أمالي المرتضى الجزء ١

أمالي المرتضى5%

أمالي المرتضى مؤلف:
تصنيف: مكتبة اللغة والأدب
الصفحات: 679

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 679 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 323249 / تحميل: 11609
الحجم الحجم الحجم
أمالي المرتضى

أمالي المرتضى الجزء ١

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

وثانيها أن القوم إنما سألوه عن الرّوح: هل هي محدثة مخلوقة أو ليست(١) كذلك؟

فأجابهم إنها من أمر ربي، وهو جوابهم عما سألوه(٢) عنه بعينه؛ لأنّه لا فرق بين أن يقول في الجواب: إنها محدثة مخلوقة، وبين قوله إنها من أمر ربّي؛ لأنه إنما أراد أنها من فعله وخلقه، وسواء على هذا الجواب أن تكون الرّوح التي سألوا عنها هي التي بها قوام الجسد أم عيسىعليه‌السلام ، أم جبرئيل صلى الله عليه. وقد سمّى الله تعالى جبرئيل روحا، وعيسى أيضا مسمّى بذلك في القرآن.

وثالثها أنهم سألوا عن الرّوح الّذي هو القرآن، وقد سمّى الله القرآن روحا في مواضع من الكتاب؛ وإذا كان السؤال عن القرآن فقد وقع الجواب موقعه، لأنه قال لهم:

الروح(٣) الّذي هو القرآن من أمر ربّي، ومما(٤) أنزله على نبيه صلى الله عليه؛ ليجعله دلالة وعلما على صدقه، وليس من فعل المخلوقين، ولا ممّن يدخل في إمكانهم؛ وهذا جواب الحسن البصري.

ويقويه قوله تعالى بعد هذه الآية:( وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ، ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً ) . [الإسراء: ٨٦]. فكأنّه قال تعالى: إن القرآن من أمري وفعلي(٥) وممّا أنزلته علما على نبوّة رسولي، ولو شئت لرفعته وأزلته وتصرّفت فيه؛ كما يتصرّف الفاعل فيما يفعله.

____________________

 - لها جباء؛ وهي من رستاق كارور من ناحية الأهواز، ويقال لأهل هذه الناحية الربعيون؛ لأنهم كانوا استنفروا ليقاتلوا الحسينعليه‌السلام ، فجاءوا وقد فرغ من أمره، فطلبوا الأجرة، فقال ابن زياد: إنكم لم تبلوا بلاء، وأعطى كل واحد منهم ربع دينار. قال دامت أيامه: أخبرني بذلك العراقي العلوي البصري).

وكانت وفاة أبي علي هذا في سنة ٣٠٦. (وانظر ترجمته في ابن خلكان: ٤٨٠ - ٤٨١).

(١) ف، حاشية الأصل (من نسخة): (أم ليست).

(٢) ت، ف: (سألوا عنه).

(٣) حاشية الأصل (من نسخة): (إن الروح).

(٤) ش: (وما أنزله).

(٥) حاشية الأصل: (ليس في الآية دليل على قوله:" وفعلي"؛ كتب هذا الشيخ عبد الرحيم البغدادي رحمه الله على حواشي نسخة السيد الإمام).

٤١

فصل [تأويل قوله تعالى:( وَالأرْضَ مَدَدْناها ... ) ]

قال الشّريف المرتضىرضي‌الله‌عنه : قال أبو مسلم محمد بن بحر الأصبهاني(١) في قوله تعالى:( وَالأرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ ) . [الحجر: ١٩]؛ قال: إنما خصّ الموزون دون المكيل بالذّكر لوجهين:

أحدهما أن غاية المكيل تنتهي إلى الوزن لأن سائر المكيلات إذا صارت طعاما دخلت في باب الوزن وخرجت عن باب الكيل؛ فكأنّ الوزن أعمّ من الكيل.

والوجه الآخر أن في الوزن معنى الكيل؛ لأن الوزن هو طلب مساواة الشيء بالشيء.

ومقايسته إليه، وتعديله به؛ وهذا المعنى ثابت في الكيل، فخصّ الوزن بالذّكر لاشتماله على معنى الكيل.

هذا قول أبي مسلم، ووجه الآية وما يشهد له ظاهر لفظها غير ما سلكه أبو مسلم، وإنما أراد تعالى بالموزون المقدّر الواقع بحسب الحاجة؛ فلا يكون ناقصا عنها، ولا زائدا عليها زيادة مضرّة أو داخلة في باب العبث. ونظير ذلك من كلامهم(٢) قولهم: كلام فلان(٣) موزون، وأفعاله مقدّرة موزونة؛ وإنما يراد ما أشرنا إليه، وعلى هذا المعنى تأوّل المفسرون ذكر الموازين في القرآن على أحد التأويلين، وأنها التعديل والمساواة بين الثّواب والعقاب، قال الشاعر(٤) :

لها بشر مثل الحرير ومنطق

رخيم الحواشي لا هراء ولا نزر

والهراء: الكثير، والنزر: القليل؛ فكأنه قال: إن حديثها لا يقلّ عن الحاجة

____________________

(١) كان أبو مسلم الأصبهاني على مذهب المعتزلة؛ وصنف التفسير على طريقتهم، وتوفي سنة ٣٧٠.

(لسان الميزان ٥: ٨٩).

(٢) ش: (في كلامهم).

(٣) حاشية الأصل (من نسخة): (زيد).

(٤) في م، وحاشيتي الأصل، ف: (وهو ذو الرمة)؛ والبيت في ديوانه: ٢١٢.

٤٢

ولا يزيد عليها؛ وهذا يجرى مجرى أن تقول: هو موزون. وقال مالك بن أسماء ابن خارجة الفزاري(١) :

وحديث ألذّه هو ممّا

ينعت الناعتون يوزن وزنا(٢)

منطق صائب وتلحن أحيا

نا وخير الحديث ما كان لحنا

وهذا الوجه الّذي ذكرناه أشبه بمراد الله تعالى في الآية، وأليق بفصاحة القرآن وبلاغته الموفيتين(٣) على فصاحة سائر الفصحاء وبلاغتهم؛ فأمّا قول الشاعر الّذي استشهدنا بشعره: (وتلحن أحيانا) فلم يرد اللّحن في الإعراب الّذي هو ضد الصواب(٤) ؛ وإنما أراد الكناية عن الشيء والتعريض بذكره والعدول عن الإفصاح عنه؛ على معنى قوله تعالى:( وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ) . [محمد: ٣٠]، وقول الشاعر(٥) :

ولقد وحيت لكم لكيما تفطنوا

ولحنت لحنا ليس بالمرتاب(٦)

وقد قيل: إن اللحن الّذي عني في البيت هو الفطنة وسرعة الفهم؛ على ما روي عن

____________________

(١) هو مالك بن أسماء بن خارجة بن حصن الفزاري؛ شاعر إسلامي غزل. (الشعر والشعراء ٧٥٦ - ٧٥٨).

(٢) حواشي الأصل، ت، ف: (حديث معطوف على كلام قبله؛ أي لها وجه، ولها حياء، ولها حديث، أو مثل ذلك. وقوله: (ألذه)، أي أستلذه؛ يقال: لذذت به ولذذته، وقوله: (مما ينعت الناعتون)، أي مما ينعته الناعتون. وقوله: (مما يوزن وزنا)، أي موزونا، فهو في موضع الحال).

(٣) حاشية الأصل: (الموفيتين: المشرفتين).

(٤) حواشي الأصل، ت، وف: (المسألة محتملة لأنه يريد باللحن ضد صواب الإعراب؛ لأن مقابل المنطق الصائب الملحون، واللحن من الغواني والفتيات غير مستكره ولا منكر، بل قد يستحب ذلك منهن؛ لأنه بالتأنيث أشبه، وللشهوة ادعى، ومع الغزل أحرى؛ والإعراب جد، وليس الجد من التعشق والتغزل بشيء، ثم ما الموجب لأن يتمحل للبيت وجه يسلبه حسن الطباق؟ ولو أراد به الملاحنة التي هي الفطانة لكان ملغيا بذكر اللحن؛ لأن اللحن في هذا المعنى صائب، فيذهب الاتساق بذهاب الطباق؛ فبان لك أن المعنى هو اللحن الّذي يضاد صواب الإعراب وإقامته؛ وإن كان كذلك المعنى الثاني محتملا).

(٥) هو القتال الكلابي؛ والبيت في (الأمالي ١: ٥، واللسان - لحن)، وقبله:

هل من معاشر غيركم أدعوهم

فلقد سئمت دعاء يالكلاب!

 (٦) حاشية الأصل: (الوحي: الإشارة والرسالة والكلام الخفي؛ يقال: وحيت إليه في الكلام، -

٤٣

[تفسير معنى (اللحن) عند العرب:]

النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لعلّ أحدكم أن يكون ألحن بحجّته) أي أفطن لها، وأغوص عليها.

ومما يشهد بما ذكرناه ما أخبرنا به أبو عبيد الله محمد بن عمران بن موسى المرزباني(١) قال حدّثنا أحمد بن عبد الله العسكري قال حدثنا العنزي قال حدثنا علي بن إسماعيل اليزيدي قال أخبرنا إسحاق بن إبراهيم قال: تكلّمت هند بنت أسماء بن خارجة فلحنت، وهي عند الحجاج، فقال لها: أتلحنين وأنت شريفة في بيت قيس؟! فقالت: أما سمعت قول أخي مالك لامرأته الأنصارية؟ قال: وما هو؟ قالت: قال(٢) :

منطق صائب وتلحن أحيا

نا وخير الحديث ما كان لحنا

فقال لها الحجاج: إنما عنى أخوك اللحن في القول؛ إذا كنّى المحدّث عمّا يريد، ولم يعن اللحن في العربية(٣) ، فأصلحي لسانك.

وقد ظنّ عمرو بن بحر الجاحظ مثل هذا بعينه وقال: إن اللّحن مستحسن(٤) في النساء الغرائر(٥) ، وليس بمستحبّ منهن كلّ الصواب والتشبّه بفحول الرجال، واستشهد بأبيات مالك بعينها، وظن أنه أراد باللحن ما يخالف الصواب(٦) . وتبعه على هذا الغلط عبد الله ابن مسلم بن قتيبة الدينوري، فذكر في كتابه المعروف بعيون الأخبار(٧) أبيات الفزاري، واعتذر بها من لحن إن أصيب في كتابه.

قال الشريف المرتضىرضي‌الله‌عنه : وأخبرنا المرزباني قال أخبرني محمد بن يحيى

____________________

 - وأوحيت بمعنى؛ وقوله: المرتاب، يجوز أن يكون المرتاب مصدرا كالارتياب، ويجوز أن يكون مفعولا، والتقدير: ليس بالمرتاب فيه).

(١) هو أبو عبيد الله محمد بن عمران بن موسى المرزباني الكاتب صاحب كتاب الموشح ومعجم الشعراء وغيرهما من المصنفات؛ روى عن ابن دريد وطبقته، وكان مائلا إلى التشيع، وهو أحد شيوخ الشريف المرتضى؛ توفي سنة ٣٨٤. (ابن خلكان ١: ٥٠٧ - ٥٠٨).

(٢) حاشية ت (من نسخة): (قوله).

(٣) في نسخة بحواشي الأصل، ت، ف: (الإعراب).

(٤) في ت، ونسخة بحاشية الأصل: (من النساء).

(٥) حاشية الأصل: (جمع غريرة؛ وهي التي لم تجرب الأمور).

(٦) الخبر في (البيان والتبيين ١: ١٤٧).

(٧) عيون الأخبار ٢: ١٦١.

٤٤

الصّولي قال حدثني يحيى بن علي المنجّم قال حدثني أبي قال: قلت للجاحظ: مثلك في عقلك وعلمك بالأدب ينشد قول الفزاري ويفسّره على أنه أراد اللحن في الإعراب! وإنما أراد وصفها بالظّرف والفطنة وأنها تورّى(١) بما قصدت له وتتنكّب التصريح به، فقال له:

قد فطنت لذلك بعد، فقلت(٢) : فغيّره من كتابك، فقال: فكيف بما سارت به الركبان! قال الصّولي: فهو في كتابه على خطئه.

***

[خبر أسير بني العنبر في بكر بن وائل ورسالته إلى قومه وشرح ما فيه من كنايات]

 ومن حسن اللحن الّذي هو التعريض والكناية ما أخبرنا به أبو الحسن عليّ بن محمد الكاتب قال: حدّثنا محمد بن الحسن بن دريد الأزدي أنّ رجلا من بني العنبر حصل أسيرا في بكر بن وائل، فسألهم رسولا إلى قومه فقالوا: لا ترسل إلا بحضرتنا؛ لأنهم كانوا عزموا على غزو قومه، فخافوا أن ينذرهم؛ فجيء بعبد أسود، فقال له: أتعقل؟ قال: نعم؛ إني لعاقل، قال: ما أراك عاقلا، وأشار بيده إلى الليل فقال: ما هذا؟ فقال: هذا الليل، قال:

أراك عاقلا، ثم ملأ كفّيه من الرّمل فقال: كم؟ فقال: لا أدري وإنّه لكثير. فقال:

أيّما أكثر؟ النجوم أم النيران(٣) ؟ فقال: كلّ كثير، فقال: أبلغ قومي التحية، وقل لهم:

ليكرموا فلانا - يعني أسيرا كان في أيديهم من بكر - فإنّ قومه لي مكرمون، وقل لهم:

إن العرفج قد أدبي(٤) ، وشكت النساء؛ وأمرهم(٥) أن يعروا ناقتي الحمراء فقد أطالوا ركوبها، وأن يركبوا جملي الأصهب(٦) ، بآية ما أكلت معكم حيسا، واسألوا عن خبري أخي الحارث.

فلما أدّى العبد الرسالة إليهم قالوا: لقد جنّ الأعور، والله ما نعرف له ناقة حمراء ولا جملا أصهب، ثم سرّحوا العبد، ودعوا الحارث فقصّوا عليه القصّة، فقال: قد أنذركم،

____________________

(١) ت، وحاشية الأصل (من نسخة): (تورى عما قصدت).

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): (قلت).

(٣) م: (أم التراب).

(٤) في حاشيتي الأصل، ف: (العرفج:

جنس من الشوك، وأدبي الرمث إذا أشبه ما يخرج من ورقه الدبا، والدبا: صغار الجراد؛ وحينئذ يصلح أن يؤكل، والرمث: من مراعي الإبل؛ وهو من الحمض).

(٥) في نسخة بحواشي الأصل، ت، ف: (ومرهم).

(٦) في حاشيتي الأصل، ف: (الأصهب: ما اختلط البياض بحمرته).

٤٥

أمّا قوله: (أدبي العرفج) يريد أن الرجال قد استلأموا ولبسوا السلاح، وقوله: (شكت النساء)؛ أي اتخذن الشّكاء(١) للسّفر، وقوله: (الناقة الحمراء)، أي ارتحلوا عن الدّهناء. واركبوا الصّمّان(٢) ؛ وهو الجمل الأصهب(٣) . وقوله: (أكلت معكم حيسا) يريد أخلاطا من الناس قد غزوكم، لأن الحيس يجمع التمر والسمن والأقط. فامتثلوا ما قال، وعرفوا لحن كلامه.

تأويل خبر (*) [ (من أحبّنا أهل البيت؛ فليستعدّ للفقر جلبابا، أو تجفافا]

روى أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه غريب الحديث، عن أمير المؤمنينعليه‌السلام (٤) أنه قال: (من أحبّنا أهل البيت؛ فليستعدّ(٥) للفقر جلبابا، أو تجفافا(٦) ).

قال أبو عبيد: قد تأوّل بعض الناس هذا الخبر على أنه أراد به الفقر في الدّنيا، قال:

وليس ذلك كذلك؛ لأنّا نرى فيمن يحبّهم مثل ما نرى في سائر الناس، من الغنى والفقر، ولا تمييز(٧) بينهما، قال: والصّحيح أنه أراد الفقر في يوم القيامة، وأخرج الكلام مخرج الموعظة والنصيحة والحثّ على الطاعات، فكأنه أراد: من أحبنا فليعدّ لفقره يوم القيامة ما يجبره(٨) من الثّواب، والقرب إلى الله تعالى، والزّلف(٩) عنده.

____________________

(١) في حاشيتي الأصل، ف: (جمع شكوة، وهي السقاء الصغيرة).

(٢) حواشي الأصل، ت، ف: (الدهناء: هي أرض في بلاد تميم، يمد ويقصر. والصمان: أصله الأرض الغليظة، والصمان: موضع إلى جنب رمل عالج؛ وقال:

حتى أتى علم الدّهنا يواعسه

والله أعلم بالصّمّان ما جشموا

قوله: (يواعسه)، من الوعساء، وهي الرمل، وهو في موضع الحال، أي مواعسا آخذا في اللين من الأرض، وقوله: (ما جشموا) يجوز أن تكون (ما) استفهامية، ويجوز أن تكون بمعنى الّذي؛ وفي كلا الوجهين يكون نصبا لما دل عليه (أعلم) من الفعل).

(٣) حاشية ف: (أراد بالصمان الأرض؛ وكنى عنها بالجمل الأصهب).

* ف: قبل هذا العنوان: (مجلس آخر).

(٤) ت: (صلوات الله عليه).

(٥) حاشية الأصل (من نسخة): (فليعد).

(٦) التجفاف؛ بكسر الباء وفتحها: ما يجلل به الفرس من سلاح وآلة تقيه الجراح، وقد يلبسه الإنسان أيضا.

(٧) ت: (ولا نميز)، وفي ف، وحاشية الأصل (من نسخة): (ولا تميز).

(٨) في ف، ونسخة بحاشيتي الأصل، ت: (ما يجيره).

(٩) حاشية ت (من نسخة): (الزافي).

٤٦

قال أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة: وجه الحديث خلاف ما قاله أبو عبيد، ولم يرد إلا الفقر في الدّنيا؛ ومعنى الخبر أن من أحبّنا فليصبر على التقلّل من الدنيا والتقنّع فيها، وليأخذ نفسه بالكفّ عن أحوال الدنيا وأعراضها؛ وشبّه الصبر على الفقر بالتّجفاف أو الجلباب؛ لأنه يستر الفقر كما يستر الجلباب أو التّجفاف البدن. قال: ويشهد لصحة هذا التأويل ما روي عنهعليه‌السلام أنه رأى قوما على بابه، فقال: ياقنبر، من هؤلاء؟ فقال له قنبر: هؤلاء شيعتك، فقال: ما لي لا أرى فيهم سيما(١) الشيعة؟ قال:

وما سيما الشّيعة؟ قال: خمص البطون من الطّوى، يبس الشفاه من الظّما، عمش العيون من البكاء؛ هذا كله قول ابن قتيبة.

والوجهان جميعا في الخبر(٢) حسنان؛ وإن كان الوجه الّذي ذكره ابن قتيبة أحسن وأنصع(٣) .

ويمكن أن يكون في الخبر وجه ثالث تشهد بصحته اللّغة؛ وهو أن أحد وجوه معنى لفظة الفقر أن يحزّ أنف البعير حتى يخلص إلى العظم أو قريب منه، ثم يلوى عليه حبل، يذلّل بذلك الصّعب، يقال: فقره يفقره فقرا إذا فعل ذلك به، وبعير مفقور وبه فقرة، وكلّ شيء حززته وأثّرت فيه فقد فقّرته تفقيرا؛ ومنه سمّيت الفاقرة(٤) ، وقيل سيف مفقّر(٥) ؛ فيحمل(٦) القول على أنهعليه‌السلام أراد(٦) : من أحبّنا فليزمّ نفسه وليخطمها وليقدها إلى الطاعات، ويصرفها عمّا تميل طباعها إليه من الشّهوات، وليذللها على الصّبر عما كره منها، ومشقة ما أريد منها(٧) ؛ كما يفعل ذلك بالبعير الصّعب؛ وهذا وجه في الخبر ثالث لم يذكر، وليس يجب أن يستبعد حمل الكلام على بعض ما يحتمله إذا كان له شاهد

____________________

(١) حاشية ت (من نسخة): (سيمياء)، وفي حاشية الأصل: (سيما وسيمياء بمعنى).

(٢) حاشية ت (من نسخة): (في هذا الخبر).

(٣) في حاشيتي الأصل، ف: (نصع الخضاب، أي لمع وصار سواده براقا ناصعا).

(٤) حاشية الأصل: (الفاقرة: الداهية؛ وإنما سميت بذلك لأنها كاسرة فقار الظهر، من قولهم فقره، إذا أصاب فقار ظهره).

(٥) في حاشيتي الأصل، ف: (السيف المفقر: الّذي في متنه حزوز أي خطوط منقورة).

(٦ - ٦) ت: (فيحتمل القول أن يكونعليه‌السلام أراد).

(٧) ط، م: (بها)

٤٧

من اللغة وكلام العرب؛ لأن الواجب على من يتعاطى تفسير غريب الكلام والشّعر أن يذكر كلّ ما يحتمله الكلام من وجوه المعاني؛ فيجوز(١) أن يكون أراد المخاطب كلّ واحد منها منفردا، وليس عليه العلم بمراده بعينه؛ فإن مراده مغيّب عنه، وأكثر ما يلزمه ما ذكرناه من ذكر وجوه احتمال الكلام.

فصل [ذكر بعض أخبار الشعراء المتقدمين ممن كان على مذاهب أهل العدل]

قال الشريف المرتضىرضي‌الله‌عنه : وممّن كان من مشهوري الشعراء ومتقدّميهم على مذاهب أهل العدل ذو الرّمة؛ واسمه غيلان بن عقبة، وكنيته أبو الحارث، وذو الرّمة لقب لقّب به لبيت قاله، وهو قوله في صفة الوتد:

* أشعث(٢) باقي رمّة التّقليد*

والرّمة: القطعة البالية من الحبل؛ يقال: حبل أرمام؛ إذا كان ضعيفا باليا؛ وقيل إنه إنما لقّب بذي الرّمة لأنه كان - وهو غلام - يتفزّع، فجاءته أمّه بمن كتب له كتابا وعلّقته عليه برمّة من حبل؛ فسمّي ذا الرّمة.

ويشهد بمذهبه في العدل ما أخبرنا به أبو عبيد الله محمد بن عمران المرزباني قال حدّثنا ابن دريد قال حدثنا أبو عثمان الأشنانداني عن التّوزيّ عن أبي عبيدة قال:

اختصم رؤبة وذو الرّمّة عند بلال بن أبي بردة، فقال رؤبة: والله ما فحص طائر أفحوصا، ولا تقرمص سبع قرموصا(٣) إلاّ بقضاء من الله وقدر؛ فقال له ذو الرّمة: والله ما قدّر الله على الذّئب أن يأكل حلوبة(٤) عيائل(٥) ضرائك؛ فقال رؤبة: أفبقدرته أكلها؟ هذا كذب

____________________

(١) حاشية الأصل (من نسخة): (ويجوز).

(٢) حاشية الأصل: (بكسر الثاء؛ لأن قبله:

* وغير مشجوج القفا موتود* أشعث ...

وفي حاشية ف: (رمة التقليد؛ أي الرمة التي يجيء منها تقليد الوتد بها)، والبيت في ديوانه:

١٥٥.

(٣) في حاشيتي الأصل، ف (تقرمص؛ أي اتخذ قرموصا، وهو الموضع الّذي يأوي إليه).

(٤) في حاشيتي الأصل، ف: (الحلوبة: التي بها لبن يحلب؛ وأكثر ذلك في النوق، وقد تستعمل في غيرها).

(٥) في حاشيتي ت، ف: (عيال الرجل: من يعوله، وواحد العيال عيل، مثل جيد وجياد وجيائد. والضريك: الضرير البائس الفقير؛ ولا يصرف له فعل، ولا يقال: ضركه بمعنى ضره؛ والجمع ضرائك وضركاء).

٤٨

على الذئب ثان(١) ، فقال ذو الرّمّة: الكذب على الذّئب خير من الكذب على ربّ الذّئب.

وهذا الخبر صريح في قوله بالعدل واحتجاجه عليه، وبصيرته فيه؛ فأما العيائل فهو جمع عيّل، وهو ذو العيال. والضرائك: جمع ضريك وهو الفقير.

قال الشريف المرتضىرضي‌الله‌عنه : وأخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال حدّثنا أحمد ابن محمد المكي عن أبي العيناء عن الأصمعي عن إسحاق بن سويد قال: أنشدني ذو الرّمة:

وعينان قال الله كونا فكانتا

فعولان بالألباب ما تفعل الخمر(٢)

فقلت له: (فعولين) خبر الكون، فقال لي: لو سبّحت ربحت، إنما قلت: (وعينان فعولان) وصفتهما بذلك. وإنما تحرّز ذو الرّمة بهذا الكلام من القول بخلاف العدل.

وقد روى هذا الخبر على خلاف هذا الوجه(٣) ؛ أخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال حدثني أحمد بن خالد النحاس(٤) قال حدّثني(٥) محمد بن القاسم أبو العيناء قال حدّثنا الأصمعي قال: لما أنشد ذو الرّمة قوله:

وعينان قال الله كونا فكانتا

فعولين بالألباب ما تفعل الخمر

- وهو يريد: كونا فكانتا فعولين حيث كانتا(٦) - قال له عمرو بن عبيد(٧) : ويحك! قلت عظيما، فقل: (فعولان بالألباب)، فقال له ذو الرّمة، ما أبالي: أقلت هذا أم سبّحت، فلما علم بما ذهب إليه عمرو قال: سبحان الله! لو عنيت ما ظننت كنت جاهلا.

____________________

(١) حواشي الأصل، ت، ف: (قوله (ثان) لا يعني أنه كذب على الذئب مرتين؛ وإنما المعنى: إنك كاذب على الخلق في أن أفعالهم ليست بفضاء من الله وقدر؛ لأنه وإن ذكر الطائر والسبع؛ فإنه يعني به الخلق؛ ثم لما ذكر ذو الرمة الذئب قال رؤبة: هذا كذب على الذئب ثان لذلك الكذب الأول الّذي استشهدت عليه بالطائر والسبع).

(٢) ديوانه: ٢١٣.

(٣) الخبر في (الأغاني ١٦: ١١٧)، وفيه: (لو قلت: سبحان الله، والحمد للّه، ولا إله إلا الله، والله أكبر؛ كان خيرا لك).

(٤) حاشية ت (من نسخة): (النخاس).

(٥) حاشية ت (من نسخة): (حدثنا).

(٦) ت (خبر كانتا)، ولعله تحريف.

(٧) حاشية الأصل: (كان معتزليا عدليا).

٤٩

قال الشريف المرتضىرضي‌الله‌عنه : وممّن روى أنه كان على مذاهب أهل العدل من شعراء الطبقة الأولى أعشى(١) قيس بن ثعلبة، واستشهد بقوله:

استأثر الله بالوفاء وبال

عدل وولّى الملامة الرّجلا(٢)

[ذكر بعض أخبار الشعراء المتقدمين ممن كان على مذهب أهل الجبر]

وممّن قيل إنه كان على مذاهب أهل الجبر من المشهورين أيضا لبيد بن ربيعة العامري، واستدلّ بقوله:

إنّ تقوى ربّنا خير نفل

وبإذن الله ريثي وعجل(٣)

من هداه سبل الخير اهتدى

ناعم البال ومن شاء أضلّ

وإن كان لا طريق(٤) إلى نسب الجبر إلى مذهب لبيد إلا هذان البيتان فليس فيهما دلالة على ذلك، أما قوله:

* وبإذن الله ريثي وعجل*

فيحتمل أن يريد: بعلمه؛ كما يتأول عليه قوله تعالى: وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاّ بِإِذْنِ الله [البقرة: ١٠٢]؛ أي بعلمه، وإن قيل في هذه الآية، إنه أراد: بتخليته وتمكينه، وإن كان لا شاهد لذلك في اللغة أمكن مثله في قول لبيد؛ فأما قوله: (من هداه اهتدى ومن شاء أضل) فيحتمل أن يكون مصروفا إلى بعض الوجوه التي يتأول عليها الضّلال والهدى المذكوران في القرآن؛ مما يليق بالعدل ولا يقتضي الإجبار؛ اللهم إلا أن يكون مذهب لبيد في الإجبار معروفا بغير هذه الأبيات؛ فلا يتأوّل له هذا التأويل؛ بل يحمل مراده على موافقة المعروف من مذهبه.

____________________

(١) حاشية الأصل: (قبيلة الأعشى).

(٢) ديوانه ١٥٥؛ وفي حاشيتي الأصل، ف: (استأثر الله؛ تستعمل مع الباء؛ يقال: استأثر الله به).

(٣) ديوانه: ٣٩.

(٤) حاشية الأصل (من نسخة): (لا سبيل).

٥٠

مسألة [في الاستدلال على نفي الرؤية بالأبصار]

قال الشّريف المرتضىرضي‌الله‌عنه : اعلم أن أصحابنا لما استدلّوا على نفي الرؤية بالأبصار عن الله تعالى بقوله:( لا تُدْرِكُهُ الأبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) [الأنعام: ١٠٣]، وبينوا أنه تعالى تمدّح بنفي الإدراك(١) الّذي هو رؤية البصر عن نفسه على وجه يرجع إلى ذاته؛ فيجب أن يكون في ثبوت الرؤية له في وقت من الأوقات نقص وذمّ. قال لهم مخالفوهم: كيف يتمدّح بأنه لا يرى، وقد يشاركه في نفي الرؤية ما ليس بممدوح؛ كالمعدومات والإرادات والاعتقادات؟ فقالوا لهم: لم يتمدّح تعالى بنفي الرؤية فقط، وإنما تمدّح بنفي الرؤية عنه وإثباتها له، فتمدّحه بمجموع(٢) الأمرين؛ وليس يشاركه في هاتين الصفتين مشارك؛ لأن الموجودات المحدثات على ضروب؛ منها ما لا يرى ولا يرى كالإرادات والاعتقادات، ومنها ما يرى ولا يرى كالألوان، ومنها ما يرى ويرى كالإنسان وضروب الأحياء؛ وليس فيها ما يرى ولا يرى؛ فثبتت المدحة للّه تعالى بمتضمّن الآية.

فقال لهم المخالفون: وكيف يجوز أن تكون صفة لا تقتضي المدحة بانفرادها، ثم تصير تقتضيها مع غيرها! ولئن جاز هذا ليجوزنّ أن يتمدّح متمدح بأنه شيء عالم، أو موجود قادر؛ فإذا كان لا مدحة في وصف الذات بأنها شيء وموجودة(٣) ، وإن انضمّت إلى صفة مدح من حيث كانت بانفرادها لا تقتضي مدحا، فكذلك لا مدحة في نفي الرؤية عمّن ثبتت(٤) له، من حيث كانت بانفرادها لا تقتضي مدحا.

فأجاب أصحابنا عن هذا الكلام بأن قالوا: ليس يمتنع في الصّفة أن تكون لا تقتضي مدحا إذا انفردت، وتقتضيه إذا انضمت إلى غيرها، ومثّلوا ذلك بقوله تعالى:( لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ ) [البقرة: ٢٥٥]. وإنّ نفي السّنة والنّوم هاهنا إنما يكون مدحا إذا انتفى عمّن هو بصفة الأحياء، وإن كان بانفراده لا يقتضي مدحا لمشاركة ذوات كثيرة غير

____________________

(١) ت: (بنفي إدراك البصر).

(٢) ت: (جميع)؛ وفي حاشيتها (من نسخة): (فتمدح بمجموع الأمرين).

(٣) د، ونسخة بحواشي الأصل، ت، ف: (بأنها شيء موجود).

(٤) ش: (تثبت).

٥١

ممدوحة فيه، وفصلوا بين الوصف بالشيء والوجود، وبين ما ذكروا من حيث لا تأثير لهاتينك(١) الصّفتين في المدح.

واعلم أنّ صفات المدح المتضمنة للإثبات ما تكاد(٢) تفتقر إلى شرط في كونها مدحا.

وصفات النفي إذا كانت مدحا فلا بدّ فيها من شرط؛ وإنما افترق الأمران من حيث كان النّفي أعمّ من الإثبات؛ فيدخل تحته الممدوح وغير الممدوح، والإثبات أشدّ اختصاصا؛ ألا ترى أنّ ما ليس بعالم من الذّوات وليس بموجود أكثر مما ثبت له العلم والوجود منها؟

لأنّ الأول لا يكون إلا غير متناه، والثاني لا بدّ أن يكون متناهيا، فلما شملت صفات النفي الممدوح وغير الممدوح احتاجت إلى شرط يخصّصها.

وأنت إذا اعتبرت سائر صفات النّفي التي يتمدّح بها وجدتها مفتقرة إلى الشروط؛ ألا ترى أنّ من ليس بجاهل إنما يكون ممدوحا بهذا النفي إذا كان حيّا ذاكرا، ومن ليس بعاجز إنما يكون ممدوحا إذا كان أيضا موجودا حيا، ومن ليس بظالم إنما يكون ممدوحا إذا كان قادرا على الظلم وله دواع إليه، ولا بدّ في الشرط الّذي يحتاج إليه في صفات النفي حتى تكون مدحا من أن يكون أيضا إثباتا أو جاريا مجرى الإثبات، ولا يكون نفيا لأنه إن(٣) كان نفيا لم يتخصص، وساوى(٤) فيه الممدوح ما ليس بممدوح؛ مثال ذلك أنا إذا مدحنا غيرنا بأنه لا يظلم، وشرطنا في هذه المدحة أنه لم يدعه داع(٥) إلى الظلم لم تحصل المدحة، لأنه قد يشاركه في نفي الظلم ونفي الدواعي إليه ما ليس بممدوح، فلا بدّ من شرط يجري مجرى الإثبات؛ وهو أن تقول: وهو ممّن تدعوه الدواعي إلى الأفعال ويتصرّف فيها بحسب حاجته ودواعيه. فإذا صحّت هذه الجملة فالوجه أن نقول: إن المدحة في الآية إنما تتعلّق بنفي الإدراك عن القديم تعالى، لكن بشرط أن يكون مدركا، ولا نجعل(٦) كلّ

____________________

(١) في نسخة بحاشيتي ت، ف: (لتينك)، وفي حاشية ت أيضا (من نسخة أخرى): (لهاتين).

(٢) من نسخة بحواشي الأصل، ت، ف: (لا تكاد).

(٣) حاشية ت (من نسخة): (إذا).

(٤) حاشية ت (من نسخة): (وشارك).

(٥) ت: (لم يدعه الداعي).

(٦) في الأصل: (ونجعل)، وصححت في الحاشية، وفي حاشيتي الأصل، ف: (في النسخة المقروءة على السيدرضي‌الله‌عنه : (ولا نجعل)؛ كذا كان بخط الشجري، وفي نسخة ص أيضا).

٥٢

واحدة من الصفتين تقتضي المدح مجتمعا؛ مع أنّ كل واحدة لا تقتضيه على سبيل الانفراد.

وليس بمنكر أن يقتضي الشيء غيره بشرط متى وجد حصل المقتضي، وإذا لم يحصل(١) لم يحصل مقتضاه، ونفي السّنة والنوم والظلم عن الله تعالى إنما كان مدحا بشروط معروفة على نحو ما ذكرناه؛ وهذا التلخيص في هذا الموضع أولى وأحسم للشّبه(٢) مما تقدّم ذكره.

____________________

(١) في نسخة بحواشي الأصل، ت، ف: (لم يوجد).

(٢) حاشية ت (من نسخة): (للشبهة).

٥٣

[٣]

مجلس آخر(*) [المجلس الثالث:]

تأويل آية( فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ )

إن سأل سائل فقال: ما تقولون في قوله تعالى حكاية عن موسىعليه‌السلام :( فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ ) [الشعراء: ٣٢]، وقال في موضع آخر:( وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ ) (١) [القصص: ٣١].

والثّعبان هو الحيّة العظيمة الخلقة، والجانّ الصغير من الحيّات، فكيف اختلف الوصفان والقصة واحدة؟ وكيف يجوز أن تكون العصا في حالة واحدة من صفة ما عظم خلقه من الحيّات، وبصفة ما صغر منها؟ وبأي شيء تزيلون التناقض عن هذا الكلام؟.

الجواب: أول ما نقوله(٢) : إن الّذي ظنه السائل من كون الآيتين خبرا عن قصة واحدة باطل؛ بل الحالتان مختلفتان؛ فالحال(٣) التي أخبر عن العصا فيها بصفة الجان(٣) كانت في ابتداء النبوّة، وقبل مصير موسىعليه‌السلام إلى فرعون، والحال التي صارت العصا فيها ثعبانا كانت عند لقائه فرعون وإبلاغه الرسالة؛ والتلاوة تدلّ على ذلك؛ وإذا اختلفت القصّتان فلا مسألة.

على أن قوما من المفسّرين قد تعاطوا الجواب عن هذا السؤال؛ إمّا لظنّهم أن القصة واحدة، أو لاعتقادهم أن العصا الواحدة لا يجوز أن تنقلب في حالتين: تارة إلى صفة الجانّ،

____________________

* كذا في ت، وفي الأصل، ف: (مجلس آخر ثالث).

(١) حواشي الأصل، ت، ف: (لم يعقب: لم يرجع؛ وقيل لم يلتفت، وقيل لم يعطف ولم ينتظر؛ يقال: كر على القوم وما عقب. ويرى أهل النظر أنه مأخوذ من العقب؛ وروي عن سفيان: لم يعقب:

لم يمكث، ويقال: عقب في الأمر إذا تردد في طلبه مجدا؛ وقوله تعالى:( لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ) ؛ أي لا يحكم بعد حكمه حاكم، والمعقب: الّذي بكر على الشيء، وقوله تعالى:( لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ) ، أي للإنسان ملائكة يعقب بعضهم بعضا. وقال الفراء: ملائكة الليل تعقب ملائكة النهار؛ يعني أنهم يتعاقبون ليلا ونهارا).

(٢) ت، د: (أول ما نقوله في هذا).

(٣) ت: (فالحال التي أخبر أن العصا صارت فيها بصفة الجان ).

٥٤

وتارة إلى صفة الثعبان؛ أو على سبيل الاستظهار في الحجة، وأن الحال لو كانت واحدة على ما ظنّ لم يكن بين الآيتين تناقض؛ وهذا الوجه أحسن ما تكلّفوا الجواب لأجله؛ لأن الأولين لا يكونان إلا عن غلط أو غفلة، وذكروا وجهين تزول بكل واحد منهما الشبهة في تأويلها:

أحدهما أنه تعالى إنما شبّهها بالثعبان في إحدى الآيتين لعظم خلقها، وكبر جسمها، وهول منظرها؛ وشبّهها في الآية الأخرى بالجانّ لسرعة حركتها ونشاطها وخفّتها؛ فاجتمع لها مع أنها في جسم الثعبان وكبر خلقه نشاط الجان، وسرعة حركته؛ وهذا أبهر في باب الإعجاز، وأبلغ في خرق العادة؛ ولا(١) تناقض معه بين الآيتين؛ وليس يجب إذا شبّهها بالثعبان أن يكون لها جميع صفات الثعبان، ولا إذا شبّهها بالجان أن يكون لها جميع صفاته، وقد قال الله تعالى:( وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا ) . قوارير من فضّة [الدهر: ١٥، ١٦]. ولم يرد تعالى أنّ الفضّة قوارير على الحقيقة؛ وإنما وصفها بذلك لأنه اجتمع لها صفاء القوارير وشفوفها ورقّتها؛ مع أنها من فضة؛ وقد تشبّه العرب الشيء بغيره في بعض وجوهه؛ فيشبّهون المرأة بالظّبية والبقرة(٢) ونحن نعلم أن في الظباء والبقر من الصّفات ما لا يستحسن أن يكون في النساء، وإنما وقع التشبيه في صفة دون صفة، ومن وجه دون وجه(٣) .

والجواب الثاني أنه تعالى لم يرد بذكر الجانّ في الآية الأخرى الحيّة؛ وإنما أراد أحد الجنّ؛ فكأنه تعالى خبّر(٤) بأن العصا صارت ثعبانا في الخلقة وعظم الجسم؛ وكانت مع ذلك كأحد الجن في هول المنظر وإفزاعها لمن شاهدها؛ ولهذا قال تعالى:( فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ ) .

____________________

(١) حاشية الأصل (من نسخة): (فلا).

(٢) ت: (وبالبقرة).

(٣) ت: (دون آخر).

(٤) حاشية الأصل (من نسخة): (أخبر).

٥٥

ويمكن أن يكون في الآية تأويل آخر استخرجناه؛ إن لم يزد على الوجهين الأوّلين لم ينقص عنهما؛ والوجه في تكلّفنا له ما بيّناه من الاستظهار في الحجّة، وأنّ التناقض الّذي توهّم زائل على كل وجه(١) ؛ وهو أنّ العصا لما انقلبت حيّة صارت أولا بصفة الجانّ وعلى صورته؛ ثم صارت بصفة الثّعبان؛ على تدريج؛ ولم تصر كذلك ضربة واحدة؛ فتتّفق الآيتان على هذا التأويل، ولا يختلف حكمهما، وتكون الآية الأولى التي تتضمن ذكر الثعبان إخبارا عن غاية حال العصا، وتكون الآية الثانية تتضمّن ذكر الحال التي ولى موسى فيها هاربا؛ وهي حال انقلاب العصا إلى خلقة الجان؛ وإن كانت بعد ذلك الحال انتهت إلى صورة الثعبان.

فإن قيل على هذا الوجه: كيف يصح ما ذكرتموه مع قوله تعالى:( فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ ) ؛ وهذا يقتضي أنها صارت ثعبانا بعد الإلقاء بلا فصل؟ قلنا: تفيد(٢) الآية ما ظنّ؛ وإنما فائدة قوله تعالى:( فَإِذا هِيَ ) الإخبار) عن قرب الحال التي صارت فيها بتلك الصّفة؛ وأنّه لم يطل الزّمان في مصيرها كذلك، ويجري هذا مجرى قوله تعالى:( أَوَلَمْ يَرَ الآنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ) [يس: ٧٧]؛ مع تباعد ما بين كونه نطفة وكونه خصيما مبينا، وقولهم: ركب فلان من منزله فإذا هو في ضيعته، وسقط من أعلى الحائط فإذا هو في الأرض؛ ونحن نعلم أنّ بين خروجه من منزله وبلوغه ضيعته زمانا، وأنّه لم يصل إليها إلا على تدريج؛ وكذلك الهابط من الحائط؛ وإنما فائدة الكلام الإخبار عن تقارب الزّمان؛ وأنه لم يطل ولم يمتدّ.

____________________

(١) ت: (على كل حال).

(٢) ت (من نسخة): (تقدير).

٥٦

تأويل آية أخرى( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ )

قال الشريف المرتضىرضي‌الله‌عنه : قال الله تعالى:( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ. أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ) [الأعراف: ١٧٢، ١٧٣].

وقد ظنّ بعض من لا بصيرة له، ولا فطنة عنده أن تأويل هذه الآية أنّ الله تعالى استخرج من ظهر آدمعليه‌السلام جميع ذريته، وهم في خلق الذّرّ، فقرّرهم بمعرفته، وأشهدهم على أنفسهم.

وهذا التأويل - مع أنّ العقل يبطله ويحيله - مما يشهد ظاهر القرآن بخلافه؛ لأن الله تعالى قال:( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ ) ، ولم يقل: من آدم، وقال:( مِنْ ظُهُورِهِمْ ) ، ولم يقل: من ظهره، وقال:( ذُرِّيَّتَهُمْ ) ، ولم يقل: ذرّيته؛ ثم أخبر تعالى بأنه فعل ذلك لئلا يقولوا يوم القيامة: إنهم كانوا عن ذلك غافلين، أو يعتذروا بشرك آبائهم، وأنّهم نشئوا على دينهم وسنّتهم؛ وهذا يقتضي أنّ الآية لم تتناول ولد آدمعليه‌السلام لصلبه؛ وأنها إنما(١) تناولت من كان له آباء مشركون؛ وهذا يدلّ على اختصاصها ببعض ذرّية(٢) بني آدم؛ فهذه شهادة الظّاهر ببطلان تأويلهم، فأما شهادة العقول(٣) فمن حيث لا تخلو هذه الذّرّية التي استخرجت من ظهر آدمعليه‌السلام فخوطبت وقرّرت من أن تكون كاملة العقول، مستوفية لشروط التكليف؛ أو لا تكون كذلك(٤) .

فإن كانت بالصفة الأولى وجب أن يذكر هؤلاء بعد خلقهم وإنشائهم، وإكمال عقولهم ما كانوا عليه في تلك الحال، وما قرّروا به، واستشهدوا عليه؛ لأنّ العاقل لا ينسى ما جرى هذا المجرى، وإن بعد العهد وطال الزمان؛ ولهذا لا يجوز أن يتصرّف أحدنا في بلد من البلدان وهو عاقل كامل فينسى مع بعد العهد جميع تصرّفه المتقدّم وسائر أحواله.

____________________

(١) ساقطة من ت، ف.

(٢) ت: (ولد آدم).

(٣) ت: (العقل).

(٤) ت: (أو لا تكون كاملة العقول مستوفية لشروط التكليف).

٥٧

وليس أيضا لتخلّل الموت بين الحالين تأثير؛ لأنه لو كان تخلّل الموت يزيل الذكر لكان تخلّل النوم والسّكر والجنون والإغماء بين أحوال العقلاء يزيل ذكرهم لما مضى من أحوالهم؛ لأنّ سائر ما عددناه مما ينفي العلوم يجري مجرى الموت في هذا الباب. وليس لهم أن يقولوا:

إذا جاز في العاقل الكامل أن ينسى ما كان عليه في حال الطفوليّة جاز ما ذكرناه؛ وذلك أنّا إنما أوجبنا ذكر العقلاء لما ادّعوه إذا كملت عقولهم من حيث جرى لهم(١) وهم كاملو العقول، ولو كانوا بصفة الأطفال في تلك الحال لم نوجب عليهم ما أوجبناه.

على أن تجويز النّسيان عليهم ينقض الغرض في الآية، وذلك أنّ الله تعالى أخبر بأنه إنما قرّرهم وأشهدهم لئلا يدّعوا يوم القيامة الغفلة عن ذلك، وسقوط الحجّة عنهم(٢) فيه؛ فإذا جاز نسيانهم له عاد الأمر إلى سقوط الحجة وزوالها، وإن كانوا على الصّفة الثانية من فقد العقل وشرائط التكليف قبح خطابهم وتقريرهم وإشهادهم، وصار ذلك عبثا قبيحا؛ يتعالى الله عنه.

فإن قيل: قد أبطلتم تأويل(٣) مخالفيكم، فما تأويلها الصحيح عندكم؟ قلنا في هذه الآية وجهان:

أحدهما أن يكون تعالى إنما عنى جماعة من ذرّية بني آدم خلقهم وبلّغهم وأكمل عقولهم، وقرّرهم على ألسن(٤) رسلهعليهم‌السلام بمعرفته وما يجب(٥) من طاعته، فأقرّوا بذلك، وأشهدهم على أنفسهم به؛ لئلا يقولوا يوم القيامة إنّا كنّا عن هذا غافلين، أو يعتذروا بشرك آبائهم. وإنما أتى من اشتبه عليه تأويل الآية من حيث ظنّ أنّ اسم الذرية لا يقع إلاّ على من لم يكن كاملا عاقلا؛ وليس الأمر كما ظنّ؛ لأنّا نسمّي جميع البشر بأنهم ذرية آدم؛ وإن دخل فيهم العقلاء الكاملون، وقد قال الله تعالى:( رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ

____________________

(١) حاشية الأصل (من نسخة)، ت، ف: (عليهم).

(٢) ت، حاشية الأصل (من نسخة) (عليهم).

(٣) م: (قول).

(٤) ت، د، حاشية ف (من نسخة): (لسان).

(٥) د، ت: (وما يجب عليهم).

٥٨

جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ) [غافر: ٨].

ولفظ الصالح لا يطلق إلا على من كان كاملا عاقلا؛ فإن استبعدوا تأويلنا وحملنا الآية على البالغين المكلّفين؛ فهذا جوابهم.

والجواب الثاني أنّه تعالى لما خلقهم وركّبهم تركيبا يدلّ على معرفته ويشهد بقدرته ووجوب عبادته، وأراهم العبر والآيات والدّلائل في أنفسهم وفي غيرهم كان بمنزلة المشهد لهم على أنفسهم، وكانوا في مشاهدة ذلك ومعرفته وظهوره فيهم على الوجه الّذي أراده تعالى، وتعذّر امتناعهم منه، وانفكاكهم من دلالته بمنزلة المقرّ المعترف؛ وإن لم يكن هناك إشهاد ولا اعتراف على الحقيقة؛ ويجري ذلك مجرى قوله تعالى:( ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ ) [فصلت: ١١]، وإن لم يكن منه تعالى قول على الحقيقة، ولا منهما جواب، ومثله قوله تعالى:( شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ ) [التوبة: ١٧]. ونحن نعلم أنّ الكفار لم يعترفوا بالكفر بألسنتهم؛ وإنما(١) لما ظهر منهم ظهورا لا يتمكّنون من دفعه كانوا بمنزلة المعترفين به؛ ومثل هذا قولهم: جوارحي تشهد بنعمتك، وحالي معترفة بإحسانك. وما روي عن بعض الخطباء(٢) من قوله: سل(٣) الأرض: من شقّ أنهارك، وغرس أشجارك، وجنى ثمارك؟ فإن لم تجبك حوارا أجابتك اعتبارا.

وهذا باب كبير، وله نظائر كثيرة في النظم والنثر؛ يغني عن ذكر جميعها القدر الّذي ذكرناه منها.

____________________

(١) د، ونسخة بحاشيتي الأصل، ف: (وإنما ذلك).

(٢) في نسخة بحواشي الأصل، ت، ف: (الحكماء).

(٣) في نسخة بحواشي الأصل، ت، ف: (هذا من كلام الفضل بن عيسى بن أبان، ذكره في قصصه).

٥٩

تأويل خبر [ (ليس منّا من لم يتغنّ بالقرآن) ]

قال أبو عبيد القاسم بن سلاّم فيما يروى عن النبي صلى عليه وآله: (ليس منّا من لم يتغنّ بالقرآن). قال: أراد: يستغني به، واحتجّ بقولهم: تغنّيت تغنيا، وتغانيت تغانيا، وأنشد بيت الأعشى:

و

كنت امرأ زمنا بالعراق

عفيف المناخ طويل التّغنّ(١)

وقول الآخر:

كلانا غني عن أخيه حياته

ونحن إذا متنا أشدّ تغانيا(٢)

واحتجّ أيضا بقول ابن مسعود: (من قرأ سورة آل عمران فهو غني)، أي مستغن، وبالحديث الآخر: (نعم كنز الصّعلوك سورة آل عمران يقوم بها(٣) في آخر الليل)؛ والصّعلوك الفقير، واحتجّ بحديث آخر يروى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وسلم هو أنه قال: (لا ينبغي لحامل القرآن أن يظنّ أنّ أحدا أعطي أفضل مما أعطي، لأنّه لو ملك الدنيا بأسرها لكان القرآن أفضل ممّا ملكه). واحتجّ أيضا بخبر يرفعه(٤) عن عبد الله بن نهيك أنه دخل على سعد(٥) بيته(٦) ، فإذا مثال رثّ، ومتاع رثّ، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن).

قال أبو عبيد: فذكره المتاع الرثّ، والمثال الرثّ يدلّ على أن التغنّي بالقرآن الاستغناء به

____________________

(١) ديوانه: ٢٢، واللسان (غنى).

(٢) نسبه صاحب اللسان في (غنى) إلى المغيرة بن حبناء التميمي؛ وذكره المبرد في (الكامل ٣: ١٤ - بشرح المرصفي) ضمن أبيات لعبد الله ابن معاوية، أولها:

رأيت فضيلا كان شيئا ملفّفا

فكشّفه التّمحيص حتّى بدا ليا

وقبله:

فعين الرّضا عن كلّ عيب كليلة

ولكنّ عين السّخط تبدى المساويا

 (٣) حاشية الأصل: (بقراءتها).

(٤) في نسخة بحواشي الأصل، ت، ف: (يرويه).

(٥) حاشية الأصل: (هو سعد بن أبي وقاص).

(٦) كذا في الأصل، وحاشية ف؛ وفي د، ف، وحاشية ت (من نسخة): (في بيته).

٦٠

عن الكثير من المال والمثال هو الفراش، قال الشاعر(١) :

بكلّ طوال السّاعد بن كأنّما

يرى بسرى اللّيل المثال الممهّدا(٢)

- يعني الفراش. قال أبو عبيد: ولو كان معناه الترجيع لعظمت المحنة علينا بذلك؛ إذ كان من لم يرجّع بالقرآن فليس(٣) منهعليه‌السلام .

وذكر غير(٤) أبي عبيد جوابا آخر، وهو أنهعليه‌السلام أراد: من لم يحسّن صوته بالقرآن.

ولم يرجّع(٥) فيه. واحتجّ صاحب هذا الجواب بحديث عبد الرحمن بن السائب قال: أتيت سعدا - وقد كفّ بصره - فسلمت عليه، فقال: من أنت؟ فأخبرته. فقال: مرحبا ياابن(٦) أخي، بلغني أنك حسن الصوت بالقرآن، وقد سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: (إن هذا القرآن نزل بحزن، فإذا قرأتموه فابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا، فمن لم يتغنّ بالقرآن فليس منا). فقوله: (فابكوا أو تباكوا) دليل على أن التغنّي التحنين والترجيع. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: (لا يأذن الله لشيء من أهل الأرض إلا لأصوات المؤذّنين، والصوت الحسن بالقرآن). ومعنى قوله: (يأذن) يستمع له؛ يقال: أذنت للشيء آذن أذنا إذا استمعت له؛ قال الشاعر(٧) :

صمّ إذا سمعوا خيرا ذكرت به

وإن ذكرت بسوء(٨) عندهم أذنوا

____________________

(١) نسبه صاحب اللسان في (مثل) إلى الأعشى.

(٢) في حاشيتي الأصل، ف: (أي بدل سرى الليل؛ كقولك شربت بالخمر ماء، أي بدل الخمر).

(٣) في نسخة بحاشيتي ت، ف: (ليس).

(٤) د، وحاشية الأصل (من نسخة): (وذكر عن غير أبي عبيد جواب).

(٥) ت، د، ف: (ويرجع).

(٦) في نسخة بحواشي الأصل، ت، ف: (بابن).

(٧) هو قعنب بن ضمرة؛ أحد شعراء الدولة الأموية، من أبيات في (الحماسة - بشرح التبريزي ٤ - ١٢٤، والاقتضاب ٢٩٢، وشواهد المغني ٣٢٦)، وقبله:

إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحا

عنّي وما سمعوا من صالح دفنوا

 (٨) ف: (بشر).

٦١

وقال عدي بن زيد العبادي(١) :

أيّها القلب تعلّل بددن

إنّ همّي في سماع وأذن(٢)

والأذن هو السّماع، وإنما حسّن(٣) تكرير المعنى اختلاف اللفظ. وللعرب في هذا مذهب معروف، ومثله:

* وهند أتى من دونها النّأى والبعد*

فأما الدّدن فهو اللهو واللعب، وفيه لغات ثلاث: دد على مثال دم، وددا على مثال فتى، وددن على مثال حزن؛ ومنه قول النبيعليه‌السلام : (ما أنا من دد ولا الدّد منّي(٤) ).

فإن قيل: كيف يحمل قوله: (لا يأذن الله لشيء كإذنه لكذا وكذا) على معنى الإسماع، وهو تعالى سامع لكلّ شيء مسموع، فأي معنى للاختصاص؟ قلنا: ليس المراد هاهنا بالإسماع مجرد الإدراك، وإنما المراد به القبول، فكأنّهعليه‌السلام قال:

إنّ الله تعالى لا يتقبّل أو يثيب على شيء من أهل الأرض كتقبّله وثوابه على كذا وكذا، ومن هذا قولهم: هذا كلام لا أسمعه، وخاطبت فلانا بكلام فلم يسمعه(٥) ، وإنما يريد نفي القبول لا الإدراك، والبيت الّذي أنشدناه يشهد بذلك، لأنه قال:

* وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا*

ونحن نعلم أنّهم يستمعون الذّكر بالخير والشر معا من حيث الإدراك؛ فوجه الاختصاص ما ذكرناه.

____________________

(١) حاشية ت: (العباد قوم كانوا يخدمون النعمان فسماهم العباد وكان عدي هذا منهم)؛ وحاشية ف: (قوم اقتطعهم النعمان بخدمته؛ فكان يقال لهم عباد النعمان، فنسب عدي إليهم، (وكان نصرانيا).

(٢) حاشية الأصل: (البعد أقرب من النأي).

(٣) ش، ف: (وإنما حسن تكرير المعنى لاختلاف اللفظ).

(٤) في حاشيتي الأصل، ف: (قولهعليه‌السلام : (منيه) هذه الهاء للاستراحة، وهي تدل على تأكد امتناعه من اللهو). وفي ج، وحاشيتي ت، ف (من نسخة): (مني).

(٥) في حاشيتي ت، ف: (ومن هذا الباب قوله: دعوت الله حتى خفت ألا يكون الله يسمع ما أقول؛ أي يجيب).

٦٢

وقد ذكر أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري وجها ثالثا في الخبر، قال: أرادعليه‌السلام :(١) من لم يتلذّذ بالقرآن، ويستحله، ويستعذب(١) تلاوته كاستحلاء أصحاب الطّرب للغناء والتذاذهم به. وسمّى ذلك تغنّيا من حيث يفعل عنده ما يفعل عند التغنّي بالغناء، وذكر أنّ ذلك نظير قولهم: العمائم تيجان العرب، والحباء(٢) حيطان العرب، والشمس حمّامات العرب(٣) ؛ وأنشد بيت النابغة:

بكاء حمامة تدعو هديلا

مفجّعة على فنن تغنّي(٤)

فشبّه صوتها لما أطرب إطراب الغناء بالغناء، وجعلوا العمائم لما قامت مقام التّيجان تيجانا؛ وكذلك القول في الحباء والشمس.

وجواب أبي عبيد أحسن الأجوبة وأسلمها، وجواب أبي بكر أبعدها؛ لأن التلذّذ لا يكون إلا في المشتهيات، وكذلك الاستحلاء والاستعذاب. وتلاوة القرآن وتفهّم معانيه من الأفعال الشاقة، فكيف يكون ملذّا مشتهى(٥) ؟! فإن عاد إلى أن يقول: قد تستحلى التّلاوة من الصوت الحزين(٦) ، قلنا: هذا رجوع إلى الجواب الثاني الّذي رغبت عنه، وانفردت عند نفسك بما يخالفه.

ويمكن أن يكون في الخبر وجه رابع خطر لنا، وهو أن يكون قولهعليه‌السلام :

(من لم يتغنّ) من غني الرجل بالمكان إذا طال مقامه به، ومنه قيل: المغنى والمغاني، قال الله تعالى:( كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا ) [الأعراف: ٩٢]، أي لم يقيموا بها، وقال

____________________

(١ - ١) ف: (من لم يتلذذ بالقرآن ولم يستحله ولم يستعذب).

(٢) في حاشيتي الأصل، ف: (جمع حبوة (بكسر الحاء وضمها معا)، والأصل فيه الاحتباء بالسيف، والاحتباء: شد اليدين أمام الركبتين، والاسم الحبوة).

(٣) في حاشيتي الأصل، ف: (أي يتنزل منزلة هذه الأشياء).

(٤) في حاشيتي الأصل، ف: (الهديل: صوت الحمام وفرخها، ويحتمل المعنيين؛ أي تدعو دعاء، صوتها)؛ والبيت في ديوانه ٧٩.

(٥) في حاشيتي الأصل (من نسخة)، ف (عن ش): (شيء ملذ؛ أي يحمل على الالتذاذ به، ويقال: لذذت بالشيء، ولذذته، أو وجدته لذيذا، أو عددته كذلك).

(٦) تحت هذه الكلمة في الأصل: (من نسخة الشجري)، وفي نسخة بحاشيتي الأصل، ت (الحسن).

٦٣

الأسود بن يعفر(١) الإيادي:

ولقد غنوا فيها بأنعم غنية

في ظلّ ملك ثابت الأوتاد(٢)

وقول(٣) الأعشى الّذي أنشده أبو عبيد وهو:

وكنت امرأ زمنا بالعراق

عفيف المناخ طويل التّغنّ

بطول المقام أشبه منه بالاستغناء، لأن المقام يوصف بالطول ولا يوصف الاستغناء بذلك، فكأنّ الأعشى أراد: إنّني كنت ملازما لوطني، مقيما بين أهلي، لا أسافر للانتجاع والطّلب؛ ويجري قوله هذا مجرى قول حسّان بن ثابت الأنصاري:

أولاد جفنة حول قبر أبيهم

قبر ابن مارية الكريم المفضل(٤)

أراد بقوله: (حول قبر أبيهم) أنهم ملوك لا ينتجعون(٥) ، ولا يفارقون محالّهم وأوطانهم؛ فيكون معنى الخبر على هذا الوجه: من لم يقم على القرآن؛ فلا يتجاوزه(٦) إلى غيره، ولا يتعدّاه إلى سواه، ويتخذه مغنى ومنزلا ومقاما فليس منا.

فإن قيل: أليس قد يتعدّى القرآن إلى السّنّة والإجماع وسائر أدلّة الشرع؟ فكيف يحظر علينا تعدّيه؟ قلنا: ليس في ذلك تعدّ للقرآن، لأنّ القرآن دالّ على وجوب اتّباع السنّة وغيرها من أدلّة الشرع، فمن اعتمد بعضها في شيء من الأحكام لا يكون متجاوزا للقرآن، ولا متعديا؛ فأمّا قولهعليه‌السلام : (ليس منّا) فقد قيل فيه: إنه لا يكون على أخلاقنا، واستشهد ببيت النابغة:

____________________

(١) في حاشيتي الأصل: (ويعفر (بضم الياء والفاء)، ويعفر أيضا (بضم الياء وكسر الفاء).

ويعفر (بضم الياء والفاء) ينصرف لزوال شبه الفعل عنه).

(٢) البيت من قصيدة في المفضليات ٢١٧، وفي د، ف، وحاشية الأصل (من نسخة)، والمفضليات (عيشة).

(٣) ت: (وبيت).

(٤) ديوانه: ٨٠، وأولاد جفنة: ملوك غسان.

(٥) في حاشيتي الأصل، ف: أي لا يحتاجون إلى الانتجاع؛ فهم مقيمون في مكانهم).

(٦) حاشية ف: (ويتجاوزه ويتخذه)، وفي حاشية الأصل: (قال السيد: في هذا الكلام اضطراب، والصحيح: (فيتجاوزه ويتعداه)؛ إلا أن تكون (لا) زائدة؛ والمعنى: من لم يقم على القرآن بحيث لا يتجاوزه إلى غيره، ويتعداه إلى سواه؛ ولم يتخذه مغنى، ويكون قوله (يتخذ) معطوفا على (يقم).

٦٤

إذا حاولت في أسد فجورا

فإنّي لست منك ولست منّي(١)

وقيل إنه أراد: ليس على ديننا، وهذا الوجه لا يليق إلاّ بجوابنا الّذي اخترناه، وهو بعده بجواب أبي عبيد أليق، لأنه محال أن يخرج عن دين النبي صلى الله عليه وملّته من لم يحسّن صوته بالقرآن، ويرجّع فيه، أو من لم يتلذّذ بتلاوته ويستحليها.

مسألة: [الكلام على قوله تعالى:( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ. إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ) ]

 اعلم أنّ أصحابنا قد اعتمدوا في إبطال ما ظنّه أصحاب الرؤية في قوله تعالى:( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ. إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ) [القيامة ٢٢ - ٢٣]، على وجوه معروفة، لأنهم بيّنوا أنّ النظر ليس يفيد الرؤية، ولا الرؤية من أحد محتملاته، ودلّوا على أنّ النظر ينقسم إلى أقسام كثيرة؛ منها تقليب الحدقة الصحيحة حيال(٢) المرئي طلبا لرؤيته؛ ومنها النظر الّذي هو الانتظار؛ ومنها النّظر الّذي هو التعطّف والرّحمة؛ ومنها النظر الّذي هو الفكر والتأمّل، وقالوا: إذا لم يكن في أقسام النظر الرّؤية لم يكن للقوم بظاهرها تعلّق(٣) ، واحتجنا(٤) جميعا إلى طلب تأويل للآية من غير جهة الرؤية. وتأوّلها بعضهم على الانتظار للثواب، وإن كان المنتظر في الحقيقة محذوفا، والمنتظر منه مذكورا على عادة للعرب معروفة.

وسلّم بعضهم أن النظر يكون الرؤية بالبصر، وحمل الآية على رؤية أهل الجنة لنعم الله تعالى عليهم؛ على سبيل حذف المرئي في الحقيقة. وهذا كلام(٥) مشروح في مواضعه، وقد بيّنا ما يورد عليه، وما يجاب به عن الشّبهة المعترضة في مواضع كثيرة.

وهاهنا وجه غريب في الآية حكي عن بعض المتأخرين(٦) : لا يفتقر معتمده إلى العدول عن الظاهر، أو إلى تقدير محذوف، ولا يحتاج إلى منازعتهم في أنّ النظر يحتمل الرؤية،

____________________

(١) ديوانه: ٧٩.

(٢) ت، حاشية ف (من نسخة): (في جهة المرئي).

(٣) ف: (التعلق).

(٤) ت، حاشية الأصل (من نسخة): (واحتاج جميعنا).

(٥) ت، ف: (وهذا الكلام).

(٦) في حاشيتي ت، ف: (يعني به الصاحب بن عباد رحمه الله).

٦٥

أو لا يحتملها؛ بل يصح الاعتماد عليه؛ سواء كان النظر المذكور في الآية هو الانتظار بالقلب، أو(١) الرؤية بالعين، وهو أن يحمل قوله تعالى:( إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ) على أنه أراد به نعمة ربّها، لأن الآلاء النّعم، وفي واحدها أربع لغات: ألاّ مثل قفا، وألى مثل رمى، وإلى مثل معى، وإلى مثل حسى؛ قال أعشى بكر بن وائل:

أبيض لا يرهب الهزال ولا

يقطع رحما ولا يخون إلا(٢)

أراد أنه لا يخون نعمة، فأراد (بإلى ربّها) نعمة ربّها، وأسقط التنوين للإضافة.

فإن قيل: فأي فرق بين هذا الوجه وبين تأويل من حمل الآية على أنّه أريد بها(٣) إلى ثواب ربها ناظرة، بمعنى رائية لنعمه وثوابه؟ قلنا: ذلك الوجه يفتقر إلى محذوف، لأنه إذا جعل (إلى) حرفا ولم يعلّقها بالربّ تعالى، فلا بد من تقدير محذوف، وفي الجواب الّذي ذكرناه لا يفتقر إلى تقدير محذوف، لأن (إلى) فيه اسم يتعلق به الرؤية ولا يحتاج إلى تقدير غيره(٤) .

____________________

(١) ت. (أم)

(٢) ديوانه: ١٥٥، واللسان (إلى) وفي حاشيتي الأصل، ف: (أبيض: كريم، والهزال كناية عن قلة ذات اليد، وخيانة النعمة أن يبخل بها).

(٣) ف: (به).

(٤) في حاشيتي الأصل، ف: (الوجه الأول أحسن، وبمجارى كلام العرب أشبه، وفي الفصاحة أعرق؛ وذلك أن وجه الصاحب وإن كان له محمل في العربية؛ فإن إعمال اسم الفاعل فيما قبله على هذا الوجه مما يحوج الإنسان إليه مضايق الشعر؛ والقرآن موضع فساحة، ومحل فصاحة، فالأولى غير هذا الوجه؛ والله أعلم).

٦٦

[٤]

مجلس آخر [المجلس الرابع:]

تأويل آية( وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاّ بِإِذْنِ الله )

إن قال قائل: ما تأويل قوله تعالى:( وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاّ بِإِذْنِ الله وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ ) [يونس: ١٠٠].

وظاهر هذا الكلام يدلّ على أن الإيمان إنما كان لهم فعله بإذنه وأمره، وليس هذا مذهبكم؛ وإن حمل الإذن هاهنا على الإرادة اقتضى أنّ من لم يقع منه الإيمان لم يرده الله منه، وهذا أيضا بخلاف قولكم. ثم جعل الرّجس الّذي هو العذاب على الذين لا يعقلون؛ ومن كان فاقدا عقله لا يكون مكلّفا، فكيف يستحقّ العذاب؟ وهذا بالضد من الخبر المروي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال: (أكثر أهل الجنة البله).

الجواب، يقال له في قوله تعالى: إِلاّ بِإِذْنِ الله وجوه:

منها أن يكون الإذن الأمر، ويكون معنى الكلام: إن الإيمان لا يقع إلا بعد أن يأذن الله فيه، ويأمر به، ولا يكون معناه ما ظنّه السائل من أنه لا يكون للفاعل فعله إلا بإذنه، ويجري هذا مجرى قوله تعالى:( وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاّ بِإِذْنِ الله ) [آل عمران: ١٤٥].

ومعلوم أنّ معنى قوله: ليس لها في هذه الآية هو ما ذكرناه، وإن كان الأشبه في هذه الآية التي فيها ذكر الموت أن يكون المراد بالإذن العلم.

ومنها أن يكون الإذن هو التوفيق(١) والتيسير والتسهيل، ولا شبهة في أن الله يوفق لفعل الإيمان ويلطف فيه، ويسهّل السبيل إليه.

ومنها أن يكون الإذن العلم من قولهم: أذنت لكذا وكذا إذا سمعته وعلمته، وآذنت فلانا بكذا إذا أعلمته؛ فتكون فائدة الآية الإخبار عن علمه تعالى بسائر الكائنات، فإنه ممن

____________________

(١) حاشية الأصل (من نسخة): (في هذه).

٦٧

لا يخفى عليه الخفيّات.. وقد أنكر بعض من لا بصيرة له أن يكون الإذن (بكسر الألف وتسكين الذال) عبارة عن العلم، وزعم أن الّذي هو العلم الأذن (بالتحريك)، واستشهد بقول الشاعر(١) :

* إنّ همّي في سماع وأذن*

وليس الأمر على ما توهّمه هذا المتوهّم، لأن الأذن هو المصدر، والإذن هو اسم الفعل(٢) ؛ فيجري مجرى الحذر في أنه مصدر؛ والحذر (بالتسكين) الاسم على أنه لو لم يكن مسموعا إلا الأذن (بالتحريك) لجاز التسكين، مثل مثل ومثل وشبه وشبه ونظائر ذلك كثيرة.

ومنها: أن يكون الإذن العلم، ومعناه إعلام الله المكلّفين بفضل الإيمان وما يدعو إلى فعله، ويكون معنى الآية: وما كان لنفس أن تؤمن إلاّ بإعلام الله لها بما يبعثها على الإيمان، وما يدعوها إلى فعله.

فأمّا ظنّ السائل دخول الإرادة في محتمل اللفظ فباطل؛ لأنّ الإذن لا يحتمل الإرادة في اللّغة، ولو احتملها أيضا لم يجب ما توهّمه، لأنه إذا قال: إنّ الإيمان لا يقع(٣) إلا وأنا مريد له لم ينف أن يكون مريدا لما لم يقع، وليس في صريح الكلام ولا دلالته(٤) شيء من ذلك.

وأما قوله تعالى:( وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ ) فلم يعن بذلك الناقصي العقول، وإنما أراد الّذين لم يعقلوا ويعلموا(٥) ما وجب عليهم علمه من معرفة الله خالقهم، والاعتراف بنبوّة رسله والانقياد إلى طاعتهم، ووصفهم تعالى بأنّهم لا يعقلون تشبيها؛

____________________

(١) هو عدي بن زيد العبادي؛ وقد تقدم البيت بتمامه منسوبا إليه في ص ٣٣.

(٢) في حاشيتي الأصل، ف: (ومن هذا الباب الصرم؛ فإنه مصدر صرم، والصرم؛ بالضم اسم ذلك الفعل الّذي هو القطع؛ لا المصدر).

(٣) د، ف، حاشية ت (من نسخة): (لم يقع).

(٤) ف، حاشية ت (من نسخة): (ولا في دليله).

(٥) حاشية الأصل (من نسخة): (ولم يعلموا).

٦٨

كما قال تعالى:( صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ ) [البقرة: ١٨]، وكما يصف أحدنا من لم يفطن لبعض الأمور، أو لم يعلم ما هو مأمور بعلمه بالجنون وفقد العقل.

فأما الحديث الّذي أورده السائل شاهدا له فقد قيل إنه عليه وآله السلام(١) لم يرد بالبله ذوي الغفلة والنقص والجنون، وإنما أراد البله عن الشرّ والقبيح، وسمّاهم بلها عن ذلك من حيث لا يستعملونه ولا يعتادونه، لا من حيث فقدوا العلم به. ووجه تشبيه من هذه حاله بالأبله ظاهر، فإنّ الأبله عن الشيء هو الّذي لا يعرض له ولا يقصد إليه، فإذا كان المتنزّه عن الشر معرضا عنه، هاجرا لفعله جاز أن يوصف بالبله للفائدة التي ذكرناها؛ ويشهد بصحة هذا التأويل قول الشاعر:

ولقد لهوت بطفلة ميّادة

بلهاء تطلعني على أسرارها(٢)

أراد أنها بلهاء عن الشر والريبة؛ وإن كانت فطنة لغيرهما؛ وقال أبو النّجم العجلي:

من كل عجزاء سقوط البرقع(٣)

بلهاء لم تحفظ ولم تضيّع

أراد بالبلهاء ما ذكرناه. فأما قوله: (سقوط البرقع) فأراد أنها تبرز وجهها ولا تستره، ثقة(٤) بحسنه وإدلالا بجماله(٤) ، وقوله: (لم تحفظ) أراد أن استقامة طرائقها تغني عن حفظها، وأنها لعفافها(٥) ونزاهتها غير محتاجة إلى مسدّد وموقّف؛ وقوله: (لم تضيّع) أراد أنّها لم تهمل في أغذيتها(٦) وتنعيمها وترفيهها فتشقى، ومثل قوله: (سقوط البرقع) قول الشاعر(٧) :

____________________

(١) ت: (إن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله )، ف: (إنهصلى‌الله‌عليه‌وآله ).

(٢) الأضداد ص ٢٠٢، واللسان (بله) - بلا عزو. والطفلة: الناعمة؛ وفي ت، د، ف: (ميالة).

(٣) اللسان (بله).

(٤) حاشية ت (من نسخة): (بحسنها وإدلالا بجمالها).

(٥) ش: (لعفافتها)، وفي حواشي الأصل، ت، ف: (عف يعف عفا وعفة وعفافة).

(٦) في حاشيتي الأصل، ف: (الأولى في معنى لم تضيع أنها لا تخلو من خدم يختصون بها؛ ليكون هذا التضييع مطابقا لذلك الحفظ). وفي حاشية ت (من نسخة): (في تغذيتها).

(٧) هو عمر بن أبي ربيعة، والبيت في ديوانه ٣٣.

٦٩

فلمّا تواقفنا وسلّمت أقبلت

وجوه زهاها الحسن أن تتقنّعا(١)

ومثله أيضا:

بها شرق من زعفران وعنبر

أطارت من الحسن الرّداء المحبّرا(٢)

أي رمت به عنها ثقة بالجمال والكمال(٣) ، ومثله - وهو مليح(٤) :

لهونا بمنجول البراقع حقبة

فما بال دهر لزّنا بالوصاوص(٥)

أراد بمنجول البراقع اللاتي يوسعن عيون براقعهنّ ثقة بحسنهن، ومنه الطعنة النّجلاء، والعين النّجلاء؛ ثم قال: ما بال دهر أحوجنا واضطرنا إلى القباح، اللواتي يضيّقن عيون براقعهن لقبحهنّ، والوصاوص: هي النّقب الصّغار للبراقع؛ ومما يشهد للمعنى الأول الّذي هو الوصف بالبله لا بمعنى الغفلة قول ابن الدّمينة:

بمالي وأهلي من إذا عرضوا له

ببعض الأذى لم يدر كيف يجيب(٦)

- ويروى بنفسي وأهلي -

ولم يعتذر عذر البري ولم تزل

به ضعفة(٧) حتّى يقال مريب(٨)

ومثله:

أحبّ اللّواتي في صباهنّ غرّة

وفيهنّ عن أزواجهنّ طماح(٩)

____________________

(١) في الديوان: (أشرقت) وفي حاشية ت (من نسخة): (أسفرت)، وفي حاشية الأصل (من نسخة): (تتبرقعا).

(٢) البيت للشماخ، ديوانه: ٢٩. وفي حواشي الأصل، ت، ف: (الشرق: أثر الطيب؛ يقال: يده من الطيب شرقة. وشرقت الشمس: اصفرت من الغروب؛ ومنه أحمر شرق: شديد الحمرة، وشرق الثوب بالصبغ، ولحم شرق: لا دسم فيه). والمحبر: المنقش.

(٣) حاشية ت (من نسخة): (ثقة بجمالها وكمالها).

(٤) في نسخة بحاشيتي الأصل، ت: (حسن).

(٥) حاشية الأصل: (لزنا: أحوجنا).

(٦) الشعر والشعراء ٤٥٩. وفي ت: (بأهلي ومالي).

(٧) ف، حاشية الأصل (من نسخة): (سكنة).

(٨) مريب: أتى بريبة. وفي حاشية الأصل. (أصل العذر أن تتعقب ذنبا، والبريء: لا ذنب له؛ إلا أن تنصله قائم مقام العذر للمجرم؛ فكأنه عذر مجازا).

(٩) البيتان في مصارع العشاق ٣٤٧، وعزاهما إلى بعض الأعراب، ورواية البيت الأول فيه:

أحبّ اللواتي هنّ من ورق الصّبا

ومنهنّ عن أزواجهنّ طماح

ويقال: طمح ببصره؛ إذا رمى به، وفي حاشية الأصل: (طماح: شماس).

٧٠

مسرّات حبّ مظهرات عداوة

تراهنّ كالمرضى وهنّ صحاح

ومثله:

يكتبين الينجوج في كبد المش

تى وبله أحلامهنّ وسام(١)

أما قوله: (يكتبين) فمأخوذ من لفظ الكباء، وهو العود، أراد يتبخّرن به، والينجوج هو العود، وفيه ست لغات: ينجوج، وأنجوج، ويلنجوج، وألنجوج، وألنجج، ويلنجج.

فأما كبد المشتى، فهو ضيقته(٢) وشدّته، ومنه قوله تعالى:( لَقَدْ خَلَقْنَا الآنْسانَ فِي كَبَدٍ ) [البلد: ٤]؛ وقد روي: (في كبّة المشتى) والمعنى متقارب، لأن الكبّة هي الصدمة والحملة، مأخوذ من كبّة(٣) الخيل؛ وأما الوسام فهنّ(٤) الحسان من الوسامة، وهي الحسن.

ويمكن أن يكون في البله جواب آخر، وهو أن يحمل على معنى البله الّذي هو الغفلة والنقصان في الحقيقة، ويكون معنى الخبر أنّ أكثر أهل الجنة الذين كانوا بلها في الدنيا، فعندنا أن الله ينعّم الأطفال في الجنة والمجانين والبهائم، وإنما لم نجعلهم بلها في الجنة وإن كان ما يصل إليهم من النعيم على سبيل العوض أو التفضّل(٥) لا يفتقر إلى كمال العقل، لأنّ الخبر ورد بأن الأطفال والبهائم إذا دخلوا الجنّة لم يدخلوها إلا وهم على أفضل الحالات وأكملها، ولهذا صرفنا البله عنهم في الجنة، ورددناه إلى أحوال الدنيا، وإلاّ فالعقل لا يمنع من ذلك كمنعه إياه في باب الثواب والعقاب.

____________________

(١) البيت لأبي دؤاد الإيادي، وهو في الأصمعيات ٦٨، وفي حاشية الأصل: (أي عقولهن بله، وهن وسام، وواحد الوسام وسيم).

(٢) ت: (ضيقة)، ش: (ضيقته)، بكسر الضاد وفي حاشيتي ت، ف: (الضيقة: الضر والبؤس؛ وهو الضيق أيضا).

(٣) في نسخة بحاشيتي الأصل، ت: (فهي).

(٤) حاشية الأصل: (وهو ازدحامهما).

(٥) في نسخة بحواشي الأصل، ت، ف: (فإن التفضل). د: (والتفضل).

٧١

تأويل آية أخرى( ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ )

قال الله تعالى مخبرا عن يوم القيامة:( ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ، وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ. يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاّ بِإِذْنِهِ ) [هود: ١٠٣ - ١٠٥]. وقال في موضع آخر:( هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ. وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ) [المرسلات: ٣٥، ٣٦]. وفي موضع آخر:( وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ ) [الصافات: ٢٧، والطور: ٢٥].

وظاهر هذه الآيات ظاهر الاختلاف، لأن بعضها ينبئ عن أنّ النطق لا يقع منهم في ذلك اليوم، ولا يؤذن لهم فيه، وبعضها ينبئ عن خلافه. وقد قال قوم من المفسّرين في تأويل(١) هذه الآيات: إن يوم القيامة يوم طويل ممتدّ، فقد يجوز أن يمنع النّطق في بعضه، ويؤذن لهم في بعض آخر(٢) ؛ وهذا الجواب يضعّف، لأن الإشارة إلى يوم القيامة بطوله، فكيف يجوز أن تجعل الحالات فيه مختلفة؛ وعلى هذا التأويل يجب أن يكون قوله تعالى:( هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ ) في بعضه، والظاهر بخلاف ذلك.

والجواب السديد عن هذا أن يقال: إنما أراد الله تعالى نفي النّطق المسموع المقبول الّذي ينتفعون به، ويكون لهم في مثله عذر أو حجّة، ولم ينف النطق الّذي ليست هذه حاله، ويجري هذا مجرى قولهم: خرس فلان عن حجّته، وحضرنا فلانا يناظر فلانا فلم يقل شيئا، وإن كان الّذي وصف بالخرس عن الحجّة، والّذي نفى عنه القول قد تكلّم بكلام كثير غزير، إلاّ أنّه من حيث لم يكن فيه حجّة، ولا به منفعة جاز إطلاق القول الّذي حكيناه عليه؛ ومثل هذا قول الشاعر(٣) :

____________________

(١) ت: (تأويلات).

(٢) ف: (في موضع آخر).

(٣) هو مسكين الدارمي؛ وهو ربيعة بن عامر بن أنيف؛ والبيتان في (معجم الأدباء ١١: ١٣٢).

وفي حاشية الأصل: (قبلهما):

ما ضرّ جارا لي أجاوره

ألاّ يكون لبابه ستر

٧٢

أعمى إذا ما جارتي خرجت

حتّى يواري جارتي الخدر

ويصمّ عمّا كان بينهما

سمعي وما بي غيره وقر(١)

وقال الآخر:

لقد طال كتمانيك(٢) حتّى كأنّني

بردّ جواب السّائلي عنك أعجم(٣)

وعلى هذا التأويل قد زال الاختلاف، لأنّ التساؤل والتلاؤم لا حجّة فيه.. وأما قوله تعالى:( وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ) ، فقد قيل: إنهم غير مأمورين بالاعتذار، فكيف يعتذرون؟ ويجاب بحمل الإذن على الأمر؛ وإنّما لم يؤمروا به من حيث كانت تلك الحال لا تكليف فيها، والعباد ملجئون عند مشاهدة أحوالهم إلى الاعتراف والإقرار. وأحسن من هذا التأويل أن يحمل لِيُؤْذَنَ، على معنى أنه لا يستمع لهم، ولا يقبل عذرهم، والعلة في امتناع قبول عذرهم هي التي ذكرناها(٤) .

____________________

(١) حاشية الأصل: (يريد به؛ أي بقوله (بينهما) جاره وجارته؛ لأنه ذكر الجار قبل الجارة في قوله: ما ضر جارا البيت)، وفي حاشية ف: (بينهما، أي بين الجار وبين من تخاطبه؛ والكلام يدل على متخاطبين).

(٢) حاشية الأصل: (كتماني أمرك وعشقك).

(٣) في حاشيتي ت، ف: (بعده:

لأسلم من قول الوشاة وتسلمي

سلمت وهل حي على الناس يسلم

 (٤) حواشي الأصل، ت، ف: (قوله تعالى:( هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ. وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ) ؛ التقدير: لا ينطقون بنطق ينفعهم، ولا يعتذرون بعذر ينفعهم، فيكون يعتذرون داخلا في حيز النفي، ولا يمكن حمله على الإيجاب إلا إذا كان المعنى على أنهم ينطقون بنطق ينفعهم؛ لأنه إن حمل على الظاهر كان في الكلام تناقض؛ لأن التقدير إذا: هذا يوم لا ينطقون فيعتذرون؛ وهذا تناقض، لأن الاعتذار نطق، وإن شئت كان التقدير: لا ينطقون بحال، ولا يعتذرون؛ لأن هناك مواقف؛ فيكون هذا في موقف؛ ومثله قراءة الحسن والثقفي:( لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا ) ، فقوله:( يَمُوتُونَ ) معطوف على( لا يُقْضى ) أي لا يقضى عليهم فلا يموتون؛ كذلك لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون؛ أي فلا يعتذرون؛ وهذا أحسن، والله أعلم).

٧٣

تأويل خبر [: (لا تسبّوا الدّهر، فإنّ الدّهر هو الله).]

روي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال: (لا تسبّوا الدّهر، فإنّ الدّهر(١) هو الله).

وقد ذكر قوم في تأويل هذا الخبر أنّ المراد به لا تسبّوا الدهر، فإنه لا فعل له، وإنّ الله مصرّفه ومدبّره، فحذف من الكلام ذكر المصرّف والمدبّر وقال: (هو الدهر).

وفي هذا الخبر وجه هو أحسن من ذلك الّذي حكيناه، وهو أنّ الملحدين، ومن نفى الصانع من العرب كانوا ينسبون ما ينزل بهم من أفعال الله تعالى كالمرض والعافية، والجدب والخصب، والبقاء والفناء إلى الدّهر، جهلا منهم بالصّانع جلّت عظمته، ويذمّون الدهر ويسبّونه في كثير من الأحوال، من حيث اعتقدوا أنه الفاعل بهم هذه الأفعال، فنهاهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عن ذلك وقال لهم: لا تسبّوا من فعل بكم هذه الأفعال ممّن تعتقدون أنه هو الدّهر، فإن الله تعالى هو الفاعل لها. وإنما قال: إنّ الله هو الدهر من حيث نسبوا إلى الدّهر أفعال الله؛ وقد حكى الله تعالى عنهم قولهم:( ما هِيَ إِلاّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاّ الدَّهْرُ ) [الجائية: ٢٤]. وقال لبيد:

في قروم سادة من قومه

نظر الدّهر إليهم فابتهل(٢)

أي دعا عليهم. وقال عمرو بن قمئة(٣) :

كأنّي وقد جاوزت تسعين(٤) حجّة

خلعت بها عنّي عذار لجامي(٥)

على الرّاحتين مرّة وعلى العصا

أنوء ثلاثا(٦) بعدهنّ قيامي

رمتني بنات الدّهر(٧) من حيث لا أرى

فكيف بمن يرمي وليس برامي

____________________

(١) كذا في الأصل، ج، د، ش. وفي ت، ف: (فإن الله هو الدهر).

(٢) ديوانه: ٨٠. وفي حاشية الأصل: (قروم: جمع قرم؛ وهو سيد وشريف وكريم؛ وابتهل؛ من المباهلة، أي تضرع وذل).

(٣) الأبيات في المعمرين ٦٢، وحماسة البحتري ٣٢١.

(٤) حاشية الأصل (من نسخة): (سبعين).

(٥) في حاشيتي الأصل، ف: يقول: (إن تسعين تركنني لا أضبط أمرا؛ فكأني مخلوع العذار). والضمير في بها يعود إلى تسعين.

(٦) في حاشيتي الأصل، ف: (أي ثلاث دفعات).

(٧) في حاشيتي الأصل، ف: (بنات الدهر: بلا ياء وحوادثه).

٧٤

فلو أنّها نبل إذا لأتقيتها

ولكنّني أرمي بغير سهام

إذا ما رآني النّاس قالوا ألم تكن

جليدا حديد الطّرف غير كهام

وأفني وما أفني من الدّهر ليلة

ولم يغن ما أفنيت سلك نظام(١)

وأهلكني تأميل يوم وليلة

وتأميل عام بعد ذاك وعام

وقال الأصمعي: ذمّ أعرابي رجلا فقال: هو أكثر ذنوبا من الدهر؛ وأنشد الفراء(٢) :

حنتني حانيات الدّهر حتّى

كأنّي خاتل أدنو لصيد(٣)

قصير الخطو يحسب من رآني

ولست مقيّدا أنّى بقيد

وقال كثيّر(٤) :

وكنت كذى رجلين رجل صحيحة

ورجل(٥) رمى فيها الزّمان فشلّت

وقال آخر(٦) :

فاستأثر الدّهر الغداة بهم

والدّهر يرميني وما أرمى

يادهر قد أكثرت فجعتنا

بسراتنا(٧) ووقرت في العظم

أما قوله: وقرت في العظم، أراد به: اتّخذت فيه وقرا، أو وقيرة، والوقر هو الحفيرة العظيمة تكون في الصّفا يستنقع فيها ماء المطر، والوقب أيضا كذلك، والوقيرة أيضا الحفيرة إلا أنّها دون الأوليين في الكبر.

وكل هؤلاء الذين روينا أشعارهم نسبوا أفعال الله التي لا يشاركه فيها غيره إلى الدهر، فحسن وجه التأويل الّذي ذكرناه.

____________________

(١) في حاشيتي الأصل، ف: (أي لم يغن ما أفنيت من العمر بشيء حتى بخيط).

(٢) البيتان في حماسة البحتري ٣٢٣.

(٣) ت، ف: (حابل):

(٤) أمالي القالي ١: ١٠٩، من تائيته المشهورة.

(٥) ف، حاشية ت (من نسخة): (وأخرى)

(٦) هو الأعشى، والبيتان في ملحقات ديوانه ٢٥٨، وثانيهما في اللسان (وقر) وفي حاشية الأصل: بعدهما:

وسلبتنا ما لست تعقبنا

يادهر ما أنصفت في الحكم

 (٧) حاشية الأصل: (جمع السري، ورجل سرى، والقوم سراة).

٧٥

مسألة [في ذكر المنافع التي عرض الله الإحياء لها]

اعلم أن المنافع التي عرّض الله تبارك وتعالى الأحياء لها ثلاث: منفعة تفضّل، ومنفعة عوض، ومنفعة ثواب، فأمّا المنفعة على سبيل التفضّل فهي الواقعة ابتداء من غير سبب استحقاق،، ولفاعلها أن يفعلها، وله ألاّ يفعلها، وأما منفعة العوض فهي المنفعة المستحقة من غير مقارنة شيء من التعظيم والتبجيل لها، وأمّا منفعة الثواب فهي المستحقة على وجه التعظيم والتبجيل فمنفعة العوض تبين من التفضل بالاستحقاق، والثواب يبين من العوض بالتعظيم والتبجيل، المصاحبين له؛ فكأنّ التفضل أصل لسائر المنافع من حيث يجب تقدمه وتأخر ما عداه؛ لأنه لا سبيل للمنتفع أن ينتفع بشيء دون أن يكون حيّا له شهوة(١) ، والابتداء بخلق الحياة والشهوة تفضّل، فقد صحّ(٢) أنه لا سبيل إلى النفع بمنفعة العوض والثواب إلا بعد تقدّم التفضّل. فأمّا المنفعة بالثواب فهي الأصل للمنفعة بالعوض؛ لأنّ الآلام وما جرى مجرى الآلام(٣) مما يستحقّ به العوض متى لم يكن فيها اعتبار يفضي إلى الثواب، ويستحق به لم يحسن فعلها، وجرى عندنا مجرى العبث، ولهذا نقول: إن الله تعالى لو لم يكلّف أحدا من المكلّفين ما كان يحسن منه أن يبتدئ بالآلام(٤) ، وإن عوّض عليها.

والأحياء على ضروب فمنهم من عرّض للمنافع الثلاث. ومنهم من عرّض لاثنتين، ومنهم من عرّض لواحدة، والمكلّف المعرّض للثواب لا بدّ أن يكون منفوعا بالتفضّل من الوجه الّذي قلنا؛ لأنه إذا خلق حيّا وفعل له القدرة والشهوة والعقل وضروب التمكين، فقد نفع بالتفضّل، وليس يجب فيمن هذه حاله أن يكون منفوعا بالعوض؛ لأنّه لا يمتنع أن يخلو المكلّف منّا من ألم يحدثه(٥) الله به؛ فلا يكون معرّضا للعوض؛ فمتى عرّض له فقد تكاملت فيه المنافع؛ فصار المكلّف مقطوعا على تعريضه لاثنتين من المنافع؛ ومجوّزا تكامل الثلاث له؛ فأما من ليس بمكلّف فمقطوع فيه على إحدى المنافع، وهي التفضّل من حيث

____________________

(١) ش، ومن نسخة بحاشية ت: (ذا شهوة).

(٢) ش، ومن نسخة بحاشية ت: (وضح).

(٣) في حاشيتي ت، ف: (الجاري مجرى الآلام كنقص الأموال والأولاد).

(٤) في حاشية ت (من نسخة): (بآلام).

(٥) ت (يبتدئه).

٧٦

خلق حيا، ومسكّن من كثير من المنافع، ومشكوك في تعريضه للعوض من الوجه الّذي بيّنا.

وكما قطعنا على إحدى المنافع فيه، فنحن قاطعون أيضا على نفي التعريض للثواب عنه، لفقد ما يوصّل(١) إليه وهو التكليف، ولا بد في كل حي محدث أن يكون معرّضا لإحدى هذه المنافع، أو لجميعها؛ وإنما أوجبنا(٢) ذلك من جهة حكمة القديم تعالى؛ لا من جهة أنه يستحيل(٣) في نفسه، وإنما قلنا إنه ليس يستحيل(٣) ؛ لأن كونه حيا وعاقلا وذا شهوة وقدرة ليس منفعة بنفسه، وإنما يكون منفعة ونعمة إذا فعل تعريضا للنفع؛ فأما إذا فعل تعريضا للضرر أو لأوجه من الوجوه، فإنه لا يكون نعمة ولا منفعة، وأوجبناه من جهة حكمة القديم تعالى، لأنه إذا جعل الحي بهذه الصفات، فلا يخلو من أن يكون أراد بها نفعه أو ضرّه، أو لم يرد بها شيئا، فإن كان الأول فهو الّذي أوجبناه، وإن كان الثاني أو الثالث فالقديم تعالى متنزه(٤) عنهما، لأنّ الثاني يجري مجرى الظلم، والثالث هو العبث بعينه، وقد يشارك القديم تعالى في النفع بالتفضّل والعوض الفاعلون المحدثون، ولا يصح أن يشاركوه في النفع بالثواب، لأن الصفة التي يستحق المكلّف لكونه عليها الثواب، وهي كون الفعل شاقّا عليه لا يكون إلاّ من قبله تعالى، وليس لأحد أن يظن فيمن يهدى إلى الدين ويرشد إلى الإيمان، وما يستحقّ به الثواب أنه معرّض للثواب، وذلك أن(٥) المكلّف قد يكون معرّضا للثواب، ويصح أن يستحقه من دون كل هداية وإرشاد يقع منّا، ولولا الصفة التي جعله الله تعالى عليها لم يصحّ(٦) أن يستحقّه، فبان الفصل بين الأمرين؛ على أنّ أحدنا وإن نفع غيره بالتفضل وبالتعريض للعوض فهذه المنافع منسوبة إلى الله تعالى، ومضافة إليه من قبل أنه لولا نعمه ومنافعه لم تكن هذه منافع ولا نعما؛ ألا ترى أنه لو لم يخلق الحياة والشهوة لم يكن ما يوصل إليهما مما ذكرنا منفعة ولا نعمة، ولو لم يخلق المشتهى الملذوذ لم يكن سبيل لنا إلى النفع والإنعام؛ فبان بهذه الجملة ما قصدناه.

____________________

(١) حاشية ت (من نسخة): (يوصله).

(٢) في نسخة بحاشيتي ت، ف: (وجب).

(٣) حاشية ت (من نسخة): (مستحيل)، وحاشية ف (من نسخة): (بمستحيل).

(٤) ت، وحاشية ف (من نسخة): (متنزه).

(٥) حاشية ت (من نسخة): (لأن).

(٦) ساقطة من ت.

٧٧

[٥]

مجلس آخر [المجلس الخامس:]

تأويل آية:( كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ )

إن سأل سائل فقال: ما تأويل قوله تبارك وتعالى مخبرا عن مهلك قوم فرعون وتوريثه نعمهم:( كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ. فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالأرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ ) ؛ [الدخان: ٢٨، ٢٩].

وكيف يجوز أن يضيف البكاء إليهما، وهو لا يجوز في الحقيقة عليهما؟.

الجواب، يقال له في هذه الآية وجوه أربعة من التأويل:

أوّلها أنه تعالى أراد أهل السماء والأرض فحذف كما حذف في قوله:( وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ ) ؛ [يوسف: ٨٢]؛ وفي قوله تعالى( حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ) ؛ [محمد: ٤] وأراد أهل القرية، وأصحاب الحرب، ويجري ذلك مجرى قولهم: السخاء حاتم، يريدون: السخاء سخاء حاتم؛ قال الحطيئة(١) :

وشرّ المنايا ميّت وسط أهله

كهلك الفتى قد أسلم الحي حاضره(٢)

أراد شر المنايا ميتة(٣) ميّت؛ وقال الآخر:

____________________

(١) البيت في طبقات الشعراء لابن سلام ص ٩٥؛ ضمن أبيات أربعة للحطيئة لم تذكر في ديوانه.

وفي حاشيتي الأصل، ف: (قال السيد الإمامعليه‌السلام : طلبت هذا البيت في شعر الحطيئة فلم أجده فيه).

(٢) في حواشي الأصل، ت، ف: (قوله: (شر المنايا) تقديره شر المنايا موت ميت فيما بين عشيرته؛ كهلك هذا الفتى في حال أن أسلم الحي حاضر هذا الفتى؛ أي أن حضاره أسلموا الحي، ولم ينصروه، ولم يمنعوا ذمارهم).

(٣) ف، ونسخة بحاشيتي الأصل، ت: (منية).

٧٨

قليل عيبه والعيب جمّ

ولكنّ الغنى ربّ غفور(١)

أراد: غنى ربّ غفور؛ وقال ذو الرّمة:

لهم مجلس صهب السّبال أذلّة

سواسية أحرارها وعبيدها(٢)

أراد أهل مجلس، وأما قوله: (صهب السّبال) فإنما أراد به الأعداء، والعرب تصف الأعداء بذلك، وإن لم يكونوا صهب الأسبلة، وقوله: (سواسية) يريد أنهم مستوون متشابهون؛ ولا يقال هذا إلا في الذم.

وثانيها أنه أراد تعالى المبالغة في وصف القوم بصغر القدر، وسقوط المنزلة؛ لأنّ العرب إذا أخبرت عن عظم المصاب بالهالك(٣) قالت: كسفت الشمس لفقده، وأظلم القمر، وبكاء

____________________

(١) البيت لعروة بن الورد، وهو في ملحقات ديوانه: ١٩٨، وهو في شرح المقامات ٢: ١٩٢، والبيان ١: ٩٥، والعقد ١: ٢١٢، وفي حواشي الأصل، ت، ف: (قال مولانا الإمام: كان السيدرضي‌الله‌عنه وهم في معنى هذا البيت. ومعنى البيت: أن الشاعر وصف إنسانا بكثرة العيوب؛ إلا أن ماله وغناه يستران عليه عيوبه، فكأنه قال: قليل عيبه، يعني يقل ظهور عيبه مع كثرة عيوبه؛ إلا أن الغنى يسترها عليه؛ كأنه رب غفور ستار للعيوب. ومعنى البيت على ما يوافق استشهاد السيدرضي‌الله‌عنه أنه يمدح إنسانا ويقول:

قليل عيب هذا الممدوح مع كثرة العيب في الناس؛ ولكن الغنى عما يجر المعايب هو غنى الله تعالى.

والأشبه بالبيت أن يكون هجوا؛ كأنه يهجو إنسانا ويقول: يرى عيبه قليلا مع كثرة العيوب فيه، والّذي يقلل عيبه غناه كأنه رب غفور، وأول القطعة:

ذريني للغنى أسعى فإنّي

رأيت النّاس شرّهم الفقير

وأبعدهم وأهونهم عليهم

وإن أمسى له حسب وخير

يباعده الندي وتزدريه

حليلته وينهره الصغير

وتلقى ذا الغنى وله جلال

يكاد فؤاد صاحبه يطير

قليل عيبه ...

(٢) ديوانه ١٥٧ وفي حاشيتي الأصل، ف: (العرب إنما تسمى الأعداء صهب السبال؛ لأن أعداءهم كانوا من الروم؛ والروم صهب الأسبلة، ثم اتسعوا فسموا كل عدو صهب السبال؛ وإن لم يكن من الروم، والقريب من هذا يصفون الأعداء بالزرق العيون).

(٣) ف، ت (من نسخة): (بالهلك).

٧٩

الليل والنهار والسماء والأرض، يريدون بذلك المبالغة في عظم الأمر وشمول ضرره؛ قال جرير يرثي عمر بن عبد العزيز(١) :

____________________

(١) حاشية ف: (حدث إبراهيم بن محمد بن عرفة الأزدي قال: حدثنا عبد الله ابن أخت أبي الوزير عن أبي محمد الشامي: كنت غلاما في خلافة عمر بن عبد العزيز؛ فلما أخذ عمر في رد المظالم غلظ ذلك على أهل بيته، وعلى جميع قريش، فكتب إليهم عبد الرحمن بن الحكم بن هشام:

فقل لهشام والّذين تجمّعوا

بدابق موتوا لا سلمتم يد الدّهر

فأنتم أخذتم حتفكم بأكفّكم

كباحثة عن مدية وهي لا ندري

عشيّة بايعتم إماما مخالفا

له شجن بين المدينة والحجر

فأجابه بعض ولد مروان عن هشام بن عبد الملك:

لئن كان ما تدعو إليه هو الرّدى

فما أنت فيه ذا غناء ولا وفر

فأنت من الرّيش الذّنابى ولم تكن

من الجزلة الأولى ولا وسط الظّهر

ونحن كفيناك الأمور كما كفى

أبونا أباك الأمر في سالف الدّهر

قال القاضي: قول عبد الرحمن بن عبد الحكم في شعره هذا: (بدابق)، فلم يصرفه، وفي صرفه وترك صرفه وجهان معروفان في كلام العرب، والعرب تذكره وتؤنثه؛ فمن ذكره صرفه؛ كما قال الشاعر:

* بدابق وأين منّي دابق*

ومن أنثه لم يصرف؛ كما قال الآخر:

لقد خاب قوم قلّدوك أمورهم

بدابق إذ قيل العدوّ قريب

وقوله:

* كباحثة عن حتفها وهي لا تدري*

هذا مثل يضرب للذي يثير بجهله ما يؤديه إلى هلاكه، أو الإضرار به، وأصله أن ناسا أخذوا شاة ليست لهم، فأرادوا أكلها فلم يجدوا ما يذبحونها به؛ فهموا بتخليتها فاضطربت عليهم، ولم تزل تثير الأرض وتبعثرها بقوائمها؛ فظهر لهم فيما احتفرته مدية فذبحوها بها، وصارت هذه القصة مثلا سائرا. وقول المرواني: (وأنت من الريش الذنابى) يقال: ذنب الفرس وغيره، وذنابى الطائر، وذنابى الوادي وذنابته، ومذنب النهر).

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679