أمالي المرتضى الجزء ٢

أمالي المرتضى0%

أمالي المرتضى مؤلف:
تصنيف: مكتبة اللغة والأدب
الصفحات: 403

أمالي المرتضى

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشريف أبى القاسم على بن الطاهر أبى أحمد الحسين
تصنيف: الصفحات: 403
المشاهدات: 61793
تحميل: 8739


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 403 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 61793 / تحميل: 8739
الحجم الحجم الحجم
أمالي المرتضى

أمالي المرتضى الجزء 2

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

قال:" وينبغي ألا يستثني مشيئة دون مشيئة، لأنه إن استثنى في ذلك مشيئة الله لمصيره إلى المسجد على وجه التعبد، فهو أيضا لا يأمن أن يكون خبره كذبا؛ لأن الإنسان قد يترك كثيرا مما يشاؤه الله تعالى منه ويتعبده به، ولو كان استثناء مشيئة الله لأن يبقيه ويقدره ويرفع عنه الموانع كان أيضا لا يأمن أن يكون خبره كذبا؛ لأنه قد يجوز ألاّ يصير إلى المسجد مع تبقية الله تعالى له قادرا مختارا، فلا يأمن من الكذب في هذا الخبر دون أن يستثني المشيئة العامة التي ذكرناها، فإذا دخلت هذه المشيئة في الاستثناء فقد أمن أن يكون خبره كذبا إذا كانت هذه المشيئة متى وجدت وجب أن يدخل المسجد لا محالة".

قال:" وبمثل هذا الاستثناء يزول الحنث عمن حلف فقال: والله لأصيرنّ غدا إلى المسجد إن شاء الله، لأنه إن استثنى على سبيل ما بيّنا لم يجز أن يحنث في يمينه، ولو خص استثناءه بمشيئة بعينها ثم كانت ولم يدخل معها المسجد حنث في يمينه".

وقال غير أبي عليّ: إن المشيئة المستثناة هاهنا هي مشيئة المنع والحيلولة؛ فكأنه قال:

إن شاء الله يخليني ولا يمنعني.

وفي الناس من قال: القصد بذلك أن يقف الكلام على جهة القطع وإن لم يلزم به ما كان يلزم لولا الاستثناء، ولا ينوي في ذلك إلجاء ولا غيره؛ وهذا الوجه يحكى عن الحسن البصري.

واعلم إن في الاستثناء(١) الداخل على الكلام وجوها مختلفة؛ فقد يدخل على الأيمان والطلاق والعتاق وسائر العقود وما يجري مجراها من الأخبار؛ فإذا دخل ذلك اقتضى التوقيف عن إمضاء الكلام والمنع من لزوم ما يلزم به إزالته عن الوجه الّذي وضع له؛ ولذلك يصير ما تكلّم به كأنه لا حكم له؛ ولذلك يصح على هذا الوجه أن يستثني في الماضي فيقول: قد

____________________

(١) د، ف: (للاستثناء).

١٢١

دخلت الدار إن شاء الله، ليخرج بهذا الاستثناء من أن يكون كلامه خبرا قاطعا أو يلزمه حكم.

وإنما لم يصحّ دخوله فى المعاصي على هذا الوجه؛ لأن فيه إظهار الانقطاع(١) إلى الله تعالى؛ والمعاصي لا يصح ذلك فيها؛ وهذا الوجه أحد(٢) ما يحتمله تأويل الآية.

وقد يدخل الاستثناء في الكلام فيراد به اللطف والتسهيل. وهذا الوجه يخصّ الطاعات، ولهذا الوجه جرى قول القائل: لأقضينّ غدا ما عليّ من الدين، ولأصلّينّ غدا إن شاء الله مجرى أن يقول: إني أفعل ذلك إن لطف الله تعالى فيه وسهّله؛ فعلم أن المقصد واحد، وأنه متى قصد الحالف فيه هذا الوجه لم يجب إذا لم يقع(٣) منه هذا الفعل أن يكون حانثا وكاذبا، لأنه إن لم يقع علمنا أنه لم يلطف له(٤) ، لأنه لا لطف له.

وليس لأحد أن يعترض هذا بأن يقول: الطاعات لا بدّ فيها من لطف؛ وذلك لأنّ فيها ما لا لطف فيه جملة، فارتفاع ما هذه سبيله يكشف عن أنه لا لطف فيه، وهذا الوجه لا يصح أن يقال في الآية أنه يخص الطاعات؛ والآية تتناول كلّ ما لم يكن قبيحا؛ بدلالة إجماع(٥) المسلمين على حسن الاستثناء ما تضمنته في فعل ما لم يكن قبيحا.

وقد يدخل الاستثناء في الكلام ويراد به التسهيل والإقدار والتخلية والبقاء على ما هي عليه من الأحوال؛ وهذا هو المراد به إذا دخل في المباحات.

وهذا الوجه يمكن في الآية إلا أنه يعترضه ما ذكره أبو علي مما حكيناه من كلامه.

وقد يذكر استثناء المشيئة أيضا في الكلام وإن لم يرد به في شيء مما تقدم؛ بل يكون الغرض إظهار الانقطاع إلى الله تعالى من غير أن يقصد إلى شيء من الوجوه المتقدمة.

وقد يكون هذا الاستثناء غير معتدّ به في كونه كاذبا أو صادقا؛ لأنه في الحكم كأنه

____________________

(١) م: (إظهارا للانقطاع).

(٢) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (أجود).

(٣) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (وإن لم يقع منه).

(٤) حاشية الأصل (من نسخة): (لم يلطف فيه).

(٥) ف، وحاشية الأصل (من نسخة): (اجتماع).

١٢٢

قال: لأفعلنّ كذا إذا وصلت إلى مرادي مع انقطاعي إلى الله تعالى وإظهاري الحاجة إليه؛ وهذا الوجه أيضا مما يمكن في تأويل الآية.

ومن تأمل جملة ما ذكرناه من الكلام عرف منه الجواب عن المسألة التي لا يزال يسأل عنها المخالفون من قولهم: لو كان الله تعالى إنما يريد العبادات من الأفعال دون المعاصي لوجب إذا قال من لغيره عليه دين طالبه به: والله لأعطينّك حقّك غدا إن شاء الله أن يكون كاذبا أو حانثا إذا لم يفعل؛ لأن الله تعالى قد شاء ذلك منه عندكم، وإن كان لم يقع؛ فكان يجب أن تلزمه الكفارة؛ وألا يؤثر هذا الاستثناء في يمينه، ولا يخرجه عن كونه حانثا؛ كما أنه لو قال: والله لأعطينّك حقك غدا إن قدم زيد فقدم ولم يعطه يكون حانثا؛ وفي إلزام هذا الحنث خروج عن إجماع المسلمين، فصار ما أوردناه جامعا لبيان تأويل الآية، وللجواب عن هذه المسألة ونظائرها من المسائل، والحمد للّه وحده.

***

قال سيدنا أدام الله تمكينه: تأمّلت ما اشتملت عليه تشبيهات الشعراء فوجدت أكثر ما شبهوا فيه الشيء بالشيء الواحد، أو الشيئين بالشيئين؛ وقد تجاوزوا ذلك إلى تشبيه ثلاثة بثلاثة، وأربعة بأربعة، وهو قليل؛ ولم أجد من تجاوز هذا القدر إلا قطعة مرّت بي لابن المعتز، فإنها تضمنت تشبيه ستة أشياء بستة أشياء.

فأما تشبيه الواحد بالواحد فمثل قول عنترة في وصف الذباب:

هزجا يحكّ ذراعه بذراعه

قدح المكبّ على الزّناد الأجذم(١)

ومثله قول عدي بن الرّقاع:

____________________

(١) من المعلقة، ص ١٨٢ - بشرح التبريزي. الهزج: السريع الصوت.

١٢٣

تزجي أغنّ كأنّ إبرة روقه

قلم أصاب من الدّواة مدادها(١)

ومثله قول امرئ القيس:

كأنّ عيون الوحش حول قبابنا

وأرحلنا الجزع الّذي لم يثقّب(٢)

وقوله:

إذا ما الثّريّا في السّماء تعرّضت

تعرّض أثناء الوشاح المفصّل(٣)

ولذي الرّمة:

وردت اعتسافا والثّريّا كأنّها

على قمّة الرّأس ابن ماء محلّق(٤)

وهذا الباب أكثر من أن يحصى.

فأما تشبيه شيئين بشيئين فمثل قول امرئ القيس يصف عقابا:

كأنّ قلوب الطّير رطبا ويابسا

لدى وكرها العنّاب والحشف البالي(٥)

وقوله:

وكشح لطيف كالجديل مخصّر

وساق كأنبوب السّقي المذلّل(٦)

____________________

(١) الطرائف الأدبية: ٨٨. وفي حاشية الأصل: (أي تزجي البقرة ولدا في صوته غنة؛ كأن رأس قرنه قلم قد سود بمداد).

(٢) ديوانه ٨٨. الجزع، بالفتح ويكسر: الخرز اليماني.

(٣) ديوانه: ٢٧. تعرضت: أبدت عرضها، والأثناء: جمع ثني؛ وهو ما انثنى من الوشاح، والوشاح: قلائد يضم بعضها إلى بعض؛ تكون من لؤلؤ وجوهر منظومين مخالف بينهما، معطوف أحدهما على الآخر، وتتوشح به المرأة فتشده بين عاتقها وكشحها، والمفصل: المرصع ما بين كل خرزتين منه بلؤلؤة أو ذهب، وتعرض الثريا يكون عند انصبابها للمغيب. وفي طبقات الشعراء: ٧٣:" أنكر قوم قوله: (إذا ما الثريا في السماء تعرضت)، وقالوا: الثريا لا تتعرض". وقال بعض العلماء: عنى الجوزاء، وقد تفعل العرب بعض ذلك؛ قال زهير:

فتنتج لكم غلمان أشأم، كلّهم

كأحمر عاد، ثم، ترضع فتفطم

يريد أحمر ثمود.

(٤) ديوانه: ٤٠١.

(٥) ديوانه: ٧٠. العناب: ثمر أحمر، والحشف: ما يبس من التمر.

(٦) ديوانه: ٣٢. الجديل: زمام يتخذ من سيور فيجيء حسنا لينا يتثنى. والأنبوب البردي؛ وهو الّذي ينبت وسط النخل؛ يشبه به لبياضه. والسقي: النخل المسقى؛ كأنه قال كأنبوب النخل السقي، والمذلل: الّذي سقي وذلل بالماء

١٢٤

ولبشار:

كأنّ مثار النّقع فوق رءوسهم

وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه(١)

ولآخر:

كأنّ سموّ النّقع والبيض حوله

سماوة ليل أسفرت عن كواكب

وقول أبي نواس:

كأنّ صغرى وكبرى من فقاقعها

حصباء درّ على أرض من الذّهب(٢)

ولآخر:

إنّ الشّمول هي التي

جمعت لأهل الودّ شملا(٣)

شبّهتها وحبابها

بشقائق يحملن طلاّ(٤)

ولآخر:

أبصرته والكأس بين فم

منه وبين أنامل خمس

فكأنّها وكأنّ شاربها(٥)

قمر يقبّل عارض الشّمس

ولآخر:

حتى إذا جليت في الكأس خلت بها

عقيقة جليت في قشر بلّور(٦)

تعلى إذا مزجت في كأسها حببا

كأنّه عرق في خدّ مخمور

____________________

(١) ديوانه ١: ٣١٨. النقع: غبار الحرب.

(٢) حاشية الأصل: (أصل السماوة المفازة الواسعة؛ ويعني به الهواء.).

(٣) ديوانه: ٢٤٣. وفي حاشيتي الأصل، ف: (أخذ على أبي نواس استعماله (فعلى) هذه بلا ألف ولام).

(٤) الشمول: الخمر. قال في اللسان:" لأنها تشمل بريحها الناس؛ وقيل: سمعت بذلك لأن لها عصفة كعصفة الشمال".

(٥) الطل: أخف المطر وأضعفه.

(٦) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف:

* فكأنّه والكأس في يده*

جليت، من الجلوة، وبها أي مكانها؛ وفي حاشية الأصل: بلور كتنور، وبلور كسنور، كلاهما صحيح).

١٢٥

وقال البحتري:

شقائق يحملن النّدى فكأنّه

دموع التّصابي في خدود الخرائد(١)

وقال آخر:

فكأنّ الرّبيع يجلو عروسا

وكأنّا من قطره في نثار(٢)

ولأبي العباس الناشئ:

كأنّ الدّموع على خدّها

بقيّة طلّ على جلّنار

وقال ابن الرومي وأحسن:

لو كنت يوم الفراق حاضرنا

وهنّ يطفئن غلّة الوجد(٣)

لم تر إلا الدّموع سافحة

تسفح من مقلة على خدّ

كأنّ تلك الدّموع قطر ندى

يقطر من نرجس على ورد(٤)

وقال جران العود:

أبيت كأنّ اللّيل أفنان سدرة

عليها سقيط من ندى الطّلّ ينطف(٥)

أراقب لمحا من سهيل كأنّه

إذا ما بدا في آخر اللّيل يطرف

ولابن المعتز:

سقتني في ليل شبيه بشعرها

شبيهة خدّيها بغير رقيب

فأمسيت في ليلين بالشّعر والدّجى

وشمسين من خمر ووجه حبيب(٦)

____________________

(١) ديوانه ١: ١٣٦.

(٢) في حاشيتي الأصل، ف: (شبه ما تناثر عليهم من قطر المطر بالنثار).

(٣) ديوانه ورقة ٩٤ (مخطوطة دار الكتب المصرية).

(٤) في ف: (كأن العين) وهو رواية.

(٥) ديوانه: ١٣ - ١٤.

(٦) شرح ديوان المتنبي للعكبري ١: ٢٦٠.

١٢٦

وقال المتنبي:

نشرت ثلاث ذوائب من شعرها

في ليلة فأرت ليالي أربعا(١)

واستقبلت قمر السماء بوجهها

فأرتني القمرين في وقت معا(٢)

فأما تشبيه ثلاثة أشياء بثلاثة أشياء فمثل قول ماني الموسوس:

نشرت غدائر شعرها لتظلّني

خوف العيون من الوشاة الرّمق

فكأنّه وكأنّها(٣) وكأنّني

صبحان باتا تحت ليل مطبق

ولبعضهم:

روض ورد خلاله نرجس غـ

ضّ يحفّان أقحوانا نضيرا

ذا يباهي لنا خدودا، وذا يحـ

كي عيونا، وذا يضاهي ثغورا

ولآخر في النرجس:

مداهن تبر بين أوراق فضّة

لها عمد مخروطة من زبرجد

وللبحتري في وصف ضمر المطايا ونحولها:

كالقسي المعطّفات بل الأسـ

هم مبريّة بل الأوتار(٤)

ولبعض الطالبيين:

وأنا ابن معترلج البطاح إذا غدا

غيري وراح على متون ضوامر(٥)

____________________

(١) ديوانه ١: ٢٦٠.

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): (في ليل معا).

(٣) حاشية الأصل (من نسخة): (فكأنها وكأنه).

(٤) ديوانه ٢: ٢٤.

(٥) حاشية الأصل: (المعتلج: المكان الّذي تختلف فيه الأباطح؛ وأصله من اعتلجت الأمواج إذا التطمت). والبطاح: جمع بطحاء؛ وهي بطاح مكة. وعن ابن الأعرابي: قريش البطاح الذين ينزلون الشعب بين أخشبي مكة.

١٢٧

يفترّ عنّي ركنها وحطيمها

كالجفن يفتح عن سواد النّاظر

كجبالها شرفي، ومثل سهولها

خلقي، ومثل ظبائهنّ مجاوري

وأما تشبيه أربعة بأربعة فمثل قول امرئ القيس:

له أيطلا ظبي، وساقا نعامة

وإرخاء سرحان، وتقريب تتفل(١)

ولآخر:

كفّ تناول راحها بزجاجة(٢)

خضراء تقذف بالحباب وتزبد

فالكفّ عاج، والحباب لآلئ،

والرّاح تبر، والإناء زبرجد

ولبعضهم وقد أهدى إليه نرجس وأقحوان وشقائق وآس، فكتب إلى المهدي:

للّه ما أظرف أخ

لاقك يابدر الكرم

أهديت ما ناسبنها

حسنا وظرفا ومشمّ

فما رأينا مهديا

قبلك في كلّ الأمم

أهدى العيون والخدو

د والثّغور واللّمم

ولآخر:

أفدي حبيبا له بدائع أو

صاف تعالت عن كلّ ما أصف

كالبدر يعلو، والشّمس تشرق، والغزال يعطو، والغصن ينعطف(٣)

وللمتنبي:

بدت قمرا، وماست خوط بان،

وفاحت عنبرا، ورنت غزالا(٤)

____________________

(١) ديوانه: ٣٩. أيطلا الظبي: خاصرتاه؛ وخص الظبي لأنه ضامر. والسرحان: الذئب؛ والإرخاء: نوع من الجري فيه سهولة. والتتفل: ولد الثعلب. والتقريب: أن يرفع يديه معا ويضعهما معا.

(٢) حاشية الأصل: (بزجاجة، الباء للآلة؛ أي بواسطة زجاجة، ويجوز أن تكون الباء للاستصحاب).

(٣) حاشية الأصل (من نسخة): (يعطو، أي يتناول ورق الشجر، ويكون الظبي في تلك الحال أحسن).

(٤) ديوانه ٣: ٢٢٤. الخوط: القضيب.

١٢٨

ولآخر:

سفرن بدورا، وانتقبن أهلّة،

ومسن غصونا، والتفتن جآذرا(١)

وأما تشبيه خمسة بخمسة فقول الوأواء الدمشقي، وهو أبو الفرج:

وأسبلت لؤلؤا من نرجس، وسقت

وردا، وعضّت على العنّاب بالبرد(٢)

وأما تشبيه ستة بستة فلم أجده إلا لابن المعتز في قوله:

بدر وليل وغصن

وجه وشعر وقدّ(٣)

خمر وورد ودرّ

ريق وثغر وخدّ

____________________

(١) شرح العكبري للمتنبي ٢: ٢٢٤، من غير نسبة.

(٢) ديوانه: ٨٤؛ وروايته: (وأمطرت). وقبله:

قالت، وقد فتكت فينا لواحظها

كم ذا؟ أما لقتيل الحب من قود!

(٣) حاشية الأصل: (تشبيهات ابن المعتز وإن كانت ستة بستة فإنها في بيتين؛ وأعجب من ذلك وأحسن قول المخزومي:

نقا الرّدف، غصن المنثني، حيّة الحشا

دجى اللّيل، بدر الوجه، ظبي المقلّد

١٢٩

مجلس آخر

[٦١]

تأويل آية :( رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا ) ؛ [البقرة: ٢٨٦].

فقال: كيف يجوز أن يأمرنا على سبيل العبادة بالدّعاء بذلك، وعندكم أن النسيان من فعله تعالى؟ ولا تكليف على الناسي في حال نسيانه؛ وهذا يقتضي أحد أمرين: إما أن يكون النسيان من فعل العباد على ما يقوله كثير من الناس، أو نكون متعبدين بمسألته تعالى ما نعلم أنه واقع حاصل؛ لأن مؤاخذة الناسي مأمونة منه تعالى، والقول في الخطأ إذا أريد به ما وقع سهوا أو عن غير عمد يجري هذا المجرى.

الجواب، قلنا: قد قيل في تأويل هذه الآية: إنّ المراد بنسياننا تركنا.

قال أبو عليّ قطرب بن المستنير: معنى النسيان هاهنا الترك؛ كما قال تعالى:( وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ) ؛ [طه: ١١٥]، فنسي أي ترك؛ ولولا ذلك لم يكن فعله معصية، وكقوله تعالى:( نَسُوا الله فَنَسِيَهُمْ ) ؛ [التوبة: ٦٧]، أي تركوا طاعته فتركهم من ثوابه ورحمته. وقد يقول الرجل لصاحبه: لا تنسني من عطيتك، أي لا تتركني منها، وأنشد ابن عرفة(١) :

ولم أك عند الجود للجود قاليا

ولا كنت يوم الرّوع للطّعن ناسيا

أي تاركا.

ومما يمكن أن يكون على ذلك شاهدا قوله تعالى:( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ) ؛ [البقرة: ٤٤]، أي تتركون أنفسكم.

____________________

(١) حاشية الأصل: (هو نفطويه).

١٣٠

ويمكن في الآية وجه آخر على أن يحمل النسيان على السّهو وفقد المعلوم؛ ويكون وجه الدعاء بذلك ما قد بيناه فيما تقدم من الأمالي؛ من أنه على سبيل الانقطاع إلى الله تعالى، وإظهار الفقر إلى مسألته والاستعانة به؛ وان كان مأمونا منه المؤاخذة بمثله؛ ويجري مجرى قوله تعالى في تعليمنا وتأديبنا:( لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ ) ؛ [البقرة: ٢٨٦]، ومجرى قوله تعالى:

( قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ ) ، [الأنبياء: ١١٢]؛ وقوله( وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ) ؛ [الشعراء: ٨٧]؛ وقوله تعالى حاكيا عن الملائكة:( فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ ) ؛ [غافر: ٧].

وهذا الوجه يمكن أيضا في قوله تعالى:( أَوْ أَخْطَأْنا ) إذا كان الخطأ ما وقع سهوا أو عن غير عمد.

فأما على ما يطابق الوجه الأول فقد يجوز أن يريد تعالى بالخطإ ما يفعل من المعاصي بالتأويل السيّئ وعن جهل بأنها معاص، لأن من قصد شيئا على اعتقاد أنه بصفة، فوقع ما هو بخلاف معتقده يقال: قد أخطأ، فكأنه أمرهم بأن يستغفروا مما تركوه متعمدين من غير سهو ولا تأويل، ومما أقدموا عليه مخطئين متأولين.

ويمكن أيضا أن يريد ب أَخْطَأْنا هاهنا أذنبنا وفعلنا قبيحا؛ وإن كانوا له متعمدين وبه عالمين، لأن جميع معاصينا للّه تعالى قد توصف بأنها خطأ من حيث فارقت الصواب؛ وإن كان فاعلها متعمدا؛ وكأنه تعالى أمرهم بأن يستغفروا مما تركوه من الواجبات؛ ومما فعلوه من المقبّحات، ليشتمل الكلام على جهتي الذنوب؛ والله أعلم بمراده.

***

أخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال حدثني محمد بن العباس قال: قال رجل يوما لأبي العباس

١٣١

محمد بن يزيد النحوي: ما أعرف ضادية أحسن من ضادية أبي الشّيص(١) فقال له: كم ضادية حسنة لا تعرفها! ثم أنشده لبشار:

غمض الجديد بصاحبيك فغمّضا

وبقيت تطلب في الحبالة منهضا(٢)

وكأنّ قلبي عند كلّ مصيبة

عظم تكرّر صدعه فتهيّضا

وأخ سلوت له، فأذكره أخ

فمضى، وتذكرك الحوادث ما مضى(٣)

فاشرب على تلف الأحبّة إنّنا

جزر المنيّة، ظاعنين وخفّضا(٤)

ولقد جريت مع الصّبا طلق الصّبا

ثمّ ارعويت فلم أجد لي مركضا(٥)

وعلمت ما علم امرؤ في دهره

فأطعت عذّالي، وأعطيت الرّضا

وصحوت من سكر وكنت موكّلا

أرعى الحمامة والغراب الأبيضا

الحمامة: المرآة، والغراب الأبيض: الشعر الشائب؛ فيقول: كنت كثيرا أتعهد نفسي بالنظر في المرآة وترطيل(٦) الشعر.

وقوله: (والغراب الأبيض) لأن الشعر كان غربيبا أسود؛ من حيث كان شابا ثم ابيض بالشيب -

ما كلّ بارقة تجود بمائها

وكذاك لو صدق الرّبيع لروّضا(٧)

____________________

(١) مطلعها:

لا تنكري صدّي ولا إعراضي

ليس المقلّ عن الزّمان براض

وأبيات منها في حماسة ابن الشجري ٢٠٠، ٢٤٠، واللآلي ٣٣٨، ونكت الهميان ٢٥٨، وعيون الأخبار ٤: ٥٢.

(٢) المختار من شعر بشار ص ٢٥ مع اختلاف في الرواية وعدد الأبيات. والجديد: الزمان.

(٣) رواية المختار:

* وأخ فجعت به وكان مؤمّلا*

(٤) حاشية الأصل: (أي راحلين ومقيمين).

(٥) الطلق والشأو والشوط بمعنى؛ يقال:

أجريت الفرس شأوا وطلقا وشوطا؛ إذا أجريته مرة واحدة، وارعويت: أقصرت وأفلعت عما كنت عليه.

(٦) ترطيل الشعر: تدهينه وتكسيره.

(٧) ف: (فروضا) ويقال: روض الربيع؛ إذا أنبت رياضا.

١٣٢

هكذا أنشده المبرّد، ويحيى بن عليّ، وأنشده ابن الأعرابي:

ما كلّ(١) بارقة تجود بمائها

ولربما صدق الرّبيع فروّضا(٢)

قد ذقت ألفته، وذقت فراقه

فوجدت ذا عسلا، وذا جمر الغضا

ياليت شعري! فيم كان صدوده

أأسأت أم رعد السّحاب وأومضا!

وغير من ذكرنا يرويه: (أم أجم الخلال فأحمضا) -(٣) .

ويلي عليه، وويلتي من بينه!

كان الّذي قد كان حلما فانقضى

سبحان من كتب الشقاء لذي الهوى

ما كان إلاّ كالخضاب فقد نضا

قال المبرّد: وهي طويلة.

وذكر يوسف بن يحيى بن عليّ عن أبيه أنّ أبا نواس أخذ قوله:

جريت مع الصّبا طلق الجموح(٤) من قول بشار:

ولقد جريت مع الصّبا طلق الصّبا

قال سيدنا الشريف المرتضى ذو المجدين أدام الله علوّه: ولأبي تمام والبحتري على هذا الوزن والقافية وحركة القافية قصيدتان، إن لم يزيدا على ضادية بشار التي استحسنها المبرّد لم يقصرا(٥) عنها؛ وأول قصيدة أبي تمام:

____________________

(١) حاشية الأصل (من نسخة): (من كل بارقة).

(٢) بين هذا البيت والّذي يليه وردت في المختار الأبيات التالية؛ وبها يتم المعنى:

ومنيفة شرفا جعلت لها الهوى

إما مكافأة وإما مقرضا

حتى إذا شربت بماء مودّتي

وشربت برد رضابها متبرّضا

قالت لتربيها: اذهبا فتحسّسا

ما باله ترك السلام وأعرضا!

(٣) أجم: كره، وفي حاشية الأصل: (الحلة: ما حلا من النبت، والحمض: ما حمض؛ ولذلك يقال:

الحلة خبز الإبل، والحمض: فاكهتها؛ يقول: لا أعلم سبب فراقه، أإساءة صدرت مني إليه أو ملال بدا له ففارقني. وضرب الخلة والحمض مثلا لذلك).

(٤) ديوانه: ٢٥٧، وبقيته:

* وهان عليّ مأثور القبيح*

(٥) حاشية الأصل: (نسخة س): (تقصّرا)

١٣٣

أهلوك أضحوا شاخصا(١) ومقوّضا

ومزمّما يصف النّوى ومغرّضا(٢)

إن يدج عيشك أنهم أمّوا اللّوى

فبما إضاؤهم على ذات الأضا(٣)

بدّلت من برق الثّغور وبردها

برقا إذا ظعن الأحبة أومضا(٤)

يقول فيها:

ما أنصف الشّرخ الّذي بعث الهوى

فقضى عليك بلوعة ثمّ انقضى(٥)

عندي من الأيام ما لو أنّه

أضحى بشارب مرقد ما غمّضا(٦)

لا تطلبنّ الرّزق بعد شماسه

فترومه سبعا إذا ما غيّضا(٧)

ما عوّض الصّبر امرؤ إلاّ رأى

ما فاته دون الّذي قد عوّضا

ياأحمد بن أبي دؤاد دعوة

ذلّت بذكرك لي وكانت ريّضا(٨)

لمّا انتضيتك للخطوب كفيتها

والسّيف لا يرضيك حتى ينتضى

يقول فيها:

قد كان صوّح نبت كلّ قرارة(٩)

حتى تروّح في نداك فروّضا

أوردتني العدّ الخسيف وقد أرى

أتبرّض الثّمد البكي تبرّضا(١٠)

وأما قصيدة البحتري فأوّلها:

ترك السّواد للابسيه وبيّضا

ونضا من السّتين عنه ما نضا(١١)

وشآه(١٢) أغيد في تصرّف لحظه

مرض أعلّ به القلوب وأمرضا

____________________

(١) حاشية الأصل: في شعره: (راحلا).

(٢) ديوانه: ١٨٥، وفي حاشية الأصل: (التقويض: هدم الخيمة، والتغريض: شد الغرضة؛ وهي التصدير، وهو للرحل بمنزلة الحزام للسرج).

(٣) إن يدج: إن يظلم، وفي الديوان: (إن يدج ليلك).

(٤) حاشية الأصل: (أي صرت أشيم البرق من ناحيتهم وأتذكرهم).

(٥) الشرخ: غرة الشباب، وفي الديوان: (الزمن).                                (٦) المرقد: دواء إذا شربه الإنسان نام.

(٧) شماسه: عصيانه، وغيض السبع: مكث في الغيضة.

(٨) في الديوان: (بشكرك لي)، وفي حاشية الأصل (من نسخة): (ببرّك).     (٩) القرارة: الروضة المنخفضة.

(١٠) العدّ: الماء الدائم الّذي لا انقطاع لمادته، والخسيف: البئر التي حفرت في حجارة فخرج منها ماء كثير. وأتبرض: آخذ قليلا. والثمد والبكي: الماء القليل.                                             (١١) ديوانه ٢: ٧٠.

(١٢) شآه: سبقه، وفي حاشية الأصل (من نسخة): (وسباه).

١٣٤

وكأنّه وجد الصّبا وجديده

دينا دنا ميقاته أن يقتضي

أسيان أثرى من جوى وصبابة

وأساف من وصل الحسان وأنفضا(١)

كلف يكفكف عبرة مهراقة

أسفا على عهد الشّباب وما انقضى

عدد تكامل للشّباب مجيئه

وإذا مضي الشّيء حان فقد مضى

يقول فيها:

قعقعت للبخلاء أذعر جأشهم

ونذيرة من قاصل أن ينتضى(٢)

وكفاك من حنش الصّريم تهدّدا

أن مدّ فضل لسانه أو نضنضا(٣)

وفيها:

لا تنكرن من جار بيتك أن طوى

أطناب جانب بيته أو قوّضا(٤)

فالأرض واسعة لنقلة راغب

عمّن تنقّل ودّه وتنقّضا

لا تهتبل إغضاءتي، إما كنت قد(٥)

أغضيت مشتملا على جمر الغضا

لست الّذي إن عارضته ملمّة

أصغي إلى حكم الزّمان وفوّضا

لا يستفزّني الطّفيف ولا أرى

تبعا لبارق خلّب إن أومضا(٦)

أنا من أحبّ تحرّيا وكأنني

فيما أعاين منك(٧) ممّن أبغضا

أغببت سيبك كي يجمّ وإنّما

غمد الحسام المشرفي لينتضى(٨)

____________________

(١) الأسيان هنا: الحزين، وأساف الرجل: ذهب ماله، وكذلك أنفض، والمراد هنا أنه ذهب من يده وصل الحسان وميلهن إليه.

(٢) القعقعة: صوت السلاح، ونذيرة: إنذار، والقاصل: السيف.

وفي حاشية الأصل (من نسخة): (من نابل أن ينبضا)، أي يحرك وتر قوسه.

(٣) حنش الصريم: حية الرمل.

(٤) أي ارتحل عنك وسافر.

(٥) حاشية الأصل (من نسخة):

* لا تهتبل إغضاءتي إن كنت قد*

وهي رواية الديوان.

(٦) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (لبارق خلة).

(٧) حاشية الأصل (من نسخة): (فيما أعاني).

(٨) أغبيت، أخرت، ومنه إغباب الزيارة، وهو أن يزور يوما وبترك يوما. والسيب: العطية، ويجم: يكثر ويجتمع.

١٣٥

وسكتّ إلاّ أن أعرّض قائلا

نزرا، وصرّح جهده من عرّضا

***

وأخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال حدّثني يوسف بن يحيى عن أبيه قال: من مختار شعر بشار قوله في وصف الزمان:

عتبت على الزّمان وأي حي

من الأحياء أعتبه الزّمان!(١)

وآمنة من الحدثان تزري

عليّ، وليس من حدث أمان

وليس بزائل يرمي ويرمى

معان مرّة أو مستعان(٢)

متى تأب الكرامة من كريم

فمالك عنده إلاّ الهوان

وله في نحوه:

ياخليلي أصيبا أو ذرا

ليس كلّ البرق يهدي المطرا

لا تكونا كامرئ صاحبته

يترك العين ويبغي الأثرا

ذهب المعروف إلاّ ذكره

ربّما أبكى الفتى ما ذكرا

وبقينا في زمان معضل

يشرب الصّفو، ويبقي الكدرا(٣)

قال: وله:

قد أدرك الحاجة ممنوعة

وتولع النّفس بما لا تنال

والهمّ ما امسكته في الحشا

داء، وبعض الدّاء لا يستقال

فاحتمل الهمّ على عاتق

إن لم تساعفك العلندي الجلال(٤)

____________________

(١) أعتبه: أرضاه.

(٢) حاشية الأصل: (يقول: لا يزال الحي يرمي ويرمى؛ فهو معان ضعيف مرة؛ ومستعان قوي أخرى).

(٣) حاشية الأصل: (أي يذهب الدهر الكرام ويبقى اللئام).

(٤) العلندي: الجمل القوي، والجلال: العظيم.

١٣٦

قال يحيى: قوله: (عاتق) يعني الخمر، وهذا مثل قوله:

رحلت عنسا من شراب بابل

فبتّ من عقلي على مراحل(١)

قال سيدنا أدام الله تمكينه: هذا الّذي ذكره يحتمله البيت على استكراه، ويحتمل أيضا أن يريد بالعاتق العضو، ويكون المعنى: إن لم تجد من يحمل عنك همومك ويقوم بأثقالك، ويخفف عنك، فتحمّل ذلك أنت بنفسك، واصبر عليه؛ فكأنّه يأمر نفسه بالتجلّد والتصبر على البأس، وهذا البيت له نظائر كثيرة في الشعر.

***

وأخبرنا المرزباني قال حدثنا علي بن هارون قال حدثني أبي قال: من بارع شعر بشار قوله يصف جارية مغنية. قال علي: وما في الدنيا شيء لقديم ولا محدث من منثور ولا منظوم في صفة الغناء واستحسانه مثل هذه الأبيات:

ورائحة، للعين فيها مخيلة

إذا برقت لم تسق بطن صعيد(٢)

من المستهلاّت الهموم على الفتى

خفا برقها في عصفر وعقود(٣)

حسدت عليها كلّ شيء يمسّها

وما كنت لولا حبّها بحسود

وأصفر مثل الزّعفران شربته

على صوت صفراء التّرائب رود(٤)

كأنّ أميرا جالسا في ثيابها

تؤمّل رؤياه عيون وفود

من البيض لم تسرح على أهل ثلّة

سواما، ولم ترفع حداج قعود(٥)

____________________

(١) في حاشيتي الأصل، ف: (أوله:

لمّا رأيت الحظّ حظّ الجاهل

ولم أر المغبون غير العاقل

والعنس: الجمل القوي.

(٢) المختار من شعر بشار ٣٠٩، والأغاني ٣: ١٨٩ (طبع دار الكتب المصرية). الرائحة: السحابة تروح؛ والمخيلة: علامة المطر.

(٣) استهل السحاب:

إذا أمطر، وفي الأغاني: (المستهلات السرور)، وخفى البرق: ظهر ولمع، وأراد بالعصفر: الثياب المعصفرة.

(٤) رود: ناعمة.

(٥) النلة: قطعة من الغنم، والسوام: الإبل السائمة، والحداج: جمع حدج؛ وهو مركب من مراكب النساء.

١٣٧

تميت به ألبابنا وقلوبنا

مرارا، وتحييهنّ بعد همود

إذا نطقت صحنا، وصاح لنا الصّدى

صياح جنود وجّهت لجنود

ظللنا بذاك الدّيدن اليوم كلّه

كأنا من الفردوس تحت خلود(١)

ولا بأس إلاّ أنّنا عند أهلنا

شهود، وما ألبابنا بشهود

قال: وأنشدني أبي له في وصف مغنية:

لعمرو أبى زوّارها الصّيد إنّهم

لفي منظر منها وحسن سماع(٢)

تصلّي لها آذاننا وعيوننا

إذا ما التقينا والقلوب دواع

وصفراء مثل الخيزرانة لم تعش

ببؤس ولم تركب مطيّة راع

جرى اللؤلؤ المكنون فوق لسانها

لزوّارها من مزهر ويراع(٣)

إذا قلّدت أطرافها(٤) العود زلزلت

قلوبا دعاها للوساوس داع

كأنّهم في جنّة قد تلاحقت

محاسنها من روضة ويفاع(٥)

يروحون من تغريدها وحديثها

نشاوى، وما تسقيهم بصواع

لعوب بألباب الرّجال، وإن دنت

أطيع التقى، والغي غير مطاع

قال علي بن هارون: الصّواع: المكيال؛ يقول: إذا غنّت شربوا جزافا بلا كيل ولا مقدار من حسن ما يسمعون.

قال سيدنا أدام الله علوه: هذا خطأ منه؛ وإنما المراد أن غناءها لفرط حسنه(٦) وشدة(٧) إطرابه ينسيان شرّة الخمر(٨) ؛ وإن لم يكن هناك شرب بصواع، وهذا يجري مجرى قول الشاعر:

____________________

(١) الديدن: العادة.

(٢) المختار من شعر بشار: ٣١٤.

(٣) هذا البيت ساقط من م. المزهر: العود، واليراع: القصب؛ وأراد به هاهنا المزمار. وفي حاشية الأصل: (هذا البيت يفيد أنها تغني وتضرب بالمزهر، وقوله: (من مزهر ويراع) إشارة إلى أن كلامهما مختلط الجرس بنقر المزهر واليراع).

(٤) رواية المختار: (إذا قلبت أطرافها).

(٥) اليفاع: المرتفع من الأرض.

(٦) حاشية الأصل (من نسخة): (حسنها).

(٧) حاشية الأصل (من نسخة): (سورة إطرابه).

(٨) حاشية الأصل: (في نسخة الشجري: الهم).

١٣٨

ويوم ظللنا عند أمّ محلّم

نشاوى، ولم نشرب طلاء ولا خمرا

وما كان عندي أن أحدا يتوهم في معنى هذا البيت ما ظنه هذا الرجل.

وأما قوله في القطعة الأولى:

وأصفر مثل الزّعفران شربته

على صوت صفراء الترائب رود

فيحتمل وجوها ثلاثة:

أولها أن يكون أراد بصفرة ترائبها الكناية عن كثرة تطيّبها وتضمّخها، وأن ترائبها تصفرّ لذلك، كما قال الأعشى:

بيضاء ضحوتها، وصف

راء العشيّة كالعرارة(١)

والعرار: بهار البرّ؛ وإنما أراد أنها تتضمّخ بالعشي بالطيب فيصفّرها؛ ومثله لذي الرّمة:

بيضاء في دعج، كحلاء في برج،

كأنّها فضّة قد مسّها ذهب(٢)

وقيل في بيت قيس بن الخطيم:

فرأيت مثل الشّمس عند طلوعها

في الحسن، أو كدنوّها لغروب(٣)

وجهان:

أحدهما أنه أراد أنها تتطيّب بالعشي فتصفرّ؛ لأن الشمس تغيب صفراء الوجه.

والآخر أراد المبالغة في الحسن، لأن الشمس أحسن ما تكون في وقتيها هذين؛ ومن ذلك أيضا قول قيس بن الخطيم:

____________________

(١) ديوانه: ١١١.

(٢) ديوانه: ٥، والدعج: سواد الحدقة، والبرج: سعة في بياض العين؛ ورواية الديوان:

* كحلاء في برج صفراء في نعج*

(٣) ديوانه ٥، وفي حاشيتي الأصل، ف (بعده:

صفراء أعجلها الشباب لداتها

موسومة بالحسن غير قطوب

أي أنها سبقت أقرانها، ومثله قول ابن قيس الرقيات:

لم تلتفت للداتها

فمضت على غلوائها

١٣٩

* صفراء أعجلها الشّباب لداتها*

ومثله للأعشى:

إذا جرّدت يوما حسبت خميصة

عليها وجريال النّضير الدّلامصا(١)

الخميصة: ثوب ناعم لين؛ شبه به نعمة جسمها. والنّضير: الذهب. والجريال: كلّ صبغ أحمر، وإنما يعني لون الطّيب عليها. والدّلامص: البرّاق، فهذا وجه.

والوجه الثاني أن يكون أراد بوصفها بالصفرة رقّة لونها؛ فعندهم أنّ المرأة إذا كانت صافية اللون رقيقة ضرب لونها بالعشي إلى الصفرة.

قال مهدي بن عليّ الأصفهاني: قال لي أبي قال لي الجاحظ: زعموا أن المرأة إذا كانت صافية اللون رقيقة يضرب لونها بالغداة إلى البياض وبالعشي إلى الصفرة، واحتجّ في ذلك بقول الراجز:

* قد علمت بيضاء صفراء الأصل*

وزعم أن بيت ذي الرمة الّذي أنشدناه من هذا المعنى، وكذلك بيت الأعشى الّذي أنشدناه؛ والأبيات محتملة للأمرين.

فأما الّذي لا يحتمل إلا وجها واحدا فهو قول الشاعر:

وقد خنقتها عبرة فدموعها

على خدّها حمر وفي نحرها صفر

لأنها لا تكون صفرا في نحرها إلا لأجل الطيب.

فأما قوله (على خدها حمر) فإنما أراد أنها تنصبغ بلون خدّها.

والوجه الثالث أن تكون المرأة كانت صفراء على الحقيقة؛ فإن بشارا كثيرا ما يشبّب بامرأة صفراء، كقوله:

____________________

(١) ديوانه: ١٠٨.

١٤٠