أمالي المرتضى الجزء ٢

أمالي المرتضى0%

أمالي المرتضى مؤلف:
تصنيف: مكتبة اللغة والأدب
الصفحات: 403

أمالي المرتضى

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشريف أبى القاسم على بن الطاهر أبى أحمد الحسين
تصنيف: الصفحات: 403
المشاهدات: 61837
تحميل: 8750


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 403 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 61837 / تحميل: 8750
الحجم الحجم الحجم
أمالي المرتضى

أمالي المرتضى الجزء 2

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فلما قدم خالد البصرة، قيل له: ما الّذي حملك على تزيين الإمساك له؟ قال: أحببت أن يمنع غيري كما منعنى، فيكثر من يلومه.

قال سيدنا أدام الله علوّه: وكان خالد مشهورا بالبلاغة وحسن العبارة.

***

وبالإسناد المتقدم عن المدائني قال: قال حفص بن معاوية بن عمرو الغلابي، قلت لخالد: ياأبا صفوان، إني لأكره أن تموت وأنت من أيسر أهل البصرة فلا يبكيك إلا الإماء، قال: فابغني امرأة، قلت: صفها لي أطلبها لك، قال: أريد بكرا كثيّب، أو ثيّبا كبكر، لا ضرعا صغيرة، ولا مسنّة كبيرة؛ لم تقرأ فتجبن(١) ، ولم تفتّ(٢) فتمجن؛ قد نشأت في نعمة، وأدركتها خصاصة، فأدّبها الغنى، وأذلّها الفقر، حسبي من جمالها أن تكون فخمة من بعيد، مليحة من قريب؛ وحسبي من حسنها أن تكون واسطة قومها، ترضى مني بالسّنة؛ إن عشت أكرمتها، وإن متّ ورّثتها، لا ترفع رأسها إلى السماء نظرا، ولا تضعه إلى الأرض سقوطا. فقلت: ياأبا صفوان؛ إنّ الناس في طلب هذه مذ زمان طويل فما يقدرون عليها.

وكان يقول: إن المرأة لو خفّ محملها، وقلّت مئونتها ما ترك اللئام فيها للكرام بيتة ليلة؛ ولكن ثقل محملها، وعظمت مئونتها فاجتباها الكرام، وحاد عنها اللئام.

وكان خالد من أشحّ الناس وأبخلهم؛ كان إذا أخذ جائزة أو غيرها قال للدرهم:

أما والله لطالما أغرت في البلاد وأنجدت؛ والله لأطيلن ضجعتك، ولأديمنّ صرعتك.

وسأله رجل من بني تميم فأعطاه دانقا، فقال: ياسبحان الله! أتعطي مثلي دانقا! فقال له: لو أعطاك كلّ رجل من بني تميم مثل ما أعطيتك لرحت ذا مال عظيم.

وسأله رجل، فأعطاه درهما فاستقلّه، فقال: ياأحمق، أما علمت أنّ الدرهم عشر العشرة، والعشرة عشر المائة، والمائة عشر الألف، والألف عشر دية مسلم! وكان يقول: والله ما تطيب نفسي بإنفاق درهم إلا درهما قرعت به باب الجنة، أو درهما اشتريت به موزا.

____________________

(١) من نسخة بحاشية ف: (فتحنن)، وانظر عيون الأخبار ٤: ٥

(٢) حاشية الأصل: (لم تفت من الفتوة).

٢٦١

وقال: لأن يكون لي ابن يحب الخمر أحبّ إلي من أن يكون لي ابن يحبّ اللحم؛ لأنه متى طلب اللحم وجده، والخمر يفقده أحيانا.

وكان يقول: من كان ماله كفافا فليس بغني ولا فقير؛ لأن النائبة إذا نزلت به أجحفت بكفافه؛ ومن كان ماله دون الكفاف فهو فقير، ومن كان ماله فوق الكفاف فهو غني.

وكان يقول: لأن يكون لأحدكم جار يخاف أن ينقب عليه بيته خير من أن يكون له جار من التجار؛ لا يشاء أن يعطيه مالا ويكتب به عليه صكّا إلا فعل.

٢٦٢

مجلس آخر

[٧٧]

تأويل آية :( إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ، وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ الله يَجْحَدُونَ )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ، وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ الله يَجْحَدُونَ ) ؛ [الأنعام: ٣٣].

فقال: كيف يخبر عنهم بأنهم لا يكذّبون نبيّه عليه السلام، ومعلوم منهم إظهار التكذيب، والعدول عن الاستجابة والتصديق، وكيف ينفي عنهم التكذيب ثم يقول:

إنهم بآيات الله يجحدون؟ وهل الجحد بآيات الله إلا تكذيب نبيه عليه السلام!

الجواب، قلنا: قد ذكر في هذه الآية وجوه:

أولها أن يكون إنما نفى تكذيبهم بقلوبهم تدينا واعتقادا، وإن كانوا يظهرون بأفواههم التكذيب؛ لأنّا نعلم أنه قد كان في المخالفين له عليه السلام من يعلم صدقه، ولا ينكر بقلبه حقّه؛ وهو مع ذلك معاند؛ فيظهر خلاف ما يبطن، وقد قال تعالى:( وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) ؛ [البقرة: ١٤٦].

ومما يشهد لهذه الوجه من طريق الرواية ما رواه سلاّم بن مسكين عن أبي يزيد المدني أن رسول الله صلى الله عليه وآله لقي أبا جهل فصافحه أبو جهل، فقيل له: ياأبا الحكم، أتصافح هذا الصّبيّ؟ فقال: والله إني لأعلم أنه نبي؛ ولكن متى كنا تبعا لبني عبد مناف! فأنزل الله تعالى الآية.

وفي خبر آخر أن الأخنس بن شريق خلا بأبي جهل، فقال له: ياأبا الحكم، أخبرني عن محمد صلى الله عليه وآله، أصادق هو أم كاذب! فإنه ليس هاهنا من قريش أحد غيري وغيرك يسمع كلامنا، فقال له أبو جهل: ويحك! والله إنّ محمدا لصادق، وما كذب

٢٦٣

محمد قط؛ ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والحجابة والسّقاية والنّدوة والنبوّة، ماذا يكون لسائر قريش!

والوجه الثاني أن يكون معنى:( فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ ) أي لا يفعلون ذلك بحجة، ولا يتمكون من إبطال ما جئت به ببرهان؛ وإنما يقتصرون على الدعوى الباطلة؛ وهذا في الاستعمال معروف؛ لأنّ القائل يقول: فلان لا يستطيع أن يكذّبني ولا يدفع قولي؛ وإنما يريد أنه لا يتمكّن من إقامة دليل على كذبه، وحجة في دفع قوله؛ وإن كان يتمكن من التكذيب بلسانه وقلبه، فيصير ما يقع من التكذيب من غير حجّة ولا برهان غير معتد به.

وروي عن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام أنه قرأ هذه الآية بالتخفيف:( فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ ) ، ويقول: أنّ المراد بها أنهم لا يأتون بحق هو أحقّ من حقك.

وقال محمد بن كعب القرظي: معناها لا يبطلون ما في يديك؛ وكل ذلك يقوّي هذا الوجه؛ وسنبيّن أنّ معنى هذه اللفظة مشدّدة يرجع إلى معناها مخففة.

والوجه الثالث أن يكون معنى الآية أنهم لا يصادفونك ولا يلفونك متقوّلا؛ كما يقولون:

قاتلته فما أجبنته، أي ما وجدته جبانا، وحادثته فما أكذبته؛ أي لم ألفه كاذبا؛ وقال الأعشى:

أثوى وقصّر ليلة ليزوّدا

فمضى وأخلف من قتيلة موعدا(١)

أراد أنه صادف منها خلفا المواعيد، ومثله قولهم: أصممت القوم؛ إذا صادفتهم صما، وأخليت الموضع، إذا صادفته خاليا؛ قال الشاعر:

أبيت مع الحدّاث ليلي فلم أبن

فأخليت فاستجمعت عند خلائيا

أي أصبت مكانا خاليا.

____________________

(١) ديوانه: ١٥٠.

٢٦٤

ومثله لهيمان بن أبي قحافة:

يسنّ أنيابا له لوامجا(١)

أوسعن من أشداقه المضارجا(٢)

يعني بـ (أوسعن) أصبن منابت واسعة فنبتن فيها.

وقال عمرو بن براق:

تحالف أقوام عليّ ليسمنوا

وجرّوا عليّ الحرب إذ أنا سائم(٣)

يقال: أسمن بنو فلان، إذا رعت إبلهم فصادفوا فيها سمنا.

وقال أبو النجم:

مستأسدا ذبابه في غيطل

يقلن للرائد أعشبت انزل(٤)

أي أصبت مكانا معشبا.

وقال ذو الرّمة:

تريك بياض لبّتها ووجها

كقرن الشّمس أفتق ثمّ زالا(٥)

أي وجد فتقا من السحاب.

وليس لأحد أن يجعل هذا الوجه مختصا بالقراءة بالتخفيف دون التشديد؛ لأن في الوجهين معا يمكن هذا الجواب، لأن (أفعلت) و (فعلت) يجوزان في هذا الموضع، و (أفعلت) بالتخفيف هو الأصل ثم شدد تأكيدا وإفادة لمعنى التكرار؛ وهذا مثل أكرمت وكرّمت، وأعظمت وعظّمت، وأوصيت ووصّيت، وأبلغت وبلّغت؛ وهو كثير/؛ قال الله تعالى:

( فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً ) [الطارق: ١٧]؛ إلا أن التخفيف أشبه بهذا الوجه؛ لأن استعمال هذه اللفظة مخففة في هذا المعنى أكثر.

والوجه الرابع ما حكى الكسائي من قوله: إن المراد أنهم لا ينسبونك إلى الكذب فيما أثبت به؛ لأنه كان أمينا صادقا لم يجرّبوا عليه كذبا؛ وإنما كانوا يدفعون ما أتى به، ويدّعون أنه في نفسه كذب؛ وفي الناس من يقوّي هذا الوجه، وأن القوم كانوا يكذّبون ما أتى به، وإن

____________________

(١) اللمج: الأكل

(٢) المضارج: الثياب المشقوقة؛ والبيت في اللسان (ضرج).

(٣) البيت في الأغاني ٢١: ١١٤.

(٤) الطرائف الأدبية ٥٩.

(٥) ديوانه ٤٣٤.

٢٦٥

كانوا يصدقونه في نفسه بقوله تعالى:( وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ الله يَجْحَدُونَ ) ؛ وبقوله تعالى:( وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُ ) ؛ [الأنعام: ٦٦]؛ ولم يقل: وكذّبك قومك. وكان الكسائي يقرأ:( فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ ) بالتخفيف ونافع من بين سائر السبعة، والباقون على التشديد؛ ويزعم أنّ بين أكذبه وكذّبه فرقا، وأن معنى أكذب الرجل، أنه جاء بكذب، ومعنى كذّبته أنه كذاب في كل حديثه. وهذا غلط وليس بين (فعّلت) و (أفعلت) في هذه الكلمة فرق من طريق المعنى أكثر مما ذكرناه من أنّ التشديد يقتضي التكرار والتأكيد، ومع هذا لا يجوز أن يصدّقوه في نفسه، ويكذّبوا بما أتى به؛ لأن من المعلوم أنه عليه السلام كان يشهد بصحة ما أتى به وصدقه، وأنه الدين القيم، والحق الّذي لا يجوز العدول عنه؛ فكيف يجوز أن يكون صادقا في خبره وكان الّذي أتى به فاسدا! بل إن كان صادقا فالذي أتى به حقّ صحيح، وإن كان الّذي أتى به فاسدا؛ فلا بد من أن يكون في شيء من ذلك كاذبا؛ وهو تأويل من لا يتحقق المعاني.

والوجه الخامس أن يكون المعنى في قوله تعالى:( فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ ) أن تكذيبك راجع إلى، وعائد عليّ؛ ولست المختص به؛ لأنه رسول فمن كذبه فهو في الحقيقة مكذّب لله تعالى ورادّ عليه. وهذا كما يقول أحدنا لرسوله: امض في كذا فمن كذّبك فقد كذبني، ومن دفعك فقد دفعني؛ وذلك من الله على سبيل التسلية لنبيه عليه السلام؛ والتعظيم والتغليظ لتكذيبه.

والوجه السادس أن يريد:( فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ ) في الأمر الّذي يوافق فيه تكذيبهم، وإن كذبوك في غيره.

ويمكن في الآية وجه سابع، وهو أن يريد تعالى أن جميعهم لا يكذبونك وإن كذّبك بعضهم؛ فهم الظالمون الذين ذكروا في آخر الآية بأنهم يجحدون بآيات الله؛ وإنما سلّى نبيه عليه السلام بهذا القول وعزّاه؛ فلا ينكر أن يكون موسى عليه السلام لما استوحش من تكذيبهم له وتلقيهم إياه بالرد؛ وظن أنه لا متّبع له منهم، ولا ناصر لدينه فيهم أخبره

٢٦٦

الله تعالى بأنّ البعض وإن كذبك فإن فيهم من يصدقك ويتبعك وينتفع بإرشادك وهدايتك؛ وكل هذا واضح والمنة للّه.

***

قال سيدنا أدام الله علوّه: ومن جيد الشعر قول مطرود بن كعب الخزاعي:

ياأيّها الرّجل المحوّل رحله

ألاّ نزلت بآل عبد مناف!(١)

هبلتك أمّك لو نزلت عليهم

ضمنوك من جوع ومن إقراف(٢)

الآخذون العهد من آفاقها

والرّاحلون لرحلة الإيلاف

والمطعمون إذا الرّياح تناوحت

ورجال مكّة مسنتون عجاف

والمفضلون إذا المحول ترادفت

والقائلون هلمّ للأضياف

والخالطون غنيّهم بفقيرهم

حتى يكون فقيرهم كالكافي(٣)

كانت قريش بيضة فتفلّقت

فالمحّ خالصة لعبد مناف(٤)

____________________

(١) معجم الشعراء ٣٧٥، وسيرة ابن هشام ١: ١١٧ (على حاشية روض الأنف)؛ وذكر أنه رثى بها عبد المطلب بن عبد مناف؛ وفي معجم الشعراء: (هلا حللت)، وفي ابن هشام: (هلا سألت عن آل عبد مناف).

(٢) قال السهيلي في شرح هذا البيت: (أي منعوك من أن تنكح بناتك أو أخواتك من لئيم؛ فيكون الابن مقرفا للؤم أبيه وكرم أمه؛ فيلحقك وصم من ذلك؛ ونحو منه قول مهلهل:

أنكحها فقدها الأراقم في

جنب، وكان الحباء من أدم

أي أنكحت لغربتها من غير كف ء).

(٣) الكافي: الغني الّذي يكفي غيره.

(٤) البيت في اللسان (مح)، والسيرة ١: ٩٤ وابن أبي الحديد ٣: ٤٥٣، والعيني ٤: ١٤٠ منسوب إلى ابن الزبعرى. والمح: صفرة البيض؛ كالمحة. وخالصة: مصدر؛ وفي حاشية الأصل (من نسخة): (خالصها) ؛ وهي رواية اللسان. وزاد في رواية ابن هشام:

إمّا هلكت - أبا الفعال - فما جرى

من فوق مثلك عقد ذات نطاف

إلاّ أبيك أخى المكارم وحده

والفيض مطّلب أبى الأضياف

٢٦٧

أما قوله:

* والراحلون لرحلة الإيلاف*

فكان هاشم صاحب إيلاف قريش للرحلتين وأول من سنهما، فألفوا الرحلتين: في الشتاء إلى اليمن والحبشة والعراق، وفي الصيف إلى الشام. وفي ذلك يقول ابن الزّبعرى:

عمرو العلا هشم الثريد لقومه

ورجال مكّة مسنتون عجاف(١)

وهو الّذي سنّ الرّحيل لقومه

رحل الشّتاء ورحلة(٢) الأضياف

فأما (المسنتون) فهم الذين أصابتهم السنة المجدبة الشديدة.

وقوله:

* والخالطون غنيّهم بفقيرهم*

من أحسن الكلام وأخصره؛ وإنما أراد أنهم يفضلون على الفقير حتى يعود غنيا ذا ثروة.

ولأحمد بن يوسف أبيات على هذا الوزن يمزح بها مع ولد سعيد بن سلم الباهلي، وكان لهم صديقا:

أبني سعيد إنّكم من معشر

لا يعرفون كرامة الأضياف(٣)

قوم لباهلة بن يعصر إن هم

نسبوا حسبتهم لعبد مناف

قرنوا الغداء إلى العشاء وقرّبوا

زادا لعمر أبيك ليس بكاب

وكأنّني لمّا حططت إليهم

رحلي نزلت بأبرق العزّاف(٤)

بينا كذلك إذ أتى كبراؤهم

يلحون في التّبذير والإسراف

____________________

(١) سيرة ابن هشام ١: ٩٤، والعيني ١: ١٤٠، وابن أبي الحديد ٣: ٤٥٣

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): (برحلة).

(٣) الأبيات في معجم البلدان ١: ٧٨، روي عن المبرد أنه عزاها لرجل يهجو بني سعد بن قتيبة الباهلي.

(٤) أبرق العزاف: ماء لبني أسد بن خزيمة بن مدركة. وفي حاشية الأصل: (مغارة بعينها).

٢٦٨

أراد بقوله: (قرنوا الغداء إلى العشاء) من بخلهم واختصارهم في المطعم؛ ويقال: إنّ هذا الشعر حفظ وصار من أكثر ما يسبّون به ويسبّ قومهم؛ ولرب مزح جرّ جدّا، وعثرة الشعر لا تستقال؛ والشعر يسير بحسب جودته.

ولقد أحسن دعبل بن علي في قوله:

نعوني ولمّا ينعني غير شامت

وغير عدوّ قد أصيبت مقاتله(١)

يقولون إن ذاق الرّدى مات شعره

وهيهات عمر الشّعر طالت طوائله!

سأقضي ببيت يحمد النّاس أمره

ويكثر من أهل الرّواية حامله

يموت ردي الشّعر من قبل ربّه

وجيّده يبقى؛ وإن مات قائله(٢)

ولآخر في هذا المعنى(٣) :

لا تعرضنّ بمزح لامرئ فطن

ما راضه قلبه أجراه في الثّبت(٤)

فربّ قافية بالمزح جارية

مشئومة لم يرد إنماؤها نمت

إنّي إذا قلت بيتا مات قائله

ومن يقال له والبيت لم يمت

____________________

(١) الأبيات في الكامل ٤: ١١١ - بشرح المرصفي، والموشح: ٣٨١.

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): (إذا مات).

(٣) من أبيات في (الكامل ٤: ١١٠ - ١١١ بشرح المرصفي)؛ ونسبها أيضا لدعبل؛ وأولها:

أحببت قومي ولم أعدل لحبّهم

قالوا: تعصبت جهلا، قول ذي بهت

(٤) الثبت: الدرج؛ وفي حاشية الأصل (من نسخة): (الشفة) ؛ وهي رواية الكامل.

٢٦٩

مجلس آخر

[٧٨]

تأويل آية أخرى :( ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاّ أَنْ قالُوا وَالله رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ * انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاّ أَنْ قالُوا وَالله رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ. انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ ) ؛ [الأنعام: ٢٣، ٢٤] وعن قوله تعالى:( وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يالَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ) ؛ [الأنعام: ٢٧، ٢٨].

فقال: كيف يقع من أهل الآخرة نفي الشرك عن أنفسهم، والقسم بالله تعالى عليه وهم كاذبون في ذلك؛ مع أنهم عندكم في تلك الحال لا يقع منهم شيء من القبيح لمعرفتهم بالله تعالى ضرورة؛ ولأنهم ملجئون هناك إلى ترك جميع القبائح، وكيف قال من بعد:( وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ) فشهد عليهم بالكذب، ثم علّقه بما لا يصح فيه معنى الكذب وهو التمني؛ لأنهم تمنوا ولم يخبروا!

الجواب، قلنا: أول ما نقوله: إنه ليس في ظاهر الآية ما يقتضي أن قولهم:( ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ) إنما وقع في الآخرة دون الدنيا؛ وإذا لم يكن ذلك في الظاهر جاز أن يكون الإخبار يتناول حال الدنيا، وسقطت المسألة؛ وليس لأحد أن يتعلّق في وقوع ذلك في الآخرة بقوله تعالى قبل الآية:( وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ) [الأنعام: ٢٢]؛ وأنه عقّب ذلك بقوله تعالى:( ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ ) ؛ فيجب أن يكون الجميع مختصا بحال الآخرة؛ لأنه لا يمنع أن تكون الآية تتناول ما يجري في الآخرة، ثم تتلوها آية تتناول ما يجري في الدنيا؛ لأن مطابقة كل آية لما قبلها في مثل هذا

٢٧٠

غير واجبة، وقوله تعالى:( ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ ) لا تدلّ أيضا على أن ذلك يكون واقعا بعد ما خبر تعالى عنه في الآية الأولى؛ فكأنه تعالى قال على هذا الوجه: إنا نحشرهم في الآخرة ونقول: أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون؟ وما كان فتنتهم وسبب ضلالهم في الدنيا إلا قولهم:

( وَالله رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ) .

وقد قيل في الآية - على تسليم أنّ هذا القول يقع منهم في الآخرة -: إنّ المراد به أنا ما كنا عند نفوسنا وفي اعتقادنا مشركين؛ بل كنا نعتقد أنا على الحق والهدى، وقوله تعالى من بعد:

( انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ ) لم يرد هذا الخبر الّذي وقع منهم في الآخرة؛ بل إنهم كذبوا على أنفسهم في دار الدنيا بإخبارهم أنهم مصيبون محقّون غير مشركين؛ وليس في الظاهر إلا أنهم كذبوا على أنفسهم من غير تخصيص بوقت؛ فلم يحمل على آخرة دون دنيا.

ولو كان للآية ظاهر يقتضي وقوع ذلك في الآخرة لحملناه على الدنيا؛ بدلالة أن أهل الآخرة لا يجوز أن يكذبوا لأنهم ملجئون إلى ترك القبيح.

فأما قوله تعالى حاكيا عنهم:( يا لَيْتَنا نُرَدُّ ) وقوله تعالى:( فإنّهم لَكاذِبُونَ ) فمن الناس من حمل الكلام كله على وجه التمني؛ فصرف قوله تعالى:( وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ) إلى غير الأمر الّذي تمنوه؛(١) لأن التمني لا يصح معه الصدق والكذب(١) ؛ لأنهما إنما يدخلان في الأخبار المحضة؛ لأن قول القائل: ليت الله رزقني ولدا؛ وليت فلانا أعطاني مالا أفعل به كذا وكذا لا يكون كذبا ولا صدقا؛ وقع ما تمناه أو لم يقع؛ فيجوز على هذا أن يكون قوله تعالى:( وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ) مصروفا إلى حال الدنيا، كأنه تعالى قال: وهم كاذبون فيما يخبرون به عن أنفسهم في الدنيا من الإضافة واعتقاد الحق؛ أو يريد أنّهم كاذبون أن خبّروا(٢) عن أنفسهم أنهم متى ردوا آمنوا ولم يكذبوا؛ وإن كان ما كان مما حكي عنهم من التمني ليس بخبر.

____________________

(١ - ١) حاشية الأصل (من نسخة)؛ (لأن التمني لا يصح فيه معنى الصدق والكذب).

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): (أن يخبروا).

٢٧١

وقد يجوز أيضا أن يحمل قوله تعالى:( وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ) على غير الكذب الحقيقي؛ بل يكون المراد والمعنى أنهم تمنوا ما لا سبيل إليه فكذب(١) أملهم وتمنّيهم؛ وهذا مشهور في الكلام؛ لأنهم يقولون لمن تمنى ما لا يدرك: كذب أملك، وأكدى رجاؤك؛ وما جرى مجرى ذلك؛ قال الشاعر:

كذبتم وبيت الله لا تأخذونها

مراغمة ما دام للسّيف قائم

وقال آخر:

كذبتم وبيت الله لا تنكحونها

بني شاب قرناها تصرّ وتحلب(٢)

ولم يرد الكذب في الأقوال؛ بل في التمني والأمل.

وليس لأحد أن يقول: كيف يجوز من أهل الآخرة مع معارفهم الضرورية، وأنهم عالمون بأنّ الرجوع إلى الدنيا لا سبيل إليه أن يتمنوه؛ وذلك أنه غير ممتنع أن يتمنى المتمنّي ما يعلم أنّه لا يحصل ولا يقع؛ ولهذا يتعلّق التمني للشيء بألاّ يكون ما قد كان. ولقوّة اختصاص التمني بما يعلم أنه لا يكون غلط قوم فجعلوا إرادة ما علم المريد أنه لا يكون تمنيا؛ فهذا الّذي ذكرناه وجه في تأويل الآية.

وفي الناس من يجعل بعض الكلام تمنّيا وبعضه إخبارا، وعلّق تكذيبهم بالخبر دون لَيْتَنا؛ فكان تقدير الآية: ياليتنا نرد - وهذا هو التمني - ثم قال من بعد: فإنّا( لا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) ، فأخبروا بما علم الله تعالى أنهم فيه كاذبون؛ وإن لم يعلموا من أنفسهم مثل ذلك؛ فلهذا كذّبهم الله تعالى. وكل هذا واضح.

***

أخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال حدثني أحمد بن عبد الله، وعبد الله بن يحيى العسكريّان(٣) قالا: حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الله العبدي قال حدثنا

____________________

(٣) حاشية الأصل (من نسخة): (فكذب أملهم) بالتشديد.

(١) البيت في اللسان (قرن)، وسيبويه ١: ٢٥٩، ٢: ٦٥؛ وشاب قرناها: لقب لامرأة.

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): (العسكري).

٢٧٢

أبو مسعر(١) - رجل منا من بني غنم بن عبد القيس - قال: ورد(٢) منصور بن سلمة النّمري على البرامكة، وهو شيخ كبير - وكان مروان بن أبي حفصة صديقا لي؛ على أني كنت أبغضه وأمقته في الله - فشكا إلي وقال: دخل علينا اليوم رجل أظنه شاميا - وقد تقدمته البرامكة في الذكر عند الرشيد - فأذن له، فدخل فسلّم وأجاد، فأذن له الرشيد، فجلس. قال:

فأوجست منه خوفا فقلت: يانفس، أنا حجازي نجدي شافهت العرب وشافهتني، وهذا شامي؛ أفتراه أشعر مني! قال: فجعلت أرفو(٣) نفسي إلى أن استنشده هارون؛ فإذا هو والله من أفصح الناس، فدخلني له حسد؛ قال: فأنشده قصيدة تمنيت أنها لي؛ وأنّ عليّ غرما، فقلت له: ما هي؟ قال: أحفظ منها أبياتا، وهي:

أمير المؤمنين إليك خضنا

غمار الموت من بلد شطير

بخوص كالأهلّة جانفات

تميل على السّرى وعلى الهجير

حملن إليك آمالا عظاما

ومثل الصخر والدّرّ النّثير

فقد وقف المديح بمنتهاه

وغايته وصار إلى المصير

إلى من لا تشير إلى سواه

- إذا ذكر النّدى - كفّ المشير

قال مروان: فوددت أنه قد أخذ جائزتي وسكت. وعجبت من تخلّصه إلى تلك القوافي.

ثم ذكر ولد أمير المؤمنين عليّ عليه السلام، فأحسن التخلص، ورأيت هارون يعجب بذلك؛ فقال:

يد لك في رقاب بني عليّ

ومنّ ليس بالمنّ اليسير

فإن شكروا فقد أنعمت فيهم

وإلاّ فالنّدامة للكفور

مننت على ابن عبد الله يحيى

وكان من الحتوف على شفير

وقد سخطت لسخطتك المنايا

عليه؛ فهي حائمة النّسور

____________________

(١) حاشية الأصل (من نسخة): (أبو مسعود).

(٢) الخبر في الأغاني ١٢: ١٦ - ١٧.

(٣) أرفو نفسي: أسكنها من الرعب.

٢٧٣

ولو كافأت ما اجترحت يداه

دلفت له بقاصمة الظّهور

ولكن جلّ حلمك واجتباه

على الهفوات عفو من قدير

فعاد كأنّه لم يجن ذنبا

وقد كان اجتنى حسك الصدور

وإنّك حين تبلنهم أذاة

- وإن ظلموا - لمحترق الضّمير

وإن الرشيد قال لما سمع هذا البيت: هذا والله معنى كان في نفسي؛ وأدخله بيت المال فحكّمه فيه.

عدنا إلى الخبر، قال مروان: وكان هارون يبسم ويكاد يضحك للطف ما سمع؛ ثم أومأ إلى أن أنشد، فأنشدته قصيدتي التي أقول فيها:

خلّوا الطّريق لمعشر عاداتهم

حطم المناكب كلّ يوم زحام(١)

حتى أتيت على آخرها؛ فو الله ما عاج ذلك الرجل - يعني النمري - بشعري، ولا حفل به.

قال: وأنشده منصور يومئذ:

إنّ لهارون إمام الهدى

كنزين من أجر ومن برّ

يريش ما تبري اللّيالي ولا

تريش أيديهنّ ما يبري

كأنّما البدر على رحله

ترميك منه مقلتا صقر

قال وأنشده أيضا:

ولمن أضاع لقد عهدتك حافظا

لوصيّة العبّاس بالأخوال

قال مروان: وأخلق به أن يغلبني وأن يعلو عليّ عنده؛ فإني ما رأيت أحسن من تخلّصه إذا ذكر الطالبيّين(٢) .

***

____________________

(١) بعده في رواية الأغاني:

ارضوا بما قسم الإله لكم به

ودعوا وراثة كلّ أصيد حام

أنّى يكون وليس ذاك بكائن

لبني البنات وراثة الأعمام!

(٢) د، ومن نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (إلى ذكر الطالبيين).

٢٧٤

أخبرنا المرزباني قال حدثني أبو عبد الله الحكيمي قال حدثني يموت بن المزرّع قال حدثني أبو عثمان الجاحظ قال: كان منصور النّمري ينافق الرشيد ويذكر هارون في شعره؛ ويريه أنّه من وجوه شيعته، وباطنه ومراده بذلك أمير المؤمنين عليه السلام، لقول النبي صلى الله عليه وآله: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى) ؛ إلى أن وشى عنده بعض أعدائه - وهو العتّابي - فقال: ياأمير المؤمنين، هو والله الّذي يقول:

متى(١) يشفيك دمعك من همول

ويبرد ما بقلبك من غليل!

وأنشده أيضا:

شاء من النّاس راتع هامل

يعلّلون النّفوس بالباطل(٢)

ومنصور يصرّح في هذه القصيدة بالعجائب؛ فوجّه الرشيد برجل من فزارة، وأمره أن يضرب عنق منصور حيث تقع عينه عليه؛ فقدم الرجل رأس عين(٣) بعد موت منصور بأيام قلائل.

قال المرزباني: ويصدّق قول الجاحظ أنّ النّمري كان يذكر هارون في شعره؛ وهو يعني به أمير المؤمنين عليّا عليه السلام ما أنشدناه(٤) محمد بن الحسن بن دريد للنّمري:

آل الرّسول خيار الناس كلّهم

وخير آل رسول الله هارون

رضيت حكمك لا أبغي به بدلا

لأنّ حكمك بالتّوفيق مقرون

***

وروي أنّ أبا عصمة الشيعي لما أوقع بأهل ديار ربيعة أوفدت ربيعة وفدا إلى الرشيد، فيهم منصور النّمري؛ فلما صاروا بباب الرشيد أمرهم باختيار من يدخل عليه، فاختاروا عددا بعد عدد، إلى أن اختاروا رجلين؛ النّمري أحدهما؛ ليدخلا ويسألا حوائجهما - وكان

____________________

(١) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (متى ينفك).

(٢) الأغاني ١٢: ١٩.

(٣) رأس عين: من مدن الجزيرة، بين حران ونصيبين.

(٤) حاشية الأصل: (نسخة س: ما أنشده).

٢٧٥

النّمري مؤدبا، لم يسمع منه شعر قط قبل ذلك، ولا عرف به - فلما مثل هو وصاحبه بين يدي الرشيد قال لهما: قولا ما تريدان، فاندفع النّمري فأنشد:

* ما تنقضي حسرة منّي ولا جزع*

فقال له الرشيد: قل حاجتك وعدّ عن هذا، فقال:

* إذا ذكرت شبابا ليس يرتجع*

 وأنشده القصيدة حتى أتى إلى قوله:

ركب من النّمر عاذوا بابن عمّهم

من هاشم إذ ألحّ الأزلم الجذع(١)

متّوا إليك بقربي منك تعرفها

لهم بها في سنام المجد مطّلع

إنّ المكارم والمعروف أودية

أحلّك الله منها حيث تجتمع(٢)

إذا رفعت امرأ فالله رافعه

ومن وضعت من الأقوام متّضع

نفسي فداؤك والأبطال معلمة

يوم الوغى والمنايا بينهم قرع

حتى أتى إلى آخرها؛ فقال: ويحك! قل حاجتك فقال: ياأمير المؤمنين، أخربت الديار، وأخذت الأموال، وهتك الحرم؛ فقال: اكتبوا له بكلّ ما يريد؛ وأمر له بثلاثين ألف درهم، واحتبسه عنده، وشخص أصحابه بالكتب، ولم يزل عنده يقول الشعر فيه حتى استأذنه في الانصراف فأذن له؛ ثم اتصل بالرشيد قوله:

شاء من النّاس راتع هامل

يعلّلون النّفوس بالباطل

تقتل ذرّيّة النّبيّ ويرجو

ن خلود الجنان للقاتل

ما الشّكّ عندي في كفر قاتله

لكنّني قد أشكّ في الخاذل

فامتعض الرشيد وأنفذ من يقتله؛ فوجده في بعض الروايات ميتا، وفي أخرى عليلا لما به، فسئل الرسول ألاّ يأثم به؛ وأن ينتظر موته، ففعل ولم يبرح حتى توفّي، فعاد بخبر موته إلى هارون.

____________________

(١) الأغاني ١٢: ١٩. الأزلم الجذع: اسم للدهر.

(٢) د، ومن نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (تنتج).

٢٧٦

وللنّمري:

لو كنت أخشى معادي حقّ خشيته

لم تسم عيني إلى الدّنيا ولم تنم

لكنّني عن طلاب الدّين محتبل

والعلم مثل الغنى والجهل كالعدم

يحاولون دخولي في سوادهم

لقد(١) أطافوا بصدع غير ملتئم

ما يغلبون(٢) النّصارى واليهود على

حبّ(٣) القلوب ولا العبّاد للصّنم

____________________

(١) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (فقد).

(٢) حاشية الأصل: (نسخة ش: ما تغلبون).

(٣) حاشية الأصل: (نسخة ش: حب)، بفتح الحاء.

٢٧٧

مجلس آخر

[٧٩]

تأويل آية :( وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ. بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ. بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ) ؛ [التكوير: ٨، ٩]

فقال: كيف يصحّ أن يسأل من لا ذنب له ولا عقل؟ وأي فائدة في سؤالها عن ذلك؟

وما وجه الحكمة فيه؟ وما الموءودة؟ ومن أي شيء اشتقاق هذه اللفظة؟

الجواب، قلنا: أما معنى سُئِلَتْ ففيه وجهان:

أحدهما أن يكون المراد أن قاتلها طولب بالحجة في قتلها، وسئل عن قتله لها، وبأي ذنب كان؛ على سبيل التوبيخ والتعنيف وإقامة الحجة. فالقتلة هاهنا هم المسئولون على الحقيقة لا المقتولة؛ وإنما المقتولة مسئول عنها. ويجري هذا مجرى قولهم: سألت حقي، أي طالبت به؛ ومثله قوله تعالى:( وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً ) ؛ [الإسراء: ٣٤]؛ أي مطالبا به مسئولا عنه.

والوجه الآخر أن يكون السؤال توجّه إليها على الحقيقة على سبيل التوبيخ لقائلها، والتقريع له، والتنبيه له على أنّه لا حجة له في قتلها؛ ويجري هذا مجرى قوله تعالى لعيسى عليه السلام:

( أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ الله ) ؛ [المائدة: ١١٦]، على طريق التوبيخ لقومه وإقامة الحجة عليهم.

فإن قيل على هذا الوجه: كيف يخاطب ويسأل من لا عقل له ولا فهم!

والجواب، أن في الناس من زعم أن الغرض بهذا القول إذا كان تبكيت الفاعل وتهجينه

٢٧٨

وإدخال الغمّ عليه في ذلك الوقت على طريق العقاب لم يمتنع أن يقع، وإن لم يكن من الموءودة فهم له؛ لأن الخطاب وإن علّق عليها، وتوجّه إليها فالغرض في الحقيقة غيرها؛ وهذا يجري مجرى من ضرب ظالم طفلا من ولده يقول: ولم(١) ضربت؟ وما ذنبك؟ وبأي شيء استحلّ(٢) هذا منك؟ وغرضه تبكيت الظالم لا خطاب الطفل. فالأولى أن يقال في هذا: إن الأطفال وإن كان(٣) من جهة العقول لا يجب في وصولهم إلى الأغراض المستحقة أن يكونوا كاملي العقول؛ كما يجب مثل ذلك في الوصول إلى الثواب؛ فإنّ الخبر متظاهر، والأمة متفقة على أنهم في الآخرة، وعند دخولهم الجنان يكونون على أكمل الهيئات؛ وأفضل الأحوال؛ وإنّ عقولهم تكون كاملة؛ فعلى هذا يحسن توجّه الخطاب إلى الموءودة؛ لأنها تكون في تلك الحال ممن تفهم الخطاب وتعقله، وإن كان الغرض فيه التبكيت للقائل، وإقامة الحجة عليه.

وقد روي عن أمير المؤمنين عليه السلام؛ وابن عباس، ويحيى بن يعمر، ومجاهد، ومسلم ابن صبيح، وأبي الضحى؛ ومروان، وأبي صالح، وجابر بن زيد أنهم قرءوا سالت بفتح السين والهمزة وإسكان التاء( بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ) بإسكان اللام وضم التاء الثانية؛ على أن الموءودة موصوفة بالسؤال، وبالقول( بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ) .

وروى القطعي عن سليمان الأعمش عن حفص عن عاصم: قُتِلَتْ بضم التاء الثانية، وفي سُئِلَتْ مثل قراءة الجمهور بضم السين.

وروي عن أبي جعفر المدني: قُتِلَتْ بالتشديد وإسكان التاء الثانية.

وروي عن بعضهم:( وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ ) بفتح الميم والواو.

فأما من قرأ سألت بفتح السين؛ فيمكن فيه الوجهان اللذان ذكرناهما؛ من أن الله تعالى أكملها في تلك الحال، وأقدرها على النطق.

____________________

(١) حاشية الأصل: (نسخة س: (لم)، بغير واو).

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): (استحل) بالبناء للمجهول.

(٣) م: (كانوا).

٢٧٩

والوجه الآخر أن يكون معنى سألت أي سئل لها وطولب بحقها وانتصف لها من ظالمها؛ فكأنها هي السائلة تجوزا واتساعا. ومن قرأ بفتح السين من سألت ويضم التاء الثانية من قُتِلَتْ فعلى أنها هي المخاطبة بذلك.

ويجوز على هذا الوجه أيضا قُتِلَتْ بإسكان التاء الأخيرة كقراءة الجماعة؛ لأنه إخبار عنها، كما يقال: سأل زيد: بأي ذنب ضرب؛ وبأي ذنب ضربت. ويقوّي هذه القراءة في سألت ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله من قوله: (يجيء المقتول ظلما يوم القيامة وأوداجه تشخب دما، اللون لون الدم، والريح ريح المسك، متعلقا بقاتله يقول: يارب سل هذا فيم قتلني)

فأما القراءة المأثورة عن حفص عن عاصم في ضم التاء الأخيرة من قُتِلَتْ مع ضم السين سُئِلَتْ فمعناها( وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ ) : ما تبغي؟ فقالت:( بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ) فأضمر قولها. والعرب قد تضمر مثل هذا لدلالة الخطاب عليه، وارتفاع الإشكال عنه؛ مثل قوله تعالى:( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا ) ؛ أي ويقولان ذلك؛ ونظائره في القرآن كثيرة(١) جدا.

فأما قراءة من قرأ قُتِلَتْ بالتشديد فالمراد به تكرار الفعل بالموءودة هاهنا، وإن كان لفظها لفظ واحدة فالمراد به الجنس، وإرادة التكرار جائزة.

فأما من قرأ المودة بفتح الميم والواو، فعلى أن يكون الرحم والقرابة، وأنه يسأل قاطعها عن سبب قطعها وتضييمها، قال الله تعالى:( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ ) ؛ [محمد: ٢٢].

فأما الموءودة فهي المقتولة صغيرة، وكانت العرب في الجاهلية تئد البنات بأن يدفنوهنّ أحياء، وهو قوله تعالى:( أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ ) ؛ [النحل: ٥٩]؛ وقوله تعالى:( قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ ) ؛ [الأنعام: ١٤٠].

ويقال: إنهم كانوا يفعلون ذلك لأمرين:

____________________

(١) ف، وحاشية الأصل (من نسخة): (كبيرة).

٢٨٠