موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ الغيبة الصغرى) الجزء ١

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ الغيبة الصغرى)5%

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ الغيبة الصغرى) مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الإمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف
الصفحات: 663

الجزء ١ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 663 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 37573 / تحميل: 7932
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ الغيبة الصغرى)

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ الغيبة الصغرى) الجزء ١

مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

تا ريخ الغيبة الصغرى

الشهيد السعيد السيد محمد محمد صادق الصدر

١

٢

موسوعة الإمام المهدي (ع):

الكتاب الأول:

تاريخ الغيبة الصغرى

يتكفّل بالبحث والتحليل، بأُسلوب جديد وعميق،

تاريخ الإمامين العسكريين والإمام المهدي (عليه السلام)

وسُفرائه في غيبته الصُغرى

تأليف:

محمد الصدر

٣

٤

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، وأفضل الصلاة

على أشرف الخلق محمد وآله الطاهرين

٥

٦

كلمة مكتبة الرسول الأعظم (ص):

من دواعي الاعتزاز أن تثابر " دار التعارف للمطبوعات "، بوعي وإيمان، وجَلَد وحزم، في أداء رسالتها الثقافية الإسلامية بعطاء ناضج، وأقلام كفوءة حية، ومحلولات فكرية جريئة، تنسجم وطبيعة الظروف المعاشة لواقعنا الإسلامي.

والآن، وفي امتداد ذلك الخط الذي رسمته مكتبتنا لنفسها في تبليغ أهدافها ودعوتها، نقدّم للقرَّاء الكرام كتاباً جديداً، يعالج موضوعاً حسَّاساً، من أشد المواضيع صلة بحياتنا الفكرية والتاريخية، ومن أبرزها أهمية في كيان المجتمع من حيث بنائه الفكري والتاريخي.

ولمَّا كانت قضية الإمام المهدي من القضايا الفكرية الحسَّاسة في الإسلام، التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالجانب العقيدي من تفكيرنا الإسلامي؛ بالنظر إلى ما أُثير حولها من علامات الاستفهام ومن الشكوك الكثيرة، التي انطلقت لتناقش هذه العقيدة وتحاكمها على ما تحسبه علماً وتحليلاً واجتهاداً.

لذلك شعرت " دار التعارف " بالحاجة إلى أن تُقدِّم للقرَّاء هذا الكتاب، الذي يحاول أن يعالج الفكرة ويؤرِّخ لها ويدفع الشبهات عنها، لتعود - كما هي في واقعها الأصلي - حقيقة ناصعة في أفكار

٧

الجيل المعاصر، الذي يعيش القلق والحيرة والتطلُّع نحو المصلح المنتظر، الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.

أمَّا قلم الكاتب، فهو من الأقلام الإسلامية التي أعطت الفكر الإسلامي وأغنته بالكثير من الأبحاث والأحاديث الرائعة. وقد عرفه القرَّاء في أكثر من كتاب، وفي أكثر من بحث، كاتباً واعياً يعيش الإسلام فكراً وأسلوباً وحياة.

ونحن على ثقة بأن هذا الكتاب سوف يؤكِّد بنفسه على أنه يحمل بين أضلاعه فكراً ومادةً، ومنهجاً وأسلوباً، وحتماً سوف ينال رضا القرَّاء وإعجابهم.

وأملنا بالله سبحانه أن نكون قد وفِّقنا إلى حسن الاختيار، وأداء الرسالة.. ومنه نستمد التوفيق.

٨

الإهداء

سيدي ومولاي ومولى المؤمنين، بقية الله في أرضه، والمذخور لنشر عدله في بريَّته.. الحجة بن الحسن المهدي (عليه السلام).

أرفع إلى مقامك السامي.. بكل خشوع.. هذا المجهود المتواضع.. عسى أن يخدم - بما بذلت فيه من مجهود - قضيتك الكبرى، التي كنتَ ولا زلتَ وستبقى، الرائد الأول لرفع رايتها، وغرس بذرتها، وجني ثمارها.

وغاية أمله - يا سيدي - وفخره.. أن يحظى منك بنظرة رحمة، ولمسة دعاء.. وأن تراه عملاً خالصاً مخلصاً، نقياً من شوائب الانحراف.. وخطوة موفقة لانتظار مستقبلك.. مستقبل الإسلام.. حين تملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً

المؤلِّف

٩

١٠

هذا الكتاب

١١

١٢

قرنٌ من الزمن على وجه التقريب.. هو الذي يحاول هذا الكتاب أنْ يعرض له تاريخاً وتحليلاً وتبويباً، على ضوء سائر المصادر الإسلاميّة التي تعرّضت لذلك، سَواء في ذلك التاريخ العام، أم التاريخ الخاص الذي انبثق عن أقلام علمائنا الأبرار.

قرنٌ من الزمن، حافلٌ بروائع الأحداث وجلائل الأخطار، أنموذجٌ فذٌّ من القرون... سَواء على الصعيد السياسي العام - من حيث ما آلت إليه الخلافة العبّاسية يومذاك، مِن الضعف والتصدّع - أم من ناحية الأئمّة، وكيف كانوا يخوضون غِمار البؤس والأخطار بكلّ حذَقٍ وصبر.

أنموذج خاص، لا مثيل له في الدهر، بالأُسلوب الخاص الذي اتخذه الإمام المهدي (عليه السلام) في قيادة شعبه، حال اختفائه عن مسرح الناس، عن طريق السُفَراء الأُمناء الذين كانوا ينقلون عنه التوجيهات، ويقومون بالتنفيذ.

قرنٌ من الدهر، تكفّله هذا الكتاب... ولم يكن كلّه متضمّناً للغيبة الصغرى، وإنْ احتملت معظمه، ولكنّ الكلام في مثل هذه الفترة الحرِجة الدقيقة، التي يكتنفها الغموض من العديد من جوانبها، ولم تسلم من الأحكام العشوائيّة من عددٍ من الكتّاب المسلمين وغيرهم

١٣

، هذه الفترة تحتاج في عرضها الأمين الدقيق، إلى تقديمٍ كبير للظروف السابقة عليها، حتى نعرف بوضوحٍ وتفصيل العوامل الأساسيّة التي أدّت إليها وبلوَرَت الأحداث فيها.

ومن ثمّ سار منهج هذا الكتاب، على بيان مقدّمة، بادئ ذي بِدء في بيان نقاط الضعف الأساسيّة في تاريخنا الإسلامي... والتي تعيق الباحث عن التوصّل إلى جملة ممّا يهمّه ويؤثّر في بحثه، من قضايا الإسلام والمسلمين.

ثمّ أعطى فكرةً كافيةً عن تاريخ الإمامين العسكريّين (عليهما السلام)، وهما عليّ بن محمّد الهادي (عليه السلام) جدّ الإمام المهدي (عليه السلام) والحسن بن عليّ (عليه السلام) أبوه.... وما كان يتّخذه هذان الإمامان من تدابيرٍ وما يقومان به من أعمالٍ تجاه الدولة وتجاه قواعدهم الشعبية.

حتّى ما إذا حملنا من ذلك فكرةً كافية... وصلنا إلى تاريخ الغيبة الصغرى... لنتعرّف على الاتّجاهات العامّة والأعمال التفصيليّة، التي كان يقوم بها الإمام المهدي (عليه السلام) وسفراؤه، وما كانت تقوم به الدولة تجاههم من أعمالٍ، وما كانت تتبنّاه من أفكار.

ومن هنا قُسّم هذا الكتاب إلى قسمين رئيسيّين - أوّلهما: يبدأ بإشخاص الإمام الهادي (عليه السلام) إلى سامرّاء عام ٢٣٤، إلى وفاة الإمام العسكري (عليه السلام) عام ٢٦٠... وثانيهم: يبدأ بما انتهى به القسم الأوّل: وينتهي بوفاة السفير الرابع من سُفَراء الإمام المهدي عام ٣٢٩.

وقد قرنّا كلا من القسمين بفصلٍ تحليليٍّ لأهمِّ الحوادث والاتجاهات

١٤

التي كانت سائدة في كلٍّ من هذَين العصرين... بحسَب ما يدلّنا عليه التاريخ الإسلامي العام.. بما له من مصادر متوفّرة.

وهذا الكتاب... بما له من تجاهٍ تاريخي، لا يتكفّل الدخول في مجال الجدَل العقائدي، الذي قد يُثيره الكلام عن الإمام المهدي (عليه السلام)، كإثباتِ وجوده وطول عمره وغير ذلك.... إنْ لم يكن هذا التاريخ بنفسه كافياً لإثبات القطْع بتواتر أخبار الإمام المهدي (عليه السلام) في الإسلام... وسيكون لهذا الجدَل، وغيره من البحوث حول الإمام المهدي (عليه السلام) مجالاتٌ أُخرى، عسى الله عزّ وجل أنْ يوفّقنا إلى خوض غِمارها في سلسلة من البحوث المقبلة، في هذه الموسوعة إنْ شاء الله تعالى.

المؤلّف

١٥

١٦

مقدّمة:

نقاط الضعف في التاريخ الإسلامي

١٧

١٨

تمهيد:

إنّنا حين نُريد أنْ نستوحي تاريخنا الإسلامي الخاص، نجده بشكلٍ عام، غامضاً مليئاً بالفجَوَات والعثَرات، يحتاج في تصفيَته وترتيبه وأخذ زُبدته المصفّاة والعِبرة المتوخّاة، إلى جُهدٍ كبير وفكرٍ مضاعَف جليل.

وهذا يعود إلى عدّة أسباب، لعلّنا نستطيع أنْ نلم ببعضِ جوانبها المهمّة فيما يلي:

الجانب الأوّل:

ما يرجع إلى واقع التاريخ المُعاش آنذاك... أي أنّ نفس حوادث التاريخ وتحركّات أعلامه، كان مُقتضباً غامضاً مقيّداً.

١٩

وذلك: أنّ أئمّتنا (عليهم السلام)، كانوا يمثّلون على طول الخط، دَور المعارضة الإسلاميّة الصامدة، ضدّ خطَر الجهاز الحاكم، الذي يُمثّل الانحراف عن تعاليم دينهم القويم، بقليل أو بكثير؛ فإنّ الحُكم وإنْ كان قائماً على اسم الإسلام، ولم يكن الخليفة ليتسنّم مركزه الكبير، إلاّ باعتباره خليفة الرسول (صلّى الله عليه وآله) والخلفاء الراشدين من بعده.

إلاّ أنّ شخص الخليفة، إذ لم يكن قد تفّهم الإسلام على حقيقته أو تشرّب روحه وميزان عدله؛ فكان يُمارس الحكم على مقدار فهمه وأُفُق تفكيره، مضافاً إلى سيطرة الآخرين على كثير مِن مراكز الدولة الحسّاسة، ممّن لا يُفضلّون على الخليفة نفسه، بالوعي والروح، وليسوا في حالٍ يُحسَدون عليه من هذه الناحية.

فكان موقف أئمّتنا (عليهم السلام) ضدّ الجِهات الحاكمة رأياً وتطبيقاً، موقفاً حازماً صارماً، مستمدّاً مِن حكمة الله تعالى وقوّته وتوفيقه، فكان لهم موقفان أساسيّان، لا ترتاح إليهما الجهات الحاكمة:

الموقف الأوّل:

مطالبتهم الدائمة، نظريّاً - على الأقل - بمنصب رئاسة الدولة الإسلاميّة وتولّي الإمامة في الأُمّة المرحومة، وقيام كيان الأئمّة (عليهم السلام) في تابعيهم وقواعدهم الشعبية الموسّعة، على ذلك.

فكان هذا ممّا يهدّد الخلافة الأَمويّة والعبّاسية في الصميم، ويقضّ مضاجع الخُلفاء، ويجعلهم حذِرين كلّ الحذَر ممّا يقوم به الأئمّة من

٢٠

أفعالٍ وما يصدر عنهم من أقوال، ويجعلونهم دائماً تحت المراقبة والاحتياطات المشدّدة، بما يملك الحُكم من سيطرةٍ ونفوذ.

الموقف الثاني:

ممّا يرجع إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإصلاح في أُمّة جدّهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، نتيجةً للظلم والانحراف والحروب المنحرفة والمصالح الشخصيّة، التي كانت نافذة المفعول في المجتمع، والذي خلّف - في أغلَب فترات التاريخ - بؤساً اقتصاديّاً وتخلّفاً اجتماعيّاً مؤسفاً.

فكان الأئمّة (عليهم السلام) يحسّون بواجبهم، ويشعرون بمسئوليّتهم، بصفتهم الممثّلين الحقيقيّين لنبيّ الإسلام (صلّى الله عليه و آله و سلّم)، على ما يعتقدون - على الأقل - تجاه إصلاحِ وتقويمِ المعوَج في الأُمّة الإسلاميّة، بمقدار إمكانهم والفُرَص التي كانت تسنَح لهم في خلال الأيّام.

وهُم في كلّ ذلك، كانوا يتوخّون ما تقتضيه المصلحة الإسلاميّة العُليا في ذلك الحين، بما يُواجه المجتمع من مشاكل والدولة مِن أزَمات.

فكان موقفهم، تجاه صراع الدولة الإسلاميّة، بما فيها الجهاز الحاكم، مع الكُفر، ومع الأخطار المُحدِقة بالمسلمين، من قِبل الأعداء، مادّياً وعقائدياً، موقف المؤيّد للجهات الحاكمة، تأييداً مُحترساً مقتضباً، خَشية أنْ تقَع هذه الجِهات في الانحراف، حتى في هذا الحقل نفسه.

٢١

وكان موقفهم، تجاه المشاكل الداخلية للدولة الإسلاميّة، تلك المشاكل التي كان يُثيرها حكّام أو جماعات منحرفة في الداخل، موقفَ المراقب والمُصلِح والناصح، ولم يكن مثل هذا الموقف بسائغ في نظَر سائر الحكّام مِن خُلفاء ووزراء وقضاة، وكانوا يتّقون من ذلك ويحذَرونه بعُمق، ويجعلون الاحتياطات المشدّدة أيضاً ضدّه، فكان هذان الموقفان الإسلاميّان من أئمّتنا (عليهم السلام) مثيراً لحقد الجهاز الحاكم عليهم وتحذّره منهم، قولاً وفِعلاً، وبالطبع فإنّ الأئمّة (عليهم السلام) كانوا يعملون بمقدار الإمكان، وعند ورود الفُرَص السانحة، آخذين بنظر الاعتبار هذا الضغط المتزايد الوارد إليهم والموجّه إليهم، فكان هذا الضغط موجباً لكفكفة نشاط الأئمّة (عليهم السلام) وقلّة إصلاحاتهم وضآلة تأثيرهم، بالنسبة إلى الحاجات الكُبرى للمجتمع.

ومِن ثمّ كان أئمّتنا (عليهم السلام) يقتصرون في غالب نشاطاتهم، على الدوائر الخاصّة من أصحابهم، وفي حدود ارتفاع الضغط أو قلّته أو المخاتلة معه، وكانت تتّسع هذه الدائرة، أو تضمر أو بحسَب الظروف التي يمرّ بها الإمام (عليه السلام) وتتناسب كثرتها تناسباً عكسيّاً مع ضعف الجهاز الحاكم.

فكان إذا ضعُفت الخلافة، ووهى جانبها ينفتح أمام الإمام (عليه السلام) في ذلك العصر، فرصة العمل والجهاد والدعوة، كما حدَث في زمَن الإمام الصادق جعفر بن محمّد (عليه السلام) الذي عاشَ في عصر تحول الدولة الإسلاميّة من الخلافة الأمويّة إلى العبّاسية، فاشتغل ببث العلوم

٢٢

الإسلامية والتعاليم الإلهيّة على أوسع نطاق، وكان إذا قَوِيَت الخلافة أو قوي صنّائعها والمنتفعون منها، فإنّه ينغلِق أمام الإمام (عليه السلام) في ذلك العصر، فُرَص العمل والجهاد والدعوة، إلاّ في أضيَق الحدود، كما حدَث في العصر الذي نؤرّخه، حيث سيطرَت الموالي وجماعة الأتراك على الحكم، وجعلوا الأئمّة (عليهم السلام) تحتّ أشدّ الرقابة وأعمق الحذَر.

والموقف نفسه، كان هو موقف أصحاب الأئمّة (عليهم السلام) والمجاهدين بين يديهم، فإنّهم إنْ توسّع إمامهم (عليه السلام) في العمل توسّعوا وأنْ ضيّق ضيّقوا، وكان الإمام (عليه السلام) ينهى أصحابه في أوقات الشدّة والضيق عن التصريح بما يُخالف القانون والسائد والوضع القائم.

والإمام (عليه السلام) بشخصه بصفته الرئيس الفعلي، لقواعد الشعب الكبيرة، يكون - على كلّ حال - في حصانة جزئيّة عن التنكيل الفعلي المكشوف من قِبل الحاكمين، لئلاّ يثيروا عليهم الرأي العام والشعب بأكمله آخذين بنظر الاعتبار، نظر التقديس والإجلال الذي كان ينظره الناس إلى أئمّة الهدى (عليهم السلام)، ذلك النظر الذي أجمَع المسلمون على صحّته وصوابه وإخلاصه، وإنْ كان جملة منهم، لا يؤمنون بإمامتهم.

ومن ثمّ كان الإمام في حصانة جزئيّة من التنكيل الفعلي الصريح، وهذا هو الذي كان شأن الأئمّة (عليهم السلام) من الإمام الرضا إلى الإمام العسكري (عليهما السلام)، مضافاً إلى أنّ سياسة الخُلفاء قامت بالنسبة إلى الإمام الجواد (عليه السلام) ومن بعده، إلى تقريبهم للبلاط وإسكانهم في

٢٣

بروجٍ عاجيّة، توخّياً إلى فصلهم التام عن قواعدهم الشعبية، ونشاطهم الجهادي، على ما سيأتي تفصيله.

ولئن كان موقف الأئمّة، محصناً من الناحية الشكلية، إلاّ أنّ موقف أصحابهم وتابعيهم، ومَن عرفه الحكّام بالولاء لهم، كانوا يذوقون سوط العذاب، إلاّ أنْ يتّقوا منهم تقاة، فكان أقلّ ما يُلاقيه الفرد منهم العزل الاقتصادي والاجتماعي والسياسي.

فينتج من ذلك - بكلِّ وضوح - أمران:

الأمر الأوّل:

ضآلة النشاط السياسي والاجتماعي، من قِبَل الأئمّة (عليهم السلام) وأصحابهم، ذلك النشاط الذي لو كان موجوداً لفتَح آفاقاً تاريخيةً واسعة، بقِيَت مطويّة وغامضة أمام مَن يأخذ التاريخ من زاوية موضوعية محضة.

الأمر الثاني:

إنّ جملة من أعمال الأئمّة (عليهم السلام) وأصحابهم وأقوالهم، كانت سرّية بطبيعتها وأصل ظروف وجودها، بحيث لم يكن ليتجاوز خبرها الاثنين أو الجماعة القليلة، وكانوا يتبانون على سَتره وكتمانه بأمرٍ من الإمام (عليه السلام)، ولَم يكن ممّا يُكتب على صفَحَات التاريخ. شأن كلِّ حزبٍ سرّي معارضٍ ينزل إلى حلَبَات الجهاد.

الجانب الثاني:

ما يرجع إلى معرفتنا بذلك التاريخ ومقدار اطلاعنا عليه وهو

٢٤

الذي يُمثّل الصورة التي أعطاها المؤرّخون في كتبهم عن تلك الفترات، وهل هي مطابقة للواقع أم لا، وبأيِّ مقدارٍ كانت سِعة الصورة ودقّتها وعمقه؟ وإلى أيِّ مدى كان فهم المصوّر المؤرّخ واستيعابه للأحداث، ولِما وراءها من فلسفةٍ وعللٍ ونتائج.

لعلّ مِن مستأنَف القول... الخوض في البحث الذي يُذكر عادةً للطعن في أصلِ التاريخ وكيفيّة جمعه وترتيبه، ويذكر لذلك عدّة وجوه.

الوجه الأوّل:

إنّ المؤرّخ ليس إلاّ بشراً مثلنا، له ما لنا من جوانب القوّة، وعليه ما علينا من نقاط الضعف، والمشاهد بيننا بالوجدان، بأنّ قضيّةً ما قد تقَع في البلدة مثلاً يُشاهدها المِئات أو الآلاف، إلاّ أنّنا نسمع من كلِّ فرد شاهد عيان نقلاً لحوادثها يختلف عن نقل الآخر بقليل أو بكثير، حتى إنّه قد يصِل الفرْق إلى حدِّ التناقض.

هذا في المُشاهدين، فكيف الحال في النقل والرواية، فإنّ الحال تزداد سوءاً، ولا يكاد يبقى للحادثة المرويّة جسم، ولا روح، هذا في البلَد الواحد والمشاهدين الكثيرين، فكيف في بُعد الزمان وتفرّق المكان وقلّة المشاهدين وطول سند الرواية؟! كما هو متوفّر في كتب التاريخ المتوفّرة.

الوجه الثاني:

إنّ المؤرّخ، كأيّ إنسان، ليس إلاّ مزيجاً غريباً من مجموعةٍ مِن

٢٥

عواطف وغرائز وعقائد ومسبَّقات ذهنية وعادات حياتية، ولا يمثِّل العقل والفكر منه إلاّ بعضها من هذا المزيج. والمؤرّخ وإن كان يتخيّل ويفترض أن يكتب تاريخه بعقله وفكره، إلاَّ أن هذا واضح البطلان. وإنما هو يكتب تاريخه بمجموعة عواطفه وسائر مرتكزاته، وبخاصة في الحوادث التاريخية التي تقترن بخلاف بين جماعتين، أو بعواطف معينة.

الوجه الثالث:

إن هناك نحوين من الملاحظة - بحسب الاصطلاح العلمي:

أولهما: طريقة الملاحظة المنظَّمة التي يعتمد الباحث فيها النظر ويتقصَّى الحقائق حول حادثة معينة أو عدة حوادث حين وقوعها.

ثانيهما: الملاحظة المشوشة غير القائمة على التنظيم والتعمّد، كالتاجر يذهب إلى بلد معين ليستورد منها البضاعة، أو السائح يذهب إليه ليشاهده، وحين يعود، يُسأل عن ذلك البلد، وعن حقائقه ووقائعه، في حين أنه قد شاهدها صدفة وأحسَّ بها إحساس عشوائياً، ولم يتعمّد فهمها ولا التفكير فيها على وجه الخصوص.

والتاريخ مدوَّن عادة بالنحو الثاني من الملاحظة؛ لأن الأشخاص الذين كانوا يعيشون تلك الأزمنة، إنما عاشوها بصفتها حياة عادية، لا يعيدون فيها النظر ولا يتعمّقون في أسبابها ونتائجها. ثم يأتي الراوي منهم إلى المؤرّخ ليعطي له ما علق في ذهنه من هذا الخضم الزاخر الذي عاشه في حياته، ممّا قد مر أمامه مروراً عابراً.

٢٦

لا أريد أن أدخل في البحث عن هذه المشكلات، فإننا ينبغي أن نكون فارغين عن أجوبتها قبل الدخول في البحث التاريخي، وإلاّ فالأولى لمَن يؤمن بحرفية هذه المشكلات وصدقها، ألاَّ يحاول قراءة أي حرفٍ من التاريخ.

٢٧

طرق تذليل المشاكل التاريخية:

يقتضي التحقيق التاريخي تذليل هذه المشكلات بأحد الأساليب الآتية:

الأسلوب الأول: الحصول على التواتر في النقل التاريخي، فإذا اتفق كلام عدد كبير من الناقلين على وصف حادثة معينة؛ كان ذلك كافياً لإثباته تاريخياً، بل القطع به في كثير من الأحيان.

ولو اتفقوا على بعض خصائص الحادثة، كان ذلك ثابتاً بالتواتر، دون ما زاد عليه. ولو اختلفوا في كل الخصائص مع اتفاقهم على أصل الحادثة، كان أصل حدوثها متواتراً فقط.

الأسلوب الثاني:

إننا إذا لم نستطع أن نحصل على التواتر المنتِج للعلم، فبالإمكان الحصول على الاطمئنان والظن الراجح بحصول الحادثة ناشئاً من جماعة يطمأن بعدم اتفاقهم على الكذب، وهو معنى الاستفاضة في النقل؛ فيما

٢٨

إذا اتفق أكثر المؤرّخين، أو جملة منهم، على شيء معين، مع سكوت الباقين عن التعرُّض إليه أو نفيه.

وهذان الأسلوبان يدفعان، فيما يتحَّققان فيه، جميع الشبهات الثلاثة التي أوردناها، إذ بعد حصول العلم أو الاطمئنان بوقوع الحادثة، لا يضر بذلك أن يكون الناقل لهما متحيِّزاً لمذهب أو لمصلحة، أو أن ملاحظته لم تكن منظَّمة؛ إذ المفروض، اتفاق الناقلين على النقل وعلى وقوع الحادثة.

الأسلوب الثالث:

إننا بعد اليأس عن حصول العلم أو الاطمئنان، من النقل التاريخي في نفسه، نستطيع الحصول على الوثوق بقول الناقل، وإن كان منفرداً، بحيث لا يبقى للشبهات السابقة أثر ملتفت إليه.

وهذا يتم بأحد نحوين:

أولهما:

الاطمئنان، بعد البحث في ترجمة هذا المؤرِّخ والاطلاع على خصوصياته الشخصية، بأنه ثقة مأمون عن الكذب والدس والخداع، فيطمأن بأنه لم يتعمَّد الكذب في نقله التاريخي.

ثانيهما:

الاطمئنان بوجود الروح العلمية الموضوعية في نفس هذا المؤرّخ، باعتبار أن الإنسان بعد أن يتمرّس في البحوث العلمية، ويتعوّد على الأسلوب العلمي، فإنه يغلب على الظن حصول الموضوعية العلمية

٢٩

والتجرّد في نفسه، جهد الإمكان. أو على الأقل، لا يضع خبراً مكذوباً نتيجة لمذهبه أو مصلحته، أو بأي دافع شخصي آخر.

الأسلوب الرابع:

الحصول على الاطمئنان بوقوع الحادثة نفسها، بقرائن خارجية أو اعتبارات عقلية، توجب الظن بأنه من المناسب وقوع هذه الحادثة أو عدم وقوعها. كما لو كان القول المنسوب إلى الشخصية التاريخية، أو الفعل المسند إليه، مناسباً مع سلوكه العام المعروف عنه، أو مع وجهة نظره تجاه الدين والحياة.

ولكن هذا لا يضر بوثاقه المؤرّخ الناقل، في سائر ما نقله من أخبار التاريخ، إذ قد يكون الكذب غير مستند إلى تعمّده الشخصي، بل هو إما مستند إلى السهو منه، أو من الرواة السابقين عليه أو اللاحقين له، أو إلى عمّدهم أحياناً، ولا يتحمّل المؤرّخ نفسه، من المسئولية العامة، إلاّ إذا وجدنا في كلامه الكثير من هذه الهفوات، بحيث ينثلم الظن بوثاقته أساساً.

كما أن هذا الأسلوب الرابع، قد يوجب قوة النقل التاريخي الضعيف أو الشاذ؛ بحصول الاطمئنان به بما تقوم عليه من قرائن وما تحفه من اعتبارات.

وبهذه الأساليب الأربعة، نستطيع أن ندفع الشبهات الثلاثة العامة على النقل التاريخي، أو نقلل من تأثيرها جهد الإمكان. فاحتمال التحيُّز يرتفع بقليل أو كثير، مع تعدّد النقل وقيام القرائن الخارجية

٣٠

على صدقه، كما أن احتمال الكذب بدافع شخصي آخر، يكون مرتفعاً لنفس السبب.

كما أننا بعد تأكدنا يقيناً أو اطمئناناً، من صدق الكلام، لا يهمنا أن تكون الملاحظة منظَّمة أو غير منظَّمة. على أن المطلوب في الملاحظة، هو ترسيخ الحادثة في الذهن وتأكيدها في الذاكرة، وهو ما يتوفّر في الملاحظات غير المنظَّمة أيضاً، كما في الحوادث التي يعتاد الإنسان عليها أو يهتم بها اهتماماً كبيراً، أو يتعجّب منها تعجّباً شديداً، أو يفرح بها فرحاً عظيماً أو يخافها خوفاً كبيراً.

فإن الراوي الذي يعيش الحادثة على إحدى هذه المستويات، يندمج بها إلى حدٍ كبير، مما يوجب رسوخها في ذهنه وتعمُّقها في ذاكرته، مما يفتح للمؤرّخ فرصة كبيرة للاستفادة في هذا السبيل. ويندرج كأمثلة لذلك: حوادث الحروب، والمناصب السياسية أو الدينية، والأمور المالية المهمة، سواء منها الخاصة أو العامة، والمعجزات، والوساطات بين الدول أو بين أهل النفوذ.. وغير ذلك.

على أننا لا نعدم الملاحظة المنظَّمة بالنسبة إلى جملة من المؤرّخين. فإن المؤرِّخ وإن كان يعرض للحوادث السابقة على عصره بطريق الرواية، إلاَّ أن بالنسبة إلى سني حياته، وخاصة بعد عزمه على تأليف كتابه التاريخي، لا شك أنه سيلاحظ حوادث عصره بالملاحظة المنظَّمة الناشئة من تعمُّد التسجيل وعمق التفكير. وهذا يتوفّر عادة

٣١

في أواخر جوامع التاريخ، كالطبري والمسعودي وابن الأثير وغيرهم.

وعلى أي حال، فقد كان التعرُّض لهذه المشكلات وحلها استطراداً على ما نحن بصدده، من عرض مشكلات تاريخنا الخاص، وما هو مورد كلامنا في هذا الكتاب. فلئن كانت هناك أساليب تخفف من شبهات التاريخ بشكل عام، وتؤثِّر بدورها في تاريخنا الخاص، إلاَّ أن تاريخنا يستقل بمشاكل وعقبات، يكون تذليلها أصعب وأعمق إلى حدٍ كبير.

٣٢

مشكلات تاريخنا الخاص:

وتتلخص المشكلة التي نواجهها في حقلنا، وهو تاريخ الأئمة (عليهم السلام) وأصحابهم، أن المؤرِّخين الذين تعرّضوا لهذا التاريخ، على ثلاثة أقسام:

القسم الأول:

المستشرقون ومَن حذا حذوهم وحاول تقليدهم من الشرقيين المسلمين.

وديدنهم العام على أن ينظروا إلى التاريخ الإسلامي من زوايا خاصة، تتلخص فيما يلي:

الأولى: الزاوية المادية التي يؤمنون بها.. إيمانهم بالحضارة الغربية ووجهة نظرها إلى الكون والحياة، تلك الوجهة التي نتجت بعد عصر النهضة، وأنتجت فصل الدين عن الدولة والكفر بسائر القيم الروحية والأخلاقية.

الثانية: الزاوية المسيحية التي تفترض سلفاً، ومن دون إعطاء أي فرصة للمناقشة، أن الدين الإسلامي باطل، وأن محمد بن عبد الله

٣٣

(صلَّى الله عليه وآله) ليس بنبي، وأن القرآن ليس كتاباً سماوياً؛ فضلاً عن أصحابه وخلفائه وأئمتنا (عليهم السلام).. فضلاً عن أفكار غيبية قد نؤمن بها، كالمعجزات ووجود المهدي، وغيرها.

الثالثة: الزاوية الاستعمارية . فإن جملة منهم عملاء من حيث يعلمون أو لا يعلمون، للدول التي ينتمون إليها أو للحضارة التي يعيشون فيها. فالمستشرق إما مأجور حقيقة، أو "عضو شرف" في قائمة الدس والتلفيق، حيث يشعر بضرورة الانتصار لدولته أو مصالح دينه أو قومه أو لأي شعار من الشعارات المعادية للإسلام.

على أن الأجر المبذول للتبشير الاستعماري المسيحي، ليس بالقليل ولا الضئيل، بل هو مما يعد بملايين، يسيل لها لعاب كثير من المفكرين وتشتري بها عقول عدد من الباحثين.

ومن ثم لم تصلح كتب المستشرقين لإعطاء الباحث صورة واضحة سليمة عن التاريخ الإسلامي، وإنما غاية الباحث في الإطلاع على ما كتبوه، هو التعرُّف على ما فيها من النقد والدس والتلفيق، ومحاولة الجواب عليه، وتذليل ما عرضت فيه من مشكلات.

القسم الثاني:

المؤرِّخون العامة من مؤرِّخي الإسلام، غير الشيعة الإمامية، أولئك الذين يذكرون تاريخ أئمتنا (عليهم السلام) وهم لا يؤمنون بإمامتهم ولا طاعتهم ولا قيادتهم.

وهذا القسم من المؤرِّخين، هو الذي تؤلِّف مؤلَّفاتهم الجزء الأكبر

٣٤

والأهم من التاريخ الإسلامي العام، أو التراجم أو الحديث التاريخي. وأقصد به الروايات التي تتضمَّن حوادث تاريخية معينة،كالطبري وابن الأثير وأبو الفداء وابن خَلِّكان وابن الجوزي وابن الوردي، وبعض ما تتضمنه الصحاح الستة من الحديث التاريخي.

وأعدل ما يقال بالنسبة إلى تعرُّض هؤلاء المؤرِّخين وأمثالهم إلى حياة الأئمة (عليهم السلام): أنه تعرُّض موجز عابر، يكتفي بالحادثة الواحدة والفكرة الشاردة، ويتجنَّب - بحذر متعمَّد - الخوض في تفاصيل تواريخهم (عليهم السلام).

والسبب في ذلك؛ فيما أرى، يعود إلى عدة أمور:

السبب الأول: التعصُّب المذهبي الذي يتجلّى على أشكال متعدِّدة في ذهن مؤرِّخ وآخر:

الشكل الأول:

عدم الإيمان بقدسية الأئمة (عليهم السلام) وكمالهم، بل الميل إلى ضد ذلك من الطعن فيهم والتنزيل من شأنهم.

الشكل الثاني:

أن المؤرِّخ وإن كان يؤمن بقدسيتهم وكمالهم؛ إلاَّ أن ضيق نظره وضحالة تفكيره، تقوده إلى الاعتقاد بأن شيعتهم أعداء تقليديين له ولأهل مذهبه. إذن، فمن خطل القول أن يهتم بتمجيد قادة أعدائه وأئمتهم.

الشكل الثالث:

أنه وإن كان التعصُّب على ذهن المؤرِّخ قليلاً، باعتبار وعيه

٣٥

الإسلامي الصحيح، إلاَّ أنه - على أي حال - مناصر لمذهبه، يود زيادة مؤيّديه ورسوخ عقيدتهم فيه. وهو يحتمل - على الأقل - أنه أن أسهب في بيان تاريخ أئمتنا (ع) وأطال في ذكر أقوالهم وأفعالهم، فإنه قد يميل بعض أبناء جلدته إليهم، ويجد ما يدعوه إلى الإيمان بإمامتهم، وهذا ما لا يريده المؤرِّخ بأيِّ حال من الأحوال؛ فهو يترك الإطالة في تاريخهم تمسّكاً بمذهبه ومحافظة عليه.

السبب الثاني:

أن تاريخ الأئمة (عليهم السلام) لا يعيش في أذهان هؤلاء المؤرِّخين إلاَّ قليلاً، وفي زاوية مهملة من زواياه؛ فإن الذي يستجلب أنظارهم ويستقطب اهتمامهم نحوان من الأشخاص:

النحو الأول:

الأشخاص السياسيون الذين تسنَّموا منصباً في الدولة، أو داروا في فلك الخلافة، أو كانوا أعداء لها وتولُّوا الحروب ضدها. وبالجملة: كل مَن سلك مسلك الحكم والسلطان.

النحو الثاني:

الأشخاص الدينيون والعلماء المسلمون الذين يقتضي مذهب هؤلاء المؤرِّخين الإيمان بهم والدعوة إليهم.

ولم يكن أئمتنا - في غالب أمرهم - من يندرج في أحد هذين النحوين. إذن، فلا يجد المؤرِّخ حاجة في نفسه إلى ذكرهم بأكثر مما تعرَّض إليه.

السبب الثالث:

ما يعود إلى الجهاز الحاكم المعاصر للمؤرِّخ.

٣٦

إنّه من المعلوم أنّ الصدر الأوّل من المؤرّخين العامّة، كالذين سبَق أنْ سميّناهم، كانوا يعيشون في عهود الدولة العبّاسية، التي كانت بمسلكها العام معلنة العِداء مع مسلك أهل البيت (عليهم السلام) وعزَل أصحابهم عن المسرح الاجتماعي والسياسي بالكلّية.

ومن ثمّ يتّخذ المؤرّخ، أحد موقفين:

الموقف الأوّل: الحذَر من السلطات واتقاء شرّها، وذلك بالتجنّب عن الخوض فيما لا يحبّون وترك التعرّض إلى ما يكرهون، وذلك: إمّا بترك ذكر تاريخ أئمّتنا وأصحابهم أساساً، كأنّهم ليسوا أناساً كانوا في الوجود وقدّموا إلى البشريّة والإسلام أجلّ الخدَمات، وإمّا أنْ يذكرهم لكن بأقلّ القليل، من الجانب الذي يكون خالياً من الخطَر، بنحوٍ لا يثير على المؤرّخ حِقداً أو يحرّك نحوه عاطفة.

الموقف الثاني: أنْ يسير المؤرّخ في رِكاب الحكّام، يواكبهم في أفكارهم، ويُحاذيهم في أساليبهم، فينخرط إمّا أجيراً أو كـ (عضوِ شرف) في الجهاز الحاكم عِلماً وفِكراً، إنْ لم يكن عمَلاً ونشاطاً، ولا ينبغي السؤال - بعد ذلك - عن شأن ذكر الأئمّة (عليهم السلام)، في تاريخه، وهو بهذه الصفة!.

وبالرغم من هذه الدواعي الضخمة، إلى الحذَر والاختصار، في تاريخ أئمّتنا (عليهم السلام)، فقد فرَض هؤلاء القادة أنفسهم على

٣٧

المؤرّخين، وتمثّلت جُملةٌ من مواقفهم واتجاهاتهم في كلام المؤرّخين. إلى حد نستطيع أن نستخلص منه أحد أمرين:

الأوّل: معرفة مدى رسوخ الذكر الصالح لأئمّتنا (عليهم السلام) في القواعد الشعبية الإسلاميّة بشكلٍ عام، وتأكّد أعمالهم وعلومهم في أذهان الناس، إلى حدٍّ كانت المسؤوليّة الأدبية التي يواجهها المؤرّخ في ترك التعرّض لتاريخ الأئمّة (عليهم السلام)، أقوى من ضغط الحكّام ومن التعصّب المذهبي، ومن كلّ سببٍ رخيص.

الثاني: الاستفادة ممّا ورد في ما ذكره هؤلاء المؤرّخون، عن أئمّتنا (عليهم السلام) في التعرّف على بعض حوادث حياتهم، وشيء من علوّ مقامهم وتأثيرهم السياسي والاجتماعي، ممّا يكون مورد نفع كبير - بالرغم من اختصاره ووجود الفجَوات الكبرى فيه - فيما نعتقده فيهم عليهم السلام، وما نريد أنْ نؤرّخه من حياتهم.

القسم الثالث:

المؤرّخون الإماميّون: وهم مؤرّخو الأئمّة (عليهم السلام)، الذين يؤمنون بإمامتهم ويعتقدون بقيادتهم ويستضيئون بأفعالهم وأقوالهم، إلاّ أنّ الحديث في تواريخهم لا يقلّ في شجونه عن الحديث في القسمين الأوّلين، وإنْ كانت شجوناً بشكلٍ آخر.

فإنّه لا يردّ عليهم جملة من الاعتراضات التي كانت ترد على أُولئك المؤرّخين، والسرّ في ذلك واضح: وهو أنّ الأئمّة (عليهم السلام) وتابعيهم، كانوا ولا زالوا يمثّلون الجبهة الواعية المعارضة للجهاز الحاكم

٣٨

على طول التاريخ، وقد بذلوا في هذا السبيل كثيراً من التضحيات، فمِن غير المحتمل في المؤرّخ الإمامي إذا كان مُخلصاً غير منحرف، أنْ يكون تابعاً للجهاز الحاكم الذي يُعاديه ويثور عليه، أو أنْ يكون أجيراً له أو (عضو شرف) يعيش على موائده، كما أنّه من غير المحتمل أنْ يهمل ذكر الأئمّة (عليهم السلام) تحت أيّ ظرفٍ من الظروف، أو أنْ يجعل لهم في ذِهنه زاويةً مهملة، أو في تاريخه قِسطاً قليلاً، بعد أنْ كان يؤمن بهم أئمّةً وسادة وقادةً ومثلاً إسلاميِّين مبدأيِّين.

إلاّ أنّ الشجون تتمثّل عندهم في عدّة جوانب:

الجانب الأوّل: أخذهم بالتقيّة التي يؤمنون بها ويُطبّقونها في جوانب حياتهم، فإنّ الضغط الذي عاشوه، كان يقلّل من نشاطهم ويُكَفكِف مِن أعمالهم، ويثير لديهم الحذَر والكتمان، فيحملهم على التلميح بدَل التصريح، والاختصار عِوَض التطويل.

الجانب الثاني: ما تعرّض له المسلمون بشكلٍ عام، والإماميّون بشكلٍ خاص، مِن القتلِ والتشريد على أَيدي أشرار خَلق الله وأعداء دين الله، وكانت الحروب تنصب فيما تنصب عليه، على المكتبات الفارهة الزاخرة، فيضاف إلى إتلاف النفوس إتلاف الكتب، بالإغراق والإحراق؛ لأجل قطع الأجيال المُقبلة عن دينها المقدّس وعن حديث نبيّها وأئمّتها وتاريخ أبطالهم، وفقههم وعقائدهم.

وكانت أرقام الكتب التالفة، في كلِّ حرب من حروب التتار والمغول والصليبيّين، يرتفع إلى مِئات الآلاف، فكيف بالمجموع؟!

٣٩

ومن المعلوم أنّ تلَف هذه الكميّات الهائلة من الكتب، هو في الواقع تلَف لكمّيات هائلة من الثروة الفكريّة الضخمة التي كان المجتمع المسلم زاخراً بها، من أوّل أيّامه، ولم يبقَ منها اليوم إلاّ القليل.

ومن هنا نحتمل، بل نستطيع أنْ نتأكّد، أنّه كان لمؤرّخي الإماميّة وعلمائها، كلامٌ أكثر، ونقلٌ أزيَد عن أئمّتهم، سَواء في الترجمة أم العلم أم العمل أم غير ذلك من جوانب الحياة، وقد تلَف ذلك ولم يرِد إلينا شيءٌ منه، وقد أصبنا نتيجةً لذلك بمحلٍّ فكري، وحصَل في تاريخنا الإسلامي فجَوات مؤسفة، من الصعب علينا التأكّد ممّا يَملؤها على وجه التحديد.

ولكن النعمة الإلهية والحكمة الأزليّة، الثابتة بمقتضى وعد الله تعالى في كتابه الكريم بأنّ يتمّ نوره ولو كرِه المشركون، اقتضت بأنْ يبقى من الكتب لسدّ ما هو الضروري من حاجات العقائد والتاريخ والفقه، وغيرها من الميادين الإسلاميّة.

الجانب الثالث: وهو ما يعود إلى الأُسلوب العام الذي مشى عليه مؤرّخونا، في حدود ما وصل إلينا من الكتب السالمة من التلَف.

ونحن بهذا الصدد نستطيع أنْ نقسّم مؤرّخينا إلى قسمين:

القسم الأوّل:

من سار في أُسلوبه التاريخي، على غِرار التاريخ العام الذي مشى عليه الأوّلون قبلهم، كالمسعودي واليعقوبي فقد ساروا - على خلاف

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663