موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ الغيبة الصغرى) الجزء ١

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ الغيبة الصغرى)0%

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ الغيبة الصغرى) مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الإمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف
الصفحات: 663

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ الغيبة الصغرى)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشهيد السيد محمد محمد صادق الصدر
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الصفحات: 663
المشاهدات: 35695
تحميل: 7373


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 663 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 35695 / تحميل: 7373
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ الغيبة الصغرى)

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ الغيبة الصغرى) الجزء 1

مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

قالوا: فلمّا بلغ ذلك المهدي أبا محمّد عُبيد الله العلَوَي بإفريقية، كتَب إليه ينكر ذلك ويلومه ويلعنه ويقيم عليه القيامة! ويقول: قد حقّقت على شيعتنا ودعاة دولتنا اسم الكفر والإلحاد بما فعَلت، وإنْ لم تردَّ على أهل مكّة وعلى الحجّاج وغيرهم ما أخذت منهم، وتردّ الحجَر الأسود إلى مكانه وتردّ كسوة الكعبة، فأنا بريءٌ منك في الدنيا والآخرة.

فلمّا وصله هذا الكتاب، أعاد الحجَر الأسود، واستعاد ما أمكنه من الأموال من أهل مكّة فردّه، وقال: إنّ الناس اقتسموا كسوةَ الكعبة وأموال الحجّاج ولا أقدر على منعهم.

وفي هذا دلالةٌ واضحةٌ على تبعيّة القرامطة للمهدي الإفريقي، وكونهم القائمين بنشرِ دعوته وقتل مُخالفيه في الشرق، ومِن ثَمّ صحّ له أنْ ينصب من نفسه قيّماً على أعمالهم ومشرفاً على تصرّفاتهم، وكأنّه لم يجد من أعمالهم شيئاً منكراً إلاّ قلع الحجَر الأسود. ولله في خلقه شئون.

وعلى أيّ حال، فمِن المستطاع القول أنّ أكثر هذه الفترة التي نؤرّخ لها، كانت مسرحاً لعبث القرامطة بين مدٍّ وجزر.

الأمر السادس: من خصائص هذا العصر، أنّه شهِد ميلاد الدولة البويهية عام 321 (1) ، حيث اتسعت قيادة وسيطرة عماد الدولة على بن بويه في فارس، وتوسّع ملك الدولة البويهية نتيجةً لذلك، في ظروفٍ

____________________

(1) الكامل جـ6 ص204 وما بعدها.

(2) المصدر ص 230.

٣٦١

لسنا الآن بصدد تفصيلها.

الأمر السابع: قلّة عدد الثوّار العلويّين في هذه الفترة التاريخيّة، فإنّنا قد لاحظنا في الفترة السابقة كثرة عدد الثوّار منهم، حيث قارب عدد القائمين بالسيف، ممّن وصَلَنا ذكره منهم: العشرون ثائراً في أقلِ من نصفِ قرن، بينما نرى أنّ السبعين سنة التالية، وهي الفترة التي نؤرّخ لها الآن، تكاد تكون خاليةً من ذلك إلاّ في حدود الأفراد القلائل.

وأبو الفرج الأصبهاني وإنْ ذكر في المقاتل لهذه الفترة عدداً من المقتولين، إلاّ أنّ مَن باشَر الحرب منهم لا يزيد على اثنين أو ثلاثة. والباقون كلّهم بين ميّتٍ في السجن، وبين مقتولٍ بسيف القرامطة، أو بسيف الدولة العبّاسية، بدون حرب (1) .

ويعود السبب في ذلك إلى أمرين:

الأمر الأوّل: استغراق أكثر هذه الفترة بحروب القرامطة وتحرّكاتهم ضدّ الدولة، ومن الواضح أنّ كلَّ ثورة تحدث في معارضة الدولة في ذلك العصر، فإنّها تُنسب من قِبل دعايات الدولة إلى تأييد القرامطة وممالاتهم والاشتراك معهم ضدّ الجهاز الحاكم، وهذا ما لا يريده الثوّار لأنفسهم.. كيف لا، وهم يعلمون أنّ القرامطة مختلفون معهم في العقيدة.. ويستحلّون دماءهم؟!، بل يبدءون بقتلهم قبل غيرهم؛ لِما عرفنا من تأوّلهم لقوله تعالى: ( قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ ) .

____________________

(1) المقاتل جـ3 ص495 وما بعدها.

٣٦٢

وقد قتلوا بعضاً منهم في طريق مكّة (1) . فاتِّهامهم بتبعيّة القرامطة - كما حدَث لأثنين منهم (2) - أمرٌ غير صحيح.

الأمر الثاني: وهو - بكلِّ تأكيد - أهم من السبب الأوّل، وهو انتهاء زمن ظهور الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) وانقطاع اتصالهم بالناس بأوّلِ يومٍ من وفاة الإمام العسكري (عليه السلام)، وابتداء الغيبة الصغرى التي نعرض لتاريخها الآن.

وقد عرفنا في تاريخ الفترة السابقة، مدى تأثير وجود الأئمّة (عليهم السلام) وتوجيههم المباشر وغير المباشر للثورات الداعية إلى الرضا من آل محمّد (صلّى الله عليه وآله)... بنحوٍ استطاع الأئمّة أنْ يخفوه عن السلطات تماماً. ومِن المعلوم ما للأئمّة (عليهم السلام) من مكانةٍ في المجتمع الإسلامي وتأثيرٍ معنويٍّ في النفوس، وتاريخٍ جليلٍ حافلٍ بجلائل الأعمال، ممّا يوفّر لكلامهم وتوجيههم - وخاصّة في نفوس الثائرين الغاضبين على الظلم والعصيان - طريقاً مَهْيَعاً للاندفاع والتأثير.

وأمّا في هذه الفترة، وبعد أنْ غاب آخر الأئمّة.. المهدي (عليه السلام)، وانقطَع عن الاتّصال بالناس والاحتكاك بقواعده الشعبية.. فقد تضاءل ذلك الدافع الثوري والتوجيه القويّ إلى التمرّد والقيام بالسيف.

وأمّا الوكلاء الأربعة الذين أمسكوا بأزِمّة الأُمور في هذه الفترة،

____________________

(1) المصدر ص500.

(2) المصدر ص499.

٣٦٣

وكانوا همزة الوصل بين الإمام وقواعده الشعبية، فهم وإنْ كانوا في غاية الورَع والصلاح، إلاّ أنّهم - على أيّ حال - لا يتمتّعون بمثل مكانة الأئمّة (عليهم السلام) في قلوب المجتمع الإسلامي. على أنّه لم يكن مِن المصلحة على الإطلاق أنْ يصدر منهم الأمر بالتمرّد وتوجيه الثورات ولو بشكلٍ سرّي وغير مباشر؛ وذلك لأجل المحافظة على المصالح التي كانوا يقومون بها بين قواعدهم الشعبية، وهُم يعلمون - في حدود الظروف المُعاشة يومئذٍ - أنّ هذه الثورات لنْ تكون أحسَن حالاً مِن سوابِقها التي باءت بالفشَل وأُخمدت في مهدِها.

إذن، فالتعرّض للثورة أو التحريض عليه، لنْ ينتج إلاّ التغرير بحياة الوكلاء، والتضحية بخيط الاتصال بالإمام الغائب (عليه السلام)، والتغرير بمصالح القواعد الشعبية الموسّعة التي أوكلَت إليهم قيادتها، وهي مهام جسام لا تعادل التحريض على ثورة معلومة الفشل والخُسران.

مضافاً إلى استقلال الوكلاء عن المهدي(عليه السلام) بالتحريض أمر غير صحيح بطبيعة الحال، ومناف لوظيفتهم الاجتماعية الإسلاميّة. وأمّا تحريضهم على الثورة بأمر من المهدي (عليه السلام)، فهم ممّا لا يحدث؛ فإنّ المهدي (عليه السلام) لنْ يقوم إلاّ بثورته الكبرى حين يملأ الأرض قِسطاً وعدلاً كما مُلِئت ظلماً وجوراً، ولنْ تكون التمرّدات الصغرى مهمّة في نظره ولا دخيلة في وظيفته الإسلاميّة.

وعلى أيّ حال، فالذي أشعر به مليّاً، أنّ نوع الثورات الداعية إلى الرضا من آل محمّد، قد انقطع بانقطاع عهد الظهور، عهد اتصال

٣٦٤

الأئمّة (عليهم السلام) بالناس، وكلّ الثورات اللاحقة لذلك في التاريخ الإسلامي إلى عصرنا الحاضر، إنّما هو انعكاس صحيح أو منحرف، أو تأثُّر بقليل أو بكثير بتلك الثورات الجليلة المخلصة، التي بدأت بثورة الحسين (عليه السلام) وانتهت بانتهاء عصر الظهور.

٣٦٥

٣٦٦

الفصل الثاني:

الاتجاهات العامة في هذه الفترة

ويتدرّج في ذلك الاتجاه العام للإمام المهدي (عليه السلام) نفسه، خلال هذه الفترة التي تُمثّل غيبته الصغرى، كما يندرج فيه الاتجاهات العامّة لمُواليه المعتقدين بإمامته، ولسفرائه الذين يُمارسون قيادة المجتمع بالوكالة عنه، وللدولة بما فيها من حكّام وسلطات.

ونتكلَّم في ذلك ضمن عدّة أقسام:

القسم الأوّل: الاتجاه العام للإمام المهدي (عليه السلام).

كان الاتجاه العام لسياسة المهدي (عليه السلام) في اتصاله بقواعده الشعبية وقيادته لهم، على ما يدلّنا عليه تاريخنا الخاص... مندرجاً في عدّة نقاط:

النقطة الأُولى:

إقامة الحجّة على وجوده بشكلٍ حسّي واضح؛ لكي يكون مستمسَّكاً واضحاً أكيداً لدحض ما قد يُثار من الشُبهات والأسئلة حول ولادته ووجوده.

٣٦٧

وكانت هذه النقطة ممّا سار عليه والده الإمام العسكري (عليه السلام) كما عرفنا في تاريخ الفترة السابقة، حيث رأيناه يعرض ولده المهدي على الخاصّة من أصحابه، وينصُّ على إمامته بعده، وأنّه هو الذي يملأ الأرضَ قسطاً وعدلاً.

واستمرّ المهدي (عليه السلام) سائراً على ما سار عليه أبوه في ذلك، لاستمرار الأسئلة والإشكال عن قصدٍ أو غير قصد، خاصّةً مع اختفاء الإمام وغموض مكانه، ووجود الانحرافات بين أصحابه، كالذي عرفناه مِن عمّه جعفر، وسمِعناه ونسمعه عن الشلمغاني وغيره.

وكان للمهدي في إثبات وجوده بالطريق الحسّي الواضح عدّة طُرُق:

الطريق الأوّل: تمكين عدَد من الخاصّة مِن مشاهدته عياناً، وإيصائهم بتبليغ ما شاهدوه إلى الناس، وخاصّةً القواعد الشعبية المُوالية للإمام (عليه السلام)، مع إيصائهم بكتمان المكان وغيره مِن الخصوصيّات، التي قد تدلّ عليه وتيسّر للسلطات طريق الوصول إليه.

الطريق الثاني: إقامة المُعجِزة بطريقٍ غير مباشر لبعض الأشخاص، ممّن لا يواجهه مباشرةً، بإرسال رسالة شفويّة إليه عن طريقِ خادمٍ أو غيره، تتضمّن اسم الشخص (إنْ كان ممّا ينبغي عادةً أنْ يكون مجهولاً)، ووصفهِ للمَال الذي يحمله والبلَد الذي جاء منه ونحو ذلك، ممّا لا يُمكن أنْ يصدر إلاّ عن حجّة الله تعالى على خلقه.

الطريق الثالث: الأجوبة على المسائل وحل المشكلات وقضاء الحاجات

٣٦٨

عن طريقِ وكلائه بطريقٍ منطقيٍّ حكيم، منسجم مع أُسلوب آبائه (عليهم السلام) في مثل هذه المواقف، بنحوٍ يُعلَم بعدم تمكّن السفير من أنْ يأتي بمثله أو أنْ يخطر على باله، وخاصّةً إذا اقترن ذلك بأمرٍ يجهله السفير أَساساً، ممّا قد أثبته المهدي (عليه السلام) في توقيعه.

الطريق الرابع: التزام نحوٍ معيّنٍ من الخطِّ الذي كان يعرفه الخاصّة من مواليه وموالي أبيه (عليهما السلام)، فإنّ اختلاف الخطوط باختلاف الأشخاص مِن أوضَح الواضحات، وهو يُستخدَم على التعرّف على صاحبه في مختلف المجالات، القانونية والفقهية وغيرها.

فكان لخطّ الإمام المهدي (عليه السلام) مميّزاته الخاصّة التي يعرفها الخاصّة، والتي لا يُمكن تقليدها، كخطِّ أيِّ شخصٍ آخر، حتى للسفير نفسه، على أنّها محفوظة بذاتها، ومتشاكلة على أيدي السُفَراء الأربعة، على اختلاف خطُوطهم الشخصيّة وطبائعهم النفسية (1) .

فهذه هي العناوين العامّة لهذه الطُرق، وسيأتي التعرّض للتفاصيل التاريخية في مستقبَل البحث.

النقطة الثانية: الاختفاء عن السلطات اختفاء تامّاً، بحيث يتعذّر وصولهم إليه مهما كلّفهم الأمر.

ويتمّ ذلك بعدّة طُرق:

الطريق الأوّل: عدَم تمكين المشاهدة إلاّ ممَّن يُحرِز فيه عمق الإخلاص وعدَم إفشاء السرّ الذي قد يؤدّي إلى الخطر.

الطريق الثاني: إيصاء الشخص المشاهِد - تأكيداً لذلك - بعدَم

____________________

(1) انظر للنموذج البحار جـ13 ص95 وغيبة الشيخ الطوسي 216 وص220.

٣٦٩

الإفشاء والاحتياط من هذه الناحية على إمامه، بحيث يكون الفرد ذو مهمّةٍ مزدوجة: فهو يجِب عليه التبليغ من مشاهدة الإمام (عليه السلام)، كما يجب عليه الالتزام في أخباره وتبليغه بأنْ لا ينزلق إلى ما لا يُحمد عقباه.

الطريق الثالث: تحريم التصريح بالاسم، ومنعه منعاً باتّاً، إلى حدٍّ يمكن أنْ يقال: إنّه كان مجهولاً عن الكثير من الخاصّة المُوالية، فضلاً عن سائر المسلمين، وخاصّةً مَن يمُتّ إلى السلطات بصلة.

ومِن هنا كان يُعبِّر عنه الخاصّة - عند الحاجة - بتعبيراتٍ مختلفة تُشير إليه إجمالاً، ولا تعنيه شخصيّاً.. كالقائم، والغريم، والحجّة، والناحية، وصاحب الزمان.. ونحو ذلك، ويتجنّبون بالكلّية التعرّض لاسمه الصريح، فإنّهم (إنْ وقفوا على الاسم أذاعوه، وإنْ وقفوا على المكان دلّوا عليه) (1) .

الطريق الرابع: الاختفاء التامّ عن السلطات، وعن كلّ مَن لا يُواليه.. اختفاء تامّاً مطلقاً. فلئن كان (عليه السلام) في غضون الغيبة الصغرى، قد يجتمع ببعض المُوالين، فإنّه لا يجتمع بمَن سواهم على الإطلاق، إلاّ ما كان لإقامة الحجّة وإظهار التحدّي للسلطات، مع عدَم إمكان إلقاء القبض عليه، كما حدَث لرشيق صاحب المادراي حين أرسلته السلطات للكَبس على دار المهدي (عليه السلام) في سامرّاء على ما سوف نسمَع.

____________________

(1) الغيبة للشيخ الطوسي ص222.

٣٧٠

الطريق الخامس: تحويل مكانه بين آونةٍ وأُخرى، بنحوٍ غيرِ ملفت للأنظار. وهذا هو المُستنتَج من مجموع الروايات على مكانه في الجملة، حيث تدلّ بعضها على وجودهِ في مكان، وتدلُّ بعضها على وجوده في مكانٍ ثانٍ أو ثالث وهكذا. وهذا صحيحٌ باختلاف الأزمان وتعدّد الأيّام والسنين خلال الغيبة الصغرى.. وسنسمع تفصيل ذلك في فصلٍ آتٍ من هذا التاريخ.

الطريق السادس: السكوت التام.. ومِن ثمّ الغموض المطلق، بل الجهل الكامل بطريقة اتصال الوكيل الخاص بالمهدي (عليه السلام)، هل هو بطريقِ المواجهة أو بطريقٍ آخر، وأين تحدث المواجهة وكيف؟ ولو لم تحدث المواجهة فكيف تصل أجوبة المسائل وحلول المشكلات؟ كل ذلك كان مجهولاً تماماً لدى كلِّ إنسان مهما كان خاصّاً ومقرّباً، ما عدا السفير نفسه، الذي يضطلع بهذه المهمّة.

ومِن المُمكن القول بأنّ السفير كان منهيّاً عن التصريح به أساساً لكلِّ أحد، ومِن ثَمّ كان الشخص يقدّم السؤال ثمّ يأتي بعد يومَين أو أكثر ليأخذ جوابَ سؤاله، ولم يرد في الروايات أيُّ إشارةٍ لطريقة استحصال الجواب من الإمام (عليه السلام).

الطريق السابع: إيكال الوكالة الخاصّة، أو السفارة، إلى أشخاصٍ يتّصفون بدرجةٍ من الإخلاص عظيمة، بحيث يكون من المستحيل عادةً أنْ يشوا بالإمام المهدي (عليه السلام)، أو أنْ يُخبروا بما يكون خطراً

٣٧١

عليه، ولو مُزِّق لحمهم ودُقّ عظمهم، ولا يتوخّى بعد ذلك أنْ يكون السفير هو الأعمق فقهاً أو الأوسَع ثقافةً، فإنّ السفارة عن الإمام (عليه السلام) لا تعني إلاّ التوسّط بينه وبين الآخرين، ولا دخل للأفضلية الثقافية فيه، ومِن هنا قد تسند الوكالة الخاصّة إلى المفضول من هذه الجهة؛ توخّياً لتلك الدرجة من الإخلاص.

وهذا هو الذي ذُكِر في بعض الروايات، حيث اعترضوا على أبي سهل النوبختي، فقيل له: كيف صار هذا الأمر (أي السفارة) إلى الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح دونك؟ فقال: هم أعلم وما اختاروه. ولكن أنا رجلٌ ألقى الخصوم وأُناظرهم، ولو علِمتُ بمكانه كما علِم أبو القاسم وضغطتني الحجّة، لعلّي كنت أدلّ على مكانه. وأبو القاسم لو كان الحجّة تحت ذيلِه، وقُرّض بالمقاريض، ما كشَف الذيل عنه (1) .

النقطة الثالثة: قبض المال وتوزيعه بواسطة سفرائه أو غيرهم.

والمال المقبوض يكون عادةً من الحقوق الشرعية التي يعطيها أصحابها من الموالين للإمام (عليه السلام)، في مختلف البلاد الإسلامية، فكان إذا اجتمع عند قومٍ أموال من هذه الحقوق، أرسلوها بيد أحدِ أُمنائهم إلى الناحية.

وقد يكون المال المقبوض هبةً شخصيّةً للإمام (عليه السلام) من قِبَل أحد مواليه، عيناً أو ثوباً أو غير ذلك، وقد يكون المال موصى به من قِبل أحد الأشخاص للإيصال إلى الإمام (عليه السلام) بعد موته، أو غير

____________________

(1) انظر غيبة الشيخ الطوسي ص240 والبحار جـ13 ص98.

٣٧٢

ذلك من الوجوه.

وهذه الأموال منها ما يصل إلى الإمام مباشرةً، ومنها ما يبقى في يدِ الوكيل، يوزّعه بحسَب نظر الإمام وقواعد الإسلام.

كما أنّ حامل الأموال إلى الإمام، قد يوفَّق إلى دفعها إلى السفير مباشرةً، وقد لا يستطيع حتى ذلك، بل يؤمر بوضع المال في مكان معيّن، يذهب بعده في حال سيبله، وذلك بحسَب اختلاف الظروف والأحوال التي يعيشها السفراء بشكلٍ خاص، والقواعد الشعبية الموالية بشكل عام، على ما سوف نشير إليه في مستقبل البحث.

النقطة الرابعة: أجوبته (عليه السلام) على الأسئلة التي كان إيصالها إلى الإمام (عليه السلام) من أهمّ مهامّ السفراء، والتي كانت تجتمع عند السفيرة بكثرة من مختلف طبقات المُوالين.

والجواب قد يكون توقيعاً، أي جملةً مختصرةً مكوّنة من بعض كلمات، وقد يكون مطوّلاً مُسهَباً بحسَب ما يراه المهدي من مصلحة السائل والمجتمع.

تندرج في ذلك الأسئلة الفقهيّة والعقائدية التي كانت توجّه إليه، والطلبات الشخصيّة: كاستئذانٍ بالحج، وسؤاله عن ميلاد الوالد، أو التوفيق بين زوجين متشاكين. كما يندرج في ذلك مناقشاته للشُبُهات التي كانت قد تنجم بين المُوالين، وللدعاوي الكاذبة بالسفارة عنه (عليه السلام)، ولعن المدّعي وكشف اتجاهاته المنحرفة.

كما يندرج في ذلك ما خرج عنه (عليه السلام) من الترحّم على

٣٧٣

السفير الأوّل وتعزية وَلَدِه: السفير الثاني، وما خرج في بيان انقطاع السفارة بعد السمَري السفير الرابع.. وغير ذلك من التوقيعات.. كما سيأتي التعرّض لكلّ ذلك تفصيلاً إنْ شاء الله تعالى.

النقطة الخامسة: قضاؤه (عليه السلام) لحوائج الناس من قواعده الشعبية من الناحية الشخصية.

يندرج في ذلك المال الذي يأخذه بعضهم من المهدي (عليه السلام) مباشرة إذا وفِّقوا للقائه، والمال الذي يأخذه الآخرون من السفراء أو غيرهم ممّن يمُت للإمام بصلة، وهي بمجموعها، أموالٌ مهمّة لا يُستهانُ بها.

كما يندرج في ذلك نصحه (عليه السلام) لمستنصِحِيه بالقيام بعملٍ معيّن كالحجِّ أو غيره، أو الامتناع عنه، بحسب ما يرى من المصلحة التي يتّضح بعد ذلك للسائل مطابقتها لمقتضى الحال،

كما يندرج في ذلك الأكفان والحنوط والأثواب التي كان يعطيها لبعض الخاصّة، مع الطلب أو بدونه، وذلك قبل موت ذلك الشخص بقليل.. سيأتي التعرّض لتفاصيل ذلك فيما يلي من البحث.

النقطة السادسة: عدَم التعرّض في كلام المهدي (عليه السلام) إلى شيءٍ من الحوادث العامّة في المجتمع، أو في الدولة، أو في الخارج، وما يقوم به الخُلفاء أو الوزراء أو القوّاد أو الأُمراء أو القضاة، أو غيرهم ممّن له شأن، أو ممّن ليس له شأن.

فإنّه بالرغم ممّا عرفناه من وجود الحوادث المهمّة في التاريخ العام.. تلك الحوادث التي أقلقت الدولة وكلّفت المجتمع الشيء الكثير.. ومنها

٣٧٤

ما حرّك ضمير المسلمين، كقلْع القرامطة للحجَر الأسوَد ونقله إلى هجَر.

بالرغم من ذلك، لا نجد في كلامه وتوقيعاته وتوجيهاته (عليه السلام)، أيَّ تعرّضٍ لهذه الحوادث على الإطلاق أو أيَّ تعليقٍ عليها.

وذلك لمبرّراتٍ ثلاثة مجتمعة أو متفرّقة:

المبرّر الأوّل: إنّ هذا الإعراض الكامل يُشكّل احتجاجاً صامتاً وشجبَاً سلبيّاً، لمجموع الخطّ الذي يَسير عليه الناس المنحرفون وذوو المصالح الشخصيّة، الصانعين لتلك الحوادث المُمثّلين لها على مسرح التاريخ، ابتداءً من الدولة وانتهاءً بقواعدها الشعبية.. ذلك الخطِّ المُنفصل عن خطِّه (عليه السلام)، والمنهج المُغاير لمنهجه.. ذلك الخطِّ الذي تشترِك الدولة وأعداؤها بالسير عليه والانتفاع به، فإنّهم مهما اختلفوا في شيءٍ، فهم لا يختلفون في معادات الإمام (عليه السلام) وإنكار وجوده، ومطاردة قواعده الشعبية.

والمهم لديه، وهو المؤمَّل لإقامة الحق المطلق في الأرض، أنْ يهمل هذا الانحراف إهمالاً تامّاً، ويتسامى عن مسيرته أو القول فيه أو التعليق عليه جملةً وتفصيلاً، حتى كأنّ شيئاً لم يحدث، وكأنّ الموجود في الأرض ليس إلاّ حقّه المطلوب وأهدافه المنشودة.

المبرّر الثاني: إنّ دَيدَن المهدي في بياناته وتوقيعاته، كان في الغالب مُكرّساً على أجوبة الأسئلة التي كانت تُرفَع إليه مِن مُواليه بواسطة سُفرائه، ولم يَخرُج منه توقيع ابتدائي بدون سؤال إلاّ نادراً، كأنْ

٣٧٥

يخصّ حالَ سُفرائه كالتعزية بسفيره الأوّل، والإعلان عن انقطاع السفارة بموتِ الرابع.

ومن هنا يصبَح من المنطقي أنْ لا نتوقّع من المهدي (عليه السلام) تعليقاً على أحدِ الحوادث العامّة، إلاّ إذا سأله عنه بعض المُوالين، أو طلب منه التعليق عليه، وهذا ممّا لم يُنقل في رواياتنا حدوثه.

والسبب في إهمال السؤال عن هذه الأُمور، هو: أنّ القواعد الشعبية الموالية للإمام (عليه السلام) تنقسم إلى قسمين:

القسم الأوّل: وهُم الأكثر والأغلب.. أُناسٌ يقلّ وعيهم ويتضاءل فهمهم الاجتماعي إلى حدٍّ كبير، فهُم وإنْ اطلعوا على أحكامهم الدينيّة من الناحية الشخصية على مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، إلاّ أنّهم لم يكونوا مُدركين بوضوحٍ الاتجاه الاجتماعي والسياسي لأئمّتهم (عليهم السلام) خاصّة، ولأحكام الإسلام عامّة.

وخاصةً وأنّ التاريخ القريب الذي عاشوه كان يذكي أوار الجهل ويؤكّد هذا التخلّف فيهم، وذلك لِما عرفناه من السياسة العبّاسية في عزل الأئمّة (عليهم السلام) عن قواعدهم الشعبية، وحجزهم في العاصمة وتقريبهم إلى البلاط... لأجل الأغراض التي عرفناها وفصّلناها، وممّا سبّب نموَّ جيلٍ من الشعب المُوالي منفصل عن قادته وموجّهيه، محرومٌ من علومهم ووعيهم وثقافتهم.

وقد أصبح هذا الجيل، خلال الغيبة الصغرى هو الجيل السائد الذي يمثّل الأغلبية الكاثرة، الجاهلة.. ومن ثَمّ لا ينبغي أنْ نتوقّع من

٣٧٦

مثل هذا الجيل أنْ يسأل عن رأي الإمام (عليه السلام)، أو فتوى الإسلام في أيِّ شيءٍ من الحوادث الاجتماعية أو الدولية.

القسم الثاني: وهُم الأقل... واعون مثقّفون بتعاليم الأئمّة السابقين (عليهم السلام)، وهم العارفون لاتجاهاتهم وطُرق تفكيرهم وتدبيرهم. فمثل هؤلاء إمّا أنْ يكونوا عالمين برأي الإمام (عليه السلام) سلَفاً بدون حاجةٍ إلى سؤال؛ وذلك لوضوح اتحاد اتجاهه (عليه السلام) مع اتجاه آبائه، وهم يعرفون القواعد الإسلامية العامّة التي يقيسون بها الأحداث الاجتماعية والدولية، فالفرد منهم يسأل نفسه عن تفسير الأحداث ويُجيبها، ويتّخذ تجاهها مسلكاً موزوناً بميزان وعيهِ وفَهمهِ الإسلامي الذي تلقّاه عن أئمّته (عليهم السلام)، من دون الحاجة إلى تجشّم مؤونة السؤال.

وأمّا أنْ لا يكون الفرد من هؤلاء الخاصّة عالماً بالرأي الإسلامي في حادثةٍ أو عِدّة حوادث.. ولكنّه مع ذلك لا يمكنه السؤال عنها؛ لأنّ هؤلاء الخاصّة معروفون للدولة: تراقب أعمالهم، وتحسب عليهم أقوالهم.. وهذا يكون من أكبر الموانع عن السؤال عن مثل تلك الأُمور.

المبرّر الثالث: خوف الإمام المهدي (عليه السلام) على قواعده الشعبية من عسف الدولة وضيق الخناق إذا وجِد لديهم رأي الإمام في أمرٍ سياسيٍّ أو حادثٍ اجتماعيٍّ، وذلك بأحد اعتبارين:

أحدهما: أنّ التعليق إذا كان على ما يمسّ الدولة من قريبٍ أو بعيد، أو على ما تؤيده من أشخاصٍ أو أحداث.. كان ذلك إعلاناً صريحاً

٣٧٧

للخلاف على الدولة.. الأمر الذي لا يُعرّض الفرد الذي وجِد عنده أو سُمِع منه ذلك للخطر فقط.. بل يُعرّض جماعةً كبيرةً من متعلّقيه، بل سائر أفراد الشعب المُوالي للإمام (عليه السلام)، إلى أنحاء من الخطَر وأنواع من التهديد هم في غنىً عنه لولا ذلك، وهو ممّا لا يريده لهم الإمام المهدي (عليه السلام)، كما لم يكن يُريده لهم آباؤه (عليهم السلام).

ثانيهما: أنّ تعليق الإمام على الأحداث، سَواء كان ممّا يوافق الدولة أم يخالفها، يدلُّ على وعي مَن وجِد عنده أو سُمِع منه، بل يدلّ على وعي جماعةٍ ممّن يكونون بمستواه الثقافي والفكري، وهذا معناه - كما تدركه الدولة بوضوح - كون الفرد والجماعة على مستوى الأحداث، وعلى مستوى تحمّل المسئولية، وإجابة نداء الحق وإطاعة تعاليم الإمام المهدي على أيِّ مستوى من المستويات.

وهذا ما تخافه الدولة وتخشاه بكلّ كيانها وطبقاتها، وتقف دونه بكلّ قواها، فإذا عطفنا على ذلك إحساس الدولة بما يصدر عنها من ظلم، وجهلها بقلّة الواعين المخلصين، استطعنا أنْ نشعر بعِظَم الخطَر وتفاقم الخطب.

ومِن ثمّ كان المهدي(عليه السلام) يرى ضرورة التخلّص من هذا الإحساس أساساً، وذلك بعدَم إشعار الدولة بوعي الواعين مِن مواليه؛ تجنيباً لهم عن الأخطار، وتمكيناً لهم بالاتّصال بالناس بشكلٍ أوسَع، من أجلِ حِفظ المصالح الكبرى التي يتوخّاها الإمام المهدي في المجتمع.

٣٧٨

وأنّ مِن أسهل الطُرق لذلك، هو أنْ لا يوجد بينهم أو على ألسنتهم أيُّ تعليقٍ (رسمي)، على أيِّ حادِثٍ اجتماعي أو سياسي. وإذا وجِد شيء من ذلك، فلابدّ أنْ يبقى منحصراً في النطاق الخاص، محروساً عن الوصول إلى الدولة أو إلى أيِّ عميلٍ من عملائها. ومِن ثَمّ نسمع أنّه حين كان جماعة من الخاصّة في مجلس السفير محمّد بن عثمان العمري يتذاكرون شيئاً من الروايات، وما قاله الصادقون (عليهم السلام)، حتى أقبل أبو بكر محمّد بن أحمد بن عثمان المعروف بالبغدادي، ابن أخي أبي جعفر العمري (رض). فلمّا بصر به أبو جعفر، قال للجماعة: أمسكوا فإنّ هذا الجائي ليس من أصحابكم (1) .

والذي أودّ الإلماح إليه في المقام مختصراً، هو أنّ ندرة التعليق الاجتماعي الواعي من الأمام المهدي (عليه الإسلام)، إنّما يدلّ على وجود مثل هذه المصالح، ولا يدلّ على كون الإمام المهدي (عليه السلام) بعيداً عن الأحداث، منصرفاً عن تطوّرات المجتمع.

ولا نُريد، في المقام، أنْ نستشهد بما نعتقده في الإمام من العصمة والتعليم الإلهي، وأنّه متى ما شاء أنْ يعلم فإنّه يعلم. كما لا نريد أنْ نقول بأنّ نفس فكرة السفارة وما يترتّب على ذلك من المصالح، لأكبر دليل على استيعاب المهدي للأحداث، ووعيه الكامل للمشاكل وحلولها الإسلامية على المستوى القيادي، لا على المستوى الاعتيادي.

بل غاية ما نذكره هو الإشارة إلى الروايات المتعدّدة الواردة في

____________________

(1) الغيبة للشيخ الطوسي ص256.

٣٧٩

تاريخنا الخاص، الدالّة بكلِّ وضوح على ذلك: كتركه (عليه السلام) الجواب على سؤالِ شخصٍ كان قد أصبح قرمطيّاً (1) ، وكالذي قاله لعليّ بن مهزيار الأهوازي في شأن أهل العراق (2) وكالبيان الذي صدر منه (عليه السلام) للشيخ المفيد (عليه الرحمة)، وقد تضمّن جملة من الأفكار والأخبار (3) ، وقصّة شقّه لثوب المرجي (4) ، وغير ذلك من الروايات الدالّة على استعراض الإمام المهدي للأحداث ومتابعته للمشاكل الاجتماعية، وسيأتي تفصيل ذلك بما يزيده وضوحاً ورسوخاً.

فهذه هي النقاط الرئيسيّة للاتجاه العام الذي كان يلتزمه الإمام (عليه السلام) إبّان غيبته الصغرى، استعرضناه بنحو الاختصار، وسيأتي تفصيل الحوادث المُشار إليها، في الفصول الآتية من الكتاب.

* * *

القسم الثاني: الاتجاه العام للشعب الموالي.

كان الاتجاه العام للشعب الموالي لخطّ الإمام (عليه السلام)، خلال الغيبة الصغرى، مركّزاً حول عدّة نقاط، تكاد تكون مترابطة:

النقطة الأُولى: الاعتماد التام والتوثُّق الكامل من السفراء، وحسن الظن بهم بأفضل أشكاله.. بما هُم أهلٌ لذلك؛ لما هو معروف عند الشعب المُوالي من نصوص أئمّته الماضين (عليهم السلام) في توثيق وتجليل

____________________

(1) الإرشاد ص332.

(2) الغيبة للشيخ الطوسي ص161.

(3) انظر الاحتجاج ص322.

(4) أنظر منتخب الأثر ص386 وغيره.

٣٨٠