أمالي المرتضى الجزء ٢

أمالي المرتضى9%

أمالي المرتضى مؤلف:
تصنيف: مكتبة اللغة والأدب
الصفحات: 403

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 403 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 67917 / تحميل: 10206
الحجم الحجم الحجم
أمالي المرتضى

أمالي المرتضى الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

وقالت امرأة من بني سعد بن بكر(١) :

أيا أخوي الملزمي ملامة(٢)

أعيذ كما(٣) بالله من مثل ما بيا

سألتكما بالله إلاّ جعلتما(٤)

مكان الأذى واللّوم أن تأويا ليا(٥)

أيا أمتا حبّ الهلالي قاتلي

شطون النّوى يحتلّ عرضا يمانيا(٦)

أشمّ كغصن البان جعد مرجّل

شعفت به لو كان شيئا مدانيا(٧)

فإن لم أوسّد ساعدي بعد هجعة

غلاما هلاليا فشلّ بنانيا(٨)

ثكلت أبي إن كنت ذقت كريقه

لشيء ولا ماء الغمامة غاديا(٩)

ولضاحية الهلالية:

ألمّ كبير لمّة ثمّ شمّرت

به جلّة يطلبن برقا يمانيا(١٠)

[ألا ليتنا والنّفس تسكن للمنى

يمانون إن أمسى حبيب يمانيا]

ولها:

وإنّي لأهوى القصد ثمّ يردّنى

عن القصد(١١) ميلات الهوى فأميل

____________________

(١) الأبيات في حماسة ابن الشجري: ١٥٦ - ١٥٧؛ منسوبة إلى ضاحية الهلالية.

(٢) في ابن الشجري:

* أيا أخوي اللائمي على الهوي*

(٣) م، وابن الشجري: (أعندكما).

(٤) ابن الشجري: (لما خلعتما).

(٥) أن تأويا لي؛ أي أن ترحماني.

(٦) حاشية الأصل: (أمتا، أي أمي، وشطون، أي هو شطون النوى، والعرض: سفح الجبل، أي بسفح يمان).

(٧) حاشية الأصل: (أراد بالجعد السخي الكريم، وهو من الأضداد، قال طرفة:

أنا الرّجل الجعد الّذي تعرفونه

خشاش كرأس الحية المتوقد

(٨) حاشية الأصل: (نسخة س: فشلت بنانيا) وهي رواية ابن الشجري.

(٩) في ابن الشجري بعد هذا البيت:

وأقسم لو خيّرت بين فراقه

وبين أبي لاخترت أن لا أباليا

(١٠) في حاشيتي الأصل، ف: (كبير، رجل، ونسخة س (كثير)، لمة: إلماما، شمرت، أي ذهبن به، والجلة: المسان من الإبل، ويجوز أن يريد بها الجليلة؛ ومن نسخة: (يطرن برقا يمانيا).

(١١) القصد: الأمر السوي والطريقة المستقيمة.

٢٤١

وما وجد مسجون بصنعاء موثق

بساقيه من حبس الأمير كبول

وما ليل مولى مسلم بجريرة

له بعد ما نام العيون عويل

بأكثر منّي لوعة يوم عجّلوا(١) ،

فراق حبيب ما إليه سبيل

ولعمرة(٢) بنت العجلان أخت عمرو ذي الكلب بن عجلان الكاهلي ترثي أخاها عمرا، وقد كان في بعض غزواته نائما، فوثب عليه نمران فأكلاه، فوجدت فهم سلاحه، فادّعت قتله(٣) :

سألت بعمرو أخي صحبه

فأفظعني حين ردّوا السّؤالا

وقالوا: أتيح له نائما

أعزّ السّباع عليه أحالا(٤)

أتيح له نمرا أجبل

فنالا لعمرك منه منالا

فأقسمت(٥) ياعمرو لو نبّهاك

إذا نبّها منك أمرا(٦) عضالا

[إذن نبها غير رعديدة

ولا طائش رعش حين صالا](٧)

إذا نبّها ليث عرّيسة

مفيتا مفيدا نفوسا ومالا(٨)

____________________

(١) د، ف، حاشية الأصل (من نسخة): (يوم راعني).

(٢) في حاشيتي الأصل، ف: (نسخة س: وجدت هذه القصيدة في دواوين هذيل منسوبة إلى جنوب أخت عمرو) ؛ وهي أيضا في ديوان الهذليين ٣: ١٢٠ - ١٢٣ وخزانة الأدب وزهر الآداب (طبعة الحلبي) ٧٩٥ - ٧٩٦؛ وشواهد العيني منسوبة إلى الحنوب.

(٣) في ديوان الهذليين عن أبي عبيدة: (كان ذو الكلب يغزو فهما؛ فوضعوا له الرصد على الماء فأخذوه وقتلوه، ثم مروا بأخته جنوب؛ فقالت لهم: ما شأنكم؟ فقالوا: إنا طلبنا أخاك عمرا، فقالت:

لئن طلبتموه لتجدنه منيعا، ولئن أضفتموه لتجدن جنابه مريعا؛ ولئن دعوتموه لتجدنه سريعا. قالوا: فقد أخذناه وقتلناه، وهذا سلبه؛ قالت: لئن سلبتموه لا تجدن ثنته وافية، ولا حجزته جافية، ولا ضالته كافية؛ ولرب ثدي منكم قد افترشه، ونهب قد احتوشه، وضب قد احترشه؛ ثم قالت ترثيه ) وأورد القصيدة.

(٤) أحال: حمل عليه فقتله وأكله.

(٥) في ديوان الهذليين: (فأقسم).

(٦) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (داء) ؛ وهي رواية ديوان الهذليين.

(٧) من ديوان الهذليين.

(٨) العريس والعريسة: مأوى الأسد؛ والمفيت: مهلك النفوس.

٢٤٢

هزبرا فروسا لاعدائه

هصورا إذا لقى القرن صالا(١)

هما مع تصرّف ريب المنون

من الأرض ركنا ثبيتا أمالا(٢)

هما يوم حمّ له يومه

وقال أخو فهم بطلا وفالا(٣)

معنى (فال) أخطأ؛ يقال: رجل فائل الرأي -

وقالا(٤) قتلناه في غارة

بآية ما إن ورثنا النّبالا

كأنها تهزأ بهم وتكذبهم؛ أي بعلامة أن قد ورثتم النبال -

فهلاّ ومن قبل ريب المنون

فقد كان رجلا وكنتم رجالا

وقد علمت فهم يوم(٥) اللّقاء

بأنّهم لك كانوا نفالا(٦)

كأنهم لم يحسّوا به

فيخلوا النّساء له والحجالا

ولم ينزلوا بمحول(٧) السّنين

به فيكونوا عليه عيالا

وقد علم الضّيف والمجتدون

إذا اغبرّ أفق وهبّت شمالا(٨)

وخلّت عن اولادها المرضعات

ولم تر عين لمزن بلالا(٩)

بأنّك كنت الرّبيع المغيث

لمن يعتريك وكنت الثّمالا(١٠)

وخرق تجاوزت مجهوله

بوجناء حرف تشكّى الكلالا(١١)

____________________

(١) ديوان الهذليين: (لأقرانه). والهزبر: اسم السبع، والفروس: الّذي يدق الأعناق.

(٢) الثبيت: الثابت؛ وفي ديوان الهذليين (ركنا عزيزا).

(٣) حم: قدر.

(٤) حاشية الأصل (من نسخة): (وقالوا).

(٥) حاشية الأصل (من نسخة): (عند)، وهي رواية ديوان الهذليين.

(٦) نفالا: غنائم.

(٧) ديوان الهذليين: (لزبات السنين)، واللزبات: الشدائد.

(٨) ديوان الهذليين: (والمرملون). وهبت شمالا؛ أي الريح:

(٩) بلالا، أي بللا.

(١٠) وفي حاشية الأصل: (يقال: فلان ثمال قومه إذا كان الاعتماد والمعول عليه.

(١١) الخرق: الفلاة الواسعة؛ والوجناء: الناقة الشديدة؛ والحرف: الضامر؛ شبهت بحرف الجبل؛ وفي حاشية الأصل (من نسخة):

* وخرق تجاوزت مجهولة*

٢٤٣

فكنت النهارية شمسه

وكنت دجى اللّيل فيه الهلالا

وخيل سمت لك فرسانها

فولّوا ولم يستقلّوا قبالا(١)

[و حي أبحت، وحي صبحت

غداة الهياج منايا عجالا](٢)

وكلّ قبيل وإن لم تكن

أردتهم، منك باتوا وجالا(٣)

____________________

(١) القبال: شسع النعل، تريد شيئا قليلا.

(٢) من ديوان الهذليين.

(٣) الوجال: المتخوفون.

٢٤٤

مجلس آخر

[٧٤]

تأويل آية :( وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ الله يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ الله يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) ؛ [هود: ٣٤].

فقال: أليس ظاهر هذه الآية يقتضي أنّ نصح النبي صلى الله عليه وآله لم ينفع(١) الكفار الذين أراد الله بهم الكفر والغواية، وهذا بخلاف مذهبكم!

الجواب، قلنا: ليس في ظاهر الآية ما يقتضيه خلاف مذهبنا؛ لأنه تعالى لم يقل إنه فعل الغواية أو أرادها؛ وإنما أخبر أن نصح(٢) النبي عليه السلام لا ينفع إن كان الله يريد غوايتهم. ووقوع الإرادة لذلك أو جواز وقوعها لا دلالة عليه في الظاهر؛ على أن الغواية هاهنا الخيبة وحرمان الثواب؛ ويشهد بصحة ما ذكرناه في هذه اللفظة قول الشاعر:

فمن يلق خيرا يحمد النّاس أمره

ومن يغو لا يعدم على الغي لائما(٣)

فكأنه قال: إن كان الله يريد أن يعاقبكم بسوء أعمالكم وكفركم، ويحرمكم ثوابه فليس ينفعكم نصحي ما دمتم مقيمين على ما أنتم عليه؛ إلا أن تقلعوا وتتوبوا.

وقد سمى الله تعالى العقاب غيا، فقال:( فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ) [مريم: ٥٩]؛ وما قبل هذه الآية يشهد بما ذكرناه؛ وأن القوم استعجلوا عقاب الله تعالى:( قالُوا يانُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ الله إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ. وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي ... ) الآية؛ [هود: ٣٢، ٣٣]؛ فأخبر أن نصحه لا ينفع من يريد الله أن ينزل به العذاب، ولا يغني عنه شيئا.

____________________

(١) حاشية الأصل (من نسخة): (لا ينفع).

(٢) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (وإنما أخبرنا.

(٣) البيت للمرقش الأصغر (المفضليات ٢٤٧ - طبعة المعارف).

٢٤٥

وقال جعفر بن حرب: إن الآية تتعلق بأنه كان في قوم نوح طائفة تقول بالجبر، فنّههم الله تعالى بهذا القول على فساد مذهبهم؛ وقال لهم على طريق الإنكار عليهم والتعجب من قولهم: إن كان القول كما تقولون من أن الله يفعل فيكم الكفر والفساد، فما ينفعكم نصحي؛ فلا تطلبوا مني نصحا وأنتم على ذلك لا تنتفعون به؛ وهذا جيد.

وروي عن الحسن البصري في هذه الآية وجه صالح؛ وهو أنه قال: المعنى فيها إن كان الله يريد أن يعذّبكم فليس ينفعكم نصحي عند نزول العذاب بكم، وإن قبلتموه وآمنتم به؛ لأنّ كان من حكم الله تعالى ألاّ يقبل الإيمان عند نزول العذاب؛ وهذا كله واضح في زوال الشبهة بالآية.

قال سيدنا أدام الله تمكينه: ومن مستحسن ما قيل في صفة المصلوب قول أبي تمام الطائي في قصيدة يمدح بها المعتصم، ويذكر قتل الأفشين وحرقه وصلبه:(١)

ما زال سرّ الكفر بين ضلوعه

حتى اصطلى سرّ الزّناد الواري(٢)

نارا يساور جسمه من حرّها

لهب كما عصفرت شقّ إزار

طارت لها شعل يهدّم لفحها

أركانه هدما بغير غبار

فصّلن منه كلّ مجمع مفصل

وفعلن فاقرة بكلّ فقار(٣)

مشبوبة رفعت لأعظم(٤) مشرك

ما كان يرفع ضوءها للسّاري

صلّى لها حيّا وكان وقودها

ميتا، ويدخلها مع الكفّار(٥)

____________________

(١) من قصيدة في ديوانه: ١٥١ - ١٥٥؛ مطلعها:

الحقّ أبلج والسيوف عوار

فحذار من أسد العرين حذار

وكان الأفشين من أكابر قواد المعتصم، وجهه لحرب بابك الخرمي؛ فقبض عليه وحمله إلى المعتصم فقطعه وصلبه وانتهى أمر.، ثم علم المعتصم خيانة من الأفشين؛ فقبض عليه وقتله وصلبه على خشبة بابك سنة ٢٢٦ هـ

(٢) سر الزناد: النار المخبوءة فيها.

(٣) الفاقرة: الداهية.

(٤) حاشية الأصل (من نسخة): (لأعظم)، بضم الظاء.

(٥) حاشية الأصل (من نسخة): (الفجار)، وهي رواية الديوان.

٢٤٦

وكذاك أهل النّار في الدّنيا هم

يوم القيامة جلّ أهل النار

يامشهدا صدرت بفرحته إلى

أمصارها القصوى بنو الأمصار

رمقوا أعالي جذعه فكأنما

رمقوا الهلال(١) عشيّة الإفطار

واستنشقوا منه قتارا نشره

من عنبر ذفر ومسك داري(٢)

وتحدّثوا عن هلكه بحديث(٣) من

بالبدو عن متتابع الأمطار

قد كان بوّأه الخليفة جانبا

من قلبه حرما على الأقدار

فسقاه ماء الخفض غير مصرّد

وأنامه في الأمن غير غرار(٤)

ولقد شفى الأحشاء من برحائها

أن صار بابك جار مازيار(٥)

ثانيه في كبد السّماء ولم يكن

لاثنين ثان إذ هما في الغار(٦)

وكأنّما انتبذا لكيما يطويا

عن ناطس(٧) خبرا من الأخبار

سود اللّباس كأنما نسجت لهم

أيدي السّموم مدارعا من قار

بكروا وأسروا في متون ضوامر

فبدت لهم من مربط النّجّار

لا يبرحون ومن رآهم خالهم

أبدا على سفر من الأسفار

كادوا النّبوّة والهدى فتقطّعت

أعناقهم في ذلك المضمار

____________________

(١) الديوان: (وجدوا).

(٢) القتار: الرائحة، ونشره: فوحانه؛ والذفر: الحاد، والداري: منسوب إلى دارين؛ وهي فرضة يجلب منها المسك. ومن نسخة بحاشيتي الأصل، ف: واستنشئوا).

(٣) ف، وحاشية الأصل (من نسخة)، والديوان: (كحديث).

(٤) غرار: قليل.

(٥) مازيار: رجل، وضبط في الأصل بفتح الزاي وكسرها معا.

(٦) كذا وردت الرواية في الأصول؛ وتأويله: ولم يكن كاثنين إذ هما في الغار ثان؛ أي لم يكن كهذه القضية قضية أخرى. وفي الديوان: (ثانيا إذ هما)، بتسهيل الهمزة، وفي حاشية الأصل: (أي هو ثان في الصلب والضلالة لما زيار؛ وليس هو كأبي بكر إذ كان مع النبي عليه السلام في الغار).

(٧) في حاشيتي الأصل، ف: (ناطس اسم ملك الروم).

٢٤٧

وله يذكر صلب بابك:

لمّا قضى رمضان منه قضاءه

شالت به الأيّام في شوّال(١)

ما زال مغلول العزيمة سادرا

حتى غدا في القيد والأغلال

مستبسلا للبأس طوقا من دم(٢)

لما استبان فظاظة الخلخال

أهدى لمتن الجذع متنيه كذا

من عاف متن الأسمر العسّال(٣)

لا كعب أسفل موضعا من كعبه

مع أنّه عن كلّ كعب عال

سام كأنّ العزّ يجذب ضبعه

وسموّه من ذلّة وسفال

متفرّغ أبدا وليس بفارغ

من لا سبيل له إلى الأشغال

قال سيدنا أدام الله علوّه: ومن عجيب الأمور أن أبا العباس أحمد بن عبيد الله بن عمار ينشد هذه الأبيات المفرطة في الحسن في جملة مقابح أبي تمام، وما خرّجه - بزعمه - من سقطه وغلطه؛ ويقول في عقبها: ولم يسمع بشعر وصف فيه مصلوب بأغثّ من هذا الوصف، وأين كان عن مثل إبراهيم بن المهدي يصف صلب بابك في قصيدة يمدح بها المعتصم:

ما زال يعنف بالنّعمى فنفّرها

عنه الغموط، ووافته الأراصيد(٤)

حتى علا حيث لا ينحطّ مجتمعا

كما علا أبدا ما أورق العود

يابقعة ضربت فيها علاوته

وعينه، وذوت أغصانه الميد

بوركت أرضا وأوطانا مباركة

ما عنك في الأرض للتّقديس تعريد

لو تقدر الأرض حجّتك البلاد فلا

يبقى على الأرض إلاّ حجّ جلمود

لم يبك إبليس إلاّ حين أبصره

في زيّه، وهو فوق الفيل مصفود

كناقة النّحر تزهي تحت زينتها

وحدّ شفرتها للنّحر محدود

____________________

(١) من قصيدة في ديوانه ٢٥٩ - ٢٦٥ يمدح فيها المعتصم، وأولها:

آلت أمور الشّرك شرّ مآل

وأقرّ بعد تخمّط وصيال

(٢) الديوان

* متلبّسا للموت طوقا من دم*

(٣) العسال: المضطرب.

(٤) يعني القضاء الواقف له بالمرصاد.

٢٤٨

ما كان أحسن قول النّاس يومئذ

أيوم بابك هذا أم هو العيد!

صيّرت جثّته جيدا لباسقة

جرداء، والرّأس منه ما له جيد

فآض تلعب هوج العاصفات به

على الطّريق صليبا طرفه عود

كأنّه شلو كبش والهواء له

تنوّر شاوية، والجذع سفّود

وهكذا ينبغي أن يطعن على أبيات أبي تمام من يستجيد هذه الأبيات ويفرط في تقريظها؛ وليت من جهل شيئا عدل عن الخوض فيه والكلام عليه؛ فكان ذلك وأولى به. وأبيات أبي تمام في نهاية القوّة وجودة المعاني والألفاظ وسلامة السّبك واطراد النسج، وأبيات ابن المهدي مضطربة الألفاظ، مختلفة النسج، متفاوتة الكلام؛ وما فيها شيء يجوز أن يوضع عليه اليد إلا قوله:

حتّى علا حيث لا ينحط مجتمعا

كما علا أبدا ما أورق العود

وبعده البيت الأخير وإن كان بارد الألفاظ.

وقد أحسن مسلم بن الوليد في قوله:

ما زال يعنف بالنّعمى ويغمطها

حتى استقلّ به عود على عود(١)

نصبته حيث ترتاب الرياح به

وتحسد الطّير فيه أضبع البيد(٢)

وللبحتري في هذا المعنى من قصيدة يمدح بها أبا سعيد أو لها:

لا دمنة بلوى خبت ولا طلل

يردّ قولا على ذي لوعة يسل(٣)

إن عزّ دمعك في آي الرّسوم فلم

يصب عليها فعندي أدمع بلل

هل أنت يوما معيري نظرة فترى

في رمل يبرين عيرا سيرها رمل!

حثّوا النّوى بحداة ما لها وطن

غير النّوى، وجمال ما لها عقل

____________________

(١) ديوانه: ١٣٣، يعنف بالتعمي: يسرف ويجاوز حقه فيها، ويغمطها: يكفرها.

(٢) قال شارح ديوانه: (ترتاب الرياح، أي تستنكر؛ يريد: إذا خلف أحد على ذلك المكان أتته ريحه قبيحة منه؛ يقول: جعلته في مكان تبلغه الطير، ولا تبلغه الضبع فتحسد الطير).

(٣) ديوانه ٢: ٢١٤.

٢٤٩

يقول فيها:

تحمله البرد من أقصى الثّغور إلى

أدنى العراق سراعا ريثها عجل(١)

بسرّ من راء منكوسا تجاذبه

أيدي الشّمال فضولا كلّها فضل

أمسى يردّ حريق الشمس جانبه

عن بابك، وهي في الباقين تشتعل

تفاوتوا بين مرفوع ومنخفض

على مراتب ما قالوا وما فعلوا

ردّ الهجير لحاهم بعد شعلتها

سودا، فعادوا شبابا بعد ما اكتهلوا

سما له حابل الآساد في لمة

من المنايا، فأمسى وهو محتبل

حالي الذّراعين والسّاقين لو صدقت

له المنى لتمنّى أنّها عطل

من تحت مطبق أرض الشّام في نفر

أسرى يودّون ودّا أنّهم قتلوا

غابوا عن الأرض أنأى غيبة وهم

فيها؛ فلا وصل إلاّ الكتب والرّسل

وله في هذا المعنى:

ما زلت تقرع باب بابك بالقنا

وتزوره في غارة شعواء(٢)

حتى أخذت بنصل سيفك عنوة

منه الّذي أعيا على الأمراء

أخليت منه البذّ وهي قراره

ونصبته علما بسامرّاء(٣)

لم يبق فيه خوف بأسك مطمعا(٤)

للطّير في عود ولا إبداء

فتراه مطّردا على أعواده

مثل اطراد كواكب الجوزاء

مستشرفا للشّمس منتصبا لها

في أخريات الجذع كالحرباء

____________________

(١) البرد: جمع يريد؛ وفي حاشية الأصل (من نسخة): (تأتي به البرد).

(٢) ديوانه ١: ٤، من قصيدة يمدح فيها محمد بن يوسف مطلعها:

زعم الغراب منبئ الأنباء

أنّ الأحبّة آذنوا بتناء

(٣) البذّ: كورة بين أذربيجان وأران. وسامراء: لغة في سرّ من رأى؛ مدينة كانت بين بغداد وتكريت.

(٤) ف: (مطعما).

٢٥٠

مجلس آخر

[٧٥]

تأويل آية :( شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) ؛ [البقرة: ١٨٥].

فقال: كيف أخبر تعالى بأنه أنزل فيه القرآن، وقد أنزله في غيره من الشهور على ما جاءت به الرواية؟ والظاهر يقتضي أنه أنزل الجميع فيه، وما المعنى في قوله:( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) ؟ وهل أراد الإقامة والحضور اللذين هما ضدّا(١) الغيبة، أو أراد المشاهدة والإدراك؟.

الجواب، قلنا: أما قوله تعالى:( أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ) فقد قال قوم: المراد به أنه تعالى أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا في شهر رمضان، ثم فرق إنزاله على نبيه صلى الله عليه وآله بحسب ما تدعو الحاجة إليه.

وقال آخرون: المراد بقوله( أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ) أنه أنزل في فرضه وإيجاب صومه على الخلق القرآن؛ فيكون فِيهِ بمعنى في فرضه، كما يقول القائل: أنزل الله في الزكاة كذا وكذا، يريد في فرضها، وأنزل الله في الخمر كذا وكذا يريد في تحريمها.

وهذا الجواب إنما هرب متكلّفه من شيء، وظن أنه قد اعتصم بجوابه عنه، وهو بعد ثابت على ما كان عليه؛ لأن قوله: الْقُرْآنُ إذا كان يقتضي ظاهره إنزال جميع القرآن فيجب على هذا الجواب أن يكون قد أنزل في فرض الصيام جميع القرآن؛ ونحن نعلم أنّ قليلا من القرآن يتضمّن إيجاب صوم شهر رمضان، وأن أكثره خال من ذلك.

فإن قيل: المراد بذلك أنه أنزل في فرضه شيئا من القرآن، وبعضا منه.

____________________

(١) حاشية الأصل: (نسخة ش: (ضد الغيبة).

٢٥١

قيل: فألاّ اقتصر على هذا، وحمل الكلام على أنه تعالى أنزل شيئا من القرآن في شهر رمضان ولم يحتج إلى أن يجعل لفظة فِيهِ بمعنى في فرضه وإيجاب صومه.

والجواب الصحيح، أن قوله تعالى:( الْقُرْآنُ ) في هذا الموضع لا يفيد العموم والاستغراق، وإنما يفيد الجنس من غير معنى الاستغراق، فكأنه قال:( شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ ) هذا الجنس من الكلام؛ فأي شيء نزل منه في الشهر فقد طابق الظاهر.

وليس لأحد أن يقول: إن الألف واللام هاهنا لا يكونان إلا للعموم والاستغراق؛ لأنا لو سلمنا أن الألف واللام صيغة العموم والصورة المقتضية لاستغراق الجنس لم يجب أن يكون هاهنا بهذه الصفة؛ لأن هذه اللفظة قد تستعمل في مواضع كثيرة من الكلام ولا يراد بها أكثر من الإشارة إلى الجنس والطبقة من غير استغراق وعموم؛ حتى يكون حمل كلام المتكلم بها على خصوص أو عموم؛ كالناقض لغرضه والمنافي لمراده؛ ألا ترى أن القائل إذا قال:

فلان يأكل اللحم، ويشرب الخمر، وضرب الأمير اليوم اللصوص، وخاطب الجند لم يفهم من كلامه إلا محض الجنس والطبقة من غير معنى خصوص ولا عموم؛ حتى لو قيل له: فلان يأكل جميع اللحم، ويشرب جميع الخمر أو بعضها لكان جوابه: إنني لم أرد عموما ولا خصوصا؛ إنما أريد أنّه يأكل هذا الجنس من الطعام، ويشرب هذا الجنس من الشراب؛ فمن فهم من كلامي العموم أو الخصوص فهو بعيد من فهم مرادي.

وأرى كثيرا من الناس يغلطون في هذا الموضع، فيظنون أنّ الإشارة إلى الجنس من غير إرادة العموم والاستغراق ليست مفهومة؛ حتى يحملوا قول من قال: أردت الجنس في كل موضع على العموم؛ وهذا بعيد ممّن يظنه؛ لأنه كما أنّ العموم والخصوص مفهومان في بعض المواضع بهذه الألفاظ فكذلك الإشارة إلى الجنس والطبقة من غير إرادة عموم ولا خصوص مفهومة مميزة؛ وقد ذكرنا أمثلة ذلك.

فأما قوله تعالى:( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) فأكثر المفسرين حملوه على أنّ المراد بمن شهد منكم الشهر من كان مقيما في بلد غير مسافر. وأبو عليّ حمله على أنّ المراد

٢٥٢

به فمن أدرك الشهر وشاهده وبلغ إليه وهو متكامل الشروط فليصمه، ذهب في معنى شَهِدَ إلى معنى الإدراك والمشاهدة.

وقد طعن قوم على تأويل أبي عليّ وقالوا: ليس يحتمل الكلام إلاّ الوجه الأول.

وليس الأمر على ما ظنوه؛ لأن الكلام يحتمل الوجهين معا؛ وإن كان للقول الأول ترجيح ومزية على الثاني من حيث يحتاج في الثاني من الإضمار إلى أكثر مما يحتاج إليه في الأول؛ لأن على القول الأول لا يحتاج إلى إضمار الإقامة وارتفاع السفر؛ لأن قوله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ يقتضي الإقامة؛ وإنما يحتاج إلى إضمار باقي الشروط من الإمكان والبلوغ وغير ذلك.

وفي القول الثاني يحتاج مع كلّ ما أضمرناه في القول الأول إلى إضمار الإقامة؛ ويكون التقدير: فمن شاهد الشهر وهو مقيم مطيق بالغ إلى سائر الشروط؛ فمن هذا الوجه كان الأول أقوى.

وليس لأحد أن يقول: إن شَهِدَ بنفسه من غير محذوف لا يدلّ على إقامة؛ وذلك أنّ الظاهر من قولهم في اللغة: فلان شاهد إذا أطلق ولم يضف أفاد الإقامة في البلد؛ وهو عندهم ضدّ الغائب والمسافر؛ وإن كانوا ربما أضافوا فقالوا: فلان شاهد لكذا، وشهد فلان كذا؛ ولا يريدون هذا المعنى؛ ففي إطلاق شَهِدَ دلالة على الإقامة من غير تقدير محذوف؛ وهذه جملة كافية بحمد الله.

***

قال سيدنا أدام الله علوّه: وجدت أبا العباس بن عمّار يعيب على أبي تمام في قوله:

لمّا استحرّ الوداع المحض وانصرمت

أواخر الصّبر إلا كاظما وجما(١)

رأيت أحسن مرئي وأقبحه

مستجمعين لي: التّوديع والعنما

قال أبو العباس: وهذا قد ذمّ مثله على شاعر متقدم؛ وهو أن جمع بين كلمتين احداهما لا تناسب الأخرى؛ وهو قول الكميت:

وقد رأينا بها حورا منعّمة

رودا تكامل فيها الدّلّ والشّنب

____________________

(١) ديوانه ٣٠٢؛ من قصيدة يمدح فيها إسحاق بن إبراهيم المصعبي.

٢٥٣

فقيل له: أخطأت وباعدت بقولك: (الدّلّ والشّنب) ؛ ألا قلت كقول ذي الرّمة:

بيضاء في شفتيها حوّة لعس

وفي اللّثات وفي أنيابها شنب(١)

قال: فقال الطائي:

* مستجمعين لي: التّوديع والعنما*

فجعل المنظر القبيح للتوديع، والتوديع لا يستقبح، وإنما يستقبح عاقبته وهي الفراق، وجعل المنظر الحسن الخضاب؛ وشبهه بالعنم، ولم يذكر الأنامل المخضّبة. وإنما سمع قول المجنون:

ويبدي الحصى منها إذا قذفت به

من البرد أطراف البنان المخضّب(٢)

قال: وهذا هو الأصل؛ استعاره الناس من بعد، فقال الشاعر:

النّشر مسك، والوجوه دنا

نير، وأطراف الأكفّ عنم(٣)

وأغرب أبو نواس في قوله:

تبكي فتذري الدّرّ من طرفها

وتلطم الورد بعنّاب(٤)

قال. فلم يحسن هذا العلج أن يستعير شيئا من محاسن القائلين.

قال سيدنا أدام الله علوّه: وهذا غلط من ابن عمار وسفه على أبي تمام؛ لأن الكميت جمع بين شيئين متباعدين؛ وهما الدّل وهو الشكل والحلاوة وحسن الهيئة، والشّنب وهو برد الأسنان، وتطرّق عليه بذلك بعض العيب، وأبو تمام بين شيئين غير متفرّقين(٥) ، لأن التوديع إنما أشار به إلى ما أشارت إليه بإصبعها من وداعه عند الفراق، وشبّه مع ذلك أصابعها

____________________

(١) ديوانه: ٥. اللمى سمرة في الشفة؛ والحوة: حمرة في الشفتين تضرب إلى السواد.

(٢) البيت في الأغاني ٢: ٢٠ (طبع دار الكتب المصرية)، وقبله:

فلم أر ليلى بعد موقف ساعة

بخيف منى ترمي جمار المحصّب

(٣) البيت للمرقش الأكبر (المفضليات: ٢٣٨، طبعة المعارف).

(٤) ديوانه: ٣٦١.

(٥) حاشية الأصل (من نسخة): (مفترقين).

٢٥٤

بالعنم، والعنم نبت أغصانه غضة دقاق شبه الأصابع، وقيل: إن العنم واحدته عنمة؛ وهي العظاية الصغيرة البيضاء؛ وهي أشبه شيء بالأصابع البيضاء الغضة؛ وهذا حكاه صاحب كتاب العين.

وقيل: إن العنم نبت له نور أحمر تشبّه به الأصابع المخضوبة، فوجه حسن قوله: (التوديع والعنم) أنّ التوديع كان بالإصبع التي تشبه العنم، فجمع بينهما بذلك؛ ولا حاجة به إلى ذكر الأنامل المخضّبة على ما ظنّ أبو العباس؛ بل ذكر المشبّه به أحسن وأفصح من أن يقول التوديع والأنامل التي تشبه العنم.

فأما قوله: إن التوديع لا يستقبح؛ وإنما يستقبح عاقبته فخطأ؛ ومطالبة الشاعر بما لا يطالب بمثله الشعراء؛ لأن التوديع إذا كان منذرا بالفراق وبعد الدار وغيبة المحبوب لا محالة إنه مكروه مستقبح.

وقوله: مستقبح عاقبته صحيح، إلا أن ما يعقبه ويثمره لما كان عند حضوره متيقنا مذكورا عاد الإكراه والاستقباح إليه. ونحن نعلم أن الناس يتكرهون ويستقبحون تناول الأشياء الملذة من الأغذية وغيرها إذا علموا ما في عواقبها من المكروه؛ فإن من تقدّم إليه طعام مسموم وأعلم بذلك يتكرّهه ويستقبح تناوله لما يتوقعه من سوء عاقبته؛ وإن كان ملذا في الحال؛ ولم نزل الشعراء تذكر كراهتها للوداع وهربها منه. لما يتصور فيه من(١) ألم الفرقة، وغصص الوحشة(١) . وهذا معروف مشهور، وقد قال فيه أبو تمام:

أآلفة النحيب كم افتراق

أظلّ فكان داعية اجتماع(٢)

وليست فرحة الأوبات إلاّ

لموقوف على ترح الوداع

فجعل للوداع ترحا يقابل فرح الإياب، وهذا صحيح.

فأما قول جرير:

أتنسى إذ تودّعنا سليمى

بفرع بشامة سقي البشام(٣)

____________________

(١ - ١) حاشية الأصل (من نسخة): (ألم الفرقة وغصص الاستيحاش).

(٢) ديوانه: ١٩٣.

(٣) ديوانه: ٥١٢.

٢٥٥

فإنه دعا للبشام - وهو شجر - بالسّقي؛ لأنها ودعته عنده، فسر بتوديعها، وقول الشاعر:

من يكن يكره الفراق فإني

أشتهيه لموضع التّسليم

إنّ فيه اعتناقة لوداع

وانتظار اعتناقة لقدوم

فمن شأن الشعراء أن يتصرّفوا في المعاني بحسب أغراضهم وقصودهم، فإذا رأى أحدهم مدح شيء قصد إلى أحسن أوصافه فذكرها، وأشار بها؛ حتى كأنه لا وصف له غير ذلك الوصف الحسن؛ وإذا أراد ذمّه قصد إلى أقبح أحواله فذكرها؛ حتى كأنه لا شيء فيه غير ذلك؛ وكلّ مصيب بحسب قصده.

ولهذا ترى أحدهم يقصد إلى مدح الشيب فيذكر ما فيه من وقار وخشوع، وأن العمر معه أطول، وما أشبه ذلك، ويقصد إلى ذمه فيصف ما فيه من الإدناء إلى الأجل، وأنه آخر الألوان وأبغضها إلى النساء؛ وما أشبه ذلك؛ وهذه سبيلهم في كل شيء وصفوه؛ ولمدحهم موضعه، ولذمهم موضعه؛ فمن ذمّ الوداع لما فيه من الإنذار بالفراق وبعد الدار قد ذهب مذهبا صحيحا؛ كما أنّ من مدحه لما فيه من القرب من المحبوب والسرور بالنظر إليه - وإن كان يسيرا - قد ذهب أيضا مذهبا صحيحا.

ومن غلط ابن عمار القبيح قوله بعد أن أنشد شعر المجنون، قال: وهذا هو الأصل، ثم استعاره الناس من بعد؛ فقال الشاعر:

النّشر مسك، والوجوه دنا

نير، وأطراف الأكفّ عنم

وهذا الشعر للمرقّش الأكبر؛ وهو والمرقّش الأصغر جميعا كانا على عهد مهلهل بن ربيعة، وشهدا حرب بكر بن وائل، فكيف يكون قول المرقّش الأكبر بعد قول المجنون لولا الغفلة!

٢٥٦

مجلس آخر

[٧٦]

تأويل آية :( وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) ؛ [البقرة: ٥٣]. فقال: كيف يكون ذلك، والفرقان هو القرآن، ولم يؤت موسى القرآن، وإنما اختصّ به محمد صلى الله عليه وآله؟

الجواب، قلنا: قد ذكر في ذلك وجوه:

أولها أن يكون الفرقان بمعنى الكتاب المتقدم ذكره؛ وهو التوراة، فلا يكون هاهنا اسما للفرقان المنزل على محمد صلى الله عليه وآله، ويحسن نسقه على الكتاب لمخالفته للفظه؛ كما قال تعالى:( الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ ) ؛ [البقرة: ١٥١]، وإن كانت الحكمة مما يتضمنها الكتاب، وكتب الله تعالى كلها فرقان، يفرق بين الحق والباطل، والحلال والحرام.

ويستشهد على هذا الوجه بقول طرفة:

فما لي أراني وابن عمّي مالكا

متى أدن منه ينأ عنّي ويبعد(١)

فنسق (يبعد) على (ينأ) وهو بعينه، وحسّن ذلك اختلاف اللفظين. وقال عدي بن زيد:

وقدّمت الأديم لراهشيه

وألفى قولها كذبا ومينا(٢)

والمين الكذب.

وثانيها أن يكون الكتاب عبارة عن التوراة، والفرقان انفراق البحر الّذي أوتيه موسى عليه السلام.

____________________

(١) من المعلقة ص ٨٦ - بشرح التبريزي.

(٢) حاشية الأصل: (يعني الزباء وجذيمة، والراهشان: عرقان في الذراعين، والأديم: النطع، وكانت قد وعدته بأن تتزوجه، ثم غدرت به فقتلته على نطع، وهو الأديم الّذي ذكره).

٢٥٧

وثالثها أن يراد بالفرقان الفرق بين الحلال والحرام، والفرق بين موسى وأصحابه المؤمنين وبين فرعون وأصحابه الكافرين؛ لأنّ الله تعالى قد فرق بينهم في أمور كثيرة؛ منها أنه نجّى هؤلاء وأغرق أولئك.

ورابعها أن يكون الفرقان المراد به القرآن المنزّل على نبينا صلى الله عليه وآله؛ ويكون المعنى في ذلك: وآتينا موسى التوراة والتصديق والإيمان بالفرقان الّذي هو القرآن؛ لأن موسى عليه السلام كان مؤمنا بمحمد صلى الله عليه وآله وما جاء به، ومبشرا ببعثته. وساغ حذف القبول والإيمان والتصديق وما جرى مجراه وإقامة الفرقان مقامه؛ كما ساغ في قوله تعالى:

( وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ ) ؛ [يوسف: ٨٢]، وهو يريد أهل القرية.

وخامسها أن يكون المراد الفرقان القرآن، ويكون تقدير الكلام:( وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ ) الّذي هو التوراة، وَآتينا محمدا الْفُرْقانَ، فحذف ما حذف مما يقتضيه الكلام؛ كما حذف الشاعر في قوله:

تراه كأنّ الله يجدع أنفه

وعينيه إن مولاه كان له وفر(١)

أراد: ويفقأ عينيه؛ لأن الجدع لا يكون بالعين؛ واكتفى بـ (يجدع) من (يفقأ).

وقال الشاعر:

تسمع للأحشاء منه لغطا

ولليدين جسأة وبددا

أي وترى لليدين؛ لأنّ الجسأة والبدد(٢) لا يسمعان وإنما يريان.

وقال الآخر:

علفتها تبنا وماء باردا

حتّى شتت همّالة عيناها(٣)

أراد وسقيتها ماء باردا، فدلّ علفت على سقيت.

____________________

(١) البيت في (الحيوان ٦: ٤٠) ونسبه إلى خالد بن الطيفان؛ والرواية فيه:

تراه كأنّ الله يجدع أنفه

وأذنيه إن مولاه ثاب له وفر

(٢) الجسأ: اليبس، والبدد: تباعد ما بين اليدين أو الفخذين.

(٣) البيت من شواهد النحاة في باب المفعول معه على أنه إذا لم يمكن عطف الاسم الواقع بعد الواو على ما قبله تعين النصب على المعية، أو على إضمار فعل يليق به. وهو في ابن عقيل ١: ٥٢٤، غير منسوب.

٢٥٨

وقال الآخر(١) :

ياليت بعلك قد غدا

متقلّدا سيفا ورمحا

أراد حاملا رمحا.

ووجدت أبا بكر بن الأنباري يقول: إن الاستشهاد بهذه الأبيات لا يجوز على هذا الوجه؛ لأنّ الأبيات اكتفى فيها بذكر فعل عن ذكر فعل غيره، والآية اكتفى فيها باسم دون اسم

والأمر وإن كان على ما قاله في الاسم والفعل؛ فإن موضع الاستشهاد صحيح؛ لأن الاكتفاء في الأبيات بفعل عن فعل إنما حسن من حيث دلّ الكلام على المحذوف والمضمر واقتضاه، فحذف تعويلا على أن المراد مفهوم غير ملتبس ولا مشتبه.

وهذا المعنى قائم في الآية، وإن كان المحذوف اسما؛ لأن اللبس قد زال، والشبهة قد أمنت في المراد بها؛ فحسن الحذف؛ لأن الفرقان إذا كان اسما للقرآن؛ وكان من المعلوم أن القرآن إنما أنزل على نبينا صلى الله عليه وآله دون موسى عليه السلام استغنى عن ان يقال: وآتينا محمدا الفرقان؛ كما استغنى الشاعر أن يقول: ويفقأ عينيه، وترى لليدين جسأة وبددا، وما شاكل ذلك.

إلا أنه يمكن أن يقال فيما استشهد به في جميع الأبيات مما لا يمكن أن يقال مثله في الآية؛ وهو أنّه يقال: لا محذوف، ولا تقدير لفعل مضمر؛ بل الكلام في كلّ بيت منها محمول على المعنى؛ ومعطوف عليه؛ لأنه لما قال:

* تراه كأنّ الله يجدع ألفه*

وكان معنى الجدع هو الإفساد للعضو والتشويه به عطف على المعنى، فقال: (وعينيه) فكأنه قال: كأنّ الله يجدع أنفه، أي يفسده ويشوّهه، ثم قال: (وعينيه). وكذلك لما كان السامع للغط من الأحشاء عالما به عطف على المعنى فقال: (ولليدين جسأة وبددا) ؛ أي أنّه يعلم هذا وذاك معا؛ وكذلك لما كان في قوله: (علفت) معنى غذيت عطف عليه الماء؛ لأنه مما

____________________

(١) هو عبد الله بن الزبعري، كما في حواشي ابن الفوطية على الكامل ١٨٩ ليبسك. وانظر حواشي شرح المرزوقي للحماسة ١١٤٧.

٢٥٩

يغتذي به؛ وكذلك لما كان المتقلّد للسيف حاملا له جاز أن يعطف عليه الرمح المحمول.

وهذا أولى في الطعن على الاستشهاد بهذه الأبيات مما ذكره ابن الأنباري.

***

أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد الكاتب قال أخبرنا محمد بن يحيى الصولي قال أخبرنا يحيى بن علي بن يحيى المنجم قال أخبرنا أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري عن الهيثم بن عدي قال: لما دخل خالد بن صفوان الأهتمي(١) على هشام بن عبد الملك - وذلك بعد عزله خالد ابن عبد الله القسري - قال: فألفيته جالسا على كرسي في بركة ماؤها إلى الكعبين، فدعا لي بكرسي فجلست عليه؛ فقال ياخالد، ربّ خالد جلس مجلسك كان ألوط بقلبي، وأحبّ إلي منك! فقلت: ياأمير المؤمنين؛ إنّ حلمك لا يضيق عنه، فلو صفحت عن جرمه! فقال: ياخالد؛ إنّ خالدا أدلّ فأملّ، وأوجف فأعجف؛ ولم يدع لراجع مرجعا، ولا لعودة موضعا. ثم قال: ألا أخبرك عنه ياابن صفوان! قلت: نعم، قال: إنه ما بدأني بسؤال حاجة مذ قدم العراق حتى أكون أنا الّذي أبدؤه بها، قال خالد: فذاك أحرى أن ترجع إليه، فقال متمثلا:

إذا انصرفت نفسي عن الشّيء لم تكد

إليه بوجه آخر الدّهر تقبل(٢)

ثم قال: حاجتك ياابن صفوان، قلت: تزيدني في عطائي عشرة دنانير، فأطرق ثم قال:

ولم؟ وفيم؟ العبادة أحدثتها فنعينك عليها، أم لبلاء حسن أبليته عند أمير المؤمنين؟

أم لماذا ياابن صفوان؟ إذا يكثر السؤال، ولا يحتمل ذلك بيت المال. قال: فقلت:

ياأمير المؤمنين؛ وفّقك الله وسدّدك، أنت والله كما قال أخو خزاعة:

إذا المال لم يوجب عليك عطاءه

قرابة قربي، أو صديق توامقه(٣)

منعت - وبعض المنع حزم وقوّة -

ولم تفتلتك المال إلاّ حقائقه

____________________

(١) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (الأهتم).

(٢) البيت لمعن بن أوس، وهو في الحماسة ١١٣١ - بشرح المرزوقي

(٣) البيتان لكثير؛ وهما في ديوانه ٢: ٨٣، والأغاني ١١: ١٩٢ (طبعة الدار) وأمالي القالي ٢: ٨٨، وتوامقه، توده؛ مفاعلة من الموامقة؛ وتفتلتك، أي يخرجه من يدك وقبضتك.

٢٦٠

فلما قدم خالد البصرة، قيل له: ما الّذي حملك على تزيين الإمساك له؟ قال: أحببت أن يمنع غيري كما منعنى، فيكثر من يلومه.

قال سيدنا أدام الله علوّه: وكان خالد مشهورا بالبلاغة وحسن العبارة.

***

وبالإسناد المتقدم عن المدائني قال: قال حفص بن معاوية بن عمرو الغلابي، قلت لخالد: ياأبا صفوان، إني لأكره أن تموت وأنت من أيسر أهل البصرة فلا يبكيك إلا الإماء، قال: فابغني امرأة، قلت: صفها لي أطلبها لك، قال: أريد بكرا كثيّب، أو ثيّبا كبكر، لا ضرعا صغيرة، ولا مسنّة كبيرة؛ لم تقرأ فتجبن(١) ، ولم تفتّ(٢) فتمجن؛ قد نشأت في نعمة، وأدركتها خصاصة، فأدّبها الغنى، وأذلّها الفقر، حسبي من جمالها أن تكون فخمة من بعيد، مليحة من قريب؛ وحسبي من حسنها أن تكون واسطة قومها، ترضى مني بالسّنة؛ إن عشت أكرمتها، وإن متّ ورّثتها، لا ترفع رأسها إلى السماء نظرا، ولا تضعه إلى الأرض سقوطا. فقلت: ياأبا صفوان؛ إنّ الناس في طلب هذه مذ زمان طويل فما يقدرون عليها.

وكان يقول: إن المرأة لو خفّ محملها، وقلّت مئونتها ما ترك اللئام فيها للكرام بيتة ليلة؛ ولكن ثقل محملها، وعظمت مئونتها فاجتباها الكرام، وحاد عنها اللئام.

وكان خالد من أشحّ الناس وأبخلهم؛ كان إذا أخذ جائزة أو غيرها قال للدرهم:

أما والله لطالما أغرت في البلاد وأنجدت؛ والله لأطيلن ضجعتك، ولأديمنّ صرعتك.

وسأله رجل من بني تميم فأعطاه دانقا، فقال: ياسبحان الله! أتعطي مثلي دانقا! فقال له: لو أعطاك كلّ رجل من بني تميم مثل ما أعطيتك لرحت ذا مال عظيم.

وسأله رجل، فأعطاه درهما فاستقلّه، فقال: ياأحمق، أما علمت أنّ الدرهم عشر العشرة، والعشرة عشر المائة، والمائة عشر الألف، والألف عشر دية مسلم! وكان يقول: والله ما تطيب نفسي بإنفاق درهم إلا درهما قرعت به باب الجنة، أو درهما اشتريت به موزا.

____________________

(١) من نسخة بحاشية ف: (فتحنن)، وانظر عيون الأخبار ٤: ٥

(٢) حاشية الأصل: (لم تفت من الفتوة).

٢٦١

وقال: لأن يكون لي ابن يحب الخمر أحبّ إلي من أن يكون لي ابن يحبّ اللحم؛ لأنه متى طلب اللحم وجده، والخمر يفقده أحيانا.

وكان يقول: من كان ماله كفافا فليس بغني ولا فقير؛ لأن النائبة إذا نزلت به أجحفت بكفافه؛ ومن كان ماله دون الكفاف فهو فقير، ومن كان ماله فوق الكفاف فهو غني.

وكان يقول: لأن يكون لأحدكم جار يخاف أن ينقب عليه بيته خير من أن يكون له جار من التجار؛ لا يشاء أن يعطيه مالا ويكتب به عليه صكّا إلا فعل.

٢٦٢

مجلس آخر

[٧٧]

تأويل آية :( إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ، وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ الله يَجْحَدُونَ )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ، وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ الله يَجْحَدُونَ ) ؛ [الأنعام: ٣٣].

فقال: كيف يخبر عنهم بأنهم لا يكذّبون نبيّه عليه السلام، ومعلوم منهم إظهار التكذيب، والعدول عن الاستجابة والتصديق، وكيف ينفي عنهم التكذيب ثم يقول:

إنهم بآيات الله يجحدون؟ وهل الجحد بآيات الله إلا تكذيب نبيه عليه السلام!

الجواب، قلنا: قد ذكر في هذه الآية وجوه:

أولها أن يكون إنما نفى تكذيبهم بقلوبهم تدينا واعتقادا، وإن كانوا يظهرون بأفواههم التكذيب؛ لأنّا نعلم أنه قد كان في المخالفين له عليه السلام من يعلم صدقه، ولا ينكر بقلبه حقّه؛ وهو مع ذلك معاند؛ فيظهر خلاف ما يبطن، وقد قال تعالى:( وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) ؛ [البقرة: ١٤٦].

ومما يشهد لهذه الوجه من طريق الرواية ما رواه سلاّم بن مسكين عن أبي يزيد المدني أن رسول الله صلى الله عليه وآله لقي أبا جهل فصافحه أبو جهل، فقيل له: ياأبا الحكم، أتصافح هذا الصّبيّ؟ فقال: والله إني لأعلم أنه نبي؛ ولكن متى كنا تبعا لبني عبد مناف! فأنزل الله تعالى الآية.

وفي خبر آخر أن الأخنس بن شريق خلا بأبي جهل، فقال له: ياأبا الحكم، أخبرني عن محمد صلى الله عليه وآله، أصادق هو أم كاذب! فإنه ليس هاهنا من قريش أحد غيري وغيرك يسمع كلامنا، فقال له أبو جهل: ويحك! والله إنّ محمدا لصادق، وما كذب

٢٦٣

محمد قط؛ ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والحجابة والسّقاية والنّدوة والنبوّة، ماذا يكون لسائر قريش!

والوجه الثاني أن يكون معنى:( فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ ) أي لا يفعلون ذلك بحجة، ولا يتمكون من إبطال ما جئت به ببرهان؛ وإنما يقتصرون على الدعوى الباطلة؛ وهذا في الاستعمال معروف؛ لأنّ القائل يقول: فلان لا يستطيع أن يكذّبني ولا يدفع قولي؛ وإنما يريد أنه لا يتمكّن من إقامة دليل على كذبه، وحجة في دفع قوله؛ وإن كان يتمكن من التكذيب بلسانه وقلبه، فيصير ما يقع من التكذيب من غير حجّة ولا برهان غير معتد به.

وروي عن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام أنه قرأ هذه الآية بالتخفيف:( فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ ) ، ويقول: أنّ المراد بها أنهم لا يأتون بحق هو أحقّ من حقك.

وقال محمد بن كعب القرظي: معناها لا يبطلون ما في يديك؛ وكل ذلك يقوّي هذا الوجه؛ وسنبيّن أنّ معنى هذه اللفظة مشدّدة يرجع إلى معناها مخففة.

والوجه الثالث أن يكون معنى الآية أنهم لا يصادفونك ولا يلفونك متقوّلا؛ كما يقولون:

قاتلته فما أجبنته، أي ما وجدته جبانا، وحادثته فما أكذبته؛ أي لم ألفه كاذبا؛ وقال الأعشى:

أثوى وقصّر ليلة ليزوّدا

فمضى وأخلف من قتيلة موعدا(١)

أراد أنه صادف منها خلفا المواعيد، ومثله قولهم: أصممت القوم؛ إذا صادفتهم صما، وأخليت الموضع، إذا صادفته خاليا؛ قال الشاعر:

أبيت مع الحدّاث ليلي فلم أبن

فأخليت فاستجمعت عند خلائيا

أي أصبت مكانا خاليا.

____________________

(١) ديوانه: ١٥٠.

٢٦٤

ومثله لهيمان بن أبي قحافة:

يسنّ أنيابا له لوامجا(١)

أوسعن من أشداقه المضارجا(٢)

يعني بـ (أوسعن) أصبن منابت واسعة فنبتن فيها.

وقال عمرو بن براق:

تحالف أقوام عليّ ليسمنوا

وجرّوا عليّ الحرب إذ أنا سائم(٣)

يقال: أسمن بنو فلان، إذا رعت إبلهم فصادفوا فيها سمنا.

وقال أبو النجم:

مستأسدا ذبابه في غيطل

يقلن للرائد أعشبت انزل(٤)

أي أصبت مكانا معشبا.

وقال ذو الرّمة:

تريك بياض لبّتها ووجها

كقرن الشّمس أفتق ثمّ زالا(٥)

أي وجد فتقا من السحاب.

وليس لأحد أن يجعل هذا الوجه مختصا بالقراءة بالتخفيف دون التشديد؛ لأن في الوجهين معا يمكن هذا الجواب، لأن (أفعلت) و (فعلت) يجوزان في هذا الموضع، و (أفعلت) بالتخفيف هو الأصل ثم شدد تأكيدا وإفادة لمعنى التكرار؛ وهذا مثل أكرمت وكرّمت، وأعظمت وعظّمت، وأوصيت ووصّيت، وأبلغت وبلّغت؛ وهو كثير/؛ قال الله تعالى:

( فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً ) [الطارق: ١٧]؛ إلا أن التخفيف أشبه بهذا الوجه؛ لأن استعمال هذه اللفظة مخففة في هذا المعنى أكثر.

والوجه الرابع ما حكى الكسائي من قوله: إن المراد أنهم لا ينسبونك إلى الكذب فيما أثبت به؛ لأنه كان أمينا صادقا لم يجرّبوا عليه كذبا؛ وإنما كانوا يدفعون ما أتى به، ويدّعون أنه في نفسه كذب؛ وفي الناس من يقوّي هذا الوجه، وأن القوم كانوا يكذّبون ما أتى به، وإن

____________________

(١) اللمج: الأكل

(٢) المضارج: الثياب المشقوقة؛ والبيت في اللسان (ضرج).

(٣) البيت في الأغاني ٢١: ١١٤.

(٤) الطرائف الأدبية ٥٩.

(٥) ديوانه ٤٣٤.

٢٦٥

كانوا يصدقونه في نفسه بقوله تعالى:( وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ الله يَجْحَدُونَ ) ؛ وبقوله تعالى:( وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُ ) ؛ [الأنعام: ٦٦]؛ ولم يقل: وكذّبك قومك. وكان الكسائي يقرأ:( فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ ) بالتخفيف ونافع من بين سائر السبعة، والباقون على التشديد؛ ويزعم أنّ بين أكذبه وكذّبه فرقا، وأن معنى أكذب الرجل، أنه جاء بكذب، ومعنى كذّبته أنه كذاب في كل حديثه. وهذا غلط وليس بين (فعّلت) و (أفعلت) في هذه الكلمة فرق من طريق المعنى أكثر مما ذكرناه من أنّ التشديد يقتضي التكرار والتأكيد، ومع هذا لا يجوز أن يصدّقوه في نفسه، ويكذّبوا بما أتى به؛ لأن من المعلوم أنه عليه السلام كان يشهد بصحة ما أتى به وصدقه، وأنه الدين القيم، والحق الّذي لا يجوز العدول عنه؛ فكيف يجوز أن يكون صادقا في خبره وكان الّذي أتى به فاسدا! بل إن كان صادقا فالذي أتى به حقّ صحيح، وإن كان الّذي أتى به فاسدا؛ فلا بد من أن يكون في شيء من ذلك كاذبا؛ وهو تأويل من لا يتحقق المعاني.

والوجه الخامس أن يكون المعنى في قوله تعالى:( فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ ) أن تكذيبك راجع إلى، وعائد عليّ؛ ولست المختص به؛ لأنه رسول فمن كذبه فهو في الحقيقة مكذّب لله تعالى ورادّ عليه. وهذا كما يقول أحدنا لرسوله: امض في كذا فمن كذّبك فقد كذبني، ومن دفعك فقد دفعني؛ وذلك من الله على سبيل التسلية لنبيه عليه السلام؛ والتعظيم والتغليظ لتكذيبه.

والوجه السادس أن يريد:( فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ ) في الأمر الّذي يوافق فيه تكذيبهم، وإن كذبوك في غيره.

ويمكن في الآية وجه سابع، وهو أن يريد تعالى أن جميعهم لا يكذبونك وإن كذّبك بعضهم؛ فهم الظالمون الذين ذكروا في آخر الآية بأنهم يجحدون بآيات الله؛ وإنما سلّى نبيه عليه السلام بهذا القول وعزّاه؛ فلا ينكر أن يكون موسى عليه السلام لما استوحش من تكذيبهم له وتلقيهم إياه بالرد؛ وظن أنه لا متّبع له منهم، ولا ناصر لدينه فيهم أخبره

٢٦٦

الله تعالى بأنّ البعض وإن كذبك فإن فيهم من يصدقك ويتبعك وينتفع بإرشادك وهدايتك؛ وكل هذا واضح والمنة للّه.

***

قال سيدنا أدام الله علوّه: ومن جيد الشعر قول مطرود بن كعب الخزاعي:

ياأيّها الرّجل المحوّل رحله

ألاّ نزلت بآل عبد مناف!(١)

هبلتك أمّك لو نزلت عليهم

ضمنوك من جوع ومن إقراف(٢)

الآخذون العهد من آفاقها

والرّاحلون لرحلة الإيلاف

والمطعمون إذا الرّياح تناوحت

ورجال مكّة مسنتون عجاف

والمفضلون إذا المحول ترادفت

والقائلون هلمّ للأضياف

والخالطون غنيّهم بفقيرهم

حتى يكون فقيرهم كالكافي(٣)

كانت قريش بيضة فتفلّقت

فالمحّ خالصة لعبد مناف(٤)

____________________

(١) معجم الشعراء ٣٧٥، وسيرة ابن هشام ١: ١١٧ (على حاشية روض الأنف)؛ وذكر أنه رثى بها عبد المطلب بن عبد مناف؛ وفي معجم الشعراء: (هلا حللت)، وفي ابن هشام: (هلا سألت عن آل عبد مناف).

(٢) قال السهيلي في شرح هذا البيت: (أي منعوك من أن تنكح بناتك أو أخواتك من لئيم؛ فيكون الابن مقرفا للؤم أبيه وكرم أمه؛ فيلحقك وصم من ذلك؛ ونحو منه قول مهلهل:

أنكحها فقدها الأراقم في

جنب، وكان الحباء من أدم

أي أنكحت لغربتها من غير كف ء).

(٣) الكافي: الغني الّذي يكفي غيره.

(٤) البيت في اللسان (مح)، والسيرة ١: ٩٤ وابن أبي الحديد ٣: ٤٥٣، والعيني ٤: ١٤٠ منسوب إلى ابن الزبعرى. والمح: صفرة البيض؛ كالمحة. وخالصة: مصدر؛ وفي حاشية الأصل (من نسخة): (خالصها) ؛ وهي رواية اللسان. وزاد في رواية ابن هشام:

إمّا هلكت - أبا الفعال - فما جرى

من فوق مثلك عقد ذات نطاف

إلاّ أبيك أخى المكارم وحده

والفيض مطّلب أبى الأضياف

٢٦٧

أما قوله:

* والراحلون لرحلة الإيلاف*

فكان هاشم صاحب إيلاف قريش للرحلتين وأول من سنهما، فألفوا الرحلتين: في الشتاء إلى اليمن والحبشة والعراق، وفي الصيف إلى الشام. وفي ذلك يقول ابن الزّبعرى:

عمرو العلا هشم الثريد لقومه

ورجال مكّة مسنتون عجاف(١)

وهو الّذي سنّ الرّحيل لقومه

رحل الشّتاء ورحلة(٢) الأضياف

فأما (المسنتون) فهم الذين أصابتهم السنة المجدبة الشديدة.

وقوله:

* والخالطون غنيّهم بفقيرهم*

من أحسن الكلام وأخصره؛ وإنما أراد أنهم يفضلون على الفقير حتى يعود غنيا ذا ثروة.

ولأحمد بن يوسف أبيات على هذا الوزن يمزح بها مع ولد سعيد بن سلم الباهلي، وكان لهم صديقا:

أبني سعيد إنّكم من معشر

لا يعرفون كرامة الأضياف(٣)

قوم لباهلة بن يعصر إن هم

نسبوا حسبتهم لعبد مناف

قرنوا الغداء إلى العشاء وقرّبوا

زادا لعمر أبيك ليس بكاب

وكأنّني لمّا حططت إليهم

رحلي نزلت بأبرق العزّاف(٤)

بينا كذلك إذ أتى كبراؤهم

يلحون في التّبذير والإسراف

____________________

(١) سيرة ابن هشام ١: ٩٤، والعيني ١: ١٤٠، وابن أبي الحديد ٣: ٤٥٣

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): (برحلة).

(٣) الأبيات في معجم البلدان ١: ٧٨، روي عن المبرد أنه عزاها لرجل يهجو بني سعد بن قتيبة الباهلي.

(٤) أبرق العزاف: ماء لبني أسد بن خزيمة بن مدركة. وفي حاشية الأصل: (مغارة بعينها).

٢٦٨

أراد بقوله: (قرنوا الغداء إلى العشاء) من بخلهم واختصارهم في المطعم؛ ويقال: إنّ هذا الشعر حفظ وصار من أكثر ما يسبّون به ويسبّ قومهم؛ ولرب مزح جرّ جدّا، وعثرة الشعر لا تستقال؛ والشعر يسير بحسب جودته.

ولقد أحسن دعبل بن علي في قوله:

نعوني ولمّا ينعني غير شامت

وغير عدوّ قد أصيبت مقاتله(١)

يقولون إن ذاق الرّدى مات شعره

وهيهات عمر الشّعر طالت طوائله!

سأقضي ببيت يحمد النّاس أمره

ويكثر من أهل الرّواية حامله

يموت ردي الشّعر من قبل ربّه

وجيّده يبقى؛ وإن مات قائله(٢)

ولآخر في هذا المعنى(٣) :

لا تعرضنّ بمزح لامرئ فطن

ما راضه قلبه أجراه في الثّبت(٤)

فربّ قافية بالمزح جارية

مشئومة لم يرد إنماؤها نمت

إنّي إذا قلت بيتا مات قائله

ومن يقال له والبيت لم يمت

____________________

(١) الأبيات في الكامل ٤: ١١١ - بشرح المرصفي، والموشح: ٣٨١.

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): (إذا مات).

(٣) من أبيات في (الكامل ٤: ١١٠ - ١١١ بشرح المرصفي)؛ ونسبها أيضا لدعبل؛ وأولها:

أحببت قومي ولم أعدل لحبّهم

قالوا: تعصبت جهلا، قول ذي بهت

(٤) الثبت: الدرج؛ وفي حاشية الأصل (من نسخة): (الشفة) ؛ وهي رواية الكامل.

٢٦٩

مجلس آخر

[٧٨]

تأويل آية أخرى :( ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاّ أَنْ قالُوا وَالله رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ * انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاّ أَنْ قالُوا وَالله رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ. انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ ) ؛ [الأنعام: ٢٣، ٢٤] وعن قوله تعالى:( وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يالَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ) ؛ [الأنعام: ٢٧، ٢٨].

فقال: كيف يقع من أهل الآخرة نفي الشرك عن أنفسهم، والقسم بالله تعالى عليه وهم كاذبون في ذلك؛ مع أنهم عندكم في تلك الحال لا يقع منهم شيء من القبيح لمعرفتهم بالله تعالى ضرورة؛ ولأنهم ملجئون هناك إلى ترك جميع القبائح، وكيف قال من بعد:( وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ) فشهد عليهم بالكذب، ثم علّقه بما لا يصح فيه معنى الكذب وهو التمني؛ لأنهم تمنوا ولم يخبروا!

الجواب، قلنا: أول ما نقوله: إنه ليس في ظاهر الآية ما يقتضي أن قولهم:( ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ) إنما وقع في الآخرة دون الدنيا؛ وإذا لم يكن ذلك في الظاهر جاز أن يكون الإخبار يتناول حال الدنيا، وسقطت المسألة؛ وليس لأحد أن يتعلّق في وقوع ذلك في الآخرة بقوله تعالى قبل الآية:( وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ) [الأنعام: ٢٢]؛ وأنه عقّب ذلك بقوله تعالى:( ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ ) ؛ فيجب أن يكون الجميع مختصا بحال الآخرة؛ لأنه لا يمنع أن تكون الآية تتناول ما يجري في الآخرة، ثم تتلوها آية تتناول ما يجري في الدنيا؛ لأن مطابقة كل آية لما قبلها في مثل هذا

٢٧٠

غير واجبة، وقوله تعالى:( ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ ) لا تدلّ أيضا على أن ذلك يكون واقعا بعد ما خبر تعالى عنه في الآية الأولى؛ فكأنه تعالى قال على هذا الوجه: إنا نحشرهم في الآخرة ونقول: أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون؟ وما كان فتنتهم وسبب ضلالهم في الدنيا إلا قولهم:

( وَالله رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ) .

وقد قيل في الآية - على تسليم أنّ هذا القول يقع منهم في الآخرة -: إنّ المراد به أنا ما كنا عند نفوسنا وفي اعتقادنا مشركين؛ بل كنا نعتقد أنا على الحق والهدى، وقوله تعالى من بعد:

( انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ ) لم يرد هذا الخبر الّذي وقع منهم في الآخرة؛ بل إنهم كذبوا على أنفسهم في دار الدنيا بإخبارهم أنهم مصيبون محقّون غير مشركين؛ وليس في الظاهر إلا أنهم كذبوا على أنفسهم من غير تخصيص بوقت؛ فلم يحمل على آخرة دون دنيا.

ولو كان للآية ظاهر يقتضي وقوع ذلك في الآخرة لحملناه على الدنيا؛ بدلالة أن أهل الآخرة لا يجوز أن يكذبوا لأنهم ملجئون إلى ترك القبيح.

فأما قوله تعالى حاكيا عنهم:( يا لَيْتَنا نُرَدُّ ) وقوله تعالى:( فإنّهم لَكاذِبُونَ ) فمن الناس من حمل الكلام كله على وجه التمني؛ فصرف قوله تعالى:( وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ) إلى غير الأمر الّذي تمنوه؛(١) لأن التمني لا يصح معه الصدق والكذب(١) ؛ لأنهما إنما يدخلان في الأخبار المحضة؛ لأن قول القائل: ليت الله رزقني ولدا؛ وليت فلانا أعطاني مالا أفعل به كذا وكذا لا يكون كذبا ولا صدقا؛ وقع ما تمناه أو لم يقع؛ فيجوز على هذا أن يكون قوله تعالى:( وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ) مصروفا إلى حال الدنيا، كأنه تعالى قال: وهم كاذبون فيما يخبرون به عن أنفسهم في الدنيا من الإضافة واعتقاد الحق؛ أو يريد أنّهم كاذبون أن خبّروا(٢) عن أنفسهم أنهم متى ردوا آمنوا ولم يكذبوا؛ وإن كان ما كان مما حكي عنهم من التمني ليس بخبر.

____________________

(١ - ١) حاشية الأصل (من نسخة)؛ (لأن التمني لا يصح فيه معنى الصدق والكذب).

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): (أن يخبروا).

٢٧١

وقد يجوز أيضا أن يحمل قوله تعالى:( وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ) على غير الكذب الحقيقي؛ بل يكون المراد والمعنى أنهم تمنوا ما لا سبيل إليه فكذب(١) أملهم وتمنّيهم؛ وهذا مشهور في الكلام؛ لأنهم يقولون لمن تمنى ما لا يدرك: كذب أملك، وأكدى رجاؤك؛ وما جرى مجرى ذلك؛ قال الشاعر:

كذبتم وبيت الله لا تأخذونها

مراغمة ما دام للسّيف قائم

وقال آخر:

كذبتم وبيت الله لا تنكحونها

بني شاب قرناها تصرّ وتحلب(٢)

ولم يرد الكذب في الأقوال؛ بل في التمني والأمل.

وليس لأحد أن يقول: كيف يجوز من أهل الآخرة مع معارفهم الضرورية، وأنهم عالمون بأنّ الرجوع إلى الدنيا لا سبيل إليه أن يتمنوه؛ وذلك أنه غير ممتنع أن يتمنى المتمنّي ما يعلم أنّه لا يحصل ولا يقع؛ ولهذا يتعلّق التمني للشيء بألاّ يكون ما قد كان. ولقوّة اختصاص التمني بما يعلم أنه لا يكون غلط قوم فجعلوا إرادة ما علم المريد أنه لا يكون تمنيا؛ فهذا الّذي ذكرناه وجه في تأويل الآية.

وفي الناس من يجعل بعض الكلام تمنّيا وبعضه إخبارا، وعلّق تكذيبهم بالخبر دون لَيْتَنا؛ فكان تقدير الآية: ياليتنا نرد - وهذا هو التمني - ثم قال من بعد: فإنّا( لا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) ، فأخبروا بما علم الله تعالى أنهم فيه كاذبون؛ وإن لم يعلموا من أنفسهم مثل ذلك؛ فلهذا كذّبهم الله تعالى. وكل هذا واضح.

***

أخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال حدثني أحمد بن عبد الله، وعبد الله بن يحيى العسكريّان(٣) قالا: حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الله العبدي قال حدثنا

____________________

(٣) حاشية الأصل (من نسخة): (فكذب أملهم) بالتشديد.

(١) البيت في اللسان (قرن)، وسيبويه ١: ٢٥٩، ٢: ٦٥؛ وشاب قرناها: لقب لامرأة.

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): (العسكري).

٢٧٢

أبو مسعر(١) - رجل منا من بني غنم بن عبد القيس - قال: ورد(٢) منصور بن سلمة النّمري على البرامكة، وهو شيخ كبير - وكان مروان بن أبي حفصة صديقا لي؛ على أني كنت أبغضه وأمقته في الله - فشكا إلي وقال: دخل علينا اليوم رجل أظنه شاميا - وقد تقدمته البرامكة في الذكر عند الرشيد - فأذن له، فدخل فسلّم وأجاد، فأذن له الرشيد، فجلس. قال:

فأوجست منه خوفا فقلت: يانفس، أنا حجازي نجدي شافهت العرب وشافهتني، وهذا شامي؛ أفتراه أشعر مني! قال: فجعلت أرفو(٣) نفسي إلى أن استنشده هارون؛ فإذا هو والله من أفصح الناس، فدخلني له حسد؛ قال: فأنشده قصيدة تمنيت أنها لي؛ وأنّ عليّ غرما، فقلت له: ما هي؟ قال: أحفظ منها أبياتا، وهي:

أمير المؤمنين إليك خضنا

غمار الموت من بلد شطير

بخوص كالأهلّة جانفات

تميل على السّرى وعلى الهجير

حملن إليك آمالا عظاما

ومثل الصخر والدّرّ النّثير

فقد وقف المديح بمنتهاه

وغايته وصار إلى المصير

إلى من لا تشير إلى سواه

- إذا ذكر النّدى - كفّ المشير

قال مروان: فوددت أنه قد أخذ جائزتي وسكت. وعجبت من تخلّصه إلى تلك القوافي.

ثم ذكر ولد أمير المؤمنين عليّ عليه السلام، فأحسن التخلص، ورأيت هارون يعجب بذلك؛ فقال:

يد لك في رقاب بني عليّ

ومنّ ليس بالمنّ اليسير

فإن شكروا فقد أنعمت فيهم

وإلاّ فالنّدامة للكفور

مننت على ابن عبد الله يحيى

وكان من الحتوف على شفير

وقد سخطت لسخطتك المنايا

عليه؛ فهي حائمة النّسور

____________________

(١) حاشية الأصل (من نسخة): (أبو مسعود).

(٢) الخبر في الأغاني ١٢: ١٦ - ١٧.

(٣) أرفو نفسي: أسكنها من الرعب.

٢٧٣

ولو كافأت ما اجترحت يداه

دلفت له بقاصمة الظّهور

ولكن جلّ حلمك واجتباه

على الهفوات عفو من قدير

فعاد كأنّه لم يجن ذنبا

وقد كان اجتنى حسك الصدور

وإنّك حين تبلنهم أذاة

- وإن ظلموا - لمحترق الضّمير

وإن الرشيد قال لما سمع هذا البيت: هذا والله معنى كان في نفسي؛ وأدخله بيت المال فحكّمه فيه.

عدنا إلى الخبر، قال مروان: وكان هارون يبسم ويكاد يضحك للطف ما سمع؛ ثم أومأ إلى أن أنشد، فأنشدته قصيدتي التي أقول فيها:

خلّوا الطّريق لمعشر عاداتهم

حطم المناكب كلّ يوم زحام(١)

حتى أتيت على آخرها؛ فو الله ما عاج ذلك الرجل - يعني النمري - بشعري، ولا حفل به.

قال: وأنشده منصور يومئذ:

إنّ لهارون إمام الهدى

كنزين من أجر ومن برّ

يريش ما تبري اللّيالي ولا

تريش أيديهنّ ما يبري

كأنّما البدر على رحله

ترميك منه مقلتا صقر

قال وأنشده أيضا:

ولمن أضاع لقد عهدتك حافظا

لوصيّة العبّاس بالأخوال

قال مروان: وأخلق به أن يغلبني وأن يعلو عليّ عنده؛ فإني ما رأيت أحسن من تخلّصه إذا ذكر الطالبيّين(٢) .

***

____________________

(١) بعده في رواية الأغاني:

ارضوا بما قسم الإله لكم به

ودعوا وراثة كلّ أصيد حام

أنّى يكون وليس ذاك بكائن

لبني البنات وراثة الأعمام!

(٢) د، ومن نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (إلى ذكر الطالبيين).

٢٧٤

أخبرنا المرزباني قال حدثني أبو عبد الله الحكيمي قال حدثني يموت بن المزرّع قال حدثني أبو عثمان الجاحظ قال: كان منصور النّمري ينافق الرشيد ويذكر هارون في شعره؛ ويريه أنّه من وجوه شيعته، وباطنه ومراده بذلك أمير المؤمنين عليه السلام، لقول النبي صلى الله عليه وآله: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى) ؛ إلى أن وشى عنده بعض أعدائه - وهو العتّابي - فقال: ياأمير المؤمنين، هو والله الّذي يقول:

متى(١) يشفيك دمعك من همول

ويبرد ما بقلبك من غليل!

وأنشده أيضا:

شاء من النّاس راتع هامل

يعلّلون النّفوس بالباطل(٢)

ومنصور يصرّح في هذه القصيدة بالعجائب؛ فوجّه الرشيد برجل من فزارة، وأمره أن يضرب عنق منصور حيث تقع عينه عليه؛ فقدم الرجل رأس عين(٣) بعد موت منصور بأيام قلائل.

قال المرزباني: ويصدّق قول الجاحظ أنّ النّمري كان يذكر هارون في شعره؛ وهو يعني به أمير المؤمنين عليّا عليه السلام ما أنشدناه(٤) محمد بن الحسن بن دريد للنّمري:

آل الرّسول خيار الناس كلّهم

وخير آل رسول الله هارون

رضيت حكمك لا أبغي به بدلا

لأنّ حكمك بالتّوفيق مقرون

***

وروي أنّ أبا عصمة الشيعي لما أوقع بأهل ديار ربيعة أوفدت ربيعة وفدا إلى الرشيد، فيهم منصور النّمري؛ فلما صاروا بباب الرشيد أمرهم باختيار من يدخل عليه، فاختاروا عددا بعد عدد، إلى أن اختاروا رجلين؛ النّمري أحدهما؛ ليدخلا ويسألا حوائجهما - وكان

____________________

(١) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (متى ينفك).

(٢) الأغاني ١٢: ١٩.

(٣) رأس عين: من مدن الجزيرة، بين حران ونصيبين.

(٤) حاشية الأصل: (نسخة س: ما أنشده).

٢٧٥

النّمري مؤدبا، لم يسمع منه شعر قط قبل ذلك، ولا عرف به - فلما مثل هو وصاحبه بين يدي الرشيد قال لهما: قولا ما تريدان، فاندفع النّمري فأنشد:

* ما تنقضي حسرة منّي ولا جزع*

فقال له الرشيد: قل حاجتك وعدّ عن هذا، فقال:

* إذا ذكرت شبابا ليس يرتجع*

 وأنشده القصيدة حتى أتى إلى قوله:

ركب من النّمر عاذوا بابن عمّهم

من هاشم إذ ألحّ الأزلم الجذع(١)

متّوا إليك بقربي منك تعرفها

لهم بها في سنام المجد مطّلع

إنّ المكارم والمعروف أودية

أحلّك الله منها حيث تجتمع(٢)

إذا رفعت امرأ فالله رافعه

ومن وضعت من الأقوام متّضع

نفسي فداؤك والأبطال معلمة

يوم الوغى والمنايا بينهم قرع

حتى أتى إلى آخرها؛ فقال: ويحك! قل حاجتك فقال: ياأمير المؤمنين، أخربت الديار، وأخذت الأموال، وهتك الحرم؛ فقال: اكتبوا له بكلّ ما يريد؛ وأمر له بثلاثين ألف درهم، واحتبسه عنده، وشخص أصحابه بالكتب، ولم يزل عنده يقول الشعر فيه حتى استأذنه في الانصراف فأذن له؛ ثم اتصل بالرشيد قوله:

شاء من النّاس راتع هامل

يعلّلون النّفوس بالباطل

تقتل ذرّيّة النّبيّ ويرجو

ن خلود الجنان للقاتل

ما الشّكّ عندي في كفر قاتله

لكنّني قد أشكّ في الخاذل

فامتعض الرشيد وأنفذ من يقتله؛ فوجده في بعض الروايات ميتا، وفي أخرى عليلا لما به، فسئل الرسول ألاّ يأثم به؛ وأن ينتظر موته، ففعل ولم يبرح حتى توفّي، فعاد بخبر موته إلى هارون.

____________________

(١) الأغاني ١٢: ١٩. الأزلم الجذع: اسم للدهر.

(٢) د، ومن نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (تنتج).

٢٧٦

وللنّمري:

لو كنت أخشى معادي حقّ خشيته

لم تسم عيني إلى الدّنيا ولم تنم

لكنّني عن طلاب الدّين محتبل

والعلم مثل الغنى والجهل كالعدم

يحاولون دخولي في سوادهم

لقد(١) أطافوا بصدع غير ملتئم

ما يغلبون(٢) النّصارى واليهود على

حبّ(٣) القلوب ولا العبّاد للصّنم

____________________

(١) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (فقد).

(٢) حاشية الأصل: (نسخة ش: ما تغلبون).

(٣) حاشية الأصل: (نسخة ش: حب)، بفتح الحاء.

٢٧٧

مجلس آخر

[٧٩]

تأويل آية :( وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ. بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ. بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ) ؛ [التكوير: ٨، ٩]

فقال: كيف يصحّ أن يسأل من لا ذنب له ولا عقل؟ وأي فائدة في سؤالها عن ذلك؟

وما وجه الحكمة فيه؟ وما الموءودة؟ ومن أي شيء اشتقاق هذه اللفظة؟

الجواب، قلنا: أما معنى سُئِلَتْ ففيه وجهان:

أحدهما أن يكون المراد أن قاتلها طولب بالحجة في قتلها، وسئل عن قتله لها، وبأي ذنب كان؛ على سبيل التوبيخ والتعنيف وإقامة الحجة. فالقتلة هاهنا هم المسئولون على الحقيقة لا المقتولة؛ وإنما المقتولة مسئول عنها. ويجري هذا مجرى قولهم: سألت حقي، أي طالبت به؛ ومثله قوله تعالى:( وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً ) ؛ [الإسراء: ٣٤]؛ أي مطالبا به مسئولا عنه.

والوجه الآخر أن يكون السؤال توجّه إليها على الحقيقة على سبيل التوبيخ لقائلها، والتقريع له، والتنبيه له على أنّه لا حجة له في قتلها؛ ويجري هذا مجرى قوله تعالى لعيسى عليه السلام:

( أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ الله ) ؛ [المائدة: ١١٦]، على طريق التوبيخ لقومه وإقامة الحجة عليهم.

فإن قيل على هذا الوجه: كيف يخاطب ويسأل من لا عقل له ولا فهم!

والجواب، أن في الناس من زعم أن الغرض بهذا القول إذا كان تبكيت الفاعل وتهجينه

٢٧٨

وإدخال الغمّ عليه في ذلك الوقت على طريق العقاب لم يمتنع أن يقع، وإن لم يكن من الموءودة فهم له؛ لأن الخطاب وإن علّق عليها، وتوجّه إليها فالغرض في الحقيقة غيرها؛ وهذا يجري مجرى من ضرب ظالم طفلا من ولده يقول: ولم(١) ضربت؟ وما ذنبك؟ وبأي شيء استحلّ(٢) هذا منك؟ وغرضه تبكيت الظالم لا خطاب الطفل. فالأولى أن يقال في هذا: إن الأطفال وإن كان(٣) من جهة العقول لا يجب في وصولهم إلى الأغراض المستحقة أن يكونوا كاملي العقول؛ كما يجب مثل ذلك في الوصول إلى الثواب؛ فإنّ الخبر متظاهر، والأمة متفقة على أنهم في الآخرة، وعند دخولهم الجنان يكونون على أكمل الهيئات؛ وأفضل الأحوال؛ وإنّ عقولهم تكون كاملة؛ فعلى هذا يحسن توجّه الخطاب إلى الموءودة؛ لأنها تكون في تلك الحال ممن تفهم الخطاب وتعقله، وإن كان الغرض فيه التبكيت للقائل، وإقامة الحجة عليه.

وقد روي عن أمير المؤمنين عليه السلام؛ وابن عباس، ويحيى بن يعمر، ومجاهد، ومسلم ابن صبيح، وأبي الضحى؛ ومروان، وأبي صالح، وجابر بن زيد أنهم قرءوا سالت بفتح السين والهمزة وإسكان التاء( بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ) بإسكان اللام وضم التاء الثانية؛ على أن الموءودة موصوفة بالسؤال، وبالقول( بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ) .

وروى القطعي عن سليمان الأعمش عن حفص عن عاصم: قُتِلَتْ بضم التاء الثانية، وفي سُئِلَتْ مثل قراءة الجمهور بضم السين.

وروي عن أبي جعفر المدني: قُتِلَتْ بالتشديد وإسكان التاء الثانية.

وروي عن بعضهم:( وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ ) بفتح الميم والواو.

فأما من قرأ سألت بفتح السين؛ فيمكن فيه الوجهان اللذان ذكرناهما؛ من أن الله تعالى أكملها في تلك الحال، وأقدرها على النطق.

____________________

(١) حاشية الأصل: (نسخة س: (لم)، بغير واو).

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): (استحل) بالبناء للمجهول.

(٣) م: (كانوا).

٢٧٩

والوجه الآخر أن يكون معنى سألت أي سئل لها وطولب بحقها وانتصف لها من ظالمها؛ فكأنها هي السائلة تجوزا واتساعا. ومن قرأ بفتح السين من سألت ويضم التاء الثانية من قُتِلَتْ فعلى أنها هي المخاطبة بذلك.

ويجوز على هذا الوجه أيضا قُتِلَتْ بإسكان التاء الأخيرة كقراءة الجماعة؛ لأنه إخبار عنها، كما يقال: سأل زيد: بأي ذنب ضرب؛ وبأي ذنب ضربت. ويقوّي هذه القراءة في سألت ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله من قوله: (يجيء المقتول ظلما يوم القيامة وأوداجه تشخب دما، اللون لون الدم، والريح ريح المسك، متعلقا بقاتله يقول: يارب سل هذا فيم قتلني)

فأما القراءة المأثورة عن حفص عن عاصم في ضم التاء الأخيرة من قُتِلَتْ مع ضم السين سُئِلَتْ فمعناها( وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ ) : ما تبغي؟ فقالت:( بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ) فأضمر قولها. والعرب قد تضمر مثل هذا لدلالة الخطاب عليه، وارتفاع الإشكال عنه؛ مثل قوله تعالى:( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا ) ؛ أي ويقولان ذلك؛ ونظائره في القرآن كثيرة(١) جدا.

فأما قراءة من قرأ قُتِلَتْ بالتشديد فالمراد به تكرار الفعل بالموءودة هاهنا، وإن كان لفظها لفظ واحدة فالمراد به الجنس، وإرادة التكرار جائزة.

فأما من قرأ المودة بفتح الميم والواو، فعلى أن يكون الرحم والقرابة، وأنه يسأل قاطعها عن سبب قطعها وتضييمها، قال الله تعالى:( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ ) ؛ [محمد: ٢٢].

فأما الموءودة فهي المقتولة صغيرة، وكانت العرب في الجاهلية تئد البنات بأن يدفنوهنّ أحياء، وهو قوله تعالى:( أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ ) ؛ [النحل: ٥٩]؛ وقوله تعالى:( قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ ) ؛ [الأنعام: ١٤٠].

ويقال: إنهم كانوا يفعلون ذلك لأمرين:

____________________

(١) ف، وحاشية الأصل (من نسخة): (كبيرة).

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403