أمالي المرتضى الجزء ٢

أمالي المرتضى9%

أمالي المرتضى مؤلف:
تصنيف: مكتبة اللغة والأدب
الصفحات: 403

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 403 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 67149 / تحميل: 10080
الحجم الحجم الحجم
أمالي المرتضى

أمالي المرتضى الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

وقال قوم: يجوز أن يعطف( عَبَدَ الطَّاغُوتَ ) على الهاء والميم في مِنْهُمْ؛ فكأنه جعل منهم، وممّن عبد الطاغوت القردة والخنازير؛ وقد يحذف (من) في الكلام؛ قال الشاعر:

أمن يهجو رسول الله منكم

ويمدحه وينصره سواء(١)

أراد: ومن يمدحه وينصره.

فإن قيل: فهبوا هذا التأويل ساغ في قراءة من قرأ بالفتح، أين أنتم عن قراءة من قرأ وَعَبَدَ بفتح العين وضمّ الباء، وكسر التاء من الطَّاغُوتَ، ومن قرأ عَبَدَ الطَّاغُوتَ بضم العين والباء، ومن قرأ( وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ) بضم العين والتشديد، ومن قرأ وعبّاد الطّاغوت!

قلنا: المختار من هذه القراءة عند أهل العربية كلّهم القراءة بالفتح، وعليها جميع القراء السبعة؛ إلا حمزة فإنه قرأ؛ عَبَدَ بفتح العين وضم الباء، وباقي القراءات شاذة غير مأخوذ بها.

قال أبو إسحاق الزجاج في كتابه في معاني القرآن:"( عَبَدَ الطَّاغُوتَ ) نسق على مَنْ لَعَنَهُ الله " قال:" وقد قرئت عَبَدَ الطَّاغُوتَ؛( وعَبَدَ الطَّاغُوتَ ) ؛ والّذي أختاره وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ".

" وروي عن ابن مسعود رحمه الله: وعبدوا الطّاغوت فهذا يقوّي: وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ " قال:" ومن قرأ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ بضم الباء وخفض الطاغوت فإنه عند بعض أهل العربية ليس بالوجه من جهتين: إحداهما أن (عبد) على وزن (فعل)، وليس هذا من أمثلة الجمع؛ لأنهم فسّروه خدم الطاغوت. والثاني أن يكون محمولا على (وجعل منهم عبدا للطّاغوت). ثم خرّج لمن قرأ عَبَدَ وجها فقال: إن الاسم بني على (فعل) ؛ كما يقال: رجل حذر أي مبالغ في الحذر؛ فتأويل عَبَدَ أنّه بلغ الغاية في طاعة الشيطان". وهذا كلام الزجاج.

وقال أبو على الحسن بن عبد الغفار الفارسي محتجا لقراءة حمزة:" ليس عَبَدَ لفظ

____________________

(١) البيت لحسان، ديوانه: ٩، وروايته: (فمن يهجو ).

١٨١

جمع؛ ألا ترى أنه ليس في أبنية الجموع شيء على هذا البناء! ولكنه واحد يراد به الكثرة؛ ألا ترى أن في الأسماء المفردة المضافة إلى المعارف ما لفظه لفظ الإفراد ومعناه الجمع، كقوله تعالى:( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ الله لا تُحْصُوها ) ؛ [إبراهيم: ٣٤] وكذلك قوله:( وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ) جاء على (فعل) لأنّ هذا البناء يراد به الكثرة والمبالغة؛ وذلك نحو (يقظ وندس) ؛ فهذا كأنّ تقديره أنّه قد ذهب في عبادة الشيطان والتذلّل له كلّ مذهب".

قال:" وجاء على هذا لأن (عبد) في الأصل صفة، وإن كان قد استعمل استعمال الأسماء، واستعمالهم إياه استعمالها لا يزيل عنه كونه صفة؛ ألا ترى أنّ (الأبرق والأبطح)(١) وإن كانا قد استعملا استعمال الأسماء حتى كسّرا هذا النحو عندهم من التكسير في قولهم: (أبارق وأباطح) ؛ فلم يزل عنه حكم الصفة، يدلّك على ذلك تركهم صرفه، كتركهم صرف (أحمر)، ولم يجعلوا ذلك كأفكل وأ يدع(٢) ؛ وكذلك عَبَدَ وإن كان قد استعمل استعمال الأسماء لم يخرجه ذلك عن أن يكون صفة، وإذا لم يخرج عن أن يكون صفة لم يمتنع أن يبنى بناء الصفات على (فعل) "

وهذا كلام مفيد في الاحتجاج لحمزة؛ فإذا صحت قراءة حمزة وعادلت قراءة الباقين المختارة، وصح أيضا سائر ما روي من القراءات التي حكاها السائل كان الوجه الأول الّذي ذكرناه في الآية يزيل الشبهة فيها.

ويمكن في الآية وجه آخر على جميع القراءات المختلفة في عَبَدَ الطَّاغُوتَ؛ وهو أن يكون المراد بجعل منهم عبد الطاغوت؛ أي نسبه إليهم، وشهد عليه بكونه من جملتهم.

ول (جعل) مواضع قد تكون بمعنى الخلق والفعل؛ كقوله:( وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ) ، [الأنعام: ١]؛ وكقوله:( وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً ) ؛ [النحل: ٨١]؛ وهي هاهنا تتعدى إلى مفعول واحد؛ وقد تكون أيضا بمعنى التسمية والشهادة؛ كقوله تعالى:( وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً ) ؛ [الزخرف: ١٩]؛ وكقول القائل: جعلت البصرة

____________________

(١) الأبرق: أرض فيها حجارة سود وبيض، والأبطح: الأرض المنبطحة.

(٢) الأفكل: الرعدة، والأيدع: صبغ أحمر؛ وهو المسمى دم الأخوين.

١٨٢

بغداد، وجعلتني كافرا، وجعلت حسني قبيحا؛ وما أشبه ذلك؛ فهي هاهنا تتعدى إلى مفعولين.

ول (جعل) مواضع أخر لا حاجة بنا إلى ذكرها؛ فكأنه تعالى قال: ونسب عبد الطاغوت إليهم، وشهد أنهم من جملتهم.

فإن قيل: لو كانت جَعَلَ هاهنا على ما ذكرتم لوجب أن تكون متعدية إلى مفعولين؛ لأنها إذا لم تتعد إلاّ إلى مفعول واحد فلا معنى لها إلا الخلق.

قلنا: هذا غلط من متوهّمه؛ لأن جَعَلَ هاهنا متعدية إلى مفعولين، وقوله تعالى:

مِنْهُمْ يقوم مقام المفعول الثاني عند جميع أهل العربية، لأن كلّ جملة تقع في موضع خبر المبتدأ فهي تحسن أن تقع في موضع المفعول الثاني؛ كجعلت وظننت وما أشبههما.

وقال الشاعر:

أبا لأراجيز ياابن اللّؤم توعدني

وفي الأراجيز خلت اللؤم والخور(١)

وقد فسر هذا على وجهين: أحدهما على الغاء (خلت) من حيث توسطت الكلام؛ فيكون (في الأراجيز) على هذا في موضع رفع بأنه خبر المبتدأ، والوجه الثاني على إعمال (خلت) فيكون (في الأراجيز) في موضع نصب من حيث وقع موقع المفعول الثاني. وهذا بيّن لمن تدبره.

قال سيدنا أدام الله علوّه: أنشد ثعلب عن ابن الأعرابي:

أما وأبي للصّبر في كلّ خلّة

أقرّ لعيني من غنى رهن ذلّة

وإني لأختار الظّما في مواطن

على بارد عذب وأغنى بغلّة

وأستر ذنب الدّهر حتى كأنّه

صديق، ولا اغتابه عند زلّة

ولست كمن كان ابن أمّي مقترا

فلمّا أفاد المال عاد ابن علّة

فدابرته حتى انقضى الودّ بيننا

ولم أتمطّق من نداه ببلّة

وكنت له عند الملمّات عدّة

أسدّ بمالي دونه كلّ خلّة

____________________

(١) البيت للعين المنقري يهجو العجاج؛ وهو من شواهد الكتاب (١: ٦٠).

١٨٣

قال الشريف المرتضى رضي الله عنه: الأولى في هذه القطعة إطلاقها. الخلّة: الحاجة، والخلّة أيضا: الخصلة. والخلّة، بالضم: المودّة، والخلّة أيضا، بالضم: ما كان خلوا من المرعى.

والخلّة، بالكسر: ما يخرج من الأسنان بالخلال.

والخليل: الحبيب؛ من المودة والمحبة، والخليل أيضا: الفقير؛ وكلا الوجهين قد ذكر في قوله تعالى:( وَاتَّخَذَ الله إِبْراهِيمَ خَلِيلاً ) ؛ [النساء: ١٢٥]، ومنه حديث ابن مسعود: (تعلموا القرآن فإنه لا يدري أحدكم متى يختلّ إليه).

قال أبو العباس ثعلب يكون من شيئين: أحدهما من الخلّة التي هي الحاجة؛ أي متى يحتاج إليه، ويكون من الخلة وهي النبات الحلو؛ ويكون معناه: متى يشتهي ما عنده، مشبّه بالإبل؛ لأنها ترعى الخلّة فإذا ملّتها عدلوا بها إلى الحمض؛ فإذا ملّت الحمض اشتهت الخلّة؛ ومن أمثالهم: (جاءوا مخلّين فلاقوا حمضا) ؛ أي جاءوا مشتهين لقتالنا فلاقوا ما كرهوا.

والخلّة أيضا: بنت المخاض والذكر الخلّ؛ ويقال: جسم خلّ إذا كان مهزولا؛ قال الشاعر:

فاسقنيها ياسواد بن عمرو

إنّ جسمي بعد خالي لخلّ(١)

ويقال أيضا: فصيل مخلول إذا شدّ لسانه حتى لا يرضع؛ ويقال: خللته فهو خليل ومخلول؛ ومثله أجررته؛ قال الشاعر:

فلو أنّ قومي أنطقتني رماحهم

نطقت؛ ولكنّ الرّماح أجرّت(٢)

أي لم يعملوا في الحرب شيئا فكنت أفتخر بهم.

وقوله:

* أقرّ لعيني من غنى رهن ذلّة*

____________________

(١) من قصيدة تنسب لتأبط شرا، وقيل إنها لابن أخته خفاف بن نضلة، وقيل للشنفرى، وقيل لخلف الأحمر؛ وأولها:

إنّ بالشّعب الّذي دون سلع

لقتيلا دمه ما يطلّ

وهي في حماسة أبي تمام - بشرح المرزوقي ٨٢٧ - ٨٣٩ وانظر اللآلي: ٩١٩.

(٢) البيت في حماسة أبي تمام - بشرح المرزوقي ١٦١؛ من قطعة لعمرو بن معديكرب.

١٨٤

يقول: أختار الصيانة مع الفقر أحبّ إلي من الغنى مع الذلّ؛ ومثله:

إذا كان باب الذّلّ من جانب الغنى

سموت إلى العلياء من جانب الفقر

صبرت وكان الصّبر منّي سجيّة

وحسبك أنّ الله أثنى على الصّبر

وقوله:

وأستر ذنب الدهر حتى كأنه

صديق ...

أراد: أني لا أشكو ما يمسّني به الدهر من خصاصة؛ بل أستر ذلك وأظهر التجمّل حتى لا أسوأ الصديق وأسر العدوّ. وهذا المعنى أراد بقوله: (ولا اغتابه عند زلّتي).

وقوله:

* فلما أفاد المال عاد ابن علّة*

فالعرب تقول: هم بنو أعيان؛ إذا كان أبوهم واحدا وأمهم واحدة؛ فإذا كان أبوهم واحدا وأمهاتهم شتى قيل أولاد علاّت؛ ومنه الحديث المأثور عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: (النبيون أولاد علاّت) ؛ أي أمهاتهم شتّى وأبوهم واحد؛ وكنى الشاعر بذلك عن التباعد والتقاطع والتقالي؛ لأن الأكثر في بني العلاّت ما ذكرناه.

وقوله: (ودابرته) أي قاطعته.

وقوله:

* ولم أتمطّق من نداه ببلّة*

فالتمطّق يكون بالشفتين، والتلمّظ يكون باللسان، وكنى بذلك عن أنه لم يصب من خيره شيئا؛ وصان نفسه عنه.

١٨٥

مجلس آخر

[٦٧]

تأويل آية :( الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ )

إن سأل سائل فقال: ما تأويل قوله تعالى:( الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) ؛ [البقرة: ٢٢].

وما الّذي أثبت لهم العلم به؟ وكيف يطابق وصفهم هاهنا بالعلم لوصفهم بالجهل في قوله تعالى:( قُلْ أَفَغَيْرَ الله تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ ) ؛ [الزمر: ٦٤].

الجواب، قلنا: هذه الآية معناها متعلّق بما قبلها؛ لأنه تعالى أمرهم بعبادته، والاعتراف بنعمته؛ ثم عدّد عليهم صنوف النّعم التي ليست إلا من جهته؛ ليستدلّوا بذلك على وجوب عبادته؛ وإن العبادة إنما تجب لأجل النّعم المخصوصة؛ فقال جل من قائل:( يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً ) إلى آخر الآية؛ ونبّه في آخرها على وجوب توحيده والإخلاص له، وألاّ يشرك به شيء، بقوله تعالى:( فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) .

ومعنى قوله تعالى:( جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِراشاً ) أي يمكن أن تستقرّوا عليها وتفرشوها وتتصرفوا فيها؛ وذلك لا يمكن إلا بأن تكون مبسوطة ساكنة دائمة السكون.

وقد استدل أبو عليّ بذلك، وبقوله تعالى:( وَالله جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ بِساطاً ) على بطلان ما تقوّله المنجّمون من أن الأرض كريّة الشكل؛ وهذا القدر لا يدرك؛ لأنه يكفي في النعمة علينا أن يكون فيها بسائط ومواضع مسطوحة يمكن التصرّف عليها؛ وليس يجب أن يكون جميعها كذلك؛ ومعلوم ضرورة أن جميع الأرض ليس مسطوحا مبسوطا وإن كان

١٨٦

مواضع التصرّف منها بهذه الصفة، والمنجّمون لا يدفعون أن يكون في الأرض بسائط وسطوح يتصرّف عليها، ويستقرّ فيها؛ وإنما يذهبون إلى أن بجملتها شكل الكرة.

وليس له أن يقول: قوله:( وجَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِراشاً ) يقتضي الإشارة إلى جميع الأرض وجملتها؛ لا إلى مواضع منها، لأن ذلك تدفعه الضرورة من حيث أنا نعلم بالمشاهدة أنّ فيها ما ليس ببساط ولا فراش؛ ولا شبهة في أن جعله السماء على ما هي عليه من الصّفة ممّا له تعلّق بمنافعنا ومصالحنا. وكذلك إنزاله تعالى منها الماء الّذي هو المطر الّذي تظهر به الثمرات فننتفع بنيلها والاغتذاء بها.

فأما قوله تعالى:( فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً ) فإن الندّ هو المثل والعدل؛ قال حسان ابن ثابت:

أتهجوه ولست له بندّ

فشرّ كما لخيركما الفداء(١)

فأما قوله تعالى:( وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) فيحتمل وجوها:

أولها أن يريد أنكم تعلمون أنّ الأنداد التي هي الأصنام وما جرى مجراها التي تعبدونها من دون الله تعالى لم ينعم عليكم بهذه النعم التي عدّدها ولا بأمثالها، وأنها لا تضرّ ولا تنفع، ولا تسمع ولا تبصر؛ ومعلوم أن المشركين الذين كانوا يعبدون الأصنام ما كانوا يدّعون ولا تعتقدون أنّ الأصنام خلقت السماء والأرض من دون الله ولا معه تعالى؛ فالوصف لهم هاهنا بالعلم إنما هو لتأكيد الحجة عليهم. ويصح لزومها لهم؛ لأنهم مع العلم بما ذكرناه يكونون أضيق عذرا.

والوجه الثاني أن يكون المراد بقوله تعالى:( وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) أي تعقلون وتميزون، وتعلمون ما تقولون وتفعلون، وتأتون وتذرون، لأنّ من كان بهذه الصفة فقد استوفى شروط التكليف، ولزمته الحجة، وضاق عذره في التخلّف عن النظر وإصابة الحق.

ونظير ذلك قوله تعالى:( إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الألْبابِ ) ؛ [الزمر: ٩]( وإِنَّما يَخْشَى الله مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ ) ؛ [فاطر: ٢٨].

____________________

(١) ديوانه: ٩.

١٨٧

والوجه الثالث ما قاله بعض المفسرين كمجاهد وغيره أن المراد بذلك أهل الكتابين التوراة والإنجيل خاصة. ومعنى( وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) أي أنكم تعلمون أنه إله واحد في التوراة والإنجيل.

فعلى الوجهين الأولين لا تنافي بين هذه الآية وبين قوله تعالى:( قُلْ أَفَغَيْرَ الله تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ ) ؛ لأنّ علمهم تعلّق بشيء، وجهلهم تعلق بغيره. وعلى الوجه الثالث إذا جعل الآية التي سئلنا عنها مختصة بأهل الكتاب أمكن أن تجعل الآية التي وصفوا فيها بالجهل تتناول غير هؤلاء؛ ممن لم يكن ذا كتاب يجد فيه بيان التوحيد؛ وكلّ هذا واضح بحمد الله.

***

قال سيدنا أدام الله علوّه: ومما يفسّر من الشعر تفاسير مختلفة؛ والقول محتمل للكلّ قول امرئ القيس:

وقد اغتدي ومعي القانصان

وكلّ بمربأة مقتفر(١)

فيدركنا فغم داجن

سميع بصير طلوب نكر

ألصّ الضّروس، حبي الضّلوع،

تبوع، أريب، نشيط، أشر

فأنشب أظفاره في النّسا

فقلت: هبلت! ألا تنتصر!

فكرّ إليه بمبراته

كما خلّ ظهر اللّسان المجر

فظلّ يرنّح في غيطل

كما يستدير الحمار النّعر

قال ابن السّكّيت: القانصان: الصائدان، والمربأة: الموضع المرتفع يربأ فيه، والمقتفر:

الّذي يقتفر آثار الوحش ويتبعها. وقال غيره: القانصان: البازي والصقر.

والفغم: الكلب الحريص على الصيد؛ يقال: ما أشدّ فغمه! أي ما أشد حرصه!، قال الأعشى:

____________________

(١) ديوانه: ١٠ - ١٢.

١٨٨

نؤمّ ديار بني عامر

وأنت بآل عقيل فغم(١)

أي مولع، والدّاجن: الّذي يألف الصيد، والسميع: الّذي إذا سمع حسّا لم يفته، والبصير: الّذي إذا رأى شيئا من بعد لم يكذبه بصره، والتبوع: الّذي إذا تبع الصيد أدركه ولم يعجز عن لحقوقه، والنّكر: المنكر الحاذق بالصيد، ويروى (نكر) بالضم.

وقال ابن السكيت وغيره في قوله:

* فأنشب أظفاره في النّسا*

أي أنشب الكلب أظفاره في نسا الثور، والنّسا: عرق في الفخذ معروف. (فقلت:

هبلت) ؛ أي: فقلت للثور: هبلت، ألا تنتصر من الكلب! قالوا: وهذا تهكّم منه بالثور واستهزاء به، والأصل في التهكّم الوقوع على الشيء؛ يقال: تهكّم البيت إذا وقع بعضه على بعض.

ومعنى:

* فكرّ إليه بمبراته*

قال ابن السكّيت وغيره: معناه: فكرّ الثور إلى الكلب بمبراته؛ أي بقرنه.

ومعنى:

* كما خلّ ظهر اللسان المجرّ*

أي طعنه كما يجرّ الرجل لسان الفصيل، وهو أن يقطع طرف لسانه أو يشقّه حتى لا يقدر على الشرب من خلف أمه، وذلك إذا كبر واستغنى عن الشرب.

ومعنى:

* فظل يرنّح في غيطل*

أي ظل الكلب يرنّح(٢) ، أي يميد ويتمايل كالسكران، والغيطل: الشجر الملتف، ويكون أيضا الجلبة والصياح.

____________________

(١) ديوانه: ٣٠.

(٢) حاشية الأصل: (ترنح: تمايل من السكر وغيره، ورنح عليه، على ما لم يسم على فاعله، إذا استدار).

١٨٩

وقوله:

* كما يستدير الحمار النعر*

فالنّعر: الّذي يدخل في رأسه ذباب أزرق أو أخضر، فيطح برأسه وينزو، فشبّه الكلب في اضطرابه ونزوّه بالحمار النّعر، قال ابن مقبل:

ترى النّعرات الزّرق تحت لبانه

أحاد ومثنى أصعقتها صواهله(١)

وقال أحمد بن عبيد: القانصان: الفرس وصاحبه؛ والحجّة أن الفرس تسمى قانصا قول عدي بن زيد:

تقنصك الخيل ويصطادك الطّ

ير ولا تنكع لهو القنيص(٢)

أي لا تمنع به.

قال: وقوله:

* فأنشب أظفاره في النّسا*

معناه فأنشب الكلب أظفاره في نسا الثور، فقلت لصاحب الفرس أو لغلامي الممسك للفرس: هبلت! ألا تدنو إلى الثور فتطعنه فقد أمسكه عليك الكلب! قال: ومحال أن يكون امرؤ القيس أغرى الثور بقتل كلبه؛ لأن امرأ القيس يفخر بالصيد ويصفه في أكثر شعره بأنه مرزوق منه مظفّر فيه، كقوله:

إذا ما خرجنا قال ولدان أهلنا:

تعالوا إلى أن يأتنا الصّيد نحطب(٣)

وكقوله:

مطعم للصّيد ليس له

غيره كسب على كبره(٤)

____________________

(١) اللسان (نعر).

(٢) شعراء النصرانية ٤٧٠، واللسان (نكع).

(٣) خزانة الأدب ٢: ١٩٧؛ ولم يرد في ديوانه بشرح البطليوسي.

(٤) حاشية الأصل: (أي يطعم الصيد؛ واللام دخلت للتقوية) والبيت في اللسان (طعم)، وشرح الستة للأعلم ص ٥٦.

١٩٠

فمحال على هذا أن يغري الثور بقتل كلبه.

قال: وتأويل (ألا تنتصر!) ألا تدنو من الثور!  والدليل على أن (تنتصر) بمعنى (تدنو) قول الراعي:

وأفرغن في وادي جلاميد بعد ما

علا البيد سافي القيظة المتناصر

أي المتداني.

وقال مضرّس بن ربعي:

فإنّك لا تعطي امرأ حظّ غيره

ولا تملك الشّقّ الّذي الغيث ناصره

أي دان منه.

ومعنى: (ألصّ الضّروس) أي بعض أسنانه ملتصق ببعض.

وحبي الضلوع: أي مشرف الضلوع عاليها. ويروى: (حني الضّلوع) بالنون أي منحنيها. ويقال: إن الضّلوع إذا تقوّست كان أوسع لجوفه وأقوى له؛ ويروى أيضا: (خفي الضلوع) أي ضلوعه خفية داخلة في جنبه.

ومعنى:

* فظلّ يرنّح في غيطل*

أي ظلّ الثور يرنّح في غيطل لمّا طعنه صاحب الفرس. وقد يجوز أيضا أن يكون ترنّح الثور لظفر الكلب به، ولأنه أنشب أظفاره فيه؛ وكلّ ذلك محتمل.

ومما يحتمل أيضا على وجوه مختلفة قول امرئ القيس:

فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها

لما نسجتها من جنوب وشمأل(١)

قال قوم: معناه لم يدرس رسمها لنسج هاتين الريحين فقط؛ بل لتتابع الرياح والأمطار؛ والدليل على ذلك قوله في البيت الآخر:

____________________

(١) ديوانه: ١٩.

١٩١

* فهل عند رسم دارس من معوّل(١) *

وقال آخرون: ومعنى: (لم يعف رسمها) لم يدرس، فالرسم على هذا القول باق غير دارس.

ومعنى قوله في البيت الآخر: (رسم دارس)، أي فهل عند رسم سيدرس في المستقبل! وإن كان الساعة موجودا غير دارس!

وقال آخرون في معنى قوله: (لم يعف) مثل الوجه الثاني؛ أي أنه لم يدرس أثرها لما نسجتها، بل هي بواق ثوابت، فنحن نحزن لها، ونجزع عند رؤيتها، ولو عفت وامّحت لاسترحنا، وهذا مثل قول ابن أحمر:

ألا ليت المنازل قد بلينا

فلا يبكين ذا شجن حزينا

ومثل قول الآخر:

ليت الدّيار التي تبقى لتحزننا

كانت تبين إذا ما أهلها بانوا

وليس قوله:

* فهل عند رسم دارس من معوّل*

نقضا لهذا، إنما هو كقولك: درس كتابك، أي ذهب بعضه وبقي بعض.

وقال أبو بكر العبدي: معناه لم يعف رسمها من قلبي، وهو دارس من الموضع، فلم يتناول قوله: (لم يعف رسمها) ما تناوله قوله: (فهل عند رسم دارس) من جميع وجوهه فيتناقض الكلام.

وقال آخرون: أراد بقوله: (لم يعف)، لم يدرس، ثم أكذب نفسه بقوله:

* فهل عند رسم دارس من معوّل*

____________________

(١) ديوانه: ٢١، وأوله:

* وإنّ شفائي عبرة مهراقة*

١٩٢

كما قال زهير:

قف بالدّيار التي لم يعفها القدم

بلى، وغيّرها الأرواح والدّيم(١)

وكما قال الآخر:

فلا تبعدن ياخير عمرو بن مالك

بلى، إنّ من زار القبور ليبعدا

أراد (ليبعدن)، فأبدل الألف من النون الخفيفة؛ وهذا وجه ضعيف، وبيت زهير ليس يجب فيه ما توهّم من المناقضة والتكذيب؛ لأنه يمكن أن يحمل على ما ذكرناه في أحد الوجوه المتقدمة؛ من أنه أراد أنّ رسمها لم يعف ولم يبطل كلّه، وإن كان قد غيّرت الدّيم والأرواح بعضه وأثّرت في بعض.

فأما البيت الثاني فلا حجّة فيه؛ لأنه لم يتضمن إثباتا ونفيا، وإنما دعاء له ألا يبعد، ثم رجع إلى قوله: (بلى) إنه ليبعد من زار القبور، وما يدعي به غير واجب ولا ثابت، فكيف ينافي الإثبات الثاني!

ويمكن في البيت وجه آخر، وهو أن يكون معنى: (لم يعف رسمها) أي لم يزد ويكثر فيظهر حتى يعرفه المترسّم؛ ويثبته المتأمل، بل هو خاف غير لائح ولا ظاهر. ثم قال من بعد:

* فهل عند رسم دارس من معوّل*

فلم يتناقض الأول؛ لأنه قد أثبت الدروس له في كلا الموضعين. ولا شبهة في أن (عفا) من حروف الأضداد التي تستعمل تارة في الدروس، وأخرى في الزيادة والكثرة؛ قال الله تعالى:

( حَتَّى عَفَوْا ) ؛ [الأعراف: ٩٥]؛ أي كثروا؛ ويقال: قد عفا الشّعر إذا كثر، وقال الشاعر:

____________________

(١) ديوانه ١٤٥.

١٩٣

ولكنّا نعضّ السّيف منها

بأسوق عافيات اللّحم كوم

أراد كثيرات اللحم؛ يقال: قد عفا وبر البعير إذا زاد؛ ويقال: أعفيت الشعر وعفوته إذا كثرته وزدت فيه، وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله بأن تحفى الشوارب وتعفى اللّحى؛ أي توفر، وهذا الوجه عندي أشبه مما تقدم.

١٩٤

مجلس آخر

[٦٨]

تأويل آية :( يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا. فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا. فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا ) ؛ [مريم: ٢٨، ٢٩].

فقال: من هارون الّذي نسبت مريم إلى أنها أخته؟ ومعلوم أنها لم تكن أختا لهارون أخي موسى. وما معنى( مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا ) ، ولفظة (كان) تدلّ على ما مضى(١) وعيسى عليه السلام في حال قولهم ذلك كان في المهد؟

الجواب، قلنا: هارون الّذي نسبت إليه مريم قد قيل فيه أقوال:

منها أن هارون المذكور كان رجلا فاسقا مشهورا بالعهر والشرّ وفساد الطريقة، فلما أنكروا ما جاءت به من الولد، وظنوا بها ما هي مبرأة منه نسبوها إلى هذا الرجل تشبيها وتمثيلا؛ وكان تقدير الكلام: ياشبيهة هارون في فسقه وقبيح فعله؛ وهذا القول يروى عن سعيد بن جبير.

ومنها أن هارون هذا كان أخاها لأبيها دون أمّها؛ وقيل إنه كان أخاها لأبيها وأمها، وكان رجلا معروفا بالصلاح وحسن الطريقة والعبادة والتألّه.

وقيل: إنه لم يكن أخاها على الحقيقة؛ بل كان رجلا صالحا من قومها، وإنه لما مات شيّع جنازته أربعون ألفا، كلّهم يسمّى هارون، من بني إسرائيل، فلما أنكروا ما ظهر من أمرها قالوا لها:( يا أُخْتَ هارُونَ ) ؛ أي ياشبيهته في الصلاح، ما كان هذا معروفا منك، ولا كان ووالدك ممن يفعل القبيح، ولا تتطرّق عليه الرّيب!

____________________

(١) ف: (ما مضى من الزمان).

١٩٥

وعلى قول من قال إنه كان أخاها يكون معنى قولهم: إنك من أهل بيت الصلاح والسداد؛ لأن أباك لم يكن امرأ سوء، ولا كانت أمك بغيّا، وأنت مع ذلك أخت هارون المعروف بالصلاح والعفة، فكيف أتيت بما لا يشبه نسبك، ولا يعرف من مثلك!

ويقوّي هذا القول ما رواه المغيرة بن شعبة قال: لما أرسلني رسول الله صلى الله عليه وآله إلى أهل نجران قال لي أهلها: أليس نبيّكم يزعم أن هارون أخو موسى، وقد علم الله ما كان بين موسى وعيسى من السنين! فلم أدر ما أردّ عليهم حتى رجعت إلى النبي صلى الله عليه وآله فذكرت ذلك فقال لي: (فهلاّ قلت إنهم كانوا يدعون بأنبيائهم والصالحين قبلهم) !

ومنها أن يكون معنى قوله:( يا أُخْتَ هارُونَ ) يامن هي من نسل هارون أخي موسى؛ كما يقال للرجل: ياأخا بني تميم، ويا أخا بني فلان.

وذكر مقاتل بن سليمان في قوله تعالى:( يا أُخْتَ هارُونَ ) (١) قال: روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: (هارون الّذي ذكروه هو هارون أخو موسى عليهما السلام).

قال مقاتل: تأويل(١) ( يا أُخْتَ هارُونَ ) يامن هي من نسل هارون، كما قال تعالى:

( وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً ) ؛ [الأعراف: ٦٥]،( وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً ) ؛ [الأعراف: ٧٣] يعني بأخيهم أنه من نسلهم وجنسهم.

وكلّ قول من هذه الأقوال قد اختاره قوم من المفسرين.

فأما قوله تعالى:( مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا ) فهو كلام مبني على الشرط والجزاء، مقصود به إليهما؛ والمعنى: من يكن في المهد صبيا، فكيف نكلّمه! ووضع في ظاهر اللفظ الماضي موضع المستقبل، لأن الشارط لا يشرط إلا فيما يستقبل، فيقول القائل: إن زرتني زرتك؛ يريد إن تزرني أزرك؛ قال الله تعالى:( إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ ) ؛ [الفرقان: ١٠] يعني إن يشأ يجعل.

____________________

(١ - ١) ساقط من الأصل؛ والمثبت عن د، ف.

١٩٦

وقال قطرب: معنى كانَ هاهنا معنى صار؛ فكأن المعنى: وكيف نكلّم من صار في المهد صبيا، ويشهد بذلك قول زهير:

أجزت إليه حرّة أرحبيّة

وقد كان لون اللّيل مثل الأرندج(١)

وقال غيره: كانَ هاهنا بمعنى خلق ووجد؛ كما قالت العرب: كان الحرّ، وكان البرد؛ أي وجدا وحدثا.

وقال قوم: لفظة كانَ وإن أريد بها الماضي فقد يراد بها الحال والاستقبال؛ كقوله تعالى:( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) ؛ [آل عمران: ١١٠]، أي أنتم كذلك، وقوله تعالى:( هَلْ كُنْتُ إِلاّ بَشَراً رَسُولاً ) [الإسراء: ٧٣] وقوله تعالى:( وَكانَ الله عَلِيماً حَكِيماً ) ؛ [النساء: ١٧]؛ وإن كان قد قيل في هذه الآية الأخيرة غير هذا؛ قيل إن القوم شاهدوا من آثار علمه وحكمته تعالى ما شاهدوا، فأخبرهم أنه لم يزل عليما حكيما، أي فلا تظنّوا أنه استفاد علما وحكمة لم يكن عليهما.

ومما يقوي مذهب من وضع لفظة الماضي في موضع الحال والاستقبال قوله تعالى:

( وَإِذْ قالَ الله ياعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ) [المائدة: ١١٠]، وقوله تعالى:( وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ ) ؛ [الأعراف: ٤٤]؛ وقولهم في الدعاء: غفر الله لك، وأطال بقاءك! وما جرى مجرى ذلك.

ومعنى الكلّ يفعل الله ذلك بك؛ إلاّ أنه لما أمن اللبس وضع لفظ الماضي في موضع المستقبل، قال الشاعر:

____________________

(١) ديوانه: ٣٢٣؛ والرواية فيه:

زجرت عليه حرّة أرحبيّة

وقد كان لون الليل مثل اليرندج

الضمير يعود إلى الطريق في البيت قبله، والحرة: الكريمة، والأرحبية: منسوب إلى أرحب؛ وهو بطن من همدان تنسب إليه النجائب؛ لأنها من نسله. والأرندج واليرندج: السواد، يسود به الخف -.

١٩٧

فأدركت من قد كان قبلي ولم أدع

لمن كان بعدي في القصائد مصعدا(١)

أراد لمن يكون بعدي.

ومما جعلوا فيه المستقبل في موضع الماضي قول الصّلتان العبدي يرثي المغيرة بن المهلّب(٢) :

قل للقوافل والغزاة(٣) إذا غزوا

والباكرين وللمجدّ الرّائح

إنّ الشّجاعة والسّماحة ضمّنا

قبرا بمرو على الطّريق الواضح

فإذا مررت بقبره فاعقر به

كوم الجلاد وكلّ طرف سابح(٤)

وانضح جوانب قبره بدمائها

فلقد يكون أخا دم وذبائح

معناه: (فلقد كان كذلك).

____________________

(١) د، ف: (الفضائل مصعدا)، وفي حاشيتي الأصل، ف: (أي بلغت درجة من كان قبلي).

(٢) في حاشيتي الأصل، ف: (هذه قصيدة رواها الأصمعي لزياد الأعجم، وتروى للصلتان العبدي؛ وهي إحدى المراثي السبع، وقال غيره: هي لزياد الأعجم؛ وهو من عبد القيس، وكان يلقب بالصلتان، وإنما قيل له الأعجم للثغة في لسانه، ويقال: إنه نشأ في العجم، وكان من أشعر أهل زمانه؛ وكان اصطفاه المهلب بن أبي صفرة الأزدي؛ فكان زياد يمدحه وأهله، وكان ألثغ، يقول للجرادة (زرادة)، فقال له شاعر:

وما صفراء تدعى أم عوف

كأنّ رجلتيها منجلان

فقال زياد:

أردت زرادة وأظنّ أخرى

أردت بما أردت به لساني

وكان يقول: (أنا أقول (السعر)، و (الأرب) تقوم لي، أراد (الشعر)، و (العرب).

والقصيدة في أمالي اليزيدي ١ - ٧.

(٣) في الأمالي: (والغزي) كغني

(٤) الكوم: جمع كوماء؛ وهي الناقة السمينة؛ والجلاد: جمع جلدة؛ وهي أدسم الإبل لبنا.

وفي د: (كوم المطي)، وفي الأمالي: (كوم الهجان). والطرف: الأصيل من الخيل. والسابح:

الّذي يجري بقوة. وفي أمالي اليزيدي: (لما أنشد زياد الأعجم المهلب هذا الموضع من القصيدة قال: أعقرت ياأبا أمامة؟ قال: لا والله، أصلحك الله! قال: ولم؟ قال: لأني كنت على ابنة الأتان، قال: أما إنك لو عقرت ما بقي بالبصرة طرف عتيق، ولا حمل نجيب إلا شدّ بمربطك أو نيخ بفنائك).

١٩٨

تأويل خبر [ (لا عدوى ولا هامة ولا طيرة) ]

إن سأل سائل فقال: كيف يطابق ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: (لا عدوى ولا هامة ولا طيرة) وأنه قيل له: إن النّقبة(١) تقع بمشفر البعير فتجرب لذلك الإبل، فقال عليه السلام: (فما أعدى الأول؟) لما روي عنه عليه السلام من قوله: (لا يوردنّ ذو عاهة على مصحّ)، وقوله: (فرّ من المجذوم فرارك من الأسد)، وأن رجلا مجذوما أتاه ليبايعه بيعة الإسلام فأرسل إليه بالبيعة، وأمره بالانصراف، ولم يأذن له عليه السلام، وروي عنه عليه السلام أنه قال: (الشؤم في المرأة والدار والدّابة) ؛ وظواهر هذه الأخبار متنافية متناقضة فبيّنوا وجه الجمع بينها.

الجواب، قلنا: إن ابن قتيبة قد سأل نفسه عن اختلاف هذه الأخبار، وأجاب عن ذلك بما نذكره على وجهه، ونذكر ما عندنا فيه، فإنه خلّط وأتى بما ليس بمرضي.

قال:" إنّ لكلّ(٢) من هذه الأخبار معنى وموضعا؛ فإذا وضع موضعه زال الاختلاف".

قال:" وللعدوى معنيان:

أحدهما عدوى الجذام، وإنّ المجذوم تشتد رائحته حتى تسقم في الحال مجالسيه ومؤاكليه، وكذلك المرأة تكون تحت المجذوم فتضاجعه في شعار واحد، فيوصل إليها الأذى؛ وربما جذمت، وكذلك ولده ينزعون في الكبر إليه، وكذلك من كان به سلّ ودقّ(٣) ، والأطباء تأمر بألاّ يجالس المسلول والمجذوم؛ ولا يريدون بذلك معنى العدوى؛ وإنما يريدون بذلك تغيّر الرائحة، وأنها قد يسقم في الحال اشتمامها. والأطباء أبعد الناس من الإيمان بيمن أو شؤم، وكذلك النّقبة تكون بالبعير وهو جرب رطب، فإذا خالط الإبل وحاكّها أوصل إليها بالماء الّذي يسيل منه نحوا مما به؛ فهذا هو المعنى الّذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله: (لا يوردنّ ذو عاهة على مصحّ) ".

____________________

(١) النقبة: أول شيء يظهر من الجرب؛ وجمعها نقب. (وانظر نهاية ابن الأثير ٤: ١٦٨).

(٢) تأويل مختلف الأحاديث ص ١٢٣ وما بعدها؛ مع اختلاف في العبارة.

(٣) الدق: نوع من الحمى.

١٩٩

قال:" وقد ذهب قوم إلى أنه أراد بذلك ألاّ يظن أنّ الّذي نال إبله من ذوات العاهة، فيأثم."

قال:" وليس لهذا عندي وجه؛ لأنا نجد الّذي خبرتك به عيانا) ".

قال:" وأما الجنس الآخر من العدوى فهو الطاعون ينزل ببلد فيخرج منه خوفا من الطاعون، وحكي عن الأصمعي عن بعض البصريين أنه هرب من الطاعون، فركب حمارا ومضى بأهله نحو سفوان(١) ، فسمع حاديا يحدو خلفه، وهو يقول:

لن يسبق الله على حمار

ولا على ذي ميعة مطار(٢)

أو يأتي الحقّ(٣) على مقدار

قد يصبح الله أمام السّاري

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (إذا كان بالبلد الّذي أنتم فيه فلا تخرجوا منه).

وقال أيضا: (إذا كان ببلد فلا تدخلوه) ؛ يريد بقوله: (لا تخرجوا) من البلد إذا كان فيه.

كأنكم تظنون أن الفرار من قدر الله تعالى ينجيكم؛ ويريد بقوله: (إذا كان ببلد فلا تدخلوه) إن مقامكم بالموضع الّذي لا طاعون فيه أسكن لأنفسكم، وأطيب لعيشكم ". قال:" ومن ذلك المرأة تعرف بالشؤم، والدار، فينال الرجل مكروها أو جائحة فيقول: أعدتني بشؤمها) ".

قال:" فهذا الّذي قال فيه عليه السلام: (لا عدوى) ".

" فأما الحديث الّذي رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: (الشؤم في المرأة والدار والدابّة) فإن هذا يتوهّم فيه الغلط على أبي هريرة، وأنه سمع من النبي صلى الله عليه وآله شيئا فلم يعه."

وروى ابن قتيبة خبرا ورفعه إلى أبي حسّان الأعرج أنّ رجلين دخلا على عائشة فقالا: إن أبا هريرة يحدّث عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: (إنما الطّيرة في المرأة والدار والدابة)، فطارت

____________________

(١) سفوان: منزل قريب من البصرة.

(٢) الميعة: مصدر ماع الفرس إذا جرى.

(٣) حاشية الأصل: (نسخة س: الحتف)، وهي رواية ابن قتيبة.

٢٠٠

شققا(١) فقالت: كذب والّذي أنزل القرآن على أبي القاسم، من حدث بهذا عن رسول الله صلى الله عليه وآله! وإنما قال رسول الله: (كان أهل الجاهلية يقولون: إن الطيرة في المرأة والدار والدابة)، ثم قرأت:( ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها ) ؛ [الحديد: ٢٢].

وروى خبرا يرفعه إلى أنس بن مالك قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال:

يارسول الله إنا نزلنا دارا فكثر فيها عددنا، وكثر بها أموالنا، ثم تحولنا منها إلى أخرى، فقلّت فيها أموالنا، وقلّ عددنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: (ذروها فهي ذميمة).

قال ابن قتيبة:" وهذا ليس ينقض الحديث الأول؛ وإنما أمرهم بالتحوّل منها؛ لأنهم كانوا مقيمين فيها على استثقال ظلّها، واستيحاش لما نالهم فيها، فأمرهم بالتحوّل منها، وقد جعل الله في غرائز الناس وتركيبهم استثقال ما نالهم السوء فيه؛ وإن كان لا سبب لهم في ذلك؛ وحب من جرى على يده الخير لهم وإن لم يردهم به، وبغض من جرى على يده الشر لهم وإن لم يردهم به.

قال سيدنا أدام الله علوه: ما وجدنا ابن قتيبة عمل شيئا أكثر من أنه لما أعجزه تأويل الأخبار التي سأل نفسه عنها، والمطابقة بينها وبين قوله عليه السلام: (لا عدوى ولا طيرة) ادّعى الخصوص فيما ظاهره العموم، وخصّ العدوى بشيء دون آخر؛ وكلاهما سواء، وأورد تأويلا يدفعه نص قول النبي صلى الله عليه وآله؛ لأنه عليه السلام لما سئل عن النّقبة تقع بمشفر البعير فتجرب لذلك الإبل قال عليه السلام: (فما أعدى الأول؟) تكذيبا بعدوى هذه النّقبة وتأثيرها، فاطّرح ابن قتيبة ذلك، وزعم أن الجرب يعدي ويؤثر في المخالط والمؤاكل، وعوّل في ذلك على قول الأطباء، وترك قول الرسول صلى الله عليه وآله.

ومن طريف أمره أنه قال:" إن الأطباء ينهون عن مجالسة المسلول والمجذوم؛ ولا يريدون

____________________

(١) الشفقة في الأصل: القطع.

٢٠١

بذلك معنى العدوى، وإنما يريدون تغيّر الرائحة؛ وأنها تسقم من أدمن اشتمامها". وهذا غلط لأن الأطباء إنما تنهى عن ذلك خوفا من العدوى، وسبب العدوى عندهم هو اشتمام الرائحة، وانفصال أجزاء من السقيم إلى الصحيح، وليس إذا كان غير هذا عدوى عند قوم ما يوجب ألاّ يكون هذا أيضا من العدوى.

ولما حكى عن غيره تأويلا صحيحا في قوله عليه السلام. (لا يوردنّ ذو عاهة على مصحّ) ادّعى أن العيان يدفع، وأي عيان معه! ونحن نجد كثيرا ممن يخالط الجربى فلا يجرب، ونجد إبلا صحاحا تخالط ذوات العاهات فلا يصيبها شيء من أدوائها؛ فكأنه إنما يدّعي أن العيان يدفع قول النبي صلى الله عليه وآله: (فما أعدى الأول) ؟

والوجه عندنا في قول النبي عليه السلام: (لا يوردنّ ذو عاهة على مصحّ) أنه عليه السلام إنما نهى عن ذلك؛ وإن لم يكن مؤثرا على الحقيقة؛ لأنّ فاعله كالمدخل الضرر على غيره؛ لأنّ من اعتقد أن ذلك يعدي ويؤثر فأورد على إبله؛ فلا بدّ من أن يلحقه لما تقدم من اعتقاده ضرر وغمّ، ولا بدّ من أن يذم من عامله بذلك؛ فكأنه عليه السلام نهى عن أذى الناس والتعرّض لذمهم.

وقد يجوز أيضا فيه ما حكاه ابن قتيبة عن غيره مما لم يرتضه من أنهم متى ظنوا ذلك اثموا فنهى عليه السلام عن التعرض لما يؤثم.

ولو نقل ابن قتيبة ما قاله عليه السلام في الطاعون: (إذا كان ببلد فلا تدخلوه)، وأمره لمن شكا إليه ما لحقه في الدار بالتحوّل عنها إلى هاهنا لكان قد أصاب، لأنه حمل ذلك على أن تجنّب البلد أسكن للنفس وأطيب للعيش؛ وكذلك الدار، وهذا يمكن في قوله عليه السلام: (لا يوردنّ ذو عاهة على مصحّ) بعينه.

فأما قوله عليه السلام: (فرّ من المجذوم فرارك من الأسد)، فليس فيه أنّ ذلك لأجل العدوى؛ وقد يمكن أن يكون لأجل نتن ريحه واستقذاره، ونفور النفس عنه، وأن ذلك ربما دعا إلى تعييره والإزراء عليه. وامتناعه عليه السلام من إدخال المجذوم عليه ليبايعه

٢٠٢

يجوز أن يكون الغرض فيه غير العدوى؛ بل بعض الأسباب المانعة التي ذكرنا بعضها.

وأما حديث الطاعون والقول فيه على ما قاله؛ فقد كان سبيله لما عوّل في عدوى الجذام والجرب على قول الأطباء أن يرجع أيضا إلى أقوالهم في الطاعون؛ لأنهم يزعمون أنّ الطاعون الّذي يعرض من تغير الأهوية وما جرى مجراها يعدي كعدوى الجرب والجذام، والعيان الّذي ادعاه ليس هو أكثر من وجود من يجرب أو يجذم لمخالطة من كان بهذه الصفة.

وهذا العيان موجود في الطاعون؛ فإنا نرى عمومه لمن يسكن البلد الّذي يكون فيه، ويطرأ إليه.

فأما الخبر الّذي يتضمّن أن الشؤم في المرأة والدار والدابة، فالّذي ذكره من الرواية في معناه يزيل الشبهة به؛ على أنه لو لم يكن هاهنا رواية في تأويله جاز أن يحمل على أن الّذي يتطير به المتطيّرون، ويدّعون أن الشؤم فيه هو المرأة، والدار، والدابة؛ ولا يكون ذلك إثباتا للطّيرة والشؤم في هذه الأشياء؛ بل على طريق الإخبار بأنّ الطّيرة الثابتة إنما هي فيها لقوّة أمرها عند أصحاب الطّيرة وما ذكره بعد ذلك في الدار؛ وأمره عليه السلام بانتقاله عنها تأويل قريب؛ وكان يجب أن يهتدي إليه فيما تقدم. وما التوفيق إلا من عند الله.

٢٠٣

مجلس آخر

[٦٩]

تأويل آية :( وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ الله إِلاّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ )

إن سأل سائل عن تأويل قوله تعالى:( وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ الله إِلاّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ) ؛ [الشورى: ٥١].

فقال: أو ليس ظاهر هذا الكلام يقتضي جواز الحجاب عليه وأنتم تمنعون من ذلك!

الجواب، قلنا: ليس في الآية أكثر من ذكر الحجاب، وليس فيها أنه حجاب له تعالى أو لمحلّ كلامه أو لمن يكلّمه. وإذا لم يكن في الظاهر شيء من ذلك جاز صرف الحجاب إلى غيره عز وجل؛ مما يجوز أن يكون محجوبا. وقد يجوز أن يريد تعالى بقوله:

( أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ) أنه يفعل كلاما في جسم محتجب على المكلّم، غير معلوم له على سبيل التفصيل، فيسمع المخاطب الكلام ولا يعرف محلّه على طريق التفصيل، فيقال على هذا: هو مكلّم من وراء حجاب.

وروي عن مجاهد في قوله تعالى:( وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ الله إِلاّ وَحْياً ) قال: هو داود أوحي في صدره فزبر الزّبور،( أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ) وهو موسى،( أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً ) وهو جبريل إلى محمد صلى الله عليه وآله.

فأما الجبّائي فإنه ذكر أنّ المراد بالآية:( وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ الله ) إلا مثل ما يكلّم به عباده من الأمر بطاعته، والنهي لهم عن معاصيه، وتنبيهه إيّاهم على ذلك من جهة الخاطر أو المنام، وما أشبه ذلك على سبيل الوحي.

قال: وإنما سمى الله تعالى ذلك وحيا لأنه خاطر وتنبيه، وليس هو كلاما لهم على سبيل الإفصاح، كما يفصح الرجل منّا لصاحبه إذا خاطبه. والوحي في اللغة إنما هو ما جرى مجرى الإيماء والتنبيه على شيء من غير أن يفصح به؛ فهذا هو معنى ما ذكره الله تعالى في الآية.

٢٠٤

قال: وعنى بقوله:( أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ) أن يحجب ذلك الكلام عن جميع خلقه، إلا من يريد أن يكلّمه به؛ نحو كلامه تعالى لموسى عليه السلام، لانه حجب ذلك عن جميع الخلق إلا موسى عليه السلام وحده في كلامه إياه أولا. فأما كلامه إياه في المرة الثانية فإنه إنما أسمع ذلك موسى والسبعين الذين كانوا معه، وحجب(١) عن جميع الخلق سواهم. فهذا معنى قوله عز وجل:

( أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ) ، لأن الكلام هو الّذي كان محجوبا عن الناس.

وقد يقال: إنه تعالى حجب عنهم موضع الكلام الّذي أقام الكلام فيه؛ فلم يكونوا يدرون من أين يسمعونه؛ لأنّ الكلام عرض لا يقوم إلا في جسم.

ولا يجوز أن يكون أراد بقوله:( أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ) أنّ الله تعالى كان( مِنْ وَراءِ حِجابٍ ) يكلّم عباده؛ لأن الحجاب لا يجوز إلاّ على الأجسام المحدودة.

قال: وعنى بقوله:( أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ ) إرساله ملائكته بكتبه وبكلامه إلى أنبيائه عليهم السلام، ليبلّغوا عنه ذلك عباده على سبيل إنزاله القرآن على محمد صلى الله عليه وآله، وإنزاله سائر الكتب على أنبيائه.

فهذا أيضا ضرب من الكلام الّذي يكلّم الله تعالى عباده ويأمرهم فيه بطاعته، وينهاهم عن معاصيه؛ من غير أن يكلّمهم على سبيل ما كلم به موسى، وهذا الكلام هو خلاف الوحي الّذي ذكره(٢) الله تعالى في أول الآية لأنه قد أفصح لهم في هذا الكلام بما أمرهم به ونهاهم عنه.

والوحي الّذي ذكره تعالى في أول الآية إنّما هو تنبيه وخاطر، وليس فيه إفصاح.

وهذا الّذي ذكره أبو عليّ أيضا سديد، والكلام محتمل لما ذكره.

ويمكن فى الآية وجه آخر، وهو أن يكون المراد بالحجاب البعد والخفاء، ونفي الظهور. وقد تستعمل العرب لفظة (الحجاب) فيما ذكرناه؛ يقول أحدهم لغيره إذا استبعد فهمه، واستبطأ فطنته: بيني وبينك حجاب، وتقول للأمر الّذي تستبعده وتستصعب طريقه: بيني وبين هذا الأمر حجب وموانع وسواتر؛ وما جرى مجرى ذلك؛ فيكون

____________________

(١) د، حاشية ف (من نسخة): (حجبه).

(٢) حاشية الأصل: (ش (ذكر)، بالبناء للمجهول.

٢٠٥

معنى الآية: أنّه تعالى لا يكلّم البشر إلاّ وحيا؛ بأن يخطر في قلوبهم، أو بأن ينصب لهم أدلة تدلّهم على ما يريده أو يكرهه منهم؛ فيكون من حيث نصبها للدلالة على ذلك والإرشاد إليه مخاطبا ومكلّما(١) للعباد بما يدلّ عليه. وجعل هذا الخطاب من وراء حجاب من حيث لم يكن مسموعا - كما يسمع الخاطر وقول الرسول - ولا ظاهرا معلوما لكل من أدركه؛ كما أن أقوال الرسل المؤدّين عنه تعالى من الملائكة بهذه الصفة. فصار الحجاب هاهنا كناية عن الخفاء وعبارة عمّا تدلّ عليه الدلالة. وليس لأحد أن يقول: إنّ الّذي تدلّ عليه الأجسام من صفاته تعالى وأحواله ومراده. ولا يقال: إنّه تعالى مكلّم لنا به؛ وذلك أنه غير ممتنع على سبيل التجوّز(٢) أن يقال فيما يدلّ عليه الدليل الّذي نصبه الله تعالى ليدل على مراده، ويرشد إليه: إنه مكلّم لنا ومخاطب به؛ ولا يمتنع المسلمون أن يقولوا: إنه تعالى خاطبنا بما دلّت عليه الأدلة العقلية، وأمرنا بعبادته واجتناب ما كرهه منا، وفعل ما أراده، وهكذا يقولون فيمن فعل فعلا يدل على أمر من الأمور:

قد خاطبنا فلان بما فعل من كذا وكذا، وقال لنا، وأمرنا؛ وزجرنا، وما أشبه ذلك من الألفاظ التي يجرونها على الكلام الحقيقي. وهذا الاستعمال أكثر وأظهر من أن يورد أمثلته ونظائره.

***

قال سيدنا أدام الله تمكينه: ومن مستحسن ما قيل في الذئب قول أسماء بن خارجة ابن حصن الفزاري:

ولقد ألمّ بنا لنقريه

بادي الشّقاء محارف الكسب(٣)

يدعو الغنى أن نال علقته

من مطعم غبّا إلى غبّ

____________________

(١) د، ف، حاشية الأصل (من نسخة): (أو مكلما).

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): (التجويز).

(٣) من قصيدة له في الأصمعيات ٩ - ١١، مطلعها:

إنّي لسائل كلّ ذي طبّ

ماذا دواء صبابة الصبّ

٢٠٦

وطوى ثميلته وألحقها

بالصّلب بعد لدونة الصّلب

ياضلّ سعيك ما صنعت بما

جمّعت من شبّ إلى دبّ!

لو كنت ذا لبّ تعيش به

لفعلت فعل المرء ذي اللّبّ

وجمعت صالح ما احترفت وما

جمّمت من نهب إلى نهب

وأظنّه شغبا تدلّ به

فلقد منيت بغاية الشّغب

أو كان غير مناصل نعصي بها

مشحوذة وركائب الرّكب(١)

فاعمد إلى أهل الوقير فما

يخشاك غير مقرمص الزّرب

أحسبتنا ممّن تطيف به

فاخترتنا للأمن والخصب

وبغير معرفة ولا سبب

أنّى، وشعبك ليس من شعبي

لمّا رأى أن ليس نافعه

جدّ تهاون صادق الإرب

وألحّ إلحاحا لحاجته(٢)

شكوى الضّرير ومزجر(٣) الكلب

بادي التّكلّح يشتكي سغبا

وأنا ابن قاتل شدّة السّغب

فرأيت أن قد نلته بأذى

من عذم(٤) مثلبة ومن سبّ

ورأيت حقّا أن أضيّفه

إذ أمّ سلمى واتّقى حربي(٥)

فوقفت معتاما أزاولها

بمهنّد ذي رونق عضب

فعرضته في ساق أسمنها

فاجتاز بين الحاذ والكعب

____________________

(١) د، ومن نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (إذ كان) ؛ ويقال: عصى بالسيف يعصي؛ إذا ضرب، وفي حاشيتي الأصل، ف: (عروض هذا البيت من القطعة سالم، لأنها (متفاعلن)، وأعارض سواه أحذ وضربه أحذ مضمر).

(٢) د، ف، حاشية الأصل (من نسخة): (لحاجته).

(٣) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (بمزجر الكلب).

(٤) العذم: العض؛ ومن نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (من بعد مثلبة) ؛ ومن نسخة أخرى: (من عظم مثلبة).

(٥) في حاشيتي الأصل، ف: (يجوز أن يكون معناه: فرأيت إن عاملته بشيء يؤذيني ويرجع باللوم والسب عليّ، فأعطيته تفاديا من ذلك.

٢٠٧

فنركته(١) لعياله جزرا

عمدا وعلّق رحلها صحبي

ذكر ذئبا طرقه ليلا.

وقوله: (محارف الكسب) مثل ضربه، أي لا يبقي له نشب إلا شيء يكتسبه.

وقوله:

* يدعو الغنى أن نال علقته*

أي إن وجد ما يتعلّق به من مطعم.

غبّا: أي بين يومين، فذلك عنده الغنى.

والثّميلة: ما يبقى في البطن من طعام أو علف، ومعنى طوى ثميلته: ذهب بها، وأراد أنه لم يبق في بطنه ما يمسكه. واللدونة: اللين، واللدن: اللين، فأراد أنه ألحق بقية طعامه بصلبه بعد أن لان ما صلب منها.

ثم أقبل على الذئب كالعاذل له فقال: ما صنعت بما جمعت من شبّ إلى دبّ! وهذان اسمان للشباب والهرم لا يفردان ولا يلفظ بهما إلا هكذا، والمعنى فيهما: هو منذ كنت شابا حتى أن دببت على العصا، ثم قال: لو كنت ذا لبّ لجمعت ما تصيبه.

ومعنى (احترفت) اكتسبت. ومعنى (من نهب إلى نهب) ؛ أي من عدوتك على الغنم إلى العدوة الأخرى.

ثم قال: إن كان تعرّضك لنا شغبا علينا فقد منيت بغاية الشّغب؛ أي هو ينافرك ويقاتلك، وليس هاهنا ما تغير عليه، وإنما معنا (مناصل) أي سيوف مشحوذة، وركائبنا التي نمتطيها؛ فاعمد إلى أهل الوقير، والوقير: القطيع من الغنم، ولا يسمّى وقيرا إلا إذا كان فيه حمار؛ يقول: فعليك بمواضع الغنم فإنما يخشاك الراعي.

والمقرمص: الّذي يتخذ القرموصة، وأصله المكان الضيّق، وهو هاهنا

____________________

(١) حاشية الأصل (من نسخة): (فتركتها).

٢٠٨

حفرة(١) يحتفرها الراعي في الرمل في شدة الحر للشاة الكريمة الصفيّة؛ حتى إذا بركت كان ضرعها في القرموصة.

ومعنى (شعبك ليس من شعبي)، أي لست من جنسي ولا شكلي.

والإرب: الخديعة عند الحاجة

وشكوى الضرير: الّذي قد مسه الضرّ. ومزجر الكلب، أي هو قريب المكان بقدر مزجر الكلب إذا زجرته، أي إذا خسأته.

والسّغب: الجوع؛ وأراد بقوله:

* وأنا ابن قاتل شدة السّغب*

أي أنا ابن من كان يقري ويطعم.

ثم رجع إلى كرمه فقال: ورأيت بعد ما سببته وعضضته بالأذى والعذم أن أضيفه وأقريه لأنه ضيف وإن كان ذئبا، فوقفت أنظر في ركائبي وأختار أسمنها. والاعتيام: الاختيار؛ وأزاولها: ألا بسها(٢) . والحاذان: حدّا الفخذين اللذين يليان الذنب.

وخبّر أن رحل المطيّة التي عقرها علّقه بعض أصحابه على مطية أخرى.

***

وقال النجاشي(٣) يذكر ذئبا:

____________________

(١) د، وحاشية ف (من نسخة): (حفيرة).

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): (ألامسها).

(٣) هو قيس بن عمرو بن مالك الحارثي؛ ذكره ابن قتيبة في الشعراء ٢٨٨ - ٢٩٣؛ وفي حاشيتي الأصل، ف: (قال ابن دريد: النجاشي: كلمة حبشية يسمون ملوكهم بها؛ كما يسمون كسرى وقيصر.

وقال غيره: النجاشي، بسكون الياء ولا يجوز تشديده قال س: قرأت أنا بخط ابن جني: النجاشي؛ بكسر النون والتشديد وصحح عليه. وفي شعر الفرزدق (والنجاشيا). وانظر الاشتقاق ص ٢٣٩ والأبيات في حماسة ابن الشجري ٢٠٧، ومعاني ابن قتيبة ٢٠٧ - ٢٠٨. وخزانة الادب:

٤ - ٣٦٧

٢٠٩

وماء كلون الغسل قد عاد آجنا

قليل به الأصوات في بلد محل(١)

وجدت عليه الذّئب يعوي كأنّه

خليع خلا من كلّ مال ومن أهل(٢)

فقلت له: ياذئب هل لك في فتى

يواسى بلا منّ عليك ولا بخل؟

فقال: هداك الله للرّشد! إنّما

دعوت لما لم يأته سبع قبلي

فلست بآتيه ولا أستطيعه

ولاك اسقني إن كان ماؤك ذا فضل(٣)

فقلت: عليك الحوض إنّي تركته

وفي صغوه فضل القلوص من السّجل(٤)

فطرّب يستعوي ذئابا كثيرة

وعدّيت، كلّ من هواه على شغل(٥)

***

وروي أن الفرزدق نزل بالغريّين فعراه بأعلى ناره ذئب، فأبصره مقعيا يصيء ومع الفرزدق مسلوخة، فرمى إليه بيد فأكلها، فرمى إليه بما بقي فأكله؛ فلما شبع ولى عنه فقال:

وليلة بتنا بالغريّين ضافنا

على الزّاد موشي الذّراعين أطلس(٦)

تلمّسنا حتى أتانا ولم يزل

لدن فطمته أمّه يتلمّس

____________________

(١) قال البغدادي: (كان النجاشي عرض له ذئب في سفر له، فدعاه إلى طعام وقال له: هل لك ميل في أخ - يعني نفسه - يواسيك في طعامه بغير من ولا بخل؟ فقال له الذئب: قد دعوتني إلى شيء لم يفعله السباع قبلي من مؤاكلة بني آدم، وهذا لا يمكنني فعله، ولست بآتيه ولا أستطيعه؛ ولكن إن كان في مائك الّذي معك فضل عما تحتاج إليه فاسقني منه. وهذا الكلام وضعه النجاشي على لسان ذئب؛ كأنه اعتقد فيه أنه لو كان ممن يعقل أو يتكلم لقال هذا القول. وأشار به إلى تعشقه للفلوات التي لا ماء فيها، فيهتدي الذئب إلى مظانه فيها) والغسل: ما يغسل به من سدر ونحوه، والآجن: الماء المتغير الطعم.

وفي المعاني (كلون البول).

(٢) الخليع: الّذي خلعه أهله لجناية وتبرءوا منه.

(٣) البيت من شواهد الرضي على أن حذف النون من (لكن) لالتقاء الساكنين ضرورة؛ تشبيها بالتنوين أو بحرف المد واللين من حيث كانت ساكنة. وأورده سيبويه في باب ضرورة الشعر (الكتاب ١: ٩) وقال الأعلم: (حذف النون لالتقاء الساكنين ضرورة لإقامة الوزن؛ وكان وجه الكلام أن يكسر لالتقاء الساكنين، شبهها في الحذف بحرف المد واللين؛ إذا سكنت وسكن ما بعدها؛ نحو يغزو العدو، ويقضي الحق، ويخشى الله).

(٤) الصغو: الجانب المائل؛ وضبطت في الأصل بالفتح والكسر معا، والسجل: الدلو العظيمة.

(٥) التطريب: ترجيع الصوت ومده.

(٦) ديوانه: ٤٨٥، وحماسة ابن الشجري ٢٠٨. أطلس: أغبر تعلوه حمرة.

٢١٠

فلو أنّه إذ جاءنا كان دانيا

لألبسته لو أنه يتلبّس(١)

ولكن تنحّى جنبة بعد ما دنا

فكان كقاب القوس أو هو أنفس

فقاسمته نصفين بيني وبينه

بقيّة زاد والرّكائب نعّس(٢)

وكان ابن ليلى إذ قرى الذّئب زاده

على طارف الظّلماء لا يتعبّس(٣)

***

ولابن عنقاء الفزاري، واسمه قيس بن بجرة - وقيل بجرة بالضم - الأبيات المشهورة في الذئب:

وأعوج من آل الصّريح كأنّه

بذي الشّثّ سيد آبه الليل جائع(٤)

بغى كسبه أطراف ليل كأنّه

وليس به ظلع من الخمص ظالع

فلمّا أتاه(٥) الرّزق من كلّ وجهة

جنوب الملا وآيسته المطامع(٦)

طوى نفسه طي الجرير كأنّه

حوى حيّة في ربوة، فهو هاجع(٧)

فلمّا أصابت متنه الشّمس حكّه

بأعصل، في أنيابه السّمّ ناقع(٨)

____________________

(١) ف: (لو أنه كان يلبس)، وهي رواية الديوان وابن الشجري.

(٢) د، ف: (زادي)، وهي رواية الديوان.

(٣) د، ف: (طارق الظلماء) ؛ وهي رواية الديوان.

(٤) الأبيات في المؤتلف والمختلف: ١٥٨، أعوج: فرس والصريح: فحل من خيل العرب؛ وفي حاشيتي الأصل، ف: (ش: آخر الليل) ؛ ورواية البيت في المؤتلف:

ويخطو على صمّ صلاب كأنّه

بذي الشّثّ سيد آخر الليل جائع

(٥) حاشية الأصل (من نسخة): (أباه).

(٦) حاشية الأصل: (نسخة ابن الشجري: (أيأسته).

(٧) حاشية الأصل: (حوى حية، أي تحوى حية، وحوى الحية: مقدار استدارتها).

(٨) يريد بالأعصل: الناب المعوج.

٢١١

وفكّك لحييه فلمّا تعاديا

صأى ثمّ أقعى، والبلاد بلاقع(١)

وهمّ بأمر ثمّ أزمع غيره،

وإن ضاق رزق مرّة فهو واسع

وعارض أطراف الصّبا وكأنّه

رجاع غدير هزّه الرّيح رائع(٢)

ولآخر في الذئب:

فقلت: تعلّم أنّني غير نائم

إلى مستقلّ بالخيانة أنيبا

بعيد المطاف لا يفيد على الغنى

ولا يأتلي ما اسطاع إلاّ تكسّبا

معنى (أنيب) غليظ الناب. لا أنام إليه، أي لا أثق به، من ذلك استنمت إلى فلان أي اطمأننت إليه.

ومعنى (لا يفيد على الغنى) أي لا يلتمس مطعما وهو شبعان.

ولحميد بن ثور في الذئب:

فظلّ يراعي الجيش حتى تغيّبت

حباش، وحالت دونهنّ الأجارع(٣)

إذا ما غدا يوما رأيت غيابة(٤)

من الطّير ينظرن الّذي هو صانع

خفيف المعا إلاّ مصيرا يبلّه

دم الجوف أو سؤر من الحوض ناقع

هو البعل الدّاني من النّاس كالذي

له صحبة وهو العدوّ المنازع

ينام بإحدى مقلتيه ويتّقي

بأخرى المنايا، فهو يقظان هاجع

وصف ذئبا يتبع الجيش طمعا في أن يتخلف رجل يثب عليه لأنه من بين السباع لا يرغب

____________________

(١) صأى: صاح، وهذا البيت والّذي يليه ينسبان لحميد بن ثور (وانظر ديوانه ١٠٥، ١٠٦).

(٢) رجاع الغدير: ما يتراجع من الماء ويتلفف إذا ضربته الريح. والبيت في اللسان (رجع).

(٣) من قصيدة في ديوانه ١٠٣ - ١٠٦، وفي حاشية الأصل (من نسخة): (حناش)، وفي حاشية ف والأصل أيضا: (في شعره:

* يظلّ يراعي الخنس حيث تيمّمت*

ويعني الخنس بقر الوحش، الواحد أخنس وخنساء.

(٤) الغيابة: كل شيء أظل الإنسان فوق رأسه.

٢١٢

في القتلى، ولا يكاد يأكل إلا ما فرسه.

وحباش(١) : اسم هضبة. وقال بعضهم: وليس بمعروف أن حباش اسم من أسماء الشمس:

وأخبر أن الطير تتبعه لتصيب مما يقتل.

والمصير: المعا. والبعل: الدّهش.

____________________

(١) م: (خباش)، بالخاء المعجمة، تحريف.

٢١٣

مجلس آخر

[٧٠]

تأويل آية :( وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً، فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً، فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ) ؛ [الأعراف: ١٤٣].

وقال: ما تنكرون أن تكون هذه الآية دالة على جواز الرؤية عليه عزّ وجلّ! لأنها لو لم تجز لم يجز أن يسألها موسى عليه السلام؛ كما لا يجوز أن يسأل اتخاذ الصاحبة والولد؛ ولو كانت أيضا الرؤية مستحيلة لم يعلّقها بأمر يصح أن يقع وهو استقرار الجبل. فإذا علمنا صحة استقرار الجبل في موضعه فيجب أن تكون الرؤية أيضا صحيحة في حكم ما علّقت به. وقوله تعالى:

( فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ ) يقتضي جواز الحجاب عليه تعالى؛ لأن التجلّي والظهور لا يكونان إلا بعد احتجاب واستتار.

الجواب، قلنا: أول ما نقوله إنه ليس في مسألة الشيء دلالة على صحة وقوعه ولا جوازه؛ لأن السائل يسأل عن الصحيح والمحال، مع العلم وفقد العلم؛ لأغراض مختلفة؛ فلا دلالة في ظاهر مسألة الرؤية على جوازها.

ولأصحابنا عن هذه المسألة أجوبة:

أوّلها وهو الأولى والأقوى - أن يكون موسى عليه السلام لم يسأل الرؤية لنفسه؛ وإنما سألها لقومه، فقد روي أنهم طلبوا ذلك منه والتمسوه، فأجابهم بأنها لا تجوز عليه تبارك وتعالى؛ فلم يقنعوا بجوابه، وآثروا أن يرد الجواب من قبل ربه تعالى، فوعدهم ذلك، وغلب في ظنه أن الجواب إذ ورد من جهته جلّ وعزّ كان أحسم للشبهة؛ وأبلغ في دفعها عنهم، فاختار السبعين الذين حضروا الميقات؛ ليكون سؤاله

٢١٤

بمحضر منهم، فيعرفوا ما يرد من الجواب، فسأل وأجيب بما يدلّ على أن الرؤية لا تجوز عليه تعالى.

ويقوّي هذا الجواب أشياء، منها قوله تعالى:( يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً ) ؛ [النساء: ١٥٣].

ومنها قوله تعالى:( وَإِذْ قُلْتُمْ يامُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ) ؛ [البقرة: ٥٥].

ومنها قوله تعالى:( فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا ) ؛ [الأعراف: ١٥٥] لأن إضافة ذلك إلى السفهاء تدلّ على أنه كان بسببهم ومن أجلهم؛ وإنما سألوا ما لا يجوز عليه.

ومنها ذكر الجهرة في الرؤية، وهي لا تليق إلا برؤية البصر دون العلم؛ وهذا يقوّي أن الطلب لم يكن للعلم الضروري، على ما سنذكره في الجواب الثاني.

ومنها قوله: أَنْظُرْ إِلَيْكَ لأنا إذا حملنا الآية على طلب الرؤية لقومه أمكن أن يحمل قوله: أَنْظُرْ إِلَيْكَ على حقيقته؛ فإذا حملت الآية على طلب العلم الضروري احتيج إلى حذف في الكلام، ويصير تقديره: أرني أنظر إلى الآيات التي عندها أعرفك ضرورة.

ويمكن في هذا الوجه الأخير خاصة أن يقال: إذا كان المذهب الصحيح عندكم هو أنّ النظر في الحقيقة غير الرؤية، فكيف يكون قوله: أَنْظُرْ إِلَيْكَ حقيقة في جواب من حمل الآية على طلب الرؤية لقومه؟

فإن قلتم: لا يمتنع أن يكونوا التمسوا الرؤية التي معها يكون النظر والتحديق إلى الجهة، فسأل على حسب ما التمسوا.

قيل لكم: هذا ينقض فرقكم في هذا الجواب بين سؤال الرؤية، وبين سؤال جميع

٢١٥

ما يستحيل عليه من الصاحبة والولد؛ وما يقتضي الجسمية بأن تقولوا: الشك في الرؤية لا يمنع من صحة معرفة السمع، والشك في جميع ما ذكر يمنع من ذلك؛ لأن الشكّ الّذي لا يمنع من معرفة السمع إنما هو في الرؤية التي لا يكون معها نظر، ولا تقتضي التشبيه.

فإن قلتم: يحمل ذكر النّظر على أن المراد به نفس الرؤية على سبيل المجاز؛ لأنّ من عادة العرب أن يسمّوا الشيء باسم الطريق إليه، وما قاربه وداناه.

قلنا: فكأنّكم عدلتم من مجاز إلى مجاز؛ فلا قوة في هذا الوجه؛ والوجوه التي ذكرناها في تقوية هذا الجواب المتقدمة أولى.

وليس لأحد أن يقول: لو كان عليه السلام إنما سأله الرؤية لقومه لم يضف السؤال إلى نفسه فيقول:( أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ) ولا كان الجواب مختصا به؛ وهو قوله تعالى:( لَنْ تَرانِي ) ، وذلك لأنه غير ممتنع وقوع الإضافة على هذا الوجه؛ مع أن المسألة كانت من أجل الغير؛ إذا كانت هناك دلالة تؤمن من اللبس وتزيل الشبهة.

فلهذا يقول أحدنا إذا شفع في حاجة غيره للمشفوع له: أسألك أن تفعل بي كذا، وتجيبني إلى كذا. ويحسن أن يقول المشفوع إليه: قد أجبتك وشفّعتك(١) ، وما جرى مجرى ذلك؛ وإنما حسن هذا لأن للسائل في المسألة غرضا(٢) ، وإن رجعت إلى الغير فتحقّقه بها وتكلّفه كتكلّفه إذا اختصه ولم يتعدّه.

فإن قيل؛ كيف يجوز منه عليه السلام مع علمه باستحالة الرؤية عليه تعالى أن يسأل فيها لقومه! ولئن جاز ذلك ليجوزنّ أن يسأل لقومه سائر ما يستحيل عليه من كونه جسما، وما أشبهه متى شكّوا فيه.

قلنا: إنما صحّ ما ذكرناه في الرؤية ولم يصحّ فيما سألت عنه؛ لأن مع الشك في جواز الرؤية التي لا تقتضي كونه جسما يمكن معرفة السمع، وأنه حكيم صادق في أخباره، فيصح

____________________

(١) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (أسعفتك).

(٢) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (أغراضا).

٢١٦

أن يعرفوا بالجواب الوارد من جهته تعالى استحالة ما شكّوا في صحته وجوازه؛ ومع الشك في كونه جسما لا يصحّ معرفة السمع، فلا يقع بجوابه انتفاع ولا علم.

وقد قال بعض من تكلم في هذه الآية: قد كان جائزا أن يسأل موسى عليه السلام لقومه ما يعلم استحالته؛ وإن كانت دلالة السمع لا تثبت قبل معرفته؛ متى كان المعلوم أن في ذلك صلاحا للمكلّفين في الدين، وإنّ ورود الجواب يكون لطفا لهم في النظر في الأدلة، وإصابة الحق منها؛ غير أن من أجاب بذلك شرط أن يتبين النبي عليه السلام في مسألته علمه باستحالة ما سأل عنه، وأن غرضه في السؤال ورود الجواب ليكون لطفا.

والجواب الثاني في الآية أن يكون موسى عليه السلام إنما سأل ربّه أن يعلمه نفسه ضرورة بإظهار بعض أعلام الآخرة، التي تضطرّ إلى المعرفة، فتزول عنه الدواعي والشكوك والشبهات، ويستغنى عن الاستدلال، فتخفّ المحنة عليه بذلك؛ كما سأل إبراهيم عليه السلام ربه تعالى أن يريه كيف يحيي الموتى طلبا لتخفيف المحنة، وإن كان قد عرف ذلك قبل أن يراه؛ والسؤال إن وقع بلفظ الرؤية فإن الرؤية تفيد العلم كما تفيد الإدراك بالبصر، وذلك أظهر من أن يستدل عليه أو يستشهد عليه؛ فقال له جل وعز:( لَنْ تَرانِي ) أي لن تعلمني على هذا الوجه الّذي التمسته مني، ثم أكّد ذلك بأن أظهر في الجبل من آياته وعجائبه ما دلّ به على أنّ إظهار ما تقع به المعرفة الضرورية في الدنيا مع التكليف وبيانه لا يجوز، وأن الحكمة تمنع منه.

والوجه الأول أولى لما ذكرناه من الوجوه؛ ولأنه لا يخلو موسى عليه السلام من أن يكون شاكّا في أنّ المعرفة الضرورية لا يصح دخولها(١) في الدنيا أو عالما بذلك. فإن كان شاكا فهذا مما لا يجوز على النبي عليه السلام؛ لأن الشكّ فيما يرجع إلى أصول الديانات وقواعد التكليف لا يجوز عليهم، ولا سيما أن يعلم الله ذلك على حقيقتهم بعض أمتهم، فيزيد عليهم في المعرفة؛ وهذا أبلغ في التنفير عنهم من كل شيء يمنع(٢) منه فيهم. وإن كان عالما فلا وجه لسؤاله إلا أن

____________________

(١) ف: (حصولها).

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): (يمتنع منه).

٢١٧

يقال: إنه سال لقومه، فيعود إلى معنى الجواب الأول.

والجواب الثالث في الآية ما حكي عن بعض من تكلم في هذه الآية من أهل التوحيد وهو أن قال: يجوز أن يكون موسى عليه السلام في وقت مسألته ذلك كان شاكا في جواز الرؤية على الله تعالى؛ فسأل عن ذلك ليعلم هل يجوز عليه أم لا. قال: وليس شكّه في ذلك بمانع من أن يعرف الله تعالى بصفاته، بل يجري مجرى شكّه في جواز الرؤية على بعض ما لا يرى من الأعراض في أنه غير مخلّ بما يحتاج إليه في معرفته تعالى؛ فلا يمتنع أن يكون غلطه في ذلك ذنبا صغيرا أو تكون التوبة الواقعة منه لأجل ذلك.

وهذا الجواب يبعد من قبل أن الشك في جواز الرؤية التي لا تقتضي تشبيها، وإن كان لا يمنع من معرفته تعالى بصفاته فإن الشكّ في ذلك لا يجوز على الأنبياء من حيث يجوز من بعض من بعثوا إليه أن يعرف ذلك على حقيقته، فيكون النبي شاكا فيه وغيره عارفا به؛ مع رجوعه إلى المعرفة بالله تعالى، وما يجوز علينا فلا يجوز عليهم، وهذا أقوى في التنفير وأزيد على كل ما يوجب أن يجنّبه الأنبياء.

فإن قيل: ففي(١) أي شيء كانت توبة موسى عليه السلام على الجوابين المتقدمين؟.

قلنا: اما من ذهب إلى أن المسألة كانت لقومه فإنه يقول: إنما تاب لأنه أقدم على أن سأل على لسان قومه ما لم يؤذن له فيه؛ وليس للأنبياء ذلك؛ لأنه لا يؤمن أن يكون الصلاح في المنع منه، فيكون ترك إجابتهم إليه منفّرا عنهم.

ومن ذهب إلى أنه سأل المعرفة الضرورية يقول: إنه تاب من حيث سأل معرفة لا يقتضيها التكليف. وعلى جميع الأحوال تكون التوبة من ذنب صغير لا يستحق عليه العقاب ولا الذم.

والأولى أن يقال في توبته عليه السلام: إنه ليس في الآية ما يقتضي أن تكون التوبة وقعت من المسألة أو من أمر يرجع إليها؛ وقد يجوز أن يكون سأل ذلك؛ إما لذنب صغير تقدم

____________________

(١) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (فعن).

٢١٨

تلك الحال، أو تقدم النبوة فلا ترجع إلى المسألة. وقد يجوز أن يكون ما أظهره من التوبة على سبيل الرجوع إلى الله تعالى؛ وإظهار الانقطاع إليه، والتقرب منه، وإن لم يكن هناك ذنب معروف.

وقد يجوز أن يكون الغرض في ذلك مضافا إلى ما قلناه تعليما وتوفيقا على ما نستعمله وندعو به عند الشدائد ونزول الأهوال، وتنبيه القوم المخطئين خاصة على التوبة مما التمسوه من الرؤية المستحيلة عليه تعالى؛ فإن الأنبياء، وإن لم يقع منهم القبيح عندنا فقد يقع من غيرهم؛ ويحتاج من وقع ذلك منه إلى التوبة والاستقالة.

فأما قوله تعالى:( فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ ) فإن التجلّي هاهنا التعريف والإعلام والإظهار لما تقتضي المعرفة، كقولهم: هذا كلام جلي أي واضح، وكقول الشاعر:

تجلّى لنا بالمشرفيّة والقنا

وقد كان عن وقع الأسنّة نائيا

أراد أن تدبيره دل عليه حتى علم أنه المدبّر له وإن كان نائيا عن وقع الأسنة، فأقام ما ظهر من دلالة فعله مقام مشاهدته، وعبر عنه بأنه تجلّى منه.

وفي قوله: لِلْجَبَلِ وجهان:

أحدهما أن يكون لأهل الجبل، ومن كان عند الجبل، فحذف؛ كما قال تعالى:( وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ ) [يوسف: ٨٢]؛( فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالأرْضُ ) ؛ [الدخان: ٢٩]؛

وقد علمنا أنه بما أظهره من الآيات إنما دلّ من كان عند الجبل على أن رؤيته تعالى غير جائزة.

والوجه الآخر أن يكون معنى لِلْجَبَلِ أي بالجبل، فأقام اللام مقام الباء؛ كما قال تعالى:

( آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ) ؛ [الأعراف: ١٢٣]؛ أي به؛ وكما يقولون: أخذتك لجرمك وبجرمك.

٢١٩

ولما كانت الآية الدالة على منع ما سئل فيه إنما حلّت الجبل وظهرت فيه جاز أن يضاف التجلي إليه.

وقد استدل بهذه الآية كثير من العلماء الموحّدين على أنه تعالى لا يرى بالأبصار من حيث نفى الرؤية نفيا عاما بقوله تعالى:( لَنْ تَرانِي ) ؛ ثم أكّد ذلك بأن علّق الرؤية باستقرار الجبل الّذي علمنا أنه لم يستقرّ. وهذه طريقة للعرب في تبعيد الشيء؛ لأنهم يعلّقونه بما يعلم أنه لا يكون؛ كقولهم: لا كلمتك ما أضاء الفجر، وطلعت الشمس؛ وكقول الشاعر:

إذا شاب الغراب رجوت أهلي

وصار القار كاللبن الحليب

ومما يجري هذا المجرى قوله تعالى:( وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ ) ؛ [الاعراف: ٤٠].

وليس لأحد أن يقول: إذا علّق الرؤية باستقرار الجبل؛ وكان ذلك في مقدوره، فيجب أن تكون الرؤية معلقة به أيضا في مقدوره؛ بأنه لو كان الغرض بذلك التبعيد لعلّقه بأمر يستحيل، كما علّق دخولهم الجنة بأمر مستحيل؛ من ولوج الجمل في سمّ الخياط؛ وذلك أن تشبيه الشيء بغيره لا يجب أن يكون من جميع الوجوه؛ ولمّا علّق وقوع الرؤية باستقرار الجبل - وقد علم أنه لا يستقرّ - علم نفي الرؤية. وما عدا ذلك من كون الرؤية مستحيلة وغير مقدورة، واستقرار الجبل بخلافها يخرج عن ما هو الغرض في التشبيه على أنه إنما علّق تعالى جواز الرؤية باستقرار الجبل في تلك الحال التي جعله فيها دكّا، وذلك محال لما فيه من اجتماع الضّدين، فجرى مجرى جواز الرؤية في الاستحالة. وليس يجب في كل ما علّق بغيره أن يجرى مجراه في سائر وجوهه؛ حتى إذا كان أحدهما مع انتفائه مستحيلا كان الآخر بمثابته؛ لأن تعلّق دخول الكفار الجنة إنما علّق بولوج الجمل في سمّ الخياط؛ وولوج الجمل في سمّ الخياط مستحيل، بل معلوم أن الأول في المقدور وإن كان لا يحسن والثاني ليس في المقدور. وهذه الجملة كافية في تأويل هذه الآية، وبيان ما فيها، والحمد للّه.

***

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403