أمالي المرتضى الجزء ٢

أمالي المرتضى9%

أمالي المرتضى مؤلف:
تصنيف: مكتبة اللغة والأدب
الصفحات: 403

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 403 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 68064 / تحميل: 10311
الحجم الحجم الحجم
أمالي المرتضى

أمالي المرتضى الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

قال:" وينبغي ألا يستثني مشيئة دون مشيئة، لأنه إن استثنى في ذلك مشيئة الله لمصيره إلى المسجد على وجه التعبد، فهو أيضا لا يأمن أن يكون خبره كذبا؛ لأن الإنسان قد يترك كثيرا مما يشاؤه الله تعالى منه ويتعبده به، ولو كان استثناء مشيئة الله لأن يبقيه ويقدره ويرفع عنه الموانع كان أيضا لا يأمن أن يكون خبره كذبا؛ لأنه قد يجوز ألاّ يصير إلى المسجد مع تبقية الله تعالى له قادرا مختارا، فلا يأمن من الكذب في هذا الخبر دون أن يستثني المشيئة العامة التي ذكرناها، فإذا دخلت هذه المشيئة في الاستثناء فقد أمن أن يكون خبره كذبا إذا كانت هذه المشيئة متى وجدت وجب أن يدخل المسجد لا محالة".

قال:" وبمثل هذا الاستثناء يزول الحنث عمن حلف فقال: والله لأصيرنّ غدا إلى المسجد إن شاء الله، لأنه إن استثنى على سبيل ما بيّنا لم يجز أن يحنث في يمينه، ولو خص استثناءه بمشيئة بعينها ثم كانت ولم يدخل معها المسجد حنث في يمينه".

وقال غير أبي عليّ: إن المشيئة المستثناة هاهنا هي مشيئة المنع والحيلولة؛ فكأنه قال:

إن شاء الله يخليني ولا يمنعني.

وفي الناس من قال: القصد بذلك أن يقف الكلام على جهة القطع وإن لم يلزم به ما كان يلزم لولا الاستثناء، ولا ينوي في ذلك إلجاء ولا غيره؛ وهذا الوجه يحكى عن الحسن البصري.

واعلم إن في الاستثناء(١) الداخل على الكلام وجوها مختلفة؛ فقد يدخل على الأيمان والطلاق والعتاق وسائر العقود وما يجري مجراها من الأخبار؛ فإذا دخل ذلك اقتضى التوقيف عن إمضاء الكلام والمنع من لزوم ما يلزم به إزالته عن الوجه الّذي وضع له؛ ولذلك يصير ما تكلّم به كأنه لا حكم له؛ ولذلك يصح على هذا الوجه أن يستثني في الماضي فيقول: قد

____________________

(١) د، ف: (للاستثناء).

١٢١

دخلت الدار إن شاء الله، ليخرج بهذا الاستثناء من أن يكون كلامه خبرا قاطعا أو يلزمه حكم.

وإنما لم يصحّ دخوله فى المعاصي على هذا الوجه؛ لأن فيه إظهار الانقطاع(١) إلى الله تعالى؛ والمعاصي لا يصح ذلك فيها؛ وهذا الوجه أحد(٢) ما يحتمله تأويل الآية.

وقد يدخل الاستثناء في الكلام فيراد به اللطف والتسهيل. وهذا الوجه يخصّ الطاعات، ولهذا الوجه جرى قول القائل: لأقضينّ غدا ما عليّ من الدين، ولأصلّينّ غدا إن شاء الله مجرى أن يقول: إني أفعل ذلك إن لطف الله تعالى فيه وسهّله؛ فعلم أن المقصد واحد، وأنه متى قصد الحالف فيه هذا الوجه لم يجب إذا لم يقع(٣) منه هذا الفعل أن يكون حانثا وكاذبا، لأنه إن لم يقع علمنا أنه لم يلطف له(٤) ، لأنه لا لطف له.

وليس لأحد أن يعترض هذا بأن يقول: الطاعات لا بدّ فيها من لطف؛ وذلك لأنّ فيها ما لا لطف فيه جملة، فارتفاع ما هذه سبيله يكشف عن أنه لا لطف فيه، وهذا الوجه لا يصح أن يقال في الآية أنه يخص الطاعات؛ والآية تتناول كلّ ما لم يكن قبيحا؛ بدلالة إجماع(٥) المسلمين على حسن الاستثناء ما تضمنته في فعل ما لم يكن قبيحا.

وقد يدخل الاستثناء في الكلام ويراد به التسهيل والإقدار والتخلية والبقاء على ما هي عليه من الأحوال؛ وهذا هو المراد به إذا دخل في المباحات.

وهذا الوجه يمكن في الآية إلا أنه يعترضه ما ذكره أبو علي مما حكيناه من كلامه.

وقد يذكر استثناء المشيئة أيضا في الكلام وإن لم يرد به في شيء مما تقدم؛ بل يكون الغرض إظهار الانقطاع إلى الله تعالى من غير أن يقصد إلى شيء من الوجوه المتقدمة.

وقد يكون هذا الاستثناء غير معتدّ به في كونه كاذبا أو صادقا؛ لأنه في الحكم كأنه

____________________

(١) م: (إظهارا للانقطاع).

(٢) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (أجود).

(٣) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (وإن لم يقع منه).

(٤) حاشية الأصل (من نسخة): (لم يلطف فيه).

(٥) ف، وحاشية الأصل (من نسخة): (اجتماع).

١٢٢

قال: لأفعلنّ كذا إذا وصلت إلى مرادي مع انقطاعي إلى الله تعالى وإظهاري الحاجة إليه؛ وهذا الوجه أيضا مما يمكن في تأويل الآية.

ومن تأمل جملة ما ذكرناه من الكلام عرف منه الجواب عن المسألة التي لا يزال يسأل عنها المخالفون من قولهم: لو كان الله تعالى إنما يريد العبادات من الأفعال دون المعاصي لوجب إذا قال من لغيره عليه دين طالبه به: والله لأعطينّك حقّك غدا إن شاء الله أن يكون كاذبا أو حانثا إذا لم يفعل؛ لأن الله تعالى قد شاء ذلك منه عندكم، وإن كان لم يقع؛ فكان يجب أن تلزمه الكفارة؛ وألا يؤثر هذا الاستثناء في يمينه، ولا يخرجه عن كونه حانثا؛ كما أنه لو قال: والله لأعطينّك حقك غدا إن قدم زيد فقدم ولم يعطه يكون حانثا؛ وفي إلزام هذا الحنث خروج عن إجماع المسلمين، فصار ما أوردناه جامعا لبيان تأويل الآية، وللجواب عن هذه المسألة ونظائرها من المسائل، والحمد للّه وحده.

***

قال سيدنا أدام الله تمكينه: تأمّلت ما اشتملت عليه تشبيهات الشعراء فوجدت أكثر ما شبهوا فيه الشيء بالشيء الواحد، أو الشيئين بالشيئين؛ وقد تجاوزوا ذلك إلى تشبيه ثلاثة بثلاثة، وأربعة بأربعة، وهو قليل؛ ولم أجد من تجاوز هذا القدر إلا قطعة مرّت بي لابن المعتز، فإنها تضمنت تشبيه ستة أشياء بستة أشياء.

فأما تشبيه الواحد بالواحد فمثل قول عنترة في وصف الذباب:

هزجا يحكّ ذراعه بذراعه

قدح المكبّ على الزّناد الأجذم(١)

ومثله قول عدي بن الرّقاع:

____________________

(١) من المعلقة، ص ١٨٢ - بشرح التبريزي. الهزج: السريع الصوت.

١٢٣

تزجي أغنّ كأنّ إبرة روقه

قلم أصاب من الدّواة مدادها(١)

ومثله قول امرئ القيس:

كأنّ عيون الوحش حول قبابنا

وأرحلنا الجزع الّذي لم يثقّب(٢)

وقوله:

إذا ما الثّريّا في السّماء تعرّضت

تعرّض أثناء الوشاح المفصّل(٣)

ولذي الرّمة:

وردت اعتسافا والثّريّا كأنّها

على قمّة الرّأس ابن ماء محلّق(٤)

وهذا الباب أكثر من أن يحصى.

فأما تشبيه شيئين بشيئين فمثل قول امرئ القيس يصف عقابا:

كأنّ قلوب الطّير رطبا ويابسا

لدى وكرها العنّاب والحشف البالي(٥)

وقوله:

وكشح لطيف كالجديل مخصّر

وساق كأنبوب السّقي المذلّل(٦)

____________________

(١) الطرائف الأدبية: ٨٨. وفي حاشية الأصل: (أي تزجي البقرة ولدا في صوته غنة؛ كأن رأس قرنه قلم قد سود بمداد).

(٢) ديوانه ٨٨. الجزع، بالفتح ويكسر: الخرز اليماني.

(٣) ديوانه: ٢٧. تعرضت: أبدت عرضها، والأثناء: جمع ثني؛ وهو ما انثنى من الوشاح، والوشاح: قلائد يضم بعضها إلى بعض؛ تكون من لؤلؤ وجوهر منظومين مخالف بينهما، معطوف أحدهما على الآخر، وتتوشح به المرأة فتشده بين عاتقها وكشحها، والمفصل: المرصع ما بين كل خرزتين منه بلؤلؤة أو ذهب، وتعرض الثريا يكون عند انصبابها للمغيب. وفي طبقات الشعراء: ٧٣:" أنكر قوم قوله: (إذا ما الثريا في السماء تعرضت)، وقالوا: الثريا لا تتعرض". وقال بعض العلماء: عنى الجوزاء، وقد تفعل العرب بعض ذلك؛ قال زهير:

فتنتج لكم غلمان أشأم، كلّهم

كأحمر عاد، ثم، ترضع فتفطم

يريد أحمر ثمود.

(٤) ديوانه: ٤٠١.

(٥) ديوانه: ٧٠. العناب: ثمر أحمر، والحشف: ما يبس من التمر.

(٦) ديوانه: ٣٢. الجديل: زمام يتخذ من سيور فيجيء حسنا لينا يتثنى. والأنبوب البردي؛ وهو الّذي ينبت وسط النخل؛ يشبه به لبياضه. والسقي: النخل المسقى؛ كأنه قال كأنبوب النخل السقي، والمذلل: الّذي سقي وذلل بالماء

١٢٤

ولبشار:

كأنّ مثار النّقع فوق رءوسهم

وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه(١)

ولآخر:

كأنّ سموّ النّقع والبيض حوله

سماوة ليل أسفرت عن كواكب

وقول أبي نواس:

كأنّ صغرى وكبرى من فقاقعها

حصباء درّ على أرض من الذّهب(٢)

ولآخر:

إنّ الشّمول هي التي

جمعت لأهل الودّ شملا(٣)

شبّهتها وحبابها

بشقائق يحملن طلاّ(٤)

ولآخر:

أبصرته والكأس بين فم

منه وبين أنامل خمس

فكأنّها وكأنّ شاربها(٥)

قمر يقبّل عارض الشّمس

ولآخر:

حتى إذا جليت في الكأس خلت بها

عقيقة جليت في قشر بلّور(٦)

تعلى إذا مزجت في كأسها حببا

كأنّه عرق في خدّ مخمور

____________________

(١) ديوانه ١: ٣١٨. النقع: غبار الحرب.

(٢) حاشية الأصل: (أصل السماوة المفازة الواسعة؛ ويعني به الهواء.).

(٣) ديوانه: ٢٤٣. وفي حاشيتي الأصل، ف: (أخذ على أبي نواس استعماله (فعلى) هذه بلا ألف ولام).

(٤) الشمول: الخمر. قال في اللسان:" لأنها تشمل بريحها الناس؛ وقيل: سمعت بذلك لأن لها عصفة كعصفة الشمال".

(٥) الطل: أخف المطر وأضعفه.

(٦) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف:

* فكأنّه والكأس في يده*

جليت، من الجلوة، وبها أي مكانها؛ وفي حاشية الأصل: بلور كتنور، وبلور كسنور، كلاهما صحيح).

١٢٥

وقال البحتري:

شقائق يحملن النّدى فكأنّه

دموع التّصابي في خدود الخرائد(١)

وقال آخر:

فكأنّ الرّبيع يجلو عروسا

وكأنّا من قطره في نثار(٢)

ولأبي العباس الناشئ:

كأنّ الدّموع على خدّها

بقيّة طلّ على جلّنار

وقال ابن الرومي وأحسن:

لو كنت يوم الفراق حاضرنا

وهنّ يطفئن غلّة الوجد(٣)

لم تر إلا الدّموع سافحة

تسفح من مقلة على خدّ

كأنّ تلك الدّموع قطر ندى

يقطر من نرجس على ورد(٤)

وقال جران العود:

أبيت كأنّ اللّيل أفنان سدرة

عليها سقيط من ندى الطّلّ ينطف(٥)

أراقب لمحا من سهيل كأنّه

إذا ما بدا في آخر اللّيل يطرف

ولابن المعتز:

سقتني في ليل شبيه بشعرها

شبيهة خدّيها بغير رقيب

فأمسيت في ليلين بالشّعر والدّجى

وشمسين من خمر ووجه حبيب(٦)

____________________

(١) ديوانه ١: ١٣٦.

(٢) في حاشيتي الأصل، ف: (شبه ما تناثر عليهم من قطر المطر بالنثار).

(٣) ديوانه ورقة ٩٤ (مخطوطة دار الكتب المصرية).

(٤) في ف: (كأن العين) وهو رواية.

(٥) ديوانه: ١٣ - ١٤.

(٦) شرح ديوان المتنبي للعكبري ١: ٢٦٠.

١٢٦

وقال المتنبي:

نشرت ثلاث ذوائب من شعرها

في ليلة فأرت ليالي أربعا(١)

واستقبلت قمر السماء بوجهها

فأرتني القمرين في وقت معا(٢)

فأما تشبيه ثلاثة أشياء بثلاثة أشياء فمثل قول ماني الموسوس:

نشرت غدائر شعرها لتظلّني

خوف العيون من الوشاة الرّمق

فكأنّه وكأنّها(٣) وكأنّني

صبحان باتا تحت ليل مطبق

ولبعضهم:

روض ورد خلاله نرجس غـ

ضّ يحفّان أقحوانا نضيرا

ذا يباهي لنا خدودا، وذا يحـ

كي عيونا، وذا يضاهي ثغورا

ولآخر في النرجس:

مداهن تبر بين أوراق فضّة

لها عمد مخروطة من زبرجد

وللبحتري في وصف ضمر المطايا ونحولها:

كالقسي المعطّفات بل الأسـ

هم مبريّة بل الأوتار(٤)

ولبعض الطالبيين:

وأنا ابن معترلج البطاح إذا غدا

غيري وراح على متون ضوامر(٥)

____________________

(١) ديوانه ١: ٢٦٠.

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): (في ليل معا).

(٣) حاشية الأصل (من نسخة): (فكأنها وكأنه).

(٤) ديوانه ٢: ٢٤.

(٥) حاشية الأصل: (المعتلج: المكان الّذي تختلف فيه الأباطح؛ وأصله من اعتلجت الأمواج إذا التطمت). والبطاح: جمع بطحاء؛ وهي بطاح مكة. وعن ابن الأعرابي: قريش البطاح الذين ينزلون الشعب بين أخشبي مكة.

١٢٧

يفترّ عنّي ركنها وحطيمها

كالجفن يفتح عن سواد النّاظر

كجبالها شرفي، ومثل سهولها

خلقي، ومثل ظبائهنّ مجاوري

وأما تشبيه أربعة بأربعة فمثل قول امرئ القيس:

له أيطلا ظبي، وساقا نعامة

وإرخاء سرحان، وتقريب تتفل(١)

ولآخر:

كفّ تناول راحها بزجاجة(٢)

خضراء تقذف بالحباب وتزبد

فالكفّ عاج، والحباب لآلئ،

والرّاح تبر، والإناء زبرجد

ولبعضهم وقد أهدى إليه نرجس وأقحوان وشقائق وآس، فكتب إلى المهدي:

للّه ما أظرف أخ

لاقك يابدر الكرم

أهديت ما ناسبنها

حسنا وظرفا ومشمّ

فما رأينا مهديا

قبلك في كلّ الأمم

أهدى العيون والخدو

د والثّغور واللّمم

ولآخر:

أفدي حبيبا له بدائع أو

صاف تعالت عن كلّ ما أصف

كالبدر يعلو، والشّمس تشرق، والغزال يعطو، والغصن ينعطف(٣)

وللمتنبي:

بدت قمرا، وماست خوط بان،

وفاحت عنبرا، ورنت غزالا(٤)

____________________

(١) ديوانه: ٣٩. أيطلا الظبي: خاصرتاه؛ وخص الظبي لأنه ضامر. والسرحان: الذئب؛ والإرخاء: نوع من الجري فيه سهولة. والتتفل: ولد الثعلب. والتقريب: أن يرفع يديه معا ويضعهما معا.

(٢) حاشية الأصل: (بزجاجة، الباء للآلة؛ أي بواسطة زجاجة، ويجوز أن تكون الباء للاستصحاب).

(٣) حاشية الأصل (من نسخة): (يعطو، أي يتناول ورق الشجر، ويكون الظبي في تلك الحال أحسن).

(٤) ديوانه ٣: ٢٢٤. الخوط: القضيب.

١٢٨

ولآخر:

سفرن بدورا، وانتقبن أهلّة،

ومسن غصونا، والتفتن جآذرا(١)

وأما تشبيه خمسة بخمسة فقول الوأواء الدمشقي، وهو أبو الفرج:

وأسبلت لؤلؤا من نرجس، وسقت

وردا، وعضّت على العنّاب بالبرد(٢)

وأما تشبيه ستة بستة فلم أجده إلا لابن المعتز في قوله:

بدر وليل وغصن

وجه وشعر وقدّ(٣)

خمر وورد ودرّ

ريق وثغر وخدّ

____________________

(١) شرح العكبري للمتنبي ٢: ٢٢٤، من غير نسبة.

(٢) ديوانه: ٨٤؛ وروايته: (وأمطرت). وقبله:

قالت، وقد فتكت فينا لواحظها

كم ذا؟ أما لقتيل الحب من قود!

(٣) حاشية الأصل: (تشبيهات ابن المعتز وإن كانت ستة بستة فإنها في بيتين؛ وأعجب من ذلك وأحسن قول المخزومي:

نقا الرّدف، غصن المنثني، حيّة الحشا

دجى اللّيل، بدر الوجه، ظبي المقلّد

١٢٩

مجلس آخر

[٦١]

تأويل آية :( رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا ) ؛ [البقرة: ٢٨٦].

فقال: كيف يجوز أن يأمرنا على سبيل العبادة بالدّعاء بذلك، وعندكم أن النسيان من فعله تعالى؟ ولا تكليف على الناسي في حال نسيانه؛ وهذا يقتضي أحد أمرين: إما أن يكون النسيان من فعل العباد على ما يقوله كثير من الناس، أو نكون متعبدين بمسألته تعالى ما نعلم أنه واقع حاصل؛ لأن مؤاخذة الناسي مأمونة منه تعالى، والقول في الخطأ إذا أريد به ما وقع سهوا أو عن غير عمد يجري هذا المجرى.

الجواب، قلنا: قد قيل في تأويل هذه الآية: إنّ المراد بنسياننا تركنا.

قال أبو عليّ قطرب بن المستنير: معنى النسيان هاهنا الترك؛ كما قال تعالى:( وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ) ؛ [طه: ١١٥]، فنسي أي ترك؛ ولولا ذلك لم يكن فعله معصية، وكقوله تعالى:( نَسُوا الله فَنَسِيَهُمْ ) ؛ [التوبة: ٦٧]، أي تركوا طاعته فتركهم من ثوابه ورحمته. وقد يقول الرجل لصاحبه: لا تنسني من عطيتك، أي لا تتركني منها، وأنشد ابن عرفة(١) :

ولم أك عند الجود للجود قاليا

ولا كنت يوم الرّوع للطّعن ناسيا

أي تاركا.

ومما يمكن أن يكون على ذلك شاهدا قوله تعالى:( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ) ؛ [البقرة: ٤٤]، أي تتركون أنفسكم.

____________________

(١) حاشية الأصل: (هو نفطويه).

١٣٠

ويمكن في الآية وجه آخر على أن يحمل النسيان على السّهو وفقد المعلوم؛ ويكون وجه الدعاء بذلك ما قد بيناه فيما تقدم من الأمالي؛ من أنه على سبيل الانقطاع إلى الله تعالى، وإظهار الفقر إلى مسألته والاستعانة به؛ وان كان مأمونا منه المؤاخذة بمثله؛ ويجري مجرى قوله تعالى في تعليمنا وتأديبنا:( لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ ) ؛ [البقرة: ٢٨٦]، ومجرى قوله تعالى:

( قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ ) ، [الأنبياء: ١١٢]؛ وقوله( وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ) ؛ [الشعراء: ٨٧]؛ وقوله تعالى حاكيا عن الملائكة:( فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ ) ؛ [غافر: ٧].

وهذا الوجه يمكن أيضا في قوله تعالى:( أَوْ أَخْطَأْنا ) إذا كان الخطأ ما وقع سهوا أو عن غير عمد.

فأما على ما يطابق الوجه الأول فقد يجوز أن يريد تعالى بالخطإ ما يفعل من المعاصي بالتأويل السيّئ وعن جهل بأنها معاص، لأن من قصد شيئا على اعتقاد أنه بصفة، فوقع ما هو بخلاف معتقده يقال: قد أخطأ، فكأنه أمرهم بأن يستغفروا مما تركوه متعمدين من غير سهو ولا تأويل، ومما أقدموا عليه مخطئين متأولين.

ويمكن أيضا أن يريد ب أَخْطَأْنا هاهنا أذنبنا وفعلنا قبيحا؛ وإن كانوا له متعمدين وبه عالمين، لأن جميع معاصينا للّه تعالى قد توصف بأنها خطأ من حيث فارقت الصواب؛ وإن كان فاعلها متعمدا؛ وكأنه تعالى أمرهم بأن يستغفروا مما تركوه من الواجبات؛ ومما فعلوه من المقبّحات، ليشتمل الكلام على جهتي الذنوب؛ والله أعلم بمراده.

***

أخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال حدثني محمد بن العباس قال: قال رجل يوما لأبي العباس

١٣١

محمد بن يزيد النحوي: ما أعرف ضادية أحسن من ضادية أبي الشّيص(١) فقال له: كم ضادية حسنة لا تعرفها! ثم أنشده لبشار:

غمض الجديد بصاحبيك فغمّضا

وبقيت تطلب في الحبالة منهضا(٢)

وكأنّ قلبي عند كلّ مصيبة

عظم تكرّر صدعه فتهيّضا

وأخ سلوت له، فأذكره أخ

فمضى، وتذكرك الحوادث ما مضى(٣)

فاشرب على تلف الأحبّة إنّنا

جزر المنيّة، ظاعنين وخفّضا(٤)

ولقد جريت مع الصّبا طلق الصّبا

ثمّ ارعويت فلم أجد لي مركضا(٥)

وعلمت ما علم امرؤ في دهره

فأطعت عذّالي، وأعطيت الرّضا

وصحوت من سكر وكنت موكّلا

أرعى الحمامة والغراب الأبيضا

الحمامة: المرآة، والغراب الأبيض: الشعر الشائب؛ فيقول: كنت كثيرا أتعهد نفسي بالنظر في المرآة وترطيل(٦) الشعر.

وقوله: (والغراب الأبيض) لأن الشعر كان غربيبا أسود؛ من حيث كان شابا ثم ابيض بالشيب -

ما كلّ بارقة تجود بمائها

وكذاك لو صدق الرّبيع لروّضا(٧)

____________________

(١) مطلعها:

لا تنكري صدّي ولا إعراضي

ليس المقلّ عن الزّمان براض

وأبيات منها في حماسة ابن الشجري ٢٠٠، ٢٤٠، واللآلي ٣٣٨، ونكت الهميان ٢٥٨، وعيون الأخبار ٤: ٥٢.

(٢) المختار من شعر بشار ص ٢٥ مع اختلاف في الرواية وعدد الأبيات. والجديد: الزمان.

(٣) رواية المختار:

* وأخ فجعت به وكان مؤمّلا*

(٤) حاشية الأصل: (أي راحلين ومقيمين).

(٥) الطلق والشأو والشوط بمعنى؛ يقال:

أجريت الفرس شأوا وطلقا وشوطا؛ إذا أجريته مرة واحدة، وارعويت: أقصرت وأفلعت عما كنت عليه.

(٦) ترطيل الشعر: تدهينه وتكسيره.

(٧) ف: (فروضا) ويقال: روض الربيع؛ إذا أنبت رياضا.

١٣٢

هكذا أنشده المبرّد، ويحيى بن عليّ، وأنشده ابن الأعرابي:

ما كلّ(١) بارقة تجود بمائها

ولربما صدق الرّبيع فروّضا(٢)

قد ذقت ألفته، وذقت فراقه

فوجدت ذا عسلا، وذا جمر الغضا

ياليت شعري! فيم كان صدوده

أأسأت أم رعد السّحاب وأومضا!

وغير من ذكرنا يرويه: (أم أجم الخلال فأحمضا) -(٣) .

ويلي عليه، وويلتي من بينه!

كان الّذي قد كان حلما فانقضى

سبحان من كتب الشقاء لذي الهوى

ما كان إلاّ كالخضاب فقد نضا

قال المبرّد: وهي طويلة.

وذكر يوسف بن يحيى بن عليّ عن أبيه أنّ أبا نواس أخذ قوله:

جريت مع الصّبا طلق الجموح(٤) من قول بشار:

ولقد جريت مع الصّبا طلق الصّبا

قال سيدنا الشريف المرتضى ذو المجدين أدام الله علوّه: ولأبي تمام والبحتري على هذا الوزن والقافية وحركة القافية قصيدتان، إن لم يزيدا على ضادية بشار التي استحسنها المبرّد لم يقصرا(٥) عنها؛ وأول قصيدة أبي تمام:

____________________

(١) حاشية الأصل (من نسخة): (من كل بارقة).

(٢) بين هذا البيت والّذي يليه وردت في المختار الأبيات التالية؛ وبها يتم المعنى:

ومنيفة شرفا جعلت لها الهوى

إما مكافأة وإما مقرضا

حتى إذا شربت بماء مودّتي

وشربت برد رضابها متبرّضا

قالت لتربيها: اذهبا فتحسّسا

ما باله ترك السلام وأعرضا!

(٣) أجم: كره، وفي حاشية الأصل: (الحلة: ما حلا من النبت، والحمض: ما حمض؛ ولذلك يقال:

الحلة خبز الإبل، والحمض: فاكهتها؛ يقول: لا أعلم سبب فراقه، أإساءة صدرت مني إليه أو ملال بدا له ففارقني. وضرب الخلة والحمض مثلا لذلك).

(٤) ديوانه: ٢٥٧، وبقيته:

* وهان عليّ مأثور القبيح*

(٥) حاشية الأصل: (نسخة س): (تقصّرا)

١٣٣

أهلوك أضحوا شاخصا(١) ومقوّضا

ومزمّما يصف النّوى ومغرّضا(٢)

إن يدج عيشك أنهم أمّوا اللّوى

فبما إضاؤهم على ذات الأضا(٣)

بدّلت من برق الثّغور وبردها

برقا إذا ظعن الأحبة أومضا(٤)

يقول فيها:

ما أنصف الشّرخ الّذي بعث الهوى

فقضى عليك بلوعة ثمّ انقضى(٥)

عندي من الأيام ما لو أنّه

أضحى بشارب مرقد ما غمّضا(٦)

لا تطلبنّ الرّزق بعد شماسه

فترومه سبعا إذا ما غيّضا(٧)

ما عوّض الصّبر امرؤ إلاّ رأى

ما فاته دون الّذي قد عوّضا

ياأحمد بن أبي دؤاد دعوة

ذلّت بذكرك لي وكانت ريّضا(٨)

لمّا انتضيتك للخطوب كفيتها

والسّيف لا يرضيك حتى ينتضى

يقول فيها:

قد كان صوّح نبت كلّ قرارة(٩)

حتى تروّح في نداك فروّضا

أوردتني العدّ الخسيف وقد أرى

أتبرّض الثّمد البكي تبرّضا(١٠)

وأما قصيدة البحتري فأوّلها:

ترك السّواد للابسيه وبيّضا

ونضا من السّتين عنه ما نضا(١١)

وشآه(١٢) أغيد في تصرّف لحظه

مرض أعلّ به القلوب وأمرضا

____________________

(١) حاشية الأصل: في شعره: (راحلا).

(٢) ديوانه: ١٨٥، وفي حاشية الأصل: (التقويض: هدم الخيمة، والتغريض: شد الغرضة؛ وهي التصدير، وهو للرحل بمنزلة الحزام للسرج).

(٣) إن يدج: إن يظلم، وفي الديوان: (إن يدج ليلك).

(٤) حاشية الأصل: (أي صرت أشيم البرق من ناحيتهم وأتذكرهم).

(٥) الشرخ: غرة الشباب، وفي الديوان: (الزمن).                                (٦) المرقد: دواء إذا شربه الإنسان نام.

(٧) شماسه: عصيانه، وغيض السبع: مكث في الغيضة.

(٨) في الديوان: (بشكرك لي)، وفي حاشية الأصل (من نسخة): (ببرّك).     (٩) القرارة: الروضة المنخفضة.

(١٠) العدّ: الماء الدائم الّذي لا انقطاع لمادته، والخسيف: البئر التي حفرت في حجارة فخرج منها ماء كثير. وأتبرض: آخذ قليلا. والثمد والبكي: الماء القليل.                                             (١١) ديوانه ٢: ٧٠.

(١٢) شآه: سبقه، وفي حاشية الأصل (من نسخة): (وسباه).

١٣٤

وكأنّه وجد الصّبا وجديده

دينا دنا ميقاته أن يقتضي

أسيان أثرى من جوى وصبابة

وأساف من وصل الحسان وأنفضا(١)

كلف يكفكف عبرة مهراقة

أسفا على عهد الشّباب وما انقضى

عدد تكامل للشّباب مجيئه

وإذا مضي الشّيء حان فقد مضى

يقول فيها:

قعقعت للبخلاء أذعر جأشهم

ونذيرة من قاصل أن ينتضى(٢)

وكفاك من حنش الصّريم تهدّدا

أن مدّ فضل لسانه أو نضنضا(٣)

وفيها:

لا تنكرن من جار بيتك أن طوى

أطناب جانب بيته أو قوّضا(٤)

فالأرض واسعة لنقلة راغب

عمّن تنقّل ودّه وتنقّضا

لا تهتبل إغضاءتي، إما كنت قد(٥)

أغضيت مشتملا على جمر الغضا

لست الّذي إن عارضته ملمّة

أصغي إلى حكم الزّمان وفوّضا

لا يستفزّني الطّفيف ولا أرى

تبعا لبارق خلّب إن أومضا(٦)

أنا من أحبّ تحرّيا وكأنني

فيما أعاين منك(٧) ممّن أبغضا

أغببت سيبك كي يجمّ وإنّما

غمد الحسام المشرفي لينتضى(٨)

____________________

(١) الأسيان هنا: الحزين، وأساف الرجل: ذهب ماله، وكذلك أنفض، والمراد هنا أنه ذهب من يده وصل الحسان وميلهن إليه.

(٢) القعقعة: صوت السلاح، ونذيرة: إنذار، والقاصل: السيف.

وفي حاشية الأصل (من نسخة): (من نابل أن ينبضا)، أي يحرك وتر قوسه.

(٣) حنش الصريم: حية الرمل.

(٤) أي ارتحل عنك وسافر.

(٥) حاشية الأصل (من نسخة):

* لا تهتبل إغضاءتي إن كنت قد*

وهي رواية الديوان.

(٦) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (لبارق خلة).

(٧) حاشية الأصل (من نسخة): (فيما أعاني).

(٨) أغبيت، أخرت، ومنه إغباب الزيارة، وهو أن يزور يوما وبترك يوما. والسيب: العطية، ويجم: يكثر ويجتمع.

١٣٥

وسكتّ إلاّ أن أعرّض قائلا

نزرا، وصرّح جهده من عرّضا

***

وأخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال حدّثني يوسف بن يحيى عن أبيه قال: من مختار شعر بشار قوله في وصف الزمان:

عتبت على الزّمان وأي حي

من الأحياء أعتبه الزّمان!(١)

وآمنة من الحدثان تزري

عليّ، وليس من حدث أمان

وليس بزائل يرمي ويرمى

معان مرّة أو مستعان(٢)

متى تأب الكرامة من كريم

فمالك عنده إلاّ الهوان

وله في نحوه:

ياخليلي أصيبا أو ذرا

ليس كلّ البرق يهدي المطرا

لا تكونا كامرئ صاحبته

يترك العين ويبغي الأثرا

ذهب المعروف إلاّ ذكره

ربّما أبكى الفتى ما ذكرا

وبقينا في زمان معضل

يشرب الصّفو، ويبقي الكدرا(٣)

قال: وله:

قد أدرك الحاجة ممنوعة

وتولع النّفس بما لا تنال

والهمّ ما امسكته في الحشا

داء، وبعض الدّاء لا يستقال

فاحتمل الهمّ على عاتق

إن لم تساعفك العلندي الجلال(٤)

____________________

(١) أعتبه: أرضاه.

(٢) حاشية الأصل: (يقول: لا يزال الحي يرمي ويرمى؛ فهو معان ضعيف مرة؛ ومستعان قوي أخرى).

(٣) حاشية الأصل: (أي يذهب الدهر الكرام ويبقى اللئام).

(٤) العلندي: الجمل القوي، والجلال: العظيم.

١٣٦

قال يحيى: قوله: (عاتق) يعني الخمر، وهذا مثل قوله:

رحلت عنسا من شراب بابل

فبتّ من عقلي على مراحل(١)

قال سيدنا أدام الله تمكينه: هذا الّذي ذكره يحتمله البيت على استكراه، ويحتمل أيضا أن يريد بالعاتق العضو، ويكون المعنى: إن لم تجد من يحمل عنك همومك ويقوم بأثقالك، ويخفف عنك، فتحمّل ذلك أنت بنفسك، واصبر عليه؛ فكأنّه يأمر نفسه بالتجلّد والتصبر على البأس، وهذا البيت له نظائر كثيرة في الشعر.

***

وأخبرنا المرزباني قال حدثنا علي بن هارون قال حدثني أبي قال: من بارع شعر بشار قوله يصف جارية مغنية. قال علي: وما في الدنيا شيء لقديم ولا محدث من منثور ولا منظوم في صفة الغناء واستحسانه مثل هذه الأبيات:

ورائحة، للعين فيها مخيلة

إذا برقت لم تسق بطن صعيد(٢)

من المستهلاّت الهموم على الفتى

خفا برقها في عصفر وعقود(٣)

حسدت عليها كلّ شيء يمسّها

وما كنت لولا حبّها بحسود

وأصفر مثل الزّعفران شربته

على صوت صفراء التّرائب رود(٤)

كأنّ أميرا جالسا في ثيابها

تؤمّل رؤياه عيون وفود

من البيض لم تسرح على أهل ثلّة

سواما، ولم ترفع حداج قعود(٥)

____________________

(١) في حاشيتي الأصل، ف: (أوله:

لمّا رأيت الحظّ حظّ الجاهل

ولم أر المغبون غير العاقل

والعنس: الجمل القوي.

(٢) المختار من شعر بشار ٣٠٩، والأغاني ٣: ١٨٩ (طبع دار الكتب المصرية). الرائحة: السحابة تروح؛ والمخيلة: علامة المطر.

(٣) استهل السحاب:

إذا أمطر، وفي الأغاني: (المستهلات السرور)، وخفى البرق: ظهر ولمع، وأراد بالعصفر: الثياب المعصفرة.

(٤) رود: ناعمة.

(٥) النلة: قطعة من الغنم، والسوام: الإبل السائمة، والحداج: جمع حدج؛ وهو مركب من مراكب النساء.

١٣٧

تميت به ألبابنا وقلوبنا

مرارا، وتحييهنّ بعد همود

إذا نطقت صحنا، وصاح لنا الصّدى

صياح جنود وجّهت لجنود

ظللنا بذاك الدّيدن اليوم كلّه

كأنا من الفردوس تحت خلود(١)

ولا بأس إلاّ أنّنا عند أهلنا

شهود، وما ألبابنا بشهود

قال: وأنشدني أبي له في وصف مغنية:

لعمرو أبى زوّارها الصّيد إنّهم

لفي منظر منها وحسن سماع(٢)

تصلّي لها آذاننا وعيوننا

إذا ما التقينا والقلوب دواع

وصفراء مثل الخيزرانة لم تعش

ببؤس ولم تركب مطيّة راع

جرى اللؤلؤ المكنون فوق لسانها

لزوّارها من مزهر ويراع(٣)

إذا قلّدت أطرافها(٤) العود زلزلت

قلوبا دعاها للوساوس داع

كأنّهم في جنّة قد تلاحقت

محاسنها من روضة ويفاع(٥)

يروحون من تغريدها وحديثها

نشاوى، وما تسقيهم بصواع

لعوب بألباب الرّجال، وإن دنت

أطيع التقى، والغي غير مطاع

قال علي بن هارون: الصّواع: المكيال؛ يقول: إذا غنّت شربوا جزافا بلا كيل ولا مقدار من حسن ما يسمعون.

قال سيدنا أدام الله علوه: هذا خطأ منه؛ وإنما المراد أن غناءها لفرط حسنه(٦) وشدة(٧) إطرابه ينسيان شرّة الخمر(٨) ؛ وإن لم يكن هناك شرب بصواع، وهذا يجري مجرى قول الشاعر:

____________________

(١) الديدن: العادة.

(٢) المختار من شعر بشار: ٣١٤.

(٣) هذا البيت ساقط من م. المزهر: العود، واليراع: القصب؛ وأراد به هاهنا المزمار. وفي حاشية الأصل: (هذا البيت يفيد أنها تغني وتضرب بالمزهر، وقوله: (من مزهر ويراع) إشارة إلى أن كلامهما مختلط الجرس بنقر المزهر واليراع).

(٤) رواية المختار: (إذا قلبت أطرافها).

(٥) اليفاع: المرتفع من الأرض.

(٦) حاشية الأصل (من نسخة): (حسنها).

(٧) حاشية الأصل (من نسخة): (سورة إطرابه).

(٨) حاشية الأصل: (في نسخة الشجري: الهم).

١٣٨

ويوم ظللنا عند أمّ محلّم

نشاوى، ولم نشرب طلاء ولا خمرا

وما كان عندي أن أحدا يتوهم في معنى هذا البيت ما ظنه هذا الرجل.

وأما قوله في القطعة الأولى:

وأصفر مثل الزّعفران شربته

على صوت صفراء الترائب رود

فيحتمل وجوها ثلاثة:

أولها أن يكون أراد بصفرة ترائبها الكناية عن كثرة تطيّبها وتضمّخها، وأن ترائبها تصفرّ لذلك، كما قال الأعشى:

بيضاء ضحوتها، وصف

راء العشيّة كالعرارة(١)

والعرار: بهار البرّ؛ وإنما أراد أنها تتضمّخ بالعشي بالطيب فيصفّرها؛ ومثله لذي الرّمة:

بيضاء في دعج، كحلاء في برج،

كأنّها فضّة قد مسّها ذهب(٢)

وقيل في بيت قيس بن الخطيم:

فرأيت مثل الشّمس عند طلوعها

في الحسن، أو كدنوّها لغروب(٣)

وجهان:

أحدهما أنه أراد أنها تتطيّب بالعشي فتصفرّ؛ لأن الشمس تغيب صفراء الوجه.

والآخر أراد المبالغة في الحسن، لأن الشمس أحسن ما تكون في وقتيها هذين؛ ومن ذلك أيضا قول قيس بن الخطيم:

____________________

(١) ديوانه: ١١١.

(٢) ديوانه: ٥، والدعج: سواد الحدقة، والبرج: سعة في بياض العين؛ ورواية الديوان:

* كحلاء في برج صفراء في نعج*

(٣) ديوانه ٥، وفي حاشيتي الأصل، ف (بعده:

صفراء أعجلها الشباب لداتها

موسومة بالحسن غير قطوب

أي أنها سبقت أقرانها، ومثله قول ابن قيس الرقيات:

لم تلتفت للداتها

فمضت على غلوائها

١٣٩

* صفراء أعجلها الشّباب لداتها*

ومثله للأعشى:

إذا جرّدت يوما حسبت خميصة

عليها وجريال النّضير الدّلامصا(١)

الخميصة: ثوب ناعم لين؛ شبه به نعمة جسمها. والنّضير: الذهب. والجريال: كلّ صبغ أحمر، وإنما يعني لون الطّيب عليها. والدّلامص: البرّاق، فهذا وجه.

والوجه الثاني أن يكون أراد بوصفها بالصفرة رقّة لونها؛ فعندهم أنّ المرأة إذا كانت صافية اللون رقيقة ضرب لونها بالعشي إلى الصفرة.

قال مهدي بن عليّ الأصفهاني: قال لي أبي قال لي الجاحظ: زعموا أن المرأة إذا كانت صافية اللون رقيقة يضرب لونها بالغداة إلى البياض وبالعشي إلى الصفرة، واحتجّ في ذلك بقول الراجز:

* قد علمت بيضاء صفراء الأصل*

وزعم أن بيت ذي الرمة الّذي أنشدناه من هذا المعنى، وكذلك بيت الأعشى الّذي أنشدناه؛ والأبيات محتملة للأمرين.

فأما الّذي لا يحتمل إلا وجها واحدا فهو قول الشاعر:

وقد خنقتها عبرة فدموعها

على خدّها حمر وفي نحرها صفر

لأنها لا تكون صفرا في نحرها إلا لأجل الطيب.

فأما قوله (على خدها حمر) فإنما أراد أنها تنصبغ بلون خدّها.

والوجه الثالث أن تكون المرأة كانت صفراء على الحقيقة؛ فإن بشارا كثيرا ما يشبّب بامرأة صفراء، كقوله:

____________________

(١) ديوانه: ١٠٨.

١٤٠

أصفراء لا أنسى هواك ولا ودّي

ولا ما مضى(١)

بيني وبينك من عهد

لقد كان ما بيني زمانا وبينها

كما كان بين المسك والعنبر الورد

أي كما كان بين طيب المسك والعنبر.

وكقوله:

أصفراء كان الودّ منك مباحا

ليالي كان الهجر منك مزاحا

وكان جواري الحي إذ كنت فيهم

قباحا، فلمّا غبت صرن ملاحا

وقد روي:

* ملاحا فلما غبت صرن قباحا*

وقوله: (قباحا فلما غبت) يشبه قول السيد بن محمد الحميري.

وإذا حضرن مع الملاح بمجلس

أبصرتهنّ - وما قبحن - قباحا

فأما قوله: (من البيض لم تسرح سواما) فإنه لا يكون مناقضا لقوله (صفراء)، وإن أراد بالصفرة لونها، لأن البياض هاهنا ليس بعبارة عن اللون؛ وإنما هو عبارة عن نقاء العرض وسلامته من الأدناس؛ والعرب لا تكاد تستعمل بيضاء(٢) إلا في هذا المعنى دون اللون، لأن البياض عندهم البرص، ويقولون في الأبيض الأحمر، ومنه قول الشاعر:

جاءت به بيضاء تحمله

من عبد شمس صلتة الخدّ

ومثله (بيض الوجوه).

فأما قول بشار في القطعة الثانية: (صفراء مثل الخيزرانة) فإنه يحتمل ما تقدّم من الوجوه، وإن كان اللون الحقيقي أخصّ لقوله: (كالخيزرانة) ؛ لأن الخيزران يضرب إلى الصّفرة.

____________________

(١) حاشية الأصل: (نسخة الشجري - وكان).

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): (البيضاء)، ومن نسخة أخرى: (البياض).

١٤١

ويحتمل أيضا أن يريد (بصفراء) غير اللون الثابت، ويكون قوله: (كالخيزرانة) أنها مثلها في التثني والتعطف.

ولقد أحسن جران العود في قوله في المعنى الّذي تقدم:

كأنّ سبيكة صفراء صبّت

عليها ثمّ ليث بها الإزار(١)

برود العارضين كأنّ فاها

بعيد النّوم مسك مستثار

____________________

(١) رواية البيتين في ديوانه ٤٥ - ٤٦، والثاني مقدم على الأول:

برود العارضين كأنّ فاها

بعيد النّوم عاتقة عقار

كأنّ سبيكة صفراء شيفت

عليها، ثمّ ليث بها الخمار

١٤٢

مجلس آخر

[٦٢]

تأويل آية :( الله يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( الله يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) ؛ [البقرة: ١٥].

فقال كيف أضاف الاستهزاء إليه تعالى؛ وهو مما لا يجوز في الحقيقة عليه؟ وكيف خبّر(١) بأنهم في الطّغيان والعمه(١) وذلك بخلاف مذهبكم؟

الجواب، قلنا: في قوله تعالى :( الله يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ) وجوه:

أولها أن يكون معنى الاستهزاء الّذي أضافه تعالى إلى نفسه تجهيله لهم وتخطئته إياهم في إقامتهم على الكفر وإصرارهم على الضلال؛ وسمّى الله تعالى ذلك استهزاء مجازا وتشبيها(٢) ؛ كما يقول القائل: إن فلانا ليستهزأ به منذ اليوم، إذا فعل فعلا عابه الناس به، وخطّئوه فيه(٣) فأقيم عيب الناس على ذلك الفعل، وإزراؤهم على فاعله مقام الاستهزاء به؛ وإنما أقيم مقامه لتقارب ما بينهما في المعنى؛ لأن الاستهزاء الحقيقي هو ما يقصد به إلى عيب المستهزأ به، والإزراء عليه، وإذا تضمنت التخطئة والتجهيل والتبكيت هذا المعنى جاز أن يجري عليه اسم الاستهزاء؛ ويشهد بذلك قوله تعالى:( وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ الله يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها ) ؛ [النساء: ١٤٠]؛ ونحن نعلم أن الآيات لا يصحّ عليها الاستهزاء على الحقيقة ولا السخرية؛ وإنما المعنى: إذا سمعتم آيات الله يكفر بها

____________________

(١ - ١) ف: (بأنه يمدهم في الطغيان والعمه).

(٢) م: (واتساعا).

(٣) ساقطة من م.

١٤٣

ويزرى عليها؛ والعرب قد تقيم الشيء مقام ما قاربه في معناه، فتجري اسمه عليه؛ قال الشاعر:

كم أناس في نعيم عمّروا

في ذرى ملك تعالى فبسق

سكت الدّهر زمانا عنهم

ثمّ أبكاهم دما حين نطق

والسكوت والنطق على الحقيقة لا يجوزان على الدهر؛ وإنما شبّه تركه الحال على ما هى(١)   عليه بالسكوت، وشبه تغييره لها بالنطق. وأنشد الفراء:

إنّ دهرا يلفّ شملي بجمل

لزمان يهمّ بالإحسان

ومثل ذلك في الاستعارة لتقارب المعنى قوله:

سألتني بأناس هلكوا

شرب الدّهر عليهم وأكل(٢)

وإنما أراد بالأكل والشرب الإفساد لهم، والتغيير لأحوالهم، ومنه قول الآخر:

يقرّ بعيني أن أرى باب دارها

وإن كان باب الدّار يحسبني جلدا

والجواب الثاني أن يكون معنى الاستهزاء المضاف إليه عز وجلّ أن يستدرجهم ويهلكهم من حيث لا يعلمون ولا يشعرون.

ويروى عن ابن عباس أنه قال في معنى استدراجه إياهم: إنهم كلّما أحدثوا خطيئة جدّد لهم نعمة؛ وإنما سمّى هذا الفعل استهزاء من حيث غيّب عنهم من الاستدراج إلى الهلاك غير ما أظهر لهم من النعم؛ كما أن المستهزئ منّا، المخادع لغيره يظهر أمرا؛ ويضمر غيره.

فإن قيل: على هذا الجواب فالمسألة قائمة، وأي وجه لأن يستدرجهم بالنعمة إلى الهلاك؟

قلنا: ليس الهلاك هاهنا هو الكفر، وما أشبهه من المعاصي التي يستحقّ بها العقاب؛ وإنما يستدرجهم إلى الضرر والعقاب الّذي استحقوه بما تقدّم من كفرهم؛ وللّه تعالى أن يعاقب

____________________

(١) حاشية الأصل (من نسخة): ما هو عليه).

(٢) اللسان (أكل)، ونسبه إلى النابغة الجعدي. ومن نسخة بحاشية الأصل، ف: (سألتني عن أناس).

١٤٤

المستحق بما يشاء أي وقت شاء؛ فكأنه تعالى لمّا كفروا وبدّلوا نعمة الله، وعاندوا رسله لم يغيّر نعمه عليهم في الدنيا؛ بل أبقاها لتكون - متى نزعها عنهم، وأبدلهم بها نقما - الحسرة منهم أعظم، والضرر عليهم أكثر.

فإن قيل: فهذا يؤدّي إلى تجويز أن يكون بعض ما ظاهره ظاهر النعمة على الكفار مما لا يستحق الله به الشكر عليهم.

قلنا: ليس يمتنع هذا فيمن استحقّ العقاب؛ وإنما المنكر أن تكون النعم المبتدأة بهذه الصفة على ما يلزمه مخالفنا، ألا ترى أن الحياة وما جرى مجراها من حفظ التركيب، والصحة لا تعدّ على أهل النار نعمة؛ وإن كانت على أهل الجنة نعما من حيث كان الغرض فيه إيصال العقاب إليهم.

والجواب الثالث أن يكون معنى استهزائه بهم أنّه جعل لهم بما أظهروه من موافقة أهل الإيمان ظاهر أحكامهم؛ من نصرة ومناكحة وموارثة ومدافنة، وغير ذلك من الأحكام؛ وإن كان تعالى معدّا لهم في الآخرة أليم العقاب لما أبطنوه من النفاق، واستسرّوا به من الكفر؛ فكأنه تعالى قال: إن كنتم أيها المنافقون بما تظهرونه للمؤمنين من المتابعة والموافقة، وتبطنونه من النفاق، وتطلعون عليه شياطينكم إذا خلوتم بهم تظنون أنكم مستهزءون؛ فالله تعالى هو المستهزئ بكم من حيث جعل لكم أحكام المؤمنين ظاهرا؛ حتى ظننتم أنّ لكم ما لهم، ثمّ ميّز بينكم في الآخرة ودار الجزاء؛ من حيث أثاب المخلصين الذين يوافق ظواهرهم بواطنهم، وعاقب المنافقين. وهذا الجواب يقرب معناه من الجواب الثاني؛ وإن كان بينهما خلاف من بعض الوجوه.

والجواب الرابع أن يكون معنى ذلك أن الله هو الّذي يردّ استهزاءكم ومكركم عليكم؛ وأنّ ضرر ما فعلتموه لم يتعدكم؛ ولم يحط بسواكم؛ ونظير ذلك قول القائل: إن فلانا أراد أن يخدعني فخدعته؛ وقصد إلى أن يمكر بي فمكرت به؛ والمعنى أنّ ضرر خداعه ومكره

١٤٥

عاد إليه ولم يضررني(١) به.

والجواب الخامس أن يكون المعنى أنه يجازيهم على استهزائهم؛ فسمّى الجزاء على الذنب باسم الذنب؛ والعرب تسمّي الجزاء على الفعل باسمه؛ قال الله تعالى:( وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ) ؛ [الشورى: ٤٠]، وقال تعالى:( فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ ) ؛ [البقرة: ١٩٤]، وقال:( وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ ) ؛ [النحل: ١٢٦] والمبتدأ ليس بعقوبة، وقال الشاعر(٢) :

ألا لا يجهلن أحد علينا

فنجهل فوق جهل الجاهلينا

ومن شأن العرب أن تسمّي الشيء باسم ما يقاربه ويصاحبه، ويشتد اختصاصه وتعلّقه به؛ إذا انكشف المعنى وأمن الإبهام؛ وربما غلّبوا أيضا اسم أحد الشيئين على الآخر لقوة التعلّق بينهما، وشدة الاختصاص فيهما؛ فمثال الأول قولهم للبعير الّذي يحمل المزادة:

راوية، وللمزادة المحمولة على البعير رواية، فسموا البعير باسم ما يحمل عليه؛ قال الشاعر(٣) :

 مشي الرّوايا بالمزاد الأثقل

أراد بالروايا الإبل؛ ومن ذلك قولهم: صرعته الكأس واستلبت(٤) عقله، قال الشاعر:

وما زالت الكاس تغتالنا

وتذهب بالأوّل الأوّل

والكأس هي ظرف الشراب، والفعل الّذي أضافوه إليها إنما هو مضاف إلى الشراب الّذي يحلّ الكأس إلاّ أن(٥) الفراء لا يقول الكأس إلا بما فيه(٥) من الشراب؛ وكأنّ الإناء

____________________

(١) حاشية الأصل (من نسخة: (لم يضرني).

(٢) هو عمرو بن كلثوم، والبيت من الملعقة: ٢٣٨ - بشرح التبريزي.

(٣) هو أبو النجم العجلي الراجز؛ والبيت من أرجوزته المشهورة التي أولها:

* الحمد للّه الوهوب المجزل*

وهي ضمن الطرائف الأدبية ص ٥٥ - ٧١؛ وقبله:

* تمشي من الردّة مشي الحفّل*

(٤) حاشية الأصل (من نسخة): (فسلبت).

(٥ - ٥) حاشية الأصل: (نسخة س:

الفراء يقول: الكأس الإناء بما فيه).

١٤٦

الفارغ لا يسمى كأسا، وعلى هذا القول يكون إضافة اختلاس العقل والتصريع وما جرى مجرى ذلك إلى الكأس على وجه الحقيقة؛ لأن الكأس على هذا القول اسم للإناء وما حلّه من الشراب.

ومثال الوجه الثاني ما ذكرناه عنهم من التغليب تغليبهم اسم القمر على الشمس؛ قال الشاعر:

أخذنا بآفاق السّماء عليكم

لنا قمراها والنّجوم الطوالع(١)

أراد: لنا شمسها وقمرها؛ فغلّب.

ومنه قول الآخر:

فقولا لأهل المكّتين: تحاشدوا

وسيروا إلى آطام يثرب والنّخل

أراد بالمكّتين: مكة والمدينة، فغلّب.

وقال الآخر:

فبصرة الأزد منّا والعراق لنا

والموصلان، ومنّا مصر والحرم

أراد بالموصلين الموصل والجزيرة.

وقال الآخر:

نحن سبينا أمّكم مقربا(٢)

يوم صبحنا الحيرتين المنون

أراد الحيرة والكوفة، وقال آخر:

إذا اجتمع العمران: عمرو بن عامر

وبدر بن عمر وخلت ذبيان جوّعا(٣)

وألقوا مقاليد الأمور إليهم

جميعا، وكانوا كارهين وطوّعا

أراد بالعمرين: رجلين؛ يقال لأحدهما عمرو، وللآخر بدر؛ وقد فسره الشاعر في البيت.

ومثله:

____________________

(١) البيت للفرزدق، ديوانه: ٥١٩.

(٢) المقرب: المرأة تدنو ولادتها.

(٣) البيتان في المخصص ١٣: ٢٢٧

١٤٧

جزاني الزّهدمان جزاء سوء

وكنت المرء يجزى بالكرامة(١)

أراد بالزّهدمين رجلين؛ يقال لأحدهما زهدم، وللآخر كردم، فغلّب.

وكلّ الّذي ذكرناه يقوّي هذا الجواب من جواز التسمية للجزاء على الذنب باسمه، أو تغليبه عليه، للمقاربة والاختصاص التام بين الذنب والجزاء عليه.

والجواب السادس ما روي عن ابن عباس قال: يفتح لهم وهم في النار باب من الجنة، فيقبلون إليه مسرعين؛ حتى إذا انتهوا إليه سدّ عليهم، فيضحك المؤمنون منهم إذا رأوا الأبواب وقد أغلقت دونهم؛ ولذلك قال عز وجل:( فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ. عَلَى الأرائِكِ يَنْظُرُونَ ) ؛ [المطففين: ٣٤ - ٣٥].

فإن قيل: وأي فائدة في هذا الفعل؟ وما وجه الحكمة فيه؟

قلنا: وجه الحكمة فيه ظاهر؛ لأن ذلك أغلظ في نفوسهم، وأعظم في مكروههم؛ وهو ضرب من العقاب الّذي يستحقونه بأفعالهم القبيحة؛ لأن من طمع في النجاة والخلاص من المكروه، واشتد حرصه على ذلك؛ ثم حيل بينه وبين الفرج وردّ إلى المكروه يكون عذابه أصعب وأغلظ من عذاب من لا طريق للطمع عليه.

فإن قيل: فعلى هذا الجواب، ما الفعل الّذي هو الاستهزاء؟

قلنا: في ترداده لهم من باب إلى آخر على سبيل التعذيب معنى الاستهزاء؛ من حيث كان إظهارا لما المراد بخلافه؛ وإن لم يكن فيه من معنى الاستهزاء ما يقتضي قبحه من اللهو والعبث وما جرى مجرى ذلك.

والجواب السابع أن يكون ما وقع منه تعالى ليس باستهزاء على الحقيقة؛ لكنّه سماه بذلك ليزدوج اللفظ ويخف على اللسان؛ وللعرب في ذلك عادة معروفة في كلامها؛ والشواهد عليه مذكورة مشهورة.

____________________

(١) اللسان (زهدم) والمخصص ١٣: ٢٢٧، وهو لقيس بن زهير العبسي.

١٤٨

وهذه الوجوه التي ذكرناها في الآية يمكن أن تذكر في قوله تعالى:( وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله وَالله خَيْرُ الْماكِرِينَ ) ؛ [الأنفال: ٣٠]؛ وفي قوله تعالى:( إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ الله وَهُوَ خادِعُهُمْ ) ؛ [النساء: ١٤٢] فليتأمل ذلك.

فأما قوله تعالى:( وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) فيحتمل وجهين:

أحدهما أن يريد: أني أملي لهم ليؤمنوا ويطيعوا؛ وهم مع ذلك مستمسكون بطغيانهم وعمههم.

والوجه الآخر أن يريد ب( يَمُدُّهُمْ ) أنه يتركهم من فوائده ومنحه التي يؤتيها المؤمنين ثوابا لهم، ويمنعها الكافرين عقابا كشرحه لصدورهم، وتنويره لقلوبهم؛ وكل هذا واضح بحمد الله.

***

قال سيدنا أدام الله علوّه: وإني لأستحسن لبعض الأعراب قوله:

خليلي هل يشفي النّفوس من الجوى

بدوّ ذوى الأوطان، لا بل يشوقها!(١)

وتزداد في قرب إليها صبابة(٢)

ويبعد من فرط اشتياق طريقها

وما ينفع الحرّان ذا اللّوح(٣) أن يرى

حياض القرى مملوءة لا يذوقها

ولآخر في تذكر الأوطان والحنين إليها:

ألا قل لدار بين أكثبة الحمى

وذات الغضا: جادت عليك الهواضب!

____________________

(١) في حاشيتي الأصل، ف (من نسخة): (بدو ذرى الأوطان). والبدو: الظهور، من بدا يبدو إذا ظهر.

(٢) في حاشية الأصل: (إليها؛ ضمير الأوطان أو المرأة)، وفيها أيضا: (إذا قلت صبابة [بالنصب] كان (تزداد متعديا)، أي تزداد أنت، وإذا قلت: (صبابة) [بالرفع] (فتزداد) لازم.

(٣) اللوح: العطش.

١٤٩

أجدّك لا آتيك إلاّ تقلّبت(١)

دموع أضاعت ما حفظت سواكب

ديار تناسمت(٢) الهواء بجوّها

وطاوعني فيها الهوى والحبائب

ليالي؛ لا الهجران محتكم بها

على وصل من أهوى، ولا الظنّ كاذب

وأنشد أبو نصر صاحب الأصمعي لأعرابي:

ألا ليت شعري! هل أبيتنّ ليلة

بأسناد(٣) نجد، وهي خضر متونها!

وهل أشربنّ الدّهر من ماء مزنة

بحرّة ليلى حيث فاض معينها!(٤)

بلاد بها كنّا نحلّ، فأصبحت

خلاء ترعّاها مع الأدم عينها

تفيّأت فيها بالشّباب وبالصّبا

تميل بما أهوى عليّ غصونها

وأنشد الأصمعي لصدقة بن نافع الغنوي:

ألا ليت شعري هل تحنّنّ ناقتي(٥)

بيضاء نجد حيث كان مسيرها!(٦)

فتلك بلاد حبّب الله أهلها

إليك، وإن لم يعط نصفا أميرها(٧)

بلاد بها أنضيت راحلة الصّبا

ولانت لنا أيّامها وشهورها

فقدنا بها الهمّ المكدّر شربه

ودار علينا بالنّعيم سرورها

وأنشد أبو محلّم لسوّار بن المضرّب:

سقى الله اليمامة من بلاد

نوافحها كأرواح الغواني

____________________

(١) ف، وحاشية الأصل (من نسخة): (تفتت).

(٢) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (تبادرت).

(٣) الأسناد: جمع سند؛ وهو الجبل، ومن نسخة بحاشية ف: (بأكناف).

(٤) حرة ليلى: موضع لبني مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان، وفي حاشية الأصل (من نسخة): (حين فاض معينها).

(٥) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (هل تخبن ناقتي)، أي تسرعن.

(٦) بيضاء نجد: موضع.

(٧) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف:

* إليك وإن لم يعط نصفا أسيرها*

١٥٠

وجوّ زاهر للرّيح فيه

نسيم لا يروع التّرب، وان(١)

بها سقت الشّباب إلى مشيب

يقبّح عندنا حسن الزّمان

وأنشد إبراهيم بن إسحاق الموصلي:

ألا ياحبّذا جنبات سلمى

وجاد بأرضها جون السّحاب!

خلعت بها العذار ونلت فيها

مناي بطاعة أو باغتصاب

أسوم بباطلي طلبات لهوي

ويعذرني بها عصر الشّباب

فكلّ هؤلاء على ما ترى قد أفصحوا بأن سبب حنينهم إلى الأوطان ما لبسوه فيها من ثوب الشباب، واستظلوه من ظلّه، وأنضوه من رواحله، وأنه كان يعذرهم ويحسن قبائحهم.

فعلى أي شيء يغلو الناس في قول ابن الرومي:

وحبّب أوطان الرّجال إليهم

مآرب قضّاها الشّباب هنالكا(٢)

إذا ذكروا أوطانهم ذكّرتهم

عهود الصّبا فيها فحنّوا لذلكا

ويزعمون أنه سبق إلى ما لم يسبق إليه، وكشف عن هذا المعنى مستورا، ووسم غفلا! وقوله وإن كان جيد المعنى سليم اللفظ، فلم يزد فيه على من تقدم ولا أبدع، بل اتبع؛ ولكن الجيد إذا ورد ممّن يعهد منه الرديء كثر استحسانه؛ وزاد استطرافه.

ولقد أحسن البحتري في قوله في هذا المعنى:

فسقى الغضى والنّازلية وإن هم

شبّوه بين جوانح وقلوب(٣)

وقصار أيّام به سرقت لنا

حسناتها من كاشح ورقيب

خضر تساقطها الصّبا فكأنّها

ورق يساقطه اهراز قضيب

____________________

(١) حاشية الأصل: (قوله: (لا يروع الترب)، من أحسن الكلام؛ أي لا يرفع فيغير؛ فكأن هبوبها يسالم التراب ولا يخوفه بأن يرفعه أو يحركه).

(٢) ديوانه الورقة ٢٠٢.

(٣) ديوانه ١: ٥٧.

١٥١

كانت فنون بطالة فتقطّعت

عن هجر غانية ووصل مشيب

وأحسن في قوله:

سقى الله أخلافا من الدّهر رطبة

سقتنا الجوى إذ أبرق الحزن أبرق(١)

ليال سرقناها من الدّهر بعد ما

أضاء بإصباح من الشّيب مفرق

تداويت من ليلى بليلى فما اشتفى

بماء الرّبا من بات بالماء يشرق

ولأبي تمام في هذا المعنى ما لا يقصر عن إحسان، وهو:

سلام ترجف الأحشاء منه

على الحسن بن وهب والعراق(٢)

على البلد الحبيب إلى غورا

ونجدا، والأخ العذب المذاق(٣)

ليالي نحن في وسنات عيش

كأنّ الدّهر عنّا في وثاق(٤)

وأيّام له ولنا لدان

غنينا في حواشيها الرّفاق

كأنّ العهد عن عفر لدينا

وإن كان التّلاقي عن تلاق(٥)

____________________

(١) ديوانه ٢: ١٣٨، وفي ف، وحاشية الأصل (من نسخة): (أبرق الجسون).

(٢) ديوانه ٢١٤ - ٢١٥.

(٣) من نسخة بحاشية الأصل، ت:

* ونجدا والفتى الحلو المذاق*

(٤) في حاشيتي الأصل، ف: في شعره:

سنبكي بعده غفلات عيش

كأنّ الدّهر عنها في وثاق

وأياما له ولنا لدانا

عرينا من حواشيها الرقاق

وفي ف، وحاشية الأصل من نسخة: (له ولنا لذاذ).

(٥) في حاشية الأصل: (لقتيبة عن عفر، أي بعد خمسة عشرة يوما؛ حتى جاوز الليالي العفر، والعرب تسمي الليالي البيض عفرا لبياضها).

١٥٢

مجلس آخر

[٦٣]

تأويل آية :( وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ ) ؛ [البقرة: ٣٦]:

فقال: كيف خاطب آدم وحواء عليهما السلام بخطاب الجمع وهما اثنان؟ وكيف نسب بينهما العداوة؟ وأي عداوة كانت بينهما؟

الجواب، قلنا قد ذكر في هذه الآية وجوه:

أولها أن يكون الخطاب متوجّها إلى آدم وحواء وذرّيتهما، لأن الوالدين يدلان على الذرّية ويتعلق بهما؛ ويقوّي ذلك قوله تعالى حاكيا عن إبراهيم وإسماعيل:( رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا ) ؛ [البقرة: ١٢٨].

وثانيها أن يكون الخطاب لآدم وحواء عليهما السلام ولإبليس اللعين؛ وأن يكون الجميع مشتركين في الأمر بالهبوط؛ وليس لأحد أن يستبعد هذا الجواب من حيث لم يتقدم لإبليس ذكر في قوله تعالى:( وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ) ؛ [البقرة: ٣٥] لأنه وإن لم يخاطب بذلك فقد جرى ذكره في قوله تعالى:( فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ ) ، [البقرة: ٣٦]؛ فجائز أن يعود الخطاب على الجميع.

وثالثها أن يكون الخطاب متوجها إلى آدم وحواء والحية التي كانت معهما، على ما روي عن كثير من المفسرين؛ وفي هذا الوجه بعد من قبل أن خطاب من لا يفهم الخطاب لا يحسن؛ فلا بد من أن يكون قبيحا؛ اللهم إلا أن يقال: إنه لم يكن هناك قول في الحقيقة ولا خطاب؛

١٥٣

وإنما كنّى تعالى عن إهباطه لهم بالقول؛ كما يقول أحدنا: قلت: فلقيت الأمير، وقلت: فضربت زيدا، وإنما يخبر عن الفعل دون القول؛ وهذا خلاف الظاهر وإن كان مستعملا.

وفي هذا الوجه بعد من وجه آخر؛ وهو أنه لم يتقدم للحية ذكر في نصّ القرآن، والكناية عن غير مذكور لا تحسن إلا بحيث لا يقع لبس، ولا يسبق وهم إلى تعلق الكناية بغير مكنّى عنه؛ حتى يكون ذكره كترك ذكره في البيان عن المعنى المقصود، مثل قوله تعالى:( حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ ) ؛ [ص: ٣٢]؛( وكُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ ) ؛ [الرحمن: ٢٧] وقول الشاعر:

أماوي ما يغني الثّراء عن الفتى

إذا حشرجت يوما؛ وضاق بها الصّدر(١)

فأما بحيث لا يكون الحال على هذا فالكناية عن غير مذكور قبيحة.

ورابعها أن يكون الخطاب يختصّ آدم وحواء عليهما السلام، وخاطب الاثنين بالجمع على عادة العرب في ذلك؛ لأن التثنية أول الجمع؛ قال الله تعالى:( إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ ) ؛ [الأنبياء: ٧٨]، أراد لحكم داود وسليمان عليهما السلام؛ وكان بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله يتأول قوله تعالى:( فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ ) ؛ [النساء: ١١] على معنى فإن كان له أخوان؛ قال الراعي:

أخليد إنّ أباك ضاف وساده

همّان باتا جنبة ودخيلا(٢)

طرقا فتلك هماهمي أقريهما

قلصا لواقح كالقسي وحولا

فعبّر بالهماهم وهي جمع عن الهمين؛ وهما اثنان.

فإن قيل: فما معنى الهبوط الّذي أمروا به؟ قلنا: أكثر المفسرين على أن الهبوط هو

____________________

(١) البيت لحاتم

(٢) جمهرة الأشعار: ٣٥٣. وفي حاشيتي الأصل، ف: (خليدة ابنته فرخم، وضافه: نزل به.

جنبه أي ناحية. ودخيلا: داخلا في الفؤاد. قال ابن الأعرابي: أراد: هما داخل القلب، وآخر قريبا من ذلك؛ كالضيف إذا حل بالقوم فأدخلوه فهو دخيل؛ وإن كان بفنائهم فهو جنبة).

١٥٤

النزول من السماء إلى الأرض ، وليس في ظاهر القرآن ما يوجب ذلك؛ لأن الهبوط كما يكون النزول من علو إلى سفل فقد يراد به الحلول في المكان والنزول به؛ قال الله تعالى:( اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ ) ؛ [البقرة: ٦١]، ويقول القائل من العرب: هبطنا بلد كذا وكذا، يريد حللنا، قال زهير:

ما زلت أرمقهم حتى إذا هبطت

أيدي المطي بهم من راكس فلقا(١)

فقد يجوز على هذا أن يريد تعالى بالهبوط(٢) الخروج من المكان وحلول غيره؛ ويحتمل أيضا أن يريد بالهبوط(٢) معنى غير المسافة، بل الانحطاط من منزلة إلى دونها، كما يقولون: قد هبط فلان عن منزلته، ونزل عن مكانه؛ إذا كان على رتبة فانحطّ إلى دونها.

فإن قيل: فما معنى قوله:( بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ) ؟ قلنا: أما عداوة إبليس لآدم وذريته فمعروفة مشهورة، وأما عداوة آدم عليه السلام والمؤمنين من ذريته لإبليس فهي واجبة لما يجب على المؤمنين من معاداة الكفار؛ المارقين عن طاعة الله تعالى، المستحقين لمقته وعداوته، وعداوة الحية على الوجه الّذي تضمّن إدخالها في الخطاب لبني آدم معروفة؛ ولذلك يحذّرهم منها، ويجنبهم؛ فأما على الوجه الّذي يتضمّن أن الخطاب اختص آدم وحواء دون غيرهما؛ فيجب أن يحمل قوله تعالى:( بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ) على أن المراد به الذرية؛ كأنه قال تعالى:( اهْبِطُوا ) وقد علمت من حال ذريتكم أن بعضكم يعادي بعضا؛ وعلّق الخطاب بهما للاختصاص بين الذرية وبين أصلها.

فإن قيل: أليس ظاهر قوله تعالى:( اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ) يقتضي الأمر بالمعاداة، كما أنه أمر بالهبوط، وهذا يوجب أن يكون تعالى آمرا بالقبيح على وجه؛ لأن معاداة إبليس لآدم عليه السلام قبيحة، ومعاداة الكفار من ذريته للمؤمنين منهم كذلك؟

قلنا: ليس يقتضي الظاهر ما ظننتموه؛ وإنما يقتضي أنه أمرهما بالهبوط في حال عداوة

____________________

(١) ديوانه ٣٧. راكس: موضع، والفلق: المكان المطمئن بين ربوتين؛ وهو منصوب على أنه مفعول به؛ قيل: الفلق: الصبح).

(٢ - ٢) ساقط من الأصل، وما أثبته عن ف.

١٥٥

بعضهم بعضا؛ فالأمر مختص بالهبوط، والعداوة تجري مجرى الحال؛ وهذا له نظائر كثيرة في كلام العرب. ويجري مجرى هذه الآية في أن المراد بها الحال قوله تعالى:( إِنَّما يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ ) ؛ [التوبة: ٥٥] وليس معنى ذلك أنه أراد كفرهم كما أراد تعذيبهم وإزهاق نفوسهم؛ بل أراد أن تزهق أنفسهم في حال كفرهم، وكذلك القول في الأمر بالهبوط، وهذا بيّن.

***

قال سيدنا أدام الله تمكينه: ومن مستحسن تمدح السادة الكرام قول الشاعر:

ويل أمّ قوم غدوا عنكم لطيّتهم

لا يكتنون غداة العلّ والنّهل

صدء السرابيل لا توكى مقانبهم

عجر البطون، ولا تطوى على الفضل

قوله: (ويل أم قوم) من الزّجر المحمود الّذي لا يقصد به الشر؛ مثل قولهم: قاتل الله فلانا ما أشجعه! وترّحه ما أسمحه! وقد قيل في قول جميل:

رمى الله في عيني بثينة بالقذى

وفي الغرّ من أنيابها بالقوادح(١)

إنه أراد هذا المعنى بعينه، وقيل: إنه دعا لها بالهرم وعلوّ السن، لأن الكبير يكثر قذى عينيه وتنهتم أسنانه. وقيل: إنه أراد بعينيها رقيبيها، وبغر أنيابها سادات قومها ووجوههم؛ والأول أشبه بطريقة القوم؛ وإن كان القول محتملا للكل.

فأما قوله:

* لا يكتنون غداة العلّ والنّهل*

فإنما أنهم ليسوا برعاة(٢) يسقون الإبل، بل لهم من يخدمهم ويكفيهم ويرعى إبلهم؛

____________________

(١) أمالي القالي ٢: ١٠٩، واللآلي ٧٣٦، والبيت من شواهد الرضي على الكافية (الخزانة ٣: ٩٣). القذى: كل ما وقع في العينين من شيء يؤذيها كالتراب والعود ونحوها. والغر: جمع أغر وغراء؛ وهو وصف لأسنانها بالبياض. وهو السن. والقوادح: جمع القادح؛ وهو السواد الّذي يظهر في الأسنان.

(٢) ف، حاشية الأصل (من نسخة): (برعاء).

١٥٦

وإنما يكتنى يرتجز على الدّلو السقاة والرعاة؛ وفيه وجه آخر؛ قيل: إنهم يسامحون شريبهم ويؤثرونه بالسّقي قبل أموالهم؛ ولا يصولون عليه ولا يكتنون؛ وهذا من الكرم والتفضّل لا من الضعف.

وقيل أيضا: بل عنى أنهم أعزاء ذوو منعة، إذا وردت إبلهم ماء أفرج الناس لها عنه؛ لأنها قد عرفت فليس يحتاج أربابها إلى الاكتناء والتعرف.

وقد قال قوم في قوله: (يكتنون) : إنه من قوله كتنت يده تكتن إذا خشنت من العمل؛ فيقول: ليسوا أهل مهنة، فتكتن أيديهم وتخشن من العمل؛ بل لهم عبيد يكفونهم ذلك.

وقوله: (صدء السرابيل) فإنما أراد به طول حملهم للسلاح ولبسهم له. والمقانب:

هي الأوعية التي يكون فيها الزاد؛ فكأنه يقول: إذا سافروا لم يشدّوا الأوعية على ما فيها وأطعموا أهل الرفقة؛ وهذه كناية عن الإطعام وبذل الزاد مليحة. وعجر البطون: من صفات المقانب؛ أراد أنها لا توكأ، ولا تطوى على فضل الزاد.

ولبعض شعراء بني أسد، وأحسن غاية الإحسان:

رأت صرمة(١) لابني عبيد تمنّعت

من الحقّ لم تؤزل بحقّ إفالها

فقالت: ألا تغذو فصالك هكذا

فقلت: أبت ضيفانها وعيالها

فما حلبت إلاّ الثلاثة والثّني

ولا قيّلت إلاّ قريبا مقالها

حدابير من كلّ العيال كأنّها

أناضي شقر حلّ عنها جلالها

شكا هذا الشاعر امرأته، وحكى عنها أنها رأت إبلا لجيرانها لم تعط في حمالة(٢) ، ولم تعقر في حق، ولم تحلب لضيف ولا جار؛ فهي سمان. وقوله: (لم تؤزل إفالها) والإفال:

____________________

(١) الصرمة: القطعة من الإبل؛ ما بين العشرين إلى الثلاثين، أو إلى الخمسين.

(٢) الحمالة: الإبل

١٥٧

الصّغار، وتؤزل؛ من الأزل وهو الضّيق في العيش والشدّة؛ فيقول: فصال هؤلاء سمان لم تلق بؤسا؛ لأن ألبان أمهاتها موفورة عليها.

وحكى عن امرأته أنها تقول له: غذّ(١) أنت فصالك هكذا؛ فقال لها: تأبى ذلك الحقوق وعيالها؛ وهم الجيران والضيفان.

ثم أخبر أنه لم يلتفت إلى لومها، وأنّ الإبل ما حلبت بعد مقالتها إلا مرتين أو ثلاث.

ولا قيّلت، من القائلة إلا بقرب البيوت حتى نحرها ووهبها.

والحدابير: المهازيل؛ وإنما يعني فصاله وهزالها لأجل أنها لا تسقى الألبان؛ وتعقر أمهاتها، وأناضي: جمع نضو(٢) ، فشبه فصاله من هزالها بأنضاء خيل شقر.

وقوله: (حدابير من كل العيال) فيه معنى حسن؛ لأنه أراد أنها من بين جميع العيال:

مهازيل؛ وهذا تأكيد، لأن سبب هزالها هو الإيثار بألبانها؛ واختصّت بالهزال من بين كلّ العيال. والعيال هاهنا هم الجيران والضيفان؛ وإنما جعلهم عيالا لكرمه وأن جوده قد ألزمه مودّتهم؛ فصاروا كأخص عياله.

ومثل ذلك قول الشاعر:

تعيّرني الحظلان أمّ محلّم(٣)

فقلت لها: لا تقذفيني بدائيا(٤)

فإنّي رأيت الضّامرين(٥) متاعهم

يذمّ ويفنى، فارضخي من وعائيا

فلم تجديني في المعيشة عاجزا

ولا حصرما خبّا شديدا وكائيا

الحظلان: الممسكون البخلاء، والحظل الإمساك. وأم محلّم: امرأته. ومعنى قوله:

____________________

(١) د، حاشية ف (من نسخة): (اغذ).

(٢) حاشية الأصل: (كأنه يجمع نضو أنضاء، ثم يجمع أنضاء أناضي؛ فهو جمع الجمع).

(٣) في اللسان: (أم مغلس).

(٤) الأبيات في اللسان (حظل) وعزاها إلى منظور الدبيري.

(٥) رواية اللسان: (الباخلين).

١٥٨

 (تعيرني الحظلان)  أي بالحظلان(١) ؛ تقول: ما لك لا تكون مثل هؤلاء الذين يحفظون أموالهم.

والضامرون أيضا: البخلاء؛ فقال لها: رأيت البخلاء يضنّون بما عندهم وهو يفنى ويبقى الذّم، فارضخي من وعائي؛ وهذا مثل؛ أي أعطي الناس مما عندي؛ وهو من قولك:

رضخ له بشيء من عطيته. والحصرم: الممسك؛ تقول العرب حصرم قوسك، أي شدّد وترها.

وقوله:

* فلم تجديني في المعيشة عاجزا*

أي أنا صاحب غارات، أفيد وأستفيد وأتلف وأخلف فلا تخافي الفقر -

وقال مسكين الدارمي:

أصبحت عاذلتي معتلّة

قرما(٢) ، أم هي وحمى للصّخب

أصبحت تتفل في شحم الدّرى

وتظنّ اللّوم درّا ينتهب

لا تلمها إنها من أمّة

ملحها موضوعة فوق الرّكب(٣)

يقول: إنها تكثر لومي؛ وكأنها قرمة إلى اللوم، كقرم الأشبال إلى اللحم، وهي وحمى تشتهي الصخب. والوحم: شدة شهوة الطعام عند الحمل.

وشحم الذّرى. الأسنمة؛ وأراد ب (تتفل) فيها أي تعوّذ إبلي لتزيّنها في عيني؛ وتعظم قدرها، فلا أهب منها ولا أنحر؛ ثم أخبر أن أصلها من الزّنج. والملح: الشحم، وشحم الزّنج(٤)

____________________

(١) حاشية الأصل: (بل الفصيح أن يقال: عيرته كذا، وعيرته بكذا من كلام؛ العامة قال النابغة:

وعيّرتني بنو ذبيان خشيته

وهل عليّ بأن أخشاك من عار!

(٢) حاشية الأصل: (في شعره قرمت).

(٣) حاشية الأصل: (أي لا عرق لها في الكرم).

(٤) حاشية الأصل: (أراد أنها ليست بعربية؛ بل زنجية.

١٥٩

يكون على أوراكهم وأكفالهم وأنشد أبو العباس محمد بن يزيد(١) :

أي ابنة عبد الله وابنة مالك

ويا بنة ذي البرد بن والفرس الورد(٢)

إذا ما صنعت الزّاد فالتمسي له

أكيلا؛ فإنّي لست آكله(٣) وحدي

قصيّا كريما، أو قريبا فإنّني

أخاف مذمّات الأحاديث من بعدي

وإنّي لعبد الضّيف ما دام نازلا

وما من صفاتي غيرها شيمة العبد

قال أبو العباس: استثنى الكرم في القصيّ البعيد، ولم يستثنه في القريب؛ لأن أهله جميعا عنده كرام. وأراد بقوله: (عبد الضيف) أنه يخدم الضيف هو بنفسه لا يرضى أن يخدمه عبده.

قال سيدنا أدام الله علوّه: ويشبه ذلك قول المقنّع الكندي:

وإنّي لعبد الضّيف ما دام نازلا

وما بي سواها خلّة تشبه العبدا(٤)

____________________

(١) في الكامل - بشرح المرصفي ٥: ١٤٥؛ ونسبها إلى قيس بن عاصم المنقري، وفي حماسة أبي تمام - بشرح التبريزي ٤: ٢٠٥، وعزاها التبريزي إلى حاتم الطائي ولم ترد في ديوانه. وفي الأغاني (١٢: ١٤٤) بسنده: (تزوج قيس بن عاصم المنقري منفوسة بنت زيد الفوارس الضبي، وأتته في الليلة الثانية من بنائه بها بطعام فقال: فأين أكيلي؟ فلم تعلم ما يريد؛ فأنشأ يقول.. وأورد الأبيات. قال: ) فأرسلت جارية لها مليحة فطلبت له أكيلا، وأنشأت تقول له:

أبي المرء قيس أن يذوق طعامه

بغير أكيل؛ إنه لكريم!

فبوركت حيا ياأخا الجود والندى

وبوركت ميتا قد حوتك رجوم

(٢) أضافها إلى عمها وجدها الأكبرين، لعزتهما بين قبائل العرب؛ وذلك أن زيد الفوارس هو ابن حصين بن ضرار بن عمرو بن مالك بن زيد بن كعب بن بجالة بن ذهل بن مالك، أخي عبد الله بن سعد ابن ضبة. ويريد بذي البردين جد منفوسة من قبل أمها، وهو عامر بن أحيمر بن بهدلة؛ لقب بذلك لما روي أن النعمان أخرج بردي محرق، وقد اجتمعت وفود العرب وقال: ليقم أعز العرب فليلبسهما، فقام عامر، فاتزر بأحدهما وارتدى بالآخر؛ ولم ينازعه أحد في خبر ذكره المرزوقي في شرح الحماسة ١٦٦٨

(٣) حاشية الأصل (من نسخة): (آكله)، بضم الكاف واللام.

(٤) حماسة أبي تمام بشرح المرزوقي ١١٨٠؛ وفي حاشيه الأصل (من نسخة):

* وما شيمة لي غيرها تشبه العبدا*

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403