أمالي المرتضى الجزء ٢

أمالي المرتضى9%

أمالي المرتضى مؤلف:
تصنيف: مكتبة اللغة والأدب
الصفحات: 403

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 403 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 68186 / تحميل: 10322
الحجم الحجم الحجم
أمالي المرتضى

أمالي المرتضى الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

أمالي المرتضى

للشريف المرتضى علي بن الحسين الموسوي العلوي

الجزء الثاني

تحقيق

محمد أبو الفضل إبراهيم

١

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مجلس آخر

[٤٩]

تأويل آية :( وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ الله مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ الله مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ ) [المائدة: ٦٤].

فقال: ما اليد التي إضافتها اليهود إلى الله تعالى، وادّعوا أنها مغلولة؟ وما نرى أنّ عاقلا من اليهود ولا غيرهم يزعم أن لربّه يدا مغلولة، واليهود تتبرأ من أن يكون فيها قائل بذلك؛ وما معنى الدعاء عليهم بـ( غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ ) (١) وهو تعالى ممن لا يصحّ أن(١) يدعو على غيره؟ لأنه تعالى قادر على أن يفعل ما يشاء، وإنما يدعو الداعي بما لا يتمكّن من فعله طلبا له.

الجواب، قلنا: يحتمل أن يكون قوم من اليهود وصفوا الله تعالى بما يقتضي تناهي مقدوره، فجرى ذلك مجرى أن يقولوا: إنّ يده مغلولة، لأنّ عادة الناس جارية بأن يعبّروا بهذه العبارة عن هذا المعنى، فيقولون: يد فلان منقبضة عن كذا، ويده لا تنبسط إلى كذا، إذا أرادوا وصفه بالفقر والقصور، ويشهد بذلك قوله تعالى في موضع آخر:( لَقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ ) [آل عمران: ١٨١]، ثم قال تعالى مكذبا لهم:( بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ ) ؛ أي أنه ممّن لا يعجزه شيء، وثنّى اليدين تأكيدا للأمر، وتفخيما له؛ ولأنه أبلغ في المعنى المقصود من أن يقول: بل يده مبسوطة.

وقد قيل أيضا: إن اليهود وصفوا الله تعالى بالبخل، واستبطئوا فضله ورزقه؛ وقيل:

إنهم قالوا على سبيل الاستهزاء: إن إله محمد الّذي أرسله؛ يداه إلى عنقه؛ إذ ليس يوسّع عليه وعلى أصحابه، فردّ الله قولهم وكذّبهم بقوله:( بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ ) ، واليد هاهنا الفضل

____________________

(١ - ١) حاشية ف (من نسخة): (وهو تعالى لا يصح أن).

٢

والنعمة، وذلك معروف في اللغة، متظاهر في كلام العرب وأشعارهم.

ويشهد له من الكتاب قوله تعالى:( وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ ) [الإسراء: ٦٩]، ولا معنى لذلك إلاّ الأمر بترك إمساك اليد عن النفقة في الحقوق؛ وترك الإسراف، إلى القصد والتوسط.

ويمكن أن يكون الوجه في تثنية النعمة من حيث أريد بها نعم الدنيا ونعم الآخرة؛ لأن الكل - وإن كانت نعم الله تعالى - فمن حيث اختص كلّ واحد من الأمرين بصفة تخالف صفة الآخر صارا كأنهما جنسان أو قبيلان.

ويمكن أيضا(١) أن يكون بتثنية النعمة(١) أنه أريد بها النعم الظاهرة والباطنة.

فأما قوله تعالى:( غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ ) ، ففيه وجوه:

أوّلها: أن يكون ذلك على غير سبيل الدّعاء؛ بل على جهة الإخبار منه عز وجل عن نزول ذلك بهم؛ وفي الكلام ضمير (قد) قبل قوله:( غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ ) ، وموضع غُلَّتْ نصب على الحال، كأنّه تعالى قال: وقالت اليهود كذا وكذا؛ في حال ما غلّ الله تعالى أيديهم ولعنهم، أو حكم بذلك فيهم؛ ويسوغ إضمار (قد) هاهنا كما ساغ في قوله عز وجل:( إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ. وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ ) [يوسف: ٢٦، ٢٧] والمعنى: فقد صدقت، وقد كذبت.

وثانيها أن يكون معنى الكلام وقالت اليهود يد الله مغلولة فغلّت أيديهم، أو وغلّت أيديهم، وأضمر تعالى الفاء والواو؛ لأنّ كلامهم تمّ، واستؤنف بعده كلام آخر؛ ومن عادة العرب أن تحذف فيما يجري مجرى هذا الموضع؛ من ذلك قوله تعالى:( وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً ) [البقرة: ٦٧] أراد:

____________________

(١ - ١) حاشية الأصل (من نسخة): (يكون المراد بتثنيته النعمة).

٣

فقالوا أتتخذنا هزوا، فاضمر تعالى الفاء؛ لتمام كلام موسى عليه السلام، ومنه قول الشاعر:

لما رأيت نبطا أنصارا

شمّرت عن ركبتي الإزارا(١)

كنت لها من النّصارى جارا

أراد: (وكنت)، فأضمر الواو.

وثالثها أن يكون القول خرج مخرج الدعاء؛ إلا أن معناه التعليم من الله تعالى لنا والتأديب؛ فكأنه جلّت عظمته وقفنا على الدعاء عليهم، وعلّمنا ما ينبغي أن نقول فيهم، كما علّمنا الاستثناء في غير هذا الموضع بقوله تعالى:( لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ الله آمِنِينَ ) [الفتح: ٢٧]، وكل ذلك جلي واضح، والمنة للّه.

تأويل خبر [ (لعن الله السّارق؛ يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده) ]

إن سأل سائل عن الخبر الّذي روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: (لعن الله السّارق؛ يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده).

الجواب، قلنا: قد تعلق بهذا الخبر صنفان من الناس؛ فالخوارج تتعلّق به، وتدّعي أنّ القطع يجب في القليل والكثير؛ وتستشهد على ذلك بظاهر قوله تعالى:( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ) [المائدة: ٣٨]، ويتعلق بهذا الخبر أيضا الملحدة والشّكاك، ويدّعون أنه مناقض للرواية المتضمّنة أنه لا قطع إلاّ في ربع دينار. ونحن نذكر ما فيه:

فأول ما نقوله إنّ الخبر مطعون عند أصحاب الحديث على سنده، وقد حكى ابن قتيبة في تأويله وجها عن يحيى بن أكثم، طعن عليه وضعّفه، وذكر عن نفسه وجها آخر؛ نحن نذكرهما وما فيهما، ونتبعهما بما نختاره.

____________________

(١) حاشية ف: (أهل السواد يقال لهم النبط، لأنهم يستخرجون النبط وهو الماء).

٤

قال ابن قتيبة: كنت حضرت يوما مجلس يحيى بن أكثم بمكة، فرأيته يذهب إلى أنّ البيضة في هذا الحديث بيضة الحديد التي تغفر الرأس في الحرب، وأن الحبل من حبال السفن، قال: وكلّ واحد من هذين يبلغ ثمنه دنانير كثيرة؛ قال: ورأيته يعجب بهذا التأويل، ويبدي فيه ويعيد، ويرى أنه قطع به حجة الخصم.

قال ابن قتيبة. وهذا إنما يجوز على من لا معرفة له باللغة ومخارج الكلام، وليس هذا موضع تكثير لما يأخذه السارق فيصرفه إلى بيضة تساوي دنانير؛ وحبل لا يقدر السارق على حمله؛ ولا من عادة العرب والعجم أن يقولوا: قبح الله فلانا! عرّض نفسه للضرر في عقد جوهر، وتعرّض لعقوبة الغلول في جراب مسك؛ وإنما العادة في مثل هذا أن يقال: لعنه الله، تعرّض للقطع في حبل رثّ، أو إداوة خلق، أو كبّة شعر؛ وكلّ ما كان من ذلك أحقر كان أبلغ.

قال: والوجه في الحديث أن الله تعالى لما أنزل على رسوله صلى الله عليه وآله:( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا ) ؛ قال رسول الله صلى عليه وآله: (لعن الله السارق؛ يسرق البيضة فتقطع يده)، على ظاهر ما أنزل عليه(١) في ذلك الوقت، ثمّ أعلمه الله تعالى بعد أن القطع لا يكون إلاّ في ربع دينار فما فوقه، ولم يكن عليه السلام يعلم من حكم الله تعالى إلا ما علّمه الله تعالى، وما كان الله يعرّفه ذلك جملة جملة، بل بيّن(٢) شيئا بعد شيء.

قال سيدنا أدام الله علوّه: ووجدت أبا بكر الأنباري يقول: ليس الّذي طعن به ابن قتيبة(٣) على تأويل الخبر بشيء؛ قال: لأن البيضة من السلاح ليست علما في كثرة الثمن ونهاية علوّ القيمة؛ فتجري مجرى العقد من الجوهر، والجراب من المسك؛ اللّذين هما ربّما ساويا الألوف من الدنانير، والبيضة من الحديد ربّما اشتريت بأقلّ مما يجب فيه القطع، وإنما أراد عليه السلام أنه يكتسب قطع يده بما لا غنى له به، لأن البيضة من السلاح لا يستغني بها أحد، والجوهر والمسك في اليسير منهما غنى.

____________________

(١) ف: (إليه).

(٢) حاشية الأصل (من نسخة):) بل يبين له).

(٣ - ٣) م: (ليس الّذي ذكر ابن قتيبة).

٥

قال سيدنا أدام الله أيامه: والّذي نقوله إن ما طعن به ابن الأنباري على كلام ابن قتيبة متوجّه؛ وليس في ذكر البيضة والحبل تكثير كما ظنّ؛ فيشبه العقد والجراب من المسك؛ غير أنه يبقى في ذلك أن يقال: أي وجه لتخصيص البيضة والحبل بالذكر، وليس هما النهاية في التقليل؛ وإن كان كما ذكره ابن الأنباري؛ من أنّ المعنى أنه يسرق ولا يستغنى به؛ فليس ذكر ذلك بأولى من غيره؛ ولا بدّ من ذكر وجه في ذلك.

وأما تأويل ابن قتيبة فباطل لأن النبي صلى الله عليه وآله لا يجوز أن يقول ما حكاه عند سماع قوله تعالى:( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ ) ؛ لأن الآية مجملة مفتقرة إلى بيان؛ ولا يجوز أن يحملها أو يصرفها إلى بعض محتملاتها دون بعض بلا دلالة؛ على أنّ أكثر من قال: إن الآية غير مجملة، وأن ظاهر القول يقتضي العموم يذهب إلى أن ما اقتضى تخصيصها بسارق دون سارق لم يتأخر عن حال الخطاب بها؛ فكيف يصحّ ما قاله ابن الأنباري أن الآية تقدمت، ثم تأخر تخصيص السارق؛ ولو كان ذلك كما ظنّ لكان المتأخر ناسخا للآية.

وعلى تأويله هذا يقتضي أن يكون كلّ الخبر منسوخا؛ وإذا أمكن تأويل أخباره عليه السلام على ما لا يقتضي رفع أحكامها ونسخها كان أولى.

والأشبه أن يكون المراد بهذا الخبر أنّ السارق يسرق الكثير الجليل، فتقطع يده، ويسرق الحقير القليل فتقطع يده؛ فكأنه تعجيز له، وتضعيف لاختياره، من حيث باع يده بقليل الثمن؛ كما باعها بكثيره.

وقد حكى أهل اللغة أن بيضة القوم وسطهم، وبيضة الدار وسطها، وبيضة السنام شحمته، وبيضة الصّيف معظمه، وبيضة البلد الّذي لا نظير له؛ وإن كان قد يستعمل ذلك في المدح والذم على سبيل الأضداد، وإذا استعمل في الذم فمعناه أنّ الموصوف بذلك حقير مهين، كالبيضة التي تفسدها النعامة فتتركها ملقاة لا تلتفت إليها.

فمما جاء من ذلك في المدح قول أخت عمرو بن عبد ودّ ترثيه، وتذكر قتل أمير المؤمنين

٦

عليه السلام له؛ وقيل إنّ الأبيات لامرأة من العرب؛ غير أخته:

لو كان قاتل عمرو غير قاتله

لكنت أبكي عليه آخر الأبد(١)

لكنّ قاتله من لا يعاب به(٢)

من كان يدعى قديما بيضة البلد(٣)

وقال آخر في المدح:

كانت قريش بيضة فتفلّقت

فالمخّ خالصه(٤) لعبد مناف

وقال آخر في الذمّ.

تأبى قضاعة أن تعرف لكم نسبا

وابنا نزار، فأنتم بيضة البلد(٥)

أراد: (أن تعرف) فأسكن.

وقال آخر في ذلك:

لكنّه حوض من أودى بإخوته

ريب الزّمان فأمسى بيضة البلد(٦)

فقد صار معنى البيضة كلّه يعود إلى التفخيم والتعظيم.

وأما الحبل فذكر على سبيل المثل؛ والمراد المبالغة في التحقير والتقليل؛ كما يقول القائل:

____________________

(١) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (عليها).

(٢) حاشية الأصل (من نسخة):

* لكنّ قاتل عمرو لا يعاب به*

(٣) البيتان في شرح المرزوقي لحماسة أبي تمام: ٨٠٤ واللسان (بيض).

(٤) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (خالصها).

(٥) اللسان (بيض)، ونسبه إلى الراعي يهجو ابن الرقاع العاملي وقبله:

لو كنت من أحد يهجى هجوتكم

ياابن الرّقاع، ولكن لست من أحد

(٦) من أبيات في حماسة أبي تمام - بشرح المرزوقي ٨٠٢ - ٨٠٤، وفي اللسان (بيض) منسوبة إلى صنان بن عباد اليشكري؛ وقبله:

لما رأى شمط حوضي له ترع

على الحياض أتاني غير ذي لدد

لو كان حوض حمار ما شربت به

إلاّ بإذن حمار آخر الأبد

٧

ما أعطاني فلان عقالا، وما ذهب من فلان عقال، ولا يساوي كذا نقيرا؛ كل ذلك على سبيل المثل والمبالغة في التقليل؛ وليس الغرض بذكر الحبل الواحد من الحبال على الحقيقة؛ وإذا كان على هذا تأويل الخبر زال عنه المناقضة التي ظنّت؛ وبطلت شبهة الخوارج في أن القطع يجب في القليل والكثير.

أخبرنا(١) أبو عبيد الله المرزباني قال حدثني أبو عبيد الله الحكيمي قال حدثني يموت بن المزرّع قال حدثني أبو زينب(٢) عليّ بن ثابت قال، قال الأصمعي:(٣) تصرفت في الأسباب على باب الرشيد(٣) مؤملا للظّفر(٤) به؛ والوصول إليه؛ حتى إني صرت لبعض حرسه خدينا؛ فإني في ليلة قد نثرت السعادة والتوفيق فيها الأرق بين أجفان الرشيد إذ خرج خادم فقال:

أبالحضرة(٥) أحد ينشد(٦) الشّعر؟ فقلت: الله أكبر! ربّ قيد مضيقة قد حلّه التيسير، فقال لي الخادم: ادخل، فلعلّها أن تكون ليلة تعرّس في صباحها بالغنى إن فزت بالحظوة عند أمير المؤمنين؛ فدخلت فواجهت الرشيد في بهوه(٧) ، والفضل بن يحيى إلى جانبه، فوقف الخادم بي بحيث يسمع التسليم، فسلّمت فردّ السلام ثم قال: ياغلام، أرحه قليلا يفرخ روعه؛ إن كان قد وجد للروعة حسّا، فدنوت قليلا ثم قلت: ياأمير المؤمنين، إضاءة مجدك، وبهاء كرمك، مجيران لمن نظر إليك عن اعتراض أذيّة؛ فقال: ادن، فدنوت، فقال: أشاعر أم راوية؟ فقلت: راوية لكل ذي جدّ وهزل؛ بعد أن يكون محسنا؛ فقال: تالله ما رأيت ادّعاء أعمّ! فقلت: أنا على الميدان، فأطلق من عناني ياأمير المؤمنين، فقال: (قد أنصف القارة من راماها(٨) ) ؛ ثم قال: ما معنى

____________________

(١) روى البغدادي الخبر في خزانة الأدب ٢: ٢٦٧ - ٢٦٩؛ عن الغرر.

(٢) حاشية ف (من نسخة): (أبو وهب).

(٣ - ٣) ف، حاشية الأصل (من نسخة): (تصرفت بي الأسباب على باب الرشيد).

(٤) د، ونسخة بحاشيتي الأصل، ف: (الظفر).

(٥) حاشية الأصل (من نسخة): (أما بالحضرة).

(٦) حاشية الأصل (من نسخة): (يحسن).

(٧) حاشية الأصل (من نسخة): (بهو).

(٨) في مجمع الأمثال للميداني (١: ٤٢): (القارة: قبيلة؛ وهم عضل والديش ابنا الهول بن خزيمة؛ وإنما سموا قارة لاجتماعهم والتفافهم لما أراد الشداخ أن يفرقهم في بني كنانة؛ فقال شاعرهم:

دعونا قادة لا تنفرونا

فنجفل مثل إجفال الظّليم

٨

هذه الكلمة بدءا؟ قلت: فيها قولان؛ القارة هي الحرّة من الأرض، وزعمت الرواة أن القارة كانت رماة للتبابعة(١) ، والملك إذ ذاك أبو حسّان، فواقف(٢) عسكره عسكرا للسّغد(٣) ، فخرج فارس من السّغد، قد وضع سهمه في كبد قوسه فقال: أين رماة العرب؟ فقالت العرب: (أنصف القارة من راماها) فقال لي الرشيد: أصبت، ثم قال: أتروي لرؤبة بن العجاج والعجاج شيئا، فقلت: هما شاهدان لك بالقوافي؛ وإن غيّبا عن بصرك بالأشخاص، فأخرج من ثني فرشه رقعة ثم قال: أنشدني:

* أرّقني طارق همّ أرقا(٤) *

فمضيت فيها مضي الجواد في متن ميدانه، تهدر بي أشداقي(٥) ، فلما صرت إلى مديحه لبني أمية تثنيت لساني إلى امتداحه للمنصور في قوله:

____________________

وهم رماة الحدق في الجاهلية، وهم اليوم في اليمن). وفي اللسان (قور): (زعموا أن رجلين النقيا؛ أحدهما قاري والآخر أسدي، فقال القاري: إن شئت صارعتك وإن شئت راميتك، فقال:

اخترت المراماة؛ فقال القاري: قد أنصفتني؛ وأنشد:

قد أنصف القارة من راماها

إنّا إذا ما فئة نلقاها

* نردّ أولاها على أخراها*

ثم انتزع له سهما، فشك فؤاده). ونقل صاحب اللسان أيضا عن ابن بري: (إنما قيل: (أنصف القارة من رماها) لحرب كانت بين قريش وبين بكر بن عبد مناة بن كنانة، وكانت القارة مع قريش، فلما التقى الفريقان راماهم الآخرون حين رمتهم القارة، فقيل: قد أنصفكم هؤلاء الذين سادوكم في العمل الّذي هو صناعتكم، وأراد الشداخ أن يفرق القارة في قبائل كنانة فأبوا).

(١) حاشية الأصل: (التبابعة ملوك العرب الجاهلية؛ وكانوا يكونون باليمن؛ الواحد تبع).

(٢) المواقفة: أن تقف مع غيرك، ويقف معك في حرب أو خصومة.

(٣) حاشية الأصل: (السغد: بين سمرقند وبخارى).

(٤) مطلع أرجوزة طويلة لرؤبة، يمدح فيها مروان بن الحكم، وهي في ديوانه ١٠٨ - ١١٥، وبعد هذا البيت:

* وركض غربان غدون نعّقا*

(٥) حاشية الأصل (من نسخة): (تهدر بها أشداقي).

٩

* قلت لزير لم تصله مريمه(١) *

 فلما رآني قد عدلت من أرجوزة إلى غيرها قال: أعن حيرة أم عن عمد؟ قلت: عن عمد تركت كذبه إلى صدقه فيما وصف به المنصور من مجده، فقال الفضل: أحسنت بارك الله عليك! مثلك يؤهل لمثل هذا المجلس. فلما أتيت على آخرها قال لي الرشيد: أتروي كلمة عدي بن الرقاع:

* عرف الدّيار توهّما فاعتادها(٢) *

قلت: نعم، قال: هات، فمضيت فيها حتى إذا صرت إلى وصفه الجمل قال لي الفضل:

ناشدتك الله أن تقطع علينا ما أمتعنا به من السهر في ليلتنا هذه بصفة جمل أجرب، فقال الرشيد:

اسكت، فالإبل هي التي أخرجتك عن دارك، واستلبت تاج ملكك، ثم ماتت وعملت جلودها سياطا ضربت بها أنت وقومك، فقال الفضل: لقد عوقبت(٣) على غير ذنب والحمد للّه! فقال الرشيد: أخطأت، الحمد للّه على النّعم، ولو قلت: وأستغفر الله لكنت مصيبا، ثم قال لي: امض في أمرك، فأنشدته حتى إذا بلغت إلى قوله:

* تزجي أغنّ كأنّ إبرة روقه*

استوى جالسا وقال: أتحفظ في هذا ذكرا؟ قلت: نعم، ذكرت الرواة أنّ الفرزدق قال: كنت في المجلس وجرير إلى جانبي، فلما ابتدأ عدي في قصيدته قلت لجرير مسرّا إليه: هلمّ نسخر من هذا الشامي، فلما ذقنا كلامه يئسنا منه؛ فلما قال:

* تزجي أغنّ كأنّ إبرة روقه*

____________________

(١) مطلع أرجوزة أخرى لرؤبة أيضا، وهي في ديوانه: ١٤٩ - ١٥٩ وفي حاشية الأصل: (يقال: هو زير نساء إذا كان يحبهن ويزورهن كثيرا، وأصله: زور، فعل، من الزيارة، ومريم اسم عشيقته).

(٢) بقيته:

* من بعد ما درس البلى أبلادها*

وهو مطلع قصيدة في الطرائف الأدبية ٨٧ - ٩١.

(٣) في حاشيتي الأصل، ف: (الإشارة بالمعاقبة إلى إسماع الرشيد كلامه الموحش الخشن إياه، وهو يعيره بالعجم ويذكر غلبة العرب الذين هم أصحاب الجمال عليهم، وسلبهم ملكهم).

١٠

 - وعدي كالمستريح - قال جرير: أما تراه يستلب بها مثلا! فقال الفرزدق: يالكع، إنه يقول:

* قلم أصاب من الدّواة مدادها*

فقال عدي:

* قلم أصاب من الدّواة مدادها(١) *

فقال جرير: كان سمعك مخبوءا(٢) في صدره! فقال لي: اسكت شغلني سبّك عن جيّد الكلام؛ فلما بلغ إلى قوله:

ولقد أراد الله إذ ولاّكها

من أمّة إصلاحها ورشادها(٣)

قال الأصمعي: فقال لي: ما تراه قال إذ أنشده الشاعر هذا البيت؟ فقلت: قال: كذا أراد الله، فقال الرشيد: ما كان في جلالته ليقول هذا، أحسبه قال: ما شاء(٤) الله! قلت:

وكذا جاءت الرواية، فلما أتيت على آخرها قال لي: أتروي لذي الرّمة شيئا؟ قلت: الأكثر، قال: فماذا أراد بقوله:

ممرّ أمرّت متنه أسديّة

ذراعية حلاّلة بالمصانع(٥)

قلت: وصف حمار وحش، أسمنه بقل روضة تواشجت أصوله، وتشابكت فروعه، عن مطر سحابة كانت بنوء الأسد في الذّراع من ذلك. فقال الرشيد: أرح، فقد وجدناك ممتعا، وعرفناك محسنا، ثم قال: أجد ملالة ونهض، فأخذ الخادم يصلح عقب النعل في رجله وكانت عربيّة، فقال الرشيد: عقرتني ياغلام، فقال الفضل: قاتل الله الأعاجم، أما إنها

____________________

(١) حاشية ف: (يصف ظبية تسوق ولدا، في صوته غنة، ثم شبه رأس قرنه بقلم أصاب طرفه المداد.

وأراد بالروق رأس القرن، وروق كل شيء: أوله).

(٢ - ٢) حاشية الأصل (من نسخة): (كأن سمعك مخبوء في قلبه).

(٣) حاشية الأصل: (عدي قال: (وفسادها)، والأصمعي أنشد: (رشادها).

(٤) حاشية الأصل: قوله (ما شاء الله) على الطريقة المعهودة أي ما شاء الله كان، كأنه يشير إلى أن دولته في مشيئة الله تعالى).

(٥) ديوانه: ٣٦١، وروايته:

* يمانية حلّت جنوب المضاجع*

١١

لو كانت سندية لما احتجت إلى هذه الكلفة(١) ، فقال الرشيد: هذه نعلي ونعل آبائي، كم تعارض فلا تترك من جواب ممضّ! ثم قال: ياغلام؛ يؤمر صالح الخادم بتعجيل ثلاثين ألف درهم على هذا الرجل في ليلته ولا يحجب في المستأنف، فقال الفضل: لولا أنه مجلس أمير المؤمنين ولا يأمر فيه غيره لأمرت لك بمثل ما أمر لك به، وقد أمرت لك به، إلاّ ألف درهم، فتلقّ الخادم صباحا.

قال الأصمعي: فما صليت من غد إلاّ وفي منزلي تسعة وخمسون ألف درهم.

____________________

(١) في خزانة الأدب: (الكلمة).

١٢

مجلس آخر

[٥٠]

تأويل آية :( الله وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( الله وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ) [البقرة: ٢٥٧].

فقال: أليس ظاهر هذه الآية يقتضي أنه هو الفاعل للإيمان فيهم؟ لأن النور هاهنا كناية عن الإيمان والطاعات، والظلمة كناية عن الكفر والمعاصي، ولا معنى لذلك غير ما ذكرناه.

وإذا كان مضيفا للإخراج إليه فهو الفاعل لما كانوا به خارجين، وهذا خلاف مذهبكم.

الجواب، قلنا: أما النور والظلمة المذكوران في الآية فجائز أن يكون المراد بهما الإيمان والكفر، وجائز أيضا أن يراد بهما الجنة والنار، والثواب والعقاب فقد تصحّ الكناية عن الثواب والنعيم في الجنة بأنه نور، وعن العقاب في النار بأنه ظلمة، وإذا كان المراد بهما الجنة والنار ساغ إضافة إخراجهم من الظلمات إلى النور إليه تعالى؛ لأنه لا شبهة في أنه جل وعز هو المدخل للمؤمن الجنة، والعادل به عن طريق النار. والظاهر بما ذكرناه أشبه؛ لأنه يقتضي أنّ المؤمن الّذي ثبت كونه مؤمنا يخرج من الظلمة إلى النور؛ فلو حمل على الإيمان والكفر لتناقض المعنى، ولصار تقدير الكلام:

أنه يخرج المؤمن الّذي قد تقدّم كونه مؤمنا من الكفر إلى الإيمان؛ وذلك لا يصحّ.

وإذا كان الكلام يقتضي الاستقبال في إخراج من قد ثبت كونه مؤمنا كان حمله على دخول الجنة والعدول به عن طريق النار أشبه بالظاهر.

على أنا لو حملنا الكلام على الإيمان والكفر لصحّ، ولم يكن مقتضيا لما توهموه، ويكون وجه إضافة الإخراج إليه، وإن لم يكن الإيمان من فعله من حيث دلّ وبيّن وأرشد ولطّف وسهّل؛ وقد علمنا أنه لولا هذه الأمور لم يخرج المكلّف من الكفر إلى الإيمان، فيصح

١٣

إضافة الإخراج إليه تعالى لكون ما عددناه من جهته. وعلى هذا يصحّ من أحدنا إذا أشار على غيره بدخول بلد من البلدان ورغّبه في ذلك، وعرّفه ما فيه من الصلاح، أو بمجانبة فعل من الأفعال أن يقول: أنا أدخلت فلانا البلد الفلاني؛ وأنا أخرجته من كذا وكذا وأنتشته منه؛ ويكون وجه الإضافة ما ذكرناه من الترغيب، وتقوية الدواعي.

ألا ترى أنه تعالى قد أضاف إخراجهم من النور إلى الظلمات، إلى الطواغيت، وإن لم يدلّ ذلك على أن الطاغوت هو الفاعل للكفر في الكفار؛ بل وجه الإضافة ما تقدم؛ لأن الشياطين يغوون ويدعون إلى الكفر، ويزيّنون فعله، فتصح إضافته إليهم من هذا الوجه، والطاغوت هو الشيطان وحزبه، وكلّ عدو للّه تعالى صدّ عن طاعته، وأغرى(١) بمعصيته يصحّ إجراء هذه التّسمية عليه؛ فكيف اقتضت الإضافة الأولى أن الإيمان من فعل الله تعالى في المؤمن، ولم تقتض الإضافة الثانية أنّ الكفر من فعل الشياطين في الكفار؛ لولا بله المخالفين وغفلتهم!

وبعد، فلو كان الأمر على ما ظنوه لما صار الله تعالى وليّا للمؤمنين، وناصرا لهم على ما اقتضته الآية، والإيمان من فعله تعالى لا من فعلهم؛ ولم كان خاذلا للكفار ومضيفا لولايتهم إلى الطاغوت والكفر من فعله تعالى فيهم؟ ولم فصل بين الكافر والمؤمن في باب الولاية، وهو المتولي لفعل الأمرين فيهما؟ ومثل هذا لا يذهب على أحد، ولا يعرض عنه إلاّ معاند مغالط لنفسه.

*** أخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال: قال أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري حدثنا أحمد بن حيان قال حدثنا أبو عبد الله بن النطاح قال أخبرنا أبو عبيدة قال، قال عبد الملك بن مسلم:

كتب(٢) عبد الملك بن مروان إلى الحجاج: إنه ليس شيء من لذة الدنيا إلا وقد أصبت منه،

____________________

(١) حاشية الأصل (من نسخة): (أغوى)

(٢) القصة في الأغاني ٩: ١٦٢ - ١٦٥، ووردت مختصرة في الشعر والشعراء ١٠٩ - ١١٠، ونقلها عن ابن قتيبة البغدادي في الخزانة ١: ٢٨٨.

١٤

ولم يبق لي من لذة الدنيا إلاّ مناقلة الإخوان الأحاديث، وقبلك عامر الشعبي، فابعث به إلي يحدثني.

فدعا الحجاج بالشعبي، وجهزه وبعث به إليه، وقرّظه وأطراه في كتابه، فخرج الشعبي حتى إذا كان بباب عبد الملك، قال للحاجب: استأذن لي، قال: من أنت؟ قال: عامر الشعبي؛ قال: حيّاك الله، ثم نهض فأجلسه على كرسيه، فلم يلبث أن خرج الحاجب إليه فقال: ادخل، فدخل، قال: فدخلت فإذا عبد الملك جالس على كرسي، وبين يديه رجل أبيض الرأس واللحية، على كرسي، فسلمت فرد السلام، ثم أومأ إلي بقضيبه، فقعدت عن يساره، ثم أقبل على الّذي بين يديه فقال: ويحك! من أشعر الناس؟ قال: أنا ياأمير المؤمنين، قال الشعبي: فأظلم عليّ ما بيني وبين عبد الملك، ولم أصبر أن قلت: ومن هذا ياأمير المؤمنين الّذي يزعم أنه أشعر الناس! فعجب عبد الملك من عجلتي قبل أن يسألني عن حالي، ثم قال: هذا الأخطل، قلت: ياأخطل، أشعر منك الّذي يقول:

هذا غلام حسن وجهه

مستقبل الخير سريع التّمام(١)

للحارث الأكبر والحارث ال

أصغر والحارث خير الأنام(٢)

خمسة آباء هم ما هم

هم خير من يشرب صوب الغمام

فقال عبد الملك: ردّها عليّ، فرددتها حتى حفظها، فقال الأخطل: من هذا ياأمير المؤمنين؟

فقال: هذا الشعبي، قال: صدق والله، النابغة أشعر مني.

قال الشعبي: ثم أقبل عليّ عبد الملك فقال. كيف أنت ياشعبي؟ قلت: بخير لا زلت

____________________

(١) وفي حاشية الأصل (من نسخة): (مقتبل الخير)، أي يستقبل خيره فيما يؤتنف من الأيام.

(٢) رواية الأغاني وابن قتيبة:

للحارث الأكبر والحارث الأ

صغر والأعرج خير الأنام

وبعده:

ثمّ لهند ولهند وقد

أسرع في الخيرات منه إمام

١٥

به، ثم ذهبت لأصنع معاذيري لما كان من خلافي على الحجّاج مع عبد الرحمن بن محمد الأشعث فقال: مه! فإنا لا نحتاج إلى هذا المنطق، ولا تراه منّا في قول ولا فعل حتى تفارقنا. ثم أقبل عليّ فقال: ما تقول في النابغة؟ قلت: ياأمير المؤمنين، قد فضّله عمر بن الخطاب في غير موطن على جميع الشعراء، وذلك أنّه خرج يوما وببابه وفد غطفان، فقال: يامعاشر غطفان، أي شعرائكم الّذي يقول:

حلفت فلم أترك لنفسك ريبة

وليس وراء الله للمرء مذهب(١)

لئن كنت قد بلّغت عنّي خيانة

لمبلغك الواشي أغشّ وأكذب

ولست بمستبق أخا لا تلمّه

على شعث، أي الرّجال المهذّب!

قالوا: النابغة، قال: فأيّكم الّذي يقول:

فإنك كاللّيل الّذي هو مدركي

وإن خلت أنّ المنتأى عنك واسع(٢)

خطاطيف حجن في حبال متينة

تمدّ بها أيد إليك نوازع(٣)

قالوا: النابغة، قال: أيّكم الّذي يقول:

إلى ابن محرّق أعملت نفسي

وراحلتي وقد هدت العيون(٤)

أتيتك عاريا خلقا ثيابي

على خوف تظنّ بي الظّنون

فألفيت الأمانة لم تخنها

كذلك كان نوح لا يخون

قالوا: النابغة، قال: هذا أشعر شعرائكم.

____________________

(١) ديوانه ١٣ - ١٢، وفي م بعد هذا البيت:

ألم تر أنّ الله أعطاك سورة

ترى كلّ ملك دونها يتذبذب

لأنّك شمس والملوك كواكب

إذا طلعت لم يبد منهنّ كوكب

ولم يذكر البيتان في الأصول المخطوطة.

(٢) ديوانه: ٥٥.

(٣) خطاطيف: جمع خطاف، وهو ما يخرج به الدلو من البئر. وحجن:

معوجة، واحدها أحجن. ونوازع: جواذب.

(٤) أصله: (هدأت)، بالهمز.

١٦

ثم أقبل عبد الملك على الأخطل فقال: أتحبّ أنّ لك قياضا بشعرك شعر أحد من العرب، أم تحب أنك قلته؟ فقال: لا والله؛ إلاّ أني وددت أني كنت قلت أبياتا قالها رجل منّا، كان والله مغدف القناع(١) ، قليل السّماع، قصير الذراع، قال: وما قال؟ فأنشده:

إنّا محيّوك فاسلم أيّها الطّلل

وإن بليت، وإن طالت بك الطّيل(٢)

ليس الجديد به تبقى بشاشته

إلاّ قليلا، ولا ذو خلّة يصل(٣)

والعيش لا عيش إلاّ ما تقرّبه

عين، ولا حال إلاّ سوف تنتقل

إن ترجعي من أبي عثمان منجحة

فقد يهون على المستنجح العمل(٤)

والنّاس من يلق خيرا قائلون له

ما يشتهي، ولأمّ المخطئ الهبل

قد يدرك المتأنّي بعض حاجته

وقد يكون مع المستعجل الزّلل

قال الشعبي: فقلت: قد قال القطامي أفضل من هذا، قال: وما قال؟ قلت: قال(٥) :

طرقت جنوب رحالنا من مطرق

ما كنت أحسبه قريب المعنق(٦)

حتى أتيت إلى آخر القصيدة، فقال عبد الملك: ثكلت القطامي أمّه! هذا والله الشعر.

قال: فالتفت إلى الأخطل فقال: ياشعبي، إنّ لك فنونا في الأحاديث، وإنّ لنا فنّا واحدا، فإن رأيت ألاّ تحملني على أكتاف قومك، فأدعهم حرضا! قلت: لا أعرض لك

____________________

(١) مغدف القناع، أي خامل الذكر.

(٢) ديوان القطامي ٣٢، وجمهرة الأشعار ٣١٣ - ٣١٦، والطيل: جمع طيلة، هي الدهر.

(٣) الضمير في (به)، للدهر في البيت الّذي قبله، وهو:

كانت منازل منّا قد نحلّ بها

حتى تغيّر دهر خائن خبل

(٤) الخطاب للناقة، ومنجحة: ظافرة. والمستنجح: طالب النجاح.

(٥) حاشية الأصل: (القطامي، هو عمير بن شييم بن عمر بن عباد).

(٦) اللسان (عنق)، والمعنق: المكان الّذي أعنقت منه؛ أي سرت؛ يقول: لم أظن أنها تقدر على أن تعنق وتسرع من هذا المكان. والعنق: ضرب من السير السريع؛ يقال: عانق وأعنق إذا أسرع.

١٧

في شيء من الشعر أبدا، فأقلني هذه المرة، قال: من يكفل بك؟ قلت: أمير المؤمنين، فقال عبد الملك: هو عليّ ألاّ يعرض لك أبدا.

ثم قال: ياشعبي، أي شعراء الجاهلية كان أشعر من النساء؟ قلت: خنساء، قال:

ولم فضّلتها على غيرها؟ قلت: لقولها:

وقائلة - والنّعش قد فات خطوها(١)

لتدركه -: يالهف نفسي على صخر!

ألا ثكلت أمّ الّذين غدوا به

إلى القبر! ماذا يحملون إلى القبر!

فقال عبد الملك: أشعر منها والله ليلى الأخيلية حيث تقول:

مهفهف الكشح والسّربال منخرق

عنه القميص لسير اللّيل محتقر

لا يأمن النّاس ممساه ومصبحه

في كلّ فجّ، وإن لم يغز ينتظر(٢)

ثم قال: ياشعبي، لعله شقّ عليك ما سمعته؟ فقلت: إي والله ياأمير المؤمنين أشدّ المشقّة! إني لمحدّثك منذ شهرين لم أفدك إلا أبيات النابغة في الغلام، ثم قال: ياشعبي، إنما أعلمناك هذا، لأنّه بلغني أنّ أهل العراق يتطاولون على أهل الشام ويقولون: إن كانوا غلبونا على الدولة، فلن يغلبونا على العلم والرواية، وأهل الشام أعلم بعلم أهل العراق من أهل العراق؛ ثم ردّد عليّ أبيات ليلى حتى حفظتها، وأذن لي فانصرفت، فكنت أول داخل وآخر خارج.

***

قال سيدنا أدام الله تمكينه: والصحيح في الرواية أن البيتين اللذين رواهما عبد الملك ونسبهما إلى ليلى الأخيلية لأعشى باهلة(٣) ، يرثي المنتشر بن وهب الباهلي(٤) ، وهذه القصيدة

____________________

(١) حاشية الأصل: (الحرض: الّذي أذيب حزنا وهما). والحرض يوصف به المفرد، مذكرا ومؤنثا، والمثنى والجمع بلفظ واحد.

(٢) ديوانها: ٩٢

(٣) ذكره الآمدي في المؤتلف والمختلف ص ١٤ فقال: (أعشى باهلة يكنى أبا قحفان، جاهلي، واسمه عامر بن الحارث، أحد بني عامر ابن عوف بن وائل بن معن، ومعن أبو باهلة، وباهلة امرأة من همدان، وهو الشاعر المشهور صاحب القصيدة المرثية في أخيه لأمه، المنتشر).

(٤) هو المنتشر بن وهب بن سلمة بن كراثة بن هلال بن عمرو -

١٨

من المراثي المفضّلة المشهورة بالبلاغة والبراعة وهي(١) :

إني أتتني لسان لا أسرّ بها

من علو لا عجب منها ولا سخر(٢)

فظلت مكتبئا حرّان أندبه

وكنت أحذره، لو ينفع الحذر!

فجاشت النّفس لما جاء جمعهم

وراكب جاء من تثليث معتمر(٣)

يأتي على الناس لا يلوى على أحد

حتى التقينا، وكانت بيننا مضر(٤)

إنّ الّذي جئت من تثليث تندبه

منه السماح ومنه النّهي والغير(٥)

____________________

ابن سلامة؛ كان رئيسا فارسا، وكان رئيس الأبناء يوم أرمام، وهو أحد يومي مضر في اليمن وكان يوما عظيما. (خزانة الأدب ١: ٩١).

(١) القصيدة في الأصمعيات ٣٢ - ٣٤، وأمالي اليزيدي ١٣ - ١٨، وجمهرة الأشعار ٢٨٠ - ٢٨٣، والكامل - شرح المرصفي ٨: ٢١١ - ٢١٢، وملحقات ديوان الأعشى ٢٦٦ - ٢٦٨، ونقلها صاحب الخزانة عن الغرر في ١: ٩١ - ٩٢. وذكر أبو العباس المبرد خبر هذه القصيدة فقال: (كانت العرب تقدم مراثي وتفضلها وترى قائلها بها فوق كل مؤبن؛ وكأنهم يرون ما بعدها من المراثي؛ منها أخذت، وفي كنفها تصلح؛ فمنها قصيدة أعشى بأهلة، ويكنى أبا قحافة التي يرثي بها المنتشر بن وهب الباهلي - وكان أحد رجلي العرب، وهم السعاة السابقون في سعيهم، وكان من خبره أنه أسر صلاءة بن العنبر الحارثي، فقال: افد نفسك، فأبى فقال: لأقطعنك أنملة أنملة وعضوا عضوا ما لم تفتد نفسك، فجعل يفعل ذلك به حتى قتله. ثم حج من بعد ذلك ذا الخلصة (وهو بيت كانت خثعم تحجه)، فدلت عليه بنو نفيل بن عمرو بن كلاب الحارثيين فقبضوا عليه، فقالوا: لنفعلن بك كما فعلت بصلاءة، ففعلوا ذلك به، فلقي راكب أعشى باهلة، فقال له أعشى باهلة: هل من جائية خبر؟ قال: نعم، أسرت بنو الحارث المنتشر - وكانت بنو الحارث تسمي المنتشر مجدعا - فلما صار في أيديهم قالوا:

لنقطعنك كما فعلت بصلاءة؛ فقال أعشى باهلة يرثي المنتشر ). وأورد القصيدة.

(٢) اللسان هنا: الرسالة، وأراد بها نعي المنتشر، ولهذا أنث الفعل. وعلو، يريد من مكان عال، ورواية لمبرد: (من عل) (بالضم)؛ وفي حاشية الأصل: (لا سخر، أي لا أقول ذلك سخرية، وقيل معناه:

ولا سخر بالموت).

(٣) جاشت نفسه، أي غثت. وتثليث: موضع بالحجاز قرب مكة؛ ذكره ياقوت واستشهد بالبيت ومعتمر: صفة لراكب؛ وهو بمعنى زائر. وفي حاشية الأصل: (جمعهم، يعني الذين شهدوا مقتله).

(٤) حاشية الأصل (من نسخة): (يأبي على الناس)، وفيها أيضا: (لا يلوى على أحد، أي لم يعرج على أحد حتى أتاني؛ لأني كنت خلصانه).

(٥) أي فقلت للراكب: إن الّذي جئت ...، وتندبه:

تبكي عليه، يقال: ندب الميت، أي بكى عليه وعدد محاسنه. والغير: اسم من غيرت الشيء فتغير، أقامه مقام الأمر.

١٩

تنعى امرأ لا تغبّ الحي جفنته

إذا الكواكب أخطا(١) نوءها المطر(٢)

وراحت الشّول مغبرّا مناكبها(٣)

شعثا تغيّر منها النّي والوبر(٤)

وألجأ الكلب موقوع الصّقيع به(٥)

وألجأ الحي من تنفاحها الحجر(٦)

عليه أوّل زاد القوم قد علموا

ثمّ المطي إذا ما أرملوا جزر(٧)

قد تكظم البزل منه حين تبصره(٨)

حتّى تقطّع في أعناقها الجرر(٩)

أخو رغائب يعطيها ويسألها

يأبى الظّلامة منه النّوفل الزّفر(١٠)

____________________

(١) من نسخة مجاشبتي الأصل، ف: (خوّى، وخوّى سقط، من قولك: خوت الدار: خلت أو سقطت، ومعنى خوّى في البيت: نسب الخي إلى النجوم وهو المحل، يقال: خوت النجوم إذا أمحلت، خيا).

(٢) النعي: خبر الموت، قال الأصمعي: كانت العرب إذا مات ميت له قدر، ركب راكب فرسا، وجعل يسير في الناس ويقول: نعاء فلانا! أي انعه وأظهر خبر وفاته، مبنية على الكسر. ولا يغب، من قولهم: لا يغبنا عطاؤه، أي لا يأتينا بوما دون يوم؛ بل يأتينا كل يوم.

والجفنة: القصعة. وأخطأه كتخطاه: تجاوز. والنوء: سقوط نجم من المنازل في المغرب مع الفجر وطلوع رقيبة من المشرق، يقابله من ساعته كل ليلة إلى ثلاثة عشر يوما؛ وهكذا إلى انقضاء السنة، وكانت العرب تضيف الأمطار والرياح والحر والبرد إلى الساقط منها، يريد أن جفانه لا تنقطع في الشدة والقحط.

(٣) حاشية الأصل: (رواية الأصمعي: (مبامتها) أي مراحها).

(٤) الشول: النوق التي خف لبنها وقد أتى عليها سبعة أشهر أو ثمانية من يوم نتاجها، الواحدة شائلة. والني بالفتح: الشحم

(٥) حاشية الأصل (من نسخة):

* وأحجر الكلب موفوع الصّقيع به*

وأحجرته أنا: ألجأته إلى الحجر.

(٦) الصقيع: الجليد. وتنفاحه: ضربه، وهو مصدر نفحت الريح إذا هبت باردة؛ يقول: إنه لا ينقطع عن إطعام الطعام في شدة البرد حينما يضطر الكلب ما بتلبد على شعره من الجليد الأبيض إلى الدخول في الحجر).

(٧) يريد أنه يرتب على نفسه زاد أصحابه أولا، وإذا فني الزاد نحر لهم. وأرمل الرجل: نفد زاده.

وجزر: قطع، يقال تركهم جزرا للسباع.

(٨) حاشية الأصل: في رواية:

* وتفزع الشّول منه حين يفجؤها*

(٩) كظم البعير كظوما: إذا أمسك عن الجرة، والبزل: جمع بازل؛ وهو الجمل إذا دخل في التاسعة. والحرر: جمع جرة؛ وهي ما يخرجه البعير للاجترار. يقول: تعودت الإبل أنه يعقر منها، فإذا رأته كظمت على جرتها فزعامته.

(١٠) الرغيبة: العطاء الكثير. والنوفل: الكبير العطاء.

والزفر: الكثير الناصر والعدد والعدد (ومنه) للتجريد.

٢٠

لم تر أرضا ولم تسمع بساكنها

إلاّ بها من نوادي وقعه أثر(١)

وليس فيه إذا استنظرته عجل

وليس فيه إذا ياسرته عسر

فإن يصبك عدوّ في مناوأة

يوما، فقد كنت تستعلي وتنتصر

من ليس في خيره منّ يكدّره

على الصّديق، ولا في صفوه كدر

أخو شروب، ومكساب إذا عدموا

وفي المخافة منه الجدّ والحذر(٢)

مردى حروب، ونور يستضاء به

كما أضاء سواد الظّلمة القمر(٣)

مهفهف أهضم الكشحين منخرق

عنه القميص لسير اللّيل محتقر(٤)

طاوي المصير على العزّاء منجرد

بالقوم ليلة لا ماء ولا شجر(٥)

لا يصعب الأمر إلاّ ريث يركبه

وكلّ أمر سوى الفحشاء يأتمر

معنى (لا يصعب الأمر) أي لا يجده صعبا -

لا يتأرّى لما في القدر يرقبه

ولا يعضّ على شرسوفه الصّفر(٦)

____________________

(١) نوادي كل شيء: أوله

(٢) شرب: جمع شرب؛ وهو جمع شارب؛ كصحب وصاحب، ومكاب: اسم مبالغة من كاسب، وفي حاشية الأصل: (نسخة ص: أخو حروب).

(٣) المردى في الأصل: حجر يرمى؛ والمعنى:

أنه شجاع يقذف في الحروب ويرجم فيها؛ وفي حاشية الأصل (من نسخة):

مردى حروب شهاب يستضاء به

كما أضاء سواد الطّخية القمر

والطخية، بالفتح وبضم: الطلمة.

(٤) المهفهف: الخميص البطن الدقيق الخصر. والأهضم: المنضم الجنبين. والكشح: ما بين الخاصرة إلى الضلع من الخلف؛ وهو مما تمدح به العرب. ويقال: رجل منخرق السربال؛ إذا طال سفره فشققت ثيابه؛ وهو كناية عن الجلادة وتحمل المشقات.

(٥) المصير: جمع مصران، والعزاء: الشدة والجهد؛ والمنجرد: المشمر نشاطا، ومن نسخة بحاشية الأصل: (منصلت). وقوله: (ليلة لا ماء ولا شجر)، أي يرعى. وفي الخزانة بعد هذا البيت:

لا يهتك السّتر عن أنثى يطالعها

ولا يشدّ إلى جاراته النّظر

(٦) لا يتأرى: لا يتحبس ويتلبث؛ يقال: تأرى بالمكان إذا أقام فيه. الشرسوف: طرف الضلع والصفر - فيما يزعم العرب: حية تكون في البطن إذا جاع الإنسان عضته؛ وقد كذبه النبي عليه السلام بقوله: (لا عدوى ولا هامة ولا صفر).

٢١

لا يغمز السّاق من أين ولا وصب

ولا يزال أمام القوم يقتفر(١)

لا يأمن النّاس ممساه ومصبحه

في كلّ فجّ، وإن لم يغز ينتظر(٢)

تكفيه حزّة فلذ إن ألمّ بها

من الشّواء ويروي شربه الغمر(٣)

لا تأمن البازل الكوماء عدوته(٤)

ولا الأمون إذا ما اخروّط السّفر(٥)

كأنّه بعد صدق الناس أنفسهم

باليأس تلمع من قدّامه البشر(٦)

قال المبرّد" لا نعلم بيتا في يمن النقيبة وبركة الطلعة أبرع من هذا البيت" -

لا يعجل القوم أن تغلي مراجلهم

ويدلج اللّيل حتى يفسح البصر(٧) (٨)

عشنا به حقبة حيّا ففارقنا(٨)

كذلك الرّمح ذو النّصلين ينكسر(٩)

أصبت في حرم منّا أخا ثقة

هند بن أسماء، لا يهنى لك الظّفر(١٠) !

لو لم تخنه نفيل وهي خائنة

لصبّح القوم ورد ماله صدر(١١)

____________________

(١) يصف جلده وتحمله للمشاق، والأين: الإعياء، والوصب: الوجع، والاقتفاء: تتبع الآثار.

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): (من كل أوب).

(٣) الحزة: قطعة من اللحم قطعت طولا؛ والفلذ: كبد البعير والجمع أفلاذ. وألم بها: أصابها. والغمر: قدح صغير لا يروي.

(٤) حاشية الأصل: (نسخة ص: (ضربته).

(٥) البازل: البعير الّذي فطر نابه بدخوله في السنة التاسعة، ويقال للناقة أيضا. والكوماء: الناقة العظيمة السنام. والعدوة: التعدي. والأمون:

الناقة الموثقة الخلق، واخروط: امتد.

(٦) البشر: جمع بشير، وفي حاشية الأصل: (أي إذا يئس الناس من أمورهم ووطنوا نفوسهم على اليأس فالبشائر تلمع من قدامه).

(٧) حتى يفسح البصر، أي يجد متسعا من الصبح؛ وفي حاشية الأصل: (أي هو رابط الجأش عند الفزع، لا يستخفه الفزع فيجعل أصحابه عن الإطباخ).

(٨ - ٨) حاشية الأصل (من نسخة):

* عشنا بذلك دهرا ثم ودّعنا*

(٩) النصلان هما: السنان - وهي الحديدة العليا من الرمح - والزج، وهو الحديدة السفلى: ويقال:

هما الزجان أيضا؛ وهو مثل. وفي حاشية الأصل: (رواية الأصمعي بعد قوله (ينكسر) :

فإن جزعنا فقد هدّت مصابتنا

وإن صبرنا فإنا معشر صبر

والمصابة: المصيبة، والصبر: جمع صبور، مبالغة صابر).

(١٠) حاشية الأصل: (هند بن أسماء: من قبيلة نفيل، قاتل المنتشر)، وأراد بالحرم ذا الخلصة.

(١١) صبحه: سقاه الصبوح؛ وهو الشرب بالغداة، أراد: أنه كان يقتلهم.

٢٢

وأقبل(١) الخيل من تثليث مصغية

وضمّ أعينها عوران أو حضر(٢)

إمّا سلكت سبيلا كنت سالكها

فاذهب فلا يبعدنك الله منتشر

قال رحمه الله: وقد رويت هذه القصيدة للدّعجاء أخت المنتشر، وقيل لليلى أخته، ولعل الشبهة الواقعة في نسبتهما إلى ليلى الأخيلية من هاهنا والصحيح، ما ذكرناه.

***

أخبرنا أبو الحسن عليّ بن محمد الكاتب قال أخبرنا ابن دريد قال أخبرنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال: وفد الأخطل على معاوية فقال: إني قد امتدحتك بأبيات فاسمعها، فقال: إن كنت شبّهتني بالحية أو الأسد أو الصّقر فلا حاجة لي فيها؛ وإن كنت قلت في كما قالت الخنساء(٣) :

وما بلغت كفّ امرئ متناول(٤)

به المجد إلاّ حيث ما نلت أطول(٥)

وما بلغ المهدون في القول مدحة

وإن صدقوا إلاّ الّذي فيك أفضل

فهات، فقال الأخطل: والله لقد أحسنت وقلت بيتين؛ ما هما بدون ما سمعته، وأنشد:

إذا متّ مات العزّ(٦) وانقطع الغنى

فلم يبق إلاّ من قليل مصرّد(٧)

____________________

(١) حاشية الأصل: (قبل، بمعنى أقبل، ويعدّى بالألف، تقول: أقبلته أنا جعلته مقبلا، وأقبلته الشيء أي جعلته يلي قبالته؛ يقال: أقبلت الرماح نحو القوم، وأقبلت الإبل أفواه الوادي).

(٢) عوران وحضر: موضعان. ف: (خوان)، د، م: (رغوان). وهو يوافق ما في الخزانة، وفي حاشية الأصل (من نسخة): (روعان)، وفيها أيضا: (في نسخة ديوانه: رعوان، جوان، خوان)، هذه كلها مواضع).

(٣) ديوانها: ٤٨١.

(٤) م: (متطاول)

(٥) رواية اللسان (طول):

* من المجد إلاّ والّذي نلت أطول*

(٦) ف: (العرف).

(٧) مصرد: مقلل، وفي حاشية الأصل: (أي لم يبق الغنى إلا من قبل عطاء قليل).

٢٣

وردّت أكفّ الرّاغبين وأمسكوا

من الدّين والدّنيا بخلف مجدّد(١)

فأحسن صلته.

وأخبرنا المرزباني قال أخبرنا أبو عبد الله إبراهيم بن محمد النحوي قال أخبرنا أحمد بن يحيى النحوي أن ابن الأعرابي أنشدهم:

مررنا عليه وهو يكعم كلبه

دع الكلب ينبح؛ إنما الكلب نابح

قوله (يكعم كلبه) - أي يشدّ فاه خوفا أن ينبح فيدل عليه.

وقال آخر:

وتكعم كلب الحي من خشية القرى

ونارك كالعذراء من دونها ستر(٢)

قال: وقد قال الأخطل:

قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم

قالوا لأمّهم بولي على النار

قال أبو عبد الله: وسمعت محمد بن يزيد الأزدي يقول: هذا من أهجى ما هجى به جرير، لأنه جعل نارهم تطفئها البولة، وجعلهم يأمرون أمهم بالبول استخفافا بها.

____________________

(١) حاشية الأصل: (منقطع اللبن، من قولهم: ناقة جداء؛ يقال: ناقة مجددة الأخلاف إذا ضربها الصرار وقطعها، وتجدد ضرع الناقة ذهب لبنه). وفيها أيضا: (لما احتضر عبد الملك بن مروان غشي عليه، ثم أفاق، فسمع امرأة تقول: مات أمير المؤمنين: فتمثل بهذين البيتين).

(٢) اللسان (كعم) من غير عزو.

٢٤

مجلس آخر

[٥١]

تأويل آية :( رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ )

إن سأل سائل فقال: ما تأويل قوله تعالى:( رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ) ؛ [آل عمران: ٨].

أو ليس ظاهر الآية يقتضي أنه تعالى يجوز أن يزيغ القلوب عن الإيمان حتى تصحّ مسألته تعالى ألاّ يزيغها، ويكون هذا الدعاء مفيدا؟

الجواب، قلنا في هذه الآية وجوه:

أوّلها أن يكون المراد بالآية: ربنا لا تشدّد علينا المحنة في التكليف، ولا تشق علينا فيه، فيفضي بنا ذلك إلى زيغ القلوب منّا بعد الهداية؛ وليس يمتنع أن يضيفوا ما يقع من زيغ قلوبهم عند تشديده تعالى عليهم المحنة إليه؛ كما قال عز وجل في السورة: إنّها(١) زادتهم رجسا إلى رجسهم، وكما قال مخبرا عن نوح عليه السلام:( فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاّ فِراراً ) ؛ [نوح: ٦].

فإن قيل: كيف يشدّد عليهم في المحنة؟

قلنا: بأن يقوّي شهواتهم، لما قبحه في عقولهم، ونفورهم(٢) عن الواجب عليهم، فيكون التكليف عليهم بذلك شاقا، والثواب المستحقّ عليهم عظيما متضاعفا وإنما يحسن أن يجعله شاقا تعريضا لهذه المنزلة.

وثانيها أن يكون ذلك دعاء بالتثبيت لهم على الهداية، وإمدادهم بالألطاف التي معها يستمرّون على الإيمان.

فإن قيل: وكيف يكون مزيغا لقلوبهم بألاّ يفعل اللّطف؟

____________________

(١) الضمير يعود إلى المحنة؛ والآية في سورة التوبة: ١٢٥:( وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ ) .

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): (ونقارهم).

٢٥

قلنا: من حيث كان المعلوم أنه متى قطع إمدادهم بألطافه وتوفيقاته زاغوا وانصرفوا عن الإيمان. ويجري هذا مجرى قولهم: اللهم لا تسلّط علينا من لا يرحمنا؛ معناه لا تخلّ بيننا وبين من لا يرحمنا فيتسلّط علينا؛ ومثله قول الشاعر:

أتاني ورحلي بالمدينة وقعة

لآل تميم أقعدت كلّ قائم

أراد: قعد لها كل قائم؛ فكأنهم قالوا: لا تخلّ بيننا وبين نفوسنا وتمنعنا ألطافك، فنزيغ ونضلّ.

وثالثها ما أجاب به أبو عليّ الجبائي محمد بن عبد الوهاب، لأنه قال: المراد بالآية ربّنا لا تزغ قلوبنا عن ثوابك ورحمتك. ومعنى هذا السؤال أنهم سألوا الله تعالى أن يلطف لهم في فعل الإيمان؛ حتى يقيموا عليه ولا يتركوه في مستقبل عمرهم، فيستحقوا بترك الإيمان أن تزيغ قلوبهم عن الثواب، وأن يفعل بهم بدلا منه العقاب.

فإن قال قائل: فما هذا الثواب الّذي هو في قلوب المؤمنين؛ حتى زعمتم أنّهم سألوا الله تعالى ألاّ يزيغ قلوبهم عنه؟ وأجاب بأنّ من الثواب الّذي في قلوب المؤمنين ما ذكره الله تعالى من الشرح والسّعة بقوله تعالى:( فَمَنْ يُرِدِ الله أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ ) ؛ [الأنعام: ١٢٥]؛ وقوله تعالى لرسوله عليه وآله السلام:( أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ) [الشرح: ١] وذكر أن ضدّ هذا الشرح هو الضّيق والحرج اللّذان يفعلان بالكفار عقوبة، قال: ومن ذلك أيضا التطهير الّذي يفعله في قلوب المؤمنين، وهو الّذي منعه الكافرين، فقال تعالى:( أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ الله أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ) ؛ [المائدة: ٤١].

قال: ومن ذلك أيضا كتابته الإيمان في قلوب المؤمنين، كما قال الله تعالى:( أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الآيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ) [المجادلة: ٢٢] وضدّ هذه الكتابة هي سمات الكفر التي في قلوب الكافرين؛ فكأنهم سألوا الله تعالى ألاّ يزيغ قلوبهم عن هذا الثواب إلى ضده من العقاب.

٢٦

ورابعها أن تكون الآية محمولة على الدعاء بألاّ يزيغ القلوب عن اليقين والإيمان. ولا يقتضي ذلك أنّه تعالى سئل ما كان لا يجب أن يفعله، وما لولا المسألة لجاز فعله؛ لأنّه غير ممتنع أن يدعوه على سبيل الانقطاع إليه، والافتقار إلى ما عنده بأن يفعل تعالى ما نعلم أنه لا بدّ من أن يفعله، وبألاّ يفعل ما نعلم أنه واجب ألاّ يفعله؛ إذا تعلق بذلك ضرب من المصلحة؛ كما قال تعالى حاكيا عن إبراهيم عليه السلام:( وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ) ؛ [الشعراء: ٨٧] وكما قال في تعليمنا ما ندعو به:( قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ ) ؛ [الأنبياء: ١١٢] وكقوله تعالى:( رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ ) ؛ [البقرة: ٢٨٦]، على أحد الأجوبة:

وكل ما ذكرناه واضح بين بحمد الله.

***

قال سيدنا أدام الله تمكينه: وإني لأستحسن قول الراعي في وصف الأثافي والرماد، فقد(١) طبّق وصفه المفصل، مع جزالة الكلام وقوته واستوائه واطراده:

وأورق مذ عهد ابن عفّان حوله

حواضن ألاّف على غير مشرب

وراد الأعالي أقبلت بنحورها

على راشح ذي شامة متقوّب

كأنّ بقايا لونه في متونها

بقايا هناء في قلائص مجرب

الأورق: الرّماد، جعل الأثافي له كالحواضن؛ لاحتضانها له واستدارتها حوله.

وأراد بوراد الأعالي أن ألوانها تضرب إلى الحمرة، وخصّ الأعالي؛ لأنها مواضع القدر فلا تكاد تسودّ. والراشح: هو الراضع؛ وإنما شبّه الرماد بينهن بفصيل بين أظآر.

والمتقوّب: الّذي قد انحسر أعلاه.

وشبّه ما سوّدت النار منهن بأثر قطران على قلائص جربى. والمجرب: الّذي قد جربت إبله.

ونظير هذا المعنى بعينه، أعني تشبيه تسويد النار بالهناء قول ذي الرّمة:

____________________

(١) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (فلقد).

٢٧

عفا الزّرق من أطلال ميّة فالدّحل

فأجماد حوضي حيث زاحمها الحبل(١)

سوى أن يرى سوداء من غير خلقة

تخاطأها، وارتثّ جاراتها النّقل(٢)

من الرّضمات البيض غيّر لونها

بنات فراض المرخ واليابس الجزل

كجرباء دسّت بالهناء فأفصيت

بأرض خلاء أن تقاربها الإبل

قوله: (سوداء من غير خلقة) يعني أثفيّة؛ لأن السواد ليس بخلقة بها؛ وإنما سوّدتها النار.

وقوله: تخاطأها النقل، أي تجاوزها فلم تحمل من مكان إلى مكان؛ بل بقيت منفردة.

وارتثّ جاراتها: يعني بجاراتها؛ أي نقلن عنها الأثافي اللواتي كنّ معها. والمرتثّ:

هو المنقول من مكان إلى مكان؛ وأصل ذلك في الجريح والعليل؛ يقال ارتثّ الرجل ارتثاثا إذا حمل من المعركة وبه رمق. قال النضر بن شميل: معنى ارتثّ صرع. وقال أبو زيد:

هو مأخوذ من قولهم ارتثثنا رثّة القوم إذا جمعوا رديء متاعهم بعد أن يتحملوا من موضعهم؛ وكلا المعنيين يليق ببيت ذي الرّمة؛ لأنه قد يجوز أن يريد(٣) بقوله: (وارتثّ جاراتها)، أي نقلن عنها، ويجوز أن يريد(٣) : صرعن وبقيت ثابتة قائمة.

والرّضات: حجارة بيض بعضها على بعض. والفراض: جمع فرض، وهو الحزّ يكون في الزند وعنى ببنات فراض المرخ شرر النار الخارجة من ذلك الفرض. والمرخ: شجر تتخذ منه الرندة. ومن أمثالهم: (في كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار(٤) )، وهذا المثل يضرب للرجل الكريم الّذي يفضل على القوم ويزيد عليهم؛ فكأن المعنى: كلّ القوم كرام وأكرمهم فلان.

____________________

(١) ديوانه: ٤٥٤. الزرق: أكثبة بالدهناء؛ والدحل وحوضي: موضعان؛ والأجماد: جمع جمد؛ وهي الأرض الغليظة في صلابة الجبل، ويعني بالجبل حبل الرمل، وهو رمل مستطيل.

(٢) من نسخة بحاشية الأصل: (تخطأها).

(٣ - ٣) ساقط من م.

(٤) المثل في مجمع الأمثال للميداني (٢: ١٨)؛ قال: استمجد المرخ والعفار؛ أي استكثرا وأخذا من النار ما هو حسبهما؛ شبها بمن يكثر العطاء طلبا للمجد لأنهما يسرعان الوري).

٢٨

ومعنى (كجرباء دسّت بالهناء) أنه شبه الأثفيّة المفردة بناقة جرباء قد أفردت وأبعدت عن الإبل حتى لا تجربها ولا تعديها. ومعنى دسّت بالهناء، طليت به.

وفي معنى قول الراعي: (وراد الأعالي) شبه من قول الشّماخ بن ضرار:

أقامت على ربعيهما جارتا صفا

كميتا الأعالي جونتا مصطلاهما(١)

يعني (بربعيهما) منزلي إلا مرأتين(٢) اللتين ذكرهما، ويعني (بجارتا صفا) الأثفيّتين؛ لأنهما مقطوعتان من الصّفا الّذي هو الصّخر. ويمكن في قوله: (جارتا صفا) وجه آخر هو أحسن من هذا؛ وهو أنّ الأثفيّتين توضعان قريبا من الجبل، لتكون حجارة الجبل ثالثة لهما، وممسكة للقدر معهما؛ ولهذا تقول العرب: رماه بثالثة الأثافي؛ أي بالصخرة أو الجبل، وشبه أعلاهما بلون الكميت؛ وهو لون الحجر نفسه؛ لأن النار لم تصل إليه فتسوده(٣) .

ومصطلاهما جون أي أسود؛ لأنّ النار قد سفعته وسوّدته.

وقال الراعي في وصف الأثافي أيضا:

أذاع بأعلاه، وأبقى شريده

ذرا مجنحات بينهنّ فروج

كأنّ بجزع الدّار لمّا تحمّلوا

سلائب ورقا بينهنّ خديج

أذاع بأعلاه، يعنى الرماد؛ لأن السافي(٤) يطيّر ظاهره وما علا منه.

وأبقى شريده، أي بقي(٥) لما شرد على السافي فلم يطر.

وذرا لجنحات يعني الأثافي. وذرا كل شيء: جانبه وما استذريت به منه. والمجنحات:

المسبلات منه.

____________________

(١) ديوانه ٨٦

(٢) في حاشيتي الأصل، ف: (منزلتي المرأتين).

(٣) حاشية الأصل: ويمكن في (جارتا صفا) وجه آخر؛ وهو أحسن من هذا؛ وهو أن الأثفيتين توضعان قريبا من الجبل، لتكون حجارة الجبل ثالثة الأثافي وممسكة للقدر معهما؛ ولهذا يقال: رماه بثالثه الأثافي؛ أي الصخرة أو الجبل).

(٤) السافي: الريح التي تسفي التراب.

(٥) حاشية الأصل (من نسخة): (يبقى).

٢٩

والسلائب: جمع سلوب؛ وهي الناقة التي قد سلبت ولدها بموت أو نحر؛ فقد عطفت على حوار آخر.

والخديج: الّذي قد سقط لغير تمام.

والورق: اللواتي ألوانهن كلون الرماد.

وفي معنى قول الراعي: (وأبقى شريده ذرا مجنحات) قول المخبّل السعدي:

وأرى لها دارا بأغدرة السيّ

دان لم يدرس لها رسم(١)

إلاّ رمادا هامدا دفعت

عنه الرّياح خوالد سحم(٢)

إلا هاهنا: بمعنى الواو، فكأنه قال: وأرى رمادا هامدا، ولولا أن (إلاّ) هاهنا بمعنى الواو لفسد الكلام ونقض آخره أوّله، لأنه يقول في آخر البيت: إنّ الخوالد السّحم دفعت عنه الرياح، فكيف يخبر بأنه قد درس، وإنما أراد أنّه باق ثابت، لأنّ الأثافي دفعت عنه الرياح فلم يستثنه، إذن هو من جملة ما لم يدرس، بل هو داخل في جملته.

وللراعي أيضا في الأثافي:

أنخن وهنّ أغفال عليها

فقد ترك الصّلاء بهنّ نارا

شبه الأثافي بنوق أنخن أغفالا، ليست عليهنّ سمة؛ ثم أخبر أنّ الوقود أثّر فيهن أثرا كالسّمة، والنار السمة، تقول العرب: ما نار بعيرك؟ أي، ما سمته؟ وفي أمثالهم: (نجارها نارها)، أي سمتها تدلّ على كرمها، يضرب ذلك للرجل ترى له ظاهرا حسنا يدلّ على باطن خبره.

____________________

(١) من قصيدة في المفضليات ١١٣ - ١١٨، مطلعها:

ذكر الرباب وذكرها سقم

فصبا وليس لمن صبا حلم

وأغدرة: جمع غدير. والسيدان: أرض لبني سعد؛ والرسم: الأثر بلا شخص؛ ودروسه: ذهابه؛ يريد: لم يذهب كله.

(٢) الخوالد: البواقي، عنى بها الأثافي. بسحم: من السحمة؛ وهو لون يضرب إلى السواد.

٣٠

وقال عدي بن الرّقاع العاملي:

إلاّ رواكد كلّهنّ قد اصطلى

حمراء أشعل أهلها إيقادها(١)

كانت رواحل للقدور فعرّيت

منهنّ، واستلب الزّمان رمادها

وقال الأسعر الجعفي:

إلاّ رواكد بينهنّ خصاصة

سفع المناكب، كلّهنّ قد اصطلى(٢)

وقال حميد بن ثور:

فتغيّرت إلاّ ملاعبها

ومعرّسا من جونة ظهر(٣)

عرش الثّقاب لها بدار مقامة

للحي بين نظائر وتر

الجونة: القدر: ويقال: قدر ظهر، وقدور ظهور، إذا كانت قديمة(٤) . وعرش، أي جعل مثل العريش، يعني الوقود. والثّقاب: ما أثقبت به النار من الوقود. والنظائر: هي الأثافي: والوتر: الفرد، وأراد أنها ثلاث.

وقال الكميت بن زيد:

ولن تحيّيك أظآر معطّفة

بالقاع، لا تمك فيها ولا ميل

ليست بعوذ، ولم تعطف على ربع

ولا يهيب بها ذو النيّة الإبل

يعني الأثافي، فشبّه عطفها على الرماد بنوق أظآر قد عطفن على فصيل. والتّمك:

انتصاب السنام. والميل: من صفة السّنام أيضا.

والعائذ من النّوق: التي يتبعها ولدها. والرّبع: الّذي نتج في أول الربيع. والإهابة:

الدعاء؛ أهاب بإبله إذا دعاها. وذو النية: الّذي قد نوى الرّحيل. الإبل: صاحب الإبل.

____________________

(١) الطرائف الأدبية ٨٧ مع اختلاف في الرواية.

(٢) البيت في أمالي القالي ١: ٤٥ غير منسوب، ونسبه في اللآلي: ١٨٩ للرخيم العبدي، وفي م نسب إلى مالك الجعفي، والبيت ليس في قصيدة الأسعر التي في أول الأصمعيات.

(٣) ديوانه: ٩٣. المعرس: مكان تعريس القوم في السفر في آخر الليل.

(٤) في اللسان: (وقدر ظهر: قديمة؛ كأنها تلقى وراء الظهر لقدمها)، واستشهد بالبيت.

٣١

وقال ذو الرّمة:

فلم يبق إلاّ أن ترى في محلّه

رمادا نحت عنه السيول جنادله(١)

كأنّ الحمام الورق في الدّار وقّعت(٢)

على حرق بين الظّئور جوازله

شبه الأثافي بالحمام الورق؛ وجعلها ظئورا لتعطّفها على الرماد؛ وشبه الرّماد بفرخ حرق قد سقط ريشه. والجوازل: الفراخ. واحدها جوزل.

وقال البعيث:

ألا حييّا الرّبع القواء وسلّما

ورسما كجثمان الحمامة أدهما

قيل إن الحمام هاهنا القطاة؛ وإنه شبّه ألوان الرسوم من الرّماد، وموقد نار، ودمنة، ومجرّ طنب، وما أشبه هذه الأشياء بألوان ريش قطاة.

ومثله لجرير:

كأنّ رسوم الدّار ريش حمامة

محاها البلى واستعجمت أن تكلّما(٣)

ولقد أحسن كلّ الإحسان كثيّر في قوله:

أمن ال قيلة بالدّخول رسوم

وبحومل طلل يلوح قديم(٤)

لعب الرّياح برسمه فأجدّه

جون عواكف في الرّماد جثوم

سفع الخدود كأنّهنّ وقد مضت

حجج عوائد بينهنّ سقيم

وقيل في قوله: (فأجدّه جون عواكف) يعني الأثافي، لأن الريح لما كشفت عنها، وظهرت صارت هي كأنها أجدّت الرّسم. ويحتمل وجه آخر، وهو أن يكون معنى (أجدّت) أنّها حمت الرماد الّذي أحاطت به عن لعب الرّياح، فبقى بحاله يستدلّ به المترسم(٥) ،

____________________

(١) ديوانه: ٤٦٥. نحت: صرفت؛ وفي الديوان: (نفت)، والجنادل: الحجارة.

(٢) وقعت: ربضت، وفي الديوان: (جثمت).

(٣) ديوانه: ٥٤٣

(٤) ديوانه ١: ٢٥٣

(٥) حاشية الأصل (من نسخة): (المتوسم).

٣٢

فكأن الرياح درست الربع ومحته إلاّ ما أجدّته هذه الأثافي من الرماد، ومنعت الريح منه، ويجري ذلك مجرى قول المخبّل:

إلاّ رمادا هامدا

البيت ...

وقال المرار الفقعسيّ في الأثافي:

أثر الوقود على جوانبها

بخدودهنّ كأنّه لطم

ويقال إن أبا تمام الطائي أخذ ذلك في قوله:

قفوا نعط المنازل من عيون

لها في الشّوق أحساء غزار(١)

عفت آياتهنّ، وأي ربع

يكون له على الزّمن الخيار!

أثاف كالخدود لطمن حزنا

ونؤي مثل ما انفصم السّوار

وقد عاب عليه قوله: (لطمن حزنا) بعض من لا معرفة له، وقال: لا فائدة في قوله (حزنا)، ولذلك فائدة؛ وذلك أنّ لطم الحزن يكون أوجع وأبلغ، فتأثيره أظهر وأبين؛ وقد يكون اللطم لغير الحزن؛ فأما قوله.

* ونؤي مثل ما انفصم السوار*

فمأخوذ من قول الشاعر:

نؤي كما نقص الهلال محاقه(٢)

أو مثلما فصم السّوار المعصم

وقد شبّه الناس النّؤي بالسوار والخلخال كثيرا، وبغير ذلك، قال كثيّر:

عرفت لسعدى بعد عشرين حجّة

بها درس نؤي في المحلّة منحن(٣)

قديم كوقف العاج ثبّت حوله

مغارز أوتاد برضم موضّن

____________________

(١) ديوانه: ١٤٠؛ والرواية فيه: (قفا نعط). وأحساء: جمع حسي؛ وهو الماء تحت الرمل، ينبط بالأيدي.

(٢) المحاق، مثلثة: آخر الشهر.

(٣) ديوانه: ١: ٥٨.

٣٣

 - الوقف: السوار من الذّبل ومن العاج. والرّضم: صخور عظام. والموضّن: الّذي يعضه فوق بعض.

وقال بشار:

ونؤي كخلخال الفتاة، وصائم

أشجّ على ريب الزمان رقوب(١)

الصائم الأشج: يعني الوتد؛ وإنما وصفه بأنه صائم لقيامه وثباته، وجعله رقوبا لانفراده، والمرأة الرّقوب والشيخ الرّقوب: الّذي لا يعيش له ولد.

ومن مستحسن ما وصف به النؤي قول أبي تمام:

والنّؤي أهمد شطره فكأنّه

تحت الحوادث حاجب مقرون(٢)

وقال المتنبي في ذلك:

قف على الدّمنتين بالدّوّ من ريّ

اكخال في وجنة جنب خال(٣)

بطول كأنّهنّ نجوم

في عراص كأنّهنّ ليال

ونؤي كأنهنّ عليه

نّ خدام خرس بسوق خدال

الخدام: جمع خدمة(٤) ؛ وهي الخلخال، وجعلها خرسا لأنها غير قلقة، وشبه ما أحدق به النؤي من الأرض وامتلائها بامتلاء الخلخال، من الساق الخدلة، وهي الممتلئة.

____________________

(١) ديوانه: ١: ١٨١.

(٢) ديوانه: ٣٢٨.

(٣) ديوانه: ٣: ١٩٢. الدو: الأرض الواسعة المستوية القفرة؛ وريا: اسم امرأة؛ والمراد:

من ريا، والخال: شامة تخالف لون الوجه. والشامة: تكون في الوجه والجسم.

(٤) الخدمة في الأصل: سير يشد في رسغ البعير، وبه سمي الخلخال؛ لأنه ربما كان من سيور، يركب فيه الذهب والفضة.

٣٤

مجلس آخر

[٥٢]

تأويل آية :( إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِالله أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ. قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ. قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ. قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ الله لَمُهْتَدُونَ. قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ ) ، [البقرة: ٦٧ - ٧٠].

فقال: ما تأويل هذه الآيات؟ وهل البقرة التي نعتت بجميع النعوت هي البقرة المرادة باللفظ الأول والتكليف واحد، أو المراد مختلف والتكليف متغاير؟

الجواب، قلنا: أهل العلم في تأويل هذه الآية مختلفون بحسب اختلاف أصولهم؛ فمن جوّز تأخير البيان عن وقت الخطاب يذهب إلى أن التكليف واحد، وأن الأوصاف المتأخرة هي للبقرة المتقدّمة؛ وإنما تأخر البيان، ولما سأل القوم عن الصفات ورد البيان شيئا بعد شيء.

ومن لم يجوّز تأخير البيان يقول: إن التكليف متغاير؛ وإنهم لما قيل لهم: اذبحوا بقرة لم يكن المراد منهم إلا ذبح أي بقرة شاءوا، من غير تعيين بصفة، ولو أنهم ذبحوا أي بقرة اتفقت لهم كانوا قد امتثلوا الأمر، فلمّا لم يفعلوا كلّفوا ذبح بقرة لا فارض ولا بكر، ولو ذبحوا ما اختصّ بهذه الصفة من أي لون كان لأجزأ عنهم، فلمّا لم يفعلوا كلّفوا ذبح بقرة صفراء، فلما لم يفعلوا كلّفوا ذبح ما اختص بالصفات الأخيرة.

٣٥

ثم اختلف هؤلاء من وجه آخر، فمنهم من قال في التكليف الأخير: إنه يجب أن يكون مستوفيا لكل صفة تقدّمت، حتى تكون البقرة مع أنها غير ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث، مسلّمة لا شية فيها،(١) صفراء فاقع لونها، ولا فارض ولا بكر(١) . ومنهم من قال: إنما يجب أن تكون بالصفة الأخيرة فقط، دون ما تقدم.

وظاهر الكتاب بالقول المبني على جواز تأخير البيان أشبه، وذلك أنه تعالى لما كلّفهم ذبح بقرة قالوا للرسول:( ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ ) ، فلا يخلو قولهم: ما هِيَ من أين يكون كناية عن البقرة المتقدّم ذكرها، أو عن التي أمروا بها ثانيا؛ على قول من يدّعي ذلك.

وليس يجوز أن يكون(٢) سألوا عن صفة غير التي تقدّم ذكرها، لأن الظاهر من قولهم ما هِيَ بعد قوله لهم: اذبحوا بقرة يقتضي أن يكون السؤال عن صفة البقرة المأمور بذبحها؛ ولأنه لا علم لهم بتكليف ذبح بقرة أخرى فيستفهموا عنها؛ وإذا صحّ أن السؤال إنما كان عن صفة البقرة المنكّرة التي أمروا في الابتداء يذبحها فليس يخلو قوله:( إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ ) من أن يكون كناية عن البقرة الأولى، أو عن غيرها، وليس يجوز أن يكون ذلك كناية عن بقرة ثانية، لأن ظاهر قوله: إنّها بقرة من صفتها كذا بعد قولهم: ما هِيَ يقتضي أن يكون كناية متعلقة بما تضمنه سؤالهم، ولأنّ الأمر لو لم يكن على ما ذكرناه لم يكن ذلك جوابا لهم، بل كان يجب أن يكونوا سألوه عن شيء فأجابهم عن غيره، وهذا لا يليق بالنبي عليه السلام.

على أنه لما أراد أن يكلّفهم تكليفا ثانيا عند تفريطهم في الأول على ما يدعيه من ذهب إلى هذا المذهب قد كان يجب أن يجيبهم عن سؤالهم، وينكر عليهم الاستفهام في غير موضعه، وتفريطهم فيما أمروا به؛ مما لا حاجة بهم إلى الاستفهام عنه، فيقول في جواب قولهم: ما هِيَ:

____________________

(١ - ١) حاشية الأصل: (ش: صفراء فاقعا لونها، ولا فارضا ولا بكرا).

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): أن يكونوا).

٣٦

إنما كلّفتم أي بقرة شئتم، وما يستحق اسم بقرة، وقد فرّطتم في ترك الامتثال، وأخطأتم في الاستفهام، مع وضوح الكلام، إلاّ أنكم قد كلّفتم ثانيا كذا وكذا، لأن هذا مما يجب عليه بيانه؛ لإزالة الشك والإبهام واللبس؛ فلما لم يفعل ذلك، وأجاب بالجواب الّذي ظاهره يقتضي التعلّق بالسؤال علم أن الأمر على ما ذكرناه. وهب أنه لم يفعل ذلك في أول سؤال، كيف لم يفعله مع تكرار الأسئلة والاستفهامات التي لم تقع على هذا المذهب بموقعها؟ ومع تكرر المعصية والتفريط كيف يستحسن أن يكون جميع أجوبته غير متعلّقة بسؤالاتهم؟ لأنهم يسألونه عن صفة شيء فيجيبهم بصفة غيره من غير بيان؛ بل على أقوى الوجوه الموجبة لتعلّق الجواب بالسؤال؛ لأنّ قول القائل في جواب من سأله ما كذا وكذا: إنه بالصفة الفلانية صريح في أن الهاء كناية عمّا وقع السؤال عنه؛ هذا مع قولهم: إن البقر تشابه علينا، لأنهم لم يقولوا ذلك إلا وقد اعتقدوا أن خطابهم مجمل غير مبين، فلم لم يقل: أي تشابه عليكم إذ إنما أمرتم في الابتداء بأي بقرة كانت، وفي الثاني بما اختص باللون المخصوص من أي البقر كان؟

فإن قيل: كيف يجوز أن يأمرهم بذبح بقرة لها جميع الصفات المذكورة إلى آخر الكلام ولا يبين ذلك لهم، وهل هذا إلا تكليف ما لا يطاق!

قلنا: لم يرد منهم أن يذبحوا البقرة في الثاني من حال الخطاب؛ ولو كانت حال الفعل حاضرة لما جاز أن يتأخر البيان، لأن تأخيره عن وقت الحاجة هو القبيح الّذي لا شبهة في قبحه، وإنما أراد أن يذبحوها في المستقبل، فلو لم يستفهموا ويطلبوا البيان لكان قد ورد عليهم عند الحاجة إليه.

فإن قيل: إذا كان الخطاب غير متضمّن لصفة ما أمروا بذبحه، فوجوده كعدمه، وهذا يخرجه من باب الفائدة، ويوجب كونه عبثا!

قلنا: ليس يجب ما ظننتم؛ لأن القول وإن كان لم يفد صفة البقرة بعينها فقد أفاد تكليف ذبح بقرة على سبيل الجملة؛ ولو لم يكن ذلك معلوما قبل هذا الخطاب، لصار مفيدا من حيث ذكرنا،

٣٧

وخرج من أن يكون وجوده كعدمه. وفوائد الكلام لا يجب أن يدخلها الاقتراح، وليس يخرج الخطاب من تعلّقه ببعض الفوائد كونه غير متعلق بغيرها، وبما هو زيادة عليها.

فإن قيل: ظاهر قوله تعالى:( فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ ) يدلّ على استبطائهم وذمّهم على التقصير في امتثال الأمر!

قلنا: ليس ذلك صريح ذمّ، لأن كادُوا للمقاربة، وقد يجوز أن يكون التكليف صعب عليهم لغلاء ثمن البقرة التي تكاملت لها تلك الصفات، فقد روي أنهم ابتاعوها بمل ء جلدها ذهبا.

على أن الذمّ يقتضي ظاهره أن يصرف إلى تقصيرهم أو تأخيرهم امتثال الأمر بعد البيان التام، لأن قوله تعالى:( وَما كادُوا يَفْعَلُونَ ) إنما ورد بعد تقدّم البيان التامّ المتكرر، ولا يقتضي ذمّهم على ترك المبادرة في الأول إلى ذبح بقرة، فليس فيه دلالة على ما يخالف ما ذكرناه.

فإن قيل: لو ثبت تقديرا أن التكليف في البقرة متغاير، أي القولين اللّذين حكيتموهما عن أهل هذا المذهب أصحّ وأشبه؟ قلنا: قول من ذهب إلى أنّ البقرة إنما يجب أن تكون بالصفة الأخيرة فقط، لأن الظاهر به أشبه؛ من حيث إذا ثبت تغاير التكليف: وليس في قوله:( إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرْضَ ) إلى آخر الأوصاف ذكر لما تقدم من الصفات، وهذا التكليف غير الأول، فالواجب اعتبار ما تضمنه لفظه والاقتصار عليه.

فأما (الفارض) فهي المسنّة، وقيل: هي العظيمة الضخمة؛ يقال: غرب فارض، أي ضخم، والغرب الدلو؛ ويقال أيضا: لحية فارضة؛ إذا كانت عظيمة؛ والأشبه بالكلام أن يكون المراد المسنّة.

فأما (البكر) فهي الصغيرة التي لم تلد، فكأنه تعالى قال: تكون غير مسنّة، ولا صغيرة.

٣٨

والعوان: دون المسنّة وفوق الصغيرة؛ وهي النّصف التي ولدت بطنا أو بطنين؛ يقال:

حرب عوان إذا لم تكن أول حرب وكانت ثانية؛ وإنما جاز أن يقول: بَيْنَ ذلِكَ (وبين) لا يكون إلا مع اثنين أو أكثر؛ لأن لفظة (ذلك) تنوب عن الجمل، تقول: ظننت زيدا قائما، ويقول القائل: قد ظننت ذلك.

ومعنى( فاقِعٌ لَوْنُها ) ، أي خالصة الصفرة، وقيل: إن كل ناصع اللون؛ بياضا كان أو غيره فهو فاقع. وقيل: إنه أراد ب (صفراء) هاهنا سوداء.

ومعنى قوله تعالى:( لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرْضَ ) أي تكون صعبة لا يذللها العمل في إثارة الأرض وسقي الزرع.

ومعنى( مُسَلَّمَةٌ ) ، مفعلة، من السلامة من العيوب، وقال قوم: مسلّمة من الشّية، أي لا شية فيها تخالف لونها.

وقيل: لا شِيَةَ فِيها، أي لا عيب فيها؛ وقيل: لا وضح، وقيل: لا لون يخالف لون جلدها، والله أعلم بما أراد، وإياه نسأل حسن التوفيق.

***

قال سيدنا أدام الله تمكينه: كنت أظن أن المتنبي قد سبق إلى معنى قوله في مرثية أخت سيف الدولة:

طوى الجزيرة حتّى جاءني خبر

فزعت فيه بأمالي إلى الكذب(١)

حتّى إذا لم يدع لي صدقه أملا

شرقت بالدّمع حتّى كاد يشرق بي

حتى رأيت هذا المعنى لمسلم بن الوليد الأنصاري، وللبحتري.

____________________

(١) ديوانه ١: ٨٧ - ٨٨. الجزيرة: ما كان من الموصل إلى الفرات؛ وكان الخبر بوفاتها ورد إليه من حلب.

٣٩

أما الّذي لمسلم فقوله في قصيدة يرثي بها سهل بن الصباح:

وقف العفاة عليك من متحيّر

وله الرّجاء، وذي غنى يسترجع

ومخادع السّمع النّعي ودونه

خطب ألمّ بصادق لا يخدع

وقال البحتري يرثي وصيفا التركي:

إذا جدّ ناعيه توهّمت أنه

يكرّر من أخباره قول مازح(١)

وكنت أظن المتنبي قد سبق إلى قوله:

يحلّ القنا يوم الطّعان بعقوتي

فأحرمه عرضي، وأطعمه جلدي(٢)

حتى رأيت هذا المعنى واللفظ بعينه لجهم بن شبل الكلابي من أهل اليمامة في قوله:

ثنى قومه عن حدرجان وقد حنا

إلى الموت دامي الصّفحتين كليم(٣)

أخو الحرب، أمّا جلده فمجرّح

كليم، وأما عرضه فسليم(٤)

وكنت أظنّ البحتري قد سبق إلى معنى قوله في الفتح بن خاقان:

حملت عليه السّيف، لا عزمك انثنى

ولا يدك ارتدّت، ولا حدّه نبا(٥)

حتى وجدت لشاعر متقدم:

طعنت ابن دهمان بنجران طعنة

شققت بها عنه مضاعفة السّرد

فلا الكفّ أوهت بي، ولا الرّمح خانني،

ولا الأدهم المنعوت حاد عن القصد

***

____________________

(١) ديوانه ١: ١٢١.

(٢) ديوانه ٢: ٦١. عقوتي؛ أي بقربي.

(٣) في حاشيتي الأصل، ت: (الحدرجان، بالكسر: القصير؛ قال ابن دريد في كتاب الاشتقاق:

حدرجان: اسم رجل قتله أمير المؤمنين صلوات الله عليه؛ وهو فعللان؛ من قولهم: حدرجت السوط وغيره؛ إذا فتلته فتلا شديدا، ويجوز أن يكون من مقلوب دحرج).

(٤) التبيان ٢: ٦١.

(٥) ديوانه ١: ٥٦.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403