موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ الغيبة الصغرى) الجزء ١

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ الغيبة الصغرى)8%

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ الغيبة الصغرى) مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الإمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف
الصفحات: 663

الجزء ١ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 663 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 37583 / تحميل: 7937
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ الغيبة الصغرى)

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ الغيبة الصغرى) الجزء ١

مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

الفقيه في باب ما أحلّ الله من النكاح وما حرّم.

وحبابة بنت جعفر الأسديّة التي روت عن أمير المؤمنينعليه‌السلام وقالت: رأيت أمير المؤمنين في شرطة الخميس ومعه درّة يضرب بها بيّاع الجريّ والمارماهيّ، والمزماريّ ويقول لهم: « يا بُيّاع مُسوُخ بني إسرائيل » إلى آخر الحديث.

وحكيمة بنت الإمام أبي جعفر محمّد بن عليّ الجوادعليه‌السلام .

وحميدة البربريّة اُمّ الإمام أبي الحسن موسى بن جعفرعليه‌السلام وهي من الثقات التقيّات، وكان مولانا الإمام الصادقعليه‌السلام يرسلها مع اُمّ فروة تقضيان حقوق أهل المدينة.

وزينب بنت أبي سلمة التي كانت من أفقه نساء زمانها، وكانت كثيرة الخير والصدقة وكانت صنّاع تعمل بيدها وتتصدّق بيدها.

وسعيدة التي وقع اسمها في إسناد الكافي فقد روى في باب النوادر من آخر كتاب النكاح عن سعيدة .

وغيرهنّ كثيرات لم نذكر أسماءهنّ اختصاراً وإيجازاً(١) .

وقد برزت هذه النسوة وصعدن إلى تلك المرتبة من العلم والفضيلة، وضاهين الرجال في المقام والمنزلة بفضل الإسلام.

فقد ربّى في حجره مثل هذه النساء العالمات التقيّات ذوات الشخصيّة الرشيدة والمواقف البارزة، والصفحات البيض، والتواريخ المشرقة في شتّى مناحي الحياة الإسلاميّة ولولا الإسلام، وما أولاهن من المنزلة والحظوة لبقيت المرأة تعاني من ما كانت تعانيه من ظلم الجاهليّة وعسفها، وكبتها وتحقيرها.

فقد كانت المرأة في زمن الجاهليّة محرومة من كلّ مزايا الرجال، تحتقر كما يحتقر

__________________

(١) من أراد الوقوف على تفصيل ذكرهنّ وأسمائهنّ فعليه أن يراجع كتاب: أعلام النساء، بلاغات النساء، الخيرات الحسان، والاستيعاب، والإصابة.

٤٤١

الحيوان، وتباع وتشترى كما يشترى ويباع المتاع، حتّى جاء الإسلام وأولاهنّ ما أولاه من الرفعة بعد الضعة، والشرف بعد المقت والعزّة بعد الإهانة والذّل، فتخرّج منهنّ الكاتبات والأديبات والعالمات، والراويات، وربّات الفكر والرأي، وذوات الشخصيّة والشأن الكبير.

على أنّ النساء لم يحصلن على حقوقهنّ في التعليم في ظلّ الحكومة والشريعة الإسلاميّة فقط، بل حصلن على حقوق عادلة في التسوية مع الرجال في اعتناق الدين، واستحقاق الثواب الاُخرويّ، والاحترام الدنيويّ، والميراث، والزواج وحقوق الزوجيّة، والطلاق، والنفقة، والوصيّة.

وجملة القول ؛ أنّه ما وجد دين ولا شرع ولا قانون في أمّة من الأمم أعطى النساء ما أعطاهنّ الإسلام من الحقوق والعناية والكرامة، في جميع المجالات الإنسانيّة.

هذا ولقد كان الإسلام أوّل من عمل على محو الاُميّة ونشر الثقافة والعلم وتعميمها في أوساط الناس فيما كانت الحكومات المعاصرة لعصر النبوّة المحمديّة ـ كالأجهزة الحاكمة في إيران ـ تحظر العلم والثقافة على طبقات الشعب وتحرم اكتسابهما إلّا على الأُمراء وأبناء الاُمراء، وطبقة المؤبذين ( وهم رجال الدين الزرادشتي )(١) .

وإنّ أدلّ دليل على سعي الإسلام لمحو الاُميّة قبل أي أحد هو ما فعله النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله مع أسرى بدر حيث جعل فداء بعض الأسرى الذين كانوا يعرفون القراءة والكتابة، تعليم أولاد المسلمين: القراءة والكتابة.

فقد روى الحلبي في سيرته ذلك قائلاً: ( بعثت قريش في فداء الأسارى وكان الفداء فيهم على قدر أموالهم، وكان من أربعة آلاف إلى ثلاثة آلاف درهم إلى ألفين إلى ألف. ومن لم يكن معه فداء وهو يحسن الكتابة دفع إليه عشرة غلمان من غلمان المدينة ليعلّمهم الكتابة فإذا تعلّموا كان ذلك فداء )(٢) .

__________________

(١) الشاهنامة للفردوسيّ ٦: ٢٥٧ ـ ٢٦٠.

(٢) السيرة الحلبيّة ٢: ٢٠٤.

٤٤٢

على أنّ المنهج الذي اختاره الإسلام هو جعل الإيمان مقروناً بالعلم، والعلم مقروناً بالإيمان فالمكتفي بأحدهما كطائر يحلّق بجناح واحد ولذلك نرى أنّ الله سبحانه يقرن أحدهما بالآخر في كتابه إذ يقول:( يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ) ( المجادلة: ١١ ).

وكقوله:( وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ ) ( الروم: ٥٦ ).

وممّا يدلّ على ذلك ما نراه ـ إذا سرنا في البلاد الإسلاميّة ـ من بناء الجامعات إلى جنب المساجد الذي يشير بوضوح إلى عدم التفكيك بين العلم والإيمان، وبين الدين والمعرفة في الحوزات الإسلاميّة العلميّة المبثوثة في كلّ أرجاء العالم الإسلاميّ أو انعقاد الحلقات الدراسيّة في المساجد. ولقد بلغ حثّ الإسلام على اكتساب العلم والمعرفة حدّاً بليغاً حتّى أنّه حرّض على الهجرة في سبيل اكتساب العلم، عندما حثّ على أن يخرج من كلّ فريق طائفة تسافر إلى المدينة، ليدركوا حضرة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وليتعلّموا منه ما يحتاجون إليه من العلوم والمعارف الإلهيّة المفيدة ثم يرجعوا إلى قومهم وهو أمر يدلّ ضمناً على أنّ الإسلام كان ممن أسّس بنيان الحوزات العلميّة والجامعات وهي حقيقة يدلّ عليها قوله سبحانه:( فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) ( التوبة: ١٢٢ ).

فإنّ هذه الآية وإن فسّرت بوجوه غير أنّ الأظهر في تفسير الآية ما روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام :

قال عبد الله بن المؤمن الأنصاريّ قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام : إنّ قوماً يروون أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: « اختلافُ اُمّتي رحمة » فقال: « صدقُوا » فقال: إن كان اختلافهم رحمة فاجتماعهم عذاب ؟ قال: « ليس حيثُ تذهب وذهبُوا، إنّما أراد قول الله عزّ وجلّ:( فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) فأمرهم أن ينفروا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ويختلفوا إليه فيتعلّموا ثمّ يرجعوا إلى قومهم فيعلّموهم، إنّما أراد اختلافهم من البلدان لا اختلافاً في دين الله إنّما الديّن

٤٤٣

واحد »(١) .

وهذه الآية مضافاً إلى كونها دالّة على وجود مركز أو مراكز علميّة في زمن النبيّ يسافر إليها الأفراد ليتلقّوا فيها العلوم والمعارف اللازمة ؛ تدلّ على وجوب هذا الأمر وجوباً كفائيّاً، ولقد استمرّ وجود هذه المراكز والحوزات العلميّة في زمن الأئمّة: وفي زمن الإمام الصادق خاصّة.

فقد روى أحمد بن محمّد بن عيسى وقال: خرجت إلى الكوفة في طلب الحديث فلقيت بها الحسن بن عليّ الوشا، فسألته أن يخرج لي كتاب العلا بن رزين وأبان بن عثمان، فأخرجهما إليّ فقلت له: أحبّ أن يجيزهما لي فقال: يرحمك الله وما عجلتك، اذهب فاكتبهما واسمع من بعد ذلك، فقال: لا آمن الحدثان، فقال: لو علمت هذا الحديث يكون له هذا الطلب لاستكثرت منه فإنّي أدركت في هذا المسجد ( بالكوفة ) تسعمائة شيخ كلّ يقول حدّثني جعفر ( أي الإمام الصادقعليه‌السلام )(٢) .

وبالتالي فإنّ ما يدلّ على اهتمام الدين الإسلاميّ بانتشار العلوم والأخذ بالمعارف المتنوّعة هو ازدهار العلوم المختلفة بين المسلمين ونبوغهم المطّرد والبارز في شتّى مجالات المعرفة، وتنوّع الكتب والمصنفات التي خلّفها المسلمون وصنّفها علماؤهم وكتّابهم، وكانت أساساً لكثير من العلوم الحديثة.

يبقى أن نعرف أنّ الإسلام لا يطرح صيغة خاصّة لمنهج التعليم، وقد سبق أن قلنا: إنّ خاتمية الدين الإسلاميّ تقتضي أن يبيّن الإسلام الجوهر واللب، وأمّا الصور والأشكال فمتروكة للأجيال والعصور، ومقتضياتها فلا مانع من أن يستفيد المسلمون من أي منهج تعليميّ، وأن يستخدموا أي جهاز يضمن تعميم العلم كالتلفزيون والمذياع شريطة الحفاظ على خلق المجتمع، وقيمه الإسلاميّة العليا. فإنّ الإسلام يخالف كلّ علم يتنافى مع سعادة البشر ويهدّد استقراره.

__________________

(١) نور الثقلين ٢: ٢٣٨.

(٢) رجال النجاشيّ: ٢٨ وتنقيح المقال للمامقانيّ ١: ٢٩٤.

٤٤٤

هذا ولعلّك تعجب إذا علمت أنّ تحصيل العلم في الفنون المختلفة من الطبّ والاقتصاد والحقوق السياسيّة والصنائع المتنوّعة فريضة إسلاميّة يجب على الجميع تعلّمه على نحو الواجب الكفائيّ لكي ترتفع حاجة المسلمين إلى غيرهم، ويأمنوا بذلك من تدخّل الأجانب في شؤونهم، بل الأعجب من ذلك أنّ التحصيل في بعض الشؤون واجب عينيّ وذلك فيما يتعلّق بمعرفة الأحكام الدينيّة من أحكام العبادات والمعاملات كما حقّق في موضعه(١) ، ولأجل ذلك وجب على الحكومة الإسلاميّة أن تخصّص قسماً كبيراً من ميزانيّتها لتأسيس الجامعات الدينيّة، والعلميّة وتهيئة ظروف التعليم والتعلّم حتّى يتسنّى لأبناء الاُمّة تحصيل المعرفة في أي مجال مفيد، وضروريّ لحياة الاُمّة. فإنّ جميع ما سقناه إليك من أدلّة حاثّة على طلب العلم، وإنّ ما وصل إليه المسلمون القدامى من أزدهار، وتقدّم عظيم، في العلوم يستدعيان أن تكون الحكومة الإسلاميّة هي التي تتولّى تهيئة أجواء العلم والتعلّم والتعليم، وإلاّ فكيف يمكن أن يتحقّق ذلك الازدهار ويتحقّق هذا الهدف العظيم، والأمر خارج عن نطاق الأفراد بل هو ميسّر للحكومة وإمكانيّاتها، ولوجوب أن تقتدي هذه الحكومة بسيرة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله حيث تولّى بنفسه تهيئة أجواء التعليم والتعلّم لأبناء المدينة كما مرّ عليك في قصّة أسرى بدر.

الإسلام والعلوم الطبيعيّة

ثمّ انّه لم يكن تأكيد الإسلام على تحصيل العلم ليختصّ بعلم دون علم وبباب دون آخر، وإن كان التأكيد على اكتساب الفقه والعلم بأحكام الدين أشدّ، وأكثر.

فالعلم بأحكام الدين واُصوله وفروعه، أو العلم بما يجري في الطبيعة من السنن والقوانين وكشف غوامض الحياة ومعضلاتها واختراع ما يكون مفيداً للحياة البشريّة ممّا دعا إليه الإسلام من غير فرق بين علم وعلم. ولذلك أمر سبحانه في الكثير من الآيات القرآنيّة بالتدبّر في الكون والسنن الحاكمة فيه، كما هو غير خفيّ على من له إلمام بالكتاب

__________________

(١) راجع فرائد الشيخ الأنصاريّ: ٣٠٠ ـ ٣٠١.

٤٤٥

الكريم.

وتقسيم العلوم إلى دينيّة وغير دينيّة ( أو قديمة وحديثة ) مجرّد اصطلاح وإلاّ فكلّ علم نافع ناجع قد دعا إليه الدين وأمر به الكتاب، وأخذ به المسلمون، وما يعدّ علوماً حديثة فلها جذور في القديم وإنّما حدث التطوّر والتكامل حسب مرور الزمان شأن كلّ ظاهرة وعلم.

ولأجل ذلك نرى أنّ المسلمين اهتمّوا ـ منذ بزوغ الإسلام ـ بمختلف العلوم والمعارف، وبرعوا فيها، وكانوا لكثير منها مكتشفين، وكان منهم المخترعون، والمبدعون.

وقد اعترف بذلك كثير من علماء الغرب والشرق، وأقرّوا للمسلمين به، وبيّنوا جهود المسلمين في هذا المضمار، وعدّوهم آباء العلم الحديث في كثير من المجالات والأصعدة.

ونحن هنا نشير إلى طائفة ممّن كان لهم من المسلمين اكتشافات علميّة :

١. جابر بن حيّان، تلميذ الإمام جعفر بن محمد الصادقعليه‌السلام كان من أشهر علماء الكيمياء. هذا وللرازي وأبو ريحان البيرونيّ بحوث شيّقة وهامّة في الكيمياء أيضاً.

٢. يعقوب ابن إسحاق الكندي ؛ له ١٥ كتاباً في معرفة أحوال الجوّ.

٣. الحسن بن الهيثم ؛ المتولّد عام ٣٠٤ ألّف كتباً عديدة في الضوء وخواصّ المرايا المقعّرة والمحدّبة والمنكسرة.

٤. محمد بن إبراهيم الفزاري، والحجاج بن يوسف بن مطر ؛ لهما ولغيرهما من المسلمين جهود علميّة كبرى في الرياضيّات.

٥. الخواجا نصير الدين الطوسيّ، وأبو معشر البلخيّ، يعود إليهما الكثير من الاختراعات والاكتشافات في علم الهيئة والفلك.

٦. محمّد بن زكريّا الرازي، وأبو عليّ بن سينا، وابن رشد الأندلسيّ يعود إليهما

٤٤٦

الكثير من الأبحاث الطبيّة، ومسائل العلاجات والأدوية.

٧. الكندي والدميريّ والقزوينيّ وابن بطوطة وابن خلدون ؛ ممّن لهم كتب ومؤلّفات واسعة في علم الأحياء، والجغرافيه، وغيرهما من العلوم والمعارف، وغيرهم ممّن لا يمكن إحصاء أسمائهم لكثرتهم وكثرة مؤلّفاتهم.

ويكفي دلالة على تشجيع الإسلام للصناعة ما قاله الإمام الصادقعليه‌السلام في حديث مفصّل: « كلّ ما يتعلّم العبادُ أو يُعلّمون غيرهُم من صُنوف الصناعات مثل الكتابة والحساب والنّجارة والصّياغة والسّراجة والبناء والحياكة والقُصارة والخياطة وصُنعة صنوف التصاوير ما لم يكُن مثل الرّوحانيّ وأنواع صنوف الآلات التي يحتاجُ إليها العبادُ التي منها منافعهُم وبها قوامُهم وفيها بُلغةُ جميع حوائجهم فحلال فعلهُ، وتعليمهُ والعملُ به وفيه لنفسه أو لغيره »(١) .

ثمّ انّ عناية الإسلام بالكتابة وتقييد العلم بواسطتها يعتبر من أبرز الأدلّة على تبنيّ الإسلام للعلم وحرصه عليه فقد كان الإسلام أوّل من روّج الكتابة وحثّ على تعلّمها، وكان ذلك الموقف من الكتابة والتدوين هو السبب الرئيسيّ في كتابة المؤلّفات وتأليف الكتب العديدة الذي كان ـ بدوره ـ خير وسيلة لأحياء العلم، والابقاء عليه فقد روي أنّه كتب الشيعة وحدهم ما يقارب (١٠) آلاف كتاب خلال عهد الإمامين الباقرين خاصّة(٢) .

ولقد وردت أحاديث كثير في هذا الصدد يضيق المجال بذكرها في هذه العجالة ولكنّنا ندرج هنا بعضها على سبيل المثال :

عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: « قيّدُوا العلم بالكتابة »(٣) .

__________________

(١) تحف العقول: ٢٤٦.

(٢) المراجعات: ٣٣٧ المراجعة (١١٠).

(٣) تحف العقول كما في الذريعة ١: ٦، المستدرك للحاكم ١: ١٠٦، كنز العمال ٥: ٢٧٧، البيان والتبيين ١: ١٦١.

٤٤٧

وعن عبد الله بن عمر قال قلت لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أقيّد العلم ؟ قال: « نعم »، قيل وما تقييده ؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « كتابتُهُ »(١) .

وعن أبي بصير قال دخلت على أبي عبد الله ( الصادق ) فقال: « ما يمنعُكُم من الكتابة، إنّكُم لن تحفظُوا حتّى تكتبُوا »(٢) .

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إذا مات ابنُ آدم انقطع عملهُ إلّا من ثلاث :

صدقة جارية، أو علم ينتفعُ به أو ولد صالح يستغفُر لهُ »(٣) .

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « المُؤمنُ إذا مات وترك ورقةً واحدةً عليها علم تكُونُ تلك الورقةُ سُتراً فيما بينهُ وبين النّار وأعطاهُ الله بكُلّ حرف مكتُوب عليها مدينةً في الجنّة »(٤) .

وعنهعليه‌السلام أيضاً أنّه قال: « احتفظُوا بكُتبكُم فسوف تحتاجُون إليها »(٥) .

وقالعليه‌السلام : « القلبُ يتّكلُ على الكتابة »(٦) .

وقالعليه‌السلام : « اُكتُب وبُث علمك في إخوانك فإن متّ فأورث كُتُبك بنيك فإنّهُ يأتي على النّاس زمان هرج ما يأنسُون إلّا بكُتُبهم »(٧) .

وعن الإمام الحسنعليه‌السلام أنّه دعا بنيه وبني أخيه فقال: « إنّكُم صغار قوم ويُوشكُ أن تكُونُوا كبار قوم آخرين فتعلّمُوا العلم فمن لم يستطع منكُم أن يحفظهُ فليكتُبهُ وليضعهُ في بيته »(٨) .

هذا وللإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام تعاليم لطيفة في مجال الكتابة وتحسين الخطّ فقد قال لكاتبه عبيد الله بن أبي رافع: « ألق دواتك، وأطل جلفة(٩) قلمك ،

__________________

(١) راجع الذريعة ١: ٦، التاج ١: ٦١.

(٢) مشكاة الأنوار للطبرسيّ: ١٤٢، وروي في الكافي ١: ٥٢ بهذه الصورة: « اكتُبُوا فإنّكُم لا تحفظُون حتّى تكتبُوا ».

(٣) رواه الخمسة إلّا البخاريّ، راجع التاج ١: ٦٦.

(٤) أوثق الوسائل: المقدّمة.

(٥ و ٦ و ٧) الكافي ١: ٥٢.

(٨) بحار الأنوار ٢: ١٥٢.

(٩) الجلفة ما بين مبراه وسنته.

٤٤٨

وفرّج بين السّطُور وقرمط(١) بين الحُرُوف، فإنّ ذلك أجدرُ بصباحة الخطّ »(٢) .

كما روي عنهعليه‌السلام قوله: « الخطّ الحسن يزيد الحقّ وضوحاً »(٣) .

هكذا حثّ الإسلام على الكتابة حثّا بليغاً، وأكيداً، وكفى في ذلك أنّ الله تعالى أقسم بالقلم باعتباره وسيلة فعّالة لنقل المعرفة وتدوينها، وإبقائها.

بحث وتنقيب

ولعلّك تقول: لو حثّ الإسلام مثل هذا الحثّ على الكتابة والتدوين فلماذا نهى الخليفة الثاني عن كتابة الحديث في حين كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يحثّ أصحابه على كتابة ما يسمعونه منه. فقد أخرج صاحب غوالي اللئالي عن عمر بن شعيب عن أبيه وجدّه قال قلت: يا رسول الله أكتب كلّ ما أسمع منك ؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « نعم »، قال: قلت في الرضا والغضب ؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « نعم فإنّي لا أقول في ذلك كلّه إلّا الحقّ »(٤) .

وقد أملىصلى‌الله‌عليه‌وآله كتباً في الشرائع والأحكام كان قد جهّز بها رسله وعمّاله في الأقطار المفتوحة وقد احتفظ بها المسلمون وأوردها أصحاب السير والمعاجم وأهل الحديث والتفسير في كتبهم وهذه الصحف تعرب قبل كلّ شيء عن عناية الرسول بحفظ علوم الرسالة وذخائر النبوّة وأحكام الدين ودساتيره ليستفيد منها القريب ويرجع إليها النائي.

وقد تواتر عن الفريقين أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قبض وفي قراب سيفه أو ذؤابة سيفه كتاب أو كتابان(٥) .

__________________

(١) القرمطة بين الحروف، المقاربة بينها وتضييق فواصلها.

(٢) نهج البلاغة: قصار الكلم ( الرقم ٣١٥ ).

(٣) حديث مشهور.

(٤) راجع الذريعة ١: ٦، التاج ١: ٦١.

(٥) صرّح بذلك إمام الحنابلة في مواضع من مسنده راجع المسند ١: ٨١، ١٠٠، ١١٩، ١٢٦، ١٣٢، صحيح مسلم ٤: ٢١٧، السنن الكبرى ٨: ٣٠.

٤٤٩

وقد اعتمد على هذا الكتاب أئمّة أهل الحديث في مختلف الأبواب والأحكام واكثر النقل عنه المحدّث الحرّ العامليّ في جامعه الكبير وينهي إسناده إلى أئمّة أهل البيت(١) .

قال ابن عمر: إنّ قريشاً قالت: إنّك تكتب عن رسول الله وهو بشر يغضب يعنون به أنّه يقول عند الغضب باطلاً، فعرضت كلامهم على رسول الله قال: « اكتب فإنّي لا أقُولُ إلّا حقّاً » أو أشار إلى شفتيه وقال: « لا يخرُجُ منهُما إلّا الحقّ اكتُب »(٢) .

وقد أملى رسول الله كثيراً من الأحكام على ( علي ) فدوّن أمالي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في حياته، واشتهر بكتاب عليّ، وقد روى عنه البخاريّ في صحيحه في باب كتابة الحديث وباب « إثم من تبرّأ من مواليه ».

وقد أكثر عنه النقل الإمامان الباقر والصادقعليهما‌السلام ورآه كثير من أصحابهما كزرارة بن اُعين ومحمد بن مسلم وأبي بصير ونظرائهم.

وأخرج الشيخ أو العباس النجاشي ( المتوفّى عام ٤٥٠ ) في ترجمة « محمّد بن عذافر » عن عذار الصيرفيّ قال: كنت مع الحكم بن عيينة، عند أبي جعفر محمّد بن علي الباقرعليه‌السلام فجعل يسأله وكان أبو جعفر له مكرهاً فاختلفا في شيء، فقال أبو جعفر: « يا بنيّ قم فأخرج كتاب عليّ » فاخرج كتاباً مدرجاً عظيماً، ففتح وجعل ينظر حتى أخرج المسألة، فقال أبو جعفر: « هذا خطّ عليّ وإملاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأقبل على الحكم وقال: « يا أبا محمّد: إذهب وسلمة والمقداد حيث شئتم يميناً وشمالاً، فوالله لا تجدون العلم أوثق منه عند قوم كان ينزل عليهم جبرائيل »(٣) .

والحديث عمّا كتبه عليّعليه‌السلام كثير، وأخرج المشايخ والمحمّدون الثلاثة روايات جمّة عنه ينتهون بإسنادها إلى أئمة الحديث مبثوثة في كتب الطهارة والصلاة والزكاة والصوم والحجّ والجهاد والأمر بالمعروف والتجارة والوصايا والطلاق والنكاح

__________________

(١) راجع وسائل الشيعة كتاب القصاص.

(٢) مستدرك الحاكم ١: ٤.

(٣) فهرست النجاشيّ: ٢٥٥ ( طبعة الهند ).

٤٥٠

والأطعمة والأشربة والحدود والقصاص والديات والقضاء والأيمان والصيد والميراث وإحياء الموات(١) .

ثمّ إنّ الشيعة في الصدر الأوّل اقتفوا أثر إمامهم في الكتابة والتأليف فاهتمّوا بجمع أحاديث الأحكام والفرائض والقضايا وأخبار المغازي، وتراجم الرجال وقد جمع أسماءهم الشيخ أبو العباس النجاشيّ في أوّل رجاله.

ثمّ الذين نشأوا بعد الطبقة الاُولى نهجوا منهاج سلفهم، حذو القذّة بالقذّة في كلّ قرن وجيل ؛ رغم ما كانت تواجههم من الظروف القاسية والكوارث الداهمة ورغم ما كانوا يعانون من السلطات الغاشمة

فإنّ الشيعة رغم كلّ تلك المصاعب ألّفوا كتباً ثمينة جمعوا فيها شذرات الحديث وشوارد السير واُصول الأخلاق، ونهضوا بهذه المهمّة بعزم راسخ لا يعرف الكلل والملل مثابرين على العمل، ومعانين في طريق هدفهم كثيراً من الأذى حفاظاً على حياض الشريعة الإسلاميّة وصوناً لكنوزها، وبثّاً لتعاليم الحنيفيّة البيضاء.

وقد ترجم الشيخ أبو العباس النجاشيّ صاحب الفهرست المعروف في صدر كتابه بعض رجال الشيعة ممّن يعدّون من المؤلّفين في الطبقة الاُولى.

ودونك أسماء عدّة منهم من الذين ذكرهم الشيخ أبو العباس النجاشيّ بهذا العنوان في أوّل فهرسته :

١. أبو رافع ؛ مولى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وصاحب بيت مال أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام صنف كتاب السنن والأحكام والقضايا.

٢. عبيد الله بن أبي رافع ؛ كاتب أمير المؤمنين وأوّل من ألّف في الرجال، ترجم من أصحاب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله من شهد منهم حروب أمير المؤمنينعليه‌السلام الجمل وصفين.

__________________

(١) راجع وسائل الشيعة في هذه الكتب وقد جمع العلاّمة الشيخ الأحمديّ في كتابه القيّم « مكاتيب الرسول » ١: ٨٢ ـ ٨٨ ما بثّه صاحب الوسائل في جامعه على نسق الكتب الفقهيّة.

٤٥١

٣. عليّ بن أبي رافع ؛ كاتب أمير المؤمنينعليه‌السلام صنف كتاباً في فنون من الفقه: الوضوء والصلاة وسائر الأبواب.

٤. ربيعة بن سميع ؛ صنّف كتاب زكاة النعم على ما سمعه عن أمير المؤمنينعليه‌السلام في صدقات النعم وما يؤخذ من ذلك.

٥. أبو صادق سليم بن قيس الهلالي ؛ صاحب أمير المؤمنين ألّف أصله المعروف المطبوع.

٦. الأصبغ بن نباتة المجاشعيّ، من خيار أصحاب أمير المؤمنين ومن شرطة الخميس له كتاب عهد أمير المؤمنين إلى مالك الأشتر النخعيّ ووصيّته إلى ابنه محمّد بن الحنفيّة.

٧. أبو عبد الله سلمان الفارسي ؛ له كتاب ( خبر جاثليق ) وقد أملى الخطبة الطويلة والاحتجاجات.

٨. أبو ذرّ الغفاري ؛ له كتاب وصايا النبيّ وشرحه العلاّمة المجلسي وأسماه عين الحياة.

هذا حال الطبقة الاُولى منهم وأمّا الذين أتوا بعدهم فالرواة منهم المعاصرون للأئمّة الهداة في مجموع القرنين منذ قبض الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام إلى عصر العسكريعليه‌السلام لم يؤثر عنهم فتور في تدوين العلوم وضبط الحديث، وجمع قواعد الفقه وتنسيق طبقات الرجال وضمّ حلقات التفسير وإتقان مباني واُسس الكلام إلى غير ذلك.

كلّ ذلك يشهد على مبلغ اهتمامهم بتلقّي أنواع المعارف والعلوم من معادنها في السرّ والعلانية، وتغنينا عن إفاضة القول وسرد الشواهد، الفهارس المؤلّفة لكتب الشيعة في القرون الإسلاميّة الغابرة ولا سيّما ما ألّفه العلاّمة المتتبّع المغفور له الشيخ أغا بزرگ الطهرانيّ في أثره الخالد ( الذريعة إلى تصانيف الشيعة ) المطبوع في خمسة وعشرين جزء.

٤٥٢

وأظنّ أنّ الموضوع لا يحتاج إلى أن نتوسّع فيه أكثر من ذلك وهذا كتاب الله سبحانه يحثّ في أطول آيات كتابه(١) على كتابة ما يتوصّل بها إلى حفظ عرض دنيويّ زائل ومتاع مندثر، أفلا يجوز لنا من هذا الحثّ الأكيد استنباط لزوم الاهتمام بما ننال به المقاصد العالية ويفوز الإنسان به بالسعادة الخالدة ؟

حول الحديث الموضوع

وبعد ذلك كله لا اعتبار بما نسبوه إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من أنّه قال: « لا تكتبوا عنّي شيئاً سوى القرآن فمن كتب عنّي غير القرآن فليمحه »(٢) أو أنّه لم يأذن بكتابة الحديث على ما رواه الترمذيّ عن أبي سعد قال: استأذنا النبيّ في الكتابة فلم يأذن لنا(٣) .

وأغرب منه ما رواه الحاكم بسنده عن عائشة قالت: جمع أبي الحديث عن رسول الله فكانت خمسمائة حديث فبات يتقلّب، قالت فغمّني كثيراً، فقلت يتقلّب لشكوى أو لشيء بلغه، فلّما أصبح قال: أي بنيّة هلمّي الأحاديث التي عندك ! فجئته بها فأحرقها، وقال خشيت أن أمُوت وهي عندك فيكون فيها أحاديث عن رجل ائتمنته ووثقت به ولم يكن كما حدّثني فأكون قد تقلّدت ذلك(٤) .

وأظنّ أنّ ما اُلصق برسول الله من مختلقات الحديث وضعها القائل أو القائلون لأغراض وغايات سياسيّة وأظنّ أنّ الذي دفع الوضّاعين إلى إعزاء ما اختلقوه إلى رسول الله أحد أمرين أو كليهما :

إمّا لأنّ المعتمد في كتابة أحاديث الرسول آنذاك كان هو الإمام عليّعليه‌السلام دون سائر الصحابة، وكان ذلك يعدّ فضيلة رابية للإمام، فحاول أعداؤه ومناوؤه طمسها فاختلقوا ما اختلقوا لكي يصبح عمل الإمام في استقلاله بالتدوين، أو تبرّزه في هذا الباب عملاً غير مشروع.

__________________

(١) سورة البقرة ٢: الآية (٢٨٢) آية الدين.

(٢) رواه الدارميّ في مقدّمة سننه.

(٣) صحيح الترمذيّ ٢: ٩١ ( طبعة الهند ).

(٤) جمع الجوامع للسيوطيّ ٢: ١٤٧.

٤٥٣

وإمّا لأنّ تلك الأحاديث فيها الكثير ممّا قاله النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في فضل عليّعليه‌السلام وعظم شأنه، فلو سوّغت كتابة الأحاديث وأحاط بها الناس علماً وتناقلها المسلمون في شتّى الأقطار، لأدّت إلى ظهور الإمامعليه‌السلام على سائر الصحابة، وكونه الأحقّ في تسنّم منصب الخلافة بعد الرسول وفي ذلك ما فيه من الخطر على من تسنّموا عرشها بغير حقّ وبغير دليل.

فلو كان كتابة الحديث وضبطه في الصحائف والجلود أمراً مرغوباً عنه فلماذا أملى النبيّ بنفسه كتباً في الشرائع والأحكام وجهّز بها رسله وعماله في الأقطار المفتوحة.

ولو كان نهي النبيّ بمرأى ومسمع من أصحابه وأنصاره، فلماذا استفتى عمر أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في ذلك فأشاروا عليه أن يكتب فطفق عمر يستخير الله شهراً ثمّ أصبح يوماً وقد عزم الله له فقال: إنّي كنت اُريد أن أكتب السنن وإنّي ذكرت قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتباً فأكبّوا عليها وتركوا كتاب الله وإنّي والله لا أشوب كتاب الله بشيء أبداً ولا اُلبس كتاب الله بشيء أبداً(١) .

والعذر الذي جاء به الخليفة في كلامه يشبه ما في كلام بعضهم في تفسير نهي النبيّ عن الكتابة من أنّ نهيهصلى‌الله‌عليه‌وآله عن كتابة الحديث كان لخوفهصلى‌الله‌عليه‌وآله من اختلاط الحديث بالقرآن.

ولا يخفى ما فيه من الخبط والخطأ فإنّ ما يفسده أكثر ممّا يصلحه إذ معنى ما ذكره هو إبطال معجزة القرآن وهدم اُصولها من القواعد، وإنّ معنى ذلك كون بلاغة القرآن والحديث والخطب المرويّة من باب واحد هو باطل، والله سبحانه يقول:( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) ( الإسراء: ٨٨ ).

وقد حقّق في محلّه أنّ القرآن وحي بلفظه ومعناه، لا يشبه كلام الإنسان من حيث

__________________

(١) رواه الكاتب المتتبع المعاصر أبو ريّه عن الحافظ بن عبد ربه والبيهقي في أضواء على السنّة المحمديّة ص ٤٣.

٤٥٤

الصياغة والانسجام، والحديث وحي بمعناه دون لفظه، فهو من جهة اللفظ والصياغة كلام بشريّ يمكن مباراته.

وهناك عذر آخر لا يقلّ في الوهن والضعف عن الأوّل جاء به بعض المعاصرين قال: يمكن أن تكون حكمة النهي عن كتابة الحديث هو أن لا تكثر أوامر التشريع، ولا تتّسع أدلّة الأحكام وهو ما كان يتحاشاهصلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى كان يكره كثرة السؤال، أو يكون من أحاديث في اُمور خاصّة بوقتها بحيث لا يصح الاستمرار في العمل بها. ونحن لا نعلّق عليها إلّا شيئاً طفيفاً إذ القارئ الكريم أعرف بحالها، إذ أي صلة بين كتابة حديث نافع وسنّة متّبعة تتّصل بحياة المسلمين الفرديّة والاجتماعيّة وتحتلّ مكاناً سامياً في استنباط كثير من الأحكام التي كانوا يواجهونها بعد عصر الرسالة عندما توسّعت الحكومة الإسلاميّة وتلوّنت حياتهم بألوان حضارة جديدة، ولم يكن لهم بها عهد في عصر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وبين كثرة السؤال عن أشياء لا تهمّ السائل معرفتها.

على أنّ ما اعتذر به الكاتب في تصحيح النهي عن تدوين السنّة يستدعي النهي عن كتابة القرآن وهما في المقام سواسية، لأنّ عمق معاني القرآن وغزارة مقاصده تؤدّي بالباحث إلى كثرة التساؤل واتّساع أدلّة الأحكام وتكثر أوامر التشريع، وبالتالي يستلزم تسلسل الأسئلة.

ولا يتردّد المحقّق الباحث في أنّ ما عزوه إلى النبيّ من مخاريق الأوهام الباطلة التي نحتوها لأغراض سياسيّة، لتصحيح فعل الخليفة ونهيه عن كتابة الحديث وسنّة النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وما ارتكبه الخليفة عثرة لا تقال، فالله يعلم كم خسر الإسلام والمسلمون من جرّائها لولا أن تدارك الخسران العظيم عمر بن عبد العزيز فكتب من الشام إلى أبي بكر ابن حزم وهو من كبار المحدّثين بالمدينة: انظر من حديث رسول الله فاكتبه، فإنّي خفت دروس العلم وذهاب العلماء(١) .

__________________

(١) صحيح البخاريّ ١: ٢٧ كتاب العلم.

٤٥٥

برامج الحكومة الإسلاميّة ووظائفها

٢

الحكومة الإسلاميّة

والحقوق الفرديّة والاجتماعيّة

حاجة المجتمعات إلى الحقوق

بما أنّ الإنسان بطبيعته ذو تطلّعات وحاجات تزداد بتوسّع التمدّن وتقدّم الحضارة، وبما أنّ الحياة الاجتماعيّة لا تنفكّ عن إقامة العلاقات والروابط بين أبناء البشريّة، وبما أنّ وصول الأفراد إلى تطلّعاتهم وحاجاتهم لا ينفكّ عن التزاحم والتصادم والاختلاف والتشاجر، كان لا بدّ من حلّ هذا الاختلاف والتنازع، ووضع العلاقات الاجتماعيّة في الإطار الصحيح.

وقد كان هذا الحلّ يتمّ ـ في العصور السابقة ـ بالقوّة، وقدرة السلاح وكان المنطق الحاكم هو ( الحقّ لمن غلب )، غير أنّ تقدّم البشريّة في مدارج التربية أوجد لديها فكرة التنظيم وحلّ الاختلافات بين أفراد البشر بغير وسيلة القوّة، والسلاح، ومن هنا تكوّن ما يسمّى بعلم الحقوق، فعلم الحقوق عبارة عن الاُصول والقواعد التي تنظّم علاقات الأفراد، والتي يجب أن تسود المجتمعات حتماً، ولا يتخلّف عنها أحد أبداً.

٤٥٦

وبعبارة اُخرى ؛ إنّ الحقوق عبارة عن ( مجموع القواعد والقوانين المقرّرة لحفظ الأفراد وترقية المجتمع البشريّ، وعلى ذلك ينطبق علم الحقوق على قسم من الفقه الإسلاميّ، ويكون شعبة من الفقه ).

ولقد كان الفقه الإسلاميّ القانون الوحيد الحافظ لحقوق الأفراد والجماعات في الشرق الإسلاميّ إلى أوائل القرن الرابع عشر حتّى أن قامت الثورات الشعبية (؟) وأسّست مجالس الاُمّة، وسنّت القوانين الجديدة، وتركت القوانين الإسلاميّة جانباً وقد خسر المسلمون، بالعدول عن القوانين الإسلاميّة إلى تلك القوانين البشريّة المقتبسة من الغرب، خسر المسلمون ـ بسبب ذلك ـ العدل والرحمة، والإنسانيّة والاستقرار والدقّة.

تقسيمات الحقوق

لقد قسّم علماء الحقوق القوانين والحقوق(١) إلى :

أ ـ داخليّة ؛ تختصّ بالعلاقات المتقابلة بين أفراد الاُمّة الواحدة.

ب ـ خارجيّة ؛ تختص بالعلاقات المتقابلة بين الأمم والدول المختلفة.

وكلّ من الداخليّة والخارجيّة ينقسمان إلى خاصّة، وعامّة، وإليك فيما يأتي تفصيل هذه التقسيمات إجمالاً :

أ ـ الحقوق الداخليّة

والعامّة منها تنقسم إلى ثلاث شعب هي :

الاُولى / القانون الأساسيّ الذي يقوم في إطاره كلّ الروابط والعلاقات بين الأفراد، وتقوم كلّ التشكيلات الحاكمة على حياة الاُمّة فهو بمثابة ( الاُسس الكليّة لأي

__________________

(١) ليس المراد بالحقوق ـ هنا ـ هو المعنى الخاصّ له، بل هو مطلق القوانين ولذلك يكون الحقوق بمعناه الخاصّ المصطلح فقهياً جزءاً من هذا البحث.

٤٥٧

نظام ).

الثانية / القوانين المختصّة بالدوائر الحكوميّة وحدود وظائفها، وما يحدّد علاقات الأفراد ( موظّفين ومراجعين ) بها.

الثالثة / الحقوق والقوانين الجزائيّة التي يتميّز بها المعتدي عن غير المعتدي والمجرم عن غير المجرم، وتكون مانعة للأفراد عن الأعمال والتصرّفات المخلّة بالنظام.

وأمّا الخاصّة فهي تنقسم أيضاً إلى ثلاث شعب هي :

الاُولى / الحقوق المدنيّة وهي المتعلّقة بالأفراد في إطار العلاقات العائليّة والتي تسمّى الآن بالأحوال الشخصيّة، كالنكاح والطلاق والميراث وما شابه.

الثانية / القوانين والمسائل المرتبطة بالقضاء التي يستطيع الأفراد بالتوسّل بها أن يستوفوا حقوقهم الضائعة.

الثالثة / القوانين المتعلّقة بالعلاقات والمبادلات التجاريّة.

ب ـ الحقوق الخارجيّة ( الدوليّة )

والعامّة منها هي التي تبيّن وترسم كيفية علاقات الدول مع الدول، والحكومات مع الحكومات، ويندرج في ذلك المعاهدات وغيرها ممّا يدور بين الدول.

والخاصّة، هي التي ترتبط بعلاقة الدولة أو أفراد الشعب مع أتباع دولة اُخرى.

هذه هي ثمانية أنواع من القوانين والحقوق حسب التقسيم الحديث.

الإسلام والحقوق

لقد حظيت الحقوق ـ في الفقه الإسلاميّ ـ بأفضل مكانة في تشريعاته وتعاليمه بل إنّ الحقوق التي رسمها الإسلام وبيّنها على لسان القرآن أو السنّة الشريفة تعتبر من أدقّ، وأمتن الحقوق، وأكثرها إنسانيّة ورحمة وعقلانيّة. غير أنّ هناك ـ مضافاً إلى ذلك ـ خصائص تمتاز بها الحقوق الإسلاميّة عن الحقوق التي تطرحها القوانين البشريّة

٤٥٨

الوضعيّة هي :

أوّلاً: انّ الحقوق والقوانين التي جاء بها الإسلام تستمدّ اُصولها، وجزئياتها من ( الوحي الإلهيّ )، ولذلك فهي لا تقبل التغيير والتبديل، ولكنّ الحقوق التي طرحتها الأنظمة البشريّة فحيث أنّها تنبع من العلم البشريّ المحدود فهي تتعرّض دائماً للتغيير والتطوير لضيق آفاق العقل البشريّ.

ثانياً: أنّ الحقوق في الإسلام حيث تكون تابعة للمصالح والمفاسد الواقعية ونابعة من الملاكات الحقيقيّة فإنّها لا تخضع لأيّ زيادة أو نقصان وأيّ تطوير وتحوير، لانّها تقوم على أساس الواقع الإنسانيّ الثابت، والفطرة الحقيقيّة التي لا تتغيّر، والمصالح والمفاسد الموجودة في أفعال الإنسان وأعماله، ولكنّ الحقوق التي عرضتها الأنظمة والقوانين الوضعيّة حيث تنبع من الأهواء والميول والرغبات الفرديّة أو الجماعيّة فإنّها كثيراً ما تنالها أيدي التطوير والحذف لما يظهر فيها من عجز وضعف.

نعم إنّ القوانين والحقوق الإسلاميّة وإن كان بعضها يتغيّر شكلاً وإطاراً لكنّها لا تتغيّر جوهراً ومضموناً، ولقد أشبعنا القول في هذا الأمر في بحث الخاتميّة(١) .

ثالثاً: إنّ القوانين الإسلاميّة حيث تكون صادرة من مصدر ربّانيّ وتكون موجّهة إلى مؤمنين معتقدين بشرائعه ووعوده ومواعيده تتمتّع طبعاً وبالذات بخاصّية الانقياد النفسيّ والخضوع الكامل والطاعة التامّة لها.

وحيث تكون القوانين الوضعيّة البشريّة صادرة من الأدمغة البشريّة لا يجد الإنسان أي دافع ذاتيّ إلى التقيّد بها وتطبيق العمل عليها إلّا بدافع الإكراه وتحت طائلة القانون، وخوفاً من سلطات الدولة.

ولا يخفى على أي ذي لبّ رجحان الأوّل على الثاني في ميزان الحياة.

ثمّ إنّ اُمّهات هذه التقسيمات الحديثة الثمانية من القوانين والحقوق موجودة

__________________

(١) راجع هذا البحث في الجزء الثالث من المجموعة القرآنيّة التي تفسير الآيات تفسيراً موضوعياً وفي ضوء القرآن.

٤٥٩

بمغزاها في التشريع الإسلاميّ وإن لم تكن تحت العناوين والتسميات الحديثة فالقانون الأساسيّ في الإسلام هو عبارة عن الأحكام والاُصول الكليّة الموجودة في الكتاب والسنّة غير المتغيّرة عبر الزمان والمكان، والتي يجب أن يقوم عليها كلّ تخطيط وتنظيم لحياة المسلمين في جميع المجالات.

أمّا النظام الإداريّ ( وهو القسم الثاني من الحقوق الداخليّة العامّة ) فتجدها مذكورة بتوسّع وتفصيل في كتب الفقه وقد أخذها فقهاء الإسلام من سيرة النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله وسنّته الشريفة، وسيرة الإمام عليّ وكلماتهعليه‌السلام وغيرهما في المجال الإداريّ والتدبير الحكوميّ، ويمكن للقارئ الكريم أن يقف على الكثير منها في الكتابين التاليين :

١. الراعي والرعيّة للفكيكيّ.

٢. نظام الحكم والإدارة في الإسلام للقرشيّ وغيرهما.

وأمّا الحقوق والقوانين الجزائيّة فقد ألّف فيها علماء الإسلام المطوّلات والمختصرات التي تحتوي على تفصيلاتها وجزئيّاتها فلاحظ كتب الحدود والقصاص والديات هذا كلّه في مجال الحقوق والقوانين الداخليّة العامّة.

وأمّا الداخليّة الخاصّة الراجعة إلى العلاقات العائليّة والشخصيّة فقد بسط فيها الفقهاء القول تحت عنوان « الأحوال الشخصيّة » والمذكورة ـ قديماً ـ تحت عناوين النكاح والطلاق والميراث والوصايا وما شابهها.

وأمّا ما يرجع إلى القضاء فقد بحث عنها الفقهاء تحت عنوان القضاء والشهادات.

وأمّا ما يرجع إلى ( العلاقات التجاريّة ) فقد بيّن الفقهاء أحكامها المفصّلة في كتبهم تحت العناوين التالية: التجارة، الخيار، السلف، المفلس، الحجر، الضمان، الصلح، العارية، الوديعة، الشركة، المضاربة، المزارعة، المساقاة، الإجارة، الوكالة، الوقف، السبق والرماية.

٤٦٠

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

الإمام المهدي (ع) أثناء غيبته، إذ لو لم يكن موجوداً انقطعت الحجة وحصلت الفترة.

الأمر الثالث: أنه (ع) ذخر الله (عَزَّ وجَلَّ) لمستقبل الإسلام، وأعده لنشر الحق وطي الباطل، وإعلاء الدين وإطفاء الضلال. وهذه هي الأطروحة الحقة لمستقبل المجتمع المسلم عند ظهور المهدي. وهو المراد من الحديث النبوي (ع): (أنه يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً) .

الأمر الرابع: الإشارة إلى أنه يعيش أمداً طويلاً، يقدره الله (عَزَّ وجَلَّ) لأجل تنفيذ الوعد الكبير.

الأمر الخامس: الدعاء له بأن ينجيه الله (عَزَّ وجَلَّ) من كيد الأعداء، وشر المعتدين.

وذلك لغرضين:

أولهما : استجابة الله تعالى لهذا الدعاء، وتحقق هذا المطلوب الكبير، لأجل ادخاره ليومه الموعود.

ثانيهما : إعطاء التوجيه للقارئ أو الداعي، بأن يتمنّى سلامة الإمام المهدي (ع) من الأعداء وبغي الظالمين وشر الكائدين، فيدعو الله تعالى بذلك، وهو لا شك يجيب دعاه.

الأمر السادس: أن للمهدي (ع) القابلية الكاملة لقيادة المجتمع الإسلامي ودحر الأعداء وإقامة العدل الإلهي الكامل، وهو المستفاد من قوله: (اللَّهُم نور بنوره كل ظلمة، وهد بركنه كل بدعة، واهدم بعزته كل ضلالة) .

٥٨١

الأمر السابع: أنه (عليه السلام) بعد ظهوره يجدّد ما محي من الدين بفعل طول الزمن أو تبديل المنحرفين والظالمين، وما غيّر من أحكام القرآن، حتى يعود العدل الإسلامي الصحيح والدين الإلهي (على يديه: غضاً جديداً خالصاً مخلصاً، لا شك فيه ولا شبهة معه، ولا باطل عنده ولا بدعة لديه).

الأمر الثامن: إظهار أقصى الحرمة والعقوبة، في معاداته أو إنكار حقه أو مناوأته، سواء في حال غيبته أو بعد ظهوره، ويشمل ذلك: الخروج على تعاليم دينه وعصيان أوامر شريعته، فإن مخالفة الدين مخالفة له، ومناوأته مناوأة له، بطبيعة الحال.

فهذه هي الأمور الأساسية في دعوته الكبرى أثناء غيبته وبعد ظهوره (عجَّل الله فرجه).

يبقى أمران آخران واردان فيما ورد، من كلماته (عليه السلام)، لا بد من ذكرهما ومعرفة الوجه فيهما:

الأمر الأول: ما ورد في كلامه (عليه السلام) مع إبراهيم بن مهزيار، وكلامه (ع) مع علي بن إبراهيم بن مهزيار، من أن أباه الإمام العسكري (ع) أمره بلزوم خوافي الأرض وتتبع أقاصيه، وأن لا يسكن من الجبال إلاَّ وعرها، ومن البلاد إلاَّ عفرها. وعلَّل ذلك في حديثه مع إبراهيم بن مهزيار: (بأن لكل ولي من أولياء الله عدواً مقارعاً وضداً منازعاً). وفي حديثه مع علي بن إبراهيم

٥٨٢

بقوله: (والله مولاكم أظهر التقية فوكلها بي. فأنا في التقية إلى يوم يؤذن لي بالخروج) (١) . وكلاهما يعني الحذر من الأعداء والاتقاء من شرهم والابتعاد من كيدهم أثناء غيبته؛ توصلاً لحفظه لأجل تنفيذ اليوم الموعود.

وقد سبق أن قلنا إن للإمام المهدي (ع) غنى عن ذلك، بجهل الناس بشكله ونوعية حياته وعمله ومكانه، وقد أصبح هذا الأمر في الأزمة الأخيرة واضحاً، لوضوح استحالة تعرّف أي شخص على حقيقته ما لم يشأ هو ذلك.

إن أفضل أسلوب للاختفاء هو جعل الحياة بسيطة واضحة عادية، ليس فيها أي شيء ملفت للنظر، تسير كما تسير حياة أي فرد آخر. وأما تعقيد الهارب الحياة على نفسه، وتضييق السبل والدخول في مواقف صعبة والأماكن الحرجة، فإنها لا تزيده إلاَّ خطراً، ولا تقرّبه إلاَّ من الشر؛ فإن عيون السلطات والأعداء تحوم دائماً حول الأماكن الشاذة التي قد يسكنها الهاربون، والحياة المعقدة التي قد يتخذها الفارون. فتخليص النفس من هيئة الهارب وحياته، وإسباغ الحياة الطبيعية عليها، أفضل طريق للنجاة في أغلب الأحيان.

ولكننا - على أي حال - إذا التفتنا إلى العلة لمذكورة لذلك، وهو الحذر من الأعداء والاتقاء من كيد المعاندين والمنحرفين، عرفنا أن هذا الحذر متى توقّف على ذلك، كان ذلك ضرورياً لا محالة،

____________________

(١) الغيبة ص١٦١

٥٨٣

أعني أن الحياة الطبيعية وإن كانت في الغالب هي السبيل الأفضل لنجاة الهارب، إلاَّ أنها - لا محالة - ليست دائماً كذلك. فإذا واجه الهارب ظرفاً لا تكتب فيه النجاة إلاَّ بالفرار إلي البراري والشعاب، كان ذلك ضرورياً جزماً.

ومن هنا يمكن أن يكون أمر الإمام العسكري لولده باختيار أقاصي الأرض ووعرها مكاناً له، مقيداً بقرينة التعليل، بما إذا كان هناك حاجة إلى ذلك. وأما إذا لم يحتج إلى ذلك، ولم يكن حضوره المواسم والحواضر والاتصال بالسفراء والاختلاط بالناس خطر، كان ذلك ممكناً له لا محالة، إن لم يكن ضرورياً له لممارسة نشاطه الاعتيادي الذي عرفناه.

الأمر الثاني: ما قاله (ع) برواية الشيخ بسنده عن الآودي، الذي عرفناه فيما سبق: (أن الأرض لا تخلو من حجة، ولا يبقى الناس في فترة، أكثر من تيه بني إسرائيل، وقد ظهر أيام خروجي) (١) .

ونحوه قال لبعض مواليه: (وإن تحبس نفسك على طاعة ربك، فإن الأمر قريب إن شاء الله تعالى) (٢) .

وهذا المعنى بظاهره مقطوع العدم، بعد أن مضى على ذلك التاريخ ما يزيد على الألف عام، ولم يظهر الإمام المهدي (ع). ومعه لا بد من المصير إلى رفض هذه الأخبار أو إلى تأويلها.

____________________

(١) الغيبة ص١٥٢.

(٢) الغيبة ص١٥٤.

٥٨٤

أما الرفض فله مجال واسع، وذلك: بأن ندعي: أن العبارات التي تدل على قرب الظهور، مدسوسة في هذه الأحاديث سهواً أو عمداً. وهذا - كما قلنا في مقدمة هذا التاريخ - لا يعني طرح مجموع الخبر.

ويقرّب ذلك: أن خبر الآودي رواه الشيخ الصدوق في (إكمال الدين) بدون هذه الزيادة (١) . على أن هذين الخبرين في أنفسهما ليسا صحيحين بحسب القواعد، وفيهما رواة مجاهيل.

وأما التأويل، فله أيضاً بعض المجال، وذلك بأن يقال: بأن المهدي (ع) استعمل المجاز في كلامه، لأجل رفع معنويات أصحابه ومواليه. وإشعارهم بضرورة الانتظار في كل وقت، خاصة في مثل قوله (ع): (وإن تحبس نفسك على طاعة ربك، فإن الأمر قريب).

ووجه المجاز، هو: أن يكون الزمان من حين صدور هذا الكلام إلى حين ظهور قيامه (ع) بدولة الحق يعتبر قليلاً، تجاه ما قاسته البشرية خلال عمرها المديد من آلام الظلم والحيف والاستبداد.

وعلى أي حال، فهذه هي الخطوط العامة للأطروحة الكاملة التي يذكرها الإمام المهدي (ع) لبعض مَن يقابله من الناس. وقد عرفنا مفصَّلاً أن الإمام المهدي كان يقضي حوائج الناس، ويحل مشاكلهم ويدبّر أمرهم عن طريق سفرائه الموكلين بهذا الأمر. ومن هنا لم تكن هناك حاجة واضحة وكبيرة لأن يتصدى

____________________

(١) انظر: المصدر (المخطوط).

٥٨٥

لقضاء حوائج الناس وحل مشاكلهم بنفسه عند مقابلته، ما عدا ما قد يراه من المصلحة أحياناً.

وما يتصور تعلّق المصلحة فيه من ذلك ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

أحدها: حل المشاكل الفكرية والعقائدي.

ثانيهما: حل المشاكل المالية، وبذل العطايا لبعض الموالين.

ثالثها: حل المشاكل الأخرى كالعائلية والاجتماعية وغيرها.

وأما القسم الأول، فالمهم فيه ما سمعناه قبل قليل من عرض الأطروحة الحقة على الآخرين. وحيث يكون الهدف الأساسي من المقابلة مكرّساً حول ذلك، لا يبقى بعده أمر ذي بال.

وأما القسم الثاني: فسيأتي الحديث عنه، في حقل قادم عند عرض الشئون المالية للإمام المهدي (ع).

وأما القسم الثالث: فلم نجد له نقلاً تاريخياً يطابقه. إذن، فحل المهدي (ع) للمشاكل العائلية والاجتماعية وغيره، كان مكرّساً عن طريق السفراء بما فيه الكفاية، ولا حاجة للقيام به أثناء المقابلة، التي ينبغي أن تكرس لغرض آخر أعمق وأهم.

الهدف الخامس: ممازجة الناس ومحادثتهم وتزريق التعليمات والتوجيهات إليهم..

بحسب ما هو المصلحة في كل وقت. وتعليمهم بعض الأدعية والأذكار.

فمن ذلك: ما سمعناه من رواية الآودي أنه كان يظهر في كل سنة يوماً لخواصه، فيحدثهم ويحدثونه. وذلك في حدود عام الثلاثمئة

٥٨٦

كما سبق.

ومن ذلك: أنه (عليه السلام) في عام ٢٩٣ بعد طوافه حول الكعبة، خرج إلى جماعة، لم يكن فيهم مخلص غير محمد بن القاسم على ما سنسمع، فإنهم بينما هم جلوس إذا قاموا له هيبة له، وجلس متوسطاً فيهم. ثم التفت يميناً وشمالاً، ثم قال: (أتدرون ما كان أبو عبد الله (عليه السلام) يقول في دعاء الإلحاح؟) ، قال: (كان يقول: اللَّهُم إني أسألك باسمك الذي به تقوم السماء، وبه تقوم الأرض، وبه تفرق بين الحق والباطل، وبه تجمع المتفرق وتفرق بين المجتمع، وبه أحصيت عدد الرمال وزنة الجبال وكيل البحار: أن تصلِّي على محمد وآل محمد، وأن تجعل لي من أمري فرجاً).

ثم نهض ودخل الطواف. قال الراوي: فقمنا لقيامه، حتى إذا انصرف وأنسينا أن نذكر أمره وأن نقول من هو وأي شيء هو؟ إلى الغد في ذلك الوقت، فخرج علينا من الطواف، فقمنا له كقيامنا بالأمس، وجلس في مجلسه متوسطاً، فنظر يميناً وشمالاً، وقال: أتدرون ما كان يقوله أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد صلاة الفريضة، فقلنا: وما كان يقول؟ قال: (كان يقول: إليك رفعت الأصوات وعنت الوجوه وضعت الرقاب، واليك التحاكم في الأعمال...) إلى آخر الدعاء.

ثم نظر بعد هذا الدعاء يميناً وشمالاً فقال: أتدرون ما كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول في سجدة الشكر؟ فقلنا: وما كان يقول؟..

٥٨٧

فذكر لهم نص دعاء آخر. ثم قام ودخل الطواف. فقاموا لقيامه.

وهكذا جاءهم في اليوم الثالث، ونظر يميناً وشمالاً، وعلّمهم نص دعاء آخر لعلي بن الحسين. قال الراوي: ثم نظر يميناً وشمالاً، ونظر إلى محمد بن القاسم من بيننا،فقال: يا محمد بن القاسم أنت على خير إن شاء الله تعالى. وكان محمد بن القاسم يقول بهذا الأمر. ثم قام ودخل الطواف فما بقي منا أحد إلاَّ وقد ألهم ما ذكره من الدعاء.. إلى آخر الرواية (١) .

فنرى المهدي (عليه السلام)، هنا لا يتعرّض إلاَّ لتعليم الدعاء والخشوع لله (عَزَّ وجَلَّ). وهو أمل مطلوب في الدين ومتسالم عليه بين سائر المسلمين، مخلصهم ومنحرفهم على السواء. وبذلك تجنّب شر الجماعة غير المخلصين الموجودين في ضمن هؤلاء الناس، ولم يحصل منهم إلاَّ على الاحترام و التقدير والتصديق به والانفعال بأقواله وأدعيته.

ولكن المهدي (عليه السلام) في نفس الوقت يحاول أن يحلل ذلك بالدعوة إلى الحق الذي يراه، من حيث لا يشعر الآخرون، فيروي الأدعية عن أئمة الهدى (عليهم السلام)، ويشير إلى المخلص المؤمن به الموجود ضمن هذه الجماعة ويقول له أمام الجميع: (أنت على خير إن شاء الله تعالى) ليفسح المجال للآخرين بالتفكير الجدي أنه بماذا أصبح هذا الرجل على خير دونهم.

وهو في كل ذلك يتكلم كفرد اعتيادي، ليس له أي ميزة على

____________________

(١) انظر غيبة الشيخ الطوسي ص١٥٦ وما بعدها.

٥٨٨

الآخرين، سوى هذا العلم الذي يحمله والروايات التي يقولها. وبذلك استطاع أن يدعو إلى الإسلام الحق، ومن دون أن يقع في خطر أو أن يتوجه إليه نقد.

يبقى أن تعرف أنه (عليه السلام) حين كان يكثر من النظر إلى اليمين والشمال، إنما كان يريد التأكد من موقفه وعدم وجود ما يدل عليه أو مَن يعرفه أو مَن يشكِّل عليه خطراً بشكل من الأشكال، في حديثه هذا. لا أنه كان خائفاً بالفعل، وإلاّ لكان في غنى عن مواجهة هؤلاء الجماعة بمثل هذا القول.

ولم يكن ذلك الموقف مقتضياً التصريح بشخصيته، أو عرض شيء من تعاليمه أو فلسفة غيبته أو أطروحة عمله، وما ذلك إلاَّ لوجود المنحرفين غير المخلصين من هذه لجماعة... وإنما عرفوا أنه هو المهدي بعد أيام ببعض القرائن التي كانت لديهم (١) .

***

فهذه هي الأهداف العامة الأساسية التي كان المهدي (ع) يتوخّاها في مقابلاته للآخرين.

وأما الهدف السادس والأخير، وهو قبض المال ممّن حمل إليه المال، فقد عرفنا مثاله من تسليم وفد القميين المال إليه من أول يوم من وفاة أبيه. ومورد تفصيل الكلام فيه هو الحقل الخاص بالأمور المالية للإمام المهدي.

____________________

(١) انظر غيبة الشيخ الطوسي ص١٥٦ وما بعدها.

٥٨٩

تبقى هناك أهداف خاصة كان المهدي يتوخّاها من وراء بعض المقابلات، تندرج تحت عنوانين رئيسين، عرفنا أمثلتهما فيما سبق فلا حاجة إلى إفاضة الكلام فيها.

أحدهما: إجابة شخص لأصرّ على السفير الثاني (رضي الله عنه) إن يوفّر له فرصة المقابلة مع الإمام المهدي (ع). وهذا هو الذي رأى المهدي (ع) بزي التجّار (١) كما سبق أن سمعنا.

ثانيهما: تأنيب شخص منحرف عن انحرافه وسوء عمله، ولذلك عدة أمثلة، فمنها موقفاه مع عمّه جعفر بن علي الذي عرفناهما في القسم الأول من هذا التاريخ، وموقفه مع محمد بن علي بن بلال الذي عرفناه مدّعياً للسفارة زوراً، إذ أشرف عليه المهدي (عليه السلام) من علوِّ داره وأمره بدفع ما عنده من الأموال إلى العمري.

ووراء هذه الأهداف العريضة، أمور ضمنية قد يتعرّض لها المهدي في كلامه أو يستهدفها في عمله، عند مقابلته مع الآخرين. إلاَّ أنها حيث كانت صغيرة الحجم كثيرة العدد، فلا حاجة إلى إطالة المقام ببيانها.

الحقل الرابع:

تصرفه في الشئون المالية

من قبض وتوزيع، في غيبته الصغرى عن طريق غير السفراء

____________________

(١) انظر تفصيل الحادثة في كتاب غيبة الشيخ الطوسي ص١٦٤.

٥٩٠

الأربعة.. إما عن طريق المقابلة معه، أو بدون ذلك. أما السفراء الأربعة فقد عرفنا حالهم تفصيلاً فيما سبق.

كان أول مال قبضه الإمام المهدي (عليه السلام)، هو المال الذي حمله إليه وفد القميين الذي ورد إلى سامراء، في اليوم الأول لوفاة الإمام العسكري (عليه السلام).

ثم إنه (عليه السلام) لم يشأ أن يستمر على ذلك، بل أعلن منذ ذلك الحين تنصيبه سفيراً في بغداد لقبض الأموال وإخراج التوقيعات. واستمر السفراء على القبض لسائر الأموال التي ترد من سائر الأطراف الإسلامية، كما سبق.

وكان السفراء في السنوات الأولى للغيبة الصغرى، يحوّلون بعض الأموال إلى سامراء، حيث كان يسكن المهدي (ع) في تلك الفترة، فكان يتم إخراج التعاليم بشأنها من المهدي (ع) عن طريق بعض الوكلاء الخاصين (١) ، وكان يسوءه رد المال الذي كان يعطيه لمواليه ويعتبره خطأً موجباً الاستغفار (٢) .

وأما فيما بعد ذلك من الزمان، فيتم الكلام فيه في عدة نقاط:

النقطة الأولى: أن المهدي (ع) كان يطالب عن طريق سفرائه بتوقيعاته، بدفع الأموال التي في أيدي الناس له، ولا يجوز لهم التخلُّف أو التقصير، ولا في درهم واحد.

____________________

(١) البحار ج١٣ ص٧٩

(٢) انظر الإرشاد ص٣٣٣ وأعلام الورى ص٤١٩

٥٩١

فمن ذلك: التوقيع الذي ورد على الشيخ محمد بن عثمان العمري (رضي الله عنه) ابتداءً، لم يتقدمه سؤال منه، نسخته:

(بسم الله الرحمن الرحيم

لعنه الله والملائكة والناس أجمعين على مَن استحل من أموالنا درهماً) (١) .

وقوله - في توقيع آخر -: (وأمّا المتلبّسون بأموالنا، فمَن استحل شيئاً فأكله فإنما يأكل النيران) (٢) .

ومن توقيع آخر: (وأمّا ما سألت عنه من أمر مَن يستحل ما في يده من أموالنا ويتصرّف فيه تصرّفه في ماله من غير أمرنا، فمَن فعل ذلك فهو ملعون ونحن خصماؤه يوم القيامة. وقد قال النبي (ص): المستحل من عترتي ما حرم الله ملعون على لساني ولسان كل نبي مجاب). فمَن ظلمنا كان في جملة الظالمين لنا، وكانت لعنة الله عليه لقوله عَزَّ وجَلَّ: ( أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) ).

إلى غير ذلك من النصوص.

نستطيع أن نفهم من ذلك أمرين:

الأمر الأول: أنه كان للمهدي (عليه السلام) أموال لدى الناس وفي ذممهم، متكوِّنة من تلك الأموال التي هي للإمام الشرعي في نظر الإسلام، كالأنفال والخمس والخراج. وحيث يرى المهدي (ع) ثبوت الإمامة لنفسه، فهو يرى ملكيته لهذه الأموال، وكونه أحق بها من أي شخص آخر من الحكَّام والمحكومين معاً.

____________________

(١) الاحتجاج ص ج٢

(٢) المصدر ص٢٨٣

٥٩٢

ومطالبة الإمام المهدي (ع) بهذه الأموال في واقعه، مطالبة بتطبيق هذه الأحكام الإسلامية بوجوب دفع هذه إلى الإمام (ع)، ويكون الخارج على هذا القانون، عاصياً لله (عَزَّ وجَلَّ) و للإمام ومستحقاً للعقاب.

ولعلنا نستطيع أن نفهم من مجموع الأخبار الواردة في هذا الصدد بالنسبة إلى الوكلاء والسفراء، أن تجاراتهم كانت على الأغلب بأموال الإمام نفسه، لا بأموالهم الشخصية، وإن كانوا على ذلك من ظاهر الحال. ومن هنا كان بإمكانهم أن يستعملوا ما يقبضوه من الموالين من أموال الإمام في التجارة، بإذن الإمام (عليه السلام). وتكون الأرباح للإمام (ع)، أو بينهما بنسبة معينة، حسب الاتفاق.

الأمر الثاني: أن هذه الحدية الكاملة من قبل المهدي (عليه السلام) في المطالبة بالأموال التي ترجع إليه، يمكن فهمهما على مستويين رئيسيين:

المستوى الأول: المستوى العام بالنسبة إلى سائر الناس الذين تشتغل ذممهم بشيء من أموال الإمام.

ونحن إذا نظرنا بهذا المستوى، نجد أن غمط أموال الإمام - لولا الدافع الإيماني القوي - من أسهل الأشياء. فليس على الشخص المنحرف، الذي لا يريد أن يدفع إلى المهدي (عليه السلام) أمواله، أي حسيب أو رقيب، بعد ما عرفناه من غيبة المالك الحقيقي، وتخفّي نوّابه وستر هذه الصفة فيهم إلى أكبر حد مستطاع، وعدم توفّر السلطة التنفيذية لديهم لاقتضاء الأموال المغدورة.

إذن، فلا بد من إيجاد دافع إيماني شرعي لدى الفرد المسلم بدفع ما

٥٩٣

يملكه الإمام (ع) في ذمته، وعدم جواز التخلّف عنه، وذلك للحد من التيار العام القاضي بدفع هذه الأموال إلى السلطات الحاكمة دون الإمام.

المستوى الثاني: المستوى الخاص، حين تتعلق المصلحة الاجتماعية الإسلامية بالعفو وعدم المطالبة بالأموال، فإنه (عليه السلام) كان يعطف في توقيعاته موارد العفو والتحليل على موارد التحريم، لكي يفهم الآخرون بأن الغرض من المطالبة هو الوصول إلى المصلحة الإسلامية، دون الحرص على الأموال. فمتى اقتضت المصلحة العفو وغض النظر كان ذلك نافذاً.

فمن ذلك قوله (عليه السلام) في أحد توقيعاته: (وأما المتلبّسون بأموالنا، فمَن استحل منها شيئاً فأكله فإنما يأكل النيران. وأما الخمس، فقد أبيح لشيعتنا وجعلوا منه من حلٍّ إلى وقت ظهور أمرنا؛ لتطيب ولادتهم ولا تخبث) (١) . ونعرف من التعليل بطيب الولادة أن المحلَّل هو خصوص خمس الجواري المملوكات المجلوبات عن طريق الفتح الإسلامي، لا كل الخمس، وهو ما يذهب إليه الفقهاء عادة.

ومن ذلك قوله في توقيع آخر: (وأما ما سألت عنه من أمر الضياع التي لناحيتنا، هل يجوز القيام بعمارتها، وأداء الخراج منها، وصرف ما يفضل من دخلها إلى الناحية احتساباً للأجر وتقرّباً إليكم. فلا يحل لأحد أن يتصرف من مال غيره بغير إذنه. فكيف يحل ذلك من مالنا؟!

____________________

(١) الإحتجاج ص٢٨٣ وما بعده.

٥٩٤

مَن فعل ذلك بغير أمرنا فقد استحل منا ما حرم عليه، ومَن أكل من أموالنا شيئاً، فإنما يأكل في بطنه ناراً وسيصلى سعيراً. وأما ما سالت عنه من أمر الرجل الذي يجعل لناحيتنا ضيعة ويسلمها من قيم يقوم بها ويعمرها، ويؤدي مَن دخلها خراجها ومؤنتها، ويجعل ما بقي من الدخل لناحيتنا، فإن ذلك جائز لمَن جعله صاحب الضيعة قيِّماً عليها، إنما لا يجوز ذلك لغيره. وأما ما سألت عنه من الثمار من أموالنا يمر به المار فيتناول منه ويأكل، وهل يحل له ذلك، فإنه يحل له أكله ويحرم عليه حمله) (١) .

النقطة الثانية: أنه كان للمهدي (عليه السلام) بواسطة أمواله العامة علاقات مالية خاصة يمثّلها نوّابه الأربعة وغيرهم، تجاه كل مَن له علاقة مالية في تجاراتهم أو حق شرعي في ذمته. وكان (عليه السلام) يأمر باقتضاء هذه الأموال، وقد يعطي وصلاً بقبضها، ومن هنا ينفتح الكلام في أمرين:

الأمر الأول: أمره (عليه السلام) باقتضاء أمواله ودفعها إليه.

فمن ذلك ما يرويه بعض مواليه عن نفسه قائلاً: كان للناحية عليَّ خمسمئة دينار، فضقت بها ذرعاً. ثم قلت: لي حوانيت اشتريتها بخمس مئة وثلاثين ديناراً قد جعلتها للناحية بخمسمئة دينار، ولم أنطق بذلك. فكتب - يعني الإمام المهدي (ع) - إلى محمد بن جعفر - وهو

____________________

(١) الاحتجاج ص٢٩٩ ج٢ وما بعده.

٥٩٥

أحد الوكلاء -: (اقبض الحوانيت من محمد بن هارون بالخمسمئة دينار التي لنا عليه) (١) .

فتراه (عليه السلام) يأمر وكيله بقبض الحوانيت، دلالة على كفاية دفعها إلى الناحية، وفاءً لِمَا في ذمة محمد بن هارون تجاهها.. إلى أمثلة أخرى من هذا القبيل.

الأمر الثاني: إعطاؤه الوصول التي تدين قبض الأموال.

فمن ذلك: أن محمد بن الحسن الكاتب المروزي وجّه إلى حاجز الوشا - وهو أحد الوكلاء - مئتي دينار، وكتب إلى الغريم - يعني المهدي (ع) - بذلك، فخرج الوصول (٢) .

ومن ذلك: ما تحدّث به أحدهم، فقال: اجتمع عندي خمسمئة درهم ينقص عشرون درهماً، فلا أحب أن ينقص هذا المقدار، فوزنت من عندي عشرين درهماً و دفعتها إلى الأسدي - وهو أحد الوكلاء - ولم أكتب بخبر نقصانها، وأني أتممها من مالي. فورد الجواب: (قد وصلت الخمسمئة التي لك فيها عشرون) .

وتسمية المهدي (ع) بالغريم، دليل واضح على إيمان قواعده الشعبية بأنه دائن لهم بحقوق أموال، وأنهم مرتبطون به مالياً إلى جانب ارتباطهم العقائدي.

النقطة الثالثة: أن المهدي (عليه السلام) قد يستقل أحياناً بالإيعاز

____________________

(١) غيبة الشيخ الطوسي ص١٧١

(٢) المصدر نفسه ص٢٥٧

٥٩٦

بدفع المال إلى شخص دون توسيط سفرائه.

كالذي سبق أن سمعناه في أبي سورة، المدعو بمحمد بن الحسن بن عبد الله التميمي، إذ رافقه المهدي (عليه السلام) من سفره من كربلاء إلى الكوفة، وحوّله على علي بن يحيى الرازي ليقبض المال الذي عنده، وأعطاه صفته والدلالة على حقيقته من طرف خفي (١) .

فهذه بعض التصرّفات المالية التي كان يقوم بها المهدي (ع)، فإذا ضمناها إلى ما عرفناه من التصرفات المالية للسفراء الأربعة، وعرفنا أنه ليس كل ما حدث في تلك الفترة التي نؤرَّخ لها قد نقل في التاريخ ووصل إلينا، كما سبق أن بيَّنا في مقدمة هذا التاريخ.. عرفنا مدى السعة والشمول الذي كان عليه النشاط الاقتصادي للإمام المهدي (عليه السلام)، بالرغم من خفائه وعزلته.

الحقل الخامس:

حَلُّه للمشكلات العامة والخاصة

كان (عليه السلام) - وهو في غيبته - قائداً فذاً، يشعر بالآلام وآمال أمته وقواعده الشعبية، ويتجاوب معهم فكراً وعملاً بما تقتضيه مصلحتهم ومصلحة الإسلام.

____________________

(١) انظر تفصيل الحادثة في الغيبة ص١٦٣ وانظر ص١٨١ أيضاً.

٥٩٧

فكان (عليه السلام) يَبُتُّ بالأمور الخاصة والعامة، ويذلِّل مشاكلها عن طريق ما يعرفه من حال المجتمع والأفراد. ويتمثّل ذلك في عدة نقاط:

النقطة الأولى: استعراضه للمشكلات العامة ومحاولته حل بعضها.

وهنا لا بد أن نفهم أمرين:

الأمر الأول: أنه ليس من الصعب على الإمام المهدي (ع)، بالرغم من غيبته وتخفّيه، أن يكون على مستوى الأحداث العامة في المجتمع. فإننا إما أن ننظر إليه كإمام عالم بالغيب بتعليم من الله عَزَّ وجَلَّ، كما دلت عليه سائر الدلالات السابقة، وإما أن نجرّد منه شخصاً عادياً من بشريته، قائداً في مسئوليته.

أما على الفرض الأول - وهو كونه إماما عالماً بالغيب - فمن الواضح اطلاعه على الأحداث العامة وإن لم يكن يعيش غمارها، فضلاً عما إذا كان يعيش فيها على ما سبق أن عرفناه.

وأما على الفرض الثاني، حيث تفرض عليه مسئولياته أن يكون مواكباً للأحداث، شاعراً بآلام وآمال أمته وقواعده الشعبية.. فإن له طريقين رئيسيين يمكن أن يقترنا ويمكن أن يفترقا في الاطلاع على الأحداث.

الطريق الأول: اختلاطه المباشر بالناس، وممازجته معهم، بشكل لا يشعرون بهويَّته وحقيقته، فإننا سبق أن عرفنا أنه مجهول العنوان والاسم من حيث انطباقه على الشخص. وليس مختفياً جسماً عن الناس

٥٩٨

كما قد تقول به الأفكار غير المبرهنة.

وقد رأينا صوراً عن ممازجته للناس ومحادثته معهم، تارة بعنوانه الصريح وحقيقته، وأخرى بغيره، بحسب ما كان يرى من المصلحة باختلاف الزمان والمكان. ومعه يكون - بطبيعة الحال - مطّلعاً بشكل تفصيلي وكبير على سائر الأحداث، ومشاطراً للأمة الإسلامية بالأحاسيس، بل يكون مشاركاً بالعمل على رفع تلك الأمة وتحقيق آمالها، في حدود المصلحة والإمكان.

الطريق الثاني: استقصاؤه للأخبار عن طريق سفرائه الأربعة وغريهم ممّن كانوا يحظون بمقابلته، على ما عرفنا، فإنه من المؤكد أن قسماً مهماً من الأحاديث التي يقولها المهدي (ع) للآخرين، مما سمعناه ومما لم نسمعه، وخاصة سفراؤه المسئولون عن قيادة قواعده الشعبية بالنيابة عنه، تتضمن التوجيهات الاجتماعية والنقد للأوضاع العامة وتشخيص الوظيفة الإسلامية تجاهها.. على المستوى العالي الذي يراه المهدي (ع) مناسباً مع مخاطبيه.

بل من المستطاع القول: إن المهدي (ع) يعطي توجيهاته وتثقيفه العام للمجتمع والأفراد، وإن كان مجهول العنوان. فإنه إذ يجالس الناس أو يساكنهم أو يرافقهم في طريق أو سفر، وإن لم يعرفوه، يحاول باستمرار أن يعطيهم من هداه توجيهه بالنحو الذي ينفع الفرد والمجتمع معاً، ويكون طريقاً إلى تذليل المشاكل ورفع الآلام، بالنحو الذي تقتضيه المصلحة.

٥٩٩

وهذا هو الباب الواسع الذي يفسِّر لنا الحديث الوارد عنه (عليه السلام) بأن فائدته حال غيبته كالشمس إذا غيَّبها السحاب. وبه نستطيع أن نفهم أحد الخطوط الرئيسية في غيبته الصغرى على ما سنعرض له بالتفصيل من هذا التاريخ والتاريخ القادم.

الأمر الثاني: أننا سنرى أن المشكلات العامة التي تصدّى المهدي لحلها، ذات مسار معين يمت إلى حل مشكلات قواعده الشعبية بشكل رئيسي. ولا نكاد نجده متعرضاً لحل مشكلة من نوع آخر في المجتمع المسلم أو الدولة.

فإن المشكلات العامة التي يتصور وقوعها في المجتمع المسلم، ذات ثلاثة مسارات:

المسار الأول: مشكلات الدعوة الإسلامية. وهو ما يقع في الحدود الإسلامية وفي الفتح الإسلامي من صعوبات وعقبات تجاه الكافرين.

المسار الثاني: مشكلات الجهاز الحاكم ومن يمت له بصلة. وهو ما يقع بين القواد وأمراء الأطراف وبين الخليفة أو بينهم أنفسهم، من مشكلات وحروب، وعلى رأسها مشكلات الخوارج والقرامطة، على ما عرفناه في الفصل الخاص بالتاريخ العام لهذه الفترة.

المسار الثالث: المشكلات التي تحدث في القواعد الشعبية التي تمت إلى الإمام المهدي (ع) بصلة الولاء. بسبب الضغط والإرهاب والمطاردة التي قوم بها الحكَّام ومن إليهم تجاههم.

٦٠٠

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663