أمالي المرتضى الجزء ١

أمالي المرتضى8%

أمالي المرتضى مؤلف:
تصنيف: مكتبة اللغة والأدب
الصفحات: 679

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 679 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 319964 / تحميل: 11514
الحجم الحجم الحجم
أمالي المرتضى

أمالي المرتضى الجزء ١

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

عن الكثير من المال والمثال هو الفراش، قال الشاعر(١) :

بكلّ طوال السّاعد بن كأنّما

يرى بسرى اللّيل المثال الممهّدا(٢)

- يعني الفراش. قال أبو عبيد: ولو كان معناه الترجيع لعظمت المحنة علينا بذلك؛ إذ كان من لم يرجّع بالقرآن فليس(٣) منهعليه‌السلام .

وذكر غير(٤) أبي عبيد جوابا آخر، وهو أنهعليه‌السلام أراد: من لم يحسّن صوته بالقرآن.

ولم يرجّع(٥) فيه. واحتجّ صاحب هذا الجواب بحديث عبد الرحمن بن السائب قال: أتيت سعدا - وقد كفّ بصره - فسلمت عليه، فقال: من أنت؟ فأخبرته. فقال: مرحبا ياابن(٦) أخي، بلغني أنك حسن الصوت بالقرآن، وقد سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: (إن هذا القرآن نزل بحزن، فإذا قرأتموه فابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا، فمن لم يتغنّ بالقرآن فليس منا). فقوله: (فابكوا أو تباكوا) دليل على أن التغنّي التحنين والترجيع. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: (لا يأذن الله لشيء من أهل الأرض إلا لأصوات المؤذّنين، والصوت الحسن بالقرآن). ومعنى قوله: (يأذن) يستمع له؛ يقال: أذنت للشيء آذن أذنا إذا استمعت له؛ قال الشاعر(٧) :

صمّ إذا سمعوا خيرا ذكرت به

وإن ذكرت بسوء(٨) عندهم أذنوا

____________________

(١) نسبه صاحب اللسان في (مثل) إلى الأعشى.

(٢) في حاشيتي الأصل، ف: (أي بدل سرى الليل؛ كقولك شربت بالخمر ماء، أي بدل الخمر).

(٣) في نسخة بحاشيتي ت، ف: (ليس).

(٤) د، وحاشية الأصل (من نسخة): (وذكر عن غير أبي عبيد جواب).

(٥) ت، د، ف: (ويرجع).

(٦) في نسخة بحواشي الأصل، ت، ف: (بابن).

(٧) هو قعنب بن ضمرة؛ أحد شعراء الدولة الأموية، من أبيات في (الحماسة - بشرح التبريزي ٤ - ١٢٤، والاقتضاب ٢٩٢، وشواهد المغني ٣٢٦)، وقبله:

إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحا

عنّي وما سمعوا من صالح دفنوا

 (٨) ف: (بشر).

٦١

وقال عدي بن زيد العبادي(١) :

أيّها القلب تعلّل بددن

إنّ همّي في سماع وأذن(٢)

والأذن هو السّماع، وإنما حسّن(٣) تكرير المعنى اختلاف اللفظ. وللعرب في هذا مذهب معروف، ومثله:

* وهند أتى من دونها النّأى والبعد*

فأما الدّدن فهو اللهو واللعب، وفيه لغات ثلاث: دد على مثال دم، وددا على مثال فتى، وددن على مثال حزن؛ ومنه قول النبيعليه‌السلام : (ما أنا من دد ولا الدّد منّي(٤) ).

فإن قيل: كيف يحمل قوله: (لا يأذن الله لشيء كإذنه لكذا وكذا) على معنى الإسماع، وهو تعالى سامع لكلّ شيء مسموع، فأي معنى للاختصاص؟ قلنا: ليس المراد هاهنا بالإسماع مجرد الإدراك، وإنما المراد به القبول، فكأنّهعليه‌السلام قال:

إنّ الله تعالى لا يتقبّل أو يثيب على شيء من أهل الأرض كتقبّله وثوابه على كذا وكذا، ومن هذا قولهم: هذا كلام لا أسمعه، وخاطبت فلانا بكلام فلم يسمعه(٥) ، وإنما يريد نفي القبول لا الإدراك، والبيت الّذي أنشدناه يشهد بذلك، لأنه قال:

* وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا*

ونحن نعلم أنّهم يستمعون الذّكر بالخير والشر معا من حيث الإدراك؛ فوجه الاختصاص ما ذكرناه.

____________________

(١) حاشية ت: (العباد قوم كانوا يخدمون النعمان فسماهم العباد وكان عدي هذا منهم)؛ وحاشية ف: (قوم اقتطعهم النعمان بخدمته؛ فكان يقال لهم عباد النعمان، فنسب عدي إليهم، (وكان نصرانيا).

(٢) حاشية الأصل: (البعد أقرب من النأي).

(٣) ش، ف: (وإنما حسن تكرير المعنى لاختلاف اللفظ).

(٤) في حاشيتي الأصل، ف: (قولهعليه‌السلام : (منيه) هذه الهاء للاستراحة، وهي تدل على تأكد امتناعه من اللهو). وفي ج، وحاشيتي ت، ف (من نسخة): (مني).

(٥) في حاشيتي ت، ف: (ومن هذا الباب قوله: دعوت الله حتى خفت ألا يكون الله يسمع ما أقول؛ أي يجيب).

٦٢

وقد ذكر أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري وجها ثالثا في الخبر، قال: أرادعليه‌السلام :(١) من لم يتلذّذ بالقرآن، ويستحله، ويستعذب(١) تلاوته كاستحلاء أصحاب الطّرب للغناء والتذاذهم به. وسمّى ذلك تغنّيا من حيث يفعل عنده ما يفعل عند التغنّي بالغناء، وذكر أنّ ذلك نظير قولهم: العمائم تيجان العرب، والحباء(٢) حيطان العرب، والشمس حمّامات العرب(٣) ؛ وأنشد بيت النابغة:

بكاء حمامة تدعو هديلا

مفجّعة على فنن تغنّي(٤)

فشبّه صوتها لما أطرب إطراب الغناء بالغناء، وجعلوا العمائم لما قامت مقام التّيجان تيجانا؛ وكذلك القول في الحباء والشمس.

وجواب أبي عبيد أحسن الأجوبة وأسلمها، وجواب أبي بكر أبعدها؛ لأن التلذّذ لا يكون إلا في المشتهيات، وكذلك الاستحلاء والاستعذاب. وتلاوة القرآن وتفهّم معانيه من الأفعال الشاقة، فكيف يكون ملذّا مشتهى(٥) ؟! فإن عاد إلى أن يقول: قد تستحلى التّلاوة من الصوت الحزين(٦) ، قلنا: هذا رجوع إلى الجواب الثاني الّذي رغبت عنه، وانفردت عند نفسك بما يخالفه.

ويمكن أن يكون في الخبر وجه رابع خطر لنا، وهو أن يكون قولهعليه‌السلام :

(من لم يتغنّ) من غني الرجل بالمكان إذا طال مقامه به، ومنه قيل: المغنى والمغاني، قال الله تعالى:( كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا ) [الأعراف: ٩٢]، أي لم يقيموا بها، وقال

____________________

(١ - ١) ف: (من لم يتلذذ بالقرآن ولم يستحله ولم يستعذب).

(٢) في حاشيتي الأصل، ف: (جمع حبوة (بكسر الحاء وضمها معا)، والأصل فيه الاحتباء بالسيف، والاحتباء: شد اليدين أمام الركبتين، والاسم الحبوة).

(٣) في حاشيتي الأصل، ف: (أي يتنزل منزلة هذه الأشياء).

(٤) في حاشيتي الأصل، ف: (الهديل: صوت الحمام وفرخها، ويحتمل المعنيين؛ أي تدعو دعاء، صوتها)؛ والبيت في ديوانه ٧٩.

(٥) في حاشيتي الأصل (من نسخة)، ف (عن ش): (شيء ملذ؛ أي يحمل على الالتذاذ به، ويقال: لذذت بالشيء، ولذذته، أو وجدته لذيذا، أو عددته كذلك).

(٦) تحت هذه الكلمة في الأصل: (من نسخة الشجري)، وفي نسخة بحاشيتي الأصل، ت (الحسن).

٦٣

الأسود بن يعفر(١) الإيادي:

ولقد غنوا فيها بأنعم غنية

في ظلّ ملك ثابت الأوتاد(٢)

وقول(٣) الأعشى الّذي أنشده أبو عبيد وهو:

وكنت امرأ زمنا بالعراق

عفيف المناخ طويل التّغنّ

بطول المقام أشبه منه بالاستغناء، لأن المقام يوصف بالطول ولا يوصف الاستغناء بذلك، فكأنّ الأعشى أراد: إنّني كنت ملازما لوطني، مقيما بين أهلي، لا أسافر للانتجاع والطّلب؛ ويجري قوله هذا مجرى قول حسّان بن ثابت الأنصاري:

أولاد جفنة حول قبر أبيهم

قبر ابن مارية الكريم المفضل(٤)

أراد بقوله: (حول قبر أبيهم) أنهم ملوك لا ينتجعون(٥) ، ولا يفارقون محالّهم وأوطانهم؛ فيكون معنى الخبر على هذا الوجه: من لم يقم على القرآن؛ فلا يتجاوزه(٦) إلى غيره، ولا يتعدّاه إلى سواه، ويتخذه مغنى ومنزلا ومقاما فليس منا.

فإن قيل: أليس قد يتعدّى القرآن إلى السّنّة والإجماع وسائر أدلّة الشرع؟ فكيف يحظر علينا تعدّيه؟ قلنا: ليس في ذلك تعدّ للقرآن، لأنّ القرآن دالّ على وجوب اتّباع السنّة وغيرها من أدلّة الشرع، فمن اعتمد بعضها في شيء من الأحكام لا يكون متجاوزا للقرآن، ولا متعديا؛ فأمّا قولهعليه‌السلام : (ليس منّا) فقد قيل فيه: إنه لا يكون على أخلاقنا، واستشهد ببيت النابغة:

____________________

(١) في حاشيتي الأصل: (ويعفر (بضم الياء والفاء)، ويعفر أيضا (بضم الياء وكسر الفاء).

ويعفر (بضم الياء والفاء) ينصرف لزوال شبه الفعل عنه).

(٢) البيت من قصيدة في المفضليات ٢١٧، وفي د، ف، وحاشية الأصل (من نسخة)، والمفضليات (عيشة).

(٣) ت: (وبيت).

(٤) ديوانه: ٨٠، وأولاد جفنة: ملوك غسان.

(٥) في حاشيتي الأصل، ف: أي لا يحتاجون إلى الانتجاع؛ فهم مقيمون في مكانهم).

(٦) حاشية ف: (ويتجاوزه ويتخذه)، وفي حاشية الأصل: (قال السيد: في هذا الكلام اضطراب، والصحيح: (فيتجاوزه ويتعداه)؛ إلا أن تكون (لا) زائدة؛ والمعنى: من لم يقم على القرآن بحيث لا يتجاوزه إلى غيره، ويتعداه إلى سواه؛ ولم يتخذه مغنى، ويكون قوله (يتخذ) معطوفا على (يقم).

٦٤

إذا حاولت في أسد فجورا

فإنّي لست منك ولست منّي(١)

وقيل إنه أراد: ليس على ديننا، وهذا الوجه لا يليق إلاّ بجوابنا الّذي اخترناه، وهو بعده بجواب أبي عبيد أليق، لأنه محال أن يخرج عن دين النبي صلى الله عليه وملّته من لم يحسّن صوته بالقرآن، ويرجّع فيه، أو من لم يتلذّذ بتلاوته ويستحليها.

مسألة: [الكلام على قوله تعالى:( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ. إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ) ]

 اعلم أنّ أصحابنا قد اعتمدوا في إبطال ما ظنّه أصحاب الرؤية في قوله تعالى:( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ. إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ) [القيامة ٢٢ - ٢٣]، على وجوه معروفة، لأنهم بيّنوا أنّ النظر ليس يفيد الرؤية، ولا الرؤية من أحد محتملاته، ودلّوا على أنّ النظر ينقسم إلى أقسام كثيرة؛ منها تقليب الحدقة الصحيحة حيال(٢) المرئي طلبا لرؤيته؛ ومنها النظر الّذي هو الانتظار؛ ومنها النّظر الّذي هو التعطّف والرّحمة؛ ومنها النظر الّذي هو الفكر والتأمّل، وقالوا: إذا لم يكن في أقسام النظر الرّؤية لم يكن للقوم بظاهرها تعلّق(٣) ، واحتجنا(٤) جميعا إلى طلب تأويل للآية من غير جهة الرؤية. وتأوّلها بعضهم على الانتظار للثواب، وإن كان المنتظر في الحقيقة محذوفا، والمنتظر منه مذكورا على عادة للعرب معروفة.

وسلّم بعضهم أن النظر يكون الرؤية بالبصر، وحمل الآية على رؤية أهل الجنة لنعم الله تعالى عليهم؛ على سبيل حذف المرئي في الحقيقة. وهذا كلام(٥) مشروح في مواضعه، وقد بيّنا ما يورد عليه، وما يجاب به عن الشّبهة المعترضة في مواضع كثيرة.

وهاهنا وجه غريب في الآية حكي عن بعض المتأخرين(٦) : لا يفتقر معتمده إلى العدول عن الظاهر، أو إلى تقدير محذوف، ولا يحتاج إلى منازعتهم في أنّ النظر يحتمل الرؤية،

____________________

(١) ديوانه: ٧٩.

(٢) ت، حاشية ف (من نسخة): (في جهة المرئي).

(٣) ف: (التعلق).

(٤) ت، حاشية الأصل (من نسخة): (واحتاج جميعنا).

(٥) ت، ف: (وهذا الكلام).

(٦) في حاشيتي ت، ف: (يعني به الصاحب بن عباد رحمه الله).

٦٥

أو لا يحتملها؛ بل يصح الاعتماد عليه؛ سواء كان النظر المذكور في الآية هو الانتظار بالقلب، أو(١) الرؤية بالعين، وهو أن يحمل قوله تعالى:( إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ) على أنه أراد به نعمة ربّها، لأن الآلاء النّعم، وفي واحدها أربع لغات: ألاّ مثل قفا، وألى مثل رمى، وإلى مثل معى، وإلى مثل حسى؛ قال أعشى بكر بن وائل:

أبيض لا يرهب الهزال ولا

يقطع رحما ولا يخون إلا(٢)

أراد أنه لا يخون نعمة، فأراد (بإلى ربّها) نعمة ربّها، وأسقط التنوين للإضافة.

فإن قيل: فأي فرق بين هذا الوجه وبين تأويل من حمل الآية على أنّه أريد بها(٣) إلى ثواب ربها ناظرة، بمعنى رائية لنعمه وثوابه؟ قلنا: ذلك الوجه يفتقر إلى محذوف، لأنه إذا جعل (إلى) حرفا ولم يعلّقها بالربّ تعالى، فلا بد من تقدير محذوف، وفي الجواب الّذي ذكرناه لا يفتقر إلى تقدير محذوف، لأن (إلى) فيه اسم يتعلق به الرؤية ولا يحتاج إلى تقدير غيره(٤) .

____________________

(١) ت. (أم)

(٢) ديوانه: ١٥٥، واللسان (إلى) وفي حاشيتي الأصل، ف: (أبيض: كريم، والهزال كناية عن قلة ذات اليد، وخيانة النعمة أن يبخل بها).

(٣) ف: (به).

(٤) في حاشيتي الأصل، ف: (الوجه الأول أحسن، وبمجارى كلام العرب أشبه، وفي الفصاحة أعرق؛ وذلك أن وجه الصاحب وإن كان له محمل في العربية؛ فإن إعمال اسم الفاعل فيما قبله على هذا الوجه مما يحوج الإنسان إليه مضايق الشعر؛ والقرآن موضع فساحة، ومحل فصاحة، فالأولى غير هذا الوجه؛ والله أعلم).

٦٦

[٤]

مجلس آخر [المجلس الرابع:]

تأويل آية( وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاّ بِإِذْنِ الله )

إن قال قائل: ما تأويل قوله تعالى:( وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاّ بِإِذْنِ الله وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ ) [يونس: ١٠٠].

وظاهر هذا الكلام يدلّ على أن الإيمان إنما كان لهم فعله بإذنه وأمره، وليس هذا مذهبكم؛ وإن حمل الإذن هاهنا على الإرادة اقتضى أنّ من لم يقع منه الإيمان لم يرده الله منه، وهذا أيضا بخلاف قولكم. ثم جعل الرّجس الّذي هو العذاب على الذين لا يعقلون؛ ومن كان فاقدا عقله لا يكون مكلّفا، فكيف يستحقّ العذاب؟ وهذا بالضد من الخبر المروي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال: (أكثر أهل الجنة البله).

الجواب، يقال له في قوله تعالى: إِلاّ بِإِذْنِ الله وجوه:

منها أن يكون الإذن الأمر، ويكون معنى الكلام: إن الإيمان لا يقع إلا بعد أن يأذن الله فيه، ويأمر به، ولا يكون معناه ما ظنّه السائل من أنه لا يكون للفاعل فعله إلا بإذنه، ويجري هذا مجرى قوله تعالى:( وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاّ بِإِذْنِ الله ) [آل عمران: ١٤٥].

ومعلوم أنّ معنى قوله: ليس لها في هذه الآية هو ما ذكرناه، وإن كان الأشبه في هذه الآية التي فيها ذكر الموت أن يكون المراد بالإذن العلم.

ومنها أن يكون الإذن هو التوفيق(١) والتيسير والتسهيل، ولا شبهة في أن الله يوفق لفعل الإيمان ويلطف فيه، ويسهّل السبيل إليه.

ومنها أن يكون الإذن العلم من قولهم: أذنت لكذا وكذا إذا سمعته وعلمته، وآذنت فلانا بكذا إذا أعلمته؛ فتكون فائدة الآية الإخبار عن علمه تعالى بسائر الكائنات، فإنه ممن

____________________

(١) حاشية الأصل (من نسخة): (في هذه).

٦٧

لا يخفى عليه الخفيّات.. وقد أنكر بعض من لا بصيرة له أن يكون الإذن (بكسر الألف وتسكين الذال) عبارة عن العلم، وزعم أن الّذي هو العلم الأذن (بالتحريك)، واستشهد بقول الشاعر(١) :

* إنّ همّي في سماع وأذن*

وليس الأمر على ما توهّمه هذا المتوهّم، لأن الأذن هو المصدر، والإذن هو اسم الفعل(٢) ؛ فيجري مجرى الحذر في أنه مصدر؛ والحذر (بالتسكين) الاسم على أنه لو لم يكن مسموعا إلا الأذن (بالتحريك) لجاز التسكين، مثل مثل ومثل وشبه وشبه ونظائر ذلك كثيرة.

ومنها: أن يكون الإذن العلم، ومعناه إعلام الله المكلّفين بفضل الإيمان وما يدعو إلى فعله، ويكون معنى الآية: وما كان لنفس أن تؤمن إلاّ بإعلام الله لها بما يبعثها على الإيمان، وما يدعوها إلى فعله.

فأمّا ظنّ السائل دخول الإرادة في محتمل اللفظ فباطل؛ لأنّ الإذن لا يحتمل الإرادة في اللّغة، ولو احتملها أيضا لم يجب ما توهّمه، لأنه إذا قال: إنّ الإيمان لا يقع(٣) إلا وأنا مريد له لم ينف أن يكون مريدا لما لم يقع، وليس في صريح الكلام ولا دلالته(٤) شيء من ذلك.

وأما قوله تعالى:( وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ ) فلم يعن بذلك الناقصي العقول، وإنما أراد الّذين لم يعقلوا ويعلموا(٥) ما وجب عليهم علمه من معرفة الله خالقهم، والاعتراف بنبوّة رسله والانقياد إلى طاعتهم، ووصفهم تعالى بأنّهم لا يعقلون تشبيها؛

____________________

(١) هو عدي بن زيد العبادي؛ وقد تقدم البيت بتمامه منسوبا إليه في ص ٣٣.

(٢) في حاشيتي الأصل، ف: (ومن هذا الباب الصرم؛ فإنه مصدر صرم، والصرم؛ بالضم اسم ذلك الفعل الّذي هو القطع؛ لا المصدر).

(٣) د، ف، حاشية ت (من نسخة): (لم يقع).

(٤) ف، حاشية ت (من نسخة): (ولا في دليله).

(٥) حاشية الأصل (من نسخة): (ولم يعلموا).

٦٨

كما قال تعالى:( صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ ) [البقرة: ١٨]، وكما يصف أحدنا من لم يفطن لبعض الأمور، أو لم يعلم ما هو مأمور بعلمه بالجنون وفقد العقل.

فأما الحديث الّذي أورده السائل شاهدا له فقد قيل إنه عليه وآله السلام(١) لم يرد بالبله ذوي الغفلة والنقص والجنون، وإنما أراد البله عن الشرّ والقبيح، وسمّاهم بلها عن ذلك من حيث لا يستعملونه ولا يعتادونه، لا من حيث فقدوا العلم به. ووجه تشبيه من هذه حاله بالأبله ظاهر، فإنّ الأبله عن الشيء هو الّذي لا يعرض له ولا يقصد إليه، فإذا كان المتنزّه عن الشر معرضا عنه، هاجرا لفعله جاز أن يوصف بالبله للفائدة التي ذكرناها؛ ويشهد بصحة هذا التأويل قول الشاعر:

ولقد لهوت بطفلة ميّادة

بلهاء تطلعني على أسرارها(٢)

أراد أنها بلهاء عن الشر والريبة؛ وإن كانت فطنة لغيرهما؛ وقال أبو النّجم العجلي:

من كل عجزاء سقوط البرقع(٣)

بلهاء لم تحفظ ولم تضيّع

أراد بالبلهاء ما ذكرناه. فأما قوله: (سقوط البرقع) فأراد أنها تبرز وجهها ولا تستره، ثقة(٤) بحسنه وإدلالا بجماله(٤) ، وقوله: (لم تحفظ) أراد أن استقامة طرائقها تغني عن حفظها، وأنها لعفافها(٥) ونزاهتها غير محتاجة إلى مسدّد وموقّف؛ وقوله: (لم تضيّع) أراد أنّها لم تهمل في أغذيتها(٦) وتنعيمها وترفيهها فتشقى، ومثل قوله: (سقوط البرقع) قول الشاعر(٧) :

____________________

(١) ت: (إن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله )، ف: (إنهصلى‌الله‌عليه‌وآله ).

(٢) الأضداد ص ٢٠٢، واللسان (بله) - بلا عزو. والطفلة: الناعمة؛ وفي ت، د، ف: (ميالة).

(٣) اللسان (بله).

(٤) حاشية ت (من نسخة): (بحسنها وإدلالا بجمالها).

(٥) ش: (لعفافتها)، وفي حواشي الأصل، ت، ف: (عف يعف عفا وعفة وعفافة).

(٦) في حاشيتي الأصل، ف: (الأولى في معنى لم تضيع أنها لا تخلو من خدم يختصون بها؛ ليكون هذا التضييع مطابقا لذلك الحفظ). وفي حاشية ت (من نسخة): (في تغذيتها).

(٧) هو عمر بن أبي ربيعة، والبيت في ديوانه ٣٣.

٦٩

فلمّا تواقفنا وسلّمت أقبلت

وجوه زهاها الحسن أن تتقنّعا(١)

ومثله أيضا:

بها شرق من زعفران وعنبر

أطارت من الحسن الرّداء المحبّرا(٢)

أي رمت به عنها ثقة بالجمال والكمال(٣) ، ومثله - وهو مليح(٤) :

لهونا بمنجول البراقع حقبة

فما بال دهر لزّنا بالوصاوص(٥)

أراد بمنجول البراقع اللاتي يوسعن عيون براقعهنّ ثقة بحسنهن، ومنه الطعنة النّجلاء، والعين النّجلاء؛ ثم قال: ما بال دهر أحوجنا واضطرنا إلى القباح، اللواتي يضيّقن عيون براقعهن لقبحهنّ، والوصاوص: هي النّقب الصّغار للبراقع؛ ومما يشهد للمعنى الأول الّذي هو الوصف بالبله لا بمعنى الغفلة قول ابن الدّمينة:

بمالي وأهلي من إذا عرضوا له

ببعض الأذى لم يدر كيف يجيب(٦)

- ويروى بنفسي وأهلي -

ولم يعتذر عذر البري ولم تزل

به ضعفة(٧) حتّى يقال مريب(٨)

ومثله:

أحبّ اللّواتي في صباهنّ غرّة

وفيهنّ عن أزواجهنّ طماح(٩)

____________________

(١) في الديوان: (أشرقت) وفي حاشية ت (من نسخة): (أسفرت)، وفي حاشية الأصل (من نسخة): (تتبرقعا).

(٢) البيت للشماخ، ديوانه: ٢٩. وفي حواشي الأصل، ت، ف: (الشرق: أثر الطيب؛ يقال: يده من الطيب شرقة. وشرقت الشمس: اصفرت من الغروب؛ ومنه أحمر شرق: شديد الحمرة، وشرق الثوب بالصبغ، ولحم شرق: لا دسم فيه). والمحبر: المنقش.

(٣) حاشية ت (من نسخة): (ثقة بجمالها وكمالها).

(٤) في نسخة بحاشيتي الأصل، ت: (حسن).

(٥) حاشية الأصل: (لزنا: أحوجنا).

(٦) الشعر والشعراء ٤٥٩. وفي ت: (بأهلي ومالي).

(٧) ف، حاشية الأصل (من نسخة): (سكنة).

(٨) مريب: أتى بريبة. وفي حاشية الأصل. (أصل العذر أن تتعقب ذنبا، والبريء: لا ذنب له؛ إلا أن تنصله قائم مقام العذر للمجرم؛ فكأنه عذر مجازا).

(٩) البيتان في مصارع العشاق ٣٤٧، وعزاهما إلى بعض الأعراب، ورواية البيت الأول فيه:

أحبّ اللواتي هنّ من ورق الصّبا

ومنهنّ عن أزواجهنّ طماح

ويقال: طمح ببصره؛ إذا رمى به، وفي حاشية الأصل: (طماح: شماس).

٧٠

مسرّات حبّ مظهرات عداوة

تراهنّ كالمرضى وهنّ صحاح

ومثله:

يكتبين الينجوج في كبد المش

تى وبله أحلامهنّ وسام(١)

أما قوله: (يكتبين) فمأخوذ من لفظ الكباء، وهو العود، أراد يتبخّرن به، والينجوج هو العود، وفيه ست لغات: ينجوج، وأنجوج، ويلنجوج، وألنجوج، وألنجج، ويلنجج.

فأما كبد المشتى، فهو ضيقته(٢) وشدّته، ومنه قوله تعالى:( لَقَدْ خَلَقْنَا الآنْسانَ فِي كَبَدٍ ) [البلد: ٤]؛ وقد روي: (في كبّة المشتى) والمعنى متقارب، لأن الكبّة هي الصدمة والحملة، مأخوذ من كبّة(٣) الخيل؛ وأما الوسام فهنّ(٤) الحسان من الوسامة، وهي الحسن.

ويمكن أن يكون في البله جواب آخر، وهو أن يحمل على معنى البله الّذي هو الغفلة والنقصان في الحقيقة، ويكون معنى الخبر أنّ أكثر أهل الجنة الذين كانوا بلها في الدنيا، فعندنا أن الله ينعّم الأطفال في الجنة والمجانين والبهائم، وإنما لم نجعلهم بلها في الجنة وإن كان ما يصل إليهم من النعيم على سبيل العوض أو التفضّل(٥) لا يفتقر إلى كمال العقل، لأنّ الخبر ورد بأن الأطفال والبهائم إذا دخلوا الجنّة لم يدخلوها إلا وهم على أفضل الحالات وأكملها، ولهذا صرفنا البله عنهم في الجنة، ورددناه إلى أحوال الدنيا، وإلاّ فالعقل لا يمنع من ذلك كمنعه إياه في باب الثواب والعقاب.

____________________

(١) البيت لأبي دؤاد الإيادي، وهو في الأصمعيات ٦٨، وفي حاشية الأصل: (أي عقولهن بله، وهن وسام، وواحد الوسام وسيم).

(٢) ت: (ضيقة)، ش: (ضيقته)، بكسر الضاد وفي حاشيتي ت، ف: (الضيقة: الضر والبؤس؛ وهو الضيق أيضا).

(٣) في نسخة بحاشيتي الأصل، ت: (فهي).

(٤) حاشية الأصل: (وهو ازدحامهما).

(٥) في نسخة بحواشي الأصل، ت، ف: (فإن التفضل). د: (والتفضل).

٧١

تأويل آية أخرى( ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ )

قال الله تعالى مخبرا عن يوم القيامة:( ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ، وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ. يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاّ بِإِذْنِهِ ) [هود: ١٠٣ - ١٠٥]. وقال في موضع آخر:( هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ. وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ) [المرسلات: ٣٥، ٣٦]. وفي موضع آخر:( وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ ) [الصافات: ٢٧، والطور: ٢٥].

وظاهر هذه الآيات ظاهر الاختلاف، لأن بعضها ينبئ عن أنّ النطق لا يقع منهم في ذلك اليوم، ولا يؤذن لهم فيه، وبعضها ينبئ عن خلافه. وقد قال قوم من المفسّرين في تأويل(١) هذه الآيات: إن يوم القيامة يوم طويل ممتدّ، فقد يجوز أن يمنع النّطق في بعضه، ويؤذن لهم في بعض آخر(٢) ؛ وهذا الجواب يضعّف، لأن الإشارة إلى يوم القيامة بطوله، فكيف يجوز أن تجعل الحالات فيه مختلفة؛ وعلى هذا التأويل يجب أن يكون قوله تعالى:( هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ ) في بعضه، والظاهر بخلاف ذلك.

والجواب السديد عن هذا أن يقال: إنما أراد الله تعالى نفي النّطق المسموع المقبول الّذي ينتفعون به، ويكون لهم في مثله عذر أو حجّة، ولم ينف النطق الّذي ليست هذه حاله، ويجري هذا مجرى قولهم: خرس فلان عن حجّته، وحضرنا فلانا يناظر فلانا فلم يقل شيئا، وإن كان الّذي وصف بالخرس عن الحجّة، والّذي نفى عنه القول قد تكلّم بكلام كثير غزير، إلاّ أنّه من حيث لم يكن فيه حجّة، ولا به منفعة جاز إطلاق القول الّذي حكيناه عليه؛ ومثل هذا قول الشاعر(٣) :

____________________

(١) ت: (تأويلات).

(٢) ف: (في موضع آخر).

(٣) هو مسكين الدارمي؛ وهو ربيعة بن عامر بن أنيف؛ والبيتان في (معجم الأدباء ١١: ١٣٢).

وفي حاشية الأصل: (قبلهما):

ما ضرّ جارا لي أجاوره

ألاّ يكون لبابه ستر

٧٢

أعمى إذا ما جارتي خرجت

حتّى يواري جارتي الخدر

ويصمّ عمّا كان بينهما

سمعي وما بي غيره وقر(١)

وقال الآخر:

لقد طال كتمانيك(٢) حتّى كأنّني

بردّ جواب السّائلي عنك أعجم(٣)

وعلى هذا التأويل قد زال الاختلاف، لأنّ التساؤل والتلاؤم لا حجّة فيه.. وأما قوله تعالى:( وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ) ، فقد قيل: إنهم غير مأمورين بالاعتذار، فكيف يعتذرون؟ ويجاب بحمل الإذن على الأمر؛ وإنّما لم يؤمروا به من حيث كانت تلك الحال لا تكليف فيها، والعباد ملجئون عند مشاهدة أحوالهم إلى الاعتراف والإقرار. وأحسن من هذا التأويل أن يحمل لِيُؤْذَنَ، على معنى أنه لا يستمع لهم، ولا يقبل عذرهم، والعلة في امتناع قبول عذرهم هي التي ذكرناها(٤) .

____________________

(١) حاشية الأصل: (يريد به؛ أي بقوله (بينهما) جاره وجارته؛ لأنه ذكر الجار قبل الجارة في قوله: ما ضر جارا البيت)، وفي حاشية ف: (بينهما، أي بين الجار وبين من تخاطبه؛ والكلام يدل على متخاطبين).

(٢) حاشية الأصل: (كتماني أمرك وعشقك).

(٣) في حاشيتي ت، ف: (بعده:

لأسلم من قول الوشاة وتسلمي

سلمت وهل حي على الناس يسلم

 (٤) حواشي الأصل، ت، ف: (قوله تعالى:( هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ. وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ) ؛ التقدير: لا ينطقون بنطق ينفعهم، ولا يعتذرون بعذر ينفعهم، فيكون يعتذرون داخلا في حيز النفي، ولا يمكن حمله على الإيجاب إلا إذا كان المعنى على أنهم ينطقون بنطق ينفعهم؛ لأنه إن حمل على الظاهر كان في الكلام تناقض؛ لأن التقدير إذا: هذا يوم لا ينطقون فيعتذرون؛ وهذا تناقض، لأن الاعتذار نطق، وإن شئت كان التقدير: لا ينطقون بحال، ولا يعتذرون؛ لأن هناك مواقف؛ فيكون هذا في موقف؛ ومثله قراءة الحسن والثقفي:( لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا ) ، فقوله:( يَمُوتُونَ ) معطوف على( لا يُقْضى ) أي لا يقضى عليهم فلا يموتون؛ كذلك لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون؛ أي فلا يعتذرون؛ وهذا أحسن، والله أعلم).

٧٣

تأويل خبر [: (لا تسبّوا الدّهر، فإنّ الدّهر هو الله).]

روي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال: (لا تسبّوا الدّهر، فإنّ الدّهر(١) هو الله).

وقد ذكر قوم في تأويل هذا الخبر أنّ المراد به لا تسبّوا الدهر، فإنه لا فعل له، وإنّ الله مصرّفه ومدبّره، فحذف من الكلام ذكر المصرّف والمدبّر وقال: (هو الدهر).

وفي هذا الخبر وجه هو أحسن من ذلك الّذي حكيناه، وهو أنّ الملحدين، ومن نفى الصانع من العرب كانوا ينسبون ما ينزل بهم من أفعال الله تعالى كالمرض والعافية، والجدب والخصب، والبقاء والفناء إلى الدّهر، جهلا منهم بالصّانع جلّت عظمته، ويذمّون الدهر ويسبّونه في كثير من الأحوال، من حيث اعتقدوا أنه الفاعل بهم هذه الأفعال، فنهاهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عن ذلك وقال لهم: لا تسبّوا من فعل بكم هذه الأفعال ممّن تعتقدون أنه هو الدّهر، فإن الله تعالى هو الفاعل لها. وإنما قال: إنّ الله هو الدهر من حيث نسبوا إلى الدّهر أفعال الله؛ وقد حكى الله تعالى عنهم قولهم:( ما هِيَ إِلاّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاّ الدَّهْرُ ) [الجائية: ٢٤]. وقال لبيد:

في قروم سادة من قومه

نظر الدّهر إليهم فابتهل(٢)

أي دعا عليهم. وقال عمرو بن قمئة(٣) :

كأنّي وقد جاوزت تسعين(٤) حجّة

خلعت بها عنّي عذار لجامي(٥)

على الرّاحتين مرّة وعلى العصا

أنوء ثلاثا(٦) بعدهنّ قيامي

رمتني بنات الدّهر(٧) من حيث لا أرى

فكيف بمن يرمي وليس برامي

____________________

(١) كذا في الأصل، ج، د، ش. وفي ت، ف: (فإن الله هو الدهر).

(٢) ديوانه: ٨٠. وفي حاشية الأصل: (قروم: جمع قرم؛ وهو سيد وشريف وكريم؛ وابتهل؛ من المباهلة، أي تضرع وذل).

(٣) الأبيات في المعمرين ٦٢، وحماسة البحتري ٣٢١.

(٤) حاشية الأصل (من نسخة): (سبعين).

(٥) في حاشيتي الأصل، ف: يقول: (إن تسعين تركنني لا أضبط أمرا؛ فكأني مخلوع العذار). والضمير في بها يعود إلى تسعين.

(٦) في حاشيتي الأصل، ف: (أي ثلاث دفعات).

(٧) في حاشيتي الأصل، ف: (بنات الدهر: بلا ياء وحوادثه).

٧٤

فلو أنّها نبل إذا لأتقيتها

ولكنّني أرمي بغير سهام

إذا ما رآني النّاس قالوا ألم تكن

جليدا حديد الطّرف غير كهام

وأفني وما أفني من الدّهر ليلة

ولم يغن ما أفنيت سلك نظام(١)

وأهلكني تأميل يوم وليلة

وتأميل عام بعد ذاك وعام

وقال الأصمعي: ذمّ أعرابي رجلا فقال: هو أكثر ذنوبا من الدهر؛ وأنشد الفراء(٢) :

حنتني حانيات الدّهر حتّى

كأنّي خاتل أدنو لصيد(٣)

قصير الخطو يحسب من رآني

ولست مقيّدا أنّى بقيد

وقال كثيّر(٤) :

وكنت كذى رجلين رجل صحيحة

ورجل(٥) رمى فيها الزّمان فشلّت

وقال آخر(٦) :

فاستأثر الدّهر الغداة بهم

والدّهر يرميني وما أرمى

يادهر قد أكثرت فجعتنا

بسراتنا(٧) ووقرت في العظم

أما قوله: وقرت في العظم، أراد به: اتّخذت فيه وقرا، أو وقيرة، والوقر هو الحفيرة العظيمة تكون في الصّفا يستنقع فيها ماء المطر، والوقب أيضا كذلك، والوقيرة أيضا الحفيرة إلا أنّها دون الأوليين في الكبر.

وكل هؤلاء الذين روينا أشعارهم نسبوا أفعال الله التي لا يشاركه فيها غيره إلى الدهر، فحسن وجه التأويل الّذي ذكرناه.

____________________

(١) في حاشيتي الأصل، ف: (أي لم يغن ما أفنيت من العمر بشيء حتى بخيط).

(٢) البيتان في حماسة البحتري ٣٢٣.

(٣) ت، ف: (حابل):

(٤) أمالي القالي ١: ١٠٩، من تائيته المشهورة.

(٥) ف، حاشية ت (من نسخة): (وأخرى)

(٦) هو الأعشى، والبيتان في ملحقات ديوانه ٢٥٨، وثانيهما في اللسان (وقر) وفي حاشية الأصل: بعدهما:

وسلبتنا ما لست تعقبنا

يادهر ما أنصفت في الحكم

 (٧) حاشية الأصل: (جمع السري، ورجل سرى، والقوم سراة).

٧٥

مسألة [في ذكر المنافع التي عرض الله الإحياء لها]

اعلم أن المنافع التي عرّض الله تبارك وتعالى الأحياء لها ثلاث: منفعة تفضّل، ومنفعة عوض، ومنفعة ثواب، فأمّا المنفعة على سبيل التفضّل فهي الواقعة ابتداء من غير سبب استحقاق،، ولفاعلها أن يفعلها، وله ألاّ يفعلها، وأما منفعة العوض فهي المنفعة المستحقة من غير مقارنة شيء من التعظيم والتبجيل لها، وأمّا منفعة الثواب فهي المستحقة على وجه التعظيم والتبجيل فمنفعة العوض تبين من التفضل بالاستحقاق، والثواب يبين من العوض بالتعظيم والتبجيل، المصاحبين له؛ فكأنّ التفضل أصل لسائر المنافع من حيث يجب تقدمه وتأخر ما عداه؛ لأنه لا سبيل للمنتفع أن ينتفع بشيء دون أن يكون حيّا له شهوة(١) ، والابتداء بخلق الحياة والشهوة تفضّل، فقد صحّ(٢) أنه لا سبيل إلى النفع بمنفعة العوض والثواب إلا بعد تقدّم التفضّل. فأمّا المنفعة بالثواب فهي الأصل للمنفعة بالعوض؛ لأنّ الآلام وما جرى مجرى الآلام(٣) مما يستحقّ به العوض متى لم يكن فيها اعتبار يفضي إلى الثواب، ويستحق به لم يحسن فعلها، وجرى عندنا مجرى العبث، ولهذا نقول: إن الله تعالى لو لم يكلّف أحدا من المكلّفين ما كان يحسن منه أن يبتدئ بالآلام(٤) ، وإن عوّض عليها.

والأحياء على ضروب فمنهم من عرّض للمنافع الثلاث. ومنهم من عرّض لاثنتين، ومنهم من عرّض لواحدة، والمكلّف المعرّض للثواب لا بدّ أن يكون منفوعا بالتفضّل من الوجه الّذي قلنا؛ لأنه إذا خلق حيّا وفعل له القدرة والشهوة والعقل وضروب التمكين، فقد نفع بالتفضّل، وليس يجب فيمن هذه حاله أن يكون منفوعا بالعوض؛ لأنّه لا يمتنع أن يخلو المكلّف منّا من ألم يحدثه(٥) الله به؛ فلا يكون معرّضا للعوض؛ فمتى عرّض له فقد تكاملت فيه المنافع؛ فصار المكلّف مقطوعا على تعريضه لاثنتين من المنافع؛ ومجوّزا تكامل الثلاث له؛ فأما من ليس بمكلّف فمقطوع فيه على إحدى المنافع، وهي التفضّل من حيث

____________________

(١) ش، ومن نسخة بحاشية ت: (ذا شهوة).

(٢) ش، ومن نسخة بحاشية ت: (وضح).

(٣) في حاشيتي ت، ف: (الجاري مجرى الآلام كنقص الأموال والأولاد).

(٤) في حاشية ت (من نسخة): (بآلام).

(٥) ت (يبتدئه).

٧٦

خلق حيا، ومسكّن من كثير من المنافع، ومشكوك في تعريضه للعوض من الوجه الّذي بيّنا.

وكما قطعنا على إحدى المنافع فيه، فنحن قاطعون أيضا على نفي التعريض للثواب عنه، لفقد ما يوصّل(١) إليه وهو التكليف، ولا بد في كل حي محدث أن يكون معرّضا لإحدى هذه المنافع، أو لجميعها؛ وإنما أوجبنا(٢) ذلك من جهة حكمة القديم تعالى؛ لا من جهة أنه يستحيل(٣) في نفسه، وإنما قلنا إنه ليس يستحيل(٣) ؛ لأن كونه حيا وعاقلا وذا شهوة وقدرة ليس منفعة بنفسه، وإنما يكون منفعة ونعمة إذا فعل تعريضا للنفع؛ فأما إذا فعل تعريضا للضرر أو لأوجه من الوجوه، فإنه لا يكون نعمة ولا منفعة، وأوجبناه من جهة حكمة القديم تعالى، لأنه إذا جعل الحي بهذه الصفات، فلا يخلو من أن يكون أراد بها نفعه أو ضرّه، أو لم يرد بها شيئا، فإن كان الأول فهو الّذي أوجبناه، وإن كان الثاني أو الثالث فالقديم تعالى متنزه(٤) عنهما، لأنّ الثاني يجري مجرى الظلم، والثالث هو العبث بعينه، وقد يشارك القديم تعالى في النفع بالتفضّل والعوض الفاعلون المحدثون، ولا يصح أن يشاركوه في النفع بالثواب، لأن الصفة التي يستحق المكلّف لكونه عليها الثواب، وهي كون الفعل شاقّا عليه لا يكون إلاّ من قبله تعالى، وليس لأحد أن يظن فيمن يهدى إلى الدين ويرشد إلى الإيمان، وما يستحقّ به الثواب أنه معرّض للثواب، وذلك أن(٥) المكلّف قد يكون معرّضا للثواب، ويصح أن يستحقه من دون كل هداية وإرشاد يقع منّا، ولولا الصفة التي جعله الله تعالى عليها لم يصحّ(٦) أن يستحقّه، فبان الفصل بين الأمرين؛ على أنّ أحدنا وإن نفع غيره بالتفضل وبالتعريض للعوض فهذه المنافع منسوبة إلى الله تعالى، ومضافة إليه من قبل أنه لولا نعمه ومنافعه لم تكن هذه منافع ولا نعما؛ ألا ترى أنه لو لم يخلق الحياة والشهوة لم يكن ما يوصل إليهما مما ذكرنا منفعة ولا نعمة، ولو لم يخلق المشتهى الملذوذ لم يكن سبيل لنا إلى النفع والإنعام؛ فبان بهذه الجملة ما قصدناه.

____________________

(١) حاشية ت (من نسخة): (يوصله).

(٢) في نسخة بحاشيتي ت، ف: (وجب).

(٣) حاشية ت (من نسخة): (مستحيل)، وحاشية ف (من نسخة): (بمستحيل).

(٤) ت، وحاشية ف (من نسخة): (متنزه).

(٥) حاشية ت (من نسخة): (لأن).

(٦) ساقطة من ت.

٧٧

[٥]

مجلس آخر [المجلس الخامس:]

تأويل آية:( كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ )

إن سأل سائل فقال: ما تأويل قوله تبارك وتعالى مخبرا عن مهلك قوم فرعون وتوريثه نعمهم:( كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ. فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالأرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ ) ؛ [الدخان: ٢٨، ٢٩].

وكيف يجوز أن يضيف البكاء إليهما، وهو لا يجوز في الحقيقة عليهما؟.

الجواب، يقال له في هذه الآية وجوه أربعة من التأويل:

أوّلها أنه تعالى أراد أهل السماء والأرض فحذف كما حذف في قوله:( وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ ) ؛ [يوسف: ٨٢]؛ وفي قوله تعالى( حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ) ؛ [محمد: ٤] وأراد أهل القرية، وأصحاب الحرب، ويجري ذلك مجرى قولهم: السخاء حاتم، يريدون: السخاء سخاء حاتم؛ قال الحطيئة(١) :

وشرّ المنايا ميّت وسط أهله

كهلك الفتى قد أسلم الحي حاضره(٢)

أراد شر المنايا ميتة(٣) ميّت؛ وقال الآخر:

____________________

(١) البيت في طبقات الشعراء لابن سلام ص ٩٥؛ ضمن أبيات أربعة للحطيئة لم تذكر في ديوانه.

وفي حاشيتي الأصل، ف: (قال السيد الإمامعليه‌السلام : طلبت هذا البيت في شعر الحطيئة فلم أجده فيه).

(٢) في حواشي الأصل، ت، ف: (قوله: (شر المنايا) تقديره شر المنايا موت ميت فيما بين عشيرته؛ كهلك هذا الفتى في حال أن أسلم الحي حاضر هذا الفتى؛ أي أن حضاره أسلموا الحي، ولم ينصروه، ولم يمنعوا ذمارهم).

(٣) ف، ونسخة بحاشيتي الأصل، ت: (منية).

٧٨

قليل عيبه والعيب جمّ

ولكنّ الغنى ربّ غفور(١)

أراد: غنى ربّ غفور؛ وقال ذو الرّمة:

لهم مجلس صهب السّبال أذلّة

سواسية أحرارها وعبيدها(٢)

أراد أهل مجلس، وأما قوله: (صهب السّبال) فإنما أراد به الأعداء، والعرب تصف الأعداء بذلك، وإن لم يكونوا صهب الأسبلة، وقوله: (سواسية) يريد أنهم مستوون متشابهون؛ ولا يقال هذا إلا في الذم.

وثانيها أنه أراد تعالى المبالغة في وصف القوم بصغر القدر، وسقوط المنزلة؛ لأنّ العرب إذا أخبرت عن عظم المصاب بالهالك(٣) قالت: كسفت الشمس لفقده، وأظلم القمر، وبكاء

____________________

(١) البيت لعروة بن الورد، وهو في ملحقات ديوانه: ١٩٨، وهو في شرح المقامات ٢: ١٩٢، والبيان ١: ٩٥، والعقد ١: ٢١٢، وفي حواشي الأصل، ت، ف: (قال مولانا الإمام: كان السيدرضي‌الله‌عنه وهم في معنى هذا البيت. ومعنى البيت: أن الشاعر وصف إنسانا بكثرة العيوب؛ إلا أن ماله وغناه يستران عليه عيوبه، فكأنه قال: قليل عيبه، يعني يقل ظهور عيبه مع كثرة عيوبه؛ إلا أن الغنى يسترها عليه؛ كأنه رب غفور ستار للعيوب. ومعنى البيت على ما يوافق استشهاد السيدرضي‌الله‌عنه أنه يمدح إنسانا ويقول:

قليل عيب هذا الممدوح مع كثرة العيب في الناس؛ ولكن الغنى عما يجر المعايب هو غنى الله تعالى.

والأشبه بالبيت أن يكون هجوا؛ كأنه يهجو إنسانا ويقول: يرى عيبه قليلا مع كثرة العيوب فيه، والّذي يقلل عيبه غناه كأنه رب غفور، وأول القطعة:

ذريني للغنى أسعى فإنّي

رأيت النّاس شرّهم الفقير

وأبعدهم وأهونهم عليهم

وإن أمسى له حسب وخير

يباعده الندي وتزدريه

حليلته وينهره الصغير

وتلقى ذا الغنى وله جلال

يكاد فؤاد صاحبه يطير

قليل عيبه ...

(٢) ديوانه ١٥٧ وفي حاشيتي الأصل، ف: (العرب إنما تسمى الأعداء صهب السبال؛ لأن أعداءهم كانوا من الروم؛ والروم صهب الأسبلة، ثم اتسعوا فسموا كل عدو صهب السبال؛ وإن لم يكن من الروم، والقريب من هذا يصفون الأعداء بالزرق العيون).

(٣) ف، ت (من نسخة): (بالهلك).

٧٩

الليل والنهار والسماء والأرض، يريدون بذلك المبالغة في عظم الأمر وشمول ضرره؛ قال جرير يرثي عمر بن عبد العزيز(١) :

____________________

(١) حاشية ف: (حدث إبراهيم بن محمد بن عرفة الأزدي قال: حدثنا عبد الله ابن أخت أبي الوزير عن أبي محمد الشامي: كنت غلاما في خلافة عمر بن عبد العزيز؛ فلما أخذ عمر في رد المظالم غلظ ذلك على أهل بيته، وعلى جميع قريش، فكتب إليهم عبد الرحمن بن الحكم بن هشام:

فقل لهشام والّذين تجمّعوا

بدابق موتوا لا سلمتم يد الدّهر

فأنتم أخذتم حتفكم بأكفّكم

كباحثة عن مدية وهي لا ندري

عشيّة بايعتم إماما مخالفا

له شجن بين المدينة والحجر

فأجابه بعض ولد مروان عن هشام بن عبد الملك:

لئن كان ما تدعو إليه هو الرّدى

فما أنت فيه ذا غناء ولا وفر

فأنت من الرّيش الذّنابى ولم تكن

من الجزلة الأولى ولا وسط الظّهر

ونحن كفيناك الأمور كما كفى

أبونا أباك الأمر في سالف الدّهر

قال القاضي: قول عبد الرحمن بن عبد الحكم في شعره هذا: (بدابق)، فلم يصرفه، وفي صرفه وترك صرفه وجهان معروفان في كلام العرب، والعرب تذكره وتؤنثه؛ فمن ذكره صرفه؛ كما قال الشاعر:

* بدابق وأين منّي دابق*

ومن أنثه لم يصرف؛ كما قال الآخر:

لقد خاب قوم قلّدوك أمورهم

بدابق إذ قيل العدوّ قريب

وقوله:

* كباحثة عن حتفها وهي لا تدري*

هذا مثل يضرب للذي يثير بجهله ما يؤديه إلى هلاكه، أو الإضرار به، وأصله أن ناسا أخذوا شاة ليست لهم، فأرادوا أكلها فلم يجدوا ما يذبحونها به؛ فهموا بتخليتها فاضطربت عليهم، ولم تزل تثير الأرض وتبعثرها بقوائمها؛ فظهر لهم فيما احتفرته مدية فذبحوها بها، وصارت هذه القصة مثلا سائرا. وقول المرواني: (وأنت من الريش الذنابى) يقال: ذنب الفرس وغيره، وذنابى الطائر، وذنابى الوادي وذنابته، ومذنب النهر).

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

أخبرني أبو بكر أحمد بن محمّد بن عبد الواحد المروذي ، حدّثنا محمّد ابن عبد الله بن محمّد الحافظ ـ بنيسابور ـ قال : سمعت أبا حامد أحمد بن محمّد المُقرئ الفقيه الواعظ يقول : سمعت أبا العبّاس محمّد بن إسحاق الثقفي يقول : لمّا انصرف قتيبة بن سعيد إلى الري ، سألوه أنْ يحدّثهم فامتنع وقال : أُحدّثكم بعد أنْ حضر مجالسي أحمد بن حنبل ، ويحيى بن معين ، وعليّ بن المديني، وأبو بكر ابن أبي شيبة ، وأبو خيثمة ؟ ! قالوا له : فإنّ عندنا غلاماً يسرد كلّ ما حدّثت به مجلساً مجلساً ، قم يا أبا زرعة ، فقام أبو زرعة ، فسرد كلّ ما حدّث به قتيبة ، فحدّثهم قتيبة .

حدّثنا محمّد بن يوسف القطّان النيسابوري ـ لفظاً ـ أخبرنا محمّد بن عبد الله بن محمّد بن حمدَويه الحافظ قال : سمعت أبا جعفر محمد بن أحمد الرّازي يقول : سمعت أبا عبد الله محمّد بن مسلم بن وارة يقول : كنت عند إسحاق بن إبراهيم بنيسابور ، فقال رجلٌ مِن أهلِ العراق : سمعت أحمد بن حنبل يقول : صحّ مِن الحديث سبعمِئة ألف حديث وكسر ، وهذا الفتى : ـ يعني أبا زرعة ـ قد حفظ ستمِئة ألف .

أخبرنا أبو سعد الماليني ، حدّثنا عبد الله بن عدي قال : سمِعت الحسن ابن عثمان التستري يقول : كلّ حديثٍ لا يعرفه أبو زرعة الرّازي ليس له أصل .

حدّثني أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن علّي السوذرجاني ـ لفظاً ، بأصبهان ـ وأبو طالب يحيى بن عليّ بن الطيّب الدسكري ـ لفظاً ، بحلوان ـ قال يحيى حدّثنا ، وقال الآخر : أنبأنا أبو بكر ابن المُقرئ ، حدّثنا عبد الله بن محمّد بن جعفر القزويني ـ بمصر ـ قال سمعت محمّد بن إسحاق الصاغاني يقول ـ في حديث ذكره مِن حديث الكوفة فقال : هذا أفادنيه أبو زرعة عبيد الله بن عبد الكريم ، فقال له بعض مَن حضر : يا أبا بكر ، أبو زرعة مِن أولئك الحفّاظ الذين رأيتهم ؟ وذكر جماعة من الحفّاظ ، منهم الفلاس .

فقال : أبو زرعة أعلاهم ؛ لأنّه جمَع الحفظ مع التقوى والورع ، وهو يشبه بأبي عبد الله أحمد بن حنبل.

٣٢١

أخبرنا أبو نعيم الحافظ : حدّثنا الحسن بن محمّد الزعفراني ، حدّثنا أحمد بن محمّد بن عمر ، حدّثنا أبو بكر ابن بحر ، حدّثنا محمّد بن الهيثم بن عليّ النسوي ، قال : لمّا أن قدِم حمدون البرذعي على أبي زرعة لكتابة الحديث، دخل عليه فرأى في داره أواني وفرشاً كثيراً ، قال : وكان ذلك لأخيه، فهمّ أنْ يرجع ولا يكتب عنه ، فلمّا كان من اللّيل رأى كأنّه على شط بركة، ورأى ظلّ شخص في الماء، فقال : أنت الذي زهدت في أبي زرعة ؟ ! أعلمت أنّ أحمد بن حنبل كان من الأبدال ، فلمّا أنْ مات أبدل الله مكانه أبا زرعة .

أخبرنا الماليني : أخبرنا عبد الله بن عيدي ، حدّثنا أحمد بن محمّد بن سليمان القطّان، حدّثنا أبو حاتم الرّازي، حدّثني أبو زرعة عبدي الله بن عبد الكريم بن يزيد القرشي ، وما خلّف بعده مثله علماً وفهماً ، وصيانةً وحذقاً ، وهذا ما لا يُرتاب فيه ، ولا أعلم مِن المشرق والمغرب مَن كان يفهم من هذا الشأن مثله ، ولقد كان من هذا الأمر بسبيل .

وقال ابن عدي : سمعت عبد الملك بن محمّد يقول : سمعت ابن خراش يقول : كان بيني وبين أبي زرعة موعد أنْ أُبكّر عليه فأُذاكره ، فبكّرت فمررت بأبي حاتم وهو قاعدٌ وحده ، فدعاني فأجلسني معه يُذاكرني حتّى أصبح النهار ، فقلت له : بيني وبين أبي زرعة موعد ، فجئت إلى أبي زرعة والناس عليه منكبّون ، فقال لي : تأخّرت عن الموعد ؟ قلت : بكّرت فمررت بهذا المستوحش فدعاني فرَحِمته لِوحدته ، وهو أعلا إسناداً منك ، وضربت أنت بالدست أو كما قال .

أخبرنا أبو منصور محمّد بن عيسى بن عبد العزيز البزّاز ـ بهمذان ـ حدّثنا صالح بن أحمد بن محمّد الحافظ قال : سمعت القاسم بن أبي صالح يقول : سمعت أبا حاتم الرّازي يقول : أبو زرعة إمام.

أخبرنا البرقاني : أخبرنا عليّ بن عمر الدارقطني ، أخبرنا الحسن بن رشيق ، حدّثنا عبد الكريم بن أبي عبد الرحمان النسائي عن أبيه ، ثمّ حدّثني الصوري ، أخبرنا الخصيب بن عبد الله قال : ناولني عبد الكريم ـ وكتب لي بخطّه ـ قال : سمعت أبي يقول : عبيد الله بن عبد الكريم أبو زرعة الرّازي ثقةٌ.

٣٢٢

أخبرنا الماليني : أخبرنا عبد الله بن عدي قال : سمعت أبا يعلى الموصلي يقول : ما سمعنا بذكرِ أحدٍ في الحفظ إلاّ كان اسمه أكثر مِن رؤيته ، إلاّ أبو زرعة الرّازي ، فإنّ مشاهدته كانت أعم من اسمه ، وكان قد جمع حفظ الأبواب ، والشيوخ ، والتفسير ، وغير ذلك ، وكتبنا بانتخابه بواسط ستّة آلاف .

أخبرنا هناد بن هارون النسفي : أخبرنا محمّد بن أحمد بن محمّد بن سليمان الحافظ ـ ببخارى ـ أخبرنا أبو الأزهر ناصر بن محمّد بن النضر الأسدي ـ بكرمينية ـ قال سمعت أبا يعلى أحمد بن عليّ بن المثنّى يقول : رحلْتُ إلى البصرة لِلِقاء المشايخ أبي الربيع ، الزهراني ، وهدبة بن خالد ، وسائر المشايخ ، فبينا نحن قُعود في السفينة ، إذا أنا برجلٍ يسأل رجلاً فقال : ما تقول ـ رحمك الله ـ في رجلٍ حلف بطلاق امرأته ثلاثاً أنّك تحفظ مِئة ألف حديث ؟ فأطرق رأسه مليّاً ثمّ رفع فقال : اذهب يا هذا وأنت بارٌّ في يمينك ، ولا تعد إلى مثل هذا ، فقلت من الرجل ؟ فقيل لي : أبو زرعة الرّازي ، كان ينحدر معنا إلى البصرة .

أخبرنا الماليني : حدّثنا عبد الله بن عدي قال : سمعت أبي عدي بنعبد الله يقول : كنت بالري ـ وأنا غلام في البزّازين ـ فحلف رجلٌ بطلاقِ امرأته أنّ أبا زرعة يحفظ مِئة ألف حديث ، فذهب قومٌ إلى أبي زرعة بسبب هذا الرجل هل طلّقت امرأته أم لا ؟ فذهبْت معهم ، فذكر لأبي زرعة ما ذكر الرجل ، فقال : ما حمله على ذلك ؟ فقيل له :

٣٢٣

قد جرى الآن منه ذلك ، فقال أبو زرعة : قل له يمسك امرأته... ) (١) .

ترجمة أبي حاتم الرّازي

وكذلك أبو حاتم الرّازي المتوفّى سنة ٢٧٧ :

قال الذهبي : ( محمّد بن إدريس أبو حاتم الرّازي ، الحافظ ، سمع الأنصاري وعبيد الله بن موسى.

وعنه : د ، س ، ووَلَده عبد الرحمان بن أبي حاتم ، والمحاملي قال موسى بن إسحاق الأنصاري : ما رأيت أحفظ منه مات في شعبان سنة ٢٧٧ )(٢) .

وقال السمعاني : ( إمامُ عصره والمرجوع إليه في مشكلات الحديث ، مِن مشاهير العلماء المذكورين ، الموصوفين بالفضل والحفظ والرحلة ، ولقي العلماء )(٣) .

وقال ابن حجر: ( د ، س ، ق محمّد بن إدريس بن المنذر بن داود بن مهران الحنظلي ، أبو حاتم الرّازي ، الحافظ الكبير ، أحد الأئمّة.... روى عنه : أبو داود والنسائي وابن ماجة في التفسير... وقال الحاكم أبو أحمد في الكنى : أبو

ـــــــــــــــــــ

(١) تاريخ بغداد ١٠ / ٣٢٦ ـ ٣٣٧ .

(٢) الكاشف ٣ : ٦ / ٤٧٦١ .

(٣) الأنساب ٢ : ٢٧٩ .

٣٢٤

حاتم محمّد بن إدريس ، روى عنه : محمد بن إسماعيل الجعفي وابنه عبد الرحمان... ورفيقه أبو زرعة... وآخرون .

قال أبو بكر الخلال : أبو حاتم إمامٌ في الحديث ، روى عن أحمد مسائلَ كثيرةٌ وقعت إلينا متفرّقة ، كلّها غريب .

وقال ابن خراش : كان مِن أهل الأمانة والمعرفة .

وقال النسائي : ثقةٌ .

وقال اللاّلكائي : كان إماماً ، عالماً بالحديث ، حافظاً له ، متقناً متثبّتاً .

وقال الخطيب : كان أحد الأئمّة الحفّاظ الأثبات ، مشهوراً بالعلم ، مذكوراً بالفضل... مات بالري ٢٧٧ )(١) .

تكلّم الذهلي في البخاري

وممّن تكلّم في البخاري مِن الأئمّة الأعلام : محمّد بن يحيى الذهلي ، فقد قدح فيه وطعن ، وبدّعه في الدين ، ومنع من الكتابة عنه والحضور عنده ، قال السبكي بترجمة البخاري :

( قال أبو حامد ابن الشرقي : رأيت البخاري في جنازة سعيد بن مروان والذهلي يسأله عن الأسماء والكنى والعِلل ، ويمرّ فيه البخاري مثل السهم ، فما أتى على هذا شهر حتّى قال الذهلي : ألا مَن يختلف إلى مجلسه فلا يأتنا ، فإنّهم كتبوا إلينا من بغداد أنّه تكلّم في اللّفظ ، ونهيناه فلم ينته ، فلا تقربوه .

قلت : كان البخاري ـ على ما رُوي وسنحكي ما فيه ـ ممّن قال : لفظي بالقرآن مخلوقٌ ، وقال محمّد بن يحيى الذهلي : مَن زَعم أنّ لفظي بالقرآن مخلوقٌ فهو مُبتَدِع لا يُجالَس ولا يُكلَّم ، ومَن زعم أنّ القرآن مخلوقٌ فقد كفر ) .

ـــــــــــــــــــ

(١) تهذيب التهذيب ٩ : ٢٨ ـ ٣٠ .

٣٢٥

وقال ابن حجر : ( قال أبو حامد ابن الشرقي : سمعت محمّد بن يحيى الذهلي يقول : القرآن كلامُ الله غير مخلوق ، ومَن زعم لفظي بالقرآن مخلوق فهو مبتدِع لا يُجالَس ولا يُكلَّم ، ومَن ذهب بعد هذا إلى محمّد بن إسماعيل فاتّهموه ، فإنّه لا يحضر مجلسه إلاّ مَن كان على مذهبه )(١) .

نقد دفاع القوم عن البخاري

ثمّ إنّ القوم حاولوا تخليص البخاري مِن هذه الورطة ، فأتعبوا أنفسهم وجهدوا كثيراً... فقد جاء في كتاب( الطبقات ) بعد ما تقدَّم :

( وإنّما أراد محمّد بن يحيى ـ والعِلم عند الله ـ ما أراده أحمد بن حنبل كما قدّمناه في ترجمة الكرابيسي ، مِن النّهي عن الخوض في هذا ، فلم يرد مخالفة البخاري ، وإنْ خالفه وزعم أنّ لفظه الخارج مِن بين شفة المحدّثين قديم ، فقد باء بإثمٍ عظيم ، والظنّ به خلاف ذلك ، وإنّما أراد هو وأحمد وغيرهما مِن الأئمّة النهي عن الخوض في مسائل الكلام ، وكلام البخاري عندنا محمولٌ على ذكر ذلك عند الاحتياج إليه ، فالكلام عند الاحتياج واجب ، والسكوت عنه عند عدم الاحتياج سنّة .

فافهم ذلك ودع خرافات المؤرّخين ، واضرب صفحاً عن تمويهات الضالّين ، الذين يظنّون أنّهم مُحدّثون وأنّهم عند السنّة واقفون ، وهُم عنها مبعدون .

وكيف يظنّ بالبخاري أنّه يذهب إلى شيء مِن أقوال المعتزلة ، وقد صحّ عنه فيما رواه الفربري وغيره أنّه قال : إنّي لأستجهل مَن لا يكفّر الجهميّة ، ولا يرتاب المنصف في أنّ محمّد بن يحيى الذهلي لحقته الحسد التي لم يسلم منها إلاّ أهل العصمة ، وقد سأل بعضهم البخاري عمّا بينه وبين محمّد بن يحيى فقال البخاري : كم يعتري محمّد بن يحيى الحسد في العلم ، والعلم رزقُ الله يعطيه مَن يشاء ، ولقد أطرف البخاري وأبان عن عظيم ذكائه حيث قال ـ وقد قال له أبو عمرو الخفّاف أنّ الناس خاضوا في قولك : لفظي بالقرآن مخلوقٌ ـ يا أبا عمرو، أحفظ ما أقول لك ، مَن زعم مِن أهل نيسابور وقومس والري وهمدان ، وبغداد والكوفة والبصرة ، ومكّة والمدينة : أنّي قلت لفظي بالقرآن مخلوقٌ ، فهو كذّاب ، فإنّي لم أقله ، إلاّ أنّي قلت : أفعال العباد مخلوقة .

ـــــــــــــــــــ

(١) هدي الساري : ٤٩٢ .

٣٢٦

قلت : تأمّل كلامه ما أذكاه ! ومعناه ـ والعلم عند الله ـ إنّي لم أقل لفظي بالقرآن مخلوق ، لأنّ الكلام في هذا خوض في مسائل الكلام وصفات الله التي لا ينبغي الخوض فيها إلاّ للضرورة ، ولكنّي قلت أفعال العباد مخلوقة ، وهو قاعدة مغنية عن تخصيص هذه المسألة بالذكر ، فإنّ كلّ عاقلٍ يعلم أنّ لفظنا مِن جملةِ أفعالنا ، وأفعالنا مخلوقة ، فألفاظنا مخلوقة .

ولقد أفصح بهذا المعنى في رواية أُخرى صحيحة عنه ، رواها حاتم بن أحمد الكيدري فقال : سمعت مسلم بن الحجّاج ، فذكر الحكاية وفيها : أنّ رجلاً قام إلى البخاري فسأله عن اللّفظ بالقرآن فقال : أفعالنا مخلوقةٌ وألفاظنا من أفعالنا ، وفي الحكاية : أنّه وقع بين القوم إذ ذاك اختلاف على البخاري ، فقال بعضهم : قال لفظي بالقرآن مخلوقٌ ، وقال آخرون : لم يقل .

قلت : فلم يكن الإنكار إلاّ على مَن تكلّم في القرآن ، فالحاصل ما قدّمناه في ترجمة الكرابيسي ، من أنّ أحمد بن حنبل وغيره من السادات الموفّقين ، نهوا عن الكلام في القرآن جملةً ، وإنْ لم يُخالفوا في مسألة اللفظ فيما نظنّه فيهم إجلالاً لهم وفهماً مِن كلامهم في غير رواية ، ودفعاً لمحلّهم عن قول لا يشهد له معقول ولا منقول ، وهو أنّ الكرابيسي والبخاري وغيرهما مِن الأئمّة الموفّقين أيضاً أفصحوا بأنّ لفظهم مخلوقٌ لمّا احتاجوا إلى الإفصاح ، هذا إنْ ثبت عنهم الإفصاح بهذا ، وإلاّ فقد نقلنا لك قول البخاري أنّ مَن نقل عنه هذا فقد كذِب عليه .

٣٢٧

فإنْ قلت : إذا كان حقّاً لِمَ لا يفصح به ، قلت : سبحان الله ، قد أنبأناك أنّ السرّ فيه في الخوض في علم الكلام ، خشية أنْ يَجُرَّ الكلام فيه إلى ما لا ينبغي ، وليس كلّ علمٍ يُفصح به ، فاحفظ ما نُلقيه إليك واشدد عليه يدَيك ، ويعجبني ما أنشد الغزالي في منهاج العابدين لبعض أهل البيت(١) :

إِنّي لأَكتُم مِن عِلمي جَواهِرَهُ كي

لا يَرى الحقُّ ذي جَهلٍ فَيَفتَنِنا

يا رُبَّ جَوهَرِ عِلمٍ لَو أَبوحُ بِهِ

لقيلَ لي أَنتَ مِمَّن يَعبدُ الوَثَنا

وَلاسَتَحَلَّ رِجالٌ صَالِحُون دَمي

يَرَونَ أَقبَحَ ما يَأتونَهُ حَسَنا

وَقَد تَقَدَّمَ في هَذا أَبو حَسَنٍ

إِلى الحُسَينِ وَوَصّى قَلبَهُ الحَسنا

أقـول :

لكن كلام السبكي مُتهافت وركيك ، ألا ترى أنّه يُبادر إلى إنكار وقوع الخلاف بين الذهلي والبخاري ، ثمّ يرجع فيرمي الذهلي بالحسد للبخاري ، ثمّ تارةً يؤيّد القول بخلق التلفّظ بالقرآن ، وأُخرى ينكر أنْ يكون البخاري قائلاً بذلك !!

والحاصل : أنّه قد ذكر ثلاثة وجوه في الدفاع عن البخاري .

أحدها : عدم الخلاف بين الذهلي والبخاري في المسألة .

والثاني : إنّ ما قال الذهلي في البخاري ليس إلاّ عن الحسد له .

والثالث : إنّه لم يثبت عن البخاري القول بأنّ لفظي بالقرآن مخلوق .

ـــــــــــــــــــ

(١) منهاج العابدين : ٥ نسبه للإمام زين العابدينعليه‌السلام .

٣٢٨

لكن الأوّل واضح البطلان ، ولا سبيل لحمل كلام الذهلي في البخاري على أنّه إنّما كان نهياً عن الخوض في علم الكلام ، وكيف يقول هذا ؟ وهو ينقل عن الذهلي تكفير البخاري والردّ عليه والتكلّم فيه والمنع من الذهاب إليه والحضور عنده ؟ وكيف يدّعي عدم وقوع الخلاف ؟ وقد جاء في كتابه قبل هذا : ( قصّته مع محمّد بن يحيى الذهلي ) فقال : ( قال الحسن بن محمّد بن جابر : قال لنا الذهلي لمّا ورد البخاري بنيسابور : اذهبوا إلى هذا الرجل الصالح فاستمعوا منه ، فذهب الناس إليه واقبلوا على السماع منه ، حتّى ظهر الخلل في مجلس الذهلي ، فحسده بعد ذلك وتكلّم فيه... )(١) .

وذكر ابن حجر في مقدّمة شرح البخاري : ( ذكر ما وقع بينه وبين الذهلي في مسألة اللّفظ ، وما حصل له مِن المحنة بسبب ذلك وبراءته ممّا نسب إليه ) فقال :

( قال الحاكم أبو عبد الله في تاريخه : قدِم البخاري بنيسابور سنة خمسٍ وثلاثين ، فأقام بها مدّة يحدّث على الدوام ، قال : سمعت محمّد بن حازم البزّار يقول : سمعت الحسن بن محمّد بن جابر يقول : سمعت محمّد بن يحيى يقول : اذهبوا إلى هذا الرجل الصالح العالم فاسمعوا منه .

قال : فذهب الناس إليه واقبلوا على السماع منه ، حتّى ظهر الخلل في مجلس محمّد بن يحيى .

قال : فتكلّم فيه بعد ذلك ) .

قال : ( وقال أبو أحمد ابن عدي : ذكر لي جماعة مِن المشايخ : أنّ محمّد ابن إسماعيل لمّا ورد نيسابور واجتمع الناس عنده ، حسده بعض شيوخ الوقت ، فقال لأصحاب الحديث : إنّ محمّد بن إسماعيل يقول : لفظي بالقرآن مخلوقٌ ، فلمّا حضر المجلس قام إليه رجلٌ فقال : يا أبا عبد الله ، ما تقول في اللّفظ بالقرآن ، مخلوقٌ هو أو غير مخلوق ؟ فأعرض عنه البخاري ولم يُجِبه ثلاثاً ، فألحّ عليه ، فقال البخاري : القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق ، وأفعال العباد مخلوقة ، والامتحان بدعة ، فشغب الرجل وقال : قد قال لفظي بالقرآن مخلوق ) قال : ( وقال الحاكم : لمّا وقع بين البخاري وبين محمّد بن يحيى في مسألة اللّفظ ، انقطع الناس عن البخاري إلاّ مسلم بن الحجّاج وأحمد بن مسلمة فقال الذهلي : ألا مَن قال باللّفظ فلا يحضرنا مجلسنا ) .

ـــــــــــــــــــ

(١) طبقات الشافعيّة للسبكي ٢ : ٢٢٨ .

٣٢٩

قال : ( قال الحاكم أبو عبد الله : سمعت محمّد بن صالح بن هاني يقول : سمعت أحمد بن مسلمة النيسابوري يقول : دخلت على البخاري فقلت : يا أبا عبد الله ، إنّ هذا الرجل مقبولٌ بخراسان خصوصاً في هذه المدينة ، وقد لجّ في هذا الأمر حتّى لا يقدر أحد أنْ يكلّمه ، فما ترى ؟ قال : فقبض على لحيته وقال :( .. وأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ) ، اللّهمّ إنّك تعلم أنّي لم أرد المقام بنيسابور أشراً ولا بطراً ولا طلباً للرياسة ، وإنّما أبَت نفسي الرجوع إلى الوطن لغَلَبة المخالفين ، وقد قصدني هذا الرجل حسَداً لِمَا آتاني الله ثمّ قال لي : يا أبا أحمد ، إنّي خارج غداً لتتخلّصوا مِن حديثه لأجلي ) .

وقال الحاكم أيضاً عن الحافظ أبي عبد الله ابن الأخرم قال : ( لمّا قام مسلم بن الحجّاج وأحمد بن مسلمة مِن مجلس محمّد بن يحيى بسببالبخاري قال الذهلي : لا يُساكنني هذا الرجل في البلد ، فخشي البخاري وسافر (١) .

وكيف يجتمع القول بعدم وقوع الخلاف مع دعوى حسد الذهلي للبخاري ؟

لكنّ دعوى الحسد أيضاً لا تحلّ المشكلة ، ولا تنفعهم بل تضرّهم ، لأُمور :

ترجمة الذهلي

الأوّل : جلالة قدر الذهلي وعظمته كما بتراجمه ، فقد ذكروا أنّه مِن مشايخ البخاري وأبي داود والترمذي وابن ماجة والنسائي وآخرين من كبار الأئمّة ، وأنّ ابن أبي داود لقّبه بـ ( أمير المؤمنين في الحديث ) :

قال الذهبي : ( وعنه : خ والأربعة وابن خزيمة وأبو عوانة وأبو علي الميداني ، ولا يكاد البخاري يفصح باسمه لِما وقَع بينهما قال ابن أبي داود : حدّثنا محمّد بن يحيى ، وكان أمير المؤمنين في الحديث .

وقال أبو حاتم : هو إمامُ أهل زمانه توفّي ٢٥٨ وله ستّ وثمانون )(٢) .

وقال السمعاني : ( إمام أهل نيسابور في عصره ، ورئيس العلماء ومقدّمهم )(٣) .

وقال الصفدي : ( الإمام الذهلي ، مولاهم ، النيسابوري ، الحافظ ، سمع مِن خلقٍ كثير ، روى عنه الجماعة خلا مسلم ، قال : ارتحلت ثلاث رحلات

ـــــــــــــــــــ

(١) هدي الساري = مقدّمة فتح الباري : ٤٩٢ .

(٢) الكاشف ٣ : ٨٨ / ٥٢٧٤ .

(٣) الأنساب ٣ : ١٨١ .

٣٣٠

وأنفقت مِئةً وخمسين ألفا ً. قال النسائي : ثقةٌ مأمون قال أبو عمرو أحمد بن نصر الخفاف : رأيت محمّد بن يحيى في المنام فقلت : ما فعل الله بك ؟ قال : غفر لي قلت : ما فُعِل بحديثك ؟ قال : كُتِب بماء الذهب ورُفِع في عِلّيّين )(١) .

فهذ مقامات الذهلي ومنازله كما يقولون ، فكيف يصدّق مع هذا رميه بالحسد للبخاري ، وأنّ كلّ ما قاله فيه مِن التكفير وغيره هو عن الحسد له ؟ اللّهمّ إلاّ أنْ يلتجأ المدافعون عن البخاري إلى تكذيب هؤلاء المادحين للذهلي ، وهذه شناعةٌ عظيمة وداهيةٌ كبيرة بلا ارتياب ، فإنّه مصداق الهرب مِن المطر والوقوف تحت الميزاب !!

الأمر الثاني :

إنّ هذا الوجه ـ المُبطل للوجه السابق ـ لا ينفع القوم بل يضرّهم ؛ لأنّه إذا ثبت حسد الذهلي ـ كما ذكر السبكي ونصَّ عليه البخاري ـ وأنّه كان مِن أجل الرياسة وحبّ الدنيا ، توجّه الطعن إلى البخاري مرّةً أُخرى ، وصار دليلاً آخر على عدم احتياطه وتورّعه في الرواية والفتيا ؛ لأنّ الأُمور التي حكاها الحاكم والسبكي وابن حجر العسقلاني مثبتة ، لكون الذهلي فاسقاً ضالاًّ لا يجوز الأخذ منه والرواية عنه ، لكنّ البخاري قد أخرج عنه في صحيحه كما في( تهذيب الكمال ) (٢) و( تهذيب التهذيب) (٣) و( تقريب التهذيب ) (٤) و( الكاشف ) (٥) وغيرهما .

ـــــــــــــــــــ

(١) الوافي بالوفيات ٥ : ١٨٦ / ٢٢٣٥ .

(٢) تهذيب الكمال ٢٦ : ٦٢٢ / ٥٦٨٦ .

(٣) تهذيب التهذيب ٩ : ٤٥٢ / ٨٤٣ .

(٤) تقريب التهذيب ٢ : ٢٢٦ / ٧١٩٣ .

(٥) الكاشف ٣ : ٨٨ / ٥٢٧٤ .

٣٣١

وكيف جاز له أنْ يُخرج عنه في كتابه الذي لم يُخرج فيه عن الإمام أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام ؟

ومِن الطرائف أنْ يلتزم بالرواية عنه ، وإخراجها في كتابه ولو مع عدم التصريح باسمه ؟!

إنّه إنْ كان ثقةٌ يصلح للرواية عنه ، فالإخراج عنه مع إخفاء اسمه حسدٌ له مِن البخاري ، وإنْ كان مِن المجروحين عنده ، فالإخراج عنه بهذه الكيفيّة خيانةٌ وتدليس !!

الأمر الثالث :

إنّه إذا ثبت حسدُ الذهلي للبخاري وقدحه تضليله إيّاه ، وذمّ البخاري للذهلي وتكلّمه فيه ، توجّه إلى أهل السنّة ما أورده الشاه عبد العزيز الدهلوي في( التحفة الاثني عشريّة ) بعنوان الطعن على أهل الحق ، مِن وجود التكاذب والتحاسد بين قدماء الأصحاب وردّ بعضهم على البعض ، كتأليف هشام بن الحكم كتاباً في الردّ على هشام بن سالم الجواليقي ومؤمن الطاق .

يقول الدهلوي : ( والعجب ، إنّ قدماء الإماميّة وقدوتهم ، الذين تنتهي إليهم سلاسل أسانيد أهل الأخبار منهم ، كهشام بن الحكم ، وهشام بن سالم الجواليقي ، وصاحب الطاق ، قد وقع بينهم أشدّ التكاذب والتحاسد ، وكانوا يكذِّبون بعضهم بعضاً في الروايات الواقعة بينهم ، عن الأئمّة الثلاثة السجّاد والباقر والصادقعليهم‌السلام ويضلّلون ويكفّرون فيما بينهم ، كما أنّ لهشام ابن الحكم كتاباً في الردّ على الجواليقي وصاحب الطاق ذكر ذلك النجاشي ، فسقط جميع أخبارهم عن حيّز الاعتبار وتساقط بالتعارض )(١) .

ـــــــــــــــــــ

(١) التحفة الاثني عشريّة : ١١٨ الباب الرابع .

٣٣٢

لكنّ المناظرة وردّ البعض على البعض في المسائل العلميّة أمرٌ ، والإهانة والتكذيب بل التضليل والتكفير أمرٌ آخر ، فهشام بن الحكم وضع كتاباً في الردّ على هشام بن سالم في مسالة اختلفا فيها ، أمّا ما كان بين الذهلي والبخاري فهو الحسد والتضليل والتكفير، كما هو صريح عبارات القوم ، وهو الذي ينتهي إلى سقوط أخبارهم عن حيّز الاعتبار وتساقطها بالتعارض .

وأمّا إنكار السبكي أنْ يكون البخاري قائلاً : لفظي بالقرآن مخلوق ، فليس إلاّ مكابرةً منه ؛ لأنّه بنفسه قد حكى ذلك عن البخاري ، كما أنّ ابن حجرٍ أيضاً رواه ، قال السبكي :

( قال محمّد بن يوسف الفربري : سمعت محمّد بن إسماعيل يقول : وأمّا أفعال العباد مخلوقة ، فقد ثنا عليّ بن عبد الله ، ثنا مروان بن معاوية ، ثنا أبو مالك ، عن ربعي ، عن حذيفة قال : قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إنّ الله يصنع كلّ صانع وصنعته ) .

وسمعت عبيد الله بن سعيد ، سمعت يحيى بن سعيد يقول : ما زلت أسمع أصحابنا يقولون أفعال العباد مخلوقة .

قال البخاري : حركاتهم وأصواتهم و أكسابهم وكتابتهم مخلوقة ، فأمّا القرآن المتلو المُثبت في المصاحف ، المسطور المكتوب المُوعى في القلوب ، فهو كلام الله ليس بمخلوق .

قال الله تعالى :( بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ..... ) .

وقال : يُقال فلانٌ حسنُ القراءة ورديُّ القراءة ، ولا يُقال حسنُ القرآن ولا رديّ القرآن ، وإنّما ينسب إلى العباد القراءة ؛ لأنّ القرآن كلام الربّ والقراءة فعل العبد ، وليس لأحدٍ أنْ يشرع في أمر بغير علم ، كما زعم بعضهم أنّ القرآن بألفاظنا وألفاظنا

٣٣٣

به ، شيء واحد ، والتلاوة هي المتلو ، والقراءة هي المقروء...)(١) .

وقال ابن حجر في( مقدمة فتح الباري ) :

( قال حاتم بن أحمد بن محمود : سمعت مسلم بن الحجّاج يقول : لمّا قدِم محمّد بن إسماعيل نيسابور ، ما رأيت عالماً ولا والياً فعَل به أهل نيسابور ما فعلوا به ، فاستقبلوه مِن مرحلتين من البلد أو ثلاث ، فقال محمّد بن يحيى الذهلي في مجلسه : مَن أراد أنْ يستقبل محمّد بن إسماعيل غداً فليستقبله ، فإنّي أستقبله ، فاستقبله محمّد بن يحيى وعامّة علماء نيسابور ، فدخل البلد .

فقال محمّد بن يحيى : لا تسألوه مِن شيء مِن الكلام ، فإنْ أجاب بخلاف ما نحن عليه وقع بيننا وبينه ، وشمت بنا كلّ أباضيّ وجهميّ ومرجئ بخراسان ، فازدحم الناس على محمّد بن إسماعيل حتّى امتلأت الدار والسطوح ، فلمّا كان اليوم الثاني أو الثالث مِن يوم قدومه ، قام إليه رجلٌ فسأله عن اللّفظ بالقرآن ، فقال : أفعالنا مخلوقةٌ وألفاظنا من أفعالنا ، فقال : فوقع بين الناس اختلاف ؛ فقال بعضهم : قال لفظي بالقرآن مخلوق ، وقال بعضهم : لم يقل ، فوقع بينهم في ذلك اختلاف حتّى قام بعضهم إلى بعض قال : فاجتمع أهل الدار فأخرجوهم )(٢)

وأيضاً قال ابن حجر : ( قال الحاكم : حدّثنا أبو بكر ابن أبي الهيثم ، ثنا الفربري قال : سمع محمّد بن إسماعيل يقول : أمّا أفعال العباد مخلوقة ، فقد حدّثنا عليّ ابن عبد الله ، ثنا مروان بن معاوية ، ثنا أبو مالك عن ربعي ، عن حذيفة قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إنّ الله يصنع كلّ صانع وصنعته ) .

ـــــــــــــــــــ

(١) طبقات الشافعيّة ٢ : ٣٢٨ ـ ٢٢٩ .

(٢) هدي الساري : ٤٩١ .

٣٣٤

قال : وسمعت عبيد الله بن سعيد ـ يعني أبا قدامة السرخسي ـ سمعت يحيى ابن سعي يقول : لا زلت أسع أصحابنا يقولون إنّ أفعال العباد مخلوقة وقال محمّد بن إسماعيل : حركاتهم وأصواتهم وأكسابهم وكتابتهم مخلوقة ، فأمّا القرآن المبين المكتوب في المصاحف الموعى في القلوب ، فهو كلام الله تعالى غير مخلوق( بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ... ) (١) .

وأمّا ما ذكره أخيراً في مقام الدفاع عن البخاري ، وأنّه ( ليس كلّ علمٍ يُفصح به ) فهو اعتراف بجواز التقيّة واستعمالها ، فلماذا يرمون أهل الحقّ ـ المستعملين التقيّة مِن حكّام الجور وعملائهم ـ بأنواع التُهم ؟ ويسمّون ( التقيّة ) بـ ( النفاق ) ؟

وعلى الجملة ، فإنّ قول البخاري بمقالة ( لفظي بالقرآن مخلوق ) وتضليل الذهلي إيّاه بهذا السبب ، أمرٌ ثابت لا ريب فيه ، وكذلك سائر علماء القوم ، يكفّرون مَن قال بذلك .

وهذا الذهبي ينصّ في غير موضع مِن تاريخه على أنّ هذه المقالة هي مذهب الجهميّة .

والعجب أنّ السبكي ينقل عن الذهبي هذا الكلام ـ بترجمة الحسين الكرابيسي ـ ويضطرب أمامه أشدّ الاضطراب .

قال السبكي : ( وممّا يدلّك أيضاً على ما نقوله ، وأنّ السلف لا ينكرون أنّ لفظنا حادثٌ ، وأنّ سكوتهم إنّما هو عن الكلام في ذلك ، لا عن اعتقاده : أنّ الرواة رَوَوا أنّ الحسين بلَغَه كلام أحمد فيه فقال : لأقولنّ مقالةً حتّى يقول

ـــــــــــــــــــ

(١) هدي الساري : ٤٩١ .

٣٣٥

أحمد بخلافها فيُكفّر ، فقال : لفظي بالقرآن مخلوقٌ ، وهذه الحكاية قد ذكرها كثير مِن الحنابلة ، وذكرها شيخنا الذهبي في ترجمة الإمام أحمد وفي ترجمة الكرابيسي ، فانظر إلى قول الكرابيسي فيها إنّ مخالفها يُكفّر ، والإمام أحمد ـ فيما نعتقده ـ لم يخالفها ، وإنّما أنكر أنْ يتكلّم في ذلك .

فإذا تأمّلت ما سطرناه ، ونظرت قول شيخنا في غير موضعٍ من تاريخه ، إنّ مسألة اللفظ ممّا يرجع إلى قولِ جهم ، عرفت أنّ الرجل لا يدري في هذه المضائق ما يقول ، وقد أكثر هو وأصحابه من ذك جهم بن صفوان ، وليس قصدهم إلاّ جعل الأشاعرة ـ الذين قدر الله لقدرهم أنْ يكون مرفوعاً ، ولزومهم للسنّة أنْ يكون مجزوماً به ومقطوعا ـ فرقةً جهميّة .

واعلم أنّ جهماً شرٌّ مِن المعتزلة ـ كما يدريه مَن ينظر الملل والنحل ويعرف عقائد الفِرَق ـ بل هو شرّ مِن القائلين بها ؛ لمشاركته إيّاهم فيما قالوه وزيادته عليهم بطامّات ، فما كفى الذهبي أنْ يشير إلى اعتقاد ما يتبرّأ العقلاء عن قوله ، من قدم الألفاظ الجارية على لسانه ، حتّى ينسب هذه العقيدة إلى مثل الإمام أحمد بن حنبل وغيره مِن السّادات ، ويدّعي أنّ المُخالف فيها يرجع إلى قول جهم ، فليته درى ما يقول ، والله يغفر لنا وله ، ويتجاوز عمّن كان السبب في خوض مثل الذهبي في مسائل هذا الكلام ، وإنّه ليعزّ عليّ الكلام في ذلك .

ولكن كيف يسعنا السكوت ؟ وقد ملأ شيخنا تاريخه بهذه العظائم التي لو وقف عليها العاميّ لأضلّته ضلالاً مبيناً ، ولقد يعلم الله منّي كراهيّة الإزراء لشيخنا ، فإنّه مُفيدنا ومعلّمنا ، وهذا النور اليسير الحديثي الذي عرفناه منه استفدناه ، ولكن أرى أنّ التنبيه على ذلك حتمٌ لازمٌ في الدين )(١) .

ـــــــــــــــــــ

(١) طبقات الشافعيّة ٢ : ١١٨ ـ ١٢٠ .

٣٣٦

قول البخاري بخلق الإيمان

وكما قال البخاري بخلق التلفّظ بالقرآن ، كذلك قال بخلق الإيمان ، وهو كفرٌ عند الجمهور وخاصةً الحنفيّة منهم ، يقول صاحب كتاب( الفصول والأحكام ) وهو حفيد صاحب( الهداية ) ما هذا نصّه :

( مَن قال بخلق القرآن فهو كافر ، وكذا مَن قال بخلق الإيمان فهو كافر ورُوي عن بعض السلف أنّه روى عن أبي حنيفة : إنّ الإيمان غير مخلوق وسئل الشيخ الإمام أبو بكر محمّد بن الفضل عن الصّلاة خلف مَن يقول بخلق الإيمان قال : لا تصلّوا خلفه وذكر أبو سهل بن عبد الله ـ وهو أبو سهل الكبير ـ عن كثير مِن السلف : إنْ من قال : القرآن مخلوقٌ فهو كافر ، ومن قال : الإيمان مخلوقٌ فهو كافر .

وحُكي أنّه وقعَت هذه المسألة بفرغانة ، فأُتي بمَحضر منها إلى أئمّة بخارى ، فكتب فيه الشيخ الإمام أبو بكر ابن حامد ، والشيخ الإمام أبو حفص الزاهد ، والشيخ الإمام أبو بكر الإسماعيلي : إنّ الإيمان غير مخلوق ، ومَن قال بخلقه فهو كافر .

وقد خرج كثير مِن الناس مِن بخارى ، منهم محمّد بن إسماعيل صاحب الجامع ، بسبب قولهم : الإيمان مخلوق ) .

ترجمة صاحب الفصول

وصاحب كتاب( الفصول والأحكام ) من العلماء الأعلام المرموقين بين الفقهاء الحنفيّة ، وقد ترجم له الكفوي حيث قال : ( الشيخ الإمام أبو الفتح زين الدين ، صاحب الفصول العادية ، عبد الرحيم بن أبي بكر عماد الدين بن برهان الدين صاحب الهداية عليّ بن أبي بكر بن عبد الجليل الفرغاني المرغيناني الرشداني .

تفقّه على أبيه عماد الدين ابن صاحب الهداية ، وعلى صاحب مطلع المعاني حسام الدين العلياري ، تلميذ الشيخ الإمام مجد الدين المفتي صاحب الفصول محمّد بن محمود الأسروشني ، وهو تلميذ القاضي الإمام ظهير الدين الحسن بن عليّ المرغيناني ، وهو أخذ العلم عن برهان الدين عبد العزيز بن عمر ابن مازه ، عن شمس الأئمّة السرخسي ، عن

٣٣٧

شمس الأئمّة الحلواي ، عن أبي عليّ النسفي ، عن أبي بكر محمّد بن الفضل ، عن الأُستاذ عبد الله السندمولي ، عن أبي عبد الله بن أبي حفص الكبير ، عن محمّد ، عن أبي حنيفة رحمهم الله تعالى .

رأيت في آخر فصوله : يقول جالب هذه الخصائل النفيسة ، وكاتب هذه المسائل الأنيسة ، أبو الفتح بن أبي بكر بن عليّ بن أبي بكر بن عبد الجليل المرغيناني نسباً ، والسمرقندي منشأً ، بعد تقديم الحمد لله والصلاة على محمّد عبده ونبيّه ، والثناء عليه وعلى آله في صباح كلّ يوم وعشيّة إلى آخر كلامه .

ثمّ قال : نجزت كتابته في أواخر شعبان سنة إحدى وخمسين وستّمئة )(١) .

تصريح ابن دحية بانحراف البخاري عن أهل البيت

وقد كان ما لاقاه البخاري من الإهانة والتضليل ، من كبار الأئمّة ، كأبيزرعة وأبي حاتم والذهلي وأئمّة بخارى ، جزاءً لانحرافه عن أمير المؤمنين وأهل البيت الطاهرين عليهم‌السلام ، وإزرائه لهم وكتمانه فضائلهم ومناقبهم في دار الدنيا ، الأمر الذي صرَّح به العلاّمة ذو النسبين ابن دحية في كتاب ( شرح أسماء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) حيث قال :

( ترجم البخاري في صحيحه في وسط المغازي ما هذا نصّه : بعث عليّ ابن أبي طالب وخالد بن الوليد إلى اليمن قبل حجّة الوداع : حدّثني أحمد بن عثمان قال : ثنا شريح بن مسلمة قال : ثنا إبراهيم بن يوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق قال : حدّثني أبي ، عن أبي إسحاق سمعت البراء : بعثنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع خالد بن الوليد إلى اليم ، ثمّ بعث عليّاً بعد ذلك مكانه فقال : مر أصحاب خالد ، مَن شاء منهم أن يُعقّب معك فليُعَقِّب ، ومَن شاء فليقبل ، فكنت ممّن عَقَّب معه قال : فغنمت أَوَاقي ذات عدد .

ـــــــــــــــــــ

(١) كتائب أعلام أخبار من فقهاء مذهب النعمان المختار ـ مخطوط .

٣٣٨

حدّثني محمّد بن بشار قال : ثنا روح بن عبادة قال : ثنا عليّ بن سويد ابن منجوق ، عن عبد الله بن بريدة ، عن أبيه قال : بعث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّاً إلى خالد ليقبض الخمس ، وكنت أبغض عليّاً ، وقد اغتسل ، فقلت لخالد : ألا ترى إلى هذا ، فلمّا قدمنا إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذكرت له ذلك ، فقال :( يا بريدة ، أتبغض عليّاً )؟ فقلت : نعم قال :( لا تبغضه ، فإنّ له في الخمس أكثر من ذلك ) .

قال ذو النسبين رحمه الله :

أورده البخاري ناقصاً مُبتّراً كما ترى ، وهي عادته في إيراد الأحاديث التي مِن هذا القبيل ، وما ذاك إلاّ لسوء رأيه في التنكّب عن هذه السبيل .

وأورده الإمام أحمد بن حنبل كاملاً محقّقاً ، إلى طريق الصحّة فيه موفّقاً ، فقال فيما حدّثني القاضي العدل ، بقيّة مشايخ العراق ، تاج الدين أبو الفتح محمّد بن أحمد بن المندائي ـ قراءة عليه ، بواسط العراق ـ بحقّ سماعه على الثقة الرئيس أبي القاسم ابن الحصين ، بحقّ سماعه على الثقة الواعظ أبي عليّ الحسين ابن المذهب ، بحق سماعه على الثقة أبي بكر أحمد بن جعفر بن حمدان القطيعي ، بحقّ سماعه مِن الإمام أبي عبد الرحمان عبد الله ، بحق سماعه على أبيه إمام أهل السنّة أبي عبد الله أحمد بن حنبل قال : ثنا يحيى بن سعيد ، ثنا عبد الجليل قال : انتهيت إلى حلقةٍ فيها أبو مِجلَز وابنا بريدة ، فقال عبد الله ابن بريدة : أبغضتُ عليّاً بغضاً لم أبغضه أحداً قط .

قال : وأحببت رجلاً لم أُحبّه إلاّ على بغضه عليّاً قال : بعث ذلك الرجل على خيل فصحبته ، وما أصحبه إلاّ على بغضه عليّاً قال : فأصبنا سبياً قال : فكتب إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ابعث علينا مَنْ يخمّسه قال : فبعث إلينا عليّاً ، وفي السبي وصيفة هي أفضل مَن في السبي ، قال : فخمّس وقسّم ، فخرج ورأسه يقطر ، فقلنا : يا أبا الحسن ، ما هذا ؟ قال : ألم ترَوا إلى الوصيفة التي كانت في السبي ، فإنّي قسّمت وخمّست فصارت في الخُمس ، ثمّ صارت في أهل بيت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ صارت في آل عليّ ووقعْت بها .

٣٣٩

قال : فكتب الرجل إلى نبيّ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قلت : ابعثني ، فبعثني مصدّقاً قال : فجعلت اقرأ الكتاب وأقول : صدَق صدَق ، فأمسَك يدي والكتاب قال :( أتبغض عليّاً )؟ قال : قلت : نعم قال :( فلا تبغضه ، وإنْ كنت تحبّه فازدد لهُ حبّاً ، فو الذي نفس محمّدٍ بيده ، لنصيب آل عليّ في الخُمس أفضل مِن وصيفة ) . قال : فما كان مِن الناس أحد بعد قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحبّ إليّ مِن عليّ .

قال عبد الله : فو الذي لا إله غيره ، ما بيني وبين النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

في هذا الحديث غير أبي بريدة )(١) .

وقال ابن دحية في موضعٍ آخر من كتابه المذكور ، بعد نقل حديثٍ عن مسلم :

( بدأنا بما أورده مسلم ؛ لأنّه أورده بكماله ، وقطّعه البخاري وأسقط منه على عادته كما ترى ، وهو ممّا عِيب عليه في تصنيفه على ما جرى ، ولا سيّما إسقاطه لذكر عليّرضي‌الله‌عنه ) .

ترجمة أبي الخطّاب ابن دحية

ولا يخفى أنّ أبا الخطّاب ابن دحية مِن أكبر علماء القوم وأشهر حفّاظهم .

قال ابن خلّكان بترجمته :

( أبو الخطّاب عُمر بن الحسن بن عليّ بن محمّد بن الجميل بن فَرَح بن خلف بن قَومِس بن مُزْلال بن مَلاّل بن بدر بن دِحْية بن فروة الكلبي ، المعروف بذي النسَبَين ، الأندلسي البلنسي الحافظ نقلتُ نسبَه على هذه الصّورة من خطّه .

كان يذكر أنّ أُمّه : أمة الرحمان بنت أبي عبد الله بن أبي البسام موسى بن عبد الله بن الحسين بن جعفر بن عليّ بن محمّد بن عليّ بن موسى بن جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب ( رضي الله عنهم ) ، فلهذا كان يكتب بخطّه : ذو النّسبين بين دحية والحسين ، وكان يكتب أيضاً سبط أبي البسام ، إشارة إلى ذلك .

ـــــــــــــــــــ

(١) المستكفى في أسماء النبيّ المصطفى ـ مخطوط .

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679