أمالي المرتضى الجزء ٢

أمالي المرتضى0%

أمالي المرتضى مؤلف:
تصنيف: مكتبة اللغة والأدب
الصفحات: 403

أمالي المرتضى

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشريف أبى القاسم على بن الطاهر أبى أحمد الحسين
تصنيف: الصفحات: 403
المشاهدات: 61798
تحميل: 8739


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 403 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 61798 / تحميل: 8739
الحجم الحجم الحجم
أمالي المرتضى

أمالي المرتضى الجزء 2

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وإنما اشترط في كونه عبدا للضيف في البيت الأول والثاني(١) ثواءه ونزوله(١) مؤثرا له؛ ليعلم(٢) أن الخدمة لضيفه لم تكن لضعة قدره(٢) ، بل لما يوجبه الكرم من حق الأضياف(٣) ، وأنه يخرج عن أن يكون مخدوما بخروجه من أن يكون ضيفا. ولو قال: (وإني لعبد الضيف) ولم يشرط(٤) لم يحصل هذا المعنى الجليل.

____________________

(١ - ١) حاشية الأصل (من نسخة): مدة ثوائه ونزوله).

(٢ - ٢) م: أن الخدمة لم تكن لضعة وصغر قدر).

(٣) حاشية الأصل (من نسخة): (الإضافة).

(٤) م: (يشترط).

١٦١

مجلس آخر

[٦٤]

تأويل آية :( انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً )

إن سأل سائل فقال: بم تدفعون من خالفكم في الاستطاعة، وزعم أن المكلّف يؤمر بما لا يقدر عليه ولا يستطيعه إذا تعلق بقوله تعالى:( انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً ) ؛ [الإسراء: ٤٨] فإن الظاهر من هذه الآية يوجب أنهم غير مستطيعين للأمر الّذي هم غير فاعلين له، وأن القدرة مع الفعل. وإذا تعلق بقوله تعالى:

في قصة موسى عليه السلام:( إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ) ؛ [الكهف: ٦٧]؛ وأنه نفى أن يكون قادرا على الصبر في حال هو فيها غير صابر؛ وهذا يوجب أنّ القدرة مع الفعل.

وبقوله تعالى:( ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ ) ؛ [هود: ٢٠].

الجواب، يقال له: أول ما نقوله: إنّ المخالف لنا في هذا الباب من الاستطاعة لا يصحّ له فيه التعلّق بالسمع؛ لأن مذهبه لا يسلم معه صحة السمع، ولا يتمكن مع المقام عليه من معرفة السمع بأدلته؛ وإنما قلنا ذلك؛ لأن من جوّز تكليف الله تعالى الكافر الإيمان وهو لا يقدر عليه لا يمكنه العلم بنفي القبائح عن الله عز وجل؛ وإذا لم يمكن ذلك فلا بدّ من أن يلزمه تجويز القبائح في أفعاله وأخباره؛ ولا يأمن من أن يرسل كذابا، وأن يخبر هو بالكذب - تعالى عن ذلك! فالسمع إن كان كلامه قدح في حجته تجويز الكذب عليه، وإن كان كلام رسوله قدح فيه ما يلزمه من تجويز تصديق الكذّاب؛ وإنما طرق ذلك تجويز بعض القبائح عليه.

وليس لهم أن يقولوا: إن أمره تعالى الكافر بالإيمان وإن لم يقدر عليه يحسن من حيث أتى الكافر فيه من قبل نفسه؛ لأنه تشاغل بالكفر فترك الإيمان. وإنما كان يبطل تعلّقنا بالسمع لو أضفنا ذلك إليه تعالى على وجه يقبح؛ وذلك لأن ما قالوه إذا لم يؤثّر في كون ما ذكرناه

١٦٢

تكليفا لما لا يطاق لم يؤثر في نفي ما ألزمناه عنهم؛ لأنه يلزم على ذلك أن يفعل الكذب وسائر القبائح، وتكون حسنة منه بأن يفعلها من وجه لا يقبح منه.

وليس قولهم: إنا لم نضفه إليه من وجه يقبح بشيء يعتمد؛ بل يجري مجرى قول من جوّز عليه تعالى أن يكذب، ويكون الكذب منه تعالى حسنا؛ ويدّعي مع ذلك صحة معرفة السمع بأن يقول: إنني لم أضف إليه تعالى قبيحا، فيلزمني إفساد طريقة السمع، فلما كان من ذكرناه لا عذر له في هذا الكلام لم يكن للمخالف في الاستطاعة عذر بمثله.

ونعود إلى تأويل الآي؛ أما قوله تعالى:( انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً ) فليس فيه ذكر للشيء الّذي لا يقدرون عليه، ولا بيان له، وإنما يصح ما قالوه لو بين أنهم لا يستطيعون سبيلا إلى أمر معين؛ فأما ولم يذكر ذلك فلا متعلّق لهم.

فإن قيل: فقد ذكر تعالى من قبل ضلالهم؛ فيجب أن يكون المراد بقوله:( فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً ) إلى مفارقة الضلال.

قلنا: إنه تعالى كما ذكر الضلال فقد ذكر ضرب المثل؛ فيجوز أن يريد أنهم لا يستطيعون سبيلا إلى تحقيق ما ضربوه من الأمثال وذلك غير مقدور على الحقيقة، ولا مستطاع.

والظاهر بهذا الوجه أولى؛ لأنه تعالى حكى أنهم ضربوا له الأمثال، وجعل ضلالهم وأنهم لا يستطيعون السبيل متعلّقا بما تقدّم ذكره. وظاهر ذلك يوجب رجوع الأمرين جميعا إليه، وأنهم ضلّوا بضرب المثل، وأنهم لا يستطيعون سبيلا إلى تحقيق ما ضربوه من المثل؛ على أنه تعالى قد أخبر عنهم بأنهم ضلّوا، وظاهر ذلك الإخبار عن ماضي فعلهم.

فإن كان قوله تعالى:( فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً ) يرجع إليه، فيجب أن يدلّ على أنهم

١٦٣

لا يقدرون على ترك الماضي؛ وهذا مما لا نخالف فيه(١) وليس فيه ما نأباه(١) من أنهم لا يقدرون في المستقبل أو في الحال على مفارقة الضلال والخروج عنه بعد تركه.

وبعد؛ فإذا لم يكن للآية ظاهر، فلم صاروا بأن يحملوا نفي الاستطاعة على أمر كلّفوه أولى منا إذا حملنا ذلك على أمر لم يكلّفوه، أو على أنه أراد الاستثقال والخبر عن عظم المشقة عليهم.

وقد جرت عادة أهل اللغة بأن يقولوا لمن يستثقل شيئا: إنه لا يستطيعه، ولا يقدر عليه، ولا يتمكّن منه؛ ألا ترى أنهم يقولون: فلان لا يستطيع أن يكلّم فلانا، ولا ينظر إليه، وما أشبه ذلك، وإنما غرضهم الاستثقال وشدة الكلفة والمشقة.

فإن قيل: فإذا كان لا ظاهر للآية يشهد بمذهب المخالف، فما المراد بها عندكم؟.

قلنا: قد ذكر أبو علي أن المراد أنهم لا يستطيعون إلى بيان تكذيبه سبيلا، لأنه ضربوا الأمثال؛ ظنا منهم بأن ذلك يبيّن كذبه، فأخبر تعالى أن ذلك غير مستطاع؛ لأنّ تكذيب صادق، وإبطال حق مما لا تتعلق به قدرة، ولا تتناوله استطاعة.

وقد ذكر أبو هاشم أن المراد بالآية أنهم لأجل ضلالهم بضرب المثل وكفرهم لا يستطيعون سبيلا إلى الخير الّذي هو النجاة من العقاب والوصول إلى الثواب.

وليس يمكن على هذا أن يقال: كيف لا يستطيعون سبيلا إلى الخير والهدى، وهم عندكم قادرون على الإيمان والتوبة؟ ومتى فعلوا ذلك استحقوا الثواب؛ لأن المراد أنهم مع التمسك بالضلال والمقام على الكفر لا سبيل لهم إلى خير وهدى؛ وإنما يكون لهم سبيل إلى ذلك بأن يفارقوا ما هم عليه.

وقد يمكن أيضا في معنى الآية ما تقدّم ذكره من أن المراد بنفي الاستطاعة عنهم أنهم مستثقلون للإيمان؛ وقد يخبر عمن استثقل شيئا بأنه لا يستطيعه على ما تقدم ذكره.

____________________

(١ - ١) حاشية الأصل (من نسخة): (وليس مما نأباه).

١٦٤

فأما قوله تعالى في قصة موسى عليه السلام:( إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ) فظاهره يقتضي أنك لا تستطيع ذلك في المستقبل؛ ولا يدلّ على أنه غير مستطيع للصبر في الحال أن يفعله في الثاني.

وقد يجوز أن يخرج في المستقبل من أن يستطيع ما هو في الحال مستطيع له؛ غير أن الآية تقتضي خلاف ذلك؛ لأنه قد صبر عن المسألة أوقاتا، إن ولم يصبر عنها في جميع الأوقات، فلم تنتف الاستطاعة للصبر عنه في جميع الأحوال المستقبلة.

على أن المراد بذلك واضح، وأنه تعالى خبّر عن استثقاله الصبر عن المسألة عما لا يعرف ولا يقف عليه؛ لأن مثل ذلك يصعب على النفس؛ ولهذا نجد أحدنا إذا وجد(١) بين يديه ما ينكره ويستبعده تنازعه نفسه إلى المسألة عنه، والبحث عن حقيقته، ويثقل عليه الكفّ عن الفحص عن أمره؛ فلما حدث من صاحب موسى ما يستنكر ظاهره استثقل الصبر عن المسألة عن ذلك.

ويشهد بهذا الوجه قوله تعالى:( وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً ) ؛ [الكهف: ٦٨]؛ فبيّن تعالى أن العلة في قلة صبره ما ذكرناه دون غيره، ولو كان على ما ظنوا لوجب أن يقول: وكيف تصبر وأنت غير مطيق للصبر!

فأما قوله تعالى:( ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ ) فلا تعلّق لهم بظاهره؛ لأن السمع ليس بمعنى فيكون مقدورا، لأن الإدراك على المذهب الصحيح ليس بمعنى، ولو ثبت أنه معنى على ما يقوله أبو علي لكان أيضا غير مقدور للعبد من حيث يختصّ القديم تعالى بالقدرة عليه.

هذا إن أريد بالسمع الإدراك؛ وإن أريد به نفس الحاسة فهي أيضا غير مقدورة للعباد؛ لأن الجواهر وما تخصّ به الحواس من البنية والمعاني ليصحّ به الإدراك مما ينفرد به القديم تعالى في القدرة عليه. فالظاهر لا حجّة لهم فيه.

____________________

(١) ف، حاشية الأصل (من نسخة): (إذا جرى بين يديه).

١٦٥

فإن قالوا: فلعلّ المراد بالسمع كونهم سامعين؛ كأنه تعالى نفى عنهم استطاعة أن يسمعوا.

قلنا: هذا خلاف الظاهر؛ ولو ثبت أن المراد ذلك لحملنا نفي الاستطاعة هاهنا على ما تقدم ذكره من الاستثقال وشدة المشقة، كما يقول القائل: فلان لا يستطيع أن يراني، ولا يقدر أن يكلّمني؛ وما أشبه ذلك، وهذا بيّن لمن تأمله.

تأويل خبر [يسار عن معاوية بن الحكم]

إن سأل سائل فقال: ما تأويل ما رواه يسار عن معاوية بن الحكم قال: قلت يارسول الله، كانت لي جارية كانت ترعى غنما لي، قبل أحد، فذهب الذئب بشاة من غنمها، وأنا رجل من بني آدم آسف، كما يأسفون، لكنّني(١) غضبت فصككتها صكّة، قال: فعظم ذلك على النبي صلى الله عليه وآله، قال، قلت: يارسول الله؛ أفلا أعتقها؟ قال: (ائتني بها)، فأتيته بها فقال لها: (أين الله؟) فقالت: في السماء، قال: (من أنا) ؟ قالت: أنت رسول الله، فقال عليه السلام: (أعتقها(٢) فإنها مؤمنة).

الجواب، أما قوله: (أنا رجل من بني آدم آسف كما يأسفون) فمعناه أغضب كما يغضبون، قال محمد بن حبيب: الأسف: الغضب، وأنشد للراعي:

فما لحقتني العيس حتّى وجدتني

أسيفا على حاديهم المتجرّد

والأسف أيضا الحزن؛ قال ابن الأعرابي: الأسف: الحزن، والأسف: الغضب، قال كعب بن زهير:

____________________

(١) د، ومن نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (لكنني).

(٢) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (فأعتقها).

١٦٦

في كلّ يوم أرى فيه مبيّنة

تكاد تسقط منّي منّة أسفا(١)

وقوله: (ولكني غضبت فصككتها) أراد لطمتها، يقال: صكّ جبهته، إذا لطمها بيده؛ قال الله تعالى:( فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها ) ؛ [الذاريات: ٢٩]؛ وقال بشر بن أبي خازم يصف حمار وحش وأتانا:

فتصكّ محجره إذا ما سافها

وجبينه بحوافر لم تنكب(٢)

سافها: أي شمها.

وقولها: (في السماء) ؛ فالسماء هي الارتفاع والعلو، فمعنى ذلك أنّه تعالى عال في قدرته، عزيز في سلطانه، لا يبلغ ولا يدرك. ويقال: سما فلان يسمو سموّا، إذا ارتفع شأنه علا أمره، قال الله تعالى:( أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ. أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ) ؛ [الملك: ١٦، ١٧] فأخبر بقدرته وسلطانه وعلوّ شأنه ونفاذ أمره.

وقد قيل في قوله تعالى:( أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ ) غير هذا، وأن المراد: أأمنتم من في السماء أمره وآياته ورزقه؛ وما جرى مجرى ذلك. وقال أمية بن أبي الصلت شاهدا لما تقدم:

وأشهد أنّ الله لا شيء فوقه

عليّا وأمسى ذكره متعاليا

وقال سليمان بن يزيد العدوي:

لك الحمد ياذا الطّول والملك والغنى

تعاليت محمودا كريما وجازيا

علوت على قرب بعزّ وقدرة

وكنت قريبا في دنوّك عاليا(٣)

____________________

(١) ديوانه: ٧٠. المنة: القوة؛ وفي حاشيتي الأصل، ف: قبله:

بان الشباب وأمسى الشّيب قد أزفا

ولا أرى لشباب ذاهب خلفا

عاد السواد بياضا في مفارقه

لا مرحبا ها بذا اللّون الّذي ردفا

(٢) محجر العين: ما دار بها؛ ويقال: نكبت الحجارة خف البعير إذا أصابته وأدمته.

(٣) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (في علوك دانيا).

١٦٧

والسماء أيضا سقف البيت، ومنه قوله تعالى:( مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ الله فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ ) ؛ [الحج: ١٥].

وقال ابن الأعرابي: يقال لأعلى البيت: سماء البيت، وسماوته، وسراته، وصهوته؛ والسماء أيضا: المطر قال الله تعالى:( وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً ) ؛ [الأنعام: ٦]. ومنه الحديث الّذي رواه أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله مر على صبرة طعام؛ فأدخل عليه السلام يده فيها، فنالت أصابعه بللا؛ فقال: ما هذا ياصاحب البرّ؟ قال: أصابته السماء يارسول الله، قال عليه السلام: (أو لا جعلته فوق الطّعام، يراه الناس! من غشّ فليس منا). وقال المثقّب العبدي:

فلمّا أتاني والسّماء تبلّه

فقلت له: أهلا وسهلا ومرحبا

ويقال أيضا لظهر الفرس: سماء؛ كما يقال في حوافره: أرض. ولبعضهم في فرس:

وأحمر كالدّينار، أمّا سماؤه

فخصب، وأما أرضه فمحول(١)

وإنما أراد أنه سمين الأعلى، عريان القوائم ممشوقها؛ وكل معاني السماء التي تتصرف وتتنوع ترجع إلى معنى الارتفاع والعلو والسموّ؛ وإن اختلفت المواضع التي أجريت هذه اللفظة فيها.

وأولى المعاني بالخبر الّذي سئلنا عنه ما قدّمناه من معنى العزة وعلو الشأن والسلطان، وما عدا ذلك من المعاني لا تليق به تعالى؛ لأنّ العلوّ بالمسافة لا يجوز على القديم تعالى الّذي ليس بجسم ولا جوهر ولا حالّ فيهما؛ ولأن الخبر والآية التي تضمنت أيضا ذكر السماء خرجت مخرج المدحة، ولا تمدّح في العلو بالمسافة؛ وإنما التمدّح بالعلو والشأن والسلطان ونفاذ الأمر؛ ولهذا لا تجد أحدا من العرب مدح غيره في شعر أو نثر بمثل هذه اللفظة؛ وأراد بها علوّ المسافة؛ بل لا يريدون إلا ما ذكرناه من معنى العلوّ في الشأن؛ وإنما يظن في هذا الموضع خلاف هذا من لا فطنة عنده ولا بصيرة له؛ والحمد للّه رب العالمين.

____________________

(١) البيت لطفيل الغنوي، وهو في ملحقات ديوانه ٦٣، واللسان (سما).

١٦٨

مجلس آخر

[٦٥]

تأويل آية :( حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاّ قَلِيلٌ )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاّ قَلِيلٌ ) ؛ [هود: ٤٠]:

الجواب، قلنا: أمّا التنور فقد ذكر في معناه وجوه:

أولها أنّه أراد بالتنوّر وجه الأرض؛ وأنّ الماء نبع وظهر على وجه الأرض وفار؛ وهذا قول عكرمة، وقال ابن عباس مثله، والعرب تسمي وجه الأرض تنوّرا.

وثانيها أن يكون المعنى أن الماء نبع من أعالي الأرض، وفار من الأماكن المرتفعة منها؛ وهذا قول قتادة؛ وروي عنه في قوله تعالى:( وَفارَ التَّنُّورُ ) ؛ قال: ذكر لنا أنه أرفع الأرض وأشرفها.

وثالثها أن يكون المراد ب( فارَ التَّنُّورُ ) أي برز النّور، وظهر الضوء، وتكاثفت حرارة دخول النهار، وتقضّى الليل. وهذا القول يروى عن أمير المؤمنين عليه السلام.

ورابعها أن يكون المراد بالتنوّر الّذي يختبز فيه على الحقيقة؛ وأنه تنور كان لآدم عليه السلام(١) . وقال قوم: إن التّنّور كان في دار نوح عليه السلام بعين وردة(٢) من أرض الشام. وقال آخرون: بل كان التنّور في ناحية الكوفة؛ والّذي(٣) روي عنه أن التنّور هو تنور الخبز الحقيقي ابن عباس والحسن ومجاهد وغيرهم.

____________________

(١) م: (لآدم عليه السلام أبي البشر).

(٢) في حاشيتي الأصل، ف: وردة: اسم امرأة؛ تنسب العين إليها).

(٣) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (والذين روى عنهم).

١٦٩

وخامسها أن يكون معنى ذلك: اشتدّ غضب الله تعالى عليهم، وحلّ وقوع نقمته بهم؛ فذكر تعالى التّنّور مثلا لحضور العذاب، كما تقول العرب: قد حمي الوطيس(١) ؛ إذا اشتد الحرب، وعظم الخطب. والوطيس هو التّنّور. وتقول العرب أيضا: قد فارت قدر القوم إذا اشتد حربهم؛ قال الشاعر:

تفور علينا قدرهم فنديمها

ونفثؤها عنّا إذا حميها غلا(٢)

أراد بقدرهم حربهم، ومعنى نديمها: نسكّنها، ومن ذلك الحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه نهى عن البول في الماء الدائم؛ يعني الساكن. ويقال: قد دوّم الطائر في الهواء، إذا بسط جناحيه وسكنهما ولم بخفق بهما. ونفثؤها، معناه نسكّنها؛ يقال: قد فثأت غضبه عني، وفثأت الحارّ بالبارد إذا كسرته به.

وسادسها أن يكون التنّور الباب الّذي يجتمع فيه ماء السفينة؛ فجعل فوران الماء منه والسفينة(٣) على الأرض علما على ما أنذر به من إهلاك قومه؛ وهذا القول يروى عن الحسن.

وأولى الأقوال بالصواب قول من حمل الكلام على التنّور الحقيقي؛ لأنه الحقيقة وما سواه مجاز؛ ولأن الروايات الظاهرة تشهد له؛ وأضعفها وأبعدها من شهادة الأثر قول من حمل ذلك على شدة الغضب واحتداد الأمر تمثيلا وتشبيها؛ لأن حمل الكلام على الحقيقة التي تعضدها الرواية أولى من حمله على المجاز والتوسع مع فقد الرواية.

وأي المعاني أريد بالتنوّر فإن الله تعالى جعل فوران الماء منه علما لنبيّه؛ وآية تدلّ على نزول العذاب بقومه؛ لينجو بنفسه وبالمؤمنين.

____________________

(١) حاشية الأصل: (روي أن أول من تكلم بحمي الوطيس رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال عليه السلام: (الآن حمي الوطيس).

(٢) البيت في اللسان (فثأ)، ومقاييس اللغة (٢: ٣١٥) منسوبا إلى النابغة الجعدي.

(٣) ضبطت في الأصل بالفتح والضم معا؛ وفي حاشية الأصل: (إذا نصبت كان عطفا على (فوران) ويكون (على الأرض) حالا؛ والرفع أولى).

١٧٠

فأما قوله تعالى:( مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ) فقد قيل: المراد به: احمل من كلّ ذكر وأنثى اثنين، وإنه يقال لكل واحد من الذكر والأنثى زوج.

وقال آخرون: الزوجان هاهنا الضربان؛ وقال آخرون: الزوج: اللون؛ وإن كل ضرب يسمى زوجا؛ واستشهدوا ببيت الأعشى(١) :

وكلّ زوج من الدّيباج يلبسه

أبو قدامة مجبورا بذاك معا(٢)

ومعنى( مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ) ؛ أي من أخبر الله تعالى بعذابه وحلول الهلاك به.

والله أعلم بمراده.

تأويل خبر [ (رأيت النبي صلى الله عليه وآله في المنام وأنا أشكو إليه ما لقيت من الأود واللّدد) ]

إن سأل سائل عن الخبر الّذي يرويه شريك بن عمار الدّهني(٣) عن أبي صالح الحنفي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وآله في المنام وأنا أشكو إليه ما لقيت من الأود واللّدد).

الجواب، يقال له: أما الأود فهو الميل، تقول العرب: لأقيمنّ ميلك، وجنفك، وأودك، ودرأك، وضلعك، وصدغك، وظلعك (بالظاء)، وصغوك، وصعرك، وصددك؛ كل هذا بمعنى واحد.

وقال ثعلب: الأود إذا كان من الإنسان في كلامه ورأيه فهو عوج؛ وإذا كان في الشيء المنتصب مثل عصا وما أشبهها فهو عوج؛ وهذا قول الناس كلّهم إلا أبا عمرو الشيباني؛

____________________

(١) ديوانه: ٨٦؛ وفي حاشية الأصل: (قبله:

له أكاليل بالياقوت زيّنها

صواغها، لا ترى عيبا ولا طبعا

يمدح هوذة بن علي؛ ولم يلبس التاج معدّي غيره).

(٢) حاشية الأصل: (مجبورا؛ من الجبر، وهو الإصلاح). وفي ديوانه: (محبوا) ؛ وفي حاشية الأصل (من نسخة): (محبو؛ أي هو محبو).

(٣) في م: (شريك عن عمار الذهني) ؛ وهو تحريف، وبنو دهن: حي من العرب.

١٧١

فإنه قال: العوج، بالكسر: الاسم، والعوج، بالفتح: المصدر. وقال ثعلب: كأنه مصدر عوج يعوج عوجا؛ ويقال: عصا معوجّة، وعود معوج؛ وليس في كلامهم معوّج.

وأما اللّدد؛ فقيل: هو الخصومات، وقال ثعلب: يقال رجل ألدّ، وقوم لدّ إذا كانوا شديدي الخصومة؛ ومنه قول الله تعالى:( وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ ) ؛ [البقرة: ٢٠٤].

وقال الأموي: اللدد: الاعوجاج، والألدّ في الخصومة: الّذي ليس بمستقيم، أي هو أعوج الخصومة؛ يميل فلا يقوى عليه ولا يستمكن(١) منه، ومن ذلك قولهم: لدّ الصّبي، وإنما يلدّ في شقّ فيه؛ وليس (يلدّ) مستقيما؛ فهو يرجع إلى معنى الميل والاعوجاج. وقال:

فسّر لنا الحكم بن ظهير، فقال: ألدّ الخصام، أي أعوج الخصام، وأنشد أبو السمح لابن مقبل:

لقد طال عن دهماء لدي وعذرتي

وكتمانها أكنى بأمّ فلان

جعلت لجهّال الرّجال مخاضة

ولو شئت قد بيّنتها بلساني

اللّد: الجدال والخصومة.

وقال أبو عمرو: الألد: الّذي لا يقبل الحق، ويطلب الظلم.

وقوله: (مخاضة) يقول: إنهم يخوضون في شعري ويطلبون معانيه، فلا يقفون عليه.

وأنشد أبو السمح:

لا تفتر الكذب القبيح فإنّه

للمرء معيبة وباب لئام

واصدق بقولك حين تنطق؛ إنّه

للصّدق فضل فوق كلّ كلام

وإذا صدقت على الرّجال خصمتهم

والصّدق مقطعة على الظّلام

وإذا رماك غشوم قوم فارمه

بألدّ مشتغر المدى غشّام

لا تعرضنّ على العدوّ وسيلة

واحذر عدوّك عند كلّ مقام

____________________

(١) حاشية الأصل (من نسخة): (يتمكن).

١٧٢

واعلم بأنه ليس يوما نافعا

عند اللّئيم وسائل الأرحام

ما لم يخفك ويلق عندك جانبا

خشنا وتصبحه بكأس سمام

وإذا حللت(١) بمأزق فاكرم به

حتّى تفرّج حلبة الإظلام

واصبر على كرب البلاء فإنّه

ليس البلاء على الفتى بلزام

واعلم بأنّك ميّت ومحدّث

عمّا فعلت معاشر الأقوام

معنى قوله (مشتغر المدى)، أي بعيد المدى.

ومعنى قوله:

* لا تعرضنّ على العدوّ وسيلة*

أي لا تقاربه ولا تصانعه ولا يكن بينك وبينه إلا صدق العداوة.

وأنشد أيضا شاهدا لما تقدم:

ياوهب أشبه باطلي وجدّي

أشبهت أخلاقي فأشبه مجدي

* وجدّ لي عند الخصوم اللّدّ*

***

قال سيدنا أدام الله تمكينه: ومن أحسن ما وصف به الثغر قول فضالة بن وكيع البكري:

تبسّم عن حمّ اللّثات كأنّها

حصى برد أو أقحوان كثيب

إذا ارتفعت عن مرقد علّلت به

من اليانع الغوري فرع قضيب

قضيب نجاه الرّكب أيام عرّفوا

لها من ذرى مال النّبات خضيب

يعني من يانع الأراك. ومعنى نجاه، أي قطعه، ومثله استنجاه أيضا، ومال النبات، أي ناعمه وحسنه، يقال: عشب مال ومادّ، سواء، أي ميّاد ناعم.

ومعنى - أيام عرفوا، أي اجتنوه من عرفات، وذكر أنه خضيب بالطيب الّذي بيديها لإدمانها لاستعماله.

____________________

(١) حاشية الأصل (من نسخة): (وإذا حبست).

١٧٣

وقال الأخطل يصف ثغرا:

شتيتا يرتوي الظمآن منه

إذا الجوزاء أجحرت الضّبابا(١)

الشتيت: المفرق المفلّج الّذي ليس بمتراكب -

ومعنى قوله:

* إذا الجوزاء أجحرت الضبابا*

فيه وجهان: أحدهما أنه أراد عند سقوط الجوزاء؛ وذلك في شدة البرد وطول الليل إذا اتجحرت الضباب من البرد، وتغيرت الأفواه لطول ليل الشتاء؛ يقول: فثغرها حينئذ عذب غير متغيّر.

والوجه الآخر أنه أراد عند طلوع الجوزاء في شدة الحر إذا انجحرت الضّباب من شدة الحر والقيظ؛ فالظمآن حينئذ أشدّ عطشا وأحرّ غلّه ، فريقها يرويه ويبرد غلّته.

وقال آخر:

فويل بها(٢) لمن تكون ضجيعه

إذا ما الثّريّا ذبذبت كلّ كوكب

قوله: (فويل بها) من الزّجر المحمود: مثل قولهم: ويل أمه ما أشجعه! فكأنه يقول: نعم الضجيع هي عند السّحر، إذا تحادرت النجوم للمغيب، كما قال ذو الرّمة:

وأيدي الثّريّا جنّح في المغارب(٣)

____________________

(١) حاشية الأصل: (قبله:

أفاطم أعرضي قبل المنايا

كفى بالموت هجرا واجتنابا

برقت بعارضيك ولم تجودي

ولم يك ذاك من نعمى ثوابا

كذلك أخلفتنا أم بشر

على أن قد جلت غرّا عذابا

وانظر الديوان ص ٥٥.

(٢) حاشية الأصل: (نسخة س: (فويل أمها).

(٣) ديوانه: ٥٥، وصدره:

* ألا طرقت مي هيوما بذكرها*

١٧٤

ومثل قول الآخر:

نعم شعار الفتى إذا برد اللّي

ل سحيرا وقفقف الصّرد(١)

وإنما يعني أنها في ذلك الوقت الّذي تتغير فيه الأفواه طيبة الريق عذبته.

وأنشد أبو العباس المبرّد لأم الهيثم:

وعارض كجانب العراق

أنبت برّاقا من البرّاق(٢)

يذاق(٣) مثل العسل المراق(٤)

قال أبو العباس: في هذا قولان:

أحدهما أنه وصفت ثغرا. وعارضاه: جانباه، والعراق: ما يثنى ثم يخرز كعراق القربة، فأخبرت أنه ليس فيه اعوجاج ولا تراكب ولا نقص.

وقولها:

* أنبت براقا من البرّاق*

أي ما تنبته الأرض إذا مطرت من النّور.

قال المبرّد: والقول الأول عندنا أصح لذكرها العسل.

وأنشد أحمد بن يحيى لتأبط شرا(٥) :

____________________

(١) من القفقفة؛ وهي الرعدة، والصرد: الّذي آلمه الصرد؛ وهو شدة البرد؛ والبيت في اللسان (قفف)، والكامل - بشرح المرصفي ٣: ٦٣، وذكر بعده:

زيّنها الله في الفؤاد كما

زيّن في عين والد ولد

وهو أيضا في كتاب الألفاظ ١٢١، ٢١٢؛ وذكر قبله:

ما اكتحلت مقلة برؤيتها

فمسّها الدّهر بعدها رمد

ونسب البيتين إلى عمر بن أبي ربيعة، وهما في ملحقات ديوانه: ٤٨٣.

(٢) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (البراق) بكسر الباء.

(٣) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (يداف).

(٤) حاشية الأصل: (نسخة ش: المذاق).

(٥) البيتان في الأصمعيات: ٣٥، والمخصص: ١٠: ١٠٣، واللسان (صوح).

١٧٥

وشعب كشلّ(١) الثّوب شكس طريقه

مجامع ضوجيه(٢) نطاف مخاصر

تعسّفته باللّيل لم يهدني له

دليل، ولم يحسن له النّعت خابر

قال: يعني بالشّعب فم جارية. كشلّ الثوب، يعني كفّ الثوب إذا خاطه الخيّاط.

والشّكس: الضيّق، يصفها بصغر الفم وحسنه ورقّة الشفتين. وضوجاه: جانباه وضوج الوادي/: جانبه؛ ويعني بالنّطاف: الريق. والمخاصر: الباردة، من الخصر.

وقوله: (لم يهدني له دليل) ؛ أي لم يصل إليه غيري، كما قال جرير:

ألا ربّ يوم قد شربت بمشرب

شفى الغيم، لم يشرب به أحد قبلي(٣)

الغيم والغين: العطش؛ وإنما يعني ريق جارية.

قال المبرّد وقال آخرون: بل يعني شعبا من الشّعاب مخوفا ضيّقا، سلكه وحده.

قال أبو العباس: إنما كنى بالشّعب عن فم جارية؛ ثم أخذ في وصف الشّعب؛ ليكون الأمر أشدّ التباسا.

قال سيدنا أدام الله علوّه: والأشبه أن يكون أراد شعبا حقيقيّا، لأن تأبط شرا كان لصا وصّافا للأهوال التي تمضي به، ويعاينها في تلصّصه. وكان كثيرا ما يصف تدلّيه من الجبال، وتخلّصه من المضايق، وقطعه المفاوز، وأشباه ذلك؛ والقطعة التي فيها البيتان كلّها تشهد بأن الوصف لشعب لا لفم جارية؛ لأنه يقول بعد قوله: (وشعب كشلّ الثوب) :

لدن(٤) مطلع الشّعرى، قليل أنيسه

كأنّ الطّخا في جانبيه معاجر(٥)

____________________

(١) حاشية الأصل. (يقال: شللت الثوب إذا خطته خياطة خفيفة). وفي حاشية الأصل: أيضا (نسخة س: كشك) ؛ وهي رواية د، ف، والأصمعيات، واللسان، والمخصص.

(٢) كذا في الأصول؛ وفي حاشية الأصل: (ضوجيه: جانبيه، والضوج: منعطف الوادي).

وفي الأصمعيات واللسان والمخصص: (صوحيه) بالصاد، والصوح: وجه الجبل القائم.

(٣) ديوانه: ٤٦١.

(٤) حاشية الأصل (من نسخة): (لدى).

(٥) في حاشيتي الأصل، ف: (الطخاء، ممدود: السحاب؛ ولعله قصره ضرورة. وإن رويت الطخا بالضم، كان جمع طخية).

١٧٦

به من نجاء الدّلو بيض أقرّها

خبار لصمّ الصخر فيه قراقر(١)

وقرّرن حتّى كنّ للماء منتهى

وغادرهنّ السّيل فيما يغادر

به نطف زرق قليل ترابها

جلا الماء عن أرجائها فهو حائر

وهذه الأوصاف كلّها لا تليق إلا بالشّعب دون غيره؛ وتأوّل ذلك على الفم تأوّل بعيد.

وقد أحسن كثيّر في قوله يصف ثغرا:

ويوم الحبل قد سفرت وكفّت

رداء العصب عن رتل براد(٢)

وعن نجلاء تدمع في بياض

إذا دمعت وتنظر في سواد

وعن متكاوس في العقص جثل

أثيث النبت ذي غدر جعاد(٣)

وقال أبو تمام في هذا المعنى:

وعلى العيس خرّد يتبسّم

ن عن الأشنب الشّتيت البراد(٤)

كان شوك السيّال حسنا فأضحى

دونه للفراق شوك القتاد(٥)

وقال البحتري:

وأرتنا خدّا يراح له الور

د، ويشتمّه جنى التّفّاح(٦)

وشتيتا يغضّ من لؤلؤ النّظ

م، ويزري على شتيت الأقاحي

فأضاءت تحت الدّجنّة للشّر

ب، وكادت تضيء للمصباح(٧)

____________________

(١) حاشية الأصل: (يعني بالدلو النجم، وما يزعمون من كون المطر عند طلوع نجم وسقوط نجم.

والنجاء: جمع نجو، وهو السحاب الّذي هراق ماءه، ويجوز أن يكون المعنى: من مياه النجاء بيض.، فاقتصر على ذكر النجاء؛ لأنها تدل على المياه والحبار: الارض الرخوة)

(٢) ديوانه ٢: ١٥٩، والأغاني ٢: ١٧٧ - ١٧٨، (طبع دار الكتب المصرية). ويقال: ثغر رتل؛ إذا كان حسن التنضيد مستوى النبات. والبراد: البارد.

(٣) الشعر المتكاوس: الكثيف المتراكم. والجثل: الكثيف الملتف.

(٤) ديوانه: ٧٥

(٥) حاشية الأصل: (السيال: ياسمين البر، وله شوك. تشبه به الأسنان؛ فيقول: كان أسنانها مثل شوك السيال حسنا، فاعترض دونها شوك الفراق).

(٦) ديوانه ١: ١٢٠.

(٧) حاشية الأصل (من نسخة): (كالمصباح).

١٧٧

وقال أيضا:

سفرت كما سفر الرّبيع الطّلق عن

ورد يرقرقه الضّحى مصقول

وتبسّمت عن لؤلؤ في رصفه

برد يردّ حشاشة المتبول

وقد جمع كلّ ما يوصف به الثّغر في قوله:

كأنما تضحك عن لؤلؤ

منضّد أو برد أو أقاح(١)

____________________

(١) ديوانه: ١: ١١٢.

١٧٨

مجلس آخر

[٦٦]

تأويل آية :( قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ الله مَنْ لَعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ؛ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ الله مَنْ لَعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ؛ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ ) ؛ [المائدة: ٦٠].

فقال: ما أنكرتم أن تكون هذه الآية دالة على أنه تعالى جعل الكافر كافرا؛ لأنه أخبر بأنه جعل منهم من عبد الطاغوت؛ كما جعل القردة والخنازير؟ وليس يجعله كافرا إلا بأن خلق كفره!.

الجواب، يقال له(١) : قبل أن نتكلّم في تأويل الآية بما تحتمله من المعاني:(٢) كيف يجوز أن يخبرنا بأنه(٢) جعلهم(٣) ؛ كفارا وخلق كفرهم! والكلام خرج مخرج الذّم لهم؛ والتوبيخ على كفرهم، والمبالغة في الإزراء عليهم! وأي مدخل لكونه خالقا لكفرهم في باب ذمّهم! وأي نسبة بينه وبين ذلك! بل لا شيء أبلغ في عذرهم وبراءتهم من أن يكون خالقا لما ذمّهم من أجله. وهذا يقتضي أن يكون الكلام متناقضا مستحيل المعنى؛ ونحن نعلم أن أحدا إذا أراد ذمّ غيره، وتوبيخه وتهجينه بمثل هذا الضرب من الكلام إنما يقول:

ألا أخبركم بشرّ الناس وأحقّهم بالذم واللوم! من فعل كذا، وصنع كذا؛ وكان على كذا وكذا؛ فيعدّد من الأحوال والأفعال قبائحها، ولا يجوز أن يدخل في جملتها ما ليس بقبيح؛ ولا ما هو من فعل الذم ومن جهته؛ حتى يقول في جملة ذلك: ومن تشاغل بالصّنعة الفلانية التي أسلمها إليه وحمله عليها؛ وإن عقلا يقبل هذه الشبهة لعقل ضعيف سخيف.

____________________

(١) حاشية الأصل: (نسخة س: لهم).

(٢ - ٢) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (كيف يجوز أن يخبر الله تعالى).

(٣) م: (يجعلهم).

١٧٩

فإن قيل: أليس قد ذمّهم في الكلام بأن جعل منهم القردة والخنازير؛ ولا صنع لهم في ذلك! وكذلك يجوز أن يذمّهم ويجعلهم عابدين للطاغوت؛ وإن كان من فعله!

قيل(١) : إنما جعلهم قردة وخنازير عقوبة لهم على أفعالهم وباستحقاقهم، فجرى ذلك مجرى أفعالهم، كما ذمّهم بأن لعنهم وغضب عليهم؛ من حيث استحقّوا ذلك منه بأفعالهم وعبادتهم للطاغوت؛ فإن كان هو خلقها فلا وجه لذمهم بها؛ لأن ذلك مما لا يستحقونه بفعل متقدّم كاللّعن والمسخ.

ثم نعود إلى تأويل الآية فنقول: لا ظاهر للآية يقتضي ما ظنّوه، وأكثر ما تضمنته الإخبار بأنه خلق وجعل من يعبد الطاغوت كما جعل منهم القردة والخنازير؛ ولا شبهة في أنه تعالى هو خلق الكافر، وأنه لا خالق له سواه؛ غير أن ذلك لا يوجب أنه خلق كفره وجعله كافرا.

وليس لهم أن يقولوا: كما نستفيد من قوله:( جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ ) أنه جعل ما به كانوا كذلك؛ هكذا نستفيد من قوله: جعل منهم من عبد الطاغوت أنه خلق ما به كان عابدا للطاغوت؛ وذلك إنما استفدنا ما ذكروه من الأول؛ لأنّ الدليل قد دلّ على أنّ ما به يكون القرد قردا والخنزير خنزيرا؛ لا يكون إلاّ من فعله.

وليس ما به يكون الكافر كافرا مقصورا على فعله تعالى؛ بل قد دلّ الدليل على أنه يتعالى عن فعل ذلك وخلقه، فافترق الأمران.

وفي الآية وجه آخر؛ وهو ألاّ يكون قوله تعالى:( وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ) معطوفا على القردة والخنازير؛ بل معطوفا على( مَنْ لَعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ ) ؛ وتقدير الكلام: من لعنه الله، ومن غضب عليه، ومن عبد الطاغوت، ومن جعل الله منهم القردة والخنازير؛ وهذا هو الواجب؛ لأن عَبَدَ فعل، والفعل لا يعطف على الاسم، فلو عطفناه على القردة والخنازير لكنا قد عطفنا فعلا على اسم، فالأولى عطفه على ما تقدم من الأفعال.

____________________

(١) د، ومن نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (قلنا).

١٨٠