أمالي المرتضى الجزء ٢

أمالي المرتضى0%

أمالي المرتضى مؤلف:
تصنيف: مكتبة اللغة والأدب
الصفحات: 403

أمالي المرتضى

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشريف أبى القاسم على بن الطاهر أبى أحمد الحسين
تصنيف: الصفحات: 403
المشاهدات: 61800
تحميل: 8739


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 403 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 61800 / تحميل: 8739
الحجم الحجم الحجم
أمالي المرتضى

أمالي المرتضى الجزء 2

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وقال قوم: يجوز أن يعطف( عَبَدَ الطَّاغُوتَ ) على الهاء والميم في مِنْهُمْ؛ فكأنه جعل منهم، وممّن عبد الطاغوت القردة والخنازير؛ وقد يحذف (من) في الكلام؛ قال الشاعر:

أمن يهجو رسول الله منكم

ويمدحه وينصره سواء(١)

أراد: ومن يمدحه وينصره.

فإن قيل: فهبوا هذا التأويل ساغ في قراءة من قرأ بالفتح، أين أنتم عن قراءة من قرأ وَعَبَدَ بفتح العين وضمّ الباء، وكسر التاء من الطَّاغُوتَ، ومن قرأ عَبَدَ الطَّاغُوتَ بضم العين والباء، ومن قرأ( وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ) بضم العين والتشديد، ومن قرأ وعبّاد الطّاغوت!

قلنا: المختار من هذه القراءة عند أهل العربية كلّهم القراءة بالفتح، وعليها جميع القراء السبعة؛ إلا حمزة فإنه قرأ؛ عَبَدَ بفتح العين وضم الباء، وباقي القراءات شاذة غير مأخوذ بها.

قال أبو إسحاق الزجاج في كتابه في معاني القرآن:"( عَبَدَ الطَّاغُوتَ ) نسق على مَنْ لَعَنَهُ الله " قال:" وقد قرئت عَبَدَ الطَّاغُوتَ؛( وعَبَدَ الطَّاغُوتَ ) ؛ والّذي أختاره وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ".

" وروي عن ابن مسعود رحمه الله: وعبدوا الطّاغوت فهذا يقوّي: وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ " قال:" ومن قرأ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ بضم الباء وخفض الطاغوت فإنه عند بعض أهل العربية ليس بالوجه من جهتين: إحداهما أن (عبد) على وزن (فعل)، وليس هذا من أمثلة الجمع؛ لأنهم فسّروه خدم الطاغوت. والثاني أن يكون محمولا على (وجعل منهم عبدا للطّاغوت). ثم خرّج لمن قرأ عَبَدَ وجها فقال: إن الاسم بني على (فعل) ؛ كما يقال: رجل حذر أي مبالغ في الحذر؛ فتأويل عَبَدَ أنّه بلغ الغاية في طاعة الشيطان". وهذا كلام الزجاج.

وقال أبو على الحسن بن عبد الغفار الفارسي محتجا لقراءة حمزة:" ليس عَبَدَ لفظ

____________________

(١) البيت لحسان، ديوانه: ٩، وروايته: (فمن يهجو ).

١٨١

جمع؛ ألا ترى أنه ليس في أبنية الجموع شيء على هذا البناء! ولكنه واحد يراد به الكثرة؛ ألا ترى أن في الأسماء المفردة المضافة إلى المعارف ما لفظه لفظ الإفراد ومعناه الجمع، كقوله تعالى:( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ الله لا تُحْصُوها ) ؛ [إبراهيم: ٣٤] وكذلك قوله:( وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ) جاء على (فعل) لأنّ هذا البناء يراد به الكثرة والمبالغة؛ وذلك نحو (يقظ وندس) ؛ فهذا كأنّ تقديره أنّه قد ذهب في عبادة الشيطان والتذلّل له كلّ مذهب".

قال:" وجاء على هذا لأن (عبد) في الأصل صفة، وإن كان قد استعمل استعمال الأسماء، واستعمالهم إياه استعمالها لا يزيل عنه كونه صفة؛ ألا ترى أنّ (الأبرق والأبطح)(١) وإن كانا قد استعملا استعمال الأسماء حتى كسّرا هذا النحو عندهم من التكسير في قولهم: (أبارق وأباطح) ؛ فلم يزل عنه حكم الصفة، يدلّك على ذلك تركهم صرفه، كتركهم صرف (أحمر)، ولم يجعلوا ذلك كأفكل وأ يدع(٢) ؛ وكذلك عَبَدَ وإن كان قد استعمل استعمال الأسماء لم يخرجه ذلك عن أن يكون صفة، وإذا لم يخرج عن أن يكون صفة لم يمتنع أن يبنى بناء الصفات على (فعل) "

وهذا كلام مفيد في الاحتجاج لحمزة؛ فإذا صحت قراءة حمزة وعادلت قراءة الباقين المختارة، وصح أيضا سائر ما روي من القراءات التي حكاها السائل كان الوجه الأول الّذي ذكرناه في الآية يزيل الشبهة فيها.

ويمكن في الآية وجه آخر على جميع القراءات المختلفة في عَبَدَ الطَّاغُوتَ؛ وهو أن يكون المراد بجعل منهم عبد الطاغوت؛ أي نسبه إليهم، وشهد عليه بكونه من جملتهم.

ول (جعل) مواضع قد تكون بمعنى الخلق والفعل؛ كقوله:( وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ) ، [الأنعام: ١]؛ وكقوله:( وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً ) ؛ [النحل: ٨١]؛ وهي هاهنا تتعدى إلى مفعول واحد؛ وقد تكون أيضا بمعنى التسمية والشهادة؛ كقوله تعالى:( وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً ) ؛ [الزخرف: ١٩]؛ وكقول القائل: جعلت البصرة

____________________

(١) الأبرق: أرض فيها حجارة سود وبيض، والأبطح: الأرض المنبطحة.

(٢) الأفكل: الرعدة، والأيدع: صبغ أحمر؛ وهو المسمى دم الأخوين.

١٨٢

بغداد، وجعلتني كافرا، وجعلت حسني قبيحا؛ وما أشبه ذلك؛ فهي هاهنا تتعدى إلى مفعولين.

ول (جعل) مواضع أخر لا حاجة بنا إلى ذكرها؛ فكأنه تعالى قال: ونسب عبد الطاغوت إليهم، وشهد أنهم من جملتهم.

فإن قيل: لو كانت جَعَلَ هاهنا على ما ذكرتم لوجب أن تكون متعدية إلى مفعولين؛ لأنها إذا لم تتعد إلاّ إلى مفعول واحد فلا معنى لها إلا الخلق.

قلنا: هذا غلط من متوهّمه؛ لأن جَعَلَ هاهنا متعدية إلى مفعولين، وقوله تعالى:

مِنْهُمْ يقوم مقام المفعول الثاني عند جميع أهل العربية، لأن كلّ جملة تقع في موضع خبر المبتدأ فهي تحسن أن تقع في موضع المفعول الثاني؛ كجعلت وظننت وما أشبههما.

وقال الشاعر:

أبا لأراجيز ياابن اللّؤم توعدني

وفي الأراجيز خلت اللؤم والخور(١)

وقد فسر هذا على وجهين: أحدهما على الغاء (خلت) من حيث توسطت الكلام؛ فيكون (في الأراجيز) على هذا في موضع رفع بأنه خبر المبتدأ، والوجه الثاني على إعمال (خلت) فيكون (في الأراجيز) في موضع نصب من حيث وقع موقع المفعول الثاني. وهذا بيّن لمن تدبره.

قال سيدنا أدام الله علوّه: أنشد ثعلب عن ابن الأعرابي:

أما وأبي للصّبر في كلّ خلّة

أقرّ لعيني من غنى رهن ذلّة

وإني لأختار الظّما في مواطن

على بارد عذب وأغنى بغلّة

وأستر ذنب الدّهر حتى كأنّه

صديق، ولا اغتابه عند زلّة

ولست كمن كان ابن أمّي مقترا

فلمّا أفاد المال عاد ابن علّة

فدابرته حتى انقضى الودّ بيننا

ولم أتمطّق من نداه ببلّة

وكنت له عند الملمّات عدّة

أسدّ بمالي دونه كلّ خلّة

____________________

(١) البيت للعين المنقري يهجو العجاج؛ وهو من شواهد الكتاب (١: ٦٠).

١٨٣

قال الشريف المرتضى رضي الله عنه: الأولى في هذه القطعة إطلاقها. الخلّة: الحاجة، والخلّة أيضا: الخصلة. والخلّة، بالضم: المودّة، والخلّة أيضا، بالضم: ما كان خلوا من المرعى.

والخلّة، بالكسر: ما يخرج من الأسنان بالخلال.

والخليل: الحبيب؛ من المودة والمحبة، والخليل أيضا: الفقير؛ وكلا الوجهين قد ذكر في قوله تعالى:( وَاتَّخَذَ الله إِبْراهِيمَ خَلِيلاً ) ؛ [النساء: ١٢٥]، ومنه حديث ابن مسعود: (تعلموا القرآن فإنه لا يدري أحدكم متى يختلّ إليه).

قال أبو العباس ثعلب يكون من شيئين: أحدهما من الخلّة التي هي الحاجة؛ أي متى يحتاج إليه، ويكون من الخلة وهي النبات الحلو؛ ويكون معناه: متى يشتهي ما عنده، مشبّه بالإبل؛ لأنها ترعى الخلّة فإذا ملّتها عدلوا بها إلى الحمض؛ فإذا ملّت الحمض اشتهت الخلّة؛ ومن أمثالهم: (جاءوا مخلّين فلاقوا حمضا) ؛ أي جاءوا مشتهين لقتالنا فلاقوا ما كرهوا.

والخلّة أيضا: بنت المخاض والذكر الخلّ؛ ويقال: جسم خلّ إذا كان مهزولا؛ قال الشاعر:

فاسقنيها ياسواد بن عمرو

إنّ جسمي بعد خالي لخلّ(١)

ويقال أيضا: فصيل مخلول إذا شدّ لسانه حتى لا يرضع؛ ويقال: خللته فهو خليل ومخلول؛ ومثله أجررته؛ قال الشاعر:

فلو أنّ قومي أنطقتني رماحهم

نطقت؛ ولكنّ الرّماح أجرّت(٢)

أي لم يعملوا في الحرب شيئا فكنت أفتخر بهم.

وقوله:

* أقرّ لعيني من غنى رهن ذلّة*

____________________

(١) من قصيدة تنسب لتأبط شرا، وقيل إنها لابن أخته خفاف بن نضلة، وقيل للشنفرى، وقيل لخلف الأحمر؛ وأولها:

إنّ بالشّعب الّذي دون سلع

لقتيلا دمه ما يطلّ

وهي في حماسة أبي تمام - بشرح المرزوقي ٨٢٧ - ٨٣٩ وانظر اللآلي: ٩١٩.

(٢) البيت في حماسة أبي تمام - بشرح المرزوقي ١٦١؛ من قطعة لعمرو بن معديكرب.

١٨٤

يقول: أختار الصيانة مع الفقر أحبّ إلي من الغنى مع الذلّ؛ ومثله:

إذا كان باب الذّلّ من جانب الغنى

سموت إلى العلياء من جانب الفقر

صبرت وكان الصّبر منّي سجيّة

وحسبك أنّ الله أثنى على الصّبر

وقوله:

وأستر ذنب الدهر حتى كأنه

صديق ...

أراد: أني لا أشكو ما يمسّني به الدهر من خصاصة؛ بل أستر ذلك وأظهر التجمّل حتى لا أسوأ الصديق وأسر العدوّ. وهذا المعنى أراد بقوله: (ولا اغتابه عند زلّتي).

وقوله:

* فلما أفاد المال عاد ابن علّة*

فالعرب تقول: هم بنو أعيان؛ إذا كان أبوهم واحدا وأمهم واحدة؛ فإذا كان أبوهم واحدا وأمهاتهم شتى قيل أولاد علاّت؛ ومنه الحديث المأثور عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: (النبيون أولاد علاّت) ؛ أي أمهاتهم شتّى وأبوهم واحد؛ وكنى الشاعر بذلك عن التباعد والتقاطع والتقالي؛ لأن الأكثر في بني العلاّت ما ذكرناه.

وقوله: (ودابرته) أي قاطعته.

وقوله:

* ولم أتمطّق من نداه ببلّة*

فالتمطّق يكون بالشفتين، والتلمّظ يكون باللسان، وكنى بذلك عن أنه لم يصب من خيره شيئا؛ وصان نفسه عنه.

١٨٥

مجلس آخر

[٦٧]

تأويل آية :( الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ )

إن سأل سائل فقال: ما تأويل قوله تعالى:( الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) ؛ [البقرة: ٢٢].

وما الّذي أثبت لهم العلم به؟ وكيف يطابق وصفهم هاهنا بالعلم لوصفهم بالجهل في قوله تعالى:( قُلْ أَفَغَيْرَ الله تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ ) ؛ [الزمر: ٦٤].

الجواب، قلنا: هذه الآية معناها متعلّق بما قبلها؛ لأنه تعالى أمرهم بعبادته، والاعتراف بنعمته؛ ثم عدّد عليهم صنوف النّعم التي ليست إلا من جهته؛ ليستدلّوا بذلك على وجوب عبادته؛ وإن العبادة إنما تجب لأجل النّعم المخصوصة؛ فقال جل من قائل:( يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً ) إلى آخر الآية؛ ونبّه في آخرها على وجوب توحيده والإخلاص له، وألاّ يشرك به شيء، بقوله تعالى:( فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) .

ومعنى قوله تعالى:( جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِراشاً ) أي يمكن أن تستقرّوا عليها وتفرشوها وتتصرفوا فيها؛ وذلك لا يمكن إلا بأن تكون مبسوطة ساكنة دائمة السكون.

وقد استدل أبو عليّ بذلك، وبقوله تعالى:( وَالله جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ بِساطاً ) على بطلان ما تقوّله المنجّمون من أن الأرض كريّة الشكل؛ وهذا القدر لا يدرك؛ لأنه يكفي في النعمة علينا أن يكون فيها بسائط ومواضع مسطوحة يمكن التصرّف عليها؛ وليس يجب أن يكون جميعها كذلك؛ ومعلوم ضرورة أن جميع الأرض ليس مسطوحا مبسوطا وإن كان

١٨٦

مواضع التصرّف منها بهذه الصفة، والمنجّمون لا يدفعون أن يكون في الأرض بسائط وسطوح يتصرّف عليها، ويستقرّ فيها؛ وإنما يذهبون إلى أن بجملتها شكل الكرة.

وليس له أن يقول: قوله:( وجَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِراشاً ) يقتضي الإشارة إلى جميع الأرض وجملتها؛ لا إلى مواضع منها، لأن ذلك تدفعه الضرورة من حيث أنا نعلم بالمشاهدة أنّ فيها ما ليس ببساط ولا فراش؛ ولا شبهة في أن جعله السماء على ما هي عليه من الصّفة ممّا له تعلّق بمنافعنا ومصالحنا. وكذلك إنزاله تعالى منها الماء الّذي هو المطر الّذي تظهر به الثمرات فننتفع بنيلها والاغتذاء بها.

فأما قوله تعالى:( فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً ) فإن الندّ هو المثل والعدل؛ قال حسان ابن ثابت:

أتهجوه ولست له بندّ

فشرّ كما لخيركما الفداء(١)

فأما قوله تعالى:( وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) فيحتمل وجوها:

أولها أن يريد أنكم تعلمون أنّ الأنداد التي هي الأصنام وما جرى مجراها التي تعبدونها من دون الله تعالى لم ينعم عليكم بهذه النعم التي عدّدها ولا بأمثالها، وأنها لا تضرّ ولا تنفع، ولا تسمع ولا تبصر؛ ومعلوم أن المشركين الذين كانوا يعبدون الأصنام ما كانوا يدّعون ولا تعتقدون أنّ الأصنام خلقت السماء والأرض من دون الله ولا معه تعالى؛ فالوصف لهم هاهنا بالعلم إنما هو لتأكيد الحجة عليهم. ويصح لزومها لهم؛ لأنهم مع العلم بما ذكرناه يكونون أضيق عذرا.

والوجه الثاني أن يكون المراد بقوله تعالى:( وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) أي تعقلون وتميزون، وتعلمون ما تقولون وتفعلون، وتأتون وتذرون، لأنّ من كان بهذه الصفة فقد استوفى شروط التكليف، ولزمته الحجة، وضاق عذره في التخلّف عن النظر وإصابة الحق.

ونظير ذلك قوله تعالى:( إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الألْبابِ ) ؛ [الزمر: ٩]( وإِنَّما يَخْشَى الله مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ ) ؛ [فاطر: ٢٨].

____________________

(١) ديوانه: ٩.

١٨٧

والوجه الثالث ما قاله بعض المفسرين كمجاهد وغيره أن المراد بذلك أهل الكتابين التوراة والإنجيل خاصة. ومعنى( وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) أي أنكم تعلمون أنه إله واحد في التوراة والإنجيل.

فعلى الوجهين الأولين لا تنافي بين هذه الآية وبين قوله تعالى:( قُلْ أَفَغَيْرَ الله تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ ) ؛ لأنّ علمهم تعلّق بشيء، وجهلهم تعلق بغيره. وعلى الوجه الثالث إذا جعل الآية التي سئلنا عنها مختصة بأهل الكتاب أمكن أن تجعل الآية التي وصفوا فيها بالجهل تتناول غير هؤلاء؛ ممن لم يكن ذا كتاب يجد فيه بيان التوحيد؛ وكلّ هذا واضح بحمد الله.

***

قال سيدنا أدام الله علوّه: ومما يفسّر من الشعر تفاسير مختلفة؛ والقول محتمل للكلّ قول امرئ القيس:

وقد اغتدي ومعي القانصان

وكلّ بمربأة مقتفر(١)

فيدركنا فغم داجن

سميع بصير طلوب نكر

ألصّ الضّروس، حبي الضّلوع،

تبوع، أريب، نشيط، أشر

فأنشب أظفاره في النّسا

فقلت: هبلت! ألا تنتصر!

فكرّ إليه بمبراته

كما خلّ ظهر اللّسان المجر

فظلّ يرنّح في غيطل

كما يستدير الحمار النّعر

قال ابن السّكّيت: القانصان: الصائدان، والمربأة: الموضع المرتفع يربأ فيه، والمقتفر:

الّذي يقتفر آثار الوحش ويتبعها. وقال غيره: القانصان: البازي والصقر.

والفغم: الكلب الحريص على الصيد؛ يقال: ما أشدّ فغمه! أي ما أشد حرصه!، قال الأعشى:

____________________

(١) ديوانه: ١٠ - ١٢.

١٨٨

نؤمّ ديار بني عامر

وأنت بآل عقيل فغم(١)

أي مولع، والدّاجن: الّذي يألف الصيد، والسميع: الّذي إذا سمع حسّا لم يفته، والبصير: الّذي إذا رأى شيئا من بعد لم يكذبه بصره، والتبوع: الّذي إذا تبع الصيد أدركه ولم يعجز عن لحقوقه، والنّكر: المنكر الحاذق بالصيد، ويروى (نكر) بالضم.

وقال ابن السكيت وغيره في قوله:

* فأنشب أظفاره في النّسا*

أي أنشب الكلب أظفاره في نسا الثور، والنّسا: عرق في الفخذ معروف. (فقلت:

هبلت) ؛ أي: فقلت للثور: هبلت، ألا تنتصر من الكلب! قالوا: وهذا تهكّم منه بالثور واستهزاء به، والأصل في التهكّم الوقوع على الشيء؛ يقال: تهكّم البيت إذا وقع بعضه على بعض.

ومعنى:

* فكرّ إليه بمبراته*

قال ابن السكّيت وغيره: معناه: فكرّ الثور إلى الكلب بمبراته؛ أي بقرنه.

ومعنى:

* كما خلّ ظهر اللسان المجرّ*

أي طعنه كما يجرّ الرجل لسان الفصيل، وهو أن يقطع طرف لسانه أو يشقّه حتى لا يقدر على الشرب من خلف أمه، وذلك إذا كبر واستغنى عن الشرب.

ومعنى:

* فظل يرنّح في غيطل*

أي ظل الكلب يرنّح(٢) ، أي يميد ويتمايل كالسكران، والغيطل: الشجر الملتف، ويكون أيضا الجلبة والصياح.

____________________

(١) ديوانه: ٣٠.

(٢) حاشية الأصل: (ترنح: تمايل من السكر وغيره، ورنح عليه، على ما لم يسم على فاعله، إذا استدار).

١٨٩

وقوله:

* كما يستدير الحمار النعر*

فالنّعر: الّذي يدخل في رأسه ذباب أزرق أو أخضر، فيطح برأسه وينزو، فشبّه الكلب في اضطرابه ونزوّه بالحمار النّعر، قال ابن مقبل:

ترى النّعرات الزّرق تحت لبانه

أحاد ومثنى أصعقتها صواهله(١)

وقال أحمد بن عبيد: القانصان: الفرس وصاحبه؛ والحجّة أن الفرس تسمى قانصا قول عدي بن زيد:

تقنصك الخيل ويصطادك الطّ

ير ولا تنكع لهو القنيص(٢)

أي لا تمنع به.

قال: وقوله:

* فأنشب أظفاره في النّسا*

معناه فأنشب الكلب أظفاره في نسا الثور، فقلت لصاحب الفرس أو لغلامي الممسك للفرس: هبلت! ألا تدنو إلى الثور فتطعنه فقد أمسكه عليك الكلب! قال: ومحال أن يكون امرؤ القيس أغرى الثور بقتل كلبه؛ لأن امرأ القيس يفخر بالصيد ويصفه في أكثر شعره بأنه مرزوق منه مظفّر فيه، كقوله:

إذا ما خرجنا قال ولدان أهلنا:

تعالوا إلى أن يأتنا الصّيد نحطب(٣)

وكقوله:

مطعم للصّيد ليس له

غيره كسب على كبره(٤)

____________________

(١) اللسان (نعر).

(٢) شعراء النصرانية ٤٧٠، واللسان (نكع).

(٣) خزانة الأدب ٢: ١٩٧؛ ولم يرد في ديوانه بشرح البطليوسي.

(٤) حاشية الأصل: (أي يطعم الصيد؛ واللام دخلت للتقوية) والبيت في اللسان (طعم)، وشرح الستة للأعلم ص ٥٦.

١٩٠

فمحال على هذا أن يغري الثور بقتل كلبه.

قال: وتأويل (ألا تنتصر!) ألا تدنو من الثور!  والدليل على أن (تنتصر) بمعنى (تدنو) قول الراعي:

وأفرغن في وادي جلاميد بعد ما

علا البيد سافي القيظة المتناصر

أي المتداني.

وقال مضرّس بن ربعي:

فإنّك لا تعطي امرأ حظّ غيره

ولا تملك الشّقّ الّذي الغيث ناصره

أي دان منه.

ومعنى: (ألصّ الضّروس) أي بعض أسنانه ملتصق ببعض.

وحبي الضلوع: أي مشرف الضلوع عاليها. ويروى: (حني الضّلوع) بالنون أي منحنيها. ويقال: إن الضّلوع إذا تقوّست كان أوسع لجوفه وأقوى له؛ ويروى أيضا: (خفي الضلوع) أي ضلوعه خفية داخلة في جنبه.

ومعنى:

* فظلّ يرنّح في غيطل*

أي ظلّ الثور يرنّح في غيطل لمّا طعنه صاحب الفرس. وقد يجوز أيضا أن يكون ترنّح الثور لظفر الكلب به، ولأنه أنشب أظفاره فيه؛ وكلّ ذلك محتمل.

ومما يحتمل أيضا على وجوه مختلفة قول امرئ القيس:

فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها

لما نسجتها من جنوب وشمأل(١)

قال قوم: معناه لم يدرس رسمها لنسج هاتين الريحين فقط؛ بل لتتابع الرياح والأمطار؛ والدليل على ذلك قوله في البيت الآخر:

____________________

(١) ديوانه: ١٩.

١٩١

* فهل عند رسم دارس من معوّل(١) *

وقال آخرون: ومعنى: (لم يعف رسمها) لم يدرس، فالرسم على هذا القول باق غير دارس.

ومعنى قوله في البيت الآخر: (رسم دارس)، أي فهل عند رسم سيدرس في المستقبل! وإن كان الساعة موجودا غير دارس!

وقال آخرون في معنى قوله: (لم يعف) مثل الوجه الثاني؛ أي أنه لم يدرس أثرها لما نسجتها، بل هي بواق ثوابت، فنحن نحزن لها، ونجزع عند رؤيتها، ولو عفت وامّحت لاسترحنا، وهذا مثل قول ابن أحمر:

ألا ليت المنازل قد بلينا

فلا يبكين ذا شجن حزينا

ومثل قول الآخر:

ليت الدّيار التي تبقى لتحزننا

كانت تبين إذا ما أهلها بانوا

وليس قوله:

* فهل عند رسم دارس من معوّل*

نقضا لهذا، إنما هو كقولك: درس كتابك، أي ذهب بعضه وبقي بعض.

وقال أبو بكر العبدي: معناه لم يعف رسمها من قلبي، وهو دارس من الموضع، فلم يتناول قوله: (لم يعف رسمها) ما تناوله قوله: (فهل عند رسم دارس) من جميع وجوهه فيتناقض الكلام.

وقال آخرون: أراد بقوله: (لم يعف)، لم يدرس، ثم أكذب نفسه بقوله:

* فهل عند رسم دارس من معوّل*

____________________

(١) ديوانه: ٢١، وأوله:

* وإنّ شفائي عبرة مهراقة*

١٩٢

كما قال زهير:

قف بالدّيار التي لم يعفها القدم

بلى، وغيّرها الأرواح والدّيم(١)

وكما قال الآخر:

فلا تبعدن ياخير عمرو بن مالك

بلى، إنّ من زار القبور ليبعدا

أراد (ليبعدن)، فأبدل الألف من النون الخفيفة؛ وهذا وجه ضعيف، وبيت زهير ليس يجب فيه ما توهّم من المناقضة والتكذيب؛ لأنه يمكن أن يحمل على ما ذكرناه في أحد الوجوه المتقدمة؛ من أنه أراد أنّ رسمها لم يعف ولم يبطل كلّه، وإن كان قد غيّرت الدّيم والأرواح بعضه وأثّرت في بعض.

فأما البيت الثاني فلا حجّة فيه؛ لأنه لم يتضمن إثباتا ونفيا، وإنما دعاء له ألا يبعد، ثم رجع إلى قوله: (بلى) إنه ليبعد من زار القبور، وما يدعي به غير واجب ولا ثابت، فكيف ينافي الإثبات الثاني!

ويمكن في البيت وجه آخر، وهو أن يكون معنى: (لم يعف رسمها) أي لم يزد ويكثر فيظهر حتى يعرفه المترسّم؛ ويثبته المتأمل، بل هو خاف غير لائح ولا ظاهر. ثم قال من بعد:

* فهل عند رسم دارس من معوّل*

فلم يتناقض الأول؛ لأنه قد أثبت الدروس له في كلا الموضعين. ولا شبهة في أن (عفا) من حروف الأضداد التي تستعمل تارة في الدروس، وأخرى في الزيادة والكثرة؛ قال الله تعالى:

( حَتَّى عَفَوْا ) ؛ [الأعراف: ٩٥]؛ أي كثروا؛ ويقال: قد عفا الشّعر إذا كثر، وقال الشاعر:

____________________

(١) ديوانه ١٤٥.

١٩٣

ولكنّا نعضّ السّيف منها

بأسوق عافيات اللّحم كوم

أراد كثيرات اللحم؛ يقال: قد عفا وبر البعير إذا زاد؛ ويقال: أعفيت الشعر وعفوته إذا كثرته وزدت فيه، وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله بأن تحفى الشوارب وتعفى اللّحى؛ أي توفر، وهذا الوجه عندي أشبه مما تقدم.

١٩٤

مجلس آخر

[٦٨]

تأويل آية :( يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا. فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا. فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا ) ؛ [مريم: ٢٨، ٢٩].

فقال: من هارون الّذي نسبت مريم إلى أنها أخته؟ ومعلوم أنها لم تكن أختا لهارون أخي موسى. وما معنى( مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا ) ، ولفظة (كان) تدلّ على ما مضى(١) وعيسى عليه السلام في حال قولهم ذلك كان في المهد؟

الجواب، قلنا: هارون الّذي نسبت إليه مريم قد قيل فيه أقوال:

منها أن هارون المذكور كان رجلا فاسقا مشهورا بالعهر والشرّ وفساد الطريقة، فلما أنكروا ما جاءت به من الولد، وظنوا بها ما هي مبرأة منه نسبوها إلى هذا الرجل تشبيها وتمثيلا؛ وكان تقدير الكلام: ياشبيهة هارون في فسقه وقبيح فعله؛ وهذا القول يروى عن سعيد بن جبير.

ومنها أن هارون هذا كان أخاها لأبيها دون أمّها؛ وقيل إنه كان أخاها لأبيها وأمها، وكان رجلا معروفا بالصلاح وحسن الطريقة والعبادة والتألّه.

وقيل: إنه لم يكن أخاها على الحقيقة؛ بل كان رجلا صالحا من قومها، وإنه لما مات شيّع جنازته أربعون ألفا، كلّهم يسمّى هارون، من بني إسرائيل، فلما أنكروا ما ظهر من أمرها قالوا لها:( يا أُخْتَ هارُونَ ) ؛ أي ياشبيهته في الصلاح، ما كان هذا معروفا منك، ولا كان ووالدك ممن يفعل القبيح، ولا تتطرّق عليه الرّيب!

____________________

(١) ف: (ما مضى من الزمان).

١٩٥

وعلى قول من قال إنه كان أخاها يكون معنى قولهم: إنك من أهل بيت الصلاح والسداد؛ لأن أباك لم يكن امرأ سوء، ولا كانت أمك بغيّا، وأنت مع ذلك أخت هارون المعروف بالصلاح والعفة، فكيف أتيت بما لا يشبه نسبك، ولا يعرف من مثلك!

ويقوّي هذا القول ما رواه المغيرة بن شعبة قال: لما أرسلني رسول الله صلى الله عليه وآله إلى أهل نجران قال لي أهلها: أليس نبيّكم يزعم أن هارون أخو موسى، وقد علم الله ما كان بين موسى وعيسى من السنين! فلم أدر ما أردّ عليهم حتى رجعت إلى النبي صلى الله عليه وآله فذكرت ذلك فقال لي: (فهلاّ قلت إنهم كانوا يدعون بأنبيائهم والصالحين قبلهم) !

ومنها أن يكون معنى قوله:( يا أُخْتَ هارُونَ ) يامن هي من نسل هارون أخي موسى؛ كما يقال للرجل: ياأخا بني تميم، ويا أخا بني فلان.

وذكر مقاتل بن سليمان في قوله تعالى:( يا أُخْتَ هارُونَ ) (١) قال: روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: (هارون الّذي ذكروه هو هارون أخو موسى عليهما السلام).

قال مقاتل: تأويل(١) ( يا أُخْتَ هارُونَ ) يامن هي من نسل هارون، كما قال تعالى:

( وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً ) ؛ [الأعراف: ٦٥]،( وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً ) ؛ [الأعراف: ٧٣] يعني بأخيهم أنه من نسلهم وجنسهم.

وكلّ قول من هذه الأقوال قد اختاره قوم من المفسرين.

فأما قوله تعالى:( مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا ) فهو كلام مبني على الشرط والجزاء، مقصود به إليهما؛ والمعنى: من يكن في المهد صبيا، فكيف نكلّمه! ووضع في ظاهر اللفظ الماضي موضع المستقبل، لأن الشارط لا يشرط إلا فيما يستقبل، فيقول القائل: إن زرتني زرتك؛ يريد إن تزرني أزرك؛ قال الله تعالى:( إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ ) ؛ [الفرقان: ١٠] يعني إن يشأ يجعل.

____________________

(١ - ١) ساقط من الأصل؛ والمثبت عن د، ف.

١٩٦

وقال قطرب: معنى كانَ هاهنا معنى صار؛ فكأن المعنى: وكيف نكلّم من صار في المهد صبيا، ويشهد بذلك قول زهير:

أجزت إليه حرّة أرحبيّة

وقد كان لون اللّيل مثل الأرندج(١)

وقال غيره: كانَ هاهنا بمعنى خلق ووجد؛ كما قالت العرب: كان الحرّ، وكان البرد؛ أي وجدا وحدثا.

وقال قوم: لفظة كانَ وإن أريد بها الماضي فقد يراد بها الحال والاستقبال؛ كقوله تعالى:( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) ؛ [آل عمران: ١١٠]، أي أنتم كذلك، وقوله تعالى:( هَلْ كُنْتُ إِلاّ بَشَراً رَسُولاً ) [الإسراء: ٧٣] وقوله تعالى:( وَكانَ الله عَلِيماً حَكِيماً ) ؛ [النساء: ١٧]؛ وإن كان قد قيل في هذه الآية الأخيرة غير هذا؛ قيل إن القوم شاهدوا من آثار علمه وحكمته تعالى ما شاهدوا، فأخبرهم أنه لم يزل عليما حكيما، أي فلا تظنّوا أنه استفاد علما وحكمة لم يكن عليهما.

ومما يقوي مذهب من وضع لفظة الماضي في موضع الحال والاستقبال قوله تعالى:

( وَإِذْ قالَ الله ياعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ) [المائدة: ١١٠]، وقوله تعالى:( وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ ) ؛ [الأعراف: ٤٤]؛ وقولهم في الدعاء: غفر الله لك، وأطال بقاءك! وما جرى مجرى ذلك.

ومعنى الكلّ يفعل الله ذلك بك؛ إلاّ أنه لما أمن اللبس وضع لفظ الماضي في موضع المستقبل، قال الشاعر:

____________________

(١) ديوانه: ٣٢٣؛ والرواية فيه:

زجرت عليه حرّة أرحبيّة

وقد كان لون الليل مثل اليرندج

الضمير يعود إلى الطريق في البيت قبله، والحرة: الكريمة، والأرحبية: منسوب إلى أرحب؛ وهو بطن من همدان تنسب إليه النجائب؛ لأنها من نسله. والأرندج واليرندج: السواد، يسود به الخف -.

١٩٧

فأدركت من قد كان قبلي ولم أدع

لمن كان بعدي في القصائد مصعدا(١)

أراد لمن يكون بعدي.

ومما جعلوا فيه المستقبل في موضع الماضي قول الصّلتان العبدي يرثي المغيرة بن المهلّب(٢) :

قل للقوافل والغزاة(٣) إذا غزوا

والباكرين وللمجدّ الرّائح

إنّ الشّجاعة والسّماحة ضمّنا

قبرا بمرو على الطّريق الواضح

فإذا مررت بقبره فاعقر به

كوم الجلاد وكلّ طرف سابح(٤)

وانضح جوانب قبره بدمائها

فلقد يكون أخا دم وذبائح

معناه: (فلقد كان كذلك).

____________________

(١) د، ف: (الفضائل مصعدا)، وفي حاشيتي الأصل، ف: (أي بلغت درجة من كان قبلي).

(٢) في حاشيتي الأصل، ف: (هذه قصيدة رواها الأصمعي لزياد الأعجم، وتروى للصلتان العبدي؛ وهي إحدى المراثي السبع، وقال غيره: هي لزياد الأعجم؛ وهو من عبد القيس، وكان يلقب بالصلتان، وإنما قيل له الأعجم للثغة في لسانه، ويقال: إنه نشأ في العجم، وكان من أشعر أهل زمانه؛ وكان اصطفاه المهلب بن أبي صفرة الأزدي؛ فكان زياد يمدحه وأهله، وكان ألثغ، يقول للجرادة (زرادة)، فقال له شاعر:

وما صفراء تدعى أم عوف

كأنّ رجلتيها منجلان

فقال زياد:

أردت زرادة وأظنّ أخرى

أردت بما أردت به لساني

وكان يقول: (أنا أقول (السعر)، و (الأرب) تقوم لي، أراد (الشعر)، و (العرب).

والقصيدة في أمالي اليزيدي ١ - ٧.

(٣) في الأمالي: (والغزي) كغني

(٤) الكوم: جمع كوماء؛ وهي الناقة السمينة؛ والجلاد: جمع جلدة؛ وهي أدسم الإبل لبنا.

وفي د: (كوم المطي)، وفي الأمالي: (كوم الهجان). والطرف: الأصيل من الخيل. والسابح:

الّذي يجري بقوة. وفي أمالي اليزيدي: (لما أنشد زياد الأعجم المهلب هذا الموضع من القصيدة قال: أعقرت ياأبا أمامة؟ قال: لا والله، أصلحك الله! قال: ولم؟ قال: لأني كنت على ابنة الأتان، قال: أما إنك لو عقرت ما بقي بالبصرة طرف عتيق، ولا حمل نجيب إلا شدّ بمربطك أو نيخ بفنائك).

١٩٨

تأويل خبر [ (لا عدوى ولا هامة ولا طيرة) ]

إن سأل سائل فقال: كيف يطابق ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: (لا عدوى ولا هامة ولا طيرة) وأنه قيل له: إن النّقبة(١) تقع بمشفر البعير فتجرب لذلك الإبل، فقال عليه السلام: (فما أعدى الأول؟) لما روي عنه عليه السلام من قوله: (لا يوردنّ ذو عاهة على مصحّ)، وقوله: (فرّ من المجذوم فرارك من الأسد)، وأن رجلا مجذوما أتاه ليبايعه بيعة الإسلام فأرسل إليه بالبيعة، وأمره بالانصراف، ولم يأذن له عليه السلام، وروي عنه عليه السلام أنه قال: (الشؤم في المرأة والدار والدّابة) ؛ وظواهر هذه الأخبار متنافية متناقضة فبيّنوا وجه الجمع بينها.

الجواب، قلنا: إن ابن قتيبة قد سأل نفسه عن اختلاف هذه الأخبار، وأجاب عن ذلك بما نذكره على وجهه، ونذكر ما عندنا فيه، فإنه خلّط وأتى بما ليس بمرضي.

قال:" إنّ لكلّ(٢) من هذه الأخبار معنى وموضعا؛ فإذا وضع موضعه زال الاختلاف".

قال:" وللعدوى معنيان:

أحدهما عدوى الجذام، وإنّ المجذوم تشتد رائحته حتى تسقم في الحال مجالسيه ومؤاكليه، وكذلك المرأة تكون تحت المجذوم فتضاجعه في شعار واحد، فيوصل إليها الأذى؛ وربما جذمت، وكذلك ولده ينزعون في الكبر إليه، وكذلك من كان به سلّ ودقّ(٣) ، والأطباء تأمر بألاّ يجالس المسلول والمجذوم؛ ولا يريدون بذلك معنى العدوى؛ وإنما يريدون بذلك تغيّر الرائحة، وأنها قد يسقم في الحال اشتمامها. والأطباء أبعد الناس من الإيمان بيمن أو شؤم، وكذلك النّقبة تكون بالبعير وهو جرب رطب، فإذا خالط الإبل وحاكّها أوصل إليها بالماء الّذي يسيل منه نحوا مما به؛ فهذا هو المعنى الّذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله: (لا يوردنّ ذو عاهة على مصحّ) ".

____________________

(١) النقبة: أول شيء يظهر من الجرب؛ وجمعها نقب. (وانظر نهاية ابن الأثير ٤: ١٦٨).

(٢) تأويل مختلف الأحاديث ص ١٢٣ وما بعدها؛ مع اختلاف في العبارة.

(٣) الدق: نوع من الحمى.

١٩٩

قال:" وقد ذهب قوم إلى أنه أراد بذلك ألاّ يظن أنّ الّذي نال إبله من ذوات العاهة، فيأثم."

قال:" وليس لهذا عندي وجه؛ لأنا نجد الّذي خبرتك به عيانا) ".

قال:" وأما الجنس الآخر من العدوى فهو الطاعون ينزل ببلد فيخرج منه خوفا من الطاعون، وحكي عن الأصمعي عن بعض البصريين أنه هرب من الطاعون، فركب حمارا ومضى بأهله نحو سفوان(١) ، فسمع حاديا يحدو خلفه، وهو يقول:

لن يسبق الله على حمار

ولا على ذي ميعة مطار(٢)

أو يأتي الحقّ(٣) على مقدار

قد يصبح الله أمام السّاري

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (إذا كان بالبلد الّذي أنتم فيه فلا تخرجوا منه).

وقال أيضا: (إذا كان ببلد فلا تدخلوه) ؛ يريد بقوله: (لا تخرجوا) من البلد إذا كان فيه.

كأنكم تظنون أن الفرار من قدر الله تعالى ينجيكم؛ ويريد بقوله: (إذا كان ببلد فلا تدخلوه) إن مقامكم بالموضع الّذي لا طاعون فيه أسكن لأنفسكم، وأطيب لعيشكم ". قال:" ومن ذلك المرأة تعرف بالشؤم، والدار، فينال الرجل مكروها أو جائحة فيقول: أعدتني بشؤمها) ".

قال:" فهذا الّذي قال فيه عليه السلام: (لا عدوى) ".

" فأما الحديث الّذي رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: (الشؤم في المرأة والدار والدابّة) فإن هذا يتوهّم فيه الغلط على أبي هريرة، وأنه سمع من النبي صلى الله عليه وآله شيئا فلم يعه."

وروى ابن قتيبة خبرا ورفعه إلى أبي حسّان الأعرج أنّ رجلين دخلا على عائشة فقالا: إن أبا هريرة يحدّث عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: (إنما الطّيرة في المرأة والدار والدابة)، فطارت

____________________

(١) سفوان: منزل قريب من البصرة.

(٢) الميعة: مصدر ماع الفرس إذا جرى.

(٣) حاشية الأصل: (نسخة س: الحتف)، وهي رواية ابن قتيبة.

٢٠٠