أمالي المرتضى الجزء ١

أمالي المرتضى0%

أمالي المرتضى مؤلف:
تصنيف: مكتبة اللغة والأدب
الصفحات: 679

أمالي المرتضى

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشريف أبى القاسم على بن الطاهر أبى أحمد الحسين
تصنيف: الصفحات: 679
المشاهدات: 308018
تحميل: 10900


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 679 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 308018 / تحميل: 10900
الحجم الحجم الحجم
أمالي المرتضى

أمالي المرتضى الجزء 1

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ونحن حفزنا الحوفزان بطعنة

فأفلت منها وجهه عتد نهد(١)

أراد أفلته ونجّاه ومنه قولهم: إنما أفعل ذلك لوجهك، ويدل أيضا على أن الوجه يعبّر به عن الذات قوله تعالى:( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ. إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ. وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ. تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ ) ؛ [القيامة: ٢٢ - ٢٥]، وقوله تعالى:( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ لِسَعْيِها راضِيَةٌ ) ؛ [الغاشية: ٨، ٩]، لأن جميع ما أضيف إلى الوجوه في ظاهر الآي؛ من النظر، والظن، والرّضا لا يصحّ إضافته في الحقيقة إليها وإنما يضاف إلى الجملة، فمعنى قوله تعالى:( كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ ) ؛ أي كل شيء هالك إلا هو؛ وكذلك قوله تعالى:

( كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالآكْرامِ ) ؛ لما كان المراد بالوجه نفسه لم يقل (ذي الجلال) كما قال:( تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالآكْرامِ ) ؛ [الرحمن: ٧٨]: لما كان اسمه غيره.

ويمكن في قوله تعالى:( كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ ) وجه آخر؛ وقد روي عن بعض المتقدمين، وهو أن يكون المراد بالوجه ما يقصد به إلى الله تعالى ويوجّه؛ نحو القربة إليه جلت عظمته؛ فيقول: لا تشرك بالله، ولا تدع إلها غيره؛ فإن كل فعل يتقرب به إلى غيره، ويقصد به سواه فهو هالك باطل؛ وكيف يسوغ للمشبّهة أن يحملوا هذه الآية والتي قبلها على الظاهر! أو ليس ذلك يوجب أنه تعالى يفنى ويبقى وجهه: وهذا كفر وجهل من قائله.

فأما قوله تعالى:( إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله ) ، [الإنسان: ٩]، وقوله:( إِلاّ

____________________

(١) حفزنا: طعنا. ويقال فرس عتد، بفتح التاء وكسرها: إذا كان شديدا تام الخلق سريع الوثبة؛ ليس فيه اضطراب ولا رخاوة والنهد من نعت الخيل: الجسيم المشرف. والحوفزان هو الحارث بن شريك طعنه قيس بن عاصم يوم جدود؛ والمشهور في ذلك قول سوار بن حيان المنقري:

ونحن حفزنا الحوفزان بطعنة

سقته نجيعا من دم الجوف أشكلا

وحمران قسرا أنزلته رماحنا

فعالج غلاّ في ذراعيه مقفلا

وانظر شرح المفضليات ٤٧٠.

٦٢١

ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعْلى ) ؛ [الليل: ٢٠]، وقوله:( وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ الله ) ، [الروم: ٣٩]؛ فمعلوم أن هذه الأفعال مفعولة له؛ ومقصود بها ثوابه، والقربة إليه، والزلفة عنده.

فأما قوله تعالى:( فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله ) ؛ [البقرة: ١١٥]، فيحتمل أن يراد به: فثمّ الله، لا على معنى الحلول، ولكن على معنى التدبير والعلم، ويحتمل أن يراد به: فثمّ رضا الله وثوابه والقربة إليه.

ويحتمل أن يراد بالوجه الجهة، وتكون الإضافة بمعنى الملك والخلق والإنشاء والإحداث؛ لأنه عزّ وجل قال:( وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله ) ؛ أي أن الجهات كلّها للّه تعالى وتحت ملكه؛ وهذا واضح بيّن بحمد الله.

***

[قصة سفرة للمكتفي بالله في حرّاقة؛ مع جماعة من الأدباء:]

أخبرني أبو الحسن عليّ بن محمد الكاتب قال حدّثني محمد بن يحيى الصولي قال: انحدرنا مع المكتفي بالله في آخر سفرة سافرها للصيد من الموضع المعروف بحنّة إلى تكريت في حرّاقة(١) فكانت تجنح كثيرا، فيشتد فزع من معه من الجلساء لذلك؛ وكنت أشدّهم فزعا، وكان في الحرّاقة سواي من الجلساء يحيى بن عليّ المنجم، ومتوّج بن محمود بن مروان، والقاسم المعروف بابن حبابة، وكان يضحك لفزعنا ويقول: لقد قسم الله لكم حظّا من الشجاعة جزيلا، فقلت له: إن البحتري يقول شعرا يصف فيه مثل حالنا، ويمدح به أحمد بن دينار بن عبد الله - وقد غزا الروم في مراكب - أوله:

ألم تر تغليس الرّبيع المبكّر

وما حاك من وشي الرّياض المنشّر(٢)

____________________

(١) الحراقة: اسم لسفينة؛ وأصل الحراقات: سفن كانت بالبصرة، فيها مرامي نيران يرمى بها العدو.

(٢) ديوانه ٢: ٢٢ - ٢٤.

٦٢٢

فقال له: أنشدني الموضع الّذي ذكر هذا فيه منها - وكان جيّد العلم بالأشعار، حافظا للأخبار - فأنشده:

غدوت على الميمون صبحا، وإنما

غدا المركب الميمون تحت المظفّر(١)

إذا زمجر النّوتي فوق علاته

رأيت خطيبا في ذؤابة منبر(٢)

يغضّون دون الاشتيام عيونهم

وفوق السّماط للعظيم المؤمّر(٣)

إذا ما علت فيه الجنوب اعتلى له

جناحا عقاب في السماء مهجّر(٤)

إذا ما انكفا في هبوة النّار خلته

تلفّع في أثناء برد محبّر(٥)

وحولك ركّابون للهول عاقروا

كئوس الرّدى؛ من دار عين وحسّر(٦)

تميل المنايا حيث مالت أكفّهم

إذا أصلتوا حدّ الحديد المذكّر

إذا أرشقوا بالنّار لم يك رشقهم

ليقلع إلاّ عن شواء مفتّر(٧)

____________________

(١) قبله:

ولما تولى البحر والجود صنوه

غدا البحر من أغلاقه بين أبحر

أضاف إلى التّدبير فضل شجاعة

ولا عزم إلا للشجاع المدبّر

إذا شجروه بالرماح تكسّرت

عواملها في صدر ليث غضنفر

والميمون، يريد به السفنة؛ وفي حاشية الأصل: (هو اسم خراقة).

(٢) حاشية الأصل: (العلاة: الموضع الّذي يركب فيه الملاح من السفينة).

(٣) حاشية الأصل: (يقال وقفوا دونه سماطا؛ أي اصطفوا؛ وفي شعره: (وقوف السماط)؛ قال س: (وهو الصواب؛ وكذا قرأت على مشايخي. والاشتيام: رئيس المركب؛ كلمة نبطية).

(٤) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (إذا عصفت فيه)؛ وهي رواية الديوان ومهجر؛ أي يحلق في الهاجرة.

(٥) في حاشيتي الأصل، ف: (انكفا الميمون؛ أي تمايل؛ وأراد بهوة النار ما كانوا يرمون به من النار إلى العدو من الحراقة التي اسمها ميمون، وشبه مواد الحراقة وحمرة النار وبياض الماء بلون البرد. وانكفا، أصله الهمز فخفف؛ يقال: انكفأت المرأة وتكفأت؛ إذا تمايلت في سيرها) وفي م: والديوان: (هبوة الماء) تصحيف.

(٦) المعاقرة: الملازمة.

(٧) الرشق: الرمي من جهة واحدة. والشواء المفتر: الّذي يصعد منه الفتار؛ والفتار عند العرب:

ريح الشواء إذا ضهب على الجمر.

٦٢٣

صدمت بهم صهب العثانين دونهم

ضراب كإيقاد اللّظى المتسعّر

يسوقون أسطولا كأنّ سفينه

سحائب صيف؛ من جهام وممطر(١)

كأنّ ضجيج البحر بين رماحهم

إذا اختلفت ترجيع عود مجرجر(٢)

تقارب من زحفيهم فكأنّما

تؤلّف من أعناق وحش منفّر

فما رمت حتى أجلت الحرب عن طلى

مقصّصة فيهم، وهام مطيّر(٣)

على حين لا نقع تطوّحه الصّبا

ولا أرض تلقى للصّريع المقطّر(٤)

وكنت ابن كسرى قبل ذاك وبعده

مليّا بأن توهي صفاة ابن قيصر

جدحت له الموت الذّعاف فعافه

وطار على ألواح شطب مسمّر(٥)

مضى وهو مولى الرّيح يشكر فضلها

عليه، ومن يولى الصّنيعة يشكر

قال: فاستجاد المكتفي قوله:

* على حين لا نقع تطوّحه الصّبا*

[أبيات لابن الرومي وموازنتها بشعر غيره من الشعراء:]

فقال له يحيى بن علي: أنشدني ابن الرومي شعرا له في هذا المعنى:

ولم أتعلّم قطّ من ذي سباحة

سوى الغوص، والمضعوف غير مغالب(٦)

ولم لا؟ ولو ألقيت فيها وصخرة

لوافيت منها القعر أوّل راسب

وأيسر إشفاقي من الماء أنّني

أمرّ به في الكوز مرّ المجانب

وأخشى الرّدى منه على كلّ شارب

فكيف بأمنيه على كلّ راكب!

____________________

(١) الأسطول: جماعات السفن. وفي حاشيتي الأصل، ف: (قال ش: ذكر لي أستاذي عند قراءة شعر البحتري عليه بأصبهان أن الأسطول لغة مصرية؛ وهي عندهم عبارة عن جماعة العسكر الذين يتوجهون إلى البحر بحوائجهم؛ فهم بمجموع مراكبهم وحراقاتهم وشباراتهم وتجارهم أسطول؛ ويشتكي أهل مصر فيقولون: ما جاءنا العام أسطول). وفي حاشية الأصل أيضا: (الشبارات: نوع من المراكب البحرية).

(٢) العود: المسن من الإبل.

(٣) الطلى: جمع طلية؛ وهي صفحة العنق؛ ومقصصة:

مقطعة. ورواية الديوان: (طلى مقطعة).

(٤) يقال: طعنه فقطره؛ أي ألقاه على قطره، أي جانبه، فنقطر.

(٥) جدحت: خلطت؛ والشطب في الأصل: الفرس الطويل؛ وجعل المركب شطبا على التشبيه لما ركبه ونجا.

(٦) ديوانه الورقة ٢٣؛ مع اختلاف في ترتيب الأبيات.

٦٢٤

فقلت له: إنما أخذ ابن الرومي بيته الثالث من قول أبي نواس؛ فقال المكتفي بالله:

فما قال؟ قلت: حدثني عليّ بن سراج المصري قال حدثني أبو وائل اللخمي قال حدثني إبراهيم بن الخصيب قال: وقف أبو نواس بمصر على النيل؛ فرأى رجلا قد أخذه التمساح فقال:

أضمرت للنّيل هجرانا ومقلية

مذ قيل لي: إنّما التمساح في النّيل

فمن رأى النّيل رأي العين من كثب

فما أرى النّيل إلاّ في البواقيل

قال الصولي: والبواقيل سفن صغار.

ثم أجرى المكتفي بعد ذلك ذكر الشيب، فقال: العرب تقول أظلم من شيب، وقد شبت، وظلمني المشيب؛ وشبت ياصولي، فقلت: جواب عبدك في هذا جواب معن بن زائدة الشيباني لجدّك المنصور وقد قال له: كبرت يامعن، فقال: في طاعتك ياأمير المؤمنين، قال: وإنّك لتتجلّد، قال: على أعدائك، قال: وفيك بحمد الله بقيّة، قال: لخدمتك.

فنزع المكتفي عمامته، فإذا شيبتان في مقدّم رأسه، فقال: لقد غمّني طلوع هاتين الشيبتين، فقلت له: إنما يعيش الناس في الشيب؛ فأما السواد فلا يصحب الناس خالصا أكثر من أربعين سنة إلى الخمسين، وقد يعاش في البياض الّذي لا سواد فيه ثمانون سنة. وأنشده يحيى بن عليّ في معنى طول العمر مع المشيب قول امرئ القيس:

ألا إنّ بعد العدم للمرء قنوة

وبعد المشيب طول عمر وملبسا(١)

وأنشدته أنا أيضا أبياتا أنشدها إسحاق بن إبراهيم الموصلي لبعض القيسيين:

لم ينتقص مني المشيب قلامة

الآن حين بدا ألبّ وأكيس

والشّيب إن يظهر فإنّ وراءه

عمرا يكون خلاله متنفّس

قال سيدنا أدام الله تمكينه: أما قول البحتري: (مضى وهو مولي الريح) فقد كرر معناه في قوله من قصيدة يمدح بها أبا سعيد الثّغري:

____________________

(١) ديوانه: ١٤٢؛ والقنوة: المال.

٦٢٥

أشلى على منويل أطراف القنا

فنجا عتيق عتيقة جرداء(١)

ولو أنّه أبطأ لهنّ هنيهة

لصدرن عنه، وهنّ غير ظماء

فلئن تبقّاه القضاء لوقته

فلقد عممت جنوده بفناء

وأظنه أخذ هذا المعنى من قول أبي تمام في قصيدة يمدح بها المعتصم، ويذكر فتح الخرميّة(٢) .

لولا الظّلام وقلّة علقوا بها

باتت رقابهم بغير قلال(٣)

فليشكروا جنح الظّلام ودروزا

فهم لدروز والظلام موالي(٤)

وقد أخطأ الصولي في تفسير بيت أبي نواس بأن البواقيل سفن صغار؛ لأن البواقيل جمع بوقال؛ وهو آلة على هيئة الكوز معروفة؛ تعمل من الزجاج وغيره؛ وهذا مثل قول ابن الرومي:

* أمرّ به في الكوز مرّ المجانب*

وإنما أراد أنني لا أمرّ بماء النيل إلا إذا أردت شربه في كوز أو بوقال.

وأظن الصولي استمر عليه الوهم من جهة قوله: (فما أرى النيل) وصرف ذلك إلى أنه أراد النيل على الحقيقة؛ وإنما أراد ماء النيل؛ وما علمت أن السفن الصغار يقال لها بواقيل إلا من قول الصولي، هذا ولو كان ما ذكره صحيحا من أنّ ذلك اسم لصغار السفن لكان بيت أبي نواس بما ذكرناه أشبه وأليق وأدخل في معنى الشعر؛ وكيف تدخل الشّبهة في ذلك مع قوله:

____________________

(١) ديوانه ١: ٥؛ أشلى: أغرى. ومنويل: اسم قلعة والعتيقة هنا: الفرس.

(٢) الخرمية: فرق تنسب إلى بابك الخرمي؛ خرج من كورة بفارس تدعى البذ، وأثار فتنة على الخليفة سنة ٢١٠؛ وامتدت زمن المأمون والمعتصم؛ إلى أن قتل بعد حوادث دامية في أزمان متطاولة؛ على يد الأفشين قائد المعتصم سنة ٢٢٣.

(٣) ديوانه: ٢٦٢.

(٤) دروز: موضع في ثغر أذربيجان؛ كذا ذكره ياقوت وأورد بيتي أبي تمام.

٦٢٦

* فمن رأى النيل رأي العين من كثب*

ومن رأى النيل في السفن فقد رآه من كثب، ومن رأى ماءه في الآنية على بعد لا يكون رائيا له من كثب.

***

[طائفة من أقوال الشعراء في مدح الشيب وتفضيله:]

فأما مدح الشيب وتفضيله على الشباب فقد قال فيه الناس فأكثروا؛ فمما تقدم من ذلك قول رؤبة بن العجّاج؛ ويقال إن رؤبة لم يقل من القصيدة إلا هذين البيتين:

أيّها الشّامت المعيّر بالشّيـ

ـب أقلّنّ بالشّباب افتخارا

قد لبست الشّباب غضّا جديدا

فوجدت الشّباب ثوبا معارا

ولعلي بن جبلة:

جفا طرب الفتيان وهو طروب

وأعقبه قرب الشّباب مشيب

تجافت عيون البيض عنه، وربّما

مددن إليه الوصل وهو حبيب

لعمري لنعم الصّاحب الشّيب واعظا

وإن كان منه للعيون نكوب

خليط نهى، منتاب حلم؛ وإنّه

على ذاك مكروه الخلاط مريب

ولآخر:

وتنكّرت شيبي فقلت لها:

ليس المشيب بناقص عمري

سيّان شيبي والشّباب إذا

ما كنت من عمري على قدر

ولآخر:

إن أكن قد رزئت أسود كالفحـ

ـم وأعقبت مثل لون الثّغامه(١)

فلقد أسعف الكريم وأحبو

أهله بالنّدى وآبى الظّلامه

____________________

(١) الثغامة: نبت أبيض يشبه به الشيب.

٦٢٧

غير أنّ الشّباب كان رداء

خاننا فيؤه كفيء الغمامة

ولآخر:

إنّ المشيب رداء الحلم والأدب

كما الشّباب رداء اللهو واللّعب

تعجّبت إذ رأت شيبي فقلت لها:

لا تعجبي، من يطل عمر به يشب(١)

ولابن الجهم:

حسرت عنّي القناع ظلوم

وتولّت ودمعها مسجوم(٢)

أنكرت ما رأت برأسي فقالت:

أمشيب أم لؤلؤ منظوم!

قلت: شيب وليس عيبا، فأنّت

أنّة يستثيرها المهموم

شدّ ما أنكرت تصرّم عهد

لم يدم لي، وأي شيء يدوم!

ولأبي هفّان:

تعجّبت درّ من شيبي فقلت لها:

لا تعجبي فطلوع الشّيب في السّدف(٣)

وزادها عجبا لما رأت سملي

وما درت درّ أنّ الدّر في الصّدف(٤)

وقد أحسن أبو تمام غاية الإحسان في قوله:

أبدت أسى أن رأتني(٥) مخلس القصب(٦)

وآل ما كان من عجب إلى عجب(٧)

____________________

(١) د، ف، حاشية الأصل من نسخة: (تعجبت أن رأت شيبي).

(٢) ديوانه: ١٧٦ - ١٧٧؛ وظلوم: اسم امرأة.

(٣) حماسة ابن الشجري: ٢٤٥؛ والسدف: الظلمات.

(٤) السمل، محركة: الثوب الخلق البالي، ومن نسخة بحاشية الأصل: (أن رحت في سمل)؛ وهي رواية الحماسة.

(٥) ديوانه: ١٥، والشهاب ١٠، وفي حاشية الأصل (من نسخة): (إذ رأتني)، وهي رواية الشهاب والديوان.

(٦) يقال: أخلس النبت؛ إذا جف أعلاه وابيض، وفي حاشية الأصل: (القصب: الذوائب المقصبة؛ الواحدة قصبة وتجمع قصائب، يقال: قصب، فيسكن). وبخط الشجري: (القصب)، بضم ففتح.

(٧) حاشية الأصل: (أي كانت تعجب بي فصارت تعجب من شيبي). وفي الشهاب: (أما قوله: (من عجب إلى عجب) فمن البلاغة الحسنة والاختصار السديد البارع).

٦٢٨

ستّ وعشرون تدعوني فأتبعها

إلى المشيب ولم تظلم ولم تحب(١)

فلا يؤرّقك إيماض القتير به

فإنّ ذاك ابتسام الرّأي والأدب(٢)

وللبحتري:

عيّرتني بالشيب وهي رمته

في عذاري بالصّدّ والاجتناب(٣)

لا تريه عارا فما هو بالشّيـ

ـب ولكنّه جلاء الشّباب(٤)

وبياض البازي أصدق حسنا

إن تأمّلت من سواد الغراب

وله:

ها هو الشّيب لائما فأفيقي

واتركيه إن كان غير مفيق(٥)

فلقد كفّ من عناء المعنّى(٦)

وتلافى من اشتياق المشوق

____________________

(١) لم تحب: لم تأثم؛ والحوب: الإثم، وبعده في الديوان:

يومي من الدهر مثل الدّهر مشتهر

عزما وحزما وساعي منه كالحقب

فأصغري أنّ شيبا لاح بي حدثا

وأكبري أنني في المهد لم أشب

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): (فلا يغرنك). والقتير: الشيب، أو أوله. وفي الشهاب للمرتضى: (وقوله:

* فإن ذاك ابتسام الرأي والأدب*

يريد أن الرأي والأدب والحلم إنما يجتمع ويتكامل في أوان الكبر والشيب دون زمان الشباب، وقد تصف الشعراء أبدا الشيب بأنه تبسم في الشعر لبياضه؛ إلا أن هذه من أبي تمام تسلية عن الشيب وتنبيه على منفعته).

(٣) ديوانه ١: ٧، والشهاب: ٢٥. وفي حاشية الأصل:

* عيّرتني المشيب وهي بدتة*

وهي رواية الديوان؛ وبدتة، مخفف من بدأته بالهمز. وفي حاشية الأصل أيضا (من نسخة): (جنته).

(٤) لا تريه: لا تظنه. وفي حاشية الأصل: (جعل سواد الشباب وسخا وصدأ على الشخص والشيب جلاء له).

(٥) ديوانه ٢: ١٢٥، والشهاب: ٢٥، وحماسة ابن الشجري: ٢٤٣ - ٢٤٤، وفي حاشيتي الأصل، ف: (يقول: أيتها العاذلة، أفبقي من عذله وملامته، فقد أقبل الشيب يلومه وبعذله، ولا حاجة إلى عذلك وإن لم يفق فاتركيه).

(٦) د، والحماسة والشهاب. (عن عناء المعنى).

٦٢٩

عذلتنا في عشقها أمّ عمرو

هل سمعتم بالعاذل المعشوق(١)

ورأت لمة ألمّ بها الشّـ

ـيب فريعت من ظلمة في شروق

ولعمري لولا الأقاحي لأبصر

ت أنيق الرّياض غير أنيق

وسواد العيون لو لم يكمّل

ببياض ما كان بالموموق(٢)

ومزاج الصّهباء بالماء أملى(٣)

بصبوح مستحسن وغبوق

أي ليل يبهى بغير نجوم

أو سماء تندى بغير بروق!

ويشبه أن يكون أخذ قوله:

* أي ليل يبهى بغير نجوم*

من قول الشاعر:

أشيب ولم أقض الشّباب حقوقه

ولم يمض من عهد الشّباب قديم(٤)

رأت وضحا في مفرق الرّأس راعها

وشتّان مبيضّ به وبهيم

تفاريق شيب في الشّباب لوامع

وما حسن ليل ليس فيه نجوم!

ولمحمود الوراق في مثل هذا المعنى وهو قوله:

ما الدّرّ منظوما بأحسن من

شيب يجلّل هامة الكهل

وكأنّه فيها النّجوم إذا

جدّ المسير بها على مهل

لا تبكينّ على الشّباب إذا

يبكي الجهول عليه للجهل

واشكر لشيبك حسن صحبته

فلقد كساك جلالة الفضل

____________________

(١) حاشية الأصل: (إنما عذلته لأنه شاخ والعشق مع الشيخوخة لا يستحسن).

(٢) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (بالمرموق)؛

(٣) في حاشيتي الأصل: (أملى، مخفف من أملأ؛ أى أوثق؛ يقال: ملؤ فلان بذلك؛ إذا كان ثقة به، وفلان أملأ بكذا من فلان).

(٤) البيت الأول والثالث في حماسة ابن الشجري: ٢٤٤، من غير نسبة.

٦٣٠

ولآخر في مدح الشيب:

لا يرعك المشيب ياابنة عبد ال

لمه فالشّيب حلية ووقار(١)

إنما تحسن الرّياض إذا ما

ضحكت في خلالها الأنوار

ولي في هذا المعنى من قصيدة:

جزعت لو خطات المشيب وإنما

بلغ الشّباب مدى الكمال فنوّرا

والشّيب إن فكّرت فيه مورد

لا بدّ يورده الفتى إن عمّرا

يبيضّ بعد سواده الشّعر الّذي

إن لم يزره الشّيب واراه الثّرى

وممن عدل بين الشيب والشباب، ومدح كل واحد منهما طريح بن إسماعيل الثقفي فقال:

والشّيب للحكماء من سفه الصّبا

بدل يكون الّذي الفضيلة مقنع

والشّيب غاية من تأخّر حينه

لا يستطيع دفاعه من يجزع

إنّ الشّباب له لذاذة جدّة

والشّيب منه في المغبّة أنفع

لا يبعد الله الشّباب فمرحبا

بالشيب حين أوى إليه المرجع

ومثله لآخر:

وكان الشباب الغضّ لي فيه لذّة

فوقّرني عنه المشيب وأدّبا

فسقيا ورعيا للشباب الّذي مضى

وأهلا وسهلا بالمشيب ومرحبا

____________________

(١) حماسة ابن الشجري: ونسبهما إلى علي بن الجهم.

٦٣١

[٤٦]

مجلس آخر [المجلس السادس والأربعون:]

تأويل آية:( وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ) ؛ [البقرة: ١٨٦]

فقال: كيف ضمن الإجابة وتكفّل بها، وقد نرى من يدعو فلا يجاب؟.

الجواب، قلنا في ذلك وجوه.

أوّلها أن يكون المراد بقوله تعالى:( أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ ) أي أسمع دعوته؛ ولهذا يقال للرجل: دعوت من لا يجيب أي دعوت من لا يسمع. وقد يكون أيضا يسمع بمعنى يجيب؛ كما كان يجيب بمعنى يسمع؛ يقال: سمع الله لمن حمده؛ يراد به: أجاب الله من حمده وأنشد ابن الأعرابي:

دعوت الله حتى خفت ألاّ

يكون الله يسمع ما أقول

أراد يجيب ما أقول.

وثانيها أنّه تعالى لم يرد بقوله: قَرِيبٌ من قرب المسافة؛ بل أراد أنني قريب بإجابتي ومعونتي ونعمتي، أو بعلمي بما يأتي العبد ويذر، وما يسرّ ويجهر، تشبيها بقرب المسافة؛ لأن من قرب من غيره عرف أحواله ولم تخف عليه؛ ويكون قوله: أُجِيبُ على هذا تأكيدا للقرب؛ فكأنه أراد: إنني قريب قربا شديدا، وإنني بحيث لا يخفى عليّ أحوال العباد؛ كما يقول القائل إذا وصف نفسه بالقرب من صاحبه والعلم بحاله: أنا بحيث أسمع كلامك، وأجيب نداءك، وما جرى هذا المجرى. وقد روي أن قوما سألوا الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا له: أربّنا قريب فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.

٦٣٢

وثالثها أن يكون معنى هذه الآية أنني أجيب دعوة الداعي إذا دعاني على الوجه الصحيح، وبالشرط الّذي يجب أن يقارن الدعاء؛ وهو أن يدعو باشتراط المصلحة؛ ولا يطلب وقوع ما يدعو به على كل حال؛ ومن دعا بهذا الشرط فهو مجاب على كل حال؛ لأنه إن كان صلاحا فعل ما دعا به؛ وإن لم يكن صلاحا لم يفعل لفقد شرط دعائه، فهو أيضا مجاب إلى دعائه.

ورابعها أن يكون معنى دَعانِ أي عبدني، وتكون الإجابة هي الثواب والجزاء على ذلك؛ فكأنه قال: إنني أثيب العباد على دعائهم لي؛ وهذا مما لا اختصاص فيه.

وخامسها ما قاله قوم من أنّ معنى الآية أنّ العبد إذا سأل الله تعالى شيئا في إعطائه صلاح فعله به وأجابه إليه، وإن لم يكن في إعطائه إياه في الدنيا صلاح وخيرة لم يعطه ذلك في الدنيا، وأعطاه إياه في الآخرة، فهو مجيب لدعائه على كل حال.

وسادسها أنّه إذا دعاه العبد لم يخل من أحد أمرين: إمّا أن يجاب دعاؤه، وإمّا أن يخار له بصرفه عما سأل ودعا، فحسن اختيار الله له يقوم مقام الإجابة، فكأنه يجاب على كل حال.

وهذا الجواب يضعّف لأنّ العبد ربما سأل ما فيه صلاح ومنفعة له في الدنيا، وإن كان فيه فساد في الدين لغيره فلا يعطى ذلك، لأمر يرجع إليه، لكن لما فيه(١) من فساد غيره، فكيف يكون مجابا مع المنع الّذي(١) لا يرجع إليه منه شيء من الصلاح! اللهم إلاّ أن يقال: إنه دعا؛ مشروط بأن يكون صلاحا، ولا يكون فسادا، وهذا مما تقدم.

ومعنى قوله تعالى فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي، أي فليجيبوني وليصدّقوا رسلي، قال الشاعر:

وداع دعا يامن يجيب إلى النّدى

فلم يستجبه عند ذاك مجيب(٢)

____________________

(١ - ١) ساقط من الأصل، وتكملته من د، ف.

(٢) مطلع قصيدة كعب بن سعد الغنوي؛ وهي في أمالي القالي ٢: ١٤٨ - ١٥١.

٦٣٣

أي لم يجبه.

***

[طائفة من أقوال الشعراء في ذم الشيب والتألم به:]

قال سيدنا أدام الله علوّه: وإذ كنا قد ذكرنا في المجالس المتقدمة لهذا المجلس طرفا من الشعر في تفضيل الشيب وتقديمه، والتعزّي عنه، والتسلّي عن نزوله؛ فنحن متبعوه بطرف مما قيل في ذمّه والتألم به والجزع منه.

فمن ذلك قول أبي حيّة النميري:

ترحّل بالشّباب الشّيب عنّا

فليت الشّيب كان به الرّحيل(١)

وقد كان الشباب لنا خليلا

فقد قضى مآربه الخليل

لعمر أبي الشباب لقد تولّى

حميدا ما يراد به بديل(٢)

إذ الأيام مقبلة علينا

وظلّ أراكة الدّنيا ظليل

وقال الفرزدق:

أرى الدّهر، أيام المشيب أمره

علينا، وأيام الشباب أطايبه(٣)

وفي الشيب لذّات وقرّة أعين

ومن قبله عيش تعلّل جاد به(٤)

إذا نازل الشّيب الشباب فأصلتا

بسيفيهما، فالشّيب لا بدّ غالبه

فيا خير مهزوم، ويا شرّ هازم

إذا الشّيب وافت للشّباب كتائبه

وليس شباب بعد شيب براجع

مدى الدّهر حتى يرجع الدّرّ حالبه

وما المرء منفوعا بتجريب واعظ

إذا لم تعظه نفسه وتجاربه

وأنشد إسحاق الموصلي:

____________________

(١) حماسة ابن الشجري: ٢٣٩، مع اختلاف في ترتيب الأبيات.

(٢) الحماسة: (لا يراد به بديل).

(٣) ديوانه: ١: ٥٢.

(٤) في حاشيتي الأصل، ف. جاد به: عائبه، أي لم يجد عيبا فتعلل وجها يتمحل به باطلا ومنه قول ذي الرمة:

فيا لك من خد أسيل، ومنطق

رخيم، ومن خلق تعلل جاد به

٦٣٤

لعمري لئن حلّئت عن منهل الصّبا

لقد كنت ورّادا لمشربه العذب(١)

ليالي أمشي بين بردي لاهيا

أميس كغصن البانة النّاعم الرّطب

سلام على سير القلاص مع الرّكب

ووصل الغواني والمدامة والشّرب

سلام امرئ لم تبق منه بقيّة

سوى منظر العينين أو شهوة القلب(٢)

ولمنصور النّمري:

ما تنقضي حسرة مني ولا جزع

إذا ذكرت شبابا ليس يرتجع(٣)

بان الشباب ففاتتني بشرّته

صروف دهر وأيام لها خدع

ما كنت أو في شبابي كنه عزّته

حتّى مضى فإذا الدّنيا له تبع(٤)

ولمحمد بن أبي حازم:

عهد الشباب، لقد أبقيت لي حزنا

ما جدّ ذكرك إلاّ جدّ لي ثكل(٥)

سقيا ورعيا لأيّام الشّباب وإن

لم يبق منك له رسم ولا طلل

جرّ الزّمان ذيولا في مفارقه

وللزّمان على إحسانه علل(٦)

وربّما جرّ أذيال الصّبا مرحا

وبين برديه غصن ناعم خضل

لا تكذبنّ فما الدّنيا بأجمعها

من الشباب بيوم واحد بدل

كفاك بالشّيب عيبا عند غانية

وبالشّباب شفيعا أيها الرّجل

____________________

(١) حلئت: طردت ومنعت.

(٢)؛ ومن نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (نظر العينين).

(٣) حماسة ابن الشجري: ٢٣٩.

(٤) حاشية الأصل (من نسخة):

ما كدت أوفي شبابي كنه شرّته

حتى مضى فإذا الدّنيا لها تبع

(٥) من أبيات في الأغاني ١٢: ١٥٢ - ١٥٣ مجموعها ثلاثة عشرة بيتا؛ وأبيات منها في الورقة:

١١٠، وحماسة ابن الشجري: ٢٣٩.

(٦) في حاشيتي الأصل، ف: (أي للزمان علل على تركه الإحسان؛ ويجوز أن يكون المعنى: له مع إحسانه علل).

٦٣٥

ولأبي نواس:

كان الشباب مطيّة الجهل

ومحسّن الضّحكات والهزل(١)

كان الجميل إذا ارتديت به(٢)

ومشيت أخطر صيّت النّعل

كان البليغ إذا نطقت به

وأصاخت الآذان للمملي

كان المشفّع في مآربه

عند الحسان ومدرك التّبل

والباغي والناس قد هجعوا

حتّى أبيت خليفة البعل

والآمري حتّى إذا عزمت

نفسي أعان عليّ بالفعل

فالآن صرت إلى مقاربة

وحططت عن ظهر الصّبا رحلي

قال سيدنارضي‌الله‌عنه : وعلى هذا الكلام طلاوة ومسحة من أعرابية ليستا لغيره.

ولبشار:

الشّيب كره، وكره أن يفارقني

أعجب بشيء على البغضاء مودود(٣)

يمضي الشّباب ويأتي بعده خلف

والشّيب يذهب مفقودا بمفقود

وهذا البيت الأخير يروى لمسلم بن الوليد الأنصاري.

ومما أحسن فيه مسلم في هذا المعنى قوله:

طرفت عيون الغانيات وربما

أملن إلى الطّرف كلّ مميل(٤)

وما الشّيب إلا شعرة، غير أنّه(٥)

قليل قذاة العين غير قليل

____________________

(١) ديوانه: ٣١١.

(٢) ديوانه: (كان الجمال).

(٣) البيتان في حماسة ابن الشجري: ٢٤٥، ونسبهما إلى مسلم.

(٤) البيتان في حماسة ابن الشجري: ٢٤٢، ونسبهما لابن الرومي؛ وفي حاشيتي الأصل، ف: (يقال: فلان مطروف العين بفلان؛ أي يحبه. والمعنى أنه وقع في عينه، يقال: طرفت عينه بشوكة وبحاشية ثوب؛ وأصله من طرفته إذا أصبت طرفه، ورأسته إذا أصبت رأسه).

(٥) الحماسة:

* وما شبت إلاّ شيبة غير أنّه*

٦٣٦

وله:

أهلا بوافدة للشّيب واحدة

وإن تراءت بشخص غير مودود

لا أجمع الحلم والصّهباء قد سكنت

نفسي إلى الماء عن ماء العناقيد

لم ينهني كبر عنها ولا فند

لكن صحوت وغصني غير مخضود

أوفى بي الحلم وافتاد النّهى طلقا

شأوي وعفت الصّبا من غير تفنيد(١)

وقد أحسن دعبل في قوله يصف الشباب والشيب:

كان كحلا لمآقيها فقد

صار بالشّيب لعينيها قذى

ولغيره:

رأت طالعا للشيب أغفلت أمره

فلم تتعاهده أكفّ الخواضب(٢)

فقالت: أشيب ما أرى؟ قلت: شامة

فقالت: لقد شانتك بين الحبائب(٣)

ولمحمود الورّاق - ويروى لمحمد بن حازم(٤) :

أليس عجيبا بأنّ الفتى

يصاب ببعض الّذي في يديه

فمن بين باك له موجع

وبين معزّ مغذّ إليه

ويسلبه الشيب شرخ الشباب

فليس يعزّيه خلق عليه(٥)

ولأبي دلف:

في كلّ يوم أرى بيضاء طالعة

كأنّما طلعت في أسود البصر

لئن قصصتك بالمقراض عن بصري

لما قصصتك عن همّي وعن فكري

____________________

(١) حاشية الأصل: (يقال عدا طلقا وشأوا إذا عدا عدوا شديدا إلى غاية).

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): (تتعهده).

(٣) حاشية الأصل (من نسخة) (شامتك).

(٤) في الأصل: (محمد بن أبي حازم)، وصوابه من ف.

(٥) حاشية الأصل: (يقول: عجبت من الناس يعزي بعضهم بعضا على فوت المال، ولا يعزون على فوت الشباب).

٦٣٧

وليحيى بن خالد بن برمك(١) - ويروى لغيره:

اللّيل شيّب والنهار كلاهما

رأسي بكثرة ما تدور رحاهما

يتناهبان نفوسنا ودماءنا

ولحومنا عمدا ونحن نراهما

والشّيب إحدى الميتتين تقدّمت

أولاهما وتأخّرت أخراهما

وقد أتى الفحلان المبرّزان أبو تمام وأبو عبادة في هذا المعنى بكل غريب عجيب.

فمن ذلك قول أبي تمام:

غدا الهمّ مختطا بفودي خطّة

طريق الرّدى منها إلى الموت مهيع(٢)

هو الزّور يجفى، والمعاشر يجتوى

وذو الإلف يقلى، والجديد يرقّع

له منظر في العين أبيض ناصع

ولكنّه في القلب أسود أسفع

ونحن نرجّيه على الكره والرّضا

وأنف الفتى من وجهه وهو أجدع(٣)

وله:

شعلة في المفارق استودعتني

في صميم الفؤاد ثكلا صميما(٤)

تستثير الهموم ما اكتنّ منها

صعدا وهي تستثير الهموما

غرّة(٥) مرّة ألا إنما كنـ

ـت أغرّا أيّام كنت بهيما

____________________

(١) حاشية الأصل (من نسخة): (البرمكي).

(٢) ديوانه: ١٩٠، والشهاب: ٦؛ وحماسة ابن الشجري: ٢٤١ - ٢٤٢. وفي م قبل هذا البيت:

لئن جزع الوحشي منها لرؤيتي

لإنسيّها من شيب رأسي أجزع

وفي حماسة ابن الشجري: (غدا الشيب)، وفي م: (غدا العمر). وفي حاشية الأصل (من نسخة): (إلى النفس مهيع)، وهي رواية الديوان؛ ومهيع: واسع.

(٣) حاشية الأصل (من نسخة): (يجدع).

(٤) ديوانه: ٢٩١، وحماسة ابن الشجري: ٢٤١، والشهاب: ٧.

(٥) حاشية الأصل (من نسخة): (عرة) أي عيب.

٦٣٨

دقّة في الحياة تدعى جلالا

مثل ما سمّي اللّديغ سليما(١)

حلّمتني - زعمتم - وأراني

قبل هذا التّحليم كنت حليما

وله:

لعب الشّيب بالمفارق بل جدّ

فأبكى تماضرا ولعوبا(٢)

خضبت خدّها إلى لؤلؤ العقـ

ـد دما أن رأت شواتي خضيبا

كلّ داء يرجى الدّواء له إ

لا الفظيعين: ميتة ومشيبا

يانسيب الثّغام ذنبك أبقى

حسناتي عند الحسان ذنوبا

ولئن عبن ما رأين لقد أن

كرن مستنكرا وعبن معيبا

أو تصدّعن عن قلى لكفى بال

شيب بيني وبينهنّ حسيبا

لو رأى الله أنّ في الشّيب فضلا

جاورته الأبرار في الخلد شيبا

قال سيدنا أدام الله علوّه: وجدت الآمدي يذكر أن قوما ادّعوا المناقضة على أبي تمام في هذه الأبيات بقوله:

لعب الشّيب بالمفارق بل جدّ

فأبكى تماضرا ولعوبا

وقوله:

خضبت خدّها إلى لؤلؤ العقـ

ـد دما أن رأت شواتي خضيبا

يانسيب الثّغام ذنبك أبقى

حسناتي عند الحسان ذنوبا

وقوله:

ولئن عبن ما رأين لقد أن

كرن مستنكرا وعبن معيبا

____________________

(١) حاشية الأصل: (مثل، بني لإضافته إلى (ما)، ويجوز أن يكون صفة لمحذوف، أي تدعي جلالا دعوة مثل تسمية اللديغ سليما).

(٢) ديوانه: ٢٥، ٢٦، والشهاب: ٩.

٦٣٩

قالوا: كيف يبكين دما على شيبه ثم يعبنه!

قال الآمدي: خ خ وليس هذا بتناقض؛ لأن الشيب إنما أبكى تماضر ولعوب أسفا على شبابه، والحسان اللواتي عبنه غير هاتين المرأتين، فيكون من أشفق عليه من الشيب منهن وأسف على شبابه بكى؛ كما قال الأخطل:

لما رأت بدل الشباب بكت له

إنّ المشيب لأرذل الأبدال(١)

ولم يكن هذه حال من عابه. قال: خ خ وهذا مستقيم صحيح.

قال سيدنا أدام الله علوّه: وليس يحتاج في الاعتذار لأبي تمام إلى ما تكلفه الآمدي؛ بل المناقضة زائلة عنه على كل حال، وإن كان من قد بكى شبابه، وتلهف عليه من النساء هنّ اللواتي أنكرن شيبه، وعبنه به، وما المنكر من ذلك! وكيف يتناقض أن يبكي على شبابه ونزول شيبه منهن من رأين الشيب ذنبا وعيبا منكرا! وفي هذا غاية المطابقة؛ لأنه لا يبكي الشيب، ويجزع من حلوله وفراق الشباب إلاّ من رآه منكرا ومعيبا.

وقال أبو تمام:

راحت غواني الحي عنك غوانيا

يلبسن نأيا تارة وصدودا(٢)

من كلّ سابغة الشباب إذا بدت

تركت عميد القريتين عميدا

أرببن بالمرد الغطارف بدّنا

غيدا ألفهم لدانا غيدا

أحلى الرّجال من النّساء مواقعا

من كان أشبههم بهنّ خدودا

وقوله: (أرببن بالمرد) من أربّ بالشيء إذا لزمه، وأقام عليه، يقال: أربّ وألبّ بالمكان إذا لزمه: يريد أنهن لزمن هوى المرد وأقمن عليهم. ورواه قوم (أربين بالمرد) من الرّبا الّذي معناه الزيادة، يقال: قد أربى الرجل إذا ازداد؛ فيقول: أربين بالمرد، أي زدن علينا بهم، وجعلن للمرد زيادة اخترنها علينا(٣) .

____________________

(١) ديوانه ١٥٨

(٢) ديوانه: ٨٧ - ٨٨.

(٣) انظر الشهاب: ١٠.

٦٤٠