موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ الغيبة الصغرى) الجزء ١

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ الغيبة الصغرى)0%

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ الغيبة الصغرى) مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الإمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف
الصفحات: 663

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ الغيبة الصغرى)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشهيد السيد محمد محمد صادق الصدر
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الصفحات: 663
المشاهدات: 35700
تحميل: 7373


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 663 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 35700 / تحميل: 7373
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ الغيبة الصغرى)

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ الغيبة الصغرى) الجزء 1

مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الفصل الثاني:

تاريخ الإمام عليّ بن محمّد الهادي (عليه السلام)

كانت سامرّاء عاصمة الدولة العبّاسية في أوَج عزّها وعُمرانها، وكان المتوكّل هو الذي تسنّم كرسي الخلافة، جاء به جماعةٌ من المَوالى والأتراك عام 232هـ، وكان قد تسلّم الخلافة حاقداً على أئمّتنا (عليهم السلام) وعلى أصحابهم، حذِراً منهم كلّ الحذر، وهذا واضح - لِمَن يراجع التاريخ - كلّ الوضوح (1) بلَغ في آل أبي طالب ما لَم يبلغه أحد مِن خُلَفاء بني العبّاس قبله، وكان من ذلك أنْ كرَب قبْر الحسين (عليه السلام) وعفى آثاره.

وفكّر المتوكّل أنْ يستقدِم الإمام عليّ بن محمّد الهادي (عليه السلام) إلى سامرّاء من المدينة، آخذاً بالأُسلوب الذي اخترعه المأمون العبّاسي، وسار عليه مِن بعده تجاه الإمام الجواد محمّد بين عليّ (عليه السلام)، ومن بعده الأئمّة (عليه السلام)، فإنّ المأمون حين زوّج ابنته أُمّ الفضل للإمام الجواد (عليه السلام)، كان قد وضَع الحجَر الأساسي للمراقبة الشديدة والحذَر التام من الإمام (عليه السلام) من الداخل، مضافاً إلى مراقبته مِن الخارج، وكان هذا الزواج وتقريبه إلى البلاط، أُسلوباً ناجحاً

_________________

(1) انظر الكامل ج، ص 304 و ص 287، والمروج ج 4 ص 51 ومقاتل الطالبين ج 3 ص 424.

١٠١

للوصول إلى هذه النتيجة التي يُراد بها جعل الإمام (عليه السلام) بين سمع الخليفة وبصره، وعزله عن قواعده الشعبية الموالية له، وكفكفة نشاطه.

وإذ توفّيَ الإمام الجواد (عليه السلام)، وتولّى الإمام الهادي (عليه السلام) الإمامة بعده، لم يكن ليفوت المتوكّل ضرورة تطبيق نفس هذا الأُسلوب عليه، فهو يَرى أنّ الإمام حال وجوده في المدينة، بعيداً عنه، يُشكّل خطراً على الدولة لا محالة، إذن فلا بدّ من استقدامه إلى سامرّاء حتى يأمن خطَره ويهدأ باله، ويضعَه تحت الرقابة المباشرة منفصلاً عن قواعده الشعبية.

ومِن ثمّ كانت الوشاية به – وهي ناقوس الخطر – كافيه لحفز المتوكّل على ضعضعة حياة الإمام الهادي (عليه السلام)، ونقله من موطنه وداره في المدينة، إلى العاصمة سامراء، لكي يبدأ تاريخاً جديداً حافلاً في موطنه الجديد.

الاتجاه العام للإمام الهادي (عليه السلام)

في استقدام المتوكّل إيّاه:

لم يكن مِن المصلحة في نظر الإمام (عليه السلام)، إعلان الخلاف ضدّ المتوكّل، وكذلك كانت سياسة أبيه وأبنائه (عليهم السلام) بالنسبة إلى الخلافة العبّاسية، حتى تكلّلت هذه السلبية بغيبة الإمام المهدي (عليه السلام)، ولعلّنا في غنى عن إعطاء الفكرة الكاملة عن سبَب هذه السلبية،

١٠٢

بعد وضوح أنّ ما يستهدفه الأئمّة (عليهم السلام) إنّما هو تأسيس المجتمع الإسلامي العادل الواعي الذي يطبّق تعاليم الإسلام بتفاصيلها، ويتعاون أفراده في إنجاح التجربة الإسلامية.

وهذا إنّما يتوفّر بعد وجود عنصرين:

أوّلهما: وجود الخلافة الإسلامية بالشكل الذي كان يؤمن به الأئمّة (عليهم السلام)، وهو تولّيهم بأنفسهم منصب الإمامة ورئاسة الدولة الإسلامية، أو مَن يُعيّنونه ويختارونه لذلك.

ثانيهما: وجود المجتمع الذي يملك أكثريةً كبيرة أو مئة بالمئة، لو تحقّق من الأفراد الواعين المُتشبّعين بفهم الإسلام نصّاً وروحاً، ومستعدّين للتضحية في سبيله، ولقول الحقّ ولو على أنفسهم، ورفض مصالحهم الضيّقة تجاهه، والذين يبذلون – نتيجة لذلك – الطاعة المطلقة للحاكم الإسلامي الحق.

ولعلّنا نستطيع أنْ نستوضح أهمية انضمام هذين العنصرين في تكوين الدولة الدولة الإسلامية، إذا تصوّرنا تخلّي بعضها عن بعض، في صورةٍ ما إذا تولّى الإمام الحق منصِب الرئاسة في مجتمعٍ متضارب الآراء مختلف الأهواء، يعيش أفراده على اللذاذة الآنيّة والمصلحة الشخصيّة، بعيدين عن الإسلام وعن الاستعداد للتضحية في سبيله بأقلّ القليل، هل يستطيع الإمام أنْ يقدّم الخدمات الإسلامية المطلوبة، لمثل هذا المجتمع.

كلا؛ فإنّ تطبيق العدل الكامل، يحتاج إلى العمل الدائب والتضحيات الكبيرة والطاعة المطلقة للرئيس العادل، وكلّ ذلك ممّا لا يُمكن توفّره في المجتمع المنحرف وغير الواعي.

١٠٣

ومِن ثمّ لم يكن الأئمّة (عليهم السلام)، يرَون المصلحة في تولّي رئاسة الدولة الإسلامية في المجتمع المنحرف، الذي أدّى بمَن تولّى هذا المنصب منهم إلى المتاعب المضاعفة، وإلى القتل في نهاية المطاف، وهم: جدُّهم الأعلى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، ومِن بعده ابنه الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام)، إذ لو كان المجتمع واعياً ومضحّياً في سبيل دينه في عصرهما (عليهما السلام)، لكان لهما خاصّة وللأُمّة الإسلامية عامّة تاريخ غير هذا التاريخ.

ولم يكن المجتمع في خلال عصور الأئمّة جميعهم بأحسَن حالاً من المجتمع الأوّل، الذي قتل أمير المؤمنين وخذَل ابنه الحسن، وقاتل ابنه الحسين (عليهم السلام)، إنْ لم يكن قد تزايَد لهوَه وبطَرُه وحرصه على المصالح واللذاذات، نتيجة لانكباب الخُلفاء أنفسهم على ذلك، فإنّ الناس بدين ملوكهم، مع انعدام أو ضآلة المدّ الكافي لتوعية المجتمع وإرجاعه إلى فهم دينه الحنيف.

ومِن ثمّ لم يكن لهم في الخلافة مطمع؛ لأنّهم لم يكونوا يريدون السير على الخطّ (الأموي – العبّاسي) للخلافة، ذلك الخط المنحرف الذي يؤمن للناس أطماعهم، ويقسم المجتمع إلى نعمةٍ موفورة وإلى حقٍّ مضيّع.

فكان الهدف الأساسي للأئمّة (عليهم السلام) ينقسم إلى أمرَين مترابطين:

أحدهما: حفظ المجتمع من التفسّخ والانهيار الكلّي، أو بتعبيرٍ آخر: حفظ الثمالة المُشعّة مِن الحق، المتمثّلة بهم وبمواليهم وقواعدهم

١٠٤

الشعبية.

ثانيها: السعي إلى تأسيس المجتمع الإسلامي الواعي، ورفع المستوى الإيماني في نفوس أفراده، تمهيداً لنيل الخلافة الحقّة، وتطبيق المنصب الإلهي الذي يعتقدون استحقاقه.

وكانوا يعملون على تنفيذ ذلك، في حدود الإمكان الذي يناسب مع الحذَر من الجهاز الحاكم وتجنّب شرّه، إذ لم يكن من المصلحة، أنْ يقوم الإمام (عليه السلام) بحركة ثورية عشوائية بجماعةٍ قليلةٍ تؤدّي به وبجميع أصحابه إلى الاستئصال التام، ولا يتحقّق شيء من ذَينك الغرَضين.

فهذا هو السرّ الأساسي للسلبية التي سار عليها الأئمّة (عليهم السلام) تجاه السلطات الحاكمة، وهو الذي يُفسّر لنا – على تفصيلٍ وتحقيقٍ لا مجال له هنا – إعلان الإمام الحسن (عليه السلام) الصلح مع معاوية.

ورفْض الإمام الرضا (عليه السلام) ولاية العهد التي عرَضها عليه المأمون.

وهو السبب الذي أدّى إلى الموقف السلبي للإمامين العسكريّين (عليهما السلام)، اللذَين نؤرّخ لهما، وهو الذي أدّى – في نهاية المطاف – إلى غيبة الإمام المهدي (عليه السلام)، على ما سنعرف.

١٠٥

سفَره إلى سامرّاء:

وشى عبد الله بن محمّد الذي كان يتولّى الحرب والصلاة بمدينة الرسول المنوّرة، بالإمام الهادي (عليه السلام)، وكان يقصده بالأذى، فبلغ إلى الإمام خبَر وشايته، فكتَب إلى المتوكّل يذكر تحامل عبد الله بن محمّد عليه وكذبه فيما سعى به (1) .

فنرى كيف أنّ عبد الله بن محمّد يُمثّل الخطّ العام للدولة، في الفزَع من نشاط الإمام وتصرّفاته، وكيف وصَل به الحال إلى أنْ يرسل إلى المتوكّل بخبَرِه، باعتباره حريصاً على مصالح الدولة، ومنتبهاً على مواطن الخطر! ولعلّه التفت إلى بعض النشاطات المهمّة التي كان يقوم بها الإمام بعيداً عن السلطات، فأوجَس منها خيفة حدَت به إلى هذه الوشاية.

إلاّ أنّ المتوكّل كان يعلم بكلِّ وضوح، عدم إمكان الحصول على أيِّ مستندٍ ضدّ الإمام (عليه السلام)؛ فإنّ للأئمّة (عليهم السلام)، كما سبَق أنْ قلنا أساليباً من الرمزية والإخفاء يمكنهم خلالها القيام بجملةٍ من جلائل

_________________

(1) انظر الإرشاد 313.

١٠٦

الأعمال، لعلّ أهمّ دلائل الإخفاء، هو تصدّيه إلى تكذيب الخبَر برسالةٍ يرسلها إلى المتوكّل نفسه، يكذِّب فيها التهمة، وينفي عن نفسه صفة التآمر على الدولة، فإنّ نشاطه كان مقتصراً في الدفاع عن قواعده الشعبية وتدبير أُمورهم، وليس له ضدّ الدولة أيَّ عمل، وإنْ كان قد أوجَب عمله توهّم عبد الله بن محمّد لذلك.

والمتوكّل هو مَن عرفناه بموقفه المتزمّت ضدّ الإمام (عليه السلام) وكلّ مَن يمتّ إليه بنسب أو عقيدة، ولكنّه يتلقى رسالة الإمام (عليه السلام) بصدرٍ رحِب، ويُرسل له رسالة مفصّلة كلّها إجلالٌ له وإعظامٌ لمحلّه ومنزلته.

يعترف بها ببرائته وصدق نيّته ويوعِز بعزل عبد الله بن محمّد عن منصبه بالمدينة، ويدّعي الاشتياق إليه ويدعوه أنْ يشخص إلى سامرّاء مع مَن اختار من أهل بيته ومواليه (1) .

وهذا الطلب، وإنْ صاغه المتوكّل بصيغة الرجاء، إلاّ أنّه هو الإلزام بعينه، فإنّ الإمام (عليه السلام) إنْ لم يذهب حيث أمره يكون قد أثبت تلك التهمة على نفسه، وأعلَن العِصيان على الخلافة، وكلاهما ممّا لا تقتضيه سياسة الإمام (عليه السلام).

وأمّا عام سفره هذا، فقد ذكر في الإرشاد (2) : إنّ الرسالة مؤرّخة بجمادى الآخرة سنة ثلاث وأربعين ومِئتين وليس في هذا ما يلفت النظر، لولا ما ذكَره ابن شهر آشوب من أنّ مدّة مقام الإمام

_______________________________

(1) انظر نص الرسالة في الإرشاد الصفحة السابقة وما بعدها.

(2) انظر ص 314.

١٠٧

الهادي (عليه السلام) في سامرّاء من حين دخوله إلى وفاته، عشرون سنة (1) .

وإذ نعرف أنّه (عليه السلام) توفّى عام 254هـ (2) ، تكون سفرته هذه قبل عشرين عاماً من هذا التاريخ أي سنة 234هـ، وهذا أنسب بالاعتبار السياسي، باعتبار كونه بعد مجيء المتوكّل إلى الخلافة بعامين، فيكون المتوكّل قد طبّق منهجه في الرقابة على الإمام في الأعوام الأُولى من خلافته، بخلافه على الرواية الثانية، التي تبعد بالتاريخ عن استخلاف المتوكّل أحَدَ عشَر عاماً، والله العالم بحقائق الأُمور.

أعطى المتوكّل رسالته إلى أحد صنّائعه، يحيى بن هرثمة، ليسلّمها إلى الإمام في المدينة، وأمره باستقدامه إلى سامرّاء، فأسمعه يقول في روايته للحادثة (3) : فلمّا صرت إليها – يعني المدينة المنوّرة – ضجّ أهلها وعجّوا ضجيجاً وعجيجاً ما سمِعت مثله، فجعلت أُسكنهم وأحلف لهم أنّي لم أُؤمَر فيه بمكروه، وفتّشت بيته، فلَم أجد فيه إلاّ مصحفاً ودُعاء وما أشبه ذلك.

فنعرف من ذلك، مدى إخلاص أهل المدينة لإمامهم (عليه السلام)، وحرصهم عليه، ومدى تأثيره الحسِن فيهم، ولم يكن هذا الضجيج الكبير منهم، إلاّ لمعرفتهم بوضوح سوء نيّة السلطات تجاه الإمام

_________________________

(1) المناقب ج 3 ص 505.

(2) انظر الإرشاد ص 307 وابن الوردي ج 1 ص 232 وابن خلكان ص 435 ج 2 والطبري ج 11 ص 157 والعبر ج 2 ص 5 وأبو الفداء ج ص 254.

(3) انظر المروج ج 4 ص 84 وما بعدها.

١٠٨

وابتغائها الدوائر، ضدّه فكان تأسّفهم وتأوّههم ناشئاً مِن أمرين:

أحدهما: انقطاعهم عن الإمام (عليه السلام)، وحرمانهم مِن إرشاداته وألطافه ونشاطه الإسلامي البنّاء، وهذا ما أراده المتوكّل، وقد حصَل بالفعل بمقرّ الإمام، فإنّه لم يعد إلى المدينة بعد ذلك.

الثاني: مخافتهم على حياته، لاحتمال قتله عند وصوله إلى العاصمة العبّاسية، وهذا هو الذي فهمه يحيى بن هرثمة من الضجيج – وحاول أنْ لا يفهم غيره – فحلَف لهم أنّه لم يؤمَر فيه بمكروه.

ولم يثن الضجيج هذا الرجل عن غرضه السياسي في التجسّس ففتّش دار الإمام، بالمقدار الذي حلا له، فلَم يجِد فيه أيّ وثيقةٍ تدلّ على التمرّد أو الخروج على النظام العبّاسي، وبذلك يكون المتوكّل قد فقَد أي مستمسك يؤيّد ما سمِعه عنه أو خافه منه، واستطاع الإمام (عليه السلام) أنْ يُحافظ على مسلكه العام في السلبية.

وخرَج الإمام الهادي (عليه السلام)، مصاحباً لولده الإمام العسكري وهو وصبي، مع ابن هرثمة متوجّهاً إلى سامرّاء، وحاول ابن هرثمة في الطريق إكرام الإمام وإحسان عِشرته، وكان يرى منه الكرامات والحُجَج التي تدلّ على تولّيه طُرُق الحق، وتوضّح لهذا الرجل جريمته في إزعاج الإمام وزعزعته والتجسّس عليه، وجريمة مَن أمره بذلك أيضاً.

ويمرّ الركب ببغداد – في طريقه إلى سامرّاء – فيُقابل ابن هرثمة

١٠٩

واليها – بعد انتقال الخلافة عنها، وهو يومئذٍ إسحاق بن إبراهيم الطاهري، وهو بمقتضى منصبه، محلّ الثقة الكُبرى من قِبَل المتوكّل، بحيث جعله والياً على عاصمته الثانية وقائماً مقامه فيها، فنرى إسحاق الطاهري يوصى بن هرثمة بالإمام مستوثقاً من حياته قائلاً له: يا يحيى، إنّ هذا الرجل قد ولده رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم)، والمتوكّل مَن تعلم وإنْ حرّضته على قتله، كان رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) خصمك.

فيُجيبه يحيى: والله ما وقفت له إلاّ على كلّ أمرٍ جميل (1) .

ونحن حين نسمَع هذا الحِوار بين الرجلين اللذين يُمثّلان السلطات نفسها ويعيشان على موائدها، نعرف كم وصَل الحقد والتمرّد على النظام القائم يؤمئذٍ، وكيف أنّه تجاوز القواعد الشعبية إلى الطبقة العُليا الخاصّة من الحكّام، مواضع ثقة الخليفة ومنفّذي أوامره، كما نعرف مدى اتساع الذكر الحسِن والصدى الجميل لأفعال الإمام وأقواله بين جميع الطبَقات، حتى بين الحكّام أنفسهم.

وحين يصل الركب إلى سامرّاء، يبدأ ابن هرثمة بمقابلة وصيف التركي، وقد عرفناه قائداً من القوّاد الأتراك المنتفعين بالوضع القائم، ممّن كان يُشارك في تنصيب الخليفة وعزله ومناقشته في أعماله، ويظهر من التاريخ أنّ وصيفاً كان هو الآمر رسميّاً على ابن هرثمة، ومِن هنا قال له وصيف: والله لئن سقطَت من رأس هذا الرجل شعرة، لا يكون المُطالب بها غيري.

______________________

(1) مروج الذهب ج 4 ص 85.

١١٠

يقول ابن هرثمة: فعجِبت من قولهما، وعرّفت المتوكّل ما وقفت عليه وما سمِعته من الثناء عليه، فأحسَن جائزته وأظهر برّه وتكرمته (1) ، وقد عرفنا ممّا سبَق أنّ كلّ هذا الكرم الحاتمي، على الإمام (عليه السلام)، لم يكُن مِن أجل حفظ حقّ الإمام، وإنّما كان تغطيةً للمنهج السياسي الذي يُريد المتوكّل اتباعه، وهو عزل الإمام عن نشاطه وقواعده الشعبية والحذَر ممّا قد يصدِر منه من قولٍ أو فِعل.

ومن هنا نرى، أنّ المتوكّل أمَر أنْ يُحجَب عنه الإمام (2) في يوم وروده الأوّل إلى العاصمة العبّاسية، ونزَل الإمام في مكان متواضع يُدعى بخانِ الصعاليك، فقام فيه يومه (3) .

ومرّ عليه وهو في هذا الخان أحد مُحبّيه مقدّري فضله، صالح بن سعيد، فأحزنه حال الإمام (عليه السلام)، فقال له: جُعلت فِداك في كلّ الأُمور أرادوا إطفاء نورك والتقصير بك، حتى أنزلوك في هذا الخان الأشنَع، خان الصعاليك.

ويسمع الإمام (عليه السلام) ما قال، فيجيب وكأنّه قد التفَتَ بعد استغراق تفكيرٍ وانشغالِ بالٍ: (ههنا أنت يا ابن سعيد) .

ثمّ يريد الإمام (عليه السلام) أنْ يُفهِم هذا المُشفِق، بأنّ الحال الدنيوية وإنْ

________________________

(1) المصدر والصفحة.

(2) الإرشاد: ص 314.

(3) أعلام الورى: ص 348. وانظر: الإرشاد أيضاً، نفس الصفحة السابقة.

١١١

كانت قد وصلت به؛ نتيجة للظلم والعذر، إلى هذا الحد المنحدر، إلاّ أن ذلك ممّا يرفعه قدراً ويزيده جهاداً، ويضيف إلى فضائله فضيلة. فهو لم يخسر شيئاً، وإنما الأمة الإسلامية هي التي خسرته. وأنه يعيش على الأنوار الروحية واللذائذ العلمية والنفحات القدسية، فكأنّه في روض الجنان. فيومئ الإمام بيده، ويقول: (انظر) . قال ابن سعيد: فنظرت! فإذا بروضاتٍ أنقاتٍ، وأنهارٍ جارياتٍ، وجناتٍ فيها خيراتٍ عطراتٍ، وولدان كأنَّهنَّ اللؤلؤ المكنون. فحار بصري وكثر تعجبي. فقال لي: (حيث كنا، فهذا لنا يا ابن سعيد، لسنا في خان الصعاليك) (1) .

____________________

(1) الإرشاد: ص314. وأعلام الورى: ص348.

١١٢

نشاطه السياسي في المدينة:

إذا أردنا أن نلتفت إلى أعمال الإمام (عليه السلام) ونوع نشاطه الاجتماعي والسياسي في المدينة المنورة، قبل وروده إلى سامراء، تواجهنا أمور ثلاثة:

أحدها: موقفه العام الذي أوجب إثارة واليها عبد الله بن محمد ضده وإيصاله الأذى إليه، وأوجب السعاية به إلى المتوكل. ذلك الموقف الذي علمنا إطاره العام، واستطاع الإمام واضطر التاريخ إلى إخفاء تفاصيله.

ثانيها: موقفه من بغا الكبير حين ورد على رأس جيش إلى المدينة لمنازلة الأعراب المخرِّبين، وسيأتي التعرُّض له فيما بعد.

ثالثها: رواية تضمّنت بعض تعليقات الإمام (عليه السلام) على بعض الحوادث السياسية الجارية في ذلك الحين، وهو عام 232، أي قبل ذهابه إلى سامراء بعامين بالتاريخ الذي رجّحناه.

وذلك: في آخر خلافة الواثق وآخر وزارة محمد بن عبد الملك الزيّات وزيره، حيث عذّبه المتوكل - بعد توليه الخلافة بعد

(8)

١١٣

الواثق - أشد العذاب حتى مات تحت التعذيب (1) . فقد سأل الإمام (عليه السلام) أحد القادمين إلى المدينة من العاصمة سامراء، يدعى بخيران الساباطي، سأله عن خبر الواثق، قال:

فقلت: جعلت فداك، خلفته في عافية، أنا من أقرب الناس عهداً به. عهدي به منذ عشرة أيام.

فقال لي: (أهل المدينة يقولون إنه مات) .

فقلت: أنا أقرب الناس به عهداً.

قال فقال لي: (إن الناس يقولون أنه مات) .

فلمّا قال لي: (إن الناس يقولون)، علمت أنه يعني نفسه.

ثم قال (عليه السلام): (ما حال جعفر؟) ، يعني المتوكل.

قلت: تركته أسوأ الناس حالاً، في السجن.

قال: فقال لي: (أمَا أنه صاحب الأمر).

وإلى هنا نرى الإمام (عليه السلام) قد تنبّأ بموت خليفة وقيام آخر، بالرغم من أن وجود المتوكل في السجن دال على بُعد توليه الخلافة لا محالة.

ثم قال: (ما فعل ابن الزيات؟) .

قلت: الناس معه، الأمر أمره.

فقال: (أمَا أنه شؤم عليه) . يشير إلى موته تحت التعذيب بيد الخليفة الجديد: جعفر المتوكل.

ثم أراد الإمام (عليه السلام) أن يربط هذه الحوادث بقدرة الله وعلمه، فقال [ الإمام (عليه السلام) ] للراوي: (لا بد أن تجري مقادير الله وأحكامه. يا خيران مات الواثق وقعد جعفر المتوكل، وقد قتل ابن الزيات) .

فيسأله الراوي: متى؟ جعلت فداك.

فقال: (بعد خروجك بستة أيام) (2) .

____________________

(1) الكامل، ج 5، ص280.

(2) الإرشاد ص309. وانظر: الفصول المهمة، ص296. وأعلام الورى، ص34. ونور الأبصار، ص165.

١١٤

وهنا لا بد أن نلاحظ أمرين:

أحدهما: أن الإمام قد صرح بهذه الحقائق حين الأمن من التصريح، بزوال أصحابها عن الحكم. أمّا المتوكل الذي تولّى الحكم، فليس في كلام الإمام ما يشعر بالطعن فيه، لكي نعتبره نقداً سياسياً خارجاً عن الأسلوب العام للسلبية.

ثانيهما: أن الإمام صرّح بذلك بعد أربعة أيام من وقوعه، وهي مدة لم تكن في تلك العصور كافية لتلقّي الأخبار عادة. ولذا كان الراوي متأكداً من أنه أقرب الناس عهداً بالوضع السياسي. فمن هنا يرجحّ أن يكون الإمام قد اطلع على ذلك بنحو غيبي، في زمان لم تكن الوسائل الحديثة متحققة في الوجود.

١١٥

سلبية الإمام تجاه الأحداث:

وقد عاصر الإمام الهادي (عليه السلام) في سامراء بقية أيام المتوكل، وهي حوالي أربعة عشر سنة، إلى أن قتله الأتراك عام 247، ثم أيام المنتصر، ثم المستعين، ثم قسماً من خلافة المعتز، حيث توفّي الإمام (عليه السلام) عام 254. وأما المعتز، فقد خلعه الأتراك عام 255 كما عرفنا.

وقد تتابعت في خلال هذه الأعوام من الحوادث ما لا يحصى، ممّا عرفناه فيما سبق وممّا لم نعرفه. ولعل أهم ما عرفناه هو حصار بغداد والقتال الذي وقع فيها بين المستعين والمعتز. والذي أدى إلى تولّي الأخير كرسي الخلافة، وخلع الأول نفسه عام 252.

كما أن هناك نشاط الخوارج الذي كان يومئذ قوياً فعالاً، مدعماً بالمال والسلاح، بقيادة مساور الشاري. وهناك الثورات والانتفاضات العلوية وغيرها، وهناك الفتوح والحروب الإسلامية على الحدود، في الأندلس وسمبساط وغيرها. وحروب في داخل الدولة بين مختلف الطامعين في القيادة والظهور، وهناك تغيّر الوزارات والقضاة، وهناك الحالة الاقتصادية، بما فيها من مشاكل وتبذيرات البلاط والوزراء

١١٦

والحاشية، وهناك موقف المتوكل من العلويين وهدمه لقبر الحسين (عليه السلام)... إلى غير ذلك من الحوادث مما لا يكاد يحصى.

ولم يرد إلينا تجاه ذلك أي تعليق من قبل الإمام الهادي (عليه السلام) على أي واحد من هذه الحوادث، مهما عظمت أهميته، بل يمكن أن يقال بشكل تقريبي: إنه لم يرد إلينا من موقف الإمام (عليه السلام) مع الخلفاء - غير المتوكل - إلاّ أقل القليل.

وقد عرفنا فيما سبق الأسباب التفصيلية التي حدت بالإمام إلى اتخاذ موقف السلبية تجاه الأحداث. على أننا يمكن أن نضيف إلى تلك العوامل ما يلي:

أما بالنسبة إلى علاقة الإمام بالخلفاء، فتتحكم فيها العوامل الثلاثة الآتية:

العامل الأول : ما عرفناه من ضعف مركز الخلافة وسقوط هيبتها عن أعين الناس، وخروج الأمر من يد الخليفة إلى زمرة من القواد الأتراك والموالي، البعيدين كل البُعد عن الإسلام وذكر الله تعالى. حتى استطاعوا أن يعزلوا الخليفة وينصبوا الآخر، بما فيهم المتوكل نفسه، وإن استطاع أن يفك نفسه من هذا الأسر إلى حد ما فيقوم ببعض النشاط الاجتماعي ويبقى في المُلك مدة كافية.

أما غير المتوكل من الخلفاء، ممّن وردوا إلى الحكم بعده، فقد أزاد تقوقعه على نفسه وبطره وانصرافه عن شئون الناس إلى اللهو

١١٧

واللعب، فلم يكن لديهم الإدراك الكافي للمسائل الاجتماعية حتى ينظروا إلى الإمام (عليه السلام)، أو يكونوا معه علاقة خاصة واتجاهاً معيناً، سوى الاتجاه العام الذي رسمه أسلافهم.

العامل الثاني : ما عرفناه من أن المتوكل كان من متطرّفي بني العباس في عداوة أهل البيت (عليهم السلام) ومواليهم. وفعل في ذلك ما لم يفعله غيره. وكان من آثار ذلك جلبه الإمام الهادي (عليه السلام) إلى سامراء لزيادة مراقبته والحَجْر عليه، ومعرفة جميع مستويات أعماله، وهو مما يعكس حذراً وتوجّساً في أعمال الإمام (عليه السلام) لا محالة. مضافاً إلى ما قد يريده الإمام بسلبيته من إعلان الاحتجاج الصامت على تلك الأعمال النكراء.

على حين أن ابنه المنتصر حين تولّى الخلافة بعد أبيه، ألآن مسلكه مع أهل البيت وأظهر الميل إليهم؛ فكان أن خفَّ الضغط على الإمام (عليه السلام) وأصحابه ومواليه، إلاّ ما كان من اتجاه الخط العام الضروري لحفظ أساس الدولة العباسية؛ وكان نتيجة لذلك أقل خوفاً من غيره من انتفاض العلويين عليه.

العامل الثالث: إن المتوكل كان يشعر بمسئولية خاصة تجاه الإمام (عليه السلام)؛ باعتبار ما جعجع به من بلده وأقلق حياته الخاصة والعامة. ولم يكن هذا الشعور بالمسئولية ليؤثّر في مثل حقد المتوكل بإكرام الإمام حقيقة، وإلاّ فقد كان الخليق به أن يطلق له حريته، وهو ما لا يريده المتوكل أن يكون. وإنما الشيء الذي أنتجه هذا

١١٨

الشعور بالمسئولية، أو تحسس الإثم، هو أن الإمام أصبح مركز انتباه المتوكل ومحور نشاطه، فكان يجلسه في مجالسه ويركبه في مراكبه - على ما يأتي؛ توخياً إلى الأمن منه وكفكفة نشاطه.

وأما بالنسبة إلى عدم تعليق الإمام (عليه السلام) على كثير من الأحداث، الداخلية والخارجية، فلو غضضنا النظر عن العوامل التي ذكرناها في المقدمة، وقلنا: إن عدم الوجدان يدل على عدم الوجود - وهذا ما ننكره جزماً؛ باعتبار ظروف النقل التاريخي التي عرفناها - فمن الممكن القول: إن هذه السلبية كانت نتيجة طبيعية لانعزاله التام عن الشئون السياسية. فإننا نعلم من النظر في أحوال زماننا وكل زمن، أن مَن يعلن عن آرائه السياسية، هو أحد شخصين أو جهتين:

أحدهما: الشخص أو الجهة التي تمارس الحكم فعلاً، فهي مسئولة - لكي توضح موقفها من الأحداث - أن تعلن عن رأيها السياسي فيها، حتى يكون هو الميزان أمام الناس والتاريخ، في تقييم هذا الحكم، ولكي تعطي المبرِّرات المنطقية لأجل نشاط معين، في مصلحة أو ضد أمر سياسي أو اجتماعي معين.

ثانيهما: الشخص أو الجهة التي تطمع بتولّي الحكم في يوم من الأيام، ولا يكون محجوزاً عليها أو محدَّداً سلوكها من جهة قاهرة. فهي تعلن أمام الملأ آراءها السياسية ومبادئها الاجتماعية، لكي تحاول إقناع

١١٩

الجمهور بها، فتجتلب بذلك المؤيدين والمناصرين، ليكونوا عوناً لها في معركتها السياسية التي تنشدها.

أما الذي لا يكون متصفاً بأحد هذين الصفتين، مهما كان الفرد عظيماً ووجيهاً، أو ذو جهة نافذة قوية على الصعيد السياسي، فليس من الضروري أو المتوقع أن يعلن عن آرائه السياسية.

والإمام لم يكن يمارس الحكم كما هو معلوم، ولم يكن ممّن يطمع بالحكم في ذلك العصر المنحرف غير الواعي، كما قلنا. على أنه لو كان مريداً ذلك في ضميره، فقد كان مراقباً محجوراً، تُعدُّ عليه أفعاله وأقواله. ومعه لا أمل له في الحكم عادةً. إذن، فقد كان الإمام (عليه السلام) من الناحية السياسية فرداً عادياً من الأمة، وأنه أراد ذلك لنفسه بحسب ما رآه من المصلحة، بالرغم من أنه من الناحية الدينية الإمام والقائد والمثل الأعلى لمحبيه ومواليه.

ولم يكن له (عليه السلام) من أمره يومئذٍ إلاّ الفتوى، والجواب على السؤال الذي يتلقّاه لو وجد مصلحة في الإجابة. ومن الواضح أن شخصاً من صانعي الأحداث في ذلك العصر لم يسأله عن عمل من أعماله، ليأخذ بمشورته ورأيه. فلا يبقى لدينا إلاّ احتمال أن أصحابه كان لهم الوعي الواسع، وكانوا يسألون إمامهم عن آرائه السياسية، وكان يجد مصلحة في جوابهم، فيجيبهم. وهذا الاحتمال وإن كان له ما يبعده،

١٢٠