أمالي المرتضى الجزء ٢

أمالي المرتضى0%

أمالي المرتضى مؤلف:
تصنيف: مكتبة اللغة والأدب
الصفحات: 403

أمالي المرتضى

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشريف أبى القاسم على بن الطاهر أبى أحمد الحسين
تصنيف: الصفحات: 403
المشاهدات: 61812
تحميل: 8739


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 403 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 61812 / تحميل: 8739
الحجم الحجم الحجم
أمالي المرتضى

أمالي المرتضى الجزء 2

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وقالت امرأة من بني سعد بن بكر(١) :

أيا أخوي الملزمي ملامة(٢)

أعيذ كما(٣) بالله من مثل ما بيا

سألتكما بالله إلاّ جعلتما(٤)

مكان الأذى واللّوم أن تأويا ليا(٥)

أيا أمتا حبّ الهلالي قاتلي

شطون النّوى يحتلّ عرضا يمانيا(٦)

أشمّ كغصن البان جعد مرجّل

شعفت به لو كان شيئا مدانيا(٧)

فإن لم أوسّد ساعدي بعد هجعة

غلاما هلاليا فشلّ بنانيا(٨)

ثكلت أبي إن كنت ذقت كريقه

لشيء ولا ماء الغمامة غاديا(٩)

ولضاحية الهلالية:

ألمّ كبير لمّة ثمّ شمّرت

به جلّة يطلبن برقا يمانيا(١٠)

[ألا ليتنا والنّفس تسكن للمنى

يمانون إن أمسى حبيب يمانيا]

ولها:

وإنّي لأهوى القصد ثمّ يردّنى

عن القصد(١١) ميلات الهوى فأميل

____________________

(١) الأبيات في حماسة ابن الشجري: ١٥٦ - ١٥٧؛ منسوبة إلى ضاحية الهلالية.

(٢) في ابن الشجري:

* أيا أخوي اللائمي على الهوي*

(٣) م، وابن الشجري: (أعندكما).

(٤) ابن الشجري: (لما خلعتما).

(٥) أن تأويا لي؛ أي أن ترحماني.

(٦) حاشية الأصل: (أمتا، أي أمي، وشطون، أي هو شطون النوى، والعرض: سفح الجبل، أي بسفح يمان).

(٧) حاشية الأصل: (أراد بالجعد السخي الكريم، وهو من الأضداد، قال طرفة:

أنا الرّجل الجعد الّذي تعرفونه

خشاش كرأس الحية المتوقد

(٨) حاشية الأصل: (نسخة س: فشلت بنانيا) وهي رواية ابن الشجري.

(٩) في ابن الشجري بعد هذا البيت:

وأقسم لو خيّرت بين فراقه

وبين أبي لاخترت أن لا أباليا

(١٠) في حاشيتي الأصل، ف: (كبير، رجل، ونسخة س (كثير)، لمة: إلماما، شمرت، أي ذهبن به، والجلة: المسان من الإبل، ويجوز أن يريد بها الجليلة؛ ومن نسخة: (يطرن برقا يمانيا).

(١١) القصد: الأمر السوي والطريقة المستقيمة.

٢٤١

وما وجد مسجون بصنعاء موثق

بساقيه من حبس الأمير كبول

وما ليل مولى مسلم بجريرة

له بعد ما نام العيون عويل

بأكثر منّي لوعة يوم عجّلوا(١) ،

فراق حبيب ما إليه سبيل

ولعمرة(٢) بنت العجلان أخت عمرو ذي الكلب بن عجلان الكاهلي ترثي أخاها عمرا، وقد كان في بعض غزواته نائما، فوثب عليه نمران فأكلاه، فوجدت فهم سلاحه، فادّعت قتله(٣) :

سألت بعمرو أخي صحبه

فأفظعني حين ردّوا السّؤالا

وقالوا: أتيح له نائما

أعزّ السّباع عليه أحالا(٤)

أتيح له نمرا أجبل

فنالا لعمرك منه منالا

فأقسمت(٥) ياعمرو لو نبّهاك

إذا نبّها منك أمرا(٦) عضالا

[إذن نبها غير رعديدة

ولا طائش رعش حين صالا](٧)

إذا نبّها ليث عرّيسة

مفيتا مفيدا نفوسا ومالا(٨)

____________________

(١) د، ف، حاشية الأصل (من نسخة): (يوم راعني).

(٢) في حاشيتي الأصل، ف: (نسخة س: وجدت هذه القصيدة في دواوين هذيل منسوبة إلى جنوب أخت عمرو) ؛ وهي أيضا في ديوان الهذليين ٣: ١٢٠ - ١٢٣ وخزانة الأدب وزهر الآداب (طبعة الحلبي) ٧٩٥ - ٧٩٦؛ وشواهد العيني منسوبة إلى الحنوب.

(٣) في ديوان الهذليين عن أبي عبيدة: (كان ذو الكلب يغزو فهما؛ فوضعوا له الرصد على الماء فأخذوه وقتلوه، ثم مروا بأخته جنوب؛ فقالت لهم: ما شأنكم؟ فقالوا: إنا طلبنا أخاك عمرا، فقالت:

لئن طلبتموه لتجدنه منيعا، ولئن أضفتموه لتجدن جنابه مريعا؛ ولئن دعوتموه لتجدنه سريعا. قالوا: فقد أخذناه وقتلناه، وهذا سلبه؛ قالت: لئن سلبتموه لا تجدن ثنته وافية، ولا حجزته جافية، ولا ضالته كافية؛ ولرب ثدي منكم قد افترشه، ونهب قد احتوشه، وضب قد احترشه؛ ثم قالت ترثيه ) وأورد القصيدة.

(٤) أحال: حمل عليه فقتله وأكله.

(٥) في ديوان الهذليين: (فأقسم).

(٦) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (داء) ؛ وهي رواية ديوان الهذليين.

(٧) من ديوان الهذليين.

(٨) العريس والعريسة: مأوى الأسد؛ والمفيت: مهلك النفوس.

٢٤٢

هزبرا فروسا لاعدائه

هصورا إذا لقى القرن صالا(١)

هما مع تصرّف ريب المنون

من الأرض ركنا ثبيتا أمالا(٢)

هما يوم حمّ له يومه

وقال أخو فهم بطلا وفالا(٣)

معنى (فال) أخطأ؛ يقال: رجل فائل الرأي -

وقالا(٤) قتلناه في غارة

بآية ما إن ورثنا النّبالا

كأنها تهزأ بهم وتكذبهم؛ أي بعلامة أن قد ورثتم النبال -

فهلاّ ومن قبل ريب المنون

فقد كان رجلا وكنتم رجالا

وقد علمت فهم يوم(٥) اللّقاء

بأنّهم لك كانوا نفالا(٦)

كأنهم لم يحسّوا به

فيخلوا النّساء له والحجالا

ولم ينزلوا بمحول(٧) السّنين

به فيكونوا عليه عيالا

وقد علم الضّيف والمجتدون

إذا اغبرّ أفق وهبّت شمالا(٨)

وخلّت عن اولادها المرضعات

ولم تر عين لمزن بلالا(٩)

بأنّك كنت الرّبيع المغيث

لمن يعتريك وكنت الثّمالا(١٠)

وخرق تجاوزت مجهوله

بوجناء حرف تشكّى الكلالا(١١)

____________________

(١) ديوان الهذليين: (لأقرانه). والهزبر: اسم السبع، والفروس: الّذي يدق الأعناق.

(٢) الثبيت: الثابت؛ وفي ديوان الهذليين (ركنا عزيزا).

(٣) حم: قدر.

(٤) حاشية الأصل (من نسخة): (وقالوا).

(٥) حاشية الأصل (من نسخة): (عند)، وهي رواية ديوان الهذليين.

(٦) نفالا: غنائم.

(٧) ديوان الهذليين: (لزبات السنين)، واللزبات: الشدائد.

(٨) ديوان الهذليين: (والمرملون). وهبت شمالا؛ أي الريح:

(٩) بلالا، أي بللا.

(١٠) وفي حاشية الأصل: (يقال: فلان ثمال قومه إذا كان الاعتماد والمعول عليه.

(١١) الخرق: الفلاة الواسعة؛ والوجناء: الناقة الشديدة؛ والحرف: الضامر؛ شبهت بحرف الجبل؛ وفي حاشية الأصل (من نسخة):

* وخرق تجاوزت مجهولة*

٢٤٣

فكنت النهارية شمسه

وكنت دجى اللّيل فيه الهلالا

وخيل سمت لك فرسانها

فولّوا ولم يستقلّوا قبالا(١)

[و حي أبحت، وحي صبحت

غداة الهياج منايا عجالا](٢)

وكلّ قبيل وإن لم تكن

أردتهم، منك باتوا وجالا(٣)

____________________

(١) القبال: شسع النعل، تريد شيئا قليلا.

(٢) من ديوان الهذليين.

(٣) الوجال: المتخوفون.

٢٤٤

مجلس آخر

[٧٤]

تأويل آية :( وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ الله يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ الله يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) ؛ [هود: ٣٤].

فقال: أليس ظاهر هذه الآية يقتضي أنّ نصح النبي صلى الله عليه وآله لم ينفع(١) الكفار الذين أراد الله بهم الكفر والغواية، وهذا بخلاف مذهبكم!

الجواب، قلنا: ليس في ظاهر الآية ما يقتضيه خلاف مذهبنا؛ لأنه تعالى لم يقل إنه فعل الغواية أو أرادها؛ وإنما أخبر أن نصح(٢) النبي عليه السلام لا ينفع إن كان الله يريد غوايتهم. ووقوع الإرادة لذلك أو جواز وقوعها لا دلالة عليه في الظاهر؛ على أن الغواية هاهنا الخيبة وحرمان الثواب؛ ويشهد بصحة ما ذكرناه في هذه اللفظة قول الشاعر:

فمن يلق خيرا يحمد النّاس أمره

ومن يغو لا يعدم على الغي لائما(٣)

فكأنه قال: إن كان الله يريد أن يعاقبكم بسوء أعمالكم وكفركم، ويحرمكم ثوابه فليس ينفعكم نصحي ما دمتم مقيمين على ما أنتم عليه؛ إلا أن تقلعوا وتتوبوا.

وقد سمى الله تعالى العقاب غيا، فقال:( فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ) [مريم: ٥٩]؛ وما قبل هذه الآية يشهد بما ذكرناه؛ وأن القوم استعجلوا عقاب الله تعالى:( قالُوا يانُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ الله إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ. وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي ... ) الآية؛ [هود: ٣٢، ٣٣]؛ فأخبر أن نصحه لا ينفع من يريد الله أن ينزل به العذاب، ولا يغني عنه شيئا.

____________________

(١) حاشية الأصل (من نسخة): (لا ينفع).

(٢) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (وإنما أخبرنا.

(٣) البيت للمرقش الأصغر (المفضليات ٢٤٧ - طبعة المعارف).

٢٤٥

وقال جعفر بن حرب: إن الآية تتعلق بأنه كان في قوم نوح طائفة تقول بالجبر، فنّههم الله تعالى بهذا القول على فساد مذهبهم؛ وقال لهم على طريق الإنكار عليهم والتعجب من قولهم: إن كان القول كما تقولون من أن الله يفعل فيكم الكفر والفساد، فما ينفعكم نصحي؛ فلا تطلبوا مني نصحا وأنتم على ذلك لا تنتفعون به؛ وهذا جيد.

وروي عن الحسن البصري في هذه الآية وجه صالح؛ وهو أنه قال: المعنى فيها إن كان الله يريد أن يعذّبكم فليس ينفعكم نصحي عند نزول العذاب بكم، وإن قبلتموه وآمنتم به؛ لأنّ كان من حكم الله تعالى ألاّ يقبل الإيمان عند نزول العذاب؛ وهذا كله واضح في زوال الشبهة بالآية.

قال سيدنا أدام الله تمكينه: ومن مستحسن ما قيل في صفة المصلوب قول أبي تمام الطائي في قصيدة يمدح بها المعتصم، ويذكر قتل الأفشين وحرقه وصلبه:(١)

ما زال سرّ الكفر بين ضلوعه

حتى اصطلى سرّ الزّناد الواري(٢)

نارا يساور جسمه من حرّها

لهب كما عصفرت شقّ إزار

طارت لها شعل يهدّم لفحها

أركانه هدما بغير غبار

فصّلن منه كلّ مجمع مفصل

وفعلن فاقرة بكلّ فقار(٣)

مشبوبة رفعت لأعظم(٤) مشرك

ما كان يرفع ضوءها للسّاري

صلّى لها حيّا وكان وقودها

ميتا، ويدخلها مع الكفّار(٥)

____________________

(١) من قصيدة في ديوانه: ١٥١ - ١٥٥؛ مطلعها:

الحقّ أبلج والسيوف عوار

فحذار من أسد العرين حذار

وكان الأفشين من أكابر قواد المعتصم، وجهه لحرب بابك الخرمي؛ فقبض عليه وحمله إلى المعتصم فقطعه وصلبه وانتهى أمر.، ثم علم المعتصم خيانة من الأفشين؛ فقبض عليه وقتله وصلبه على خشبة بابك سنة ٢٢٦ هـ

(٢) سر الزناد: النار المخبوءة فيها.

(٣) الفاقرة: الداهية.

(٤) حاشية الأصل (من نسخة): (لأعظم)، بضم الظاء.

(٥) حاشية الأصل (من نسخة): (الفجار)، وهي رواية الديوان.

٢٤٦

وكذاك أهل النّار في الدّنيا هم

يوم القيامة جلّ أهل النار

يامشهدا صدرت بفرحته إلى

أمصارها القصوى بنو الأمصار

رمقوا أعالي جذعه فكأنما

رمقوا الهلال(١) عشيّة الإفطار

واستنشقوا منه قتارا نشره

من عنبر ذفر ومسك داري(٢)

وتحدّثوا عن هلكه بحديث(٣) من

بالبدو عن متتابع الأمطار

قد كان بوّأه الخليفة جانبا

من قلبه حرما على الأقدار

فسقاه ماء الخفض غير مصرّد

وأنامه في الأمن غير غرار(٤)

ولقد شفى الأحشاء من برحائها

أن صار بابك جار مازيار(٥)

ثانيه في كبد السّماء ولم يكن

لاثنين ثان إذ هما في الغار(٦)

وكأنّما انتبذا لكيما يطويا

عن ناطس(٧) خبرا من الأخبار

سود اللّباس كأنما نسجت لهم

أيدي السّموم مدارعا من قار

بكروا وأسروا في متون ضوامر

فبدت لهم من مربط النّجّار

لا يبرحون ومن رآهم خالهم

أبدا على سفر من الأسفار

كادوا النّبوّة والهدى فتقطّعت

أعناقهم في ذلك المضمار

____________________

(١) الديوان: (وجدوا).

(٢) القتار: الرائحة، ونشره: فوحانه؛ والذفر: الحاد، والداري: منسوب إلى دارين؛ وهي فرضة يجلب منها المسك. ومن نسخة بحاشيتي الأصل، ف: واستنشئوا).

(٣) ف، وحاشية الأصل (من نسخة)، والديوان: (كحديث).

(٤) غرار: قليل.

(٥) مازيار: رجل، وضبط في الأصل بفتح الزاي وكسرها معا.

(٦) كذا وردت الرواية في الأصول؛ وتأويله: ولم يكن كاثنين إذ هما في الغار ثان؛ أي لم يكن كهذه القضية قضية أخرى. وفي الديوان: (ثانيا إذ هما)، بتسهيل الهمزة، وفي حاشية الأصل: (أي هو ثان في الصلب والضلالة لما زيار؛ وليس هو كأبي بكر إذ كان مع النبي عليه السلام في الغار).

(٧) في حاشيتي الأصل، ف: (ناطس اسم ملك الروم).

٢٤٧

وله يذكر صلب بابك:

لمّا قضى رمضان منه قضاءه

شالت به الأيّام في شوّال(١)

ما زال مغلول العزيمة سادرا

حتى غدا في القيد والأغلال

مستبسلا للبأس طوقا من دم(٢)

لما استبان فظاظة الخلخال

أهدى لمتن الجذع متنيه كذا

من عاف متن الأسمر العسّال(٣)

لا كعب أسفل موضعا من كعبه

مع أنّه عن كلّ كعب عال

سام كأنّ العزّ يجذب ضبعه

وسموّه من ذلّة وسفال

متفرّغ أبدا وليس بفارغ

من لا سبيل له إلى الأشغال

قال سيدنا أدام الله علوّه: ومن عجيب الأمور أن أبا العباس أحمد بن عبيد الله بن عمار ينشد هذه الأبيات المفرطة في الحسن في جملة مقابح أبي تمام، وما خرّجه - بزعمه - من سقطه وغلطه؛ ويقول في عقبها: ولم يسمع بشعر وصف فيه مصلوب بأغثّ من هذا الوصف، وأين كان عن مثل إبراهيم بن المهدي يصف صلب بابك في قصيدة يمدح بها المعتصم:

ما زال يعنف بالنّعمى فنفّرها

عنه الغموط، ووافته الأراصيد(٤)

حتى علا حيث لا ينحطّ مجتمعا

كما علا أبدا ما أورق العود

يابقعة ضربت فيها علاوته

وعينه، وذوت أغصانه الميد

بوركت أرضا وأوطانا مباركة

ما عنك في الأرض للتّقديس تعريد

لو تقدر الأرض حجّتك البلاد فلا

يبقى على الأرض إلاّ حجّ جلمود

لم يبك إبليس إلاّ حين أبصره

في زيّه، وهو فوق الفيل مصفود

كناقة النّحر تزهي تحت زينتها

وحدّ شفرتها للنّحر محدود

____________________

(١) من قصيدة في ديوانه ٢٥٩ - ٢٦٥ يمدح فيها المعتصم، وأولها:

آلت أمور الشّرك شرّ مآل

وأقرّ بعد تخمّط وصيال

(٢) الديوان

* متلبّسا للموت طوقا من دم*

(٣) العسال: المضطرب.

(٤) يعني القضاء الواقف له بالمرصاد.

٢٤٨

ما كان أحسن قول النّاس يومئذ

أيوم بابك هذا أم هو العيد!

صيّرت جثّته جيدا لباسقة

جرداء، والرّأس منه ما له جيد

فآض تلعب هوج العاصفات به

على الطّريق صليبا طرفه عود

كأنّه شلو كبش والهواء له

تنوّر شاوية، والجذع سفّود

وهكذا ينبغي أن يطعن على أبيات أبي تمام من يستجيد هذه الأبيات ويفرط في تقريظها؛ وليت من جهل شيئا عدل عن الخوض فيه والكلام عليه؛ فكان ذلك وأولى به. وأبيات أبي تمام في نهاية القوّة وجودة المعاني والألفاظ وسلامة السّبك واطراد النسج، وأبيات ابن المهدي مضطربة الألفاظ، مختلفة النسج، متفاوتة الكلام؛ وما فيها شيء يجوز أن يوضع عليه اليد إلا قوله:

حتّى علا حيث لا ينحط مجتمعا

كما علا أبدا ما أورق العود

وبعده البيت الأخير وإن كان بارد الألفاظ.

وقد أحسن مسلم بن الوليد في قوله:

ما زال يعنف بالنّعمى ويغمطها

حتى استقلّ به عود على عود(١)

نصبته حيث ترتاب الرياح به

وتحسد الطّير فيه أضبع البيد(٢)

وللبحتري في هذا المعنى من قصيدة يمدح بها أبا سعيد أو لها:

لا دمنة بلوى خبت ولا طلل

يردّ قولا على ذي لوعة يسل(٣)

إن عزّ دمعك في آي الرّسوم فلم

يصب عليها فعندي أدمع بلل

هل أنت يوما معيري نظرة فترى

في رمل يبرين عيرا سيرها رمل!

حثّوا النّوى بحداة ما لها وطن

غير النّوى، وجمال ما لها عقل

____________________

(١) ديوانه: ١٣٣، يعنف بالتعمي: يسرف ويجاوز حقه فيها، ويغمطها: يكفرها.

(٢) قال شارح ديوانه: (ترتاب الرياح، أي تستنكر؛ يريد: إذا خلف أحد على ذلك المكان أتته ريحه قبيحة منه؛ يقول: جعلته في مكان تبلغه الطير، ولا تبلغه الضبع فتحسد الطير).

(٣) ديوانه ٢: ٢١٤.

٢٤٩

يقول فيها:

تحمله البرد من أقصى الثّغور إلى

أدنى العراق سراعا ريثها عجل(١)

بسرّ من راء منكوسا تجاذبه

أيدي الشّمال فضولا كلّها فضل

أمسى يردّ حريق الشمس جانبه

عن بابك، وهي في الباقين تشتعل

تفاوتوا بين مرفوع ومنخفض

على مراتب ما قالوا وما فعلوا

ردّ الهجير لحاهم بعد شعلتها

سودا، فعادوا شبابا بعد ما اكتهلوا

سما له حابل الآساد في لمة

من المنايا، فأمسى وهو محتبل

حالي الذّراعين والسّاقين لو صدقت

له المنى لتمنّى أنّها عطل

من تحت مطبق أرض الشّام في نفر

أسرى يودّون ودّا أنّهم قتلوا

غابوا عن الأرض أنأى غيبة وهم

فيها؛ فلا وصل إلاّ الكتب والرّسل

وله في هذا المعنى:

ما زلت تقرع باب بابك بالقنا

وتزوره في غارة شعواء(٢)

حتى أخذت بنصل سيفك عنوة

منه الّذي أعيا على الأمراء

أخليت منه البذّ وهي قراره

ونصبته علما بسامرّاء(٣)

لم يبق فيه خوف بأسك مطمعا(٤)

للطّير في عود ولا إبداء

فتراه مطّردا على أعواده

مثل اطراد كواكب الجوزاء

مستشرفا للشّمس منتصبا لها

في أخريات الجذع كالحرباء

____________________

(١) البرد: جمع يريد؛ وفي حاشية الأصل (من نسخة): (تأتي به البرد).

(٢) ديوانه ١: ٤، من قصيدة يمدح فيها محمد بن يوسف مطلعها:

زعم الغراب منبئ الأنباء

أنّ الأحبّة آذنوا بتناء

(٣) البذّ: كورة بين أذربيجان وأران. وسامراء: لغة في سرّ من رأى؛ مدينة كانت بين بغداد وتكريت.

(٤) ف: (مطعما).

٢٥٠

مجلس آخر

[٧٥]

تأويل آية :( شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) ؛ [البقرة: ١٨٥].

فقال: كيف أخبر تعالى بأنه أنزل فيه القرآن، وقد أنزله في غيره من الشهور على ما جاءت به الرواية؟ والظاهر يقتضي أنه أنزل الجميع فيه، وما المعنى في قوله:( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) ؟ وهل أراد الإقامة والحضور اللذين هما ضدّا(١) الغيبة، أو أراد المشاهدة والإدراك؟.

الجواب، قلنا: أما قوله تعالى:( أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ) فقد قال قوم: المراد به أنه تعالى أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا في شهر رمضان، ثم فرق إنزاله على نبيه صلى الله عليه وآله بحسب ما تدعو الحاجة إليه.

وقال آخرون: المراد بقوله( أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ) أنه أنزل في فرضه وإيجاب صومه على الخلق القرآن؛ فيكون فِيهِ بمعنى في فرضه، كما يقول القائل: أنزل الله في الزكاة كذا وكذا، يريد في فرضها، وأنزل الله في الخمر كذا وكذا يريد في تحريمها.

وهذا الجواب إنما هرب متكلّفه من شيء، وظن أنه قد اعتصم بجوابه عنه، وهو بعد ثابت على ما كان عليه؛ لأن قوله: الْقُرْآنُ إذا كان يقتضي ظاهره إنزال جميع القرآن فيجب على هذا الجواب أن يكون قد أنزل في فرض الصيام جميع القرآن؛ ونحن نعلم أنّ قليلا من القرآن يتضمّن إيجاب صوم شهر رمضان، وأن أكثره خال من ذلك.

فإن قيل: المراد بذلك أنه أنزل في فرضه شيئا من القرآن، وبعضا منه.

____________________

(١) حاشية الأصل: (نسخة ش: (ضد الغيبة).

٢٥١

قيل: فألاّ اقتصر على هذا، وحمل الكلام على أنه تعالى أنزل شيئا من القرآن في شهر رمضان ولم يحتج إلى أن يجعل لفظة فِيهِ بمعنى في فرضه وإيجاب صومه.

والجواب الصحيح، أن قوله تعالى:( الْقُرْآنُ ) في هذا الموضع لا يفيد العموم والاستغراق، وإنما يفيد الجنس من غير معنى الاستغراق، فكأنه قال:( شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ ) هذا الجنس من الكلام؛ فأي شيء نزل منه في الشهر فقد طابق الظاهر.

وليس لأحد أن يقول: إن الألف واللام هاهنا لا يكونان إلا للعموم والاستغراق؛ لأنا لو سلمنا أن الألف واللام صيغة العموم والصورة المقتضية لاستغراق الجنس لم يجب أن يكون هاهنا بهذه الصفة؛ لأن هذه اللفظة قد تستعمل في مواضع كثيرة من الكلام ولا يراد بها أكثر من الإشارة إلى الجنس والطبقة من غير استغراق وعموم؛ حتى يكون حمل كلام المتكلم بها على خصوص أو عموم؛ كالناقض لغرضه والمنافي لمراده؛ ألا ترى أن القائل إذا قال:

فلان يأكل اللحم، ويشرب الخمر، وضرب الأمير اليوم اللصوص، وخاطب الجند لم يفهم من كلامه إلا محض الجنس والطبقة من غير معنى خصوص ولا عموم؛ حتى لو قيل له: فلان يأكل جميع اللحم، ويشرب جميع الخمر أو بعضها لكان جوابه: إنني لم أرد عموما ولا خصوصا؛ إنما أريد أنّه يأكل هذا الجنس من الطعام، ويشرب هذا الجنس من الشراب؛ فمن فهم من كلامي العموم أو الخصوص فهو بعيد من فهم مرادي.

وأرى كثيرا من الناس يغلطون في هذا الموضع، فيظنون أنّ الإشارة إلى الجنس من غير إرادة العموم والاستغراق ليست مفهومة؛ حتى يحملوا قول من قال: أردت الجنس في كل موضع على العموم؛ وهذا بعيد ممّن يظنه؛ لأنه كما أنّ العموم والخصوص مفهومان في بعض المواضع بهذه الألفاظ فكذلك الإشارة إلى الجنس والطبقة من غير إرادة عموم ولا خصوص مفهومة مميزة؛ وقد ذكرنا أمثلة ذلك.

فأما قوله تعالى:( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) فأكثر المفسرين حملوه على أنّ المراد بمن شهد منكم الشهر من كان مقيما في بلد غير مسافر. وأبو عليّ حمله على أنّ المراد

٢٥٢

به فمن أدرك الشهر وشاهده وبلغ إليه وهو متكامل الشروط فليصمه، ذهب في معنى شَهِدَ إلى معنى الإدراك والمشاهدة.

وقد طعن قوم على تأويل أبي عليّ وقالوا: ليس يحتمل الكلام إلاّ الوجه الأول.

وليس الأمر على ما ظنوه؛ لأن الكلام يحتمل الوجهين معا؛ وإن كان للقول الأول ترجيح ومزية على الثاني من حيث يحتاج في الثاني من الإضمار إلى أكثر مما يحتاج إليه في الأول؛ لأن على القول الأول لا يحتاج إلى إضمار الإقامة وارتفاع السفر؛ لأن قوله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ يقتضي الإقامة؛ وإنما يحتاج إلى إضمار باقي الشروط من الإمكان والبلوغ وغير ذلك.

وفي القول الثاني يحتاج مع كلّ ما أضمرناه في القول الأول إلى إضمار الإقامة؛ ويكون التقدير: فمن شاهد الشهر وهو مقيم مطيق بالغ إلى سائر الشروط؛ فمن هذا الوجه كان الأول أقوى.

وليس لأحد أن يقول: إن شَهِدَ بنفسه من غير محذوف لا يدلّ على إقامة؛ وذلك أنّ الظاهر من قولهم في اللغة: فلان شاهد إذا أطلق ولم يضف أفاد الإقامة في البلد؛ وهو عندهم ضدّ الغائب والمسافر؛ وإن كانوا ربما أضافوا فقالوا: فلان شاهد لكذا، وشهد فلان كذا؛ ولا يريدون هذا المعنى؛ ففي إطلاق شَهِدَ دلالة على الإقامة من غير تقدير محذوف؛ وهذه جملة كافية بحمد الله.

***

قال سيدنا أدام الله علوّه: وجدت أبا العباس بن عمّار يعيب على أبي تمام في قوله:

لمّا استحرّ الوداع المحض وانصرمت

أواخر الصّبر إلا كاظما وجما(١)

رأيت أحسن مرئي وأقبحه

مستجمعين لي: التّوديع والعنما

قال أبو العباس: وهذا قد ذمّ مثله على شاعر متقدم؛ وهو أن جمع بين كلمتين احداهما لا تناسب الأخرى؛ وهو قول الكميت:

وقد رأينا بها حورا منعّمة

رودا تكامل فيها الدّلّ والشّنب

____________________

(١) ديوانه ٣٠٢؛ من قصيدة يمدح فيها إسحاق بن إبراهيم المصعبي.

٢٥٣

فقيل له: أخطأت وباعدت بقولك: (الدّلّ والشّنب) ؛ ألا قلت كقول ذي الرّمة:

بيضاء في شفتيها حوّة لعس

وفي اللّثات وفي أنيابها شنب(١)

قال: فقال الطائي:

* مستجمعين لي: التّوديع والعنما*

فجعل المنظر القبيح للتوديع، والتوديع لا يستقبح، وإنما يستقبح عاقبته وهي الفراق، وجعل المنظر الحسن الخضاب؛ وشبهه بالعنم، ولم يذكر الأنامل المخضّبة. وإنما سمع قول المجنون:

ويبدي الحصى منها إذا قذفت به

من البرد أطراف البنان المخضّب(٢)

قال: وهذا هو الأصل؛ استعاره الناس من بعد، فقال الشاعر:

النّشر مسك، والوجوه دنا

نير، وأطراف الأكفّ عنم(٣)

وأغرب أبو نواس في قوله:

تبكي فتذري الدّرّ من طرفها

وتلطم الورد بعنّاب(٤)

قال. فلم يحسن هذا العلج أن يستعير شيئا من محاسن القائلين.

قال سيدنا أدام الله علوّه: وهذا غلط من ابن عمار وسفه على أبي تمام؛ لأن الكميت جمع بين شيئين متباعدين؛ وهما الدّل وهو الشكل والحلاوة وحسن الهيئة، والشّنب وهو برد الأسنان، وتطرّق عليه بذلك بعض العيب، وأبو تمام بين شيئين غير متفرّقين(٥) ، لأن التوديع إنما أشار به إلى ما أشارت إليه بإصبعها من وداعه عند الفراق، وشبّه مع ذلك أصابعها

____________________

(١) ديوانه: ٥. اللمى سمرة في الشفة؛ والحوة: حمرة في الشفتين تضرب إلى السواد.

(٢) البيت في الأغاني ٢: ٢٠ (طبع دار الكتب المصرية)، وقبله:

فلم أر ليلى بعد موقف ساعة

بخيف منى ترمي جمار المحصّب

(٣) البيت للمرقش الأكبر (المفضليات: ٢٣٨، طبعة المعارف).

(٤) ديوانه: ٣٦١.

(٥) حاشية الأصل (من نسخة): (مفترقين).

٢٥٤

بالعنم، والعنم نبت أغصانه غضة دقاق شبه الأصابع، وقيل: إن العنم واحدته عنمة؛ وهي العظاية الصغيرة البيضاء؛ وهي أشبه شيء بالأصابع البيضاء الغضة؛ وهذا حكاه صاحب كتاب العين.

وقيل: إن العنم نبت له نور أحمر تشبّه به الأصابع المخضوبة، فوجه حسن قوله: (التوديع والعنم) أنّ التوديع كان بالإصبع التي تشبه العنم، فجمع بينهما بذلك؛ ولا حاجة به إلى ذكر الأنامل المخضّبة على ما ظنّ أبو العباس؛ بل ذكر المشبّه به أحسن وأفصح من أن يقول التوديع والأنامل التي تشبه العنم.

فأما قوله: إن التوديع لا يستقبح؛ وإنما يستقبح عاقبته فخطأ؛ ومطالبة الشاعر بما لا يطالب بمثله الشعراء؛ لأن التوديع إذا كان منذرا بالفراق وبعد الدار وغيبة المحبوب لا محالة إنه مكروه مستقبح.

وقوله: مستقبح عاقبته صحيح، إلا أن ما يعقبه ويثمره لما كان عند حضوره متيقنا مذكورا عاد الإكراه والاستقباح إليه. ونحن نعلم أن الناس يتكرهون ويستقبحون تناول الأشياء الملذة من الأغذية وغيرها إذا علموا ما في عواقبها من المكروه؛ فإن من تقدّم إليه طعام مسموم وأعلم بذلك يتكرّهه ويستقبح تناوله لما يتوقعه من سوء عاقبته؛ وإن كان ملذا في الحال؛ ولم نزل الشعراء تذكر كراهتها للوداع وهربها منه. لما يتصور فيه من(١) ألم الفرقة، وغصص الوحشة(١) . وهذا معروف مشهور، وقد قال فيه أبو تمام:

أآلفة النحيب كم افتراق

أظلّ فكان داعية اجتماع(٢)

وليست فرحة الأوبات إلاّ

لموقوف على ترح الوداع

فجعل للوداع ترحا يقابل فرح الإياب، وهذا صحيح.

فأما قول جرير:

أتنسى إذ تودّعنا سليمى

بفرع بشامة سقي البشام(٣)

____________________

(١ - ١) حاشية الأصل (من نسخة): (ألم الفرقة وغصص الاستيحاش).

(٢) ديوانه: ١٩٣.

(٣) ديوانه: ٥١٢.

٢٥٥

فإنه دعا للبشام - وهو شجر - بالسّقي؛ لأنها ودعته عنده، فسر بتوديعها، وقول الشاعر:

من يكن يكره الفراق فإني

أشتهيه لموضع التّسليم

إنّ فيه اعتناقة لوداع

وانتظار اعتناقة لقدوم

فمن شأن الشعراء أن يتصرّفوا في المعاني بحسب أغراضهم وقصودهم، فإذا رأى أحدهم مدح شيء قصد إلى أحسن أوصافه فذكرها، وأشار بها؛ حتى كأنه لا وصف له غير ذلك الوصف الحسن؛ وإذا أراد ذمّه قصد إلى أقبح أحواله فذكرها؛ حتى كأنه لا شيء فيه غير ذلك؛ وكلّ مصيب بحسب قصده.

ولهذا ترى أحدهم يقصد إلى مدح الشيب فيذكر ما فيه من وقار وخشوع، وأن العمر معه أطول، وما أشبه ذلك، ويقصد إلى ذمه فيصف ما فيه من الإدناء إلى الأجل، وأنه آخر الألوان وأبغضها إلى النساء؛ وما أشبه ذلك؛ وهذه سبيلهم في كل شيء وصفوه؛ ولمدحهم موضعه، ولذمهم موضعه؛ فمن ذمّ الوداع لما فيه من الإنذار بالفراق وبعد الدار قد ذهب مذهبا صحيحا؛ كما أنّ من مدحه لما فيه من القرب من المحبوب والسرور بالنظر إليه - وإن كان يسيرا - قد ذهب أيضا مذهبا صحيحا.

ومن غلط ابن عمار القبيح قوله بعد أن أنشد شعر المجنون، قال: وهذا هو الأصل، ثم استعاره الناس من بعد؛ فقال الشاعر:

النّشر مسك، والوجوه دنا

نير، وأطراف الأكفّ عنم

وهذا الشعر للمرقّش الأكبر؛ وهو والمرقّش الأصغر جميعا كانا على عهد مهلهل بن ربيعة، وشهدا حرب بكر بن وائل، فكيف يكون قول المرقّش الأكبر بعد قول المجنون لولا الغفلة!

٢٥٦

مجلس آخر

[٧٦]

تأويل آية :( وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) ؛ [البقرة: ٥٣]. فقال: كيف يكون ذلك، والفرقان هو القرآن، ولم يؤت موسى القرآن، وإنما اختصّ به محمد صلى الله عليه وآله؟

الجواب، قلنا: قد ذكر في ذلك وجوه:

أولها أن يكون الفرقان بمعنى الكتاب المتقدم ذكره؛ وهو التوراة، فلا يكون هاهنا اسما للفرقان المنزل على محمد صلى الله عليه وآله، ويحسن نسقه على الكتاب لمخالفته للفظه؛ كما قال تعالى:( الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ ) ؛ [البقرة: ١٥١]، وإن كانت الحكمة مما يتضمنها الكتاب، وكتب الله تعالى كلها فرقان، يفرق بين الحق والباطل، والحلال والحرام.

ويستشهد على هذا الوجه بقول طرفة:

فما لي أراني وابن عمّي مالكا

متى أدن منه ينأ عنّي ويبعد(١)

فنسق (يبعد) على (ينأ) وهو بعينه، وحسّن ذلك اختلاف اللفظين. وقال عدي بن زيد:

وقدّمت الأديم لراهشيه

وألفى قولها كذبا ومينا(٢)

والمين الكذب.

وثانيها أن يكون الكتاب عبارة عن التوراة، والفرقان انفراق البحر الّذي أوتيه موسى عليه السلام.

____________________

(١) من المعلقة ص ٨٦ - بشرح التبريزي.

(٢) حاشية الأصل: (يعني الزباء وجذيمة، والراهشان: عرقان في الذراعين، والأديم: النطع، وكانت قد وعدته بأن تتزوجه، ثم غدرت به فقتلته على نطع، وهو الأديم الّذي ذكره).

٢٥٧

وثالثها أن يراد بالفرقان الفرق بين الحلال والحرام، والفرق بين موسى وأصحابه المؤمنين وبين فرعون وأصحابه الكافرين؛ لأنّ الله تعالى قد فرق بينهم في أمور كثيرة؛ منها أنه نجّى هؤلاء وأغرق أولئك.

ورابعها أن يكون الفرقان المراد به القرآن المنزّل على نبينا صلى الله عليه وآله؛ ويكون المعنى في ذلك: وآتينا موسى التوراة والتصديق والإيمان بالفرقان الّذي هو القرآن؛ لأن موسى عليه السلام كان مؤمنا بمحمد صلى الله عليه وآله وما جاء به، ومبشرا ببعثته. وساغ حذف القبول والإيمان والتصديق وما جرى مجراه وإقامة الفرقان مقامه؛ كما ساغ في قوله تعالى:

( وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ ) ؛ [يوسف: ٨٢]، وهو يريد أهل القرية.

وخامسها أن يكون المراد الفرقان القرآن، ويكون تقدير الكلام:( وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ ) الّذي هو التوراة، وَآتينا محمدا الْفُرْقانَ، فحذف ما حذف مما يقتضيه الكلام؛ كما حذف الشاعر في قوله:

تراه كأنّ الله يجدع أنفه

وعينيه إن مولاه كان له وفر(١)

أراد: ويفقأ عينيه؛ لأن الجدع لا يكون بالعين؛ واكتفى بـ (يجدع) من (يفقأ).

وقال الشاعر:

تسمع للأحشاء منه لغطا

ولليدين جسأة وبددا

أي وترى لليدين؛ لأنّ الجسأة والبدد(٢) لا يسمعان وإنما يريان.

وقال الآخر:

علفتها تبنا وماء باردا

حتّى شتت همّالة عيناها(٣)

أراد وسقيتها ماء باردا، فدلّ علفت على سقيت.

____________________

(١) البيت في (الحيوان ٦: ٤٠) ونسبه إلى خالد بن الطيفان؛ والرواية فيه:

تراه كأنّ الله يجدع أنفه

وأذنيه إن مولاه ثاب له وفر

(٢) الجسأ: اليبس، والبدد: تباعد ما بين اليدين أو الفخذين.

(٣) البيت من شواهد النحاة في باب المفعول معه على أنه إذا لم يمكن عطف الاسم الواقع بعد الواو على ما قبله تعين النصب على المعية، أو على إضمار فعل يليق به. وهو في ابن عقيل ١: ٥٢٤، غير منسوب.

٢٥٨

وقال الآخر(١) :

ياليت بعلك قد غدا

متقلّدا سيفا ورمحا

أراد حاملا رمحا.

ووجدت أبا بكر بن الأنباري يقول: إن الاستشهاد بهذه الأبيات لا يجوز على هذا الوجه؛ لأنّ الأبيات اكتفى فيها بذكر فعل عن ذكر فعل غيره، والآية اكتفى فيها باسم دون اسم

والأمر وإن كان على ما قاله في الاسم والفعل؛ فإن موضع الاستشهاد صحيح؛ لأن الاكتفاء في الأبيات بفعل عن فعل إنما حسن من حيث دلّ الكلام على المحذوف والمضمر واقتضاه، فحذف تعويلا على أن المراد مفهوم غير ملتبس ولا مشتبه.

وهذا المعنى قائم في الآية، وإن كان المحذوف اسما؛ لأن اللبس قد زال، والشبهة قد أمنت في المراد بها؛ فحسن الحذف؛ لأن الفرقان إذا كان اسما للقرآن؛ وكان من المعلوم أن القرآن إنما أنزل على نبينا صلى الله عليه وآله دون موسى عليه السلام استغنى عن ان يقال: وآتينا محمدا الفرقان؛ كما استغنى الشاعر أن يقول: ويفقأ عينيه، وترى لليدين جسأة وبددا، وما شاكل ذلك.

إلا أنه يمكن أن يقال فيما استشهد به في جميع الأبيات مما لا يمكن أن يقال مثله في الآية؛ وهو أنّه يقال: لا محذوف، ولا تقدير لفعل مضمر؛ بل الكلام في كلّ بيت منها محمول على المعنى؛ ومعطوف عليه؛ لأنه لما قال:

* تراه كأنّ الله يجدع ألفه*

وكان معنى الجدع هو الإفساد للعضو والتشويه به عطف على المعنى، فقال: (وعينيه) فكأنه قال: كأنّ الله يجدع أنفه، أي يفسده ويشوّهه، ثم قال: (وعينيه). وكذلك لما كان السامع للغط من الأحشاء عالما به عطف على المعنى فقال: (ولليدين جسأة وبددا) ؛ أي أنّه يعلم هذا وذاك معا؛ وكذلك لما كان في قوله: (علفت) معنى غذيت عطف عليه الماء؛ لأنه مما

____________________

(١) هو عبد الله بن الزبعري، كما في حواشي ابن الفوطية على الكامل ١٨٩ ليبسك. وانظر حواشي شرح المرزوقي للحماسة ١١٤٧.

٢٥٩

يغتذي به؛ وكذلك لما كان المتقلّد للسيف حاملا له جاز أن يعطف عليه الرمح المحمول.

وهذا أولى في الطعن على الاستشهاد بهذه الأبيات مما ذكره ابن الأنباري.

***

أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد الكاتب قال أخبرنا محمد بن يحيى الصولي قال أخبرنا يحيى بن علي بن يحيى المنجم قال أخبرنا أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري عن الهيثم بن عدي قال: لما دخل خالد بن صفوان الأهتمي(١) على هشام بن عبد الملك - وذلك بعد عزله خالد ابن عبد الله القسري - قال: فألفيته جالسا على كرسي في بركة ماؤها إلى الكعبين، فدعا لي بكرسي فجلست عليه؛ فقال ياخالد، ربّ خالد جلس مجلسك كان ألوط بقلبي، وأحبّ إلي منك! فقلت: ياأمير المؤمنين؛ إنّ حلمك لا يضيق عنه، فلو صفحت عن جرمه! فقال: ياخالد؛ إنّ خالدا أدلّ فأملّ، وأوجف فأعجف؛ ولم يدع لراجع مرجعا، ولا لعودة موضعا. ثم قال: ألا أخبرك عنه ياابن صفوان! قلت: نعم، قال: إنه ما بدأني بسؤال حاجة مذ قدم العراق حتى أكون أنا الّذي أبدؤه بها، قال خالد: فذاك أحرى أن ترجع إليه، فقال متمثلا:

إذا انصرفت نفسي عن الشّيء لم تكد

إليه بوجه آخر الدّهر تقبل(٢)

ثم قال: حاجتك ياابن صفوان، قلت: تزيدني في عطائي عشرة دنانير، فأطرق ثم قال:

ولم؟ وفيم؟ العبادة أحدثتها فنعينك عليها، أم لبلاء حسن أبليته عند أمير المؤمنين؟

أم لماذا ياابن صفوان؟ إذا يكثر السؤال، ولا يحتمل ذلك بيت المال. قال: فقلت:

ياأمير المؤمنين؛ وفّقك الله وسدّدك، أنت والله كما قال أخو خزاعة:

إذا المال لم يوجب عليك عطاءه

قرابة قربي، أو صديق توامقه(٣)

منعت - وبعض المنع حزم وقوّة -

ولم تفتلتك المال إلاّ حقائقه

____________________

(١) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (الأهتم).

(٢) البيت لمعن بن أوس، وهو في الحماسة ١١٣١ - بشرح المرزوقي

(٣) البيتان لكثير؛ وهما في ديوانه ٢: ٨٣، والأغاني ١١: ١٩٢ (طبعة الدار) وأمالي القالي ٢: ٨٨، وتوامقه، توده؛ مفاعلة من الموامقة؛ وتفتلتك، أي يخرجه من يدك وقبضتك.

٢٦٠