب هذا الحديث من وجه حديث آخر؛ وهو ما روي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : (من يسمّع الناس بعمله يسمّع الله به)؛ والمعنى: من يرائي(١) بأعماله ويظهرها تقربا إلى الناس واتخاذا للمنازل عندهم؛ يشهره(٢) الله بالرياء ويفضحه ويهتكه.

ويمكن أيضا في الخبر الأول وجه آخر لم يذكر فيه؛ وهو أن من عادة العرب أن يسمّوا الجزاء على الشيء باسمه؛ ولذلك نظائر في القرآن وأشعار العرب كثيرة مشهورة، فلا ينكر أن يكون المعنى: من يتّبع اللهو بالناس، والاستهزاء بهم يعاقبه الله تعالى على ذلك ويجازيه؛ فسمى الجزاء على الفعل باسمه؛ وهذا الوجه أيضا ممكن في الخبر الثاني.

***

[خبر الأصمعي مع عجوز في سوق ضريّة حينما أنشدها شعر بشر بن عبد الرحمن:]

أخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال أخبرنا ابن دريد قال أخبرنا عبد الرحمن بن أخي الأصمعي عن عمه قال: إني لفي سوق ضريّة(٣) ، وقد نزلت على رجل من بني كلاب كان متزوجا بالبصرة، وكان له ابن بضريّة، إذ أقبلت عجوز على ناقة لها، حسنة البزّة، فيها بقايا جمال، فأناخت وعقلت ناقتها، وأقبلت تتوكّأ على محجن(٤) لها فجلست قريبا منّا، وقالت: هل من منشد؟ فقلت للكلابي: أيحضرك شيء؟ قال: لا، قال: فأنشدتها شعر البشر بن عبد الرحمن الأنصاري:

وقصيرة الأيام ودّ جليسها

لو باع مجلسها بفقد حميم(٥)

____________________

(١) حاشية الأصل (من نسخة): (من يراء).

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): (يشهره)، بالجزم.

(٣) ضرية: قرية بنجد في طريق مكة من البصرة.

(٤) المحجن: عصا معوجة معقفة الرأس؛ في رأسها حديدة كالمعلاق.

(٥) الأبيات في الحماسة - بشرح التبريزي ٣: ٣٠١، وأمالي القالي. ١: ٢٠٣، من غير عزو مع اختلاف في الترتيب. والبيت الأول منها في اللسان (ردع) منسوب إلى قيس بن معاذ مجنون بني عامر. وفي الحماسة: (لو نال مجلسها)، وفي أمالي القالي: (لو دام مجلسها).

٥٢٣

(١) من محذيات أخي الهوى غصص الجوى(١)

بدلال غانية ومقلة ريم

صفراء من بقر الجواء كأنما

خفر الحياء بها رداع سقيم(٢)

قال: فجثت على ركبتيها وأقبلت تحرش(٣) الأرض بمحجنها، وأنشأت تقول(٤) :

قفي ياأميم القلب(٥) نقرأ تحيّة

ونشك الهوى، ثم افعلي ما بدا لك(٦)

فلو قلت: طأ في النار أعلم أنّه(٧)

هوى لك، أو مدن لنا من وصالك

لقدّمت رجلي نحوها فوطئتها

(٨) هدى منك لي، أو ضلّة من ضلالك(٨) (٩)

سلي البانة العليا من الأجرع(٩) الّذي

به البان:(١٠) هل حيّيت أطلال دارك(١٠)

وهل قمت في أطلالهنّ عشيّة

(١١) مقام سقيم القلب(١١) ، واخترت ذلك

____________________

(١ - ١) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف:

* من محذيات أخي الأسى غصص الهوى*

(٢) الجواء: موضع بعمان.

(٣) تحرش: تضرب عليها؛ من حرش الضب، والحرش كالخرش وهو الخدش.

(٤) الأبيات لابن الدمينة؛ ديوانه: ١٥، وأمالي الزجاجي ١١٠ عن ابن الأعرابي، وأمالي القالي ٢: ٣٣ عن ابن دريد، ومعاهد التنصيص ١: ١٥٩؛ وهي أيضا في الحماسة - بشرح التبريزي ٣: ٢٦٣، من غير عزو.

(٥) حاشية الأصل: (أضافها إلى القلب كرامة لها وإعجابا بها).

(٦) في حاشيتي الأصل ف: (الأحسن أن يقال: (بدا لك) بكسر اللام لتتوازن القوافي، والعلة فيه مجاورة كسرة الكاف كقراءة من قرأ:( مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ ) ، وكقوله تعالى:( عِتِيًّا، وصِلِيًّا ) .

(٧) حاشية الأصل (من نسخة): (أنها).

(٨ - ٨) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف:

* سرورا لأني قد خطرت ببالك*

(٩ - ٩) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (سلي البانة الغيناء بالأجرع)، وهي رواية الحماسة. والغيناء: الشجرة العظيمة الواسعة الظل. والأجرع: السهل المختلط بالرمل.

(١٠ - ١٠) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (هل حييت أظلال ضالك)، والضال: شجر.

(١١ - ١١) من نسخة بحاشية الأصل، ف: (قيام سقيم البال).

٥٢٤

ليهنئك(١) إمساكي بكفّي على الحشا

ورقراق عيني(٢) رهبة من زيالك(٣)

قال الأصمعي: فأظلمت والله عليّ الدنيا بحلاوة منطقها، وفصاحة لهجتها؛ فدنوت منها فقلت: نشدتك الله لما زوّدتني(٤) من هذا! فرأيت الضحك في عينها، وأنشدت:

ومستخفيات ليس يخفين زرننا

يسحّبن(٥) أذيال الصّبابة والشّكل(٦)

جمعن(٧) الهوى حتّى إذا ما ملكنه

نزعن، وقد أكثرن فينا من القتل

مريضات رجع القول(٨) خرس عن الخنا

تألّفن أهواء القلوب بلا بذل

موارق من ختل المحبّ، عواطف

بختل ذوي الألباب بالجدّ والهزل(٩)

يعنّفني العذّال فيهنّ، والهوى

يحذّرني من أن أطيع ذوي العذل

أما قول الأنصاري (وقصيرة الأيام) فأراد بذلك أنّ السرور يتكامل بحضورها لحسنها وطيب حديثها فتقصر أيام جليسها، لأن أيام السرور وموصوفة بالقصر.

ويمكن أن يريد بقصيرة الأيام أيضا حداثة سنّها وقرب عهد مولدها؛ وإن كان الأول أشبه بما أتى في آخر البيت.

____________________

(١) حاشية الأصل (من نسخة): (ليهنك)؛ وهي رواية الحماسة.

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): (ورقراق دمع).

(٣) بعد هذا البيت في ف:

لئن ساءني أن نلتني بمساءة

لقد سرني أنّي خطرت ببالك

وهو أيضا في حاشية الأصل.

(٤) حاشية الأصل (من نسخة): (زودتيني) ومن نسخة أخرى. (زدتني).

(٥) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (ويسحبن).

(٦) الأبيات في أمالي القالي ٢: ٢٨٧ غير منسوبة

(٧) من نسخة بحاشيتي. الأصل: (بلغن).

(٨) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (الطرف).

(٩) في حاشيتي الأصل، ف: (أي لا يختلهن المحب، بل يختلن ذوي الألباب).

٥٢٥

ومعنى:

* لو باع مجلسها بفقد حميم*

أي ابتاعه، وهذا اللفظ من الأضداد؛ لأنه يستعمل في البائع والمشتري معا، قال الفراء:

سمعت أعرابيا يقول: بع لي تمرا بدرهم، أي اشتر لي تمرا بدرهم، وقال الشاعر:

فيا عزّ ليت النأي إذ حال بيننا

وبينك باع الودّ لي منك تاجر(١)

أي ابتاع.

وقوله: (من محذيات أخي الهوى) أي من معطيات، يقال: أحذيت الرجل من العطية(٢) والغنيمة أحذيه إذا أعطيته، والاسم الحذيّة والحذوة والحذيا؛ كل ذلك العطية.

وقوله:

* كأنما خفر الحياء بها رداع سقيم*

فالرّداع هو الوجع في الجسد؛ فكأنه أراد أنها منقبضة منكسرة من الحياء كالسقيم، أو يريد تغيّر لونها وصفرتها(٣) كما يتغير لون السقيم؛ ويجري ذلك مجرى قول ليلى الأخيلية:

ومخرّق عنه القميص تخاله

بين البيوت من الحياء سقيما(٤)

***

أخبرنا المرزباني قال حدّثنا أبو عبد الله الحكيمي قال حدثني ميمون بن هارون الكاتب قال: حدثنا ابن أخي الأصمعي عن عمه قال: لقيت أعرابيا بالبادية فاسترشدته إلى مكان، فأرشدني وأنشدني:

____________________

(١) البيت لكثير؛ وهي ق ديوانه ١: ٩١.

(٢) ساقطة من م.

(٣) حاشية الأصل (من نسخة): (صفرته).

(٤) من أبيات في الحماسة - يشرح التبريزي ٤: ١٥٥؛ والعيني ٢: ٤٧، وأمالي القالي ١: ٢٤٨ وفي م بعد هذا البيت:

حتّى إذا خفق اللواء رأيته

تحت اللواء على الخميس زعيما

٥٢٦

حتّى إذا خفق اللواء رأيته

تحت اللواء على الخميس زعيما

ليس العمى طول السّؤال وإنما

تمام العمى طول السّكوت على الجهل

ثم رجعت إلى البصرة فمكثت بها حينا، ثم قدمت البادية، فإذا بالأعرابي جالسا بين ظهراني قوم؛ وهو يقضي بينهم، فما رأيت قضية أخطأت قضية الصالحين من قضيّته؛ فجلست إليه، فقلت: يرحمك! الله أما من رشوة؟ أما من هدية؟ أما من صلة؟ فقال: لا إذا جاء هذا ذهب التوفيق؛ فشكوت إليه ما ألقى من عذل حليلة لي إياي في طلب المعيشة، فقال: لست فيها بأوحد، وإني لشريكك، ولقد قلت في ذلك شعرا، فقلت: أنشدنيه، فأنشدني:

باتت تعيّرني الإقتار والعدما

لمّا رأت لأخيها المال والخدما

عنف لرأيك! ما الأرزاق من جلد،

ولا من العجز؛ بل مقسومة قسما

يا أمة الله إنّي لم أدع طلبا

للرّزق - قد تعلمين - الشّرق والشأما

وكلّ(١) ذلك بالإجمال في طلب

لم أرد عرضا، ولم أسفك لذاك دما

لو كان من جلد ذا المال أو أدب

لكنت أكثر من نمل القرى نعما

ارضى من العيش ما لم تحوجي معه

أن تفتحي لسؤال الأغنياء فما

واستشعري الصّبر علّ الله خالقنا

يوما سيكشف عنّا الفقر والعدما(٢)

لا تحوجيني(٣) إلى ما لو بذلت له

نفسي لأعقبك التّهمام والنّدما

بالله سرّك أنّ الله خوّلني

ما كان خوّله الأعراب والعجما

ما سرّني أنّني خوّلت ذاك ولا

ألاّ أقول لباغي حاجة نعما

وأنني لم أحز(٤) عقلا ولا أدبا

ولم أرث والدي مجدا ولا كرما

فعسرة المرء(٥) أحرى في معاشك من

أمر يجرّ عليك الهمّ والألما

____________________

(١) حاشية الأصل (من نسخة): (فكل).

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): (الضر والعدما).

(٣) حاشية الأصل (من نسخة): (لا تحوجني) مع نون التوكيد

(٤) حاشيتي الأصل (من نسخة): (لم أفد عقلا).

(٥) حاشية الأصل (من نسخة): (فعسرة المال).

٥٢٧

قال: فو الله ما أنشدتها حتى حلفت ألاّ تعذلني أبدا.

***

[خبر الأصمعي مع شاب بدوي فصيح من بني عامر واستنشاده الشعر:]

حدثنا عليّ بن محمد الكاتب قال أخبرنا ابن دريد قال أخبرنا عبد الرحمن بن أخي الأصمعي عن عمه قال: رأيت بقباء شابا من بني عامر؛ فما رأيت بدويا أفصح منه، ولا أظرف؛ فو الله لكأنه شواظ يتلظّى، فاستنشدته فأنشدني:

فلم أنسكم يوم اللّوى إذ تعرّضت

لنا أمّ طفل خاذلا قد تخلّت(١)

وقالت سأنسيك العشيّة ما مضى

وأصرف منك النّفس عمّا أجنّت(٢)

فما(٣) فعلت - لا والّذي أنا عبده -

على ما بدا من حسنها إذ أدلّت

أبت سابقات الحبّ إلاّ مقرّها

إليك، وما تثنى إذا ما استقرّت

هواك الّذي في النّفس أمسى دخيلها

عليه انطوت أحشاؤها واستمرّت

وأنشدني أيضا:

ديار للّتي طرقتك وهنا

بريّا روضة وذكاء رند(٤)

تسائلني وأصحابي هجود

وتثني عطفها من غير صدّ

فلمّا أن شكوت الحبّ قالت:

فإنّي فوق وجدك كان وجدي

ولكن حال دونك ذو شذاة

أسرّ بفقده ويهرّ فقدي(٥)

***

[خبر الأصمعي مع إسماعيل بن عمار الأعرابي:]

وبهذا الإسناد عن الأصمعي قال: قعدت إلى أعرابي يقال له إسماعيل بن عمار، وإذا هو يفتل أصابعه ويتلهف، فقلت له: علام تتلهف؟ فأنشأ يقول:

عيناي مشئومتان ويحهما!

والقلب حيران(٦) مبتلى بهما

____________________

(١) الخاذل من الظباء: التي تتخلف عن صواحبها.

(٢) حاشية الأصل: (أي أصرف نفسي عنك عما أجنته).   (٣) حاشية الأصل (من نسخة): (فلا فعلت).

(٤) الدهن: الليل ساعة يدبر. والرند: شجر طيب الرائحة.

(٥) الشذاة: الحدة، ويهر: يكره.                                (٦) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (حران).

٥٢٨

عرّفتاه الهوى بظلمهما

ياليتني قبلها عدمتهما

هما إلى الحين قادتا وهما

دلّ على ما أجنّ دمعهما

سأعذر القلب في هواه فما

سبّب هذا البلاء غيرهما

***

[خبر الأصمعي حين سافر إلى البصرة؛ وسماعه لشعر استحسنه ورواه:]

وبهذا(١) الإسناد عن الأصمعي قال: نزلت ذات ليلة في وادي بني العنبر، وهو إذ ذاك معان(٢) بأهله - أي آهل - فإذا فتية يريدون البصرة؛ فأحببت صحبتهم، فأقمت ليلتي تلك عليهم؛ وإنّي لوصب محموم؛ أخاف ألاّ أستمسك على راحلتي؛ فلمّا أقاموا ليرحلوا أيقظوني؛ فلما رأوا حالي رحلوا وحملوني؛ وركب أحدهم ورائي يمسكني؛ فلما أمعن السير تنادوا ألا فتى يحدو بنا أو ينشدنا! فإذا منشد في سواد الليل بصوت ند حزين ينشد:

لعمرك إنّي يوم بانوا فلم أمت

خفاتا على آثارهم لصبور

غداة المنقّى إذ رميت بنظرة

ونحن على متن الطّريق نسير(٣)

فقلت لقلبي حين خفّ به الهوى

وكاد من الوجد المُئنّ يطير(٤)

فهذا ولما تمض للبين ليلة

فكيف إذا مرّت عليه شهور

وأصبح أعلام الأحبة دونها

من الأرض غول نازح ومسير

وأصبحت نجدي الهوى متهم الثوى

أزيد اشتياقا أن يحنّ بعير

عسى الله بعد النأي أن يسعف النّوى

ويجمع شمل بعدها وسرور

قال: فسكنت والله الحمّى عنّي، حتى ما أحسّ بها، فقلت لرفيقي: انزل رحمك الله إلى راحلتك، فإني متماسك؛ وجزاك الله عن حسن الصّحبة خيرا.

***

____________________

(١) الخبر والأبيات في حماسة ابن الشجري ١٦١ - ١٦٢ بروايته عن ابن قدامة عن المرتضى، وهو أيضا في أمالي القالي ٢: ٢٦٧ بروايته عن ابن دريد عن عبد الرحمن عن عمه.

(٢) في ابن الشجري: (مغان آهلة).

(٣) المنقى: موضع بين أحد والمدينة.

(٤) المُئنّ: اللازم المقيم، وفي س: (المبر).

٥٢٩

[خبر الأصمعي مع أحد الطفيليين وما ورد في ذلك من الشعر:]

أخبرنا المرزباني قال حدثنا محمد بن العباس قال حدثنا محمد بن يزيد النحوي قال حدّثني بعض أصحابنا عن الأصمعي قال: كان(١) بالبصرة أعرابي من بني تميم؛ يتطفّل على الناس، فعاتبته على ذلك فقال: والله ما بنيت المنازل إلاّ لتدخل، ولا وضع الطعام إلاّ ليؤكل؛ وما قدّمت هدية فأتوقّع رسولا؛ وما أكره أن أكون ثقلا ثقيلا على من أراه شحيحا بخيلا؛ أتقحم عليه مستأنسا، فأضحك إن رأيته عابسا، فآكل برغمه، وأدعه بغمّه؛ وما اخترق اللهوات طعام أطيب من طعام لا ينفق فيه درهم، ولا يعنّى إليه خادم، ثمّ أنشد:

كلّ يوم أدور في عرصة الحـ

ـي أشمّ القتار شمّ الذّئاب(٢)

فإذا ما رأيت آثار عرس

أو ختان أو مجمع الأصحاب(٣)

لم أروّع دون التّقحّم لا أر

هب دفعا ولكزة البوّاب(٤)

مستهينا بما هجمت عليه

غير مستأذن، ولا هيّاب

فتراني ألفّ بالرغم منهم

كلّ ما قدموه لفّ العقاب(٥)

ذاك أدني من التّكلّف والغر

م وغيظ البقّال والقصّاب(٦)

____________________

(١) الخبر في التطفيل للخطيب البغدادي ٧٣ - ٧٤ يرويه عن الحسن بن أبي القاسم عن أبي الفرج عن جعفر بن قدامة عن أبي هفان.

(٢) في التطفيل: (عرصة الباب)، ومن نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (شم الذباب).

(٣) في التطفيل: (أو دعوة لصحاب).

(٤) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (لم أورع)، ورواية الخطيب في هذا البيت وتاليه:

لم أعرّج دون التقحّم فيها

غير مستأذن ولا هيّاب

مستخفّا بمن دخلت عليه

لست أخشى تجهّم البواب

(٥) رواية البيت في حاشيتي الأصل (من نسخة):

فتراني ألفّ ما قدّم القو

م على رغمهم كلف العقاب

(٦) زاد الخطيب بعد هذا البيت:

قابل إن جرى عليّ امتهان

في سبيل الحلواء والجوذاب

٥٣٠

[٣٨]

مجلس آخر [المجلس الثامن والثلاثون:]

تأويل آية:( وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ. قالَ يانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ، فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ ) ؛ [هود: ٤٥، ٤٦].

فقال: ظاهر قوله تعالى:( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ) يقتضي تكذيب قوله:( إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ) والنبي لا يجوز عليه الكذب، فما الوجه في ذلك؟ وكيف يصحّ أن يخبر عن ابنه بأنه( عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ ) ؟ وما المراد به؟

الجواب، قلنا: في هذه الآية وجوه:

أولها أن نفيه لأن يكون من أهله لم يتناول نفي النّسب، وإنما نفى أن يكون من أهله الذين وعده الله بنجاتهم؛ لأنه عزّ وجل كان وعد نوحاعليه‌السلام بأن ينجّي أهله، ألا ترى إلى قوله:( قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ) [هود: ٤٠]، فاستثنى تعالى من أهله من أراد إهلاكه بالغرق! ويدل عليه أيضا قول نوح:

( إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُ ) ، وعلى هذا الوجه يتطابق الأمران(١) ولا يتنافيان؛ وقد روي هذا التأويل بعينه عن ابن عباس وجماعة من المفسرين.

والجواب الثاني، أن يكون المراد بقوله تعالى:( لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ) أي أنه ليس على دينك؛ وأراد تعالى أنه كان كافرا مخالفا لأبيه؛ فكأنّ كفره أخرجه عن أن يكون له أحكام

____________________

(١) حاشية ف (من نسخة): (الخبران).

٥٣١

أهله؛ ويشهد لهذا التأويل قوله عزّ وجل على طريق التعليل:( إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ ) ، فبيّن أنه إنما خرج عن أحكام أهله لكفره وسيّئ عمله، وقد روى هذا التأويل أيضا عن جماعة من المفسرين؛ وحكي عن ابن جريج أنه سئل عن ابن نوح فسبّح طويلا ثم قال لا إله إلا الله! يقول الله:( وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ ) ؛ وتقول: ليس منه! ولكنه خالفه في العمل فليس منه من لم يؤمن.

وروي عن عكرمة أنه قال: كان ابنه ولكن كان مخالفا له في النية والعمل؛ فمن ثمّ قيل:( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ) .

والوجه الثالث أنه لم يكن ابنه على الحقيقة؛ وإنما ولد على فراشه، فقالعليه‌السلام :

إنه ابني على ظاهر الأمر؛ فأعلمه الله أن الأمر بخلاف الظاهر، ونبهه على خيانة امرأته؛ وليس في ذلك تكذيب لخبره، لأنه إنما أخبر عن ظنه، وعمّا يقتضيه الحكم الشرعي، فأخبره الله تعالى بالغيب الّذي لا يعلمه غيره؛ وقد روي هذا الوجه عن الحسن وغيره.

وروى قتادة عن الحسن قال: كنت عنده؛ فقال: وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ لعمر الله ما هو ابنه، قال: فقلت: ياأبا سعيد؛ يقول الله: وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وتقول: ليس بابنه!

قال: أفرأيت قوله: لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ؟ قال: قلت معناه: ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم معك، ولا يختلف أهل الكتاب أنه ابنه، فقال: أهل الكتاب يكذبون؛ وروي عن مجاهد وابن جريج مثل ذلك.

وهذا الوجه يبعد إذ فيه منافاة للقرآن؛ لأنه تعالى قال: وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ، فأطلق عليه اسم البنوّة؛ ولأنه أيضا استثناه من جملة أهله بقوله تعالى:( وَأَهْلَكَ إِلاّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ ) ؛ ولأنّ الأنبياءعليهم‌السلام يجب أن ينزّهوا عن مثل هذه الحال؛ لأنّها تعرّ وتشين وتغضّ من القدر؛ وقد جنّب الله تعالى أنبياءهعليهم‌السلام ما هو دون ذلك؛ تعظيما لهم وتوقيرا، ونفيا لكل ما ينفّر عن القبول منهم؛ وقد حمل ابن عباس ظهور ما ذكرناه من الدّلالة على أنّ تأوّل قوله تعالى في امرأة نوح وامرأة لوط: فَخانَتاهُما على أن الخيانة

٥٣٢

لم تكن منهما بالزّنا، بل كانت إحداهما تخبر الناس بأنه مجنون؛ والأخرى تدل على الأضياف؛ والمعتمد في تأويل الآية هو الوجهان المتقدمان.

فأما قوله تعالى:( إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ ) فالقراءة المشهورة بالرفع، وقد روي عن جماعة من المتقدمين أنهم قرءوا:( إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ ) بنصب اللام وكسر الميم ونصب (غير)؛ ولكل وجه.

فأما الوجه في الرفع فيكون على تقدير أن ابنك ذو عمل غير صالح؛ وصاحب عمل غير صالح؛ فحذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه؛ وقد استشهد على ذلك بقول الخنساء:

ما أمّ سقب على بوّ تطيف به

قد ساعدتها على التّحنان أظآر(١)

ترتع ما رتعت حتى إذا ذكرت

فإنما هي إقبال وإدبار(٢)

أرادت إنما هي ذات إقبال وإدبار.

وقال قوم: إن المعنى أصل ابنك هذا الّذي ولد عل فراشك وليس بابنك في الحقيقة(٣) عمل غير صالح، يعني الخيانة من امرأته، وهذا جواب من ذهب إلى أنه لم يكن ابنه على الحقيقة(٣) والّذي اخترناه خلاف ذلك.

وقال آخرون إن الهاء في قوله:( إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ ) راجعة إلى السؤال؛ والمعنى:

____________________

(١) ديوانها: ٧٨؛ وروايته:

فما عجول على برّ تطيف به

لها حنينان: إصغار وإكبار

والسقب: الذكر من ولد الناقة. والبو: أن ينحر ولد الناقة ويؤخذ جلده فيحشى ويدنى من أمه فتر أمه والتحنان: الحنين. والأظئار: جمع ظئر؛ وهي التي تعطف على ولد غيرها.

(٢) بعدهما:

لا تسمن الدّهر في أرض وإن ربعت

فإنما هي تحنان وتسجار

يوما بأوجد منّي يوم فارقني

صخر، وللدّهر إحلاء وإمرار

(٣ - ٣) ساقط من م.

٥٣٣

إن سؤالك إياي ما ليس لك به علم عمل غير صالح لأنه قد وقع من نوح دليل(١) السؤال والرغبة في قوله:( إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُ ) ومعنى ذلك أي نجّه كما نجيتهم، ومن يجيب بهذا الجواب يقول: إن ذلك صغيرة من النبي؛ لأن الصغائر تجوز عليهم، ومن يمنع أن يقع(٢) من الأنبياء شيء من القبائح يدفع هذا الجواب؛ ولا يجعل الهاء راجعة إلى السؤال بل إلى الابن، ويكون تقدير الكلام ما تقدم.

فإذا قيل له: فلم قال:( فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) ؟ وكيف قال نوحعليه‌السلام من بعد:( رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ ) ؟.

قال: لا يمتنع أن يكون نهى عن سؤال ما ليس له به علم؛ وإن لم يقع منه وأن يكون تعوّد من ذلك وإن لم يوافقه؛ ألا ترى أن الله قد نهى نبيه عن الشّرك والكفر؛ وإن لم يكن ذلك قد وقع منه؛ فقال:( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ) ؛ [الزمر: ٥٦]، وكذلك لا يمتنع أن يكون نهاه في هذا الموضع عمّا لم يقع منه، ويكونعليه‌السلام إنما سأله نجاة ابنه باشتراط المصلحة لا على سبيل القطع؛ وهكذا يجب في مثل هذا الدعاء.

فأما القراءة بنصب اللام فقد ضعّفها قوم وقالوا: كان يجب أن يقال: إنه عمل عملا غير صالح؛ لأن العرب لا تكاد تقول هو يعمل غير حسن، حتى يقولوا: عملا غير حسن، وليس وجهها بضعيف في العربية؛ لأنّ من مذهبهم الظاهر إقامة الصفة مقام الموصوف عند انكشاف المعنى وزوال اللبس؛ فيقول القائل: قد فعلت صوابا، وقلت حسنا، بمعنى فعلت فعلا صوابا وقلت قولا حسنا؛ وقال عمر بن أبي ربيعة المخزومي:

أيّها القائل غير الصواب

أخّر النّصح وأقلل عتابي(٣)

____________________

(١) حاشية الأصل (من نسخة): (دليل في السؤال)، وحاشية ف من نسخة: (دليل على السؤال).

(٢) ف: (على الأنبياء).

(٣) ديوانه: ٤٢٥.

٥٣٤

وقال أيضا:

وكم من قتيل ما يباء به دم

ومن غلق رهن إذا لفّه منى(١)

ومن مالئ عينيه من شيء غيره

إذا راح نحو الجمرة البيض كالدّمى(٢)

أراد: وكم إنسان قتيل! وأنشد أبو عبيدة لرجل من بجيلة:

كم من ضعيف العقل منتكث القوى

ما إن له نقض ولا إبرام

مالت له الدّنيا عليه بأسرها

فعليه من رزق الإله ركام

ومشيّع جلد أمين حازم

مرس له فيما يروم مرام

أعمى عليه سبيله(٣) فكأنّه

فيما يحاوله عليه حرام

أراد: كم من إنسان ضعيف القوى.

***

[من أفاكيه الأصمعي:]

أخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا ميمون بن هارون قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال: كان محمد بن منصور بن زياد الملقّب بفتى العسكر يميل إلى الأصمعي ويفضّله، ويقوم بأمره قال: فجئته يوما بعد موت محمد، وعنده عبد كان لمحمد أسود، وقد ترك الناس، وأقبل عليه وساءله وتحفّى به وحادثه، فلما خرج لمته على ذلك وقلت: من هذا حتى أفنيت عمر يومك به؟ فقال: هذا غلام ابن منصور، ثم أنشدني:

وقالوا ياجميل أتى أخوها

فقلت: أتى الحبيب أخو الحبيب(٤)

____________________

(١) ديوانه: ٤٥١ لا يباء به دم، أي ليس من يكافئه فيقتل به. وغلق الرهن إذا صار لا سبيل إلى فكاكه، وفي حاشية ف (من نسخة): (ومن غلق رهنا إذا ضمه).

(٢) حاشية ف (من نسخة):

* إذا راح نحو الحيرة البيض كالدّمى*

(٣) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (سبيله) بضم اللام.

(٤) حاشية ف: (صفة الحبيب)، أي الّذي هو أخو الحبيب.

٥٣٥

أحبّك والقريب بنا بعيد

لأن ناسبت بثنة من قريب

فقلت له - وكنت أفعل هذا كثيرا به لأستجرّ كلامه وعلمه -: ياأبا سعيد، ذاك أخوها، وهذا غلامها(١) فضحك، وقال: أنشد أبو عمرو - أو قال غيره:

أرى كلّ أرض(٢) أوطنتها وإن خلت

لها حجج تندى بمسك ترابها

وأقسم لو أنّي أرى تبعا لها(٣)

ذئاب الغضى حبّت إلي ذئابها

قال: فجعلت أعجب من قرب لسانه من قلبه وإجادة حفظه له متى أراده.

***

[تأويل الأصمعي لبيت من شعر امرئ القيس:]

وبهذا الإسناد عن إسحاق الموصلي قال قرأت على الأصمعي شعر امرئ القيس، فلما بلغت إلى هذا البيت:

أمن أجل أعرابية حلّ أهلها

بروض الشّرى عيناك تبتدران!(٤)

فقال لي أتعرف في هذا البيت خبئا باطنا غير ظاهر؟ قلت: لا، فسكت عنّي، فقلت:

إن كان فيه شيء فأفدنيه، فقال: نعم، أما يدلّك البيت على أنه لفظ ملك مستهين ذي قدرة على ما يريد؟ قال إسحاق: وما رأيت قطّ مثل الأصمعي بالعلم بالشعر.

____________________

(١) من نسخة بحاشية الأصل: (غلامة).

(٢) ف: (كل دار).

(٣) حاشية الأصل من نسخة: (حلفت لو أني)، ومن نسخة أخرى: (حلفت إلهي)، ومن نسخة أخرى:

* حلفت بأني لو أرى تبعا لها*

(٤) ديوانه: ١٢٤؛ وروايته:

أمن ذكر نبهانيّة حلّ أهلها

بجزع الملا عيناك تبتدران!

قال شارحه: (نبهانية: امرأة من نبهان، ونبهان من طيئ، وكان امرؤ القيس نازلا فيهم ثم ارتحل عنهم، والجزع: منعطف الوادي، والملا: ما استوى من الأرض؛ ومعنى تبتدران تستبقان بالدمع؛ أي أنه لما أبدع به الشوق وغلبه البكاء لام نفسه على ذلك. وفي حاشية الأصل: (قبله:

فدمعهما سحّ وسكب وديمة

ورشّ وتوكاف وتنهملان

٥٣٦

وروي عن إسحاق أيضا أنه قال: قال لي الأصمعي: ما يعني امرؤ القيس بقوله:

فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع

فألهيتها عن ذي تمائم محول(١)

فقلت: تخبرني، فقال: كان مفرّكا(٢) فيقول: ألهيت هؤلاء عن كراهتهنّ للرجال، فكيف أنا عند المحبات لهم.

***

[نقد الأصمعي لرواية ابن الأعرابي أبياتا روّاها ولد سعيد بن سلم:]

وروي أنّ السبب الّذي هاج التنافر بين الأصمعي وابن الأعرابي أنّ الأصمعي دخل ذات يوم على سعيد بن سلم وابن الأعرابي حينئذ يؤدب ولده - فقال لبعضهم: أنشد أبا سعيد، فأنشد الغلام أبياتا لرجل من بني كلاب، روّاه إياها ابن الأعرابي، وهي:

رأت نضو أسفار أميمة قاعدا

على نضو أسفار فجنّ جنونها(٣)

فقالت: من اي الناس أنت ومن تكن؟

فإنّك راعي صرمة لا يزينها(٤)

فقلت لها: ليس الشّحوب على الفتى

بعار، ولا خير الرّجال سمينها

عليك براعي ثلّة مسلحبّة

يروح عليها محضها وحقينها(٥)

____________________

(١) ديوانه: ٢٤. وفي حاشية الأصل. (روي أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله استنشد هذه القصيدة، فلما سمع البيت الّذي قبله هذا قال: لا تنشد البيت الّذي بعده، وهذا دليل على أنهعليه‌السلام كان يعرف الشعر. ولما سمع قوله:

* قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل*

قال: وقف واستوقف، وبكى وأبكى، وذكر الحبيب والمنزل في نصف بيت؛ فقالوا: يارسول الله؛ فديناك! أنت في هذا النقد أشعر منه).

(٢) المفرك: الّذي تبغضه النساء.

(٣) الخبر بتمامه في اللسان (ضحا)، والمزهر ٢: ٣٧٩، والمجالس المذكورة للعلماء ٩، وإنباه الرواة ٣: ١٣٣ - ١٣٤؛ والأبيات وردت متفرقة في اللسان (ضحا، جنن، حقن، نعم).

النضو: الدابة التي أهزلتها الأسفار وأذهبت لحمها. وفي اللسان: (أميمة شاحبا).

(٤) الصرمة: القطعة من الإبل؛ ما بين العشرين إلى الثلاثين. ورواية اللسان:

* فإنّك مولى أسرة لا يدينها*

(٥) الثلة، بالفتح: جماعة الغنم. والمسلحبّة: الممتدة؛ وأصله في الطريق. والمحض: اللبن الخالص، والحقين: اللبن الحبيس في الوطب؛ وقد ورد البيت في اللسان (حقن) ونسبه للمخبل، والرواية فيه:

وفي إبل ستّين حسب ظعينة

يروح عليها محضها وحقينها

وفي حاشية الأصل: (أي لست بالراعي فاطلبي غيري لو كنت تطلبين راعيا).

٥٣٧

سمين الضّواحي لم تؤرّقه ليلة

وأنعم أبكار الهموم وعونها

ورفع (ليلة) فقال الأصمعي: من روّاك هذا؟ فقال مؤدبي؛ فأحضره فاستنشده فأنشده، ورفع (ليلة)، فأخذ ذلك عليه؛ وفسر البيت فقال: إنما أراد: لم تؤرّقه ليلة أبكار الهموم وعونها، وأنعم، أي زاد على هذه الصفة.

وقوله: (سمين الضواحي) أي ما ظهر منه وبدا سمين، ثم قال الأصمعي لابن سلم:

من لم يحسن هذا المقدار فليس موضعا لتأديب ولد الملوك.

***

[حديث الأصمعي عن بشار بن برد:]

وأخبرنا المرزباني قال: حدثنا أحمد بن المكي قال حدثنا أبو العيناء قال حدثنا الأصمعي قال: ولد بشّار بن برد أكمه لم ينظر إلى الدنيا قطّ - وكان ذا فطنة - فقلت له يوما: من أين لك هذا الذكاء؟ قال: من قدم العمى؛ وعدم النواظر يمنع من كثير من الخواطر المذهلة فيكسب فراغ الذهن؛ وصحة الذكاء، وأنشد لنفسه يفخر بالعمى:

عميت جنينا والذكاء من العمى

فجئت عجيب الظّنّ للعلم موئلا(١)

وغاض ضياء العين للعقل رافدا

بقلب إذا ما ضيّع الناس حصّلا

وشعر كنور الرّوض لا أمت بينه

بقول إذا ما أحزن الشّعر أسهلا

***

[نقد بشار لشعر سمعه:]

وأخبرنا المرزباني قال أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا أبو العيناء قال حدثنا الأصمعي قال: أنشد رجل وأنا حاضر بشارا قول الشاعر:

وقد جعل الأعداء ينتقصوننا

وتطمع فينا ألسن وعيون(٢)

ألا إنما ليلى عصا خيزرانة

إذا غمزوها بالأكفّ تلين

فقال بشار: والله لو جعلها عصا مخ أو زبد لما كان إلاّ مخطئا مع ذكر العصا! ألا قال كما قلت:

____________________

(١) الأغاني ٣: ٢٣.

(٢) الخبر والأبيات في أمالي الزجاجي: ١٣٦.

٥٣٨

وحوراء المدامع من معدّ

كأنّ حديثها قطع الجنان

إذا قامت لسبحتها تثنّت

كأنّ قوامها من خيزران

ينسّيك المنى نظر إليها

ويصرف وجهها وجه الزمان

***

[أبيات لبشار يمدح فيها سليمان بن هشام بن عبد الملك:]

وأخبرنا المرزباني قال حدثنا عليّ بن أبي عبد الله الفارسي قال حدثني أبي عن عمر بن شبة قال قال لي أبو عبيدة: رحل بشار إلى الشام، فمدح سليمان بن هشام بن عبد الملك، وكان مقيما بحرّان،؛ فقال قصيدة طويلة أوّلها:

نأتك على طول التّجاور زينب

وما علمت أنّ النّوى سوف يشعب(١)

وكان سليمان بخيلا فأعطاه خمسة آلاف درهم، ولم يصب غيرها بعد أن طال مقامه، فقال:

إن أمس منشنج اليدين عن النّدى

وعن العدوّ محبّس الشّيطان(٢)

فلقد أروح على اللّئام مسلّطا

ثلج المقيل(٣) منعّم النّدمان

في ظلّ عيش عشيرة محمودة

تندى يدي، ويخاف فرط لساني

أزمان سربال الشّباب مذيّل

وإذ الأمير عليّ من جيراني

رئم بأحوية العراق إذا بدا

برقت عليه أكلة المرجان(٤)

فاكحل بعبدة مقلتيك من القذى

وبوشك رؤيتها من الهملان

فلقرب من تهوى وأنت متيّم

أشفى لدائك من بني مروان

فلما رجع إلى العراق برّه ابن هبيرة ووصله، وكان ابن هبيرة يقدّمه ويؤثره لمدحه قيسا وافتخاره بها، فلما جاءت دولة خراسان عظم شأنه.

____________________

(١) الأغاني ٣: ٥٦؛ ويشعب: يفرق، وبعده:

يرى الناس ما تلقى بزينب إذ نأت

عجيبا، وما تخفي بزينب أعجب

(٢) الخبر والشعر في الأغاني ٣: ٥٦. ومن نسخة بحاشية الأصل: (مخيس الشيطان).

(٣) م: (ثلج المقام).

(٤) أحوية جمع حواء؛ والحواء: جماعة البيوت المتدانية.

والأكلة: جمع إكليل؛ وهو التاج؛ أو شبه عصابة تزين بالجواهر.

٥٣٩

[أبيات مختلفة في وصف الثغر واللون والعيون والنجيب والظليم والاعتذار، رواها الأصمعي:]

وأخبرني المرزباني قال حدثنا محمد بن أحمد الكاتب قال حدثنا أحمد بن يحيى النحوي قال قال الأصمعي: ما وصف أحد الثّغر إلاّ احتاج إلى قول بشر بن أبي خازم:

يفلّجن الشّفاه عن اقحوان

جلاه غبّ سارية قطار

ولا وصف أحد اللون بأحسن من قول عمر بن أبي ربيعة:

وهي مكنونة تحيّر منها

في أديم الخدّين ماء الشّباب(١)

شفّ منها محقّق جندي

فهي كالشّمس من خلال السّحاب(٢)

ولا وصف أحد عيني امرأة إلا احتاج إلى قول عدي بن الرّقاع:

لولا الحياء وأنّ رأسي قد بدا

فيه المشيب لزرت أمّ القاسم(٣)

وكأنّها وسط النّساء أعارها

عينيه أحور من جآذر جاسم(٤)

وسنان أفصده النّعاس فرتّقت

في عينه سنة وليس بنائم(٥)

ولا وصف أحد نجيبا إلا احتاج إلى قول حميد بن ثور:

محلّى بأطواق عتاق يبينها

على الضّرّ راعي الضّأن لو يتقوّف(٦)

ولا وصف أحد ظليما إلا احتاج إلى قول علقمة بن عبدة:

____________________

(١) ديوانه: ٤٢٣.

(٢) ثوب محقق محكم النسج، وجند: بلد باليمن.

(٣) الشعر والشعراء ٦٠٢، واللآلئ ٥٢١، وفي حاشية الأصل (من نسخة): (قد فشا)، ومن نسخة أخرى: (قد غشا).

(٤) الجئاذر: جمع جؤذر، بضم الذل وفتحها، وهو ولد البقرة الوحشي. جاسم قرية بينها وبين دمشق ثمانية فراسخ.

(٥) أقصده: صرعه. رنقت: خالطت، والبيت أيضا في اللسان (رنق).

(٦) ديوانه ١١١؛ وفي حاشيتي الأصل، ف: (يصف بعيرا ومحلى؛ أي عليه نجار العتق، وإذا رآه صاحب الضأن الّذي لا بصيرة له عرف عتقه ونجابته على ما مسه من الضر. لم يتقوف، من القيافة، ويروى: (لو يتعيف). شبه ما يبين من عتقه بأطوق تظهر لمن رآها ويروى: (يبينه) أي البعير، وقبل هذا البيت:

فطرت إلى عاري العظام كأنّه

شقا ابن ثلاث ظهره متحرّف

طوته الفلا حتى كأنّ عظامه

مآسير عيدان تموج وترجف

فثار وما يمسي فويق عظامه

برمّ ولكن عارف متكلّف

-

٥٤٠

هيق كأنّ جناحيه وجؤجؤه

بيت أطافت به خرقاء مهجوم(١)

ولا اعتذر أحد إلا احتاج إلى قول النابغة:

فإنّك كاللّيل الّذي هو مدركي

وإن خلت أنّ المنتأى عنك واسع(٢)

قال سيدنا أدام الله علوّه: أما قول حميد بن ثور: (محلّى بأطواق عتاق) فإنه يريد أن عليه نجار الكرم والعتق، فصارت دلالتهما وسماتهما حلية له من حيث كان موسوما بهما.

ومعنى: (يبينها على الضراء) يتبينها ويعرفها هذا الراعي فيعلم أنه كريم، والتقوّف:

من القيافة.

فأما قول علقمة (هيق ) فالهيق: ذكر النعام. ومعنى: (أطافت به خرقاء)، أي عملته وابتنته، وقيل: إن خرقاء هاهنا هي الحاذقة، وأن هذه اللفظة تستعمل على طريق الأضداد في الحاذقة وغير الحاذقة، ومعنى (مهجوم): أي مهدوم، وقال الأصمعي: معنى (أطافت به)، أي عملته فخرقت في عمله، يقول: قد أرسل جناحيه كأنه خباء امرأة خرقاء، كلما رفعت ناحية استرخت أخرى؛ والوجه الثاني أشبه وأملح.

فأما قول بشر في وصف الثغر فأحسن منه وأكشف وأشد استيفاء قول النابغة:

____________________

 - قوله: (عاري العظام) أي بعير مهزول، وشقا ابن ثلاث أي هلال ابن ثلاث. وماء أسير عيدان ويروى (ماء آسر عيدان)، أي عيدان مأسورة مشدودة. والرم. المخ، يريد أنه ليس يمسي برم، أي ليس في عظامه مخ؛ ولكنه عارف؛ أي معترف بالسير، ذليل متكلف يتكلف السير على جهد).

(١) حاشية الأصل: (هيق، أي ظليم، وهو اسم له، والجؤجؤ: الصدر؛ وأراد بالبيت بيتان الشعر أو الوبر. الخرقاء: المرأة التي ليست بصناع. ومهجوم: مصروع ساقط، يقول: أتت البيت هذه الخرقاء لتصلحه فلم تحسن، واستخرجت عيدانه وأطنابه، فشبه الظليم به، لاسترخاء جناحيه ونشره إياهما. وقال المازني: إذا بنت الخرقاء بيتا انهدم سريعا. وقال غيره: خرقاء هنا: ريح لا تدوم على جهة واحدة) والبيت في ديوانه ١٣٠، والمفضليات: ٤٠٠، (طبعة المعارف) وروايته فيهما:

(٢) ديوانه:

* صعل كأنّ جناحيه وجؤجؤه*

٥٤١

كالأقحوان غداة غبّ سمائه

جفّت أعاليه وأسفله ند(١)

فإنما وصف أعاليه بالجفوف؛ ليكون متفرقا متنضّدا غير متلبّد ولا مجتمع؛ فيشبه حينئذ الثغور، ثم قال: (وأسفله ند) حتى لا يكون قحلا يابسا، بل يكون فيه الغضاضة والصّقالة، فيشبه غروب الأسنان التي تلمع وتبرق.

وروى الرياشي قال: سمعت الأصمعي يقول: أحسن ما قيل في وصف الثّغر قول ذي الرّمة:

وتجلو بفرع من أراك كأنّه

من العنبر الهندي والمسك يصبح(٢)

ذرا أقحوان واجه الليل وارتقى

إليه النّدى من رامة المتروّح(٣)

هجان الثّنايا مغربا لو تبسّمت

لأخرس عنه كاد بالقول يفصح(٤)

____________________

(١) ديوانه: ٣١. الأقحوان: نبت له نوار أصفر، حواليه ورق أبيض وفي حاشيتي الأصل، ف: (ضمن اللجام الحراني هذا البيت في هجو فجعله آبدة من الأوابد فقال:

ياسائلي عن جعفر، علمي به

رطب العجان وكفّه كالجلمد

كالأقحوان غداة غب سمائه

جفّت أعاليه وأسفله ند

والبيتان في خاص الخاص: ١٤٤.

(٢) ديوانه: ٨٣. يصبح: يسقى وقت الصباح.

(٣) في الديوان: (راحة الليل)، بالرفع. رامة: رملة بعينها. المتروح: الّذي جاء رواحا. وبعد هذا البيت في رواية الديوان:

تحفّ بترب الرّوض من كلّ جانب

نسيم كفأر المسك حين يفتّح

(٤) المغرب: الأبيض من كل شيء.

٥٤٢

[٣٩]

مجلس آخر [المجلس التاسع والثلاثون:]

تأويل آية:( فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ )

إن سأل سائل عن تأويل قوله تعالى:( فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ ) ؛ [التوبة: ٥٥].

فقال: كيف يعذبهم بالأموال والأولاد، ومعلوم أن لهم فيها مسرورا ولذة؟ وما تأويل قوله تعالى: وَهُمْ كافِرُونَ وظاهره يقتضي أنه أراد كفرهم من حيث أراد أن تزهق أنفسهم في حال كفرهم، لأن القائل إذا قال: أريد أن يلقاني فلان وهو لابس أو على صفة كذا وكذا، فالظاهر أنه أراد كونه على تلك الصفة؟

الجواب، قلنا: أما التعذيب بالأموال والأولاد ففيه وجوه:

أولها ما روي عن ابن عباس وقتادة، وهو أن يكون في الكلام تقديم وتأخير، ويكون التقدير: فلا تعجبك يامحمد ولا تعجب المؤمنين معك أموال هؤلاء الكفار والمنافقين ولا أولادهم في الحياة الدنيا؛ إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة عقوبة لهم على منعهم حقوقها؛ واستشهد على ذلك بقوله تعالى:( اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ ) ؛ [النمل: ٢٨]، والمعنى: فألقه إليهم فانظر ماذا يرجعون، ثم تول عنهم؛ وأنشد في ذلك قول الشاعر:

عشيّة أبدت جيد أدماء مغزل

وطرفا يريك الإثمد الجون أحورا(١)

يريد: وطرفا أحور يريك الإثمد الجون؛ وقد اعتمد هذا الوجه أيضا أبو عليّ قطرب، وذكره أبو القاسم البلخي والزّجاج.

____________________

(١) مغزل: معها غزالها.

٥٤٣

وثانيها أن يكون معنى التعذيب بالأموال والأولاد في الدّنيا هو ما جعله للمؤمنين من قتالهم وغنيمة أموالهم وسبي أولادهم واسترقاقهم؛ وفي ذلك لا محالة إيلام لهم، واستخفاف بهم، وإنما أراد تعالى بذلك إعلام نبيهعليه‌السلام والمؤمنين أنه لم يرزق الكفار الأموال والأولاد؛ ولم يبقها في أيديهم كرامة لهم، ورضا عنهم؛ بل للمصلحة الداعية إلى ذلك، وأنهم مع هذه الحالة معذبون بهذه النعم من الوجه الّذي ذكرناه، فلا يجب أن يغبطوا، ويحسدوا عليها؛ إذ كانت هذه عاجلتهم، والعقاب الأليم في النار آجلتهم؛ وهذا جواب أبي عليّ الجبائي.

وقد طعن عليه بعض من لا تأمّل له فقال: كيف يصح هذا التأويل، مع أنا نجد كثيرا من الكفّار لا تنالهم أيدي المسلمين، ولا يقدرون على غنيمة أموالهم، ونجد أهل الكتاب أيضا خارجين عن هذه الجملة لمكان الذّمة والعهد؟ وليس هذا الاعتراض بشيء، لأنه لا يمتنع أن تختص الآية بالكفار الذين لا ذمة لهم ولا عهد؛ ممن أوجب الله تعالى محاربته؛ فأما الذين لا تنالهم الأيدي، أو هم من القوة على حدّ لا يتم معه غنيمة أموالهم؛ فلا يقدح الاعتراض بهم في هذا الجواب لأنهم ممن أراد الله تعالى أن يسبي ويغنم، ويجاهد ويغلب؛ وإن لم يقع ذلك؛ وليس في ارتفاعه بالتعذّر دلالة على أنه غير مراد.

وثالثها أن يكون المراد بتعذيبهم بذلك كلّ ما يدخله في الدنيا عليهم من الغموم والمصائب بأموالهم وأولادهم التي لهؤلاء الكفار المنافقين عقاب وجزاء، وللمؤمنين محنة وجالبة للعوض وللنفع.

ويجوز أيضا أن يراد به ما ينذر به الكافر قبل موته، وعند احتضاره، وانقطاع التكليف عنه مع أنه حي، من العذاب الدائم الّذي قد أعدّ له، وإعلامه أنه صائر إليه، ومنتقل إلى قراره؛ وهذا الجواب قد روي معنى أكثره عن قوم من متقدمي المفسرين(١) ، وذكره أبو عليّ الجبائي أيضا.

____________________

(١) حاشية الأصل: (نسخة الشجري: أبو جعفر محمد بن جرير الطبري).

٥٤٤

ورابعها [جواب](١) يحكى عن الحسن البصري، واختاره الطبري وقدّمه على غيره، وهو أن يكون المراد بذلك ما ألزمه هؤلاء الكفار من الفرائض والحقوق في أموالهم؛ لأن ذلك يؤخذ منهم على كره، وهم إذا أنفقوا فيه أنفقوا بغير نيّة ولا عزيمة؛ فتصير نفقتهم غرامة وعذابا من حيث لا يستحقون عليها أجرا.

قال السيد قدس الله روحه: وهذا وجه غير صحيح؛ لأن الوجه في تكليف الكافر إخراج الحقوق من ماله كالوجه في تكليف المؤمن ذلك؛ ومحال أن يكون إنما كلّف إخراج هذه الحقوق على سبيل العقاب والجزاء؛ لأن ذلك لا يقتضي وجوبه عليه(٢) ؛ والوجه في تكليف الجميع هذه الأمور هو المصلحة واللطف في التكليف.

ولا يجري ذلك مجرى ما قلناه في الجواب الّذي قبل هذا؛ من أن المصائب والغموم قد تكون للمؤمنين محنة، وللكافرين عقوبة؛ لأن تلك الأمور مما يجوز أن يكون وجه حسنها العقوبة والمحنة جميعا؛ ولا يجوز في هذه الفرائض أن يكون لوجوبها على المكلّف إلا وجه واحد، وهو المصلحة في الدّين، فافترق الأمران.

وليس لهم أن يقولوا: ليس التعذيب في إيجاب الفرائض عليهم؛(٣) وإنما هو لإخراجهم أموالهم على وجه التكرّه والاستثقال(٣) ؛ وذلك أنه إذا كان الأمر على ما ذكروه خرج من أن يكون مرادا للّه تعالى؛ لأنه جلّ وعز ما أراد منهم إخراج المال على هذا الوجه، بل على الوجه الّذي هو طاعة وقربة؛ فإذا أخرجوها متكرّهين مستثقلين لم يرد ذلك؛ فكيف يقول:( إِنَّما يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِها ) ! ويجب أن يكون ما يعذبون به شيئا يصحّ أن يريده الله تعالى.

وجميع هذه الوجوه التي حكيناها في الآية - إلا جواب التقديم والتأخير - مبنيّة على أنّ

____________________

(١) من ف.

(٢ - ٢) ساقط من الأصل، وما أثبته عن ف.

(٣ - ٣) ف: (وإنما هو في إخراجهم لأموالهم على وجه التكره والاستثقال).

٥٤٥

الحياة الدنيا ظرف للعذاب؛ فتحمّل(١) كل متأوّل من القوم ضربا من التأويل؛ طابق(٢) ذلك.

وما يحتاج عندنا إلى جميع ما تكلّفوه، ولا إلى التقديم والتأخير إذا لم تجعل(٣) الحياة ظرفا للعقاب، بل جعلناها ظرفا للفعل الواقع بالأموال والأولاد؛ والمتعلّق بهما؛ لأنا قد علمنا أولا أنّ قوله:( لِيُعَذِّبَهُمْ بِها ) لا بد من الانصراف عن ظاهره؛ لأن الأموال والأولاد أنفسها لا تكون عذابا؛ والمراد على سائر وجوه التأويل الفعل المتعلّق بها والمضاف إليها؛ سواء كان إنفاقها والمصيبة بها والغمّ عليها، أو إباحة غنيمتها وإخراجها عن أيدي مالكيها؛ فكأنّ تقدير(٤) الآية: إنما يريد الله ليعذّبهم بكذا وكذا؛ مما يتعلق بأموالهم وأولادهم، ويتّصل بها؛ وإذا صحّ هذا جاز أن تكون الحياة الدنيا ظرفا لأفعالهم القبيحة في أموالهم وأولادهم التي تغضب الله تعالى وتسخطه؛ كإنفاقهم الأموال في وجوه المعاصي، وحملهم الأولاد على الكفر، وإلزامهم الموافقة لهم في النّحلة، ويكون تقدير الكلام: إنما يريد الله ليعذّبهم بفعلهم في أموالهم وأولادهم؛ الواقع ذلك منهم في الحياة الدنيا؛ وهذا وجه ظاهر يغني عن التقديم والتأخير؛ وسائر ما ذكروه من الوجوه.

فأما قوله تعالى:( وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ ) فمعناه تبطل وتخرج؛ أي أنّهم يموتون على الكفر؛ وليس يجب إذا كان مريدا لأن تزهق أنفسهم وهم على هذه الحال أن يكون مريدا للحال نفسها على ما ظنّوه؛ لأنّ الواحد منّا قد يأمر غيره ويريد منه أن يقاتل أهل البغي وهم محاربون، ولا يقاتلهم وهم منهزمون، ولا يكون مريدا لحرب أهل البغي للمؤمنين؛ وإن أراد قتالهم على هذه الحالة، وكذلك قد يقول لغلامه: أريد أن تواظب على المصير إلي في السّجن وأنا محبوس، وللطبيب: صر إلي ولازمني وأنا مريض، وهو لا يريد المرض ولا

____________________

(١) حاشية الأصل (من نسخة): (فتمحل).

(٢) ف: (يطابق).

(٣) حاشية الأصل (من نسخة): (لم نجعل الحياة).

(٤) حاشية الأصل (من نسخة): (فكان تقدير الكلام).

٥٤٦

الحبس؛ وإن كان قد أراد ما هو متعلق بهاتين الحالتين.

وقد ذكر في ذلك وجه آخر على ألاّ يكون قوله:( وَهُمْ كافِرُونَ ) حالا لزهوق أنفسهم؛ بل يكون كأنه كلام مستأنف، والتقدير فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم؛ إنما يريد الله ليعذّبهم بها في الحياة الدنيا؛ وتزهق أنفسهم وهم مع ذلك كافرون صائرون إلى النار؛ وتكون الفائدة أنهم مع عذاب الدنيا قد اجتمع عليهم عذاب الآخرة؛ ويكون معنى( تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ ) على هذا الجواب غير الموت وخروج النفس على الحقيقة، بل المشقة الشديدة والكلف(١) الصّعبة، كما يقال: ضربت فلانا حتى مات وتلفت نفسه، وخرجت روحه، وما أشبه ذلك.

***

[رأى الشريف المرتضى في شعر مروان بن أبي حفصة ومختارات من محاسن شعره:]

قال سيدنا أدام الله تمكينه: ذاكرني قوم من أهل الأدب بأشعار المحدثين وطبقاتهم وانتهوا إلى مروان بن يحيى بن أبي حفصة(٢) ؛ فأفرط بعضهم في وصفه وتقريظه، وآخرون في ذمه وتهجينه والإزراء على شعره وطريقته؛ واستخبروا عما أعتقده فيه، فقلت لهم:

كان مروان متساوي الكلام، متشابه الألفاظ، غير متصرّف في المعاني ولا غواص عليها ولا مدقّق لها؛ فلذلك قلّت النّظائر في شعره، ومدائحه مكرّرة الألفاظ والمعاني، وهو غزير الشعر قليل المعنى؛ إلا أنه مع ذلك شاعر له تجويد وحذق، وهو أشعر من كثير من أهل زمانه وطبقته، وأشعر شعراء أهله؛ ويجب أن يكون دون مسلم بن الوليد في تنقيح الألفاظ وتدقيق المعاني، وحسن الألفاظ، ووقوع التشبيهات، ودون بشّار بن برد في الأبيات النادرة السائرة، فكأنه طبقة بينهما؛ وليس بمقصّر دونهما شديدا، ولا منحط عنهما بعيدا.

وكان إسحاق بن إبراهيم الموصلي يقدّمه على بشار ومسلم، وكذلك أبو عمرو الشيباني

____________________

(١) ف: (والكلفة).

(٢) هو أبو السمط - وقيل أبو الهندام مروان بن أبي حفصة؛ ولد سنة ١٠٥، وهلك في أيام الرشيد سنة ١٨٢. (وانظر ترجمته وأشعاره في الشعر والشعراء.

٧٣٩ - ٧٤١، وابن خلكان ٢: ٧٩ - ٨١).

٥٤٧

وكان الأصمعي يقول: مروان مولّد(١) ، وليس له علم باللغة. واختلاف الناس في اختيار الشعر بحسب اختلافهم في التنبيه على معانيه؛ وبحسب ما يشترطونه من مذاهبه وطرائقه.

فسئلت عند ذلك أن أذكر مختار ما وقع إلي من شعره وأنبه على سرقاته ونظائر شعره، وأن أملي ذلك في خلال المجالس وأثنائها.

فمما يختار من شعره قوله من قصيدة يمدح بها المهدي أولها:

أعادك من ذكر الأحبّة عائد!

أجل، واستخفّتك الرسوم البوائد

يقول فيها:

تذكّرت من تهوى فأبكاك ذكره

فلا الذّكر منسي ولا الدّمع جامد

تحنّ ويأبى أن يساعدك الهوى

وللموت خير من هوى لا يساعد

ألا طالما أنهيت دمعك طائعا

وجارت عليك الآنسات النّواهد

تذكّرنا أبصارها مقل المها

واعناقها أدم الظّباء العواقد(٢)

تساقط منهنّ الأحاديث غضّة

تساقط درّ أسلمته المعاقد

إليك أمير المؤمنين تجاذبت

بنا اللّيل خوص كالقسي شوارد

يمانية ينأى القريب محلّة

بهنّ، ويدنو الشاحط المتباعد

تجلّى السّرى عنها، وللعيس أعين

سوام وأعناق إليك قواصد

إلى ملك تندى إذا يبس الثّرى

بنائل كفّيه الأكفّ الجوامد

____________________

(١) ف: (المولدون الذين بعد المخضرين) وفي حاشية الأصل (من نسخة): (مولد) بكسر اللام؛ أي يولد الكلام.

(٢) العاقد: هو الظبي الّذي عطف عنقه إلى ناحية عجزه؛ وقيل إن الصغائر تفعل ذلك كثيرا؛ قال ساعدة:

وكأنّما وافاك يوم لقيتها

من وحش وجرة عاقد متربّب

ولا يبعد أن يكون العواقد اللائي يأوين إلى عقدات الرمل، أو يكون معناه أنها عقدت أعناقها ملتفة إلى أذنابها، وذلك معهود من عادتها.

٥٤٨

له فوق مجد النّاس مجدان منهما

طريف وعادي الجراثيم تالد

وأحواض عزّ حومة الموت دونها

وأحواض عرف ليس عنهنّ ذائد

أيادي بني العبّاس بيض سوابغ

على كلّ قوم باديات عوائد

هم يعدلون السّمك من قبّة الهدى

كما تعدل البيت الحرام القواعد

سواعد عزّ المسلمين، وإنما

تنوء بصولات الأكفّ السّواعد

يكون غرارا نومه من حذاره

على قبّة الإسلام والخلق راقد

كأنّ أمير المؤمنين محمّدا

لرأفته بالنّاس للنّاس والد

أما قوله:

تساقط منهنّ الأحاديث غضّة

تساقط درّ أسلمته المعاقد

فكثير في الشعر، وأظن أن الأصل فيه أبو حيّة النميري في قوله:

إذا هنّ ساقطن الأحاديث للفتى

سقوط حصى المرجان من كفّ ناظم

وإنما عنى بالمرجان صغار اللؤلؤ، وعلى هذا يتأول قوله تعالى:( يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ ) ؛ [الرحمن: ٢٢].

ومثله قول الآخر:

هي الدّرّ منثورا إذا ما تكلّمت

وكالدّرّ منظوما إذا لم تكلّم

ومثله:

من ثغرها الدّرّ النّظيـ

ـم ولفظها الدّرّ النثير

ونظيره قول البحتري - وأحسن غاية الإحسان:

ولما التقينا والنّقا موعد لنا

تعجّب رائي الدّرّ حسنا ولاقطه

فمن لؤلؤ تجلوه عند ابتسامها

ومن لؤلؤ عند الحديث تساقطه

٥٤٩

ومثله قول الأخيطل(١) .

خلوت بها وسجف الليل ملقى

وقد أصغت إلى الغرب النّجوم

كأنّ كلامها درّ نثير

ورونق ثغرها درّ نظيم

ولغيره:

تبسّمت فرأيت الدّرّ منتظما

وحدّثت فرأيت الدّرّ منتثرا

ولآخر:

وتحفظ لا من ريبة يحذرونها

ولكنها من أعين النّاس تحفظ

وتلفظ درّا في الحديث إذا جرى

ولم نر درّا قبل ذلك يلفظ

ولبعض من تأخر زمانه من الشعراء وقرب من عصرنا هذا:

أظهرن وصلا إذ رحمن متيّما

وأرين هجرا إذ خشين مراقبا

فنظمن من درّ المباسم جامدا

ونثرن من درّ المدامع ذائبا

قال قدس الله روحه: وليس قول أبي دهبل في صفة الحديث(٢) :

كتساقط الرّطب الجني من ال

أقناء لا نثرا ولا نزرا

من هذا الباب في شيء، لأن جميع ما تقدم هو في وصف الثّغر؛ وهذا في وصف حسن الحديث وأنه متوسّط في القلة والكثرة، لازم للقصد كانتثار الرّطب من الأقناء؛ ويشبه أن يكون أراد أيضا مع ذلك وصفه بالحلاوة والغضاضة لتشبيهه له بالرطب، ثم إنه غضّ طري غير مكرّر ولا معاد؛ لقوله: (الرطب الجني) فتجتمع له أغراض: الوصف بالاقتصاد في القلة والكثرة، ثم وصفه بالحلاوة، ثم الفصاحة، ثم الغضاضة.

____________________

(١) في م: (الأخطل) خطأ؛ وفي حاشية الأصل: (الأهوازي، يقال له برقوقا)؛ وهو محمد بن عبد الله، شاعر مجيد من أهل الأهواز.

(٢) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (في وصف حسن الحديث والثغر).

٥٥٠

ونظير قول أبي دهبل قول ذي الرمّة:

لها بشر مثل الحرير ومنطق

رخيم الحواشي لا هراء ولا نزر(١)

فأما قول مروان:

إلى ملك تندى إذا يبس الثّرى

بنائل كفّيه الأكفّ الجوامد

فمثل قول أبي حنش النميري في يحيى بن خالد البرمكيّ:

لا تراني مصافحا كفّ يحيى

إنّني إن فعلت أتلفت(٢) مالي

لو يمسّ البخيل راحة يحيى

لسخت نفسه ببذل النّوال

ومثله قول ابن الخياط(٣) المدني في المهدي:

لمست بكفّي كفّه أبتغي الغنى

ولم أدر أنّ الجود من كفّه يعدي(٤)

فلا أنا منه ما أفاد ذوو الغنى

أفدت، وأعداني فأتلفت ما عندي

وقد قيل إن هذا الشاعر كأنه مصرّح بالهجاء؛ لأنه زعم أنّ الّذي لمس كفّه لم يفده شيئا بل أعداه جوده، فأتلف ماله، ولم يرد الشاعر إلا المدح؛ ولقوله وجه، وهو أنّ ذوي الغنى هم الذين تستقر الأموال في أيديهم وتلبث تحت أيمانهم؛ ومن أخرج ما يملكه حالا بحال لا يوصف بأنه ذو غنى، فأراد الشاعر أنني لم أفد منه ما بقي في يدي واستقرّ تحت ملكي؛ فلهذا قال: لم أفد ما أفاد ذرو الغنى.

ومن هذا المعنى قول مسلم:

إلى ملك لو صافح النّاس كلّهم

لما كان حي في البريّة يبخل

ومثله قول العكوّك:

لو لمس النّاس راحتيه

ما بخل النّاس بالعطاء

____________________

(١) ديوانه ٢١٢.

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): (أتلف).

(٣) حاشية الأصل: (ابن الخياط، هو عبد الله بن محمد، ويعرف بابن الخياط؛ ذكر ذلك أبو الفرج الأصبهاني رحمه الله) وترجمته في الأغاني ١٨: ٩٤ - ١٠٠.

(٤) الأغاني ١٨: ٩٤.

٥٥١

وأحسن من هذا كلّه وأشبه بالمدح، وأدخل في طريقته قول البحتري:

من شاكر عنّي الخليفة بالذّي

أولاه من طول ومن إحسان(١)

ملأت يداه يدي وشرّد جوده

بخلي، فأفقرني كما أغناني

حتى لقد أفضلت من إفضاله

ورأيت نهج الجود حيث أراني

ووثقت بالخلف الجميل معجّلا

منه، فأعطيت الّذي أعطاني

ومن هذا قول الآخر:

رأيت الندى في آل عوف خليقة

إذا كان في قوم سواهم تخلّقا

ولو جزت في أبياتهم(٢) لتعلّمت

يداك النّدى منهم فأصبحت مملقا

ولابن الرومي:

يجود البخيل إذا ما رآك

ويسطو الجبان إذا عاينك

فأما قوله:

وأحواض عزّ حومة الموت دونها

وأحواض عرف ليس عنهنّ ذائد

فيشبه أن يكون إبراهيم بن العباس الصولي أخذه في قوله:

لنا إبل كوم يضيق بها الفضا

وتفترّ عنها أرضها وسماؤها(٣)

فمن دونها أن تستباح دماؤنا

ومن دوننا أن تستباح دماؤها

حمى وقرى فالموت دون مرامها

وأيسر خطب عند حقّ فناؤها

وقد أحسن إبراهيم بن العباس في أبياته كل الإحسان.

فأما قوله:

يكون غرارا نومه من حذاره

على قبّة الإسلام والخلق راقد

فكثير متداول، ومن حسنه قول محمد بن عبد الملك الزيات:

____________________

(١) ديوانه ٢: ٢٧٢.

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): (في أثنائهم).

(٣) ديوانه: ١٥٣، والأغاني ١٠: ٥٩ (طبع دار الكتب المصرية). الكوم: الإبل الضخمة العظيمة السنام؛ الواحد أكوم والأنثى كوماء.

٥٥٢

نعم الخليفة للرّعيّة من إذا

رقدت وطاب لها الكرى لم يرقد

ومثله:

ويظلّ يحفظنا ونحن بغفلة

ويبيت يكلؤنا ونحن نيام

ومثله للبحتري:

أربيعة الفرس اشكري يد منعم

وهب الإساءة للمسيء الجاني(١)

روّعتموا جاراته فبعثتمو

منه حميّة آنف غيران

لم تكر عن قاصي الرّعية عينه

فتنام عن وتر القريب الدّاني

فأما قوله:

كأن أمير المؤمنين محمدا

لرأفته بالناس للناس والد

فنظير قول بعض الشعراء في يحيى بن خالد البرمكي:

أحيا لنا يحيى فعال خالد

فأصبح اليوم كثير الحامد

يسخو بكلّ طارف وتالد

على بعيد غائب وشاهد

الناس في إحسانه كواحد

وهو لهم أجمعهم كالوالد

ومن جيد قول مروان من قصيدة أوّلها:

خلت بعدنا من آل ليلى المصانع

وهاجت لنا الشّوق الدّيار البلاقع

يقول فيها:

ومالي إلى المهدي لو كنت مذنبا

سوى حلمه الضّافي على النّاس شافع

ولا هو عند السّخط منه ولا الرّضا

بغير التي يرضى بها الله واقع(٢)

تغضّ له الطّرف العيون وطرفه

على غيره من خشية الله خاشع

____________________

(١) ديوانه ٢: ٢٧٢. وفي حاشية الأصل: (ربيعة رجل ورث أباه دوابه، فقيل له ربيعة الفرس؛ وسميت القبيلة باسم ربيعة وهي التي تذكر مع مضر).

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): (ولا هو) وفيها (من نسخة): (قانع).

٥٥٣

أما قوله:

* ولا هو عند السخط منه ولا الرّضا* البيت

فمثل قول أشجع:

ولست بخائف لأبي عليّ

ومن خاف الإله فلن يخافا

ومثله:

أمّنني منه ومن خوفه

خيفته من خشية الباري

ولأبي نواس:

قد كنت خفتك ثمّ أمّنني

من أن أخافك خوفك الله(١)

ويشبه هذا المعنى ما روي عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه وآله أنه دعا غلاما مرارا فلم يجبه، فخرج فوجده على الباب(٢) فقال له: ما حملك على ترك إجابتي؟ قال: كسلت عن إجابتك، وأمنت عقوبتك، فقال:عليه‌السلام : الحمد للّه الّذي جعلني ممن يأمنه خلقه.

فأما قوله: (تغضّ له الطرف العيون) فيشبه أن يكون مأخوذا من قول الفرزدق، أو ممّن تنسب إليه هذه الأبيات:

يغضي حياء ويغضى من مهابته

فما يكلّم إلاّ حين يبتسم(٣)

____________________

(١) ديوانه ١٠٩؛ من أبيات بعث بها إلى الفضل بن الربيع.

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): (على باب البيت).

(٣) ينسب هذا البيت مع غيره أيضا للحزين الكناني؛ وانظر ما مر من حواشي ص ٦٨.

٥٥٤

[٤٠]

مجلس آخر [المجلس الأربعون:]

تأويل آية:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ) ؛ [الأنفال: ٢٤].

فقال: ما معنى الحول بين المرء وقلبه؟ وهل يصحّ ما تأوّله قوم من أنّه يحول بين الكافر وبين الإيمان؟ وما معنى قوله:( لِما يُحْيِيكُمْ ) ؟ وكيف تكون الحياة في إجابته؟

الجواب، قلنا: أما قوله تعالى:( يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ) ففيه وجوه:

أوّلها أن يريد بذلك أنّه تعالى يحول بين المرء وبين الانتفاع بقلبه بالموت، وهذا حثّ من الله عز وجل على الطاعات والمبادرة بها قبل الفوت وانقطاع التّكليف، وتعذّر ما يسوّف به المكلّف نفسه من التوبة والإقلاع؛ فكأنه تعالى قال: بادروا إلى الاستجابة للّه وللرسول من قبل أن يأتيكم الموت فيحول بينكم وبين الانتفاع بنفوسكم وقلوبكم، ويتعذر عليكم ما تسوّفون به(١) نفوسكم من التوبة بقلوبكم. ويقوّي ذلك قوله تعالى:( وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) (٢) .

وثانيها أن يحول بين المرء وقلبه بإزالة عقله وإبطال تمييزه، وإن كان حيّا، وقد يقال لمن فقد عقله وسلب تمييزه: إنّه بغير عقل(٣) ؛ قال الله تعالى:( إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ ) ؛ [ق: ٣٧].

وقال الشاعر:

ولي ألف وجه قد عرفت مكانه

ولكن بلا قلب إلى أين أذهب!

وهذا الوجه يقرب من الأوّل؛ لأنه تعالى أخرج هذا الكلام مخرج الإنذار لهم،

____________________

(١) حاشية الأصل (من نسخة) (فيه).

(٢) بقية الآية السابقة

(٣) حاشية الأصل (من نسخة): (بغير قلب).

٥٥٥

والحث لهم(١) على الطاعات قبل فوتها، لأنه لا فرق بين تعذّر التوبة وانقطاع التكليف بالموت وبين تعذّرها بإزالة العقل.

وثالثها أن يكون المعنى المبالغة في الإخبار عن قربه من عباده وعلمه بما يبطنون ويخفون؛ وأنّ الضمائر المكنونة(٢) له ظاهرة، والخفايا المستورة لعلمه بادية؛ ويجري ذلك مجرى قوله تعالى:

( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) ؛ [ق: ١٦]، ونحن نعلم أنه لم تعالى يرد بذلك قرب المسافة، بل المعنى الّذي ذكرناه.

وإذا كان عزّ وجل هو أعلم بما في قلوبنا منّا، وكان ما نعلمه أيضا يجوز أن ننساه، ونسهو عنه، ونضلّ عن علمه - وكل ذلك لا يجوز عليه - جاز أن يقول: إنه يحول بيننا وبين قلوبنا؛ لأنه معلوم في الشاهد أن كل شيء يحول بين شيئين فهو أقرب إليهما.

ولما أراد تعالى المبالغة في وصف القرب خاطبنا بما نعرف ونألف؛ وإن كان القرب الّذي عناه جلّت عظمته لم يرد به المسافة، والعرب تضع كثيرا لفظة القرب على غير معنى المسافة؛ فيقولون: فلان أقرب إلى قلبي من فلان، وزيد مني قريب، وعمرو منّي بعيد؛ ولا يريدون المسافة.

ورابعها - ما أجاب به بعضهم - من أنّ المؤمنين كانوا يفكّرون في كثرة عدوّهم، وقلة عددهم، فيدخل قلوبهم الخوف، فأعلمهم تعالى أنه يحول بين المرء وقلبه، بأن يبدّله بالخوف الأمن؛ ويبدّل عدوّهم - بظنهم أنهم قادرون عليهم وغالبون لهم - الجبن والخور.

ويمكن في الآية وجه خامس؛ وهو أن يكون المراد أنه تعالى يحول بين المرء وبين ما يدعوه إليه قلبه من القبائح؛ بالأمر والنهي والوعد والوعيد؛ لأنا نعلم أنه تعالى لو لم يكلف العاقل مع ما فيه من الشهوات والنفار لم يكن له عن القبيح مانع؛ ولا عن مواقعته رادع؛ فكأنّ التكليف حائل بينه وبينه؛ من حيث زجر عن فعله، وصرف عن مواقعته؛

____________________

(١) ساقطة من ف.

(٢) حاشية ف (من نسخة): (المكنومة).

٥٥٦

وليس يجب في الحائل أن يكون في كل موضع مما يمتنع معه الفعل؛ لأنا نعلم أن المشير منّا على غيره في أمر كان قد همّ به وعزم على فعله أن يجتنبه. والمنبّه له على أنّ الحظ في الانصراف عنه يصح أن يقال: منعه(١) ، وحال بينه وبين فعله، قال عبيد الله بن قيس الرقيات(٢) :

حال دون الهوى ودو

ن سري اللّيل مصعب

وسياط على أكـ

ـفّ رجال تقلّب

ونحن نعلم أنه لم يحل إلاّ بالتخويف والترهيب دون غيرهما.

فإن قيل: كيف يطابق هذا الوجه صدر الآية؟

قلنا: وجه المطابقة ظاهر، لأنه تعالى أمرهم بالاستجابة للّه تعالى ولرسوله فيما يدعوان إليه من فعل الطاعات، والامتناع من المقبّحات، وأعلمهم أنه بهذا الدعاء والإنذار وما يجري(٣) مجراهما يحول بين المرء وبين ما تدعوه إليه نفسه من المعاصي؛ ثم إن المآب بعد هذا كلّه إليه والمنقلب إلى ما عنده؛ فيجازي كلاّ باستحقاقه.

فأما قوله تعالى:( إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ ) ففيه وجوه:

أوّلها أن يريد بذلك الحياة في النعيم(٤) والثواب، لأنّ تلك هي الحياة الطيبة الدائمة التي يؤمن من تغيّرها، ولا يخاف انتقالها، فكأنه تعالى حث على إجابته التي تكسب هذه الحال.

وثانيها أنّه يختص(٥) ذلك بالدعاء إلى الجهاد وقتال العدوّ، فكأنه تعالى أمرهم بالاستجابة للرسولعليه‌السلام فيما يأمرهم به من قتال عدوّهم(٦) ؛ ودفعهم عن حوزة الإسلام

____________________

(١) حاشية الأصل (من نسخة): (منعه منه).

(٢) حاشية الأصل: (كان جده شاعرا يشبب بجماعة من النساء، اسم كل واحدة منهن رقية؛ فأضيف إليهن).

(٣) حاشية ف (من نسخة): (وما جرى).

(٤) حاشية ف (من نسخة): (النعم).

(٥) ش: (أن يختص).

(٦) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف (الأعداء).

٥٥٧

وأعلمهم أنّ ذلك يحييهم من حيث كان فيه قهر للمشركين، وتقليل لعددهم، وفلّ لحدّهم؛ وحسم لأطماعهم، لأنهم متى كثروا وقووا استلانوا جانب المؤمنين؛ وأقدموا عليهم بالقتل وصنوف المكاره؛ فمن هاهنا كانت الاستجابة لهعليه‌السلام في القتال تقتضي الحياة والبقاء؛ ويجري ذلك مجرى قوله تعالى:( وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ ) ؛ [البقرة: ١٧٩].

وثالثها ما قاله قوم من أنّ كلّ طاعة حياة، ويوصف فاعلها بأنه حي، كما أن المعاصي يوصف فاعلها بأنه ميت، والوجه في ذلك أنّ الطائع لما كان(١) منتفعا بحياته، وكانت تؤديه إلى الثواب الدائم قيل: إن الطاعة حياة؛ ولما كان الكافر العاصي لا ينتفع بحياته؛ من حيث كان مصيره إلى العقاب الدائم كان في حكم الميّت؛ ولهذا يقال لمن كان منغّص(٢) الحياة، غير منتفع بها: فلان بلا عيش ولا حياة، وما جرى مجرى ذلك من حيث لم ينتفع بحياته.

ويمكن في الآية وجه آخر، وهو أن يكون المراد بالكلام الحياة بالحكم لا في الفعل؛ لأنا قد علمنا أنهعليه‌السلام كان مكلّفا مأمورا بجهاد جميع المشركين المخالفين لملته وقتلهم، وإن كان فيما بعد كلّف ذلك فيمن عدا أهل الذمة على شرطها؛ فكأنه تعالى قال: استجيبوا للرسول ولا تخالفوه، فإنكم إذا خالفتم كنتم في الحكم غير أحياء، من حيث تعبّدعليه‌السلام بقتالكم وقتلكم، فإذا أطعتم كنتم في الحكم أحياء؛ ويجري ذلك مجرى قوله تعالى:

( وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً ) ؛ [آل عمران: ٩٧]؛ وإنما أراد تعالى أنه يجب أن يكون آمنا؛ وهذا(٣) حكمه، ولم يخبر بأن ذلك لا محالة واقع.

فأما المجبرة فلا شبهة لهم في الآية، ولا متعلّق بها؛ لأنه تعالى لم يقل: إنه يحول بين المرء وبين الإيمان، بل ظاهر الآية يقتضي أنّه يحول بينه وبين أفعاله، وإنما يقتضي ظاهرها أنه يحول بينه وبين قلبه؛ وليس للإيمان ولا للكفر ذكر، ولو كان للآية ظاهر يقتضي

____________________

(١) ش: (إذا كان).

(٢) حاشية ف (من نسخة): (متكدر).

(٣) حاشية ف (من نسخة): (وهكذا حكمه).

٥٥٨

ما ظنوه - وليس لها ذلك - لانصرفنا عنه بأدلة العقل الموجبة أنه تعالى لا يحول بين المرء وبين ما أمره به، وأراده منه، وكلّفه فعله؛ لأن ذلك قبيح، والقبائح عنه منفيّة.

***

[خبر حصن بن حذيفة مع أولاده حين طعنه كرز بن عامر:]

أخبرنا أبو عبيد الله محمد بن عمران المرزباني قال حدثني أحمد بن محمد الجوهري قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثنا أحمد بن عمرو بن إسماعيل بن عبد العزيز بن عبد الرحمن ابن عوف قال حدثني محمد بن خالد(١) بن عبد الله عن الحجاج السّلمي قال: لما اشتد بحصن ابن حذيفة بن بدر وجعه من طعنة كرز(٢) بن عامر إياه يوم بني عقيل دعا ولده فقال:

إن الموت أهون مما أجد، فأيّكم يطيعني؟ قالوا: كلنا نطيعك؛ فبدأ بأكبرهم فقال: قم فخذ سيفي واطعن به حيث آمرك، ولا تعجّل؛ قال: ياأبتاه: أيقتل المرء(٣) أباه! فأتى على القوم كلّهم، فأجابوه جواب(٤) الأول؛ حتى انتهى إلى عيينة فقال: ياأبتاه، أليس لك فيما تأمرني به راحة، ولي بذلك طاعة؛ وهو هواك؟ قال: بلى، قال: فمرني كيف أصنع، قال:

قم فخذ سيفي فضعه حيث آمرك(٥) ، ولا تعجّل، فقام فأخذ سيفه، ووضعه على قلبه، ثم قال: ياأبتاه، كيف أصنع؟ قال: ألق السيف؛ إنما أردت أن أعلم: أيّكم أمضى لما آمر به؛ فأنت خليفتي ورئيس قومك من بعدي، فقال القوم: إنه(٦) سيقول فيما كان بيتا، فاحضروه(٦) فلما أمسى قال:

ولّوا عيينة من بعدي أموركم

واستيقنوا أنه بعدي لكم حام

إما هلكت فإني قد بنيت لكم

عزّ الحياة بما قدّمت قدّامي

واستوسقوا للتى فيها مروءتكم

قود الجياد، وضرب القوم في إلهام(٧)

____________________

(١) ش: (عمر بن خالد).

(٢) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (كريز).

(٣) ش: (الرجل).

(٤) ف: (بجواب الأول). حاشية الأصل (من نسخة): (الجواب الأول).

(٥) حاشية الأصل (من نسخة): (كما أمرت به).

(٦ - ٦) م: (إنه سيقول في ذلك شيئا فيما بيننا، فأحضروه).

(٧) استوسقوا: انضموا واجتمعوا، وفي حاشية الأصل: (نصب (قود الجياد)، على تقدير فعل مضمر؛ كأنه قال: أعني قود الجياد).

٥٥٩

والقرب من قومكم - والقرب ينفعكم -

والبعد إن باعدوا، والرّمي للرّامي

ولى حذيفة إذ ولى وخلّفني

يوم الهباة يتيما وسط أيتام

لا أرفع الطّرف ذلاّ عند مهلكة

ألقى العدوّ بوجه خدّه دامي

حتّى اعتقدت لوا قومي فقمت به

ثمّ ارتحلت إلى الجفني بالشام

لما قضى ما قضى من حقّ زائره

عجت المطي إلى النّعمان من عامي

أسمو لما كانت الآباء تطلبه

عند الملوك فطرفي عندهم سامي

والدّهر آخره شبه لأوّله

قوم كقوم وأيّام كأيّام

فابنوا ولا تهدموا فالنّاس كلّهم

من بين بان إلى العليا وهدّام

قال: ثم أصبح ودعا بني بدر، فقال: لوائي ورئاستي لعيينة؛ واسمعوا مني ما أوصيكم به:

لا يتكل آخركم على أولكم؛ فإنما يدرك الآخر(١) ما أدركه الأول؛ وأنكحوا الكف ء(٢) الغريب؛ فإنه عزّ حادث؛ وإذا حضركم أمران فخذوا بخيرهما صدرا؛ فإن كلّ مورد معروف؛ واصحبوا قومكم بأجمل أخلاقكم؛ ولا تخالفوا فيما اجتمعوا عليه؛ فإن الخلاف يزري بالرئيس المطاع؛ وإذا حاربتم فأوقعوا ثم قولوا صدقا؛ فإنه لا خير في الكذب، وصونوا الخيول، فإنها حصون الرجال؛ وأطيلوا الرماح؛ فإنها قرون الخيل؛ وأعزوا(٣) الكبير بالكبير؛ فإني بذلك كنت أغلب الناس، ولا تغزوا إلاّ بالعيون؛ ولا تسرحوا حتى تأمنوا الصباح؛ وأعطوا على حسب المال، وأعجلوا الضيف بالقرى؛ فإن خيره أعجله، واتقوا فضحات البغي، وفلتات المزاح، ولا تجترءوا على الملوك؛ فإن أيديهم أطول من أيديكم؛ واقتلوا كرز بن عامر.

ومات حصن فأخذ عيينة الرّئاسة، وقال:

أطعت أبا عيينة في هواه

فلم تخلج صريمتي الظّنون(٤)

____________________

(١) حاشية الأصل (من نسخة): (الأخير).

(٢) ف، وحاشية الأصل (من نسخة): (الكفي).

(٣) س: (واغزو).

(٤) الصريمة: العزيمة والرأى. وفي حاشية الأصل: (يقال: اختلجته الظنون وتخالجته وخلجته، أي ظن، والشاعر يقول: لم تأخذني الظنون مآخذها إلى طعنه، ولم أظن ظنا).

٥٦٠

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679