أمالي المرتضى الجزء ١

أمالي المرتضى0%

أمالي المرتضى مؤلف:
تصنيف: مكتبة اللغة والأدب
الصفحات: 679

أمالي المرتضى

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشريف أبى القاسم على بن الطاهر أبى أحمد الحسين
تصنيف: الصفحات: 679
المشاهدات: 308019
تحميل: 10900


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 679 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 308019 / تحميل: 10900
الحجم الحجم الحجم
أمالي المرتضى

أمالي المرتضى الجزء 1

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وقد عرض الرّئيس على بنيه

فقال القوم: هذا لا يكون

ستحيا أو تموت، فطاولوه(١)

وقتل المرء والده جنون

فلم أقتل بحمد الله حصنا

وكلّ فتى ستدركه المنون

ولم أنكل عليه، وكلّ أمر

إذا هوّنته يوما يهون

فإن يك بدء هذا الأمر غثّا

فآخره بني بدر سمين

وحكى عمرو بن بحر الجاحظ أن اسم عيينة بن حصن حذيفة، وإنما أصابته اللّقوة(٢) فجحظت عينه؛ وزال فكّه، فسمي لذلك عيينة؛ وإذا عظمت عين الإنسان لقّبوه أبا عيينة، وأبا عيناء.

وروى قيس بن أبي حازم أن عيينة بن حصن دخل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: (هذا أحمق مطاع).

وروي أيضا أنه كان يدلع(٣) لسانه للحسين بن عليّعليهما‌السلام وهو صبي، فيرى [الصبي](٤) لسانه، فيهشّ له، فقال له عيينة: ألا أراك(٥) تصنع هذا بهذا، فو الله إنه ليكون لي الابن رجلا قد خرج وجهه، ما قبّلته قطّ، فقال رسول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ((٦) إنه من لم يرحم لا يرحم(٦) ).

***

[عود إلى المختار من شعر مروان بن أبي حفصة:]

ونعود إلى ما كنا وعدنا به من الكلام على شعر مروان؛ فمما يختار من شعره قوله من قصيدة أوّلها:

صحا بعد جهل فاستراحت عواذله

وأقصرن عنه حين أقصر باطله

ومن مدّ في أيامه فتأخّرت

منيّته، فالشّيب لا شكّ شامله

____________________

(١) حاشية الأصل (من نسخة):

* سيحيا أو يموت فطاولوه*

(٢) اللقوة: داء في الوجه يعوج منه الشدق.

(٣) يقال دلع لسانه وأدلعه إذا أخرجه.

(٤) تكملة من ش.

(٥) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (لا أراك).

(٦ - ٦) حاشية الأصل (من نسخة): (من لم يرحم لا يرحم).

٥٦١

يقول في المديح فيها:

هو المرء؛ أما دينه فهو مانع

صئون(١) ، وأما ماله فهو باذله

أمرّ وأحلى ما بلى النّاس طعمه

عقاب أمير المؤمنين ونائله

أبي لما يأبى ذوو الحزم والتّقى

فعول إذا ما جدّ بالأمر فاعله

تروك الهوى، لا السّخط منه ولا الرّضا

لدى موطن إلاّ على الحقّ حامله(٢)

يرى أنّ مرّ الحقّ أحلى مغبّة

وأنجى ولو كانت زعافا مناهله

فإنّ طليق الله من هو مطلق

وإنّ قتيل الله من هو قاتله

وإنّك بعد الله للحكم الّذي

تصاب به من كلّ حقّ مفاصله

أما قوله:

ومن مدّ في أيامه فتأخّرت

منيّته، فالشّيب لا شكّ شامله

فمأخوذ من قول طريح بن إسماعيل الثقفي:

والشّيب غاية من تأخّر حينه

لا يستطيع دفاعه من يجزع

والأصل في هذا قول أميّة بن أبي الصّلت:

من لم يمت عبطة يمت هرما

وللموت كأس، والمرء ذائقها(٣)

ويشبه ذلك قول الآخر:

قل لعرسي ليس شيبي بعجب

من يعش ياأمّ عمار يشب

ومثله قول أبي العتاهية:

من يعش يهرم، ومن يكبر يمت

والمنايا لا تبالي من أتت(٤)

____________________

(١) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (مصون).

(٢) حاشية الأصل: (أي لا يحمد السخط ولا الرضا إلا على الحق).

(٣) عبطة؛ أي شابا صحيحا؛ كذا ذكره صاحب اللسان (في عبط)، واستشهد بالبيت. وفي نسخة ش: (فالمرء ذائقها).

(٤) ديوانه: ٣٩.

٥٦٢

يشبهه قول البحتري:

ولا بدّ من ترك إحدى اثنتين

فإمّا الشّباب وإما العمر(١)

ويقاربه أيضا قوله:

والشّيب مهرب من جارى منيّته

ولا نجاء له من ذلك الهرب(٢)

وقريب منه قول ابن المعتز:

وقالت كبرت وانتضيت من الصّبا

فقلت لها: ما عشت إلاّ لأكبرا(٣)

ولبعضهم:

ولا بدّ من موت؛ فإما شبيبة

وإمّا مشيب، والشبيبة أصلح

معنى قوله: (والشبيبة أصلح) أنّ الإنسان إذا مات شابا كان أكثر للحزن عليه والأسف على مفارقته، فإذا أسنّ برم به أهله، وهان عليهم فقده.

فأما قوله:

هو المرء، أما دينه فهو مانع

صئون، وأما ماله فهو باذله

فمعناه متكرر في الشعر كثير جدا.

وأحسن شعر جمع بين وصف الممدوح؛ بمنع ما يجب منعه، وبذل ما يجب بذله قول مسلم بن الوليد:

يذكّر نيك الجود والبخل والنّهى

وقول الخنا والحلم والعلم والجهل(٤)

فألقاك عن مذمومها متنزّها

وألقاك في محمودها ولك الفضل

وأحمد من أخلاقك البخل إنه

بعرضك - لا بالمال حاشا لك - البخل

____________________

(١) ديوانه: ١: ٢١٩

(٢) ديوانه ١: ٣٠

(٣) ديوانه: ١: ٣١، وانتضيت من الصبا، أي خلع عنك صباك.

٥٦٣

وقد أحسن البحتري في قوله:

بلونا ضرائب من قد نرى

فما إن وجدنا لفتح ضريبا(١)

تنقّل في سلفي(٢) سؤدد

سماحا مرجّى وبأسا مهيبا

فكالسّيف إن جئته صارخا

وكالبحر إن جئته مستثيبا

فأما قوله:

تروك الهوى، لا السخط منه ولا الرّضا

لدى موطن إلاّ على الحقّ حامله

فمعنى متداول(٣) مطروق في الشعر، وقد كرّره هو في قوله:

إذا هنّ ألقين الرّحال ببابه

حططن به ثقلا، وأدركن مغنما(٤)

إلى طاهر الأخلاق، ما نال في رضا

ولا غضب مالا حراما ولا دما(٥)

وأحسن من هذا قول أبي تمّام في محمد بن عبد الملك:

ثبت الخطاب إذا اصطكّت بمظلمة

في رحله ألسن الأقوام والرّكب(٦)

لا المنطق اللّغو يزكو في مقاومه

يوما، ولا حجّة الملهوف تستلب

كأنّما هو في نادي قبيلته

لا القلب يهفو ولا الأحشاء تضطرب

وتحت ذاك قضاء حزّ شفرته

كما يعضّ بظهر الغارب القتب(٧)

لا سورة تتّقى منه ولا بله

ولا يخاف(٨) رضا منه ولا غضب

____________________

(١) ديوانه ١: ٥١، من قصيدة يمدح فيها الفتح بن خاقان وزير المتوكل وبعاتبه، ومطلعها:

لوت بالسلام بنانا خضيبا

ولحظا يشوق الفؤاد الطروبا

ومن نسخة بحاشية الأصل: (فما إن رأينا لفتح ضريبا).

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): (خلقي سؤدد)؛ وهي رواية الديوان.

(٣) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (فمبذول).

(٤) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (وأدين مغنما)،

(٥) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (طاهر الأثواب).

(٦) ديوانه: ٤٨ - ٤٩. وفي م: (ثبت الجنان).

(٧) الغارب: الكاهل. القتب: ما يوضع على ظهر الرحل.

(٨) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (ولا يخيف).

٥٦٤

ومثله قول البحتري في ابن الزّيات أيضا:

وجّه الحقّ بين أخذ وإعطا

وقصد في الجمع والتّبديد(١)

واستوى النّاس فالقريب قريب

عنده، والبعيد غير بعيد

لا يميل الهوى به حين يمضي ال

أمر بين المقلي والمودود

وسواء لديه أبناء إبرا

هيم في حكمه وأبناء هود(٢)

مستريح الأحشاء من كلّ ضغن

بارد الصّدر من غليل الحقود

فأما قوله:

* وإنّ قتيل الله من هو قاتله*

فيشبه أن يكون مأخوذا من قول يزيد بن مفرّغ في عبيد الله بن زياد:

إنّ الّذي عاش ختّارا بذمّته

ومات عبدا قتيل الله بالزّاب(٣)

أما قوله:

وإنك بعد الله للحكم الّذي

تصاب به من كل حقّ مفاصله

[أبيات أبي تمام في وصف القلم:]

فيشبه قول أبي تمام يصف القلم، من قصيدة يمدح بها ابن الزيات، وأجمع العلماء أنّ هذه الأبيات أحسن وأفخم من جميع ما قيل في القلم:

لك القلم الأعلى الّذي بشباته

تصاب من الأمر الكلى والمفاصل(٤)

له الخلوات اللاّئي لولا نجيّها

لما احتفلت للملك تلك المحافل

____________________

(١) ديوانه ١: ٢٠٥.

(٢) أبناء إبراهيم: العدنانيون، وأبناء هود: القحطانيون.

(٣) الزاب: موضع قريب من أذربيجان؛ وقتيل الزاب هو عبيد الله بن زياد ابن أبيه؛ قتله أصحاب المختار بن أبي عبيد؛ ويقال: إن إبراهيم بن الأشتر حمل على كتيبته فانهزموا، ولقي عبيد الله فضربه فقتله؛ والبيت في الأغاني ١٧: ٦٨، وبعده:

العبد للعبد، لا أصل ولا طرف

ألوت به ذات أظفار وأنياب

(٤) ديوانه: ٢٥٧. الشباة هنا: حد القلم، والكلى: جمع كلية أو كلوة.

٥٦٥

لعاب الأفاعي القاتلات لعابه

وأرى الجنى اشتارته أيد عواسل(١)

له ريقة طلّ، ولكنّ وقعها

بآثاره في الشّرق والغرب وابل(٢)

فصيح إذا استنطقته وهو راكب،

وأعجم إن خاطبته وهو راجل

إذا ما امتطى الخمس اللّطاف وأفرغت

عليه شعاب الفكر وهي حوافل(٣)

أطاعته أطراف القنا، وتقوّضت

لنجواه تقويض الخيام الجحافل

إذا استغزر الذّهن الذّكي وأقبلت

أعاليه في القرطاس وهي أسافل

وقد رفدته الخنصران وسدّدت(٤)

ثلاث نواحيه الثلاث الأنامل

رأيت جليلا شأنه وهو مرهف

ضنى، وسمينا خطبه وهو ناحل

____________________

(١) الأري: العسل. اشتارته: استخرجته. عواسل: جمع عاسلة؛ والعاسل: مستخرج العسل.

(٢) الطل في الأصل: المطر القليل. والوابل: المطر الكثير.

(٣) في حاشيتي الأصل، ف: (جعل القلم ممتطيا الأنامل؛ لأنهن يحملنه وإن علونه؛ ولو جعل القلم مطية للأنامل لأنها تعلوه لجاز وحسن. وقوله: (أفرغت عليه شعاب الفكر) دلالة قوية على أن للفكر مطية؛ وبعد فهو منقول من قول أحمد بن يوسف وعمرو بن مسعدة: (الأقلام مطايا الفطن).

(٤) حاشية الأصل (من نسخة): (شددت).

٥٦٦

[٤١]

مجلس آخر [المجلس الحادي والأربعون:]

تأويل آية:( فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ، إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ. لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ. وَما تَشاؤُنَ إِلاّ أَنْ يَشاءَ الله رَبُّ الْعالَمِينَ ) ؛ [التكوير: ٢٦ - ٢٩].

فقال: ما تأويل هذه الآية؟ أوليس ظاهرها يقتضي أنّا لا نشاء شيئا إلا والله تعالى شاء له، ولم يخصّ إيمانا من كفر، ولا طاعة من معصية؟

الجواب، قلنا: الوجه المذكور في هذه الآية، أنّ الكلام متعلّق بما تقدّمه من ذكر الاستقامة؛ لأنه تعالى قال:( لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ ) ؟ ثم قال:( وَما تَشاؤُنَ إِلاّ أَنْ يَشاءَ الله رَبُّ الْعالَمِينَ ) ؛ أي لا تشاءون الاستقامة إلاّ والله تعالى مريد لها؛ ونحن لا ننكر أن يريد الله تعالى الطاعات؛ وإنما أنكرنا إرادته المعاصي؛ وليس لهم أن يقولوا:

تقدّم ذكر الاستقامة لا يوجب قصر الكلام عليها؛ ولا يمنع من عمومه؛ كما أن السبب لا يوجب قصر ما يخرج من الكلام عليه حتى لا يتعدّاه؛ وذلك أن الّذي ذكروه إنما يجب فيم يستقل بنفسه من الكلام دون ما لا يستقل.

وقوله تعالى: وَما تَشاؤُنَ إِلاّ أَنْ يَشاءَ الله لا ذكر للمراد فيه؛ فهو غير مستقل بنفسه؛ وإذا علّق بما تقدم من ذكر الاستقامة استقلّ؛ على أنه لو كان للآية ظاهر يقتضي ما ظنوه - وليس لها ذلك - لوجب الانصراف عنه بالأدلة الثابتة؛ على أن الله تعالى لا يريد المعاصي ولا القبائح؛ على أن مخالفينا في هذه المسألة لا يمكنهم حمل الآية على العموم؛ لأن العباد قد يشاءون عندهم ما لا يشاؤه الله تعالى؛ بأن يريدوا الشيء ويعزموا عليه، فلا يقع لمنع أو غيره؛ وكذلك قد يريد النبيعليه‌السلام من الكفار الإيمان، وتعبّدنا بأن نريد من المقدم على القبيح تركه؛ وإن كان تعالى عندهم لا يريد ذلك إذا كان المعلوم أنه لا يقع؛ فلا بد لهم

٥٦٧

من تخصيص الآية؛ فإذا جاز لهم ذلك بالشّبهة جاز لنا مثله بالحجة؛ وتجري هذه الآية مجرى قوله تعالى:( إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ، فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً ) ؛ [المزمل: ١٩]،( وَما تَشاؤُنَ إِلاّ أَنْ يَشاءَ الله ) ، [الإنسان: ٣٠]، وقوله تعالى:( وَما يَذْكُرُونَ إِلاّ أَنْ يَشاءَ الله ) ، [المدثر: ٥٦]، في تعلّق الكلام بما قبله.

فإن قالوا: فالآية تدل على مذهبنا وبطلان مذهبكم(١) من وجه آخر؛ وهو أنه عز وجل قال:( وَما تَشاؤُنَ إِلاّ أَنْ يَشاءَ الله ) ؛ وذلك يقتضي أنه يشاء الاستقامة في حال مشيئتنا لها؛ لأن (أن) الخفيفة إذا دخلت على الفعل المضارع اقتضت الاستقبال؛ وهذا يوجب أنه يشاء أفعال العباد في كل حال، ويبطل ما تذهبون إليه من أنه إنما يريد الطاعات في حال الأمر.

قلنا: ليس في ظاهر الآية ألاّ نشاء إلاّ ما شاءه الله تعالى في حال مشيئتنا كما ظننتم؛ وإنما يقتضي حصول مشيئته لما نشاؤه من الاستقامة من غير ذكر لتقدم ولا تأخر؛ ويجري ذلك مجرى قول القائل: ما يدخل زيد هذه الدار إلا أن يدخلها عمرو؛ ونحن نعلم أنه غير واجب بهذا الكلام أن يكون دخولهما في حال واحدة؛ بل لا يمتنع أن يتقدّم دخول عمرو، ويتلوه دخول زيد، و (أن) الخفيفة وإن كانت للاستقبال على ما ذكروه، فلم يبطل على تأويلنا معنى الاستقبال فيها؛ لأن تقدير الكلام: وما تشاءون الطاعات إلا بعد أن يشاء الله تعالى، ومشيئته تعالى قد كانت لها حال الاستقبال(٢) .

وقد ذهب أبو عليّ محمد بن عبد الوهاب الجبائي إلى أنه لا يمتنع أن يريد تعالى الطاعات حالا بعد حال؛ وإن كان قد أرادها في حال الأمر؛ كما يصحّ أن يأمر بها أمرا بعد أمر؛ قال: لأنه قد يصحّ أن يتعلّق بإرادته ذلك منا بعد الأمر وفي حال الفعل مصلحة؛ ويعلم تعالى أنّا نكون متى علمنا ذلك كنا إلى فعل الطاعات أقرب، وعلى هذا المذهب لا يعترض بما ذكروه.

____________________

(١) حاشية ف (من نسخة): (مذاهبكم).

(٢) حاشية ف (من نسخة): (حال استقبال).

٥٦٨

والجواب الأول واضح إذا لم نذهب إلى مذهب أبي عليّ في هذا الباب؛ على أنّ اقتضاء الآية للاستقبال من أوضح دليل على فساد قولهم؛ لأن الكلام إذا اقتضى حدوث المشيئة واستقبالها بطل قول من قال منهم: إنه مريد لنفسه، أو مريد بإرادة قديمة، وصحّ ما تقوله من إنّ إرادته متجدّدة محدثة.

ويمكن في تأويل الآية وجه آخر مع حملنا إياها على العموم؛ من غير أن نخصها بما تقدّم ذكره من الاستقامة؛ ويكون المعنى: وما تشاءون شيئا من فعالكم إلا أن يشاء الله تمكينكم من مشيئته، وإقداركم عليها والتخلية بينكم وبينها؛ وتكون الفائدة في ذلك الإخبار عن الافتقار إلى الله تعالى؛ وأنه لا قدرة للعبد على ما لم يقدّره الله تعالى عزّ وجل، وليس يجب عليه أن يستبعد هذا الوجه؛ لأن ما تتعلّق به المشيئة في الآية محذوف غير مذكور؛ وليس لهم أن يعلقوا قوله تعالى:( إِلاّ أَنْ يَشاءَ الله ) بالأفعال دون تعلقه بالقدرة؛ لأن كل واحد من الأمرين غير مذكور، وكل هذا واضح بحمد الله.

***

[عود إلى المختار من شعر مروان بن أبي حفصة:]

ونعود إلى ما كنا وعدنا به من الكلام على شعر مروان؛ فمما يختار قوله من قصيدة أوّلها:

طرقتك زائرة، فحي خيالها

بيضاء تخلط بالحياء دلالها

يقول فيها:

مالت(١) بقلبك فاستقاد ومثلها

قاد القلوب إلى الصّبا فأمالها

وكأنّما طرقت بنفحة روضة

سحّت بها ديم الرّبيع ظلالها

باتت تسائل في المنام معرّسا(٢)

بالبيد أشعث لا يملّ سؤالها

في فتية هجعوا غرارا بعد ما

سئموا مراعشة السّرى ومطالها

____________________

(١) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (ملكت).

(٢) التعريس: النزول في آخر الليل

٥٦٩

فكأنّ حشو ثيابهم هنديّة

نحلت وأغفلت العيون صقالها

المراعشة(١) : تحريك الرأس في السّير من النوم.

أما ذكره في أول القصيدة طروق الطيف؛ فإنه لم يأت فيه بمعنى غريب؛ ولا لفظ مستعذب؛ وقد قال الناس في الطّيف والخيال فأكثروا، وقد سبق في ذلك قيس بن الخطيم إلى معنى؛ كلّ الناس فيه عيال عليه، وهو قوله:

أنّى سربت وكنت غير سروب!

وتقرّب الأحلام غير قريب(٢)

ما تمنعي يقظى فقد تؤتينه

في النّوم غير مصرّد محسوب

كان المنى بلقائها فلقيتها

فلهوت من لهو امرئ مكذوب

وقد أحسن جرير في قوله:

أننسى إذ تودّعنا سليمى

بفرع بشامة، سقى البشام(٣)

بنفسي من تجنّيه(٤) عزيز

عليّ، ومن زيارته لمام

ومن أمسى وأصبح لا أراه

ويطرقني إذا هجع النّيام

وهذه الأبيات وإن خلت من معنى في ذكر الطيف غريب، فلم تخل من لفظ مستعذب.

ولأبي عبادة البحتري في وصف الخيال الفضل على كل متقدّم ومتأخّر؛ فإنه تغلغل في

____________________

(١) حاشية الأصل: (في نسخة الشجري: قال السيد المرتضىرضي‌الله‌عنه : المراعشة في الأصل:

تحريك الرأس في السير من النوم) وفيها أيضا: (الرعش: المشي الضعيف، من الإعياء وغيره).

(٢) ديوانه: ٥، وحماسة ابن الشجري ١٨٩، واللآلئ: ٥٢٤. وانظر ص ٣٩٣ من هذا الجزء.

(٣) ديوانه: ٥١٢، مع اختلاف في ترتيب الأبيات. والبشامة: واحدة البشام؛ وهو شجر ذو أفنان وورق صغير؛ إذا قصفت غصونه سال منها سائل أبيض كاللبن؛ يتخذ منه سواك؛ يريد أنها أشارت بسواكها تودعه؛ ولم تتكلم مخافة الرقباء.

(٤) حاشية الأصل (من نسخة): (تجنبه) وهي رواية الديوان. ولمام: قليل.

٥٧٠

أوصافه، واهتدى من معانيه إلى ما لا يوجد لغيره، وكان مشغولا بتكرار القول فيه لهجا بإبدائه وإعادته؛ وإن كان لأبي تمام في ذلك مواضع لا يجهل فضلها، ومحاسن لا يبلغ شأوها؛ فمما لأبي تمام قوله:

زار الخيال لها، لا بل أزاركه

فكر إذا نام فكر الخلق لم ينم(١)

ظبي تقنّصته لما نصبت له

من آخر اللّيل أشراكا من الحلم

ثمّ اغتدى، وبنا من ذكره سقم

باق، وإن كان مشغولا(٢) من السّقم

وقوله:

عادك الزّور ليلة الرّمل من رم

لة بين الحمى وبين المطالي(٣)

ثم ما زارك الخيال ولك

نّك بالفكر زرت طيف الخيال

وقوله:

اللّيالي أحفى بقلبي إذا ما

جرحته النّوى من الأيام

يالها لذّة تنزّهت الأر

واح فيها سرّا من الأجسام

مجلس لم يكن لنا فيه عيب

غير أنّا في دعوة الأحلام

فأما البحتري فقوله في هذا المعنى أكثر من أن يذكر جميعه هاهنا؛ غير أنا نشير إلى نادره، فمن ذلك قوله:

فلا وصل إلاّ أن يطيف خيالها

بنا تحت جؤشوش من اللّيل أسفع(٤)

ألمت بنا بعد الهدوّ فسامحت

بوصل متى تطلبه في الجدّ تمنع

وما برحت حتّى مضى الليل وانقضى

وأعجلها داعي الصّباح الملمّع

فولّت كأنّ البين يخلج شخصها

أوان تولّت من حشاي وأضلعي(٥)

____________________

(١) ديوانه: ٢٦٨.

(٢) د؛ ومن نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (معسولا؛ أي وإن كان ذلك السقم حلوا كالعسل).

(٣) المطالي: موضع.

(٤) ديوانه: ٢: ٧٨. وفي حاشية الأصل: (الجؤشوش: الصدر؛ وكذلك الجوش والجوشن.

أسفع: أسود).

(٥) حاشية الأصل: (الخلج: الجذب؛ يقول: كأن البين يخلجها من حشاي وأضلعي).

٥٧١

وربّ لقاء لم يؤمّل وفرقة

لأسماء لم تحذر ولم تتوقّع

أراني لا أنفك في كلّ ليلة

تعاود فيها المالكيّة مضجعي

أسرّ بقرب من ملمّ مسلّم

وأشجى ببين من حبيب مودّع

فكائن لنا بعد النّوى من تفرّق

ترجّيه أحلام الكرى، وتجمّع

وكقوله:

وإنّي وإن ضنّت عليّ بودّها

لأرتاح منها للخيال المؤرّق(١)

يعزّ على الواشين لو يعلمونها

ليال لنا نزدار فيها ونلتقي

فكم غلّة للشّوق أطفأت حرّها

بطيف متى يطرق دجى الليل يطرق

أضمّ عليه جفن عيني تعلّقا

به عند إجلاء النّعاس المرنّق

وقوله:

بلى وخيال من أثيلة كلّما

تأوّهت من وجد تعرّض يطمع(٢)

إذا زورة منه تقضّت مع الكرى

تنبّهت من وجد له أتفزّع

ترى مقلتي ما لا ترى في لقائه

وتسمع أذني رجع ما ليس تسمع

ويكفيك من حقّ تخيّل باطل

تردّ به نفس اللهيف فترجع

وقوله:

إذا ما الكرى أهدى إلي خياله

شفى قربه التبريح أو نقع الصّدى(٣)

إذا انتزعته من يدي انتباهة

عددت حبيبا راح منّي أو غدا

ولم أر مثلينا ولا مثل شأننا

نعذّب أيقاظا وننعم هجّدا

وقوله:

فما نلتقي إلاّ على حلم هاجد

يحلّ لنا جدواك وهي حرام(٤)

____________________

(١) ديوانه: ٢: ١٢٢.

(٢) ديوانه ٢: ٨٧؛ وفيه: (وخيال من قتيلة).

(٣) ديوانه ١: ١٧٤.

(٤) ديوانه ٢: ٢٤٩.

٥٧٢

إذا ما تباذلنا النّفائس خلتنا

من الجدّ أيقاظا ونحن نيام(١)

وقوله:

وليلة هوّمنا على العيس أرسلت

بطيف خيال يشبه الحقّ باطله(٢)

فلولا بياض الصّبح طال تشبّثي

بعطفي غزال بتّ وهنا أغازله

وقوله:

أمنك تأوّب الطّيف الطّروب

حبيب جاء يهدى من حبيب(٣)

تخطّى رقبة الواشين كرها(٤)

وبعد مسافة الخرق المجوب

يكاذبني وأصدقه ودادا

ومن كلف مصادقة الكذوب

وقوله:

ما تقضّى لبانة عند لبنى

والمعنّى بالغانيات معنى(٥)

هجرتنا يقظى وكادت على مذ

هبها(٦) في الصّدود تهجر وسنى

بعد لأي وقد تعرّض منها

طائف عرّجت على الرّكب وهنا

قال المرتضىرضي‌الله‌عنه : ووجدت أبا القاسم الحسن بن بشر الآمدي مع ميله إلى البحتري وانحطاطه في شعبه، واجتهاده في تأويل ما أخذ عليه من خطأ وزلل يزعم أن البحتري أخطأ في قوله:

هجرتنا يقظى وكادت على مذ

هبها في الصّدود تهجر وسنى

قال: خ خ لأن(٧) خيالها يتمثل له في كل أحوالها؛ يقظى كانت أو وسنى. قال: خ خ ولكنّ الجيد في هذا المعنى قوله:

____________________

(١) حاشية الأصل: (في نسخة س: قرأت في ديوانه على شيخي: (خلتنا)، بضم التاء.

(٢) ديوانه ٢: ١٦٢.

(٣) ديوانه ١: ٨٤.

(٤) حاشية الأصل (من نسخة): (وهنا)؛ وهي رواية الديوان.

(٥) ديوانه ٢: ٢٩٠.

(٦) في الديوان: (عادتها):

(٧) الموازنة بين أبي تمام والبحتري: ١٨٨.

٥٧٣

أردّ دونك يقظانا ويأذن لي

عليك سكر الكرى إن جئت وسنانا

قال: خ خ والّذي أوقع البحتري في هذا الغلط قول قيس بن الخطيم:

ما تمنعي يقظى فقد تؤتينه

في النّوم غير مصرّد محسوب

وكان الأجود أن يقول: ما تمنعي في اليقظة فقد تؤتينه في النوم، أي ما تمنعينه في يقظتي فقد تؤتينه في حال نومي؛ حتى يكون النوم واليقظة منسوبين إليه؛ لأن خيال المحبوب يتمثّل في حال نومه ويقظته جميعا، قال: إلاّ أنه يتّسع من التأويل في هذا لقيس ما لا يتّسع للبحتري لأن قيسا قال: (فقد تؤتينه في النوم) ولم يقل نائمة؛ وقد يجوز أن يحمل على أنه أراد:

ما تمنعي يقظى وأنا يقظان؛ فقد تؤتينه في النوم، أي في نومي؛ ولا يسوغ مثل هذا في بيت البحتري لأنه قال: (وسنى) ولم يقل في الوسن.

قال سيّدنا أدام الله علوّه: وقد يمكن من التأويل للبحتري ما أمكن مثله لقيس؛ لكنّ الآمدي قد ذهب عن ذلك؛ لأن البحتري لما قال: (وسنى) دلّ على حال الوسن؛ والحال المعهودة للوسن حال يشترك الناس فيها في النوم بالعادة، كما أنّ الحال المعهودة لليقظة حال مشتركة بالعادة؛ فقوله: (وسنى) ينبئ عن كونه هو أيضا نائما؛ وإنما أراد المقابلة في زنة اللفظ بين يقظى ووسنى.

وقوله: (يقظى) متى لم يحمل أيضا على هذا المعنى لم يصحّ؛ لأنه لا بدّ أن يريد بذلك:

هجرتنا في أحوال اليقظة؛ ويكون معنى (يقظى) يتعدّى إليه؛ ألا ترى أن الآمدي حمل قول قيس: (يقظى) على معنى: (وأنا يقظان) وإن لم يبيّن الوجه!؛ فكيف ذهب عليه مثل ذلك في قول البحتري!

وقوله: (وسنى) و (يقظى) مثل قول قيس: (يقظى)، ولو مكّن قيسا وزن الشعر من أن يقول؛ (وسنى) في مقابلة: (يقظى) لقاله وما عدل عنه إلى النوم؛ لأنه لم يكن عليه في (وسنى) إلا ما عليه في (يقظى)، وما يتأوّل له في أحد الأمرين يتأوّل له في الآخر.

٥٧٤

قال سيدنا أدام الله تمكينه: ولي في الخيال وطروقه معنى ما علمت أنه سبق إليه، من جملة قصيدة:

وزور تخطّى جنوب الملا

فناديت أهلا بذا الزّائر

أتاني هدوّا وعين الرّقي

ب مطروفة بالكرى الغامر

فأعجب به يسعف الهاجعين

وتحرمه مقلة السّاهر

وعهدي بتمويه عين المحبّ

ينمّ على قلبه الطّائر

فلمّا التقينا برغم الرّقا

د موّه قلبي على ناظري

ومعنى البيت الآخر أن الأحلام إنما هي اعتقادات تحصل في القلب لا حقيقة لأكثرها؛ لأن الإنسان يعتقد أنه راء لما لا يراه على الحقيقة، ومدرك لما ليس بمدركه على الحقيقة؛ فالقلب يخيّل في النوم للعين ما لا حقيقة له؛ كما أنّ العين تخيّل في كثير من الأحوال للقلب ما لا حقيقة له.

فأما قول مروان:

* فكأنّما طرقت بنفحة روضة* البيت

فيشبه أن يكون مأخوذا من قول نهشل بن حرّي(١) :

طرقت أسيماء الرّحال ودونها

ثنيان من ليل التّمام الأسود(٢)

ومفاوز وصل الفلاة جنوبها

بجنوب أخرى، غير أن لم تعقد

____________________

(١) حاشية الأصل: (منسوب إلى الحرة؛ موضع فيه حجارة سود).

(٢) في حاشيتي الأصل، ف: (الثني: واحد أثناء الشيء أي تضاعيفه، وثني الوادي والجبل:

منعطفه). ومن نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (بينان)؛ وهو مثنى بين؛ والبين: القطعة من الأرض على مد البصر. ومن نسخة أيضا:

* نقيان من رمل الثّمام الأسود*

وفي حاشيتي الأصل، ف: (يقال: ولد المولود لتمام، وقمر تمام [بفتح التاء وكسرها]، وليل التمام، بالكسر لا غير؛ وهي أطول ليلة في السنة).

٥٧٥

رمل إذا أيدي الرّكاب قطعنه

قرعت مناسمها بقفّ قردد(١)

وكأنّ ريح لطيمة هنديّة

وذكي جادي بنصع مجسد(٢)

وندى خزامى الجوّ، جوّ سويقة

طرق الخيال به بعيد المرقد(٣)

أو من قول الآخر:

طرقتك زينب والمزار بعيد

بمنى ونحن معرّسون هجود(٤)

فكأنّما طرقت بريّا روضة

أنف يسحسح مزنها ويجود(٥)

وهذا المعنى كثير في الشعر المتقدم والمتأخر جدّا.

فأما قوله:

* باتت تسائل في المنام معرّسا*

البيت، والبيتان اللذان بعده؛ فقد قال الناس في وصف قلة النوم، ومواصلة السّرى، والإدلاج، وشعث السارين فأكثروا، فمن أحسن ما قيل في ذلك قول لبيد:

ومجود من صبابات الكرى

عاطف النّمرق صدق المبتذل(٦)

____________________

(١) الركاب: الإبل؛ والمناسم: جمع منسم كمجلس: خف البعير. والقف: ما ارتفع من الأرض وغلظ. والقردد: الغليظ المرتفع.

(٢) اللطيمة: العير التي تحمل الطيب والمسك. والجادي:

الزعفران. والنصع: الثوب الأبيض. والمجسد: المصبوغ بالزعفران.

(٣) الخزامي: نبت طيب الريح. وجوّ سويقة: موضع بالصمان.

(٤) يقال: عرس القوم بالمكان وأعرسوا؛ إذا نزلوا في آخر الليل للاستراحة.

(٥) روضة أنف: لم ترع. ويسحسح: يسيل. والجود: المطر الغزير.

(٦) ديوانه ٢: ١٣. المجود: الّذي يجهد من النعاس؛ كذا ذكره صاحب اللسان، واستشهد بالبيت.

وفي حاشية الأصل: (المجود الّذي سقي الجود؛ وهو المطر؛ والمعنى هنا على التشبيه؛ كأن النوم جاده؛ أي مطره. والصبابات: جمع صبابة؛ وهي البقية. والنمرقة، مثلثة: الطنفسة فوق الرحل. وصدق المبتذل: جلد قوي لا يتغير عند ابتذله نفسه ولا يسقط؛ والمبتذل: مصدر بمعنى الابتذال؛ وهو ضد الصيانة).

٥٧٦

قال هجّدنا فقد طال السّرى

وقدرنا إن خنى الدّهر غفل(١)

قلّما عرّس حتّى هجته

بالتّباشير من الصّبح الأول(٢)

يلمس الأحلاس في منزله

بيديه كاليهودي المصلّ(٣)

يتمارى في الّذي قلت له

ولقد يسمع قولي حيّهل(٤)

ومن ذلك قول ذي الرمة:

وليل كأثناء الرّوبزي جبته

بأربعة، والشّخص في العين واحد(٥)

- والرّويزي، هو الطيلسان. وقد روي أيضا: (كجلباب العروس ادّرعته)؛ وكل ذلك وصف له بالسواد؛ لأن الطيلسان أسود، وجلباب العروس أخضر، والعرب تجمع بين الخضرة والسواد -

أحمّ علافي، وأبيض صارم،

وأعيس مهري، وأشعث ماجد(٦)

____________________

(١) هجدنا؛ من التهجيد؛ وهو هنا بمعنى النوم؛ أي دعنا ننام. والسرى: سير عامة الليل وقدرنا، أي وقدرنا على ورود الماء، أو قدرنا على التهجيد، أو على السير. وخنى الدهر: آفته وفساده؛ أي إن غفل عنا فساد الدهر فلم يعقنا.

(٢) قلما؛ ما المتصلة بقل كافة لها عن طلب الفاعل؛ وتجعلها بمنزلة ما النافية في الأغلب؛ وهنا لإثبات القلة. والتعريس: النزول في آخر الليل للاستراحة: وهجته:

أيقظته من النوم، وهاج يهيج: يجئ لازما ومتعديا. وبالتباشير، أي بظهورها. والتباشير: أوائل الصبح، جمع تبشير. والأول: صفة التباشير؛ وهو جمع أولى مؤنث الأول.

(٣) يلمس الأحلاس؛ يطلبها، والأحلاس: جمع حلس؛ وهو كساء رقيق يكون على ظهر البعير تحت رحله. وقوله: (كاليهودي المصل)؛ قال في حاشية الأصل: (شبهه باليهودي لأنه يسجد على شق وجهه، وأصل ذلك أنهم لما نتق الجبل فوقهم قيل لهم: إما أن تسجدوا وإما أن يلقى عليكم، فسجدوا على شق واحد مخافة أن يسقط عليهم الجبل؛ فصار عندهم سنة إلى اليوم). وكذا جاء في شرح الطوسي.

(٤) التماري: المجادلة. وحيهل: اسم فعل بمعنى أسرع وعجل؛ وهذه الأبيات أوردها صاحب الخزانة (٢: ٢٨) نقلا عن الغرر.

(٥) ديوانه: ١٢٩. أي لا تتفاوت الشخوص والألوان فيه لظلمته.

(٦) يقول: جبت الليل بأربعة؛ ثم فسر الأربعة فقال: أحم أسود؛ ويعني به الرحل، وعلافي:

منسوب إلى علاف؛ وهو رجل من قضاعة. والأبيض الصارم: السيف القاطع. والأعيس: الأبيض، يعني بعيره. والماجد: الكثير المفاخر؛ وفي حاشية الأصل: (الإبل المهرية: منسوبة إلى مهرة بن حيدان، -

٥٧٧

أخو شقّة جاب الفلاة بنفسه

على الهول حتّى طوّحته المطارد(١)

وأشعث مثل السّيف قد لاح جسمه

وجيف المهاري والهموم الأباعد(٢)

سقاه الكرى كأس النّعاس فرأسه

لدين الكرى من آخر الليل ساجد

أقمت له صدر المطي فما درى

أجائرة أعناقها أم قواصد!

ترى النّاشئ الغرّيد يضحى كأنه

على الرّحل ممّا منّه السّير عاصد(٣)

ومن ذلك قول أبي حيّة النميري:

وأغيد من طول السّرى برّحت به

أفانين نهّاض على الأين مرجم(٤)

سريت به حتّى إذا ما تمزّقت

توالى الدّجى عن واضح اللّون معلم

أنخنا فلمّا أن جرت في دماغه

وعينيه كأس النّوم قلت له: قم

فما قام إلاّ بين أيد تقيمه

كما عطفت ريح الصّبا خوط ساسم(٥)

خطا الكره مغلوبا كأنّ لسانه

لما ردّ من رجع لسان المبلسم

وودّ بوسطى الخمس منه لو أنّنا

رحلنا وقلنا في المناخ له: نم(٦)

____________________

- والجمع المهاري، ثم تخفف فيقال: مهاري، وتفتح الراء فيقال: مهارى، تشبيها بصحارى وعذارى، وأصله صحاري وعذاري، فمنهم من يحذف الياء فيقول صحارى [بالكسر]، ومنهم من يحذف الأولى ويجعل الثانية ألفا فيقول صحارى [بالفتح] لتسلم الألف من الحذف عند التنوين، ومن يحذف الثانية يقول: صحار كجوار).

(١) جاب الفلاة: قطعها. وطوحته: أبعدته. وفي الديوان: (لوحته). وفي حاشية الأصل: (المطارد: المواضع التي يطرد فيها. ويجوز أن يكون جمع مطرد). وفي الديوان: (المطاود).

وفي شرحه: (المطاود: الذهاب في الأسفار).

(٢) أشعث، يعني صاحبه، يشبهه بالسيف في ضموره ودقته؛ والوجيف: نوع من السير.

(٣) الناشئ: الشاب. والغريد: ذو الصوت الحسن.

وفي حاشية الأصل. (العاصد من الإبل: الّذي يلوي عنقه إلى حاركه عند الموت. والعصد: اللي).

(٤) المرجم: الرجل الشديد، كأنه يرمي به معاديه.

(٥) الساسم: نوع من الشجر؛ قيل هو الآبنوس.

(٦) بوسطى الخمس؛ أي بدل قطع الوسطى؛ وفي حاشية الأصل: (يروى (بجدع الأنف)، ويروى: (بقطع الخمس).

٥٧٨

[٤٢]

مجلس آخر [المجلس الثاني والأربعون:]

تأويل آية:( أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ الله مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ ) ؛ [هود: ٢٠].

فقال: أي معنى الاختصاص (الأرض) بالذكر وهم لا يفوتون الله تعالى ولا يعجزونه، ولا يخرجون عن قبضته على كل حال، وفي كل مكان؟ ولم نفى الأولياء عنهم، وقد نجد أهل الكفر يتولّى بعضهم بعضا وينصرونهم ويحمونهم من المكاره؟ وكيف نفى استطاعتهم للسمع والإبصار، وأكثرهم قد كان يسمع بأذنه ويرى بعينه؟

الجواب، قلنا: أمّا الوجه في اختصاص الذكر بالأرض، فلأنّ عادة العرب جارية بقولهم للمتوعّد: لا مهرب لك مني، ولا وزر، ولا نفق، والوزر: الجبل، والنّفق: السّرب، وكلّ ذلك مما يلجأ إليه الخائف المطلوب، فكأنه تعالى نفى أن يكون لهؤلاء الكفار عاصم منه، ومانع من عذابه؛ وأن جبال الأرض وسهولها لا تحجز بينهم وبين ما يريد إيقاعه بهم؛ كما أنها تحجز عن كثير من أفعال البشر؛ لأنّ معاقل الأرض هي التي يهرب إليها البشر من المكاره؛ ويلجئون إلى الاعتصام بها عند المخاوف؛ فإذا نفى تعالى أن يكون لهم في الأرض معقل فقد نفى المعقل من كل وجه.

فأما قوله تعالى:( وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ الله مِنْ أَوْلِياءَ ) فمعناه أنه لا ولي لهم، ولا ناصر من عذاب الله تعالى وعقابه لهم في الآخرة؛ ولا مما يريد أيضا إيقاعه بهم في الدنيا، وإن كان لهم من يحميهم من مكروه البشر وينصرهم ممن أرادهم بسوء؛ وقد يجوز أن يكون ذلك أيضا بمعنى الأمر، وإن كان مخرجه محرج الخبر؛ ويكون التقدير: وليس لهم أن يتخذوا أولياء

٥٧٩

من دون الله، بل الواجب أن يرجعوا إليه في معونتهم ونصرهم، ولا يعوّلوا على غيره.

فأما قوله عز وجل:( ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ ) ففيه وجوه:

أحدها أن يكون المعنى: يضاعف لهم العذاب بما كانوا يستطيعون السمع فلا يسمعون؛ وبما كانوا يستطيعون الإبصار فلا يبصرون؛ عنادا للحق، وذهابا عن سبيله؛ فأسقط الباء من الكلام، وذلك جائز كما جاز في قولهم: لأجزينّك بما عملت، ولأجزينّك ما عملت؛ ولأحدثنّك بما عملت، ولأحدثنك ما عملت؛ وكما قال الشاعر:

نغالي اللّحم للأضياف نيئا

ونبذله إذا نضج القدير(١)

فأراد: نغالي باللحم.

والوجه الثاني أنهم لاستثقالهم استماع آيات الله تعالى، وكراهيتهم(٢) تذكّرها وتفهمها جروا مجرى من لا يستطيع السمع، كما يقول القائل: ما يستطيع فلان أن ينظر لشدّة عداوته إلى فلان، وما يقدر على أن يكلمه؛ وكما نقول لمن عهدنا منه العناد والاستثقال لاستماع الحجج والبينات: ما تستطيع أن تسمع الحق؛ وما تطيق أن يذكر لك؛ وكما قال الأعشى:

ودّع هريرة إنّ الرّكب مرتحل

وهل تطيق وداعا أيّها الرّجل(٣) !

ونحن نعلم أنه قادر على الوداع؛ وإنما نفى قدرته عليه من حيث الكراهة والاستثقال.

ومعنى:( وَما كانُوا يُبْـصِرُونَ ) أي أن إبصارهم لم يكن نافعا لهم؛ ولا مجديا عليهم؛ مع الإعراض عن تأمل آيات الله تعالى وتدبرها؛ فلما انتفت عنهم منفعة الإبصار جاز أن ينفي عنهم الإبصار نفسه؛ كما يقال للمعرض عن الحق، العادل عن تأمله: ما لك لا تبصر، ولا تسمع؛ ولا تعقل؟ وما أشبه ذلك.

____________________

(١) البيت في اللسان (غلا): قال في شرحه: (نغالي اللحم، نشتريه غاليا، ثم نبذله ونطعمه إذا نضج في قدورنا). والقدير: ما طبخ من اللحم بتوابل.

(٢) ديوانه: ٤١.

٥٨٠