موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ الغيبة الصغرى) الجزء ١

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ الغيبة الصغرى)8%

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ الغيبة الصغرى) مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الإمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف
الصفحات: 663

الجزء ١ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 663 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 37722 / تحميل: 7982
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ الغيبة الصغرى)

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ الغيبة الصغرى) الجزء ١

مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

الفصل الثاني:

تاريخ الإمام عليّ بن محمّد الهادي (عليه السلام)

كانت سامرّاء عاصمة الدولة العبّاسية في أوَج عزّها وعُمرانها، وكان المتوكّل هو الذي تسنّم كرسي الخلافة، جاء به جماعةٌ من المَوالى والأتراك عام ٢٣٢هـ، وكان قد تسلّم الخلافة حاقداً على أئمّتنا (عليهم السلام) وعلى أصحابهم، حذِراً منهم كلّ الحذر، وهذا واضح - لِمَن يراجع التاريخ - كلّ الوضوح (١) بلَغ في آل أبي طالب ما لَم يبلغه أحد مِن خُلَفاء بني العبّاس قبله، وكان من ذلك أنْ كرَب قبْر الحسين (عليه السلام) وعفى آثاره.

وفكّر المتوكّل أنْ يستقدِم الإمام عليّ بن محمّد الهادي (عليه السلام) إلى سامرّاء من المدينة، آخذاً بالأُسلوب الذي اخترعه المأمون العبّاسي، وسار عليه مِن بعده تجاه الإمام الجواد محمّد بين عليّ (عليه السلام)، ومن بعده الأئمّة (عليه السلام)، فإنّ المأمون حين زوّج ابنته أُمّ الفضل للإمام الجواد (عليه السلام)، كان قد وضَع الحجَر الأساسي للمراقبة الشديدة والحذَر التام من الإمام (عليه السلام) من الداخل، مضافاً إلى مراقبته مِن الخارج، وكان هذا الزواج وتقريبه إلى البلاط، أُسلوباً ناجحاً

_________________

(١) انظر الكامل ج، ص ٣٠٤ و ص ٢٨٧، والمروج ج ٤ ص ٥١ ومقاتل الطالبين ج ٣ ص ٤٢٤.

١٠١

للوصول إلى هذه النتيجة التي يُراد بها جعل الإمام (عليه السلام) بين سمع الخليفة وبصره، وعزله عن قواعده الشعبية الموالية له، وكفكفة نشاطه.

وإذ توفّيَ الإمام الجواد (عليه السلام)، وتولّى الإمام الهادي (عليه السلام) الإمامة بعده، لم يكن ليفوت المتوكّل ضرورة تطبيق نفس هذا الأُسلوب عليه، فهو يَرى أنّ الإمام حال وجوده في المدينة، بعيداً عنه، يُشكّل خطراً على الدولة لا محالة، إذن فلا بدّ من استقدامه إلى سامرّاء حتى يأمن خطَره ويهدأ باله، ويضعَه تحت الرقابة المباشرة منفصلاً عن قواعده الشعبية.

ومِن ثمّ كانت الوشاية به – وهي ناقوس الخطر – كافيه لحفز المتوكّل على ضعضعة حياة الإمام الهادي (عليه السلام)، ونقله من موطنه وداره في المدينة، إلى العاصمة سامراء، لكي يبدأ تاريخاً جديداً حافلاً في موطنه الجديد.

الاتجاه العام للإمام الهادي (عليه السلام)

في استقدام المتوكّل إيّاه:

لم يكن مِن المصلحة في نظر الإمام (عليه السلام)، إعلان الخلاف ضدّ المتوكّل، وكذلك كانت سياسة أبيه وأبنائه (عليهم السلام) بالنسبة إلى الخلافة العبّاسية، حتى تكلّلت هذه السلبية بغيبة الإمام المهدي (عليه السلام)، ولعلّنا في غنى عن إعطاء الفكرة الكاملة عن سبَب هذه السلبية،

١٠٢

بعد وضوح أنّ ما يستهدفه الأئمّة (عليهم السلام) إنّما هو تأسيس المجتمع الإسلامي العادل الواعي الذي يطبّق تعاليم الإسلام بتفاصيلها، ويتعاون أفراده في إنجاح التجربة الإسلامية.

وهذا إنّما يتوفّر بعد وجود عنصرين:

أوّلهما: وجود الخلافة الإسلامية بالشكل الذي كان يؤمن به الأئمّة (عليهم السلام)، وهو تولّيهم بأنفسهم منصب الإمامة ورئاسة الدولة الإسلامية، أو مَن يُعيّنونه ويختارونه لذلك.

ثانيهما: وجود المجتمع الذي يملك أكثريةً كبيرة أو مئة بالمئة، لو تحقّق من الأفراد الواعين المُتشبّعين بفهم الإسلام نصّاً وروحاً، ومستعدّين للتضحية في سبيله، ولقول الحقّ ولو على أنفسهم، ورفض مصالحهم الضيّقة تجاهه، والذين يبذلون – نتيجة لذلك – الطاعة المطلقة للحاكم الإسلامي الحق.

ولعلّنا نستطيع أنْ نستوضح أهمية انضمام هذين العنصرين في تكوين الدولة الدولة الإسلامية، إذا تصوّرنا تخلّي بعضها عن بعض، في صورةٍ ما إذا تولّى الإمام الحق منصِب الرئاسة في مجتمعٍ متضارب الآراء مختلف الأهواء، يعيش أفراده على اللذاذة الآنيّة والمصلحة الشخصيّة، بعيدين عن الإسلام وعن الاستعداد للتضحية في سبيله بأقلّ القليل، هل يستطيع الإمام أنْ يقدّم الخدمات الإسلامية المطلوبة، لمثل هذا المجتمع.

كلا؛ فإنّ تطبيق العدل الكامل، يحتاج إلى العمل الدائب والتضحيات الكبيرة والطاعة المطلقة للرئيس العادل، وكلّ ذلك ممّا لا يُمكن توفّره في المجتمع المنحرف وغير الواعي.

١٠٣

ومِن ثمّ لم يكن الأئمّة (عليهم السلام)، يرَون المصلحة في تولّي رئاسة الدولة الإسلامية في المجتمع المنحرف، الذي أدّى بمَن تولّى هذا المنصب منهم إلى المتاعب المضاعفة، وإلى القتل في نهاية المطاف، وهم: جدُّهم الأعلى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، ومِن بعده ابنه الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام)، إذ لو كان المجتمع واعياً ومضحّياً في سبيل دينه في عصرهما (عليهما السلام)، لكان لهما خاصّة وللأُمّة الإسلامية عامّة تاريخ غير هذا التاريخ.

ولم يكن المجتمع في خلال عصور الأئمّة جميعهم بأحسَن حالاً من المجتمع الأوّل، الذي قتل أمير المؤمنين وخذَل ابنه الحسن، وقاتل ابنه الحسين (عليهم السلام)، إنْ لم يكن قد تزايَد لهوَه وبطَرُه وحرصه على المصالح واللذاذات، نتيجة لانكباب الخُلفاء أنفسهم على ذلك، فإنّ الناس بدين ملوكهم، مع انعدام أو ضآلة المدّ الكافي لتوعية المجتمع وإرجاعه إلى فهم دينه الحنيف.

ومِن ثمّ لم يكن لهم في الخلافة مطمع؛ لأنّهم لم يكونوا يريدون السير على الخطّ (الأموي – العبّاسي) للخلافة، ذلك الخط المنحرف الذي يؤمن للناس أطماعهم، ويقسم المجتمع إلى نعمةٍ موفورة وإلى حقٍّ مضيّع.

فكان الهدف الأساسي للأئمّة (عليهم السلام) ينقسم إلى أمرَين مترابطين:

أحدهما: حفظ المجتمع من التفسّخ والانهيار الكلّي، أو بتعبيرٍ آخر: حفظ الثمالة المُشعّة مِن الحق، المتمثّلة بهم وبمواليهم وقواعدهم

١٠٤

الشعبية.

ثانيها: السعي إلى تأسيس المجتمع الإسلامي الواعي، ورفع المستوى الإيماني في نفوس أفراده، تمهيداً لنيل الخلافة الحقّة، وتطبيق المنصب الإلهي الذي يعتقدون استحقاقه.

وكانوا يعملون على تنفيذ ذلك، في حدود الإمكان الذي يناسب مع الحذَر من الجهاز الحاكم وتجنّب شرّه، إذ لم يكن من المصلحة، أنْ يقوم الإمام (عليه السلام) بحركة ثورية عشوائية بجماعةٍ قليلةٍ تؤدّي به وبجميع أصحابه إلى الاستئصال التام، ولا يتحقّق شيء من ذَينك الغرَضين.

فهذا هو السرّ الأساسي للسلبية التي سار عليها الأئمّة (عليهم السلام) تجاه السلطات الحاكمة، وهو الذي يُفسّر لنا – على تفصيلٍ وتحقيقٍ لا مجال له هنا – إعلان الإمام الحسن (عليه السلام) الصلح مع معاوية.

ورفْض الإمام الرضا (عليه السلام) ولاية العهد التي عرَضها عليه المأمون.

وهو السبب الذي أدّى إلى الموقف السلبي للإمامين العسكريّين (عليهما السلام)، اللذَين نؤرّخ لهما، وهو الذي أدّى – في نهاية المطاف – إلى غيبة الإمام المهدي (عليه السلام)، على ما سنعرف.

١٠٥

سفَره إلى سامرّاء:

وشى عبد الله بن محمّد الذي كان يتولّى الحرب والصلاة بمدينة الرسول المنوّرة، بالإمام الهادي (عليه السلام)، وكان يقصده بالأذى، فبلغ إلى الإمام خبَر وشايته، فكتَب إلى المتوكّل يذكر تحامل عبد الله بن محمّد عليه وكذبه فيما سعى به (١) .

فنرى كيف أنّ عبد الله بن محمّد يُمثّل الخطّ العام للدولة، في الفزَع من نشاط الإمام وتصرّفاته، وكيف وصَل به الحال إلى أنْ يرسل إلى المتوكّل بخبَرِه، باعتباره حريصاً على مصالح الدولة، ومنتبهاً على مواطن الخطر! ولعلّه التفت إلى بعض النشاطات المهمّة التي كان يقوم بها الإمام بعيداً عن السلطات، فأوجَس منها خيفة حدَت به إلى هذه الوشاية.

إلاّ أنّ المتوكّل كان يعلم بكلِّ وضوح، عدم إمكان الحصول على أيِّ مستندٍ ضدّ الإمام (عليه السلام)؛ فإنّ للأئمّة (عليهم السلام)، كما سبَق أنْ قلنا أساليباً من الرمزية والإخفاء يمكنهم خلالها القيام بجملةٍ من جلائل

_________________

(١) انظر الإرشاد ٣١٣.

١٠٦

الأعمال، لعلّ أهمّ دلائل الإخفاء، هو تصدّيه إلى تكذيب الخبَر برسالةٍ يرسلها إلى المتوكّل نفسه، يكذِّب فيها التهمة، وينفي عن نفسه صفة التآمر على الدولة، فإنّ نشاطه كان مقتصراً في الدفاع عن قواعده الشعبية وتدبير أُمورهم، وليس له ضدّ الدولة أيَّ عمل، وإنْ كان قد أوجَب عمله توهّم عبد الله بن محمّد لذلك.

والمتوكّل هو مَن عرفناه بموقفه المتزمّت ضدّ الإمام (عليه السلام) وكلّ مَن يمتّ إليه بنسب أو عقيدة، ولكنّه يتلقى رسالة الإمام (عليه السلام) بصدرٍ رحِب، ويُرسل له رسالة مفصّلة كلّها إجلالٌ له وإعظامٌ لمحلّه ومنزلته.

يعترف بها ببرائته وصدق نيّته ويوعِز بعزل عبد الله بن محمّد عن منصبه بالمدينة، ويدّعي الاشتياق إليه ويدعوه أنْ يشخص إلى سامرّاء مع مَن اختار من أهل بيته ومواليه (١) .

وهذا الطلب، وإنْ صاغه المتوكّل بصيغة الرجاء، إلاّ أنّه هو الإلزام بعينه، فإنّ الإمام (عليه السلام) إنْ لم يذهب حيث أمره يكون قد أثبت تلك التهمة على نفسه، وأعلَن العِصيان على الخلافة، وكلاهما ممّا لا تقتضيه سياسة الإمام (عليه السلام).

وأمّا عام سفره هذا، فقد ذكر في الإرشاد (٢) : إنّ الرسالة مؤرّخة بجمادى الآخرة سنة ثلاث وأربعين ومِئتين وليس في هذا ما يلفت النظر، لولا ما ذكَره ابن شهر آشوب من أنّ مدّة مقام الإمام

_______________________________

(١) انظر نص الرسالة في الإرشاد الصفحة السابقة وما بعدها.

(٢) انظر ص ٣١٤.

١٠٧

الهادي (عليه السلام) في سامرّاء من حين دخوله إلى وفاته، عشرون سنة (١) .

وإذ نعرف أنّه (عليه السلام) توفّى عام ٢٥٤هـ (٢) ، تكون سفرته هذه قبل عشرين عاماً من هذا التاريخ أي سنة ٢٣٤هـ، وهذا أنسب بالاعتبار السياسي، باعتبار كونه بعد مجيء المتوكّل إلى الخلافة بعامين، فيكون المتوكّل قد طبّق منهجه في الرقابة على الإمام في الأعوام الأُولى من خلافته، بخلافه على الرواية الثانية، التي تبعد بالتاريخ عن استخلاف المتوكّل أحَدَ عشَر عاماً، والله العالم بحقائق الأُمور.

أعطى المتوكّل رسالته إلى أحد صنّائعه، يحيى بن هرثمة، ليسلّمها إلى الإمام في المدينة، وأمره باستقدامه إلى سامرّاء، فأسمعه يقول في روايته للحادثة (٣) : فلمّا صرت إليها – يعني المدينة المنوّرة – ضجّ أهلها وعجّوا ضجيجاً وعجيجاً ما سمِعت مثله، فجعلت أُسكنهم وأحلف لهم أنّي لم أُؤمَر فيه بمكروه، وفتّشت بيته، فلَم أجد فيه إلاّ مصحفاً ودُعاء وما أشبه ذلك.

فنعرف من ذلك، مدى إخلاص أهل المدينة لإمامهم (عليه السلام)، وحرصهم عليه، ومدى تأثيره الحسِن فيهم، ولم يكن هذا الضجيج الكبير منهم، إلاّ لمعرفتهم بوضوح سوء نيّة السلطات تجاه الإمام

_________________________

(١) المناقب ج ٣ ص ٥٠٥.

(٢) انظر الإرشاد ص ٣٠٧ وابن الوردي ج ١ ص ٢٣٢ وابن خلكان ص ٤٣٥ ج ٢ والطبري ج ١١ ص ١٥٧ والعبر ج ٢ ص ٥ وأبو الفداء ج ص ٢٥٤.

(٣) انظر المروج ج ٤ ص ٨٤ وما بعدها.

١٠٨

وابتغائها الدوائر، ضدّه فكان تأسّفهم وتأوّههم ناشئاً مِن أمرين:

أحدهما: انقطاعهم عن الإمام (عليه السلام)، وحرمانهم مِن إرشاداته وألطافه ونشاطه الإسلامي البنّاء، وهذا ما أراده المتوكّل، وقد حصَل بالفعل بمقرّ الإمام، فإنّه لم يعد إلى المدينة بعد ذلك.

الثاني: مخافتهم على حياته، لاحتمال قتله عند وصوله إلى العاصمة العبّاسية، وهذا هو الذي فهمه يحيى بن هرثمة من الضجيج – وحاول أنْ لا يفهم غيره – فحلَف لهم أنّه لم يؤمَر فيه بمكروه.

ولم يثن الضجيج هذا الرجل عن غرضه السياسي في التجسّس ففتّش دار الإمام، بالمقدار الذي حلا له، فلَم يجِد فيه أيّ وثيقةٍ تدلّ على التمرّد أو الخروج على النظام العبّاسي، وبذلك يكون المتوكّل قد فقَد أي مستمسك يؤيّد ما سمِعه عنه أو خافه منه، واستطاع الإمام (عليه السلام) أنْ يُحافظ على مسلكه العام في السلبية.

وخرَج الإمام الهادي (عليه السلام)، مصاحباً لولده الإمام العسكري وهو وصبي، مع ابن هرثمة متوجّهاً إلى سامرّاء، وحاول ابن هرثمة في الطريق إكرام الإمام وإحسان عِشرته، وكان يرى منه الكرامات والحُجَج التي تدلّ على تولّيه طُرُق الحق، وتوضّح لهذا الرجل جريمته في إزعاج الإمام وزعزعته والتجسّس عليه، وجريمة مَن أمره بذلك أيضاً.

ويمرّ الركب ببغداد – في طريقه إلى سامرّاء – فيُقابل ابن هرثمة

١٠٩

واليها – بعد انتقال الخلافة عنها، وهو يومئذٍ إسحاق بن إبراهيم الطاهري، وهو بمقتضى منصبه، محلّ الثقة الكُبرى من قِبَل المتوكّل، بحيث جعله والياً على عاصمته الثانية وقائماً مقامه فيها، فنرى إسحاق الطاهري يوصى بن هرثمة بالإمام مستوثقاً من حياته قائلاً له: يا يحيى، إنّ هذا الرجل قد ولده رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم)، والمتوكّل مَن تعلم وإنْ حرّضته على قتله، كان رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) خصمك.

فيُجيبه يحيى: والله ما وقفت له إلاّ على كلّ أمرٍ جميل (١) .

ونحن حين نسمَع هذا الحِوار بين الرجلين اللذين يُمثّلان السلطات نفسها ويعيشان على موائدها، نعرف كم وصَل الحقد والتمرّد على النظام القائم يؤمئذٍ، وكيف أنّه تجاوز القواعد الشعبية إلى الطبقة العُليا الخاصّة من الحكّام، مواضع ثقة الخليفة ومنفّذي أوامره، كما نعرف مدى اتساع الذكر الحسِن والصدى الجميل لأفعال الإمام وأقواله بين جميع الطبَقات، حتى بين الحكّام أنفسهم.

وحين يصل الركب إلى سامرّاء، يبدأ ابن هرثمة بمقابلة وصيف التركي، وقد عرفناه قائداً من القوّاد الأتراك المنتفعين بالوضع القائم، ممّن كان يُشارك في تنصيب الخليفة وعزله ومناقشته في أعماله، ويظهر من التاريخ أنّ وصيفاً كان هو الآمر رسميّاً على ابن هرثمة، ومِن هنا قال له وصيف: والله لئن سقطَت من رأس هذا الرجل شعرة، لا يكون المُطالب بها غيري.

______________________

(١) مروج الذهب ج ٤ ص ٨٥.

١١٠

يقول ابن هرثمة: فعجِبت من قولهما، وعرّفت المتوكّل ما وقفت عليه وما سمِعته من الثناء عليه، فأحسَن جائزته وأظهر برّه وتكرمته (١) ، وقد عرفنا ممّا سبَق أنّ كلّ هذا الكرم الحاتمي، على الإمام (عليه السلام)، لم يكُن مِن أجل حفظ حقّ الإمام، وإنّما كان تغطيةً للمنهج السياسي الذي يُريد المتوكّل اتباعه، وهو عزل الإمام عن نشاطه وقواعده الشعبية والحذَر ممّا قد يصدِر منه من قولٍ أو فِعل.

ومن هنا نرى، أنّ المتوكّل أمَر أنْ يُحجَب عنه الإمام (٢) في يوم وروده الأوّل إلى العاصمة العبّاسية، ونزَل الإمام في مكان متواضع يُدعى بخانِ الصعاليك، فقام فيه يومه (٣) .

ومرّ عليه وهو في هذا الخان أحد مُحبّيه مقدّري فضله، صالح بن سعيد، فأحزنه حال الإمام (عليه السلام)، فقال له: جُعلت فِداك في كلّ الأُمور أرادوا إطفاء نورك والتقصير بك، حتى أنزلوك في هذا الخان الأشنَع، خان الصعاليك.

ويسمع الإمام (عليه السلام) ما قال، فيجيب وكأنّه قد التفَتَ بعد استغراق تفكيرٍ وانشغالِ بالٍ: (ههنا أنت يا ابن سعيد) .

ثمّ يريد الإمام (عليه السلام) أنْ يُفهِم هذا المُشفِق، بأنّ الحال الدنيوية وإنْ

________________________

(١) المصدر والصفحة.

(٢) الإرشاد: ص ٣١٤.

(٣) أعلام الورى: ص ٣٤٨. وانظر: الإرشاد أيضاً، نفس الصفحة السابقة.

١١١

كانت قد وصلت به؛ نتيجة للظلم والعذر، إلى هذا الحد المنحدر، إلاّ أن ذلك ممّا يرفعه قدراً ويزيده جهاداً، ويضيف إلى فضائله فضيلة. فهو لم يخسر شيئاً، وإنما الأمة الإسلامية هي التي خسرته. وأنه يعيش على الأنوار الروحية واللذائذ العلمية والنفحات القدسية، فكأنّه في روض الجنان. فيومئ الإمام بيده، ويقول: (انظر) . قال ابن سعيد: فنظرت! فإذا بروضاتٍ أنقاتٍ، وأنهارٍ جارياتٍ، وجناتٍ فيها خيراتٍ عطراتٍ، وولدان كأنَّهنَّ اللؤلؤ المكنون. فحار بصري وكثر تعجبي. فقال لي: (حيث كنا، فهذا لنا يا ابن سعيد، لسنا في خان الصعاليك) (١) .

____________________

(١) الإرشاد: ص٣١٤. وأعلام الورى: ص٣٤٨.

١١٢

نشاطه السياسي في المدينة:

إذا أردنا أن نلتفت إلى أعمال الإمام (عليه السلام) ونوع نشاطه الاجتماعي والسياسي في المدينة المنورة، قبل وروده إلى سامراء، تواجهنا أمور ثلاثة:

أحدها: موقفه العام الذي أوجب إثارة واليها عبد الله بن محمد ضده وإيصاله الأذى إليه، وأوجب السعاية به إلى المتوكل. ذلك الموقف الذي علمنا إطاره العام، واستطاع الإمام واضطر التاريخ إلى إخفاء تفاصيله.

ثانيها: موقفه من بغا الكبير حين ورد على رأس جيش إلى المدينة لمنازلة الأعراب المخرِّبين، وسيأتي التعرُّض له فيما بعد.

ثالثها: رواية تضمّنت بعض تعليقات الإمام (عليه السلام) على بعض الحوادث السياسية الجارية في ذلك الحين، وهو عام ٢٣٢، أي قبل ذهابه إلى سامراء بعامين بالتاريخ الذي رجّحناه.

وذلك: في آخر خلافة الواثق وآخر وزارة محمد بن عبد الملك الزيّات وزيره، حيث عذّبه المتوكل - بعد توليه الخلافة بعد

(٨)

١١٣

الواثق - أشد العذاب حتى مات تحت التعذيب (١) . فقد سأل الإمام (عليه السلام) أحد القادمين إلى المدينة من العاصمة سامراء، يدعى بخيران الساباطي، سأله عن خبر الواثق، قال:

فقلت: جعلت فداك، خلفته في عافية، أنا من أقرب الناس عهداً به. عهدي به منذ عشرة أيام.

فقال لي: (أهل المدينة يقولون إنه مات) .

فقلت: أنا أقرب الناس به عهداً.

قال فقال لي: (إن الناس يقولون أنه مات) .

فلمّا قال لي: (إن الناس يقولون)، علمت أنه يعني نفسه.

ثم قال (عليه السلام): (ما حال جعفر؟) ، يعني المتوكل.

قلت: تركته أسوأ الناس حالاً، في السجن.

قال: فقال لي: (أمَا أنه صاحب الأمر).

وإلى هنا نرى الإمام (عليه السلام) قد تنبّأ بموت خليفة وقيام آخر، بالرغم من أن وجود المتوكل في السجن دال على بُعد توليه الخلافة لا محالة.

ثم قال: (ما فعل ابن الزيات؟) .

قلت: الناس معه، الأمر أمره.

فقال: (أمَا أنه شؤم عليه) . يشير إلى موته تحت التعذيب بيد الخليفة الجديد: جعفر المتوكل.

ثم أراد الإمام (عليه السلام) أن يربط هذه الحوادث بقدرة الله وعلمه، فقال [ الإمام (عليه السلام) ] للراوي: (لا بد أن تجري مقادير الله وأحكامه. يا خيران مات الواثق وقعد جعفر المتوكل، وقد قتل ابن الزيات) .

فيسأله الراوي: متى؟ جعلت فداك.

فقال: (بعد خروجك بستة أيام) (٢) .

____________________

(١) الكامل، ج ٥، ص٢٨٠.

(٢) الإرشاد ص٣٠٩. وانظر: الفصول المهمة، ص٢٩٦. وأعلام الورى، ص٣٤. ونور الأبصار، ص١٦٥.

١١٤

وهنا لا بد أن نلاحظ أمرين:

أحدهما: أن الإمام قد صرح بهذه الحقائق حين الأمن من التصريح، بزوال أصحابها عن الحكم. أمّا المتوكل الذي تولّى الحكم، فليس في كلام الإمام ما يشعر بالطعن فيه، لكي نعتبره نقداً سياسياً خارجاً عن الأسلوب العام للسلبية.

ثانيهما: أن الإمام صرّح بذلك بعد أربعة أيام من وقوعه، وهي مدة لم تكن في تلك العصور كافية لتلقّي الأخبار عادة. ولذا كان الراوي متأكداً من أنه أقرب الناس عهداً بالوضع السياسي. فمن هنا يرجحّ أن يكون الإمام قد اطلع على ذلك بنحو غيبي، في زمان لم تكن الوسائل الحديثة متحققة في الوجود.

١١٥

سلبية الإمام تجاه الأحداث:

وقد عاصر الإمام الهادي (عليه السلام) في سامراء بقية أيام المتوكل، وهي حوالي أربعة عشر سنة، إلى أن قتله الأتراك عام ٢٤٧، ثم أيام المنتصر، ثم المستعين، ثم قسماً من خلافة المعتز، حيث توفّي الإمام (عليه السلام) عام ٢٥٤. وأما المعتز، فقد خلعه الأتراك عام ٢٥٥ كما عرفنا.

وقد تتابعت في خلال هذه الأعوام من الحوادث ما لا يحصى، ممّا عرفناه فيما سبق وممّا لم نعرفه. ولعل أهم ما عرفناه هو حصار بغداد والقتال الذي وقع فيها بين المستعين والمعتز. والذي أدى إلى تولّي الأخير كرسي الخلافة، وخلع الأول نفسه عام ٢٥٢.

كما أن هناك نشاط الخوارج الذي كان يومئذ قوياً فعالاً، مدعماً بالمال والسلاح، بقيادة مساور الشاري. وهناك الثورات والانتفاضات العلوية وغيرها، وهناك الفتوح والحروب الإسلامية على الحدود، في الأندلس وسمبساط وغيرها. وحروب في داخل الدولة بين مختلف الطامعين في القيادة والظهور، وهناك تغيّر الوزارات والقضاة، وهناك الحالة الاقتصادية، بما فيها من مشاكل وتبذيرات البلاط والوزراء

١١٦

والحاشية، وهناك موقف المتوكل من العلويين وهدمه لقبر الحسين (عليه السلام)... إلى غير ذلك من الحوادث مما لا يكاد يحصى.

ولم يرد إلينا تجاه ذلك أي تعليق من قبل الإمام الهادي (عليه السلام) على أي واحد من هذه الحوادث، مهما عظمت أهميته، بل يمكن أن يقال بشكل تقريبي: إنه لم يرد إلينا من موقف الإمام (عليه السلام) مع الخلفاء - غير المتوكل - إلاّ أقل القليل.

وقد عرفنا فيما سبق الأسباب التفصيلية التي حدت بالإمام إلى اتخاذ موقف السلبية تجاه الأحداث. على أننا يمكن أن نضيف إلى تلك العوامل ما يلي:

أما بالنسبة إلى علاقة الإمام بالخلفاء، فتتحكم فيها العوامل الثلاثة الآتية:

العامل الأول : ما عرفناه من ضعف مركز الخلافة وسقوط هيبتها عن أعين الناس، وخروج الأمر من يد الخليفة إلى زمرة من القواد الأتراك والموالي، البعيدين كل البُعد عن الإسلام وذكر الله تعالى. حتى استطاعوا أن يعزلوا الخليفة وينصبوا الآخر، بما فيهم المتوكل نفسه، وإن استطاع أن يفك نفسه من هذا الأسر إلى حد ما فيقوم ببعض النشاط الاجتماعي ويبقى في المُلك مدة كافية.

أما غير المتوكل من الخلفاء، ممّن وردوا إلى الحكم بعده، فقد أزاد تقوقعه على نفسه وبطره وانصرافه عن شئون الناس إلى اللهو

١١٧

واللعب، فلم يكن لديهم الإدراك الكافي للمسائل الاجتماعية حتى ينظروا إلى الإمام (عليه السلام)، أو يكونوا معه علاقة خاصة واتجاهاً معيناً، سوى الاتجاه العام الذي رسمه أسلافهم.

العامل الثاني : ما عرفناه من أن المتوكل كان من متطرّفي بني العباس في عداوة أهل البيت (عليهم السلام) ومواليهم. وفعل في ذلك ما لم يفعله غيره. وكان من آثار ذلك جلبه الإمام الهادي (عليه السلام) إلى سامراء لزيادة مراقبته والحَجْر عليه، ومعرفة جميع مستويات أعماله، وهو مما يعكس حذراً وتوجّساً في أعمال الإمام (عليه السلام) لا محالة. مضافاً إلى ما قد يريده الإمام بسلبيته من إعلان الاحتجاج الصامت على تلك الأعمال النكراء.

على حين أن ابنه المنتصر حين تولّى الخلافة بعد أبيه، ألآن مسلكه مع أهل البيت وأظهر الميل إليهم؛ فكان أن خفَّ الضغط على الإمام (عليه السلام) وأصحابه ومواليه، إلاّ ما كان من اتجاه الخط العام الضروري لحفظ أساس الدولة العباسية؛ وكان نتيجة لذلك أقل خوفاً من غيره من انتفاض العلويين عليه.

العامل الثالث: إن المتوكل كان يشعر بمسئولية خاصة تجاه الإمام (عليه السلام)؛ باعتبار ما جعجع به من بلده وأقلق حياته الخاصة والعامة. ولم يكن هذا الشعور بالمسئولية ليؤثّر في مثل حقد المتوكل بإكرام الإمام حقيقة، وإلاّ فقد كان الخليق به أن يطلق له حريته، وهو ما لا يريده المتوكل أن يكون. وإنما الشيء الذي أنتجه هذا

١١٨

الشعور بالمسئولية، أو تحسس الإثم، هو أن الإمام أصبح مركز انتباه المتوكل ومحور نشاطه، فكان يجلسه في مجالسه ويركبه في مراكبه - على ما يأتي؛ توخياً إلى الأمن منه وكفكفة نشاطه.

وأما بالنسبة إلى عدم تعليق الإمام (عليه السلام) على كثير من الأحداث، الداخلية والخارجية، فلو غضضنا النظر عن العوامل التي ذكرناها في المقدمة، وقلنا: إن عدم الوجدان يدل على عدم الوجود - وهذا ما ننكره جزماً؛ باعتبار ظروف النقل التاريخي التي عرفناها - فمن الممكن القول: إن هذه السلبية كانت نتيجة طبيعية لانعزاله التام عن الشئون السياسية. فإننا نعلم من النظر في أحوال زماننا وكل زمن، أن مَن يعلن عن آرائه السياسية، هو أحد شخصين أو جهتين:

أحدهما: الشخص أو الجهة التي تمارس الحكم فعلاً، فهي مسئولة - لكي توضح موقفها من الأحداث - أن تعلن عن رأيها السياسي فيها، حتى يكون هو الميزان أمام الناس والتاريخ، في تقييم هذا الحكم، ولكي تعطي المبرِّرات المنطقية لأجل نشاط معين، في مصلحة أو ضد أمر سياسي أو اجتماعي معين.

ثانيهما: الشخص أو الجهة التي تطمع بتولّي الحكم في يوم من الأيام، ولا يكون محجوزاً عليها أو محدَّداً سلوكها من جهة قاهرة. فهي تعلن أمام الملأ آراءها السياسية ومبادئها الاجتماعية، لكي تحاول إقناع

١١٩

الجمهور بها، فتجتلب بذلك المؤيدين والمناصرين، ليكونوا عوناً لها في معركتها السياسية التي تنشدها.

أما الذي لا يكون متصفاً بأحد هذين الصفتين، مهما كان الفرد عظيماً ووجيهاً، أو ذو جهة نافذة قوية على الصعيد السياسي، فليس من الضروري أو المتوقع أن يعلن عن آرائه السياسية.

والإمام لم يكن يمارس الحكم كما هو معلوم، ولم يكن ممّن يطمع بالحكم في ذلك العصر المنحرف غير الواعي، كما قلنا. على أنه لو كان مريداً ذلك في ضميره، فقد كان مراقباً محجوراً، تُعدُّ عليه أفعاله وأقواله. ومعه لا أمل له في الحكم عادةً. إذن، فقد كان الإمام (عليه السلام) من الناحية السياسية فرداً عادياً من الأمة، وأنه أراد ذلك لنفسه بحسب ما رآه من المصلحة، بالرغم من أنه من الناحية الدينية الإمام والقائد والمثل الأعلى لمحبيه ومواليه.

ولم يكن له (عليه السلام) من أمره يومئذٍ إلاّ الفتوى، والجواب على السؤال الذي يتلقّاه لو وجد مصلحة في الإجابة. ومن الواضح أن شخصاً من صانعي الأحداث في ذلك العصر لم يسأله عن عمل من أعماله، ليأخذ بمشورته ورأيه. فلا يبقى لدينا إلاّ احتمال أن أصحابه كان لهم الوعي الواسع، وكانوا يسألون إمامهم عن آرائه السياسية، وكان يجد مصلحة في جوابهم، فيجيبهم. وهذا الاحتمال وإن كان له ما يبعده،

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

حكومةُ يزيد

٢٤١
٢٤٢

وتسلّم يزيد بعد هلاك أبيه قيادة الدولة الإسلاميّة وهو في غضارة العمر ، لمْ تهذّبه الأيام ولمْ تصقله التجارب ، وإنّما كان ـ فيما أجمع عليه المؤرّخون ـ موفور الرغبة في اللّهو والقنص ، والخمر والنساء وكلاب الصيد ، ومُمْعناً كلّ الإمعان في اقتراف المنكر والفحشاء ، ولم يكن حين هلاك أبيه في دمشق ، وإنّما كان في رحلات الصيد في حوارين الثنية(1) ، فأرسل إليه الضحّاك بن قيس رسالة يعزّيه فيها بوفاة معاوية ويهنئه بالخلافة ، ويطلب منه الإسراع إلى دمشق ليتولّى أزمّة الحكم ، وحينما قرأ الرسالة اتّجه فوراً نحو عاصمته في ركب مِنْ أخواله ، وكان ضخماً كثير الشعر ، وقد شعث في الطريق وليس عليه عمامة ولا متقلّداً بسيف ، فأقبل الناس يسلّمون عليه ويعزّونه ، وقد عابوا عليه ما هو فيه وراحوا يقولون : هذا الأعرابي الذي ولاّه معاوية أمر الناس ، والله سائله عنه(2) .

واتّجه نحو قبر أبيه فجلس عنده وهو باك العين ، وأنشأ يقول :

جاءَ البريدُ بقرطاسٍ يخبُّ بهِ

فأوجسَ القلبُ مِنْ قرطاسهِ فزعا

قلنا لكَ الويلُ ماذا في كتابكُمُ

قالَ الخليفة أمسى مدنفاً وجعا(3)

ثمّ سار متّجها نحو القبّة الخضراء في موكب رسمي تحفّ به علوج أهل الشام وأخواله وسائر بني أُميّة.

__________________

(1) الفتوح 4 / 265.

(2) تاريخ الإسلام ـ الذهبي 1 / 267.

(3) تاريخ ابن الأثير 3 / 261.

٢٤٣

خطاب العرش :

واتّجه يزيد نحو منصّة الخطابة ليعلن للناس سياسته ومخطّطات حكومته ، فلمّا استوى عليها ارتجّ عليه ولمْ يطق الكلام ، فقام إليه الضحّاك بن قيس فصاح به يزيد ما جاء بك؟ قال له الضحّاك : كلّم الناس وخذ عليهم ، فأمره بالجلوس(1) ، وانبرى خطيباً فقال : الحمد لله الذي ما شاء صنع ومَنْ شاء منع ، ومَنْ شاء خفض ومَنْ شاء رفع ، إنّ أمير المؤمنين ـ يعني معاوية ـ كان حبلاً مِنْ حبال الله مدّه ما شاء أنْ يمدّه ، ثمّ قطعه حين أراد أنْ يقطعه ، وكان دون مَنْ قبله وخيراً ممّا يأتي بعده ، ولا اُزكّيه عند ربّه وقد صار إليه ؛ فإنْ يعفُ عنه فبرحمته ، وإنْ يعاقبه فبذنبه. وقد وُلّيت بعده الأمر ولست اعتذر مِنْ جهل ولا آتي على طلب علم ، وعلى رسلكم : إذا كره الله شيئاً غيّره ، وإذا أحبّ شيئاً يسّره(2) .

ولم يعرض يزيد في هذا الخطاب لسياسة دولته ، ولمْ يدلِِ بأيّ شيء ممّا تحتاج إليه الأُمّة في مجالاتهم الاقتصادية والاجتماعية ، ومن المقطوع به أنّ ذلك ممّا لمْ يفكّر به ، وإنّما عرض لطيشه وجبروته واستهانته بالأُمّة ، فهو لا يعتذر إليها مِنْ أيّ جهل يرتكبه ولا مِنْ سيئة يقترفها ، وإنّما على الأُمّة الإذعان والرضا لظلمه وبطشه.

__________________

(1) تاريخ الخلفاء ، نشر أكاديمية العلوم للاتحاد السوفيتي.

(2) العقد الفريد 4 / 153 ، عيون الأخبار 2 / 239.

٢٤٤

خطابُهُ في أهل الشام :

وخطب في أهل الشام خطاباً أعلن فيه عن عزمه وتصميمه على الخوض في حرب مدمّرة مع أهل العراق ، وهذا نصه : يا أهل الشام ، فإنّ الخير لمْ يزل فيكم وسيكون بيني وبين أهل العراق حرب شديد ، وقد رأيت في منامي كأنّ نهراً يجري بيني وبينهم دماً عبيطاً ، وجعلت أجهد في منامي أنْ أجوز ذلك النهر فلمْ أقدر على ذلك حتى جاءني عبيد الله بن زياد فجازه بين يدي وأنا أنظر إليه.

وانبرى أهل الشام فأعلنوا تأييدهم ودعمهم الكامل له ، قائلين : يا أمير المؤمنين ، امضِ بنا حيث شئت واقدم بنا على مَنْ أحببت ، فنحن بين يديك وسيوفنا تعرفها أهل العراق في يوم صفين.

فشكرهم يزيد وأثنى على إخلاصهم وولائهم له(1) ، وقد بات من المقطوع به عند أوساط الشام أنّ يزيد سيعلن الحرب على أهل العراق لكراهتهم لبيعته وتجاوبهم مع الإمام الحُسين.

مع المعارضة في يثرب :

ولم يرق ليزيد أنْ يرى جبهة معارضة لا تخضع لسلطانه ولا تدين بالولاء لحكومته ، وقد عزم على التنكيل بها بغير هوادة ، فقد استتبت له الأمور وخضعت له الرقاب وصارت أجهزة الدولة كلّها بيده ، فما الذي يمنعه من إرغام أعدائه ومناوئيه؟

وأهم ما كان يفكّر به من المعارضين الإمام الحُسين (عليه السّلام) ؛ لأنّه يتمتّع

__________________

(1) الفتوح 5 / 6.

٢٤٥

بنفوذ واسع النّطاق ومكانة مرموقة بين المسلمين ، فهو حفيد صاحب الرسالة وسيد شباب أهل الجنّة ، أمّا ابن الزّبير فلمْ تكن له تلك الأهميّة البالغة في نفسه.

الأوامرُ المشدّدة إلى الوليد :

وأصدر يزيد أوامره المشدّدة إلى عامله على يثرب الوليد بن عتبة بإرغام المعارضين له على البيعة ، وقد كتب إليه رسالتين :

الأولى : وقد رويت بصورتين وهما :

1 ـ رواها الخوارزمي وهذا نصها : أمّا بعد ، فإنّ معاوية كان عبداً مِنْ عباد الله أكرمه واستخلصه ومكّن له ، ثمّ قبضه إلى روحه وريحانه ورحمته.

عاش بقدر ومات بأجل ، وقد كان عهد إليّ وأوصاني أنّ الله تبارك وتعالى منتقم للمظلوم عثمان بآل أبي سفيان ؛ لأنّهم أنصار الحقّ وطلاّب العدل ، فإذا ورد عليك كتابي هذا فخذ البيعة على أهل المدينة(1) .

وقد احتوت هذه الرسالة على ما يلي :

1 ـ نعي معاوية إلى الوليد.

2 ـ تخوّف يزيد مِن الأُسرة النبوية ؛ لأنّه قد عهد إليه أبوه بالحذر منها ، وهذا يتنافى مع تلك الوصية المزعومة لمعاوية التي جاء فيها اهتمامه بشأن الحُسين (عليه السّلام) ، وإلزام ولده بتكريمه ورعاية مقامه.

3 ـ الإسراع في أخذ البيعة من أهل المدينة.

2 ـ رواها البلاذري ، وهذا نصها : أمّا بعد ، فإنّ معاوية بن أبي سفيان كان عبداً من عباد الله أكرمه الله واستخلفه وخوّله

__________________

(1) مقتل الحسين (عليه السّلام) للخوازمي 1 / 178.

٢٤٦

ومكّن له ، فعاش بقدر ومات بأجل فرحمة الله عليه ، فقد عاش محموداً ومات برّاً تقيّاً ، والسّلام(1) .

وأكبر الظنّ أنّ هذه الرواية هي الصحيحة ؛ لأنّها قد اقتصرت على نعي معاوية إلى الوليد من دون أنْ تعرض إلى أخذ البيعة من الحُسين وغيره مِن المعارضين ، أمّا على الرواية الأولى فإنّه يصبح ذكر الرسالة التالية ـ التي بعثها يزيد إلى الوليد لإرغام الحُسين على البيعة ـ لغواً.

الثانية : رسالة صغيرة وصِفَت كأنّها أُذن فأرة ، وقد رويت بثلاث صور :

1 ـ رواها الطبري والبلاذري ، وهذا نصها : أمّا بعد ، فخذ حُسيناً وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزّبير أخذاً شديداً ليست فيه رخصة حتّى يبايعوا ، والسّلام(2) .

2 ـ رواها اليعقوبي ، وهذا نصها : إذا أتاك كتابي فاحضر الحُسين بن علي وعبد الله بن الزّبير فخُذهما بالبيعة ، فإن امتنعا فاضرب أعناقهما وابعث إليّ برأسيهما ، وخُذ الناس بالبيعة فمَنْ امتنع فانفذ فيه الحكم ، وفي الحُسين بن علي وعبد الله بن الزّبير ، والسّلام(3) .

وليس في الرواية الثانية ذكرٌ لعبد الله بن عمر ، وأكبر الظن أنّه أُضيف اسمه إلى الحُسين وابن الزّبير لإلحاقه بالجبهة المعارضة وتبريره من التأييد السافر لبيعة يزيد.

3 ـ رواها الحافظ ابن عساكر ، وهذا نصها : أن ادعُ الناس

__________________

(1) أنساب الأشراف 1 ق 1 / 124.

(2) تاريخ الطبري 6 / 84 ، أنساب الأشراف 1 ق 1 / 124.

(3) تاريخ اليعقوبي 2 / 215.

٢٤٧

فبايعهم وابدأ بوجوه قريش ، وليكن أوّل مَنْ تبدأ به الحُسين بن علي ؛ فإنّ أمير المؤمنين ـ يعني معاوية ـ عهد إليّ في أمره الرفق واستصلاحه(1) .

وليس في هذه الرواية ذكر لابن الزّبير وابن عمر ، إذ لمْ تكن لهما أيّة أهميّة في نظر يزيد ، إلاّ إنّا نشك فيما جاء في آخر هذه الرسالة مِنْ أنّ معاوية قد عهد إلى يزيد الرفق بالحُسين واستصلاحه ؛ فإنّ معاوية قد وقف موقفاً [سلبياً] يتّسم بالعداء والكراهية لعموم أهل البيت (عليهم السّلام) ، واتّخذ ضدّهم جميع الإجراءات القاسية كما ألمعنا إلى ذلك في البحوث السابقة ، وأكبر الظنّ أنّ هذه الجملة قد أُضيفت إليها لتبرير معاوية ونفي المسؤولية عنه فيما ارتكبه ولده مِن الجرائم ضدّ العترة الطاهرة.

بقي هنا شيء وهو أنّ هذه الرسالة قد وصفها المؤرّخون كأنّها أُذن فأرة لصغرها ، ولعلّ السبب في إرسالها بهذا الحجم هو أنّ يزيد قد حسِبَ أنّ الوليد سينفّذ ما عهد إليه مِنْ قتل الحُسين وابن الزّبير.

ومِن الطبيعي أنّ لذاك كثيراً مِن المضاعفات السيئة ، ومِنْ أهمها ما يلحقه مِن التذمّر والسّخط الشامل بين المسلمين ، فأراد أنْ يجعل التبعة على الوليد وأنّه لمْ يعهد إليه بقتلهما ، وأنّه لو أمره بذلك لأصدر مرسوماً خاصاً مطوّلاً به.

وحمل الرسالتين زُريق مولاه ، فأخذ يجذ في السير لا يلوي على شيء حتى انتهى إلى يثرب(2) ، وكان معه عبد الله بن سعد بن أبي سرح متلثّماً لا يبدو منه إلاّ عيناه ، فصادفه عبد الله بن الزّبير فأخذ بيده وجعل

__________________

(1) تاريخ ابن عساكر 13 / 68.

(2) تاريخ الإسلام ـ الذهبي 1 / 269 ، تاريخ خليفة بن خيّاط 1 / 222 ، وجاء في تاريخ ابن عساكر 13 / 68 وكتب يزيد مع عبد الله بن عمر ، وابن إدريس العامري عامر بن لؤي هذه الرسالة.

٢٤٨

يسأله عن معاوية وهو لا يجيبه ، فقال له : أمات معاوية؟ فلمْ يكلّمه بشيء فاعتقد بموت معاوية ، وقفل مسرعاً إلى الحُسين وأخبره الخبر(1) ، فقال له الحُسين : «إنّي أظنّ أنّ معاوية قد مات ، فقد رأيت البارحة في منامي كأن منبر معاوية منكوساً ، ورأيت داره تشتعل ناراً ، فأوّلت ذلك في نفسي بموته»(2) .

وأقبل زُريق إلى دار الوليد فقال للحاجب : استاذن لي ، فقال : قد دخل ولا سبيل إليه ، فصاح به زُريق : إنّي جئته بأمر ، فدخل الحاجب وأخبره بالأمر فأذن له ، وكان جالساً على سرير فلمّا قرأ كتاب يزيد بوفاة معاوية جزع جزعاً شديداً ، وجعل يقوم على رجليه ويرمي بنفسه على فراشه(3) .

فزع الوليد :

وفزع الوليد ممّا عهد إليه يزيد مِن التنكيل بالمعارضين ؛ فقد كان على يقين من أنّ أخذ البيعة من هؤلاء النفر ليس بالأمر السّهل حتّى يقابلهم بالعنف ، أو يضرب أعناقهم كما أمره يزيد.

إنّ هؤلاء النفر لمْ يستطع معاوية مع ما يتمتّع به مِن القابليات الدبلوماسية أنْ يُخضعهم لبيعة يزيد ، فكيف يصنع الوليد أمراً عجز عنه معاوية؟

__________________

(1) شرح نهج البلاغة 2 / 115.

(2) الفتوح 5 / 14.

(3) تاريخ خليفة بن خيّاط 1 / 222.

٢٤٩

استشارته لمروان :

وحار الوليد في أمره فرأى أنّه في حاجة إلى مشورة مروان عميد الأُسرة الاُمويّة فبعث خلفه ، فأقبل مروان وعليه قميص أبيض وملأة مورّدة(1) فنعى إليه معاوية فجزع مروان وعرض عليه ما أمره يزيد مِنْ إرغام المعارضين على البيعة له وإذا أصرّوا على الامتناع فيضرب أعناقهم ، وطلب مِنْ مروان أنْ يمنحه النّصيحة ويخلص له في الرأي.

رأي مروان :

وأشار مروان على الوليد فقال له : ابعث إليهم في هذه الساعة فتدعوهم إلى البيعة والدخول في طاعة يزيد ، فإنْ فعلوا قبلت ذلك منهم وإنْ أبَوا قدّمهم واضرب أعناقهم قبل أنْ يدروا بموت معاوية ؛ فإنّهم إنْ علموا ذلك وثب كلّ رجل منهم فأظهر الخلاف ودعا إلى نفسه ، فعند ذلك أخاف أنْ يأتيك مِنْ قِبَلِهم ما لا قِبَلَ لك به ، إلاّ عبد الله بن عمر فإنّه لا ينازع في هذا الأمر أحداً مع إنّي أعلم أنّ الحُسين بن علي لا يجيبك إلى بيعة يزيد ولا يرى له عليه طاعة ، ووالله ، لو كنت في وضعك لمْ اُراجع الحُسين بكلمة واحدة حتى أضرب رقبته كان في ذلك ما كان.

وعظُمَ ذلك على الوليد وهو أحنك بني أُميّة وأملكهم لعقله ورشده ، فقال لمروان : يا ليت الوليد لمْ يولد ولمْ يك شيئاً مذكوراً.

__________________

(1) تاريخ الإسلام ـ الذهبي 1 / 269.

٢٥٠

فسخر منه مروان وراح يندّد به قائلاً : لا تجزع ممّا قلت لك! فإنّ آل أبي تراب هم الأعداء مِنْ قديم الدهر ولم يزالوا ، وهم الدين قتلوا الخليفة عثمان بن عفان ثمّ ساروا إلى أمير المؤمنين ـ يعني معاوية ـ فحاربوه.

ونهره الوليد فقال له : ويحك يا مروان عن كلامك هذا! وأحسِن القول في ابن فاطمة ، فإنّه بقيّة النّبوة(1) . واتّفق رأيهم على استدعاء القوم وعرض الأمر عليهم ؛ للوقوف على مدى تجاوبهم مع السلطة في هذا الأمر.

أضواءُ على موقف مروان :

لقد حرّض مروان الوليد على التنكيل بالمعارضين ، واستهدف بالذات الإمام الحُسين ، فألحّ بالفتك به إنْ امتنع من البيعة ، وفيما أحسب أنّه إنّما دعاه لذلك ما يلي :

1 ـ أنّ مروان كان يحقد على الوليد ، وكانت بينهما عداوة متأصّلة وهو على يقين أنّ الوليد يحبّ العافية ولا ينفّذ ما عهد إليه في شأن الإمام الحُسين ، فاستغلّ الموقف وراح يشدّد عليه في اتّخاذ الإجراءات الصارمة ضدّ الإمام ؛ ليسبتين لطاغية الشام موقفه فيسلب ثقته عنه ويقصيه عن ولاية يثرب ، وفعلاً قد تحقّق ذلك ، فإنّ يزيد حينما علم بموقف الوليد مع الحُسين (عليه السّلام) غضب عليه وأقصاه عن منصبه.

__________________

(1) الفتوح 5 / 12 ـ 13.

٢٥١

2 ـ أنّ مروان كان ناقماً على معاوية حينما عهد بالخلافة لولده ولمْ يرشحّه لها ؛ لأنّه شيخ الاُمويِّين وأكبرهم سناً ، فأراد أنْ يورّط يزيد في قتل الإمام ؛ ليكون به زوال ملكه.

3 ـ كان مروان من الحاقدين على الحُسين ؛ لأنّه سبط رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الذي حصد رؤوس بني أُميّة ونفى أباه الحكم عن يثرب ، وقد لعنه ولعن مَنْ تناسل منه ، وقد بلغ الحقد بمروان للأُسرة النّبوية أنّه منع مِنْ دفن جنازة الحسن (عليه السّلام) مع جدّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

ويقول المؤرّخون : إنّه كان يبغض أبا هريرة ؛ لأنّه يروي ما سمعه مِنْ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في فضل سبطيه وريحانتيه ، وقد دخل على أبي هريرة عائداً له فقال له : يا أبا هريرة ، ما وجدت عليك في شيء منذ اصطحبنا إلاّ في حبّك الحسن والحُسين.

فأجابه أبو هريرة : أشهد لقد خرجنا مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فسمع الحسن والحُسين يبكيان ، فقال : «ما شأن ابني؟» فقالت فاطمة : «العطش» ، يا مروان كيف لا أحبّ هذين وقد رأيت مِنْ رسول الله ما رأيت؟!(1)

لقد دفع مروان الوليد إلى الفتك بالحُسين لعله يستجيب له فيروي بذلك نفسه المترعة بالحقد والكراهية لعترة النّبي (صلّى الله عليه وآله).

4 ـ كان مروان على يقين أنّه سيلي الخلافة ، فقد أخبره الإمام أمير المؤمنين وصي النّبي (صلّى الله عليه وآله) وباب مدينة علمه حينما تشفّع الحسنان به بعد واقعة الجمل ، فقال : «إنّ له إمرة كلعقة الكلب أنفه» ، وقد اعتقد بذلك مروان ، وقد حرّض الوليد على الفتك بالحُسين ؛ ليكون

__________________

(1) تاريخ ابن عساكر 4 / 208.

٢٥٢

ذلك سبباً لزوال مُلْكِ بني سفيان ورجوع الخلافة إليه.

هذه بعض الأسباب التي حفّزت مروان إلى الإشارة على الوليد بقتل الإمام الحُسين ، وإنّه لمْ يكن بذلك مشفوعاً بالولاء والإخلاص إلى يزيد.

استدعاءُ الحُسين (عليه السّلام) :

وأرسل الوليد في منتصف الليل(1) عبد الله بن عمرو بن عثمان وهو غلام حدث خلف الحُسين وابن الزّبير ، وإنّما بعثه في هذا الوقت لعلّه يحصل على الوفاق من الحُسين ولو سرّاً على البيعة ليزيد ، وهو يعلم أنّه إذا أعطاه ذلك فلن يخيس بعهده ولن يتخلّف عن قوله.

ومضى الفتى يدعو الحُسين وابن الزّبير للحضور عند الوليد فوجدهما في مسجد النّبي (صلّى الله عليه وآله) فدعاهما إلى ذلك فاستجابا له وأمراه بالانصراف ، وذعر ابن الزّبير ، فقال للإمام :

ـ ما تراه بعث إلينا في هذه الساعة التي لم يكن يجلس فيها؟

ـ «أظنّ أنّ طاغيتهم ـ يعني معاوية ـ قد هلك ، فبعث إلينا بالبيعة قبل أنْ يفشو بالناس الخبر».

ـ وأنا ما أظن غيره ، فما تريد أنْ تصنع؟

ـ «أجمع فتياني السّاعة ثم أسير إليه ، وأجلسهم على الباب».

ـ إنّي أخاف عليك إذا دخلت.

ـ «لا آتيه إلاّ وأنا قادر على الامتناع»(2) .

__________________

(1) البداية والنهاية 8 / 160.

(2) تاريخ ابن الأثير 3 / 264.

٢٥٣

وانصرف أبيّ الضيم إلى منزله فاغتسل وصلّى ودعا الله(1) ، وأمر أهل بيته بلبس السّلاح والخروج معه ، فخفّوا محدقين به ، فأمرهم بالجلوس على باب الدار ، وقال لهم : «إنّي داخل فإذا دعوتكم ، أو سمعتم صوتي قد علا فادخلوا عليّ بأجمعكم». ودخل الإمام على الوليد فرأى مروان عنده وكانت بينهما قطيعة ، فأمرهما الإمام بالتقارب والإصلاح وترك الأحقاد ، وكانت سجية الإمام (عليه السّلام) التي طُبِعَ عليها الإصلاح حتّى مع أعدائه وخصومه.

فقال (عليه السّلام) لهما : «الصلة خير من القطيعة ، والصلح خير مِن الفساد ، وقد آن لكما أنْ تجتمعا ، أصلح الله ذات بينكما»(2) .

ولمْ يجيباه بشيء فقد علاهما صمت رهيب ، والتفت الإمام إلى الوليد فقال له : «هل أتاك مِنْ معاوية خبر ، فإنّه كان عليلاً وقد طالت علّته ، فكيف حاله الآن؟».

فقال الوليد بصوت خافت ، حزين النّبرات : آجرك الله في معاوية ، فقد كان لك عمّ صدوق ، وقد ذاق الموت ، وهذا كناب أمير المؤمنين يزيد.

فاسترجع الحُسين (عليه السّلام) ، وقال له : «لماذا دعوتني؟».

دعوتك للبيعة(3) .

فقال (عليه السّلام) : «إنّ مثلي لا يبايع سرّاً ولا يُجتزئ بها منّي سرّاً ، فإذا خرجت إلى الناس ودعوتهم للبيعة دعوتنا معهم ، وكان الأمر واحداً».

__________________

(1) الدر النظيم / 162.

(2) تاريخ ابن الأثير 3 / 264.

(3) الفتوح 5 / 17.

٢٥٤

لقد طلب الإمام تأجيل الأمر إلى الصباح ؛ حتّى يعقد اجتماعاً جماهيرياً فيدلي برأيه في شجب البيعة ليزيد ، ويستنهض همم المسلمين على الثورة والإطاحة بحكمه ، وكان الوليد ـ فيما يقول المؤرّخون ـ يحبّ العافية ويكره الفتنة ، فشكر الإمام على مقالته وسمح له بالانصراف إلى داره.

وانبرى الوغد الخبيث مروان بن الحكم وهو مغيظ محنق فصاح بالوليد : لئن فارقك السّاعة ولمْ يبايع لا قدرت منه على مثلها أبداً حتّى تكثر القتلى بينكم وبينه ، احبسه فإنْ بايع وإلاّ ضربت عنقه.

ووثب أبيّ الضيم إلى الوزغ بن الوزغ ، فقال له : «يابن الزرقاء ، أأنت تقتلني أمْ هو؟ كذبت والله ولؤمت»(1) .

وأقبل على الوليد فأخبره عن عزمه وتصميمه على رفض البيعة ليزيد قائلاً : «أيّها الأمير ، إنّا أهل بيت النّبوة ومعدن الرسالة ، ومختلف الملائكة ومحل الرّحمة ، بنا فتح الله وبنا يختم. ويزيد رجل فاسق ، شارب الخمر ، قاتل النفس المحرّمة ، معلن بالفسق ، ومثلي لا يبايع مثله ، ولكن نصبح وتصبحون ، وننظر وتنظرون أينا أحقّ بالخلافة والبيعة؟»(2) .

وكان هذا أوّل إعلان له على الصعيد الرسمي بعد هلاك معاوية في رفض البيعة ليزيد ، وقد أعلن ذلك في بيت الإمارة ورواق السلطة بدون مبالاة ولا خوف ولا ذعر.

لقد جاء تصريحه بالرفض لبيعة يزيد معبّراً عن تصميمه ، وتوطين نفسه حتّى النّهاية على التضحية عن سموّ مبدئه وشرف عقيدته ، فهو بحكم مواريثه الروحية ، وبحكم بيئته التي كانت ملتقى لجميع الكمالات الإنسانية

__________________

(1) تاريخ ابن الأثير 3 / 264.

(2) الفتوح 5 / 18.

٢٥٥

كيف يبايع يزيد الذي هو مِنْ عناصر الفسق والفجور؟ ولو أقرّه إماماً على المسلمين لساق الحياة الإسلاميّة إلى الانهيار والدمار ، وعصف بالعقيدة الدينية في متاهات سحيقة مِن مجاهل هذه الحياة.

وكانت كلمة الحقّ الصارخة التي أعلنها أبو الأحرار قد أحدثت استياءً في نفس مروان ، فاندفع يعنّف الوليد ويلومه على إطلاق سراحه قائلاً : عصيتني! لا والله ، لا يمكّنك مثلها من نفسه أبداً.

وتأثّر الوليد مِنْ منطق الإمام وتيقّظ ضميره ، فاندفع يردّ أباطيل مروان قائلاً : ويحك! إنّك أشرت عليّ بذهاب ديني ودنياي. والله ، ما أحبّ أنْ أملك الدنيا بأسرها ، وإنّي قتلت حُسيناً. سُبحان الله! أأقتل حُسيناً إنْ قال لا أُبايع؟! والله ، ما أظنّ أحداً يلقى الله بدم الحُسين إلاّ وهو خفيف الميزان ، لا ينظر الله إليه يوم القيامة ، ولا يزكّيه وله عذاب أليم.

وسخر منه مروان وطفق يقول : إذا كان هذا رأيك فقد أصبت(1) .

وعزم الحُسين على مغادرة يثرب والتوجّه إلى مكّة ؛ ليلوذ بالبيت الحرام ويكون بمأمن مِنْ شرور الاُمويِّين واعتدائهم.

الحسينُ (عليه السّلام) مع مروان :

والتقى أبيّ الضيم في أثناء الطريق بمروان بن الحكم في صبيحة تلك الليلة التي أعلن فيها رفضه لبيعة يزيد ، فبادره مروان قائلاً :

__________________

(1) الطبري.

٢٥٦

«إنّي ناصح ، فأطعني ترشد وتسدّد ..».

«وما ذاك يا مروان؟».

«إنّي آمرك ببيعة أمير المؤمنين يزيد ؛ فإنّه خير لك في دينك ودنياك».

والتاع كأشدّ ما تكون اللوعة واسترجع ، وأخذ يردّ على مقالة مروان ببليغ منطقه قائلاً : «على الإسلام السّلام ، إذ قد بُليت الأُمّة براعٍ مثل يزيد. ويحك يا مروان! أتأمرني ببيعة يزيد وهو رجل فاسق؟! لقد قلت شططاً من القول. لا ألومك على قولك ؛ لأنّك اللعين الذي لعنك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأنت في صلب أبيك الحكم بن أبي العاص».

وأضاف الإمام يقول : «إليك عنّي يا عدو الله! فإنّا أهل بيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) والحقّ فينا ، وبالحقّ تنطق ألسنتنا ، وقد سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول : الخلافة محرّمة على آل أبي سفيان ، وعلى الطلقاء وأبناء الطلقاء. وقال : إذا رأيتم معاوية على منبري فابقروا بطنه. فوالله ، لقد رآه أهل المدينة على منبر جدّي فلم يفعلوا ما أُمروا به».

وتميّز الخبيث الدنس مروان غيظاً وغضباً ، واندفع يصيح : والله ، لا تفارقني أو تبايع ليزيد صاغراً ؛ فإنّكم آل أبي تراب قد أُشربتم بغض آل أبي سفيان ، وحقّ عليكم أن تبغضوهم وحقّ عليهم أن يبغضوكم.

وصاح به الإمام : «إليك عنّي فإنّك رجس ، وأنا مِنْ أهل بيت الطهارة الذين أنزل الله فيهم على نبيه (صلّى الله عليه وآله) : إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً».

ولمْ يطق مروان الكلام وقد تحرّق ألماً وحزناً ، فقال له الإمام : «أبشرْ يابن الزرقاء بكلّ ما تكره من الرسول (صلّى الله عليه وآله) يوم تقْدِم

٢٥٧

على ربّك فيسألك جدّي عن حقّي وحقّ يزيد».

وانصرف مروان مسرعاً إلى الوليد فأخبره بمقالة الحُسين له(1) .

اتصالُ الوليد بدمشق :

وأحاط الوليدُ يزيدَ علماً بالأوضاع الراهنة في يثرب ، وعرّفه بامتناع الحُسين (عليه السّلام) من البيعة ، وأنّه لا يرى له طاعة عليه ، ولمّا فهم يزيد بذلك تميّز غيظاً وغضباً.

الأوامر المشدّدة مِن دمشق :

وأصدر يزيد أوامره المشدّدة إلى الوليد بأخذ البيعة مِنْ أهل المدينة ثانياً ، وقتل الحُسين (عليه السّلام) وإرسال رأسه إليه.

وهذا نص كتابه : من عبد الله يزيد أمير المؤمنين إلى الوليد بن عتبة ، أمّا بعد ، فإذا ورد عليك كتابنا هذا فخذ البيعة ثانياً على أهل المدينة بتوكيد منك عليهم وذر عبد الله بن الزّبير ؛ فإنّه لن يفوت أبداً مادام حيّاً ، وليكن مع جوابك إليّ برأس الحُسين بن علي ، فإنْ فعلت ذلك فقد جعلت لك أعنّة الخيل ولك عندي الجائزة والحظّ الأوفر والنّعمة ، والسّلام.

رفض الوليد :

ورفض الوليد رسميّاً ما عهد إليه يزيد من قتل الحُسين ، وقال : لا والله ، لا يراني الله قاتلَ الحُسين بن علي. لا أقتل ابن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله)

__________________

(1) الفتوح 5 / 24.

٢٥٨

ولو أعطاني يزيد الدنيا بحذافيرها(1) ، وقد جاءته هذه الرسالة بعد مغادرة الإمام يثرب إلى مكّة.

وداع الحُسين (عليه السّلام) لقبر جدّه (صلّى الله عليه وآله) :

وخفّ الحُسين (عليه السّلام) في الليلة الثانية إلى قبر جدّه (صلّى الله عليه وآله) وهو حزين كئيب ؛ ليشكو إليه ظلم الظالمين له ، ووقف أمام القبر الشريف بعد أنْ صلّى ركعتين وقد ثارت مشاعره وعواطفه ، فاندفع يشكو إلى الله ما ألمّ به من المحن والخطوب قائلاً : «اللّهم ، إنّ هذا قبرَ نبيّك محمّدٌ وأنا ابن بنت محمّد ، وقد حضرني من الأمر ما قد علمت. اللّهم ، إنّي اُحبّ المعروف واُنكر المُنكر ، وأنا أسألك يا ذا الجلال والإكرام بحقّ هذا القبر ومَنْ فيه إلاّ ما اخترت لي ما هو لك رضى ولرسولك رضى».

رؤيا الحُسين (عليه السّلام) لجدّه (صلّى الله عليه وآله) :

وأخذ الحُسين يطيل النظر إلى قبر جدّه وقد وثقت نفسه أنّه لا يتمتّع برؤيته وانفجر بالبكاء ، وقبل أنْ يندلعَ نور الفجر غلبه النوم فرأى جدّه الرسول (صلّى الله عليه وآله) قد أقبلَ في كتيبة مِن الملائكة ، فضمّ الحُسين إلى صدره وقبّل ما بين عينيه ، وهو يقول له : «يا بُني ، كأنّي عن قريب أراك مقتولاً مذبوحاً بأرض كربٍ وبلاء ، بين عصابة مِنْ أُمّتي ، وأنت مع ذلك عطشان لا تُسقى ، وظمآن

__________________

(1) الفتوح 5 / 26 ـ 27.

٢٥٩

لا تُروى ، وهم مع ذلك يرجون شفاعتي يوم القيامة! فما لهم عند الله مِنْ خلاق.

حبيبي يا حُسين ، إنّ أباك وأُمّك وأخاك قد قدموا عليّ وهم إليك مشتاقون. إنّ لك في الجنّة درجات لن تنالها إلاّ بالشهادة».

وجعل الحُسين يطيل النظر إلى جدّه (صلّى الله عليه وآله) ويذكر عطفه وحنانه عليه فازداد وجيبه. وتمثّلت أمامه المحن الكبرى التي يعانيها من الحكم الاُموي. فهو إمّا أنْ يُبايع فاجرَ بني أُميّة أو يُقتل ، وأخذ يتوسّل إلى جدّه ويتضرّع إليه قائلاً : «يا جدّاه ، لا حاجة لي في الرجوع إلى الدنيا ، فخذني إليك وأدخلني معك إلى منزلك».

والتاع النّبي (صلّى الله عليه وآله) ، فقال له : «لا بدّ لك مِن الرجوع إلى الدنيا حتّى تُرزق الشهادة ، وما كتب الله لك فيها من الثواب العظيم ؛ فإنّك وأباك وأخاك وعمّك وعمّ أبيك تُحشرون يوم القيامة في زمرة واحدة حتّى تدخلوا الجنّة»(1) .

واستيقظ الحُسين فزعاً مرعوباً ، قد ألمّت به تياراتٌ من الأسى والأحزان ، وصار على يقين لا يخامره أدنى شك أنّه لا بد أنْ يُرزق الشهادة ، وجمع أهل بيته فقصّ عليهم رؤياه الحزينة ، فطافت بهم الآلام وأيقنوا بنزول الرزء القاصم.

ووصف المؤرّخون شدّة حزنهم بأنّه لمْ يكن في ذلك اليوم لا في شرق الأرض ولا في غربها أشدّ غمّاً مِنْ أهل بيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ولا أكثر باكية وباك منهم(2) .

__________________

(1) الفتوح 5 / 28 ـ 29.

(2) مقتل العوالم / 54.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663