أمالي المرتضى الجزء ٢

أمالي المرتضى0%

أمالي المرتضى مؤلف:
تصنيف: مكتبة اللغة والأدب
الصفحات: 403

أمالي المرتضى

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشريف أبى القاسم على بن الطاهر أبى أحمد الحسين
تصنيف: الصفحات: 403
المشاهدات: 61797
تحميل: 8739


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 403 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 61797 / تحميل: 8739
الحجم الحجم الحجم
أمالي المرتضى

أمالي المرتضى الجزء 2

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

شققا(١) فقالت: كذب والّذي أنزل القرآن على أبي القاسم، من حدث بهذا عن رسول الله صلى الله عليه وآله! وإنما قال رسول الله: (كان أهل الجاهلية يقولون: إن الطيرة في المرأة والدار والدابة)، ثم قرأت:( ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها ) ؛ [الحديد: ٢٢].

وروى خبرا يرفعه إلى أنس بن مالك قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال:

يارسول الله إنا نزلنا دارا فكثر فيها عددنا، وكثر بها أموالنا، ثم تحولنا منها إلى أخرى، فقلّت فيها أموالنا، وقلّ عددنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: (ذروها فهي ذميمة).

قال ابن قتيبة:" وهذا ليس ينقض الحديث الأول؛ وإنما أمرهم بالتحوّل منها؛ لأنهم كانوا مقيمين فيها على استثقال ظلّها، واستيحاش لما نالهم فيها، فأمرهم بالتحوّل منها، وقد جعل الله في غرائز الناس وتركيبهم استثقال ما نالهم السوء فيه؛ وإن كان لا سبب لهم في ذلك؛ وحب من جرى على يده الخير لهم وإن لم يردهم به، وبغض من جرى على يده الشر لهم وإن لم يردهم به.

قال سيدنا أدام الله علوه: ما وجدنا ابن قتيبة عمل شيئا أكثر من أنه لما أعجزه تأويل الأخبار التي سأل نفسه عنها، والمطابقة بينها وبين قوله عليه السلام: (لا عدوى ولا طيرة) ادّعى الخصوص فيما ظاهره العموم، وخصّ العدوى بشيء دون آخر؛ وكلاهما سواء، وأورد تأويلا يدفعه نص قول النبي صلى الله عليه وآله؛ لأنه عليه السلام لما سئل عن النّقبة تقع بمشفر البعير فتجرب لذلك الإبل قال عليه السلام: (فما أعدى الأول؟) تكذيبا بعدوى هذه النّقبة وتأثيرها، فاطّرح ابن قتيبة ذلك، وزعم أن الجرب يعدي ويؤثر في المخالط والمؤاكل، وعوّل في ذلك على قول الأطباء، وترك قول الرسول صلى الله عليه وآله.

ومن طريف أمره أنه قال:" إن الأطباء ينهون عن مجالسة المسلول والمجذوم؛ ولا يريدون

____________________

(١) الشفقة في الأصل: القطع.

٢٠١

بذلك معنى العدوى، وإنما يريدون تغيّر الرائحة؛ وأنها تسقم من أدمن اشتمامها". وهذا غلط لأن الأطباء إنما تنهى عن ذلك خوفا من العدوى، وسبب العدوى عندهم هو اشتمام الرائحة، وانفصال أجزاء من السقيم إلى الصحيح، وليس إذا كان غير هذا عدوى عند قوم ما يوجب ألاّ يكون هذا أيضا من العدوى.

ولما حكى عن غيره تأويلا صحيحا في قوله عليه السلام. (لا يوردنّ ذو عاهة على مصحّ) ادّعى أن العيان يدفع، وأي عيان معه! ونحن نجد كثيرا ممن يخالط الجربى فلا يجرب، ونجد إبلا صحاحا تخالط ذوات العاهات فلا يصيبها شيء من أدوائها؛ فكأنه إنما يدّعي أن العيان يدفع قول النبي صلى الله عليه وآله: (فما أعدى الأول) ؟

والوجه عندنا في قول النبي عليه السلام: (لا يوردنّ ذو عاهة على مصحّ) أنه عليه السلام إنما نهى عن ذلك؛ وإن لم يكن مؤثرا على الحقيقة؛ لأنّ فاعله كالمدخل الضرر على غيره؛ لأنّ من اعتقد أن ذلك يعدي ويؤثر فأورد على إبله؛ فلا بدّ من أن يلحقه لما تقدم من اعتقاده ضرر وغمّ، ولا بدّ من أن يذم من عامله بذلك؛ فكأنه عليه السلام نهى عن أذى الناس والتعرّض لذمهم.

وقد يجوز أيضا فيه ما حكاه ابن قتيبة عن غيره مما لم يرتضه من أنهم متى ظنوا ذلك اثموا فنهى عليه السلام عن التعرض لما يؤثم.

ولو نقل ابن قتيبة ما قاله عليه السلام في الطاعون: (إذا كان ببلد فلا تدخلوه)، وأمره لمن شكا إليه ما لحقه في الدار بالتحوّل عنها إلى هاهنا لكان قد أصاب، لأنه حمل ذلك على أن تجنّب البلد أسكن للنفس وأطيب للعيش؛ وكذلك الدار، وهذا يمكن في قوله عليه السلام: (لا يوردنّ ذو عاهة على مصحّ) بعينه.

فأما قوله عليه السلام: (فرّ من المجذوم فرارك من الأسد)، فليس فيه أنّ ذلك لأجل العدوى؛ وقد يمكن أن يكون لأجل نتن ريحه واستقذاره، ونفور النفس عنه، وأن ذلك ربما دعا إلى تعييره والإزراء عليه. وامتناعه عليه السلام من إدخال المجذوم عليه ليبايعه

٢٠٢

يجوز أن يكون الغرض فيه غير العدوى؛ بل بعض الأسباب المانعة التي ذكرنا بعضها.

وأما حديث الطاعون والقول فيه على ما قاله؛ فقد كان سبيله لما عوّل في عدوى الجذام والجرب على قول الأطباء أن يرجع أيضا إلى أقوالهم في الطاعون؛ لأنهم يزعمون أنّ الطاعون الّذي يعرض من تغير الأهوية وما جرى مجراها يعدي كعدوى الجرب والجذام، والعيان الّذي ادعاه ليس هو أكثر من وجود من يجرب أو يجذم لمخالطة من كان بهذه الصفة.

وهذا العيان موجود في الطاعون؛ فإنا نرى عمومه لمن يسكن البلد الّذي يكون فيه، ويطرأ إليه.

فأما الخبر الّذي يتضمّن أن الشؤم في المرأة والدار والدابة، فالّذي ذكره من الرواية في معناه يزيل الشبهة به؛ على أنه لو لم يكن هاهنا رواية في تأويله جاز أن يحمل على أن الّذي يتطير به المتطيّرون، ويدّعون أن الشؤم فيه هو المرأة، والدار، والدابة؛ ولا يكون ذلك إثباتا للطّيرة والشؤم في هذه الأشياء؛ بل على طريق الإخبار بأنّ الطّيرة الثابتة إنما هي فيها لقوّة أمرها عند أصحاب الطّيرة وما ذكره بعد ذلك في الدار؛ وأمره عليه السلام بانتقاله عنها تأويل قريب؛ وكان يجب أن يهتدي إليه فيما تقدم. وما التوفيق إلا من عند الله.

٢٠٣

مجلس آخر

[٦٩]

تأويل آية :( وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ الله إِلاّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ )

إن سأل سائل عن تأويل قوله تعالى:( وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ الله إِلاّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ) ؛ [الشورى: ٥١].

فقال: أو ليس ظاهر هذا الكلام يقتضي جواز الحجاب عليه وأنتم تمنعون من ذلك!

الجواب، قلنا: ليس في الآية أكثر من ذكر الحجاب، وليس فيها أنه حجاب له تعالى أو لمحلّ كلامه أو لمن يكلّمه. وإذا لم يكن في الظاهر شيء من ذلك جاز صرف الحجاب إلى غيره عز وجل؛ مما يجوز أن يكون محجوبا. وقد يجوز أن يريد تعالى بقوله:

( أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ) أنه يفعل كلاما في جسم محتجب على المكلّم، غير معلوم له على سبيل التفصيل، فيسمع المخاطب الكلام ولا يعرف محلّه على طريق التفصيل، فيقال على هذا: هو مكلّم من وراء حجاب.

وروي عن مجاهد في قوله تعالى:( وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ الله إِلاّ وَحْياً ) قال: هو داود أوحي في صدره فزبر الزّبور،( أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ) وهو موسى،( أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً ) وهو جبريل إلى محمد صلى الله عليه وآله.

فأما الجبّائي فإنه ذكر أنّ المراد بالآية:( وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ الله ) إلا مثل ما يكلّم به عباده من الأمر بطاعته، والنهي لهم عن معاصيه، وتنبيهه إيّاهم على ذلك من جهة الخاطر أو المنام، وما أشبه ذلك على سبيل الوحي.

قال: وإنما سمى الله تعالى ذلك وحيا لأنه خاطر وتنبيه، وليس هو كلاما لهم على سبيل الإفصاح، كما يفصح الرجل منّا لصاحبه إذا خاطبه. والوحي في اللغة إنما هو ما جرى مجرى الإيماء والتنبيه على شيء من غير أن يفصح به؛ فهذا هو معنى ما ذكره الله تعالى في الآية.

٢٠٤

قال: وعنى بقوله:( أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ) أن يحجب ذلك الكلام عن جميع خلقه، إلا من يريد أن يكلّمه به؛ نحو كلامه تعالى لموسى عليه السلام، لانه حجب ذلك عن جميع الخلق إلا موسى عليه السلام وحده في كلامه إياه أولا. فأما كلامه إياه في المرة الثانية فإنه إنما أسمع ذلك موسى والسبعين الذين كانوا معه، وحجب(١) عن جميع الخلق سواهم. فهذا معنى قوله عز وجل:

( أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ) ، لأن الكلام هو الّذي كان محجوبا عن الناس.

وقد يقال: إنه تعالى حجب عنهم موضع الكلام الّذي أقام الكلام فيه؛ فلم يكونوا يدرون من أين يسمعونه؛ لأنّ الكلام عرض لا يقوم إلا في جسم.

ولا يجوز أن يكون أراد بقوله:( أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ) أنّ الله تعالى كان( مِنْ وَراءِ حِجابٍ ) يكلّم عباده؛ لأن الحجاب لا يجوز إلاّ على الأجسام المحدودة.

قال: وعنى بقوله:( أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ ) إرساله ملائكته بكتبه وبكلامه إلى أنبيائه عليهم السلام، ليبلّغوا عنه ذلك عباده على سبيل إنزاله القرآن على محمد صلى الله عليه وآله، وإنزاله سائر الكتب على أنبيائه.

فهذا أيضا ضرب من الكلام الّذي يكلّم الله تعالى عباده ويأمرهم فيه بطاعته، وينهاهم عن معاصيه؛ من غير أن يكلّمهم على سبيل ما كلم به موسى، وهذا الكلام هو خلاف الوحي الّذي ذكره(٢) الله تعالى في أول الآية لأنه قد أفصح لهم في هذا الكلام بما أمرهم به ونهاهم عنه.

والوحي الّذي ذكره تعالى في أول الآية إنّما هو تنبيه وخاطر، وليس فيه إفصاح.

وهذا الّذي ذكره أبو عليّ أيضا سديد، والكلام محتمل لما ذكره.

ويمكن فى الآية وجه آخر، وهو أن يكون المراد بالحجاب البعد والخفاء، ونفي الظهور. وقد تستعمل العرب لفظة (الحجاب) فيما ذكرناه؛ يقول أحدهم لغيره إذا استبعد فهمه، واستبطأ فطنته: بيني وبينك حجاب، وتقول للأمر الّذي تستبعده وتستصعب طريقه: بيني وبين هذا الأمر حجب وموانع وسواتر؛ وما جرى مجرى ذلك؛ فيكون

____________________

(١) د، حاشية ف (من نسخة): (حجبه).

(٢) حاشية الأصل: (ش (ذكر)، بالبناء للمجهول.

٢٠٥

معنى الآية: أنّه تعالى لا يكلّم البشر إلاّ وحيا؛ بأن يخطر في قلوبهم، أو بأن ينصب لهم أدلة تدلّهم على ما يريده أو يكرهه منهم؛ فيكون من حيث نصبها للدلالة على ذلك والإرشاد إليه مخاطبا ومكلّما(١) للعباد بما يدلّ عليه. وجعل هذا الخطاب من وراء حجاب من حيث لم يكن مسموعا - كما يسمع الخاطر وقول الرسول - ولا ظاهرا معلوما لكل من أدركه؛ كما أن أقوال الرسل المؤدّين عنه تعالى من الملائكة بهذه الصفة. فصار الحجاب هاهنا كناية عن الخفاء وعبارة عمّا تدلّ عليه الدلالة. وليس لأحد أن يقول: إنّ الّذي تدلّ عليه الأجسام من صفاته تعالى وأحواله ومراده. ولا يقال: إنّه تعالى مكلّم لنا به؛ وذلك أنه غير ممتنع على سبيل التجوّز(٢) أن يقال فيما يدلّ عليه الدليل الّذي نصبه الله تعالى ليدل على مراده، ويرشد إليه: إنه مكلّم لنا ومخاطب به؛ ولا يمتنع المسلمون أن يقولوا: إنه تعالى خاطبنا بما دلّت عليه الأدلة العقلية، وأمرنا بعبادته واجتناب ما كرهه منا، وفعل ما أراده، وهكذا يقولون فيمن فعل فعلا يدل على أمر من الأمور:

قد خاطبنا فلان بما فعل من كذا وكذا، وقال لنا، وأمرنا؛ وزجرنا، وما أشبه ذلك من الألفاظ التي يجرونها على الكلام الحقيقي. وهذا الاستعمال أكثر وأظهر من أن يورد أمثلته ونظائره.

***

قال سيدنا أدام الله تمكينه: ومن مستحسن ما قيل في الذئب قول أسماء بن خارجة ابن حصن الفزاري:

ولقد ألمّ بنا لنقريه

بادي الشّقاء محارف الكسب(٣)

يدعو الغنى أن نال علقته

من مطعم غبّا إلى غبّ

____________________

(١) د، ف، حاشية الأصل (من نسخة): (أو مكلما).

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): (التجويز).

(٣) من قصيدة له في الأصمعيات ٩ - ١١، مطلعها:

إنّي لسائل كلّ ذي طبّ

ماذا دواء صبابة الصبّ

٢٠٦

وطوى ثميلته وألحقها

بالصّلب بعد لدونة الصّلب

ياضلّ سعيك ما صنعت بما

جمّعت من شبّ إلى دبّ!

لو كنت ذا لبّ تعيش به

لفعلت فعل المرء ذي اللّبّ

وجمعت صالح ما احترفت وما

جمّمت من نهب إلى نهب

وأظنّه شغبا تدلّ به

فلقد منيت بغاية الشّغب

أو كان غير مناصل نعصي بها

مشحوذة وركائب الرّكب(١)

فاعمد إلى أهل الوقير فما

يخشاك غير مقرمص الزّرب

أحسبتنا ممّن تطيف به

فاخترتنا للأمن والخصب

وبغير معرفة ولا سبب

أنّى، وشعبك ليس من شعبي

لمّا رأى أن ليس نافعه

جدّ تهاون صادق الإرب

وألحّ إلحاحا لحاجته(٢)

شكوى الضّرير ومزجر(٣) الكلب

بادي التّكلّح يشتكي سغبا

وأنا ابن قاتل شدّة السّغب

فرأيت أن قد نلته بأذى

من عذم(٤) مثلبة ومن سبّ

ورأيت حقّا أن أضيّفه

إذ أمّ سلمى واتّقى حربي(٥)

فوقفت معتاما أزاولها

بمهنّد ذي رونق عضب

فعرضته في ساق أسمنها

فاجتاز بين الحاذ والكعب

____________________

(١) د، ومن نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (إذ كان) ؛ ويقال: عصى بالسيف يعصي؛ إذا ضرب، وفي حاشيتي الأصل، ف: (عروض هذا البيت من القطعة سالم، لأنها (متفاعلن)، وأعارض سواه أحذ وضربه أحذ مضمر).

(٢) د، ف، حاشية الأصل (من نسخة): (لحاجته).

(٣) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (بمزجر الكلب).

(٤) العذم: العض؛ ومن نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (من بعد مثلبة) ؛ ومن نسخة أخرى: (من عظم مثلبة).

(٥) في حاشيتي الأصل، ف: (يجوز أن يكون معناه: فرأيت إن عاملته بشيء يؤذيني ويرجع باللوم والسب عليّ، فأعطيته تفاديا من ذلك.

٢٠٧

فنركته(١) لعياله جزرا

عمدا وعلّق رحلها صحبي

ذكر ذئبا طرقه ليلا.

وقوله: (محارف الكسب) مثل ضربه، أي لا يبقي له نشب إلا شيء يكتسبه.

وقوله:

* يدعو الغنى أن نال علقته*

أي إن وجد ما يتعلّق به من مطعم.

غبّا: أي بين يومين، فذلك عنده الغنى.

والثّميلة: ما يبقى في البطن من طعام أو علف، ومعنى طوى ثميلته: ذهب بها، وأراد أنه لم يبق في بطنه ما يمسكه. واللدونة: اللين، واللدن: اللين، فأراد أنه ألحق بقية طعامه بصلبه بعد أن لان ما صلب منها.

ثم أقبل على الذئب كالعاذل له فقال: ما صنعت بما جمعت من شبّ إلى دبّ! وهذان اسمان للشباب والهرم لا يفردان ولا يلفظ بهما إلا هكذا، والمعنى فيهما: هو منذ كنت شابا حتى أن دببت على العصا، ثم قال: لو كنت ذا لبّ لجمعت ما تصيبه.

ومعنى (احترفت) اكتسبت. ومعنى (من نهب إلى نهب) ؛ أي من عدوتك على الغنم إلى العدوة الأخرى.

ثم قال: إن كان تعرّضك لنا شغبا علينا فقد منيت بغاية الشّغب؛ أي هو ينافرك ويقاتلك، وليس هاهنا ما تغير عليه، وإنما معنا (مناصل) أي سيوف مشحوذة، وركائبنا التي نمتطيها؛ فاعمد إلى أهل الوقير، والوقير: القطيع من الغنم، ولا يسمّى وقيرا إلا إذا كان فيه حمار؛ يقول: فعليك بمواضع الغنم فإنما يخشاك الراعي.

والمقرمص: الّذي يتخذ القرموصة، وأصله المكان الضيّق، وهو هاهنا

____________________

(١) حاشية الأصل (من نسخة): (فتركتها).

٢٠٨

حفرة(١) يحتفرها الراعي في الرمل في شدة الحر للشاة الكريمة الصفيّة؛ حتى إذا بركت كان ضرعها في القرموصة.

ومعنى (شعبك ليس من شعبي)، أي لست من جنسي ولا شكلي.

والإرب: الخديعة عند الحاجة

وشكوى الضرير: الّذي قد مسه الضرّ. ومزجر الكلب، أي هو قريب المكان بقدر مزجر الكلب إذا زجرته، أي إذا خسأته.

والسّغب: الجوع؛ وأراد بقوله:

* وأنا ابن قاتل شدة السّغب*

أي أنا ابن من كان يقري ويطعم.

ثم رجع إلى كرمه فقال: ورأيت بعد ما سببته وعضضته بالأذى والعذم أن أضيفه وأقريه لأنه ضيف وإن كان ذئبا، فوقفت أنظر في ركائبي وأختار أسمنها. والاعتيام: الاختيار؛ وأزاولها: ألا بسها(٢) . والحاذان: حدّا الفخذين اللذين يليان الذنب.

وخبّر أن رحل المطيّة التي عقرها علّقه بعض أصحابه على مطية أخرى.

***

وقال النجاشي(٣) يذكر ذئبا:

____________________

(١) د، وحاشية ف (من نسخة): (حفيرة).

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): (ألامسها).

(٣) هو قيس بن عمرو بن مالك الحارثي؛ ذكره ابن قتيبة في الشعراء ٢٨٨ - ٢٩٣؛ وفي حاشيتي الأصل، ف: (قال ابن دريد: النجاشي: كلمة حبشية يسمون ملوكهم بها؛ كما يسمون كسرى وقيصر.

وقال غيره: النجاشي، بسكون الياء ولا يجوز تشديده قال س: قرأت أنا بخط ابن جني: النجاشي؛ بكسر النون والتشديد وصحح عليه. وفي شعر الفرزدق (والنجاشيا). وانظر الاشتقاق ص ٢٣٩ والأبيات في حماسة ابن الشجري ٢٠٧، ومعاني ابن قتيبة ٢٠٧ - ٢٠٨. وخزانة الادب:

٤ - ٣٦٧

٢٠٩

وماء كلون الغسل قد عاد آجنا

قليل به الأصوات في بلد محل(١)

وجدت عليه الذّئب يعوي كأنّه

خليع خلا من كلّ مال ومن أهل(٢)

فقلت له: ياذئب هل لك في فتى

يواسى بلا منّ عليك ولا بخل؟

فقال: هداك الله للرّشد! إنّما

دعوت لما لم يأته سبع قبلي

فلست بآتيه ولا أستطيعه

ولاك اسقني إن كان ماؤك ذا فضل(٣)

فقلت: عليك الحوض إنّي تركته

وفي صغوه فضل القلوص من السّجل(٤)

فطرّب يستعوي ذئابا كثيرة

وعدّيت، كلّ من هواه على شغل(٥)

***

وروي أن الفرزدق نزل بالغريّين فعراه بأعلى ناره ذئب، فأبصره مقعيا يصيء ومع الفرزدق مسلوخة، فرمى إليه بيد فأكلها، فرمى إليه بما بقي فأكله؛ فلما شبع ولى عنه فقال:

وليلة بتنا بالغريّين ضافنا

على الزّاد موشي الذّراعين أطلس(٦)

تلمّسنا حتى أتانا ولم يزل

لدن فطمته أمّه يتلمّس

____________________

(١) قال البغدادي: (كان النجاشي عرض له ذئب في سفر له، فدعاه إلى طعام وقال له: هل لك ميل في أخ - يعني نفسه - يواسيك في طعامه بغير من ولا بخل؟ فقال له الذئب: قد دعوتني إلى شيء لم يفعله السباع قبلي من مؤاكلة بني آدم، وهذا لا يمكنني فعله، ولست بآتيه ولا أستطيعه؛ ولكن إن كان في مائك الّذي معك فضل عما تحتاج إليه فاسقني منه. وهذا الكلام وضعه النجاشي على لسان ذئب؛ كأنه اعتقد فيه أنه لو كان ممن يعقل أو يتكلم لقال هذا القول. وأشار به إلى تعشقه للفلوات التي لا ماء فيها، فيهتدي الذئب إلى مظانه فيها) والغسل: ما يغسل به من سدر ونحوه، والآجن: الماء المتغير الطعم.

وفي المعاني (كلون البول).

(٢) الخليع: الّذي خلعه أهله لجناية وتبرءوا منه.

(٣) البيت من شواهد الرضي على أن حذف النون من (لكن) لالتقاء الساكنين ضرورة؛ تشبيها بالتنوين أو بحرف المد واللين من حيث كانت ساكنة. وأورده سيبويه في باب ضرورة الشعر (الكتاب ١: ٩) وقال الأعلم: (حذف النون لالتقاء الساكنين ضرورة لإقامة الوزن؛ وكان وجه الكلام أن يكسر لالتقاء الساكنين، شبهها في الحذف بحرف المد واللين؛ إذا سكنت وسكن ما بعدها؛ نحو يغزو العدو، ويقضي الحق، ويخشى الله).

(٤) الصغو: الجانب المائل؛ وضبطت في الأصل بالفتح والكسر معا، والسجل: الدلو العظيمة.

(٥) التطريب: ترجيع الصوت ومده.

(٦) ديوانه: ٤٨٥، وحماسة ابن الشجري ٢٠٨. أطلس: أغبر تعلوه حمرة.

٢١٠

فلو أنّه إذ جاءنا كان دانيا

لألبسته لو أنه يتلبّس(١)

ولكن تنحّى جنبة بعد ما دنا

فكان كقاب القوس أو هو أنفس

فقاسمته نصفين بيني وبينه

بقيّة زاد والرّكائب نعّس(٢)

وكان ابن ليلى إذ قرى الذّئب زاده

على طارف الظّلماء لا يتعبّس(٣)

***

ولابن عنقاء الفزاري، واسمه قيس بن بجرة - وقيل بجرة بالضم - الأبيات المشهورة في الذئب:

وأعوج من آل الصّريح كأنّه

بذي الشّثّ سيد آبه الليل جائع(٤)

بغى كسبه أطراف ليل كأنّه

وليس به ظلع من الخمص ظالع

فلمّا أتاه(٥) الرّزق من كلّ وجهة

جنوب الملا وآيسته المطامع(٦)

طوى نفسه طي الجرير كأنّه

حوى حيّة في ربوة، فهو هاجع(٧)

فلمّا أصابت متنه الشّمس حكّه

بأعصل، في أنيابه السّمّ ناقع(٨)

____________________

(١) ف: (لو أنه كان يلبس)، وهي رواية الديوان وابن الشجري.

(٢) د، ف: (زادي)، وهي رواية الديوان.

(٣) د، ف: (طارق الظلماء) ؛ وهي رواية الديوان.

(٤) الأبيات في المؤتلف والمختلف: ١٥٨، أعوج: فرس والصريح: فحل من خيل العرب؛ وفي حاشيتي الأصل، ف: (ش: آخر الليل) ؛ ورواية البيت في المؤتلف:

ويخطو على صمّ صلاب كأنّه

بذي الشّثّ سيد آخر الليل جائع

(٥) حاشية الأصل (من نسخة): (أباه).

(٦) حاشية الأصل: (نسخة ابن الشجري: (أيأسته).

(٧) حاشية الأصل: (حوى حية، أي تحوى حية، وحوى الحية: مقدار استدارتها).

(٨) يريد بالأعصل: الناب المعوج.

٢١١

وفكّك لحييه فلمّا تعاديا

صأى ثمّ أقعى، والبلاد بلاقع(١)

وهمّ بأمر ثمّ أزمع غيره،

وإن ضاق رزق مرّة فهو واسع

وعارض أطراف الصّبا وكأنّه

رجاع غدير هزّه الرّيح رائع(٢)

ولآخر في الذئب:

فقلت: تعلّم أنّني غير نائم

إلى مستقلّ بالخيانة أنيبا

بعيد المطاف لا يفيد على الغنى

ولا يأتلي ما اسطاع إلاّ تكسّبا

معنى (أنيب) غليظ الناب. لا أنام إليه، أي لا أثق به، من ذلك استنمت إلى فلان أي اطمأننت إليه.

ومعنى (لا يفيد على الغنى) أي لا يلتمس مطعما وهو شبعان.

ولحميد بن ثور في الذئب:

فظلّ يراعي الجيش حتى تغيّبت

حباش، وحالت دونهنّ الأجارع(٣)

إذا ما غدا يوما رأيت غيابة(٤)

من الطّير ينظرن الّذي هو صانع

خفيف المعا إلاّ مصيرا يبلّه

دم الجوف أو سؤر من الحوض ناقع

هو البعل الدّاني من النّاس كالذي

له صحبة وهو العدوّ المنازع

ينام بإحدى مقلتيه ويتّقي

بأخرى المنايا، فهو يقظان هاجع

وصف ذئبا يتبع الجيش طمعا في أن يتخلف رجل يثب عليه لأنه من بين السباع لا يرغب

____________________

(١) صأى: صاح، وهذا البيت والّذي يليه ينسبان لحميد بن ثور (وانظر ديوانه ١٠٥، ١٠٦).

(٢) رجاع الغدير: ما يتراجع من الماء ويتلفف إذا ضربته الريح. والبيت في اللسان (رجع).

(٣) من قصيدة في ديوانه ١٠٣ - ١٠٦، وفي حاشية الأصل (من نسخة): (حناش)، وفي حاشية ف والأصل أيضا: (في شعره:

* يظلّ يراعي الخنس حيث تيمّمت*

ويعني الخنس بقر الوحش، الواحد أخنس وخنساء.

(٤) الغيابة: كل شيء أظل الإنسان فوق رأسه.

٢١٢

في القتلى، ولا يكاد يأكل إلا ما فرسه.

وحباش(١) : اسم هضبة. وقال بعضهم: وليس بمعروف أن حباش اسم من أسماء الشمس:

وأخبر أن الطير تتبعه لتصيب مما يقتل.

والمصير: المعا. والبعل: الدّهش.

____________________

(١) م: (خباش)، بالخاء المعجمة، تحريف.

٢١٣

مجلس آخر

[٧٠]

تأويل آية :( وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً، فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً، فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ) ؛ [الأعراف: ١٤٣].

وقال: ما تنكرون أن تكون هذه الآية دالة على جواز الرؤية عليه عزّ وجلّ! لأنها لو لم تجز لم يجز أن يسألها موسى عليه السلام؛ كما لا يجوز أن يسأل اتخاذ الصاحبة والولد؛ ولو كانت أيضا الرؤية مستحيلة لم يعلّقها بأمر يصح أن يقع وهو استقرار الجبل. فإذا علمنا صحة استقرار الجبل في موضعه فيجب أن تكون الرؤية أيضا صحيحة في حكم ما علّقت به. وقوله تعالى:

( فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ ) يقتضي جواز الحجاب عليه تعالى؛ لأن التجلّي والظهور لا يكونان إلا بعد احتجاب واستتار.

الجواب، قلنا: أول ما نقوله إنه ليس في مسألة الشيء دلالة على صحة وقوعه ولا جوازه؛ لأن السائل يسأل عن الصحيح والمحال، مع العلم وفقد العلم؛ لأغراض مختلفة؛ فلا دلالة في ظاهر مسألة الرؤية على جوازها.

ولأصحابنا عن هذه المسألة أجوبة:

أوّلها وهو الأولى والأقوى - أن يكون موسى عليه السلام لم يسأل الرؤية لنفسه؛ وإنما سألها لقومه، فقد روي أنهم طلبوا ذلك منه والتمسوه، فأجابهم بأنها لا تجوز عليه تبارك وتعالى؛ فلم يقنعوا بجوابه، وآثروا أن يرد الجواب من قبل ربه تعالى، فوعدهم ذلك، وغلب في ظنه أن الجواب إذ ورد من جهته جلّ وعزّ كان أحسم للشبهة؛ وأبلغ في دفعها عنهم، فاختار السبعين الذين حضروا الميقات؛ ليكون سؤاله

٢١٤

بمحضر منهم، فيعرفوا ما يرد من الجواب، فسأل وأجيب بما يدلّ على أن الرؤية لا تجوز عليه تعالى.

ويقوّي هذا الجواب أشياء، منها قوله تعالى:( يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً ) ؛ [النساء: ١٥٣].

ومنها قوله تعالى:( وَإِذْ قُلْتُمْ يامُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ) ؛ [البقرة: ٥٥].

ومنها قوله تعالى:( فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا ) ؛ [الأعراف: ١٥٥] لأن إضافة ذلك إلى السفهاء تدلّ على أنه كان بسببهم ومن أجلهم؛ وإنما سألوا ما لا يجوز عليه.

ومنها ذكر الجهرة في الرؤية، وهي لا تليق إلا برؤية البصر دون العلم؛ وهذا يقوّي أن الطلب لم يكن للعلم الضروري، على ما سنذكره في الجواب الثاني.

ومنها قوله: أَنْظُرْ إِلَيْكَ لأنا إذا حملنا الآية على طلب الرؤية لقومه أمكن أن يحمل قوله: أَنْظُرْ إِلَيْكَ على حقيقته؛ فإذا حملت الآية على طلب العلم الضروري احتيج إلى حذف في الكلام، ويصير تقديره: أرني أنظر إلى الآيات التي عندها أعرفك ضرورة.

ويمكن في هذا الوجه الأخير خاصة أن يقال: إذا كان المذهب الصحيح عندكم هو أنّ النظر في الحقيقة غير الرؤية، فكيف يكون قوله: أَنْظُرْ إِلَيْكَ حقيقة في جواب من حمل الآية على طلب الرؤية لقومه؟

فإن قلتم: لا يمتنع أن يكونوا التمسوا الرؤية التي معها يكون النظر والتحديق إلى الجهة، فسأل على حسب ما التمسوا.

قيل لكم: هذا ينقض فرقكم في هذا الجواب بين سؤال الرؤية، وبين سؤال جميع

٢١٥

ما يستحيل عليه من الصاحبة والولد؛ وما يقتضي الجسمية بأن تقولوا: الشك في الرؤية لا يمنع من صحة معرفة السمع، والشك في جميع ما ذكر يمنع من ذلك؛ لأن الشكّ الّذي لا يمنع من معرفة السمع إنما هو في الرؤية التي لا يكون معها نظر، ولا تقتضي التشبيه.

فإن قلتم: يحمل ذكر النّظر على أن المراد به نفس الرؤية على سبيل المجاز؛ لأنّ من عادة العرب أن يسمّوا الشيء باسم الطريق إليه، وما قاربه وداناه.

قلنا: فكأنّكم عدلتم من مجاز إلى مجاز؛ فلا قوة في هذا الوجه؛ والوجوه التي ذكرناها في تقوية هذا الجواب المتقدمة أولى.

وليس لأحد أن يقول: لو كان عليه السلام إنما سأله الرؤية لقومه لم يضف السؤال إلى نفسه فيقول:( أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ) ولا كان الجواب مختصا به؛ وهو قوله تعالى:( لَنْ تَرانِي ) ، وذلك لأنه غير ممتنع وقوع الإضافة على هذا الوجه؛ مع أن المسألة كانت من أجل الغير؛ إذا كانت هناك دلالة تؤمن من اللبس وتزيل الشبهة.

فلهذا يقول أحدنا إذا شفع في حاجة غيره للمشفوع له: أسألك أن تفعل بي كذا، وتجيبني إلى كذا. ويحسن أن يقول المشفوع إليه: قد أجبتك وشفّعتك(١) ، وما جرى مجرى ذلك؛ وإنما حسن هذا لأن للسائل في المسألة غرضا(٢) ، وإن رجعت إلى الغير فتحقّقه بها وتكلّفه كتكلّفه إذا اختصه ولم يتعدّه.

فإن قيل؛ كيف يجوز منه عليه السلام مع علمه باستحالة الرؤية عليه تعالى أن يسأل فيها لقومه! ولئن جاز ذلك ليجوزنّ أن يسأل لقومه سائر ما يستحيل عليه من كونه جسما، وما أشبهه متى شكّوا فيه.

قلنا: إنما صحّ ما ذكرناه في الرؤية ولم يصحّ فيما سألت عنه؛ لأن مع الشك في جواز الرؤية التي لا تقتضي كونه جسما يمكن معرفة السمع، وأنه حكيم صادق في أخباره، فيصح

____________________

(١) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (أسعفتك).

(٢) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (أغراضا).

٢١٦

أن يعرفوا بالجواب الوارد من جهته تعالى استحالة ما شكّوا في صحته وجوازه؛ ومع الشك في كونه جسما لا يصحّ معرفة السمع، فلا يقع بجوابه انتفاع ولا علم.

وقد قال بعض من تكلم في هذه الآية: قد كان جائزا أن يسأل موسى عليه السلام لقومه ما يعلم استحالته؛ وإن كانت دلالة السمع لا تثبت قبل معرفته؛ متى كان المعلوم أن في ذلك صلاحا للمكلّفين في الدين، وإنّ ورود الجواب يكون لطفا لهم في النظر في الأدلة، وإصابة الحق منها؛ غير أن من أجاب بذلك شرط أن يتبين النبي عليه السلام في مسألته علمه باستحالة ما سأل عنه، وأن غرضه في السؤال ورود الجواب ليكون لطفا.

والجواب الثاني في الآية أن يكون موسى عليه السلام إنما سأل ربّه أن يعلمه نفسه ضرورة بإظهار بعض أعلام الآخرة، التي تضطرّ إلى المعرفة، فتزول عنه الدواعي والشكوك والشبهات، ويستغنى عن الاستدلال، فتخفّ المحنة عليه بذلك؛ كما سأل إبراهيم عليه السلام ربه تعالى أن يريه كيف يحيي الموتى طلبا لتخفيف المحنة، وإن كان قد عرف ذلك قبل أن يراه؛ والسؤال إن وقع بلفظ الرؤية فإن الرؤية تفيد العلم كما تفيد الإدراك بالبصر، وذلك أظهر من أن يستدل عليه أو يستشهد عليه؛ فقال له جل وعز:( لَنْ تَرانِي ) أي لن تعلمني على هذا الوجه الّذي التمسته مني، ثم أكّد ذلك بأن أظهر في الجبل من آياته وعجائبه ما دلّ به على أنّ إظهار ما تقع به المعرفة الضرورية في الدنيا مع التكليف وبيانه لا يجوز، وأن الحكمة تمنع منه.

والوجه الأول أولى لما ذكرناه من الوجوه؛ ولأنه لا يخلو موسى عليه السلام من أن يكون شاكّا في أنّ المعرفة الضرورية لا يصح دخولها(١) في الدنيا أو عالما بذلك. فإن كان شاكا فهذا مما لا يجوز على النبي عليه السلام؛ لأن الشكّ فيما يرجع إلى أصول الديانات وقواعد التكليف لا يجوز عليهم، ولا سيما أن يعلم الله ذلك على حقيقتهم بعض أمتهم، فيزيد عليهم في المعرفة؛ وهذا أبلغ في التنفير عنهم من كل شيء يمنع(٢) منه فيهم. وإن كان عالما فلا وجه لسؤاله إلا أن

____________________

(١) ف: (حصولها).

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): (يمتنع منه).

٢١٧

يقال: إنه سال لقومه، فيعود إلى معنى الجواب الأول.

والجواب الثالث في الآية ما حكي عن بعض من تكلم في هذه الآية من أهل التوحيد وهو أن قال: يجوز أن يكون موسى عليه السلام في وقت مسألته ذلك كان شاكا في جواز الرؤية على الله تعالى؛ فسأل عن ذلك ليعلم هل يجوز عليه أم لا. قال: وليس شكّه في ذلك بمانع من أن يعرف الله تعالى بصفاته، بل يجري مجرى شكّه في جواز الرؤية على بعض ما لا يرى من الأعراض في أنه غير مخلّ بما يحتاج إليه في معرفته تعالى؛ فلا يمتنع أن يكون غلطه في ذلك ذنبا صغيرا أو تكون التوبة الواقعة منه لأجل ذلك.

وهذا الجواب يبعد من قبل أن الشك في جواز الرؤية التي لا تقتضي تشبيها، وإن كان لا يمنع من معرفته تعالى بصفاته فإن الشكّ في ذلك لا يجوز على الأنبياء من حيث يجوز من بعض من بعثوا إليه أن يعرف ذلك على حقيقته، فيكون النبي شاكا فيه وغيره عارفا به؛ مع رجوعه إلى المعرفة بالله تعالى، وما يجوز علينا فلا يجوز عليهم، وهذا أقوى في التنفير وأزيد على كل ما يوجب أن يجنّبه الأنبياء.

فإن قيل: ففي(١) أي شيء كانت توبة موسى عليه السلام على الجوابين المتقدمين؟.

قلنا: اما من ذهب إلى أن المسألة كانت لقومه فإنه يقول: إنما تاب لأنه أقدم على أن سأل على لسان قومه ما لم يؤذن له فيه؛ وليس للأنبياء ذلك؛ لأنه لا يؤمن أن يكون الصلاح في المنع منه، فيكون ترك إجابتهم إليه منفّرا عنهم.

ومن ذهب إلى أنه سأل المعرفة الضرورية يقول: إنه تاب من حيث سأل معرفة لا يقتضيها التكليف. وعلى جميع الأحوال تكون التوبة من ذنب صغير لا يستحق عليه العقاب ولا الذم.

والأولى أن يقال في توبته عليه السلام: إنه ليس في الآية ما يقتضي أن تكون التوبة وقعت من المسألة أو من أمر يرجع إليها؛ وقد يجوز أن يكون سأل ذلك؛ إما لذنب صغير تقدم

____________________

(١) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (فعن).

٢١٨

تلك الحال، أو تقدم النبوة فلا ترجع إلى المسألة. وقد يجوز أن يكون ما أظهره من التوبة على سبيل الرجوع إلى الله تعالى؛ وإظهار الانقطاع إليه، والتقرب منه، وإن لم يكن هناك ذنب معروف.

وقد يجوز أن يكون الغرض في ذلك مضافا إلى ما قلناه تعليما وتوفيقا على ما نستعمله وندعو به عند الشدائد ونزول الأهوال، وتنبيه القوم المخطئين خاصة على التوبة مما التمسوه من الرؤية المستحيلة عليه تعالى؛ فإن الأنبياء، وإن لم يقع منهم القبيح عندنا فقد يقع من غيرهم؛ ويحتاج من وقع ذلك منه إلى التوبة والاستقالة.

فأما قوله تعالى:( فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ ) فإن التجلّي هاهنا التعريف والإعلام والإظهار لما تقتضي المعرفة، كقولهم: هذا كلام جلي أي واضح، وكقول الشاعر:

تجلّى لنا بالمشرفيّة والقنا

وقد كان عن وقع الأسنّة نائيا

أراد أن تدبيره دل عليه حتى علم أنه المدبّر له وإن كان نائيا عن وقع الأسنة، فأقام ما ظهر من دلالة فعله مقام مشاهدته، وعبر عنه بأنه تجلّى منه.

وفي قوله: لِلْجَبَلِ وجهان:

أحدهما أن يكون لأهل الجبل، ومن كان عند الجبل، فحذف؛ كما قال تعالى:( وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ ) [يوسف: ٨٢]؛( فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالأرْضُ ) ؛ [الدخان: ٢٩]؛

وقد علمنا أنه بما أظهره من الآيات إنما دلّ من كان عند الجبل على أن رؤيته تعالى غير جائزة.

والوجه الآخر أن يكون معنى لِلْجَبَلِ أي بالجبل، فأقام اللام مقام الباء؛ كما قال تعالى:

( آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ) ؛ [الأعراف: ١٢٣]؛ أي به؛ وكما يقولون: أخذتك لجرمك وبجرمك.

٢١٩

ولما كانت الآية الدالة على منع ما سئل فيه إنما حلّت الجبل وظهرت فيه جاز أن يضاف التجلي إليه.

وقد استدل بهذه الآية كثير من العلماء الموحّدين على أنه تعالى لا يرى بالأبصار من حيث نفى الرؤية نفيا عاما بقوله تعالى:( لَنْ تَرانِي ) ؛ ثم أكّد ذلك بأن علّق الرؤية باستقرار الجبل الّذي علمنا أنه لم يستقرّ. وهذه طريقة للعرب في تبعيد الشيء؛ لأنهم يعلّقونه بما يعلم أنه لا يكون؛ كقولهم: لا كلمتك ما أضاء الفجر، وطلعت الشمس؛ وكقول الشاعر:

إذا شاب الغراب رجوت أهلي

وصار القار كاللبن الحليب

ومما يجري هذا المجرى قوله تعالى:( وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ ) ؛ [الاعراف: ٤٠].

وليس لأحد أن يقول: إذا علّق الرؤية باستقرار الجبل؛ وكان ذلك في مقدوره، فيجب أن تكون الرؤية معلقة به أيضا في مقدوره؛ بأنه لو كان الغرض بذلك التبعيد لعلّقه بأمر يستحيل، كما علّق دخولهم الجنة بأمر مستحيل؛ من ولوج الجمل في سمّ الخياط؛ وذلك أن تشبيه الشيء بغيره لا يجب أن يكون من جميع الوجوه؛ ولمّا علّق وقوع الرؤية باستقرار الجبل - وقد علم أنه لا يستقرّ - علم نفي الرؤية. وما عدا ذلك من كون الرؤية مستحيلة وغير مقدورة، واستقرار الجبل بخلافها يخرج عن ما هو الغرض في التشبيه على أنه إنما علّق تعالى جواز الرؤية باستقرار الجبل في تلك الحال التي جعله فيها دكّا، وذلك محال لما فيه من اجتماع الضّدين، فجرى مجرى جواز الرؤية في الاستحالة. وليس يجب في كل ما علّق بغيره أن يجرى مجراه في سائر وجوهه؛ حتى إذا كان أحدهما مع انتفائه مستحيلا كان الآخر بمثابته؛ لأن تعلّق دخول الكفار الجنة إنما علّق بولوج الجمل في سمّ الخياط؛ وولوج الجمل في سمّ الخياط مستحيل، بل معلوم أن الأول في المقدور وإن كان لا يحسن والثاني ليس في المقدور. وهذه الجملة كافية في تأويل هذه الآية، وبيان ما فيها، والحمد للّه.

***

٢٢٠