أمالي المرتضى الجزء ٢

أمالي المرتضى0%

أمالي المرتضى مؤلف:
تصنيف: مكتبة اللغة والأدب
الصفحات: 403

أمالي المرتضى

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشريف أبى القاسم على بن الطاهر أبى أحمد الحسين
تصنيف: الصفحات: 403
المشاهدات: 61817
تحميل: 8740


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 403 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 61817 / تحميل: 8740
الحجم الحجم الحجم
أمالي المرتضى

أمالي المرتضى الجزء 2

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

لم تر أرضا ولم تسمع بساكنها

إلاّ بها من نوادي وقعه أثر(١)

وليس فيه إذا استنظرته عجل

وليس فيه إذا ياسرته عسر

فإن يصبك عدوّ في مناوأة

يوما، فقد كنت تستعلي وتنتصر

من ليس في خيره منّ يكدّره

على الصّديق، ولا في صفوه كدر

أخو شروب، ومكساب إذا عدموا

وفي المخافة منه الجدّ والحذر(٢)

مردى حروب، ونور يستضاء به

كما أضاء سواد الظّلمة القمر(٣)

مهفهف أهضم الكشحين منخرق

عنه القميص لسير اللّيل محتقر(٤)

طاوي المصير على العزّاء منجرد

بالقوم ليلة لا ماء ولا شجر(٥)

لا يصعب الأمر إلاّ ريث يركبه

وكلّ أمر سوى الفحشاء يأتمر

معنى (لا يصعب الأمر) أي لا يجده صعبا -

لا يتأرّى لما في القدر يرقبه

ولا يعضّ على شرسوفه الصّفر(٦)

____________________

(١) نوادي كل شيء: أوله

(٢) شرب: جمع شرب؛ وهو جمع شارب؛ كصحب وصاحب، ومكاب: اسم مبالغة من كاسب، وفي حاشية الأصل: (نسخة ص: أخو حروب).

(٣) المردى في الأصل: حجر يرمى؛ والمعنى:

أنه شجاع يقذف في الحروب ويرجم فيها؛ وفي حاشية الأصل (من نسخة):

مردى حروب شهاب يستضاء به

كما أضاء سواد الطّخية القمر

والطخية، بالفتح وبضم: الطلمة.

(٤) المهفهف: الخميص البطن الدقيق الخصر. والأهضم: المنضم الجنبين. والكشح: ما بين الخاصرة إلى الضلع من الخلف؛ وهو مما تمدح به العرب. ويقال: رجل منخرق السربال؛ إذا طال سفره فشققت ثيابه؛ وهو كناية عن الجلادة وتحمل المشقات.

(٥) المصير: جمع مصران، والعزاء: الشدة والجهد؛ والمنجرد: المشمر نشاطا، ومن نسخة بحاشية الأصل: (منصلت). وقوله: (ليلة لا ماء ولا شجر)، أي يرعى. وفي الخزانة بعد هذا البيت:

لا يهتك السّتر عن أنثى يطالعها

ولا يشدّ إلى جاراته النّظر

(٦) لا يتأرى: لا يتحبس ويتلبث؛ يقال: تأرى بالمكان إذا أقام فيه. الشرسوف: طرف الضلع والصفر - فيما يزعم العرب: حية تكون في البطن إذا جاع الإنسان عضته؛ وقد كذبه النبي عليه السلام بقوله: (لا عدوى ولا هامة ولا صفر).

٢١

لا يغمز السّاق من أين ولا وصب

ولا يزال أمام القوم يقتفر(١)

لا يأمن النّاس ممساه ومصبحه

في كلّ فجّ، وإن لم يغز ينتظر(٢)

تكفيه حزّة فلذ إن ألمّ بها

من الشّواء ويروي شربه الغمر(٣)

لا تأمن البازل الكوماء عدوته(٤)

ولا الأمون إذا ما اخروّط السّفر(٥)

كأنّه بعد صدق الناس أنفسهم

باليأس تلمع من قدّامه البشر(٦)

قال المبرّد" لا نعلم بيتا في يمن النقيبة وبركة الطلعة أبرع من هذا البيت" -

لا يعجل القوم أن تغلي مراجلهم

ويدلج اللّيل حتى يفسح البصر(٧) (٨)

عشنا به حقبة حيّا ففارقنا(٨)

كذلك الرّمح ذو النّصلين ينكسر(٩)

أصبت في حرم منّا أخا ثقة

هند بن أسماء، لا يهنى لك الظّفر(١٠) !

لو لم تخنه نفيل وهي خائنة

لصبّح القوم ورد ماله صدر(١١)

____________________

(١) يصف جلده وتحمله للمشاق، والأين: الإعياء، والوصب: الوجع، والاقتفاء: تتبع الآثار.

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): (من كل أوب).

(٣) الحزة: قطعة من اللحم قطعت طولا؛ والفلذ: كبد البعير والجمع أفلاذ. وألم بها: أصابها. والغمر: قدح صغير لا يروي.

(٤) حاشية الأصل: (نسخة ص: (ضربته).

(٥) البازل: البعير الّذي فطر نابه بدخوله في السنة التاسعة، ويقال للناقة أيضا. والكوماء: الناقة العظيمة السنام. والعدوة: التعدي. والأمون:

الناقة الموثقة الخلق، واخروط: امتد.

(٦) البشر: جمع بشير، وفي حاشية الأصل: (أي إذا يئس الناس من أمورهم ووطنوا نفوسهم على اليأس فالبشائر تلمع من قدامه).

(٧) حتى يفسح البصر، أي يجد متسعا من الصبح؛ وفي حاشية الأصل: (أي هو رابط الجأش عند الفزع، لا يستخفه الفزع فيجعل أصحابه عن الإطباخ).

(٨ - ٨) حاشية الأصل (من نسخة):

* عشنا بذلك دهرا ثم ودّعنا*

(٩) النصلان هما: السنان - وهي الحديدة العليا من الرمح - والزج، وهو الحديدة السفلى: ويقال:

هما الزجان أيضا؛ وهو مثل. وفي حاشية الأصل: (رواية الأصمعي بعد قوله (ينكسر) :

فإن جزعنا فقد هدّت مصابتنا

وإن صبرنا فإنا معشر صبر

والمصابة: المصيبة، والصبر: جمع صبور، مبالغة صابر).

(١٠) حاشية الأصل: (هند بن أسماء: من قبيلة نفيل، قاتل المنتشر)، وأراد بالحرم ذا الخلصة.

(١١) صبحه: سقاه الصبوح؛ وهو الشرب بالغداة، أراد: أنه كان يقتلهم.

٢٢

وأقبل(١) الخيل من تثليث مصغية

وضمّ أعينها عوران أو حضر(٢)

إمّا سلكت سبيلا كنت سالكها

فاذهب فلا يبعدنك الله منتشر

قال رحمه الله: وقد رويت هذه القصيدة للدّعجاء أخت المنتشر، وقيل لليلى أخته، ولعل الشبهة الواقعة في نسبتهما إلى ليلى الأخيلية من هاهنا والصحيح، ما ذكرناه.

***

أخبرنا أبو الحسن عليّ بن محمد الكاتب قال أخبرنا ابن دريد قال أخبرنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال: وفد الأخطل على معاوية فقال: إني قد امتدحتك بأبيات فاسمعها، فقال: إن كنت شبّهتني بالحية أو الأسد أو الصّقر فلا حاجة لي فيها؛ وإن كنت قلت في كما قالت الخنساء(٣) :

وما بلغت كفّ امرئ متناول(٤)

به المجد إلاّ حيث ما نلت أطول(٥)

وما بلغ المهدون في القول مدحة

وإن صدقوا إلاّ الّذي فيك أفضل

فهات، فقال الأخطل: والله لقد أحسنت وقلت بيتين؛ ما هما بدون ما سمعته، وأنشد:

إذا متّ مات العزّ(٦) وانقطع الغنى

فلم يبق إلاّ من قليل مصرّد(٧)

____________________

(١) حاشية الأصل: (قبل، بمعنى أقبل، ويعدّى بالألف، تقول: أقبلته أنا جعلته مقبلا، وأقبلته الشيء أي جعلته يلي قبالته؛ يقال: أقبلت الرماح نحو القوم، وأقبلت الإبل أفواه الوادي).

(٢) عوران وحضر: موضعان. ف: (خوان)، د، م: (رغوان). وهو يوافق ما في الخزانة، وفي حاشية الأصل (من نسخة): (روعان)، وفيها أيضا: (في نسخة ديوانه: رعوان، جوان، خوان)، هذه كلها مواضع).

(٣) ديوانها: ٤٨١.

(٤) م: (متطاول)

(٥) رواية اللسان (طول):

* من المجد إلاّ والّذي نلت أطول*

(٦) ف: (العرف).

(٧) مصرد: مقلل، وفي حاشية الأصل: (أي لم يبق الغنى إلا من قبل عطاء قليل).

٢٣

وردّت أكفّ الرّاغبين وأمسكوا

من الدّين والدّنيا بخلف مجدّد(١)

فأحسن صلته.

وأخبرنا المرزباني قال أخبرنا أبو عبد الله إبراهيم بن محمد النحوي قال أخبرنا أحمد بن يحيى النحوي أن ابن الأعرابي أنشدهم:

مررنا عليه وهو يكعم كلبه

دع الكلب ينبح؛ إنما الكلب نابح

قوله (يكعم كلبه) - أي يشدّ فاه خوفا أن ينبح فيدل عليه.

وقال آخر:

وتكعم كلب الحي من خشية القرى

ونارك كالعذراء من دونها ستر(٢)

قال: وقد قال الأخطل:

قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم

قالوا لأمّهم بولي على النار

قال أبو عبد الله: وسمعت محمد بن يزيد الأزدي يقول: هذا من أهجى ما هجى به جرير، لأنه جعل نارهم تطفئها البولة، وجعلهم يأمرون أمهم بالبول استخفافا بها.

____________________

(١) حاشية الأصل: (منقطع اللبن، من قولهم: ناقة جداء؛ يقال: ناقة مجددة الأخلاف إذا ضربها الصرار وقطعها، وتجدد ضرع الناقة ذهب لبنه). وفيها أيضا: (لما احتضر عبد الملك بن مروان غشي عليه، ثم أفاق، فسمع امرأة تقول: مات أمير المؤمنين: فتمثل بهذين البيتين).

(٢) اللسان (كعم) من غير عزو.

٢٤

مجلس آخر

[٥١]

تأويل آية :( رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ )

إن سأل سائل فقال: ما تأويل قوله تعالى:( رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ) ؛ [آل عمران: ٨].

أو ليس ظاهر الآية يقتضي أنه تعالى يجوز أن يزيغ القلوب عن الإيمان حتى تصحّ مسألته تعالى ألاّ يزيغها، ويكون هذا الدعاء مفيدا؟

الجواب، قلنا في هذه الآية وجوه:

أوّلها أن يكون المراد بالآية: ربنا لا تشدّد علينا المحنة في التكليف، ولا تشق علينا فيه، فيفضي بنا ذلك إلى زيغ القلوب منّا بعد الهداية؛ وليس يمتنع أن يضيفوا ما يقع من زيغ قلوبهم عند تشديده تعالى عليهم المحنة إليه؛ كما قال عز وجل في السورة: إنّها(١) زادتهم رجسا إلى رجسهم، وكما قال مخبرا عن نوح عليه السلام:( فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاّ فِراراً ) ؛ [نوح: ٦].

فإن قيل: كيف يشدّد عليهم في المحنة؟

قلنا: بأن يقوّي شهواتهم، لما قبحه في عقولهم، ونفورهم(٢) عن الواجب عليهم، فيكون التكليف عليهم بذلك شاقا، والثواب المستحقّ عليهم عظيما متضاعفا وإنما يحسن أن يجعله شاقا تعريضا لهذه المنزلة.

وثانيها أن يكون ذلك دعاء بالتثبيت لهم على الهداية، وإمدادهم بالألطاف التي معها يستمرّون على الإيمان.

فإن قيل: وكيف يكون مزيغا لقلوبهم بألاّ يفعل اللّطف؟

____________________

(١) الضمير يعود إلى المحنة؛ والآية في سورة التوبة: ١٢٥:( وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ ) .

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): (ونقارهم).

٢٥

قلنا: من حيث كان المعلوم أنه متى قطع إمدادهم بألطافه وتوفيقاته زاغوا وانصرفوا عن الإيمان. ويجري هذا مجرى قولهم: اللهم لا تسلّط علينا من لا يرحمنا؛ معناه لا تخلّ بيننا وبين من لا يرحمنا فيتسلّط علينا؛ ومثله قول الشاعر:

أتاني ورحلي بالمدينة وقعة

لآل تميم أقعدت كلّ قائم

أراد: قعد لها كل قائم؛ فكأنهم قالوا: لا تخلّ بيننا وبين نفوسنا وتمنعنا ألطافك، فنزيغ ونضلّ.

وثالثها ما أجاب به أبو عليّ الجبائي محمد بن عبد الوهاب، لأنه قال: المراد بالآية ربّنا لا تزغ قلوبنا عن ثوابك ورحمتك. ومعنى هذا السؤال أنهم سألوا الله تعالى أن يلطف لهم في فعل الإيمان؛ حتى يقيموا عليه ولا يتركوه في مستقبل عمرهم، فيستحقوا بترك الإيمان أن تزيغ قلوبهم عن الثواب، وأن يفعل بهم بدلا منه العقاب.

فإن قال قائل: فما هذا الثواب الّذي هو في قلوب المؤمنين؛ حتى زعمتم أنّهم سألوا الله تعالى ألاّ يزيغ قلوبهم عنه؟ وأجاب بأنّ من الثواب الّذي في قلوب المؤمنين ما ذكره الله تعالى من الشرح والسّعة بقوله تعالى:( فَمَنْ يُرِدِ الله أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ ) ؛ [الأنعام: ١٢٥]؛ وقوله تعالى لرسوله عليه وآله السلام:( أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ) [الشرح: ١] وذكر أن ضدّ هذا الشرح هو الضّيق والحرج اللّذان يفعلان بالكفار عقوبة، قال: ومن ذلك أيضا التطهير الّذي يفعله في قلوب المؤمنين، وهو الّذي منعه الكافرين، فقال تعالى:( أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ الله أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ) ؛ [المائدة: ٤١].

قال: ومن ذلك أيضا كتابته الإيمان في قلوب المؤمنين، كما قال الله تعالى:( أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الآيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ) [المجادلة: ٢٢] وضدّ هذه الكتابة هي سمات الكفر التي في قلوب الكافرين؛ فكأنهم سألوا الله تعالى ألاّ يزيغ قلوبهم عن هذا الثواب إلى ضده من العقاب.

٢٦

ورابعها أن تكون الآية محمولة على الدعاء بألاّ يزيغ القلوب عن اليقين والإيمان. ولا يقتضي ذلك أنّه تعالى سئل ما كان لا يجب أن يفعله، وما لولا المسألة لجاز فعله؛ لأنّه غير ممتنع أن يدعوه على سبيل الانقطاع إليه، والافتقار إلى ما عنده بأن يفعل تعالى ما نعلم أنه لا بدّ من أن يفعله، وبألاّ يفعل ما نعلم أنه واجب ألاّ يفعله؛ إذا تعلق بذلك ضرب من المصلحة؛ كما قال تعالى حاكيا عن إبراهيم عليه السلام:( وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ) ؛ [الشعراء: ٨٧] وكما قال في تعليمنا ما ندعو به:( قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ ) ؛ [الأنبياء: ١١٢] وكقوله تعالى:( رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ ) ؛ [البقرة: ٢٨٦]، على أحد الأجوبة:

وكل ما ذكرناه واضح بين بحمد الله.

***

قال سيدنا أدام الله تمكينه: وإني لأستحسن قول الراعي في وصف الأثافي والرماد، فقد(١) طبّق وصفه المفصل، مع جزالة الكلام وقوته واستوائه واطراده:

وأورق مذ عهد ابن عفّان حوله

حواضن ألاّف على غير مشرب

وراد الأعالي أقبلت بنحورها

على راشح ذي شامة متقوّب

كأنّ بقايا لونه في متونها

بقايا هناء في قلائص مجرب

الأورق: الرّماد، جعل الأثافي له كالحواضن؛ لاحتضانها له واستدارتها حوله.

وأراد بوراد الأعالي أن ألوانها تضرب إلى الحمرة، وخصّ الأعالي؛ لأنها مواضع القدر فلا تكاد تسودّ. والراشح: هو الراضع؛ وإنما شبّه الرماد بينهن بفصيل بين أظآر.

والمتقوّب: الّذي قد انحسر أعلاه.

وشبّه ما سوّدت النار منهن بأثر قطران على قلائص جربى. والمجرب: الّذي قد جربت إبله.

ونظير هذا المعنى بعينه، أعني تشبيه تسويد النار بالهناء قول ذي الرّمة:

____________________

(١) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (فلقد).

٢٧

عفا الزّرق من أطلال ميّة فالدّحل

فأجماد حوضي حيث زاحمها الحبل(١)

سوى أن يرى سوداء من غير خلقة

تخاطأها، وارتثّ جاراتها النّقل(٢)

من الرّضمات البيض غيّر لونها

بنات فراض المرخ واليابس الجزل

كجرباء دسّت بالهناء فأفصيت

بأرض خلاء أن تقاربها الإبل

قوله: (سوداء من غير خلقة) يعني أثفيّة؛ لأن السواد ليس بخلقة بها؛ وإنما سوّدتها النار.

وقوله: تخاطأها النقل، أي تجاوزها فلم تحمل من مكان إلى مكان؛ بل بقيت منفردة.

وارتثّ جاراتها: يعني بجاراتها؛ أي نقلن عنها الأثافي اللواتي كنّ معها. والمرتثّ:

هو المنقول من مكان إلى مكان؛ وأصل ذلك في الجريح والعليل؛ يقال ارتثّ الرجل ارتثاثا إذا حمل من المعركة وبه رمق. قال النضر بن شميل: معنى ارتثّ صرع. وقال أبو زيد:

هو مأخوذ من قولهم ارتثثنا رثّة القوم إذا جمعوا رديء متاعهم بعد أن يتحملوا من موضعهم؛ وكلا المعنيين يليق ببيت ذي الرّمة؛ لأنه قد يجوز أن يريد(٣) بقوله: (وارتثّ جاراتها)، أي نقلن عنها، ويجوز أن يريد(٣) : صرعن وبقيت ثابتة قائمة.

والرّضات: حجارة بيض بعضها على بعض. والفراض: جمع فرض، وهو الحزّ يكون في الزند وعنى ببنات فراض المرخ شرر النار الخارجة من ذلك الفرض. والمرخ: شجر تتخذ منه الرندة. ومن أمثالهم: (في كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار(٤) )، وهذا المثل يضرب للرجل الكريم الّذي يفضل على القوم ويزيد عليهم؛ فكأن المعنى: كلّ القوم كرام وأكرمهم فلان.

____________________

(١) ديوانه: ٤٥٤. الزرق: أكثبة بالدهناء؛ والدحل وحوضي: موضعان؛ والأجماد: جمع جمد؛ وهي الأرض الغليظة في صلابة الجبل، ويعني بالجبل حبل الرمل، وهو رمل مستطيل.

(٢) من نسخة بحاشية الأصل: (تخطأها).

(٣ - ٣) ساقط من م.

(٤) المثل في مجمع الأمثال للميداني (٢: ١٨)؛ قال: استمجد المرخ والعفار؛ أي استكثرا وأخذا من النار ما هو حسبهما؛ شبها بمن يكثر العطاء طلبا للمجد لأنهما يسرعان الوري).

٢٨

ومعنى (كجرباء دسّت بالهناء) أنه شبه الأثفيّة المفردة بناقة جرباء قد أفردت وأبعدت عن الإبل حتى لا تجربها ولا تعديها. ومعنى دسّت بالهناء، طليت به.

وفي معنى قول الراعي: (وراد الأعالي) شبه من قول الشّماخ بن ضرار:

أقامت على ربعيهما جارتا صفا

كميتا الأعالي جونتا مصطلاهما(١)

يعني (بربعيهما) منزلي إلا مرأتين(٢) اللتين ذكرهما، ويعني (بجارتا صفا) الأثفيّتين؛ لأنهما مقطوعتان من الصّفا الّذي هو الصّخر. ويمكن في قوله: (جارتا صفا) وجه آخر هو أحسن من هذا؛ وهو أنّ الأثفيّتين توضعان قريبا من الجبل، لتكون حجارة الجبل ثالثة لهما، وممسكة للقدر معهما؛ ولهذا تقول العرب: رماه بثالثة الأثافي؛ أي بالصخرة أو الجبل، وشبه أعلاهما بلون الكميت؛ وهو لون الحجر نفسه؛ لأن النار لم تصل إليه فتسوده(٣) .

ومصطلاهما جون أي أسود؛ لأنّ النار قد سفعته وسوّدته.

وقال الراعي في وصف الأثافي أيضا:

أذاع بأعلاه، وأبقى شريده

ذرا مجنحات بينهنّ فروج

كأنّ بجزع الدّار لمّا تحمّلوا

سلائب ورقا بينهنّ خديج

أذاع بأعلاه، يعنى الرماد؛ لأن السافي(٤) يطيّر ظاهره وما علا منه.

وأبقى شريده، أي بقي(٥) لما شرد على السافي فلم يطر.

وذرا لجنحات يعني الأثافي. وذرا كل شيء: جانبه وما استذريت به منه. والمجنحات:

المسبلات منه.

____________________

(١) ديوانه ٨٦

(٢) في حاشيتي الأصل، ف: (منزلتي المرأتين).

(٣) حاشية الأصل: ويمكن في (جارتا صفا) وجه آخر؛ وهو أحسن من هذا؛ وهو أن الأثفيتين توضعان قريبا من الجبل، لتكون حجارة الجبل ثالثة الأثافي وممسكة للقدر معهما؛ ولهذا يقال: رماه بثالثه الأثافي؛ أي الصخرة أو الجبل).

(٤) السافي: الريح التي تسفي التراب.

(٥) حاشية الأصل (من نسخة): (يبقى).

٢٩

والسلائب: جمع سلوب؛ وهي الناقة التي قد سلبت ولدها بموت أو نحر؛ فقد عطفت على حوار آخر.

والخديج: الّذي قد سقط لغير تمام.

والورق: اللواتي ألوانهن كلون الرماد.

وفي معنى قول الراعي: (وأبقى شريده ذرا مجنحات) قول المخبّل السعدي:

وأرى لها دارا بأغدرة السيّ

دان لم يدرس لها رسم(١)

إلاّ رمادا هامدا دفعت

عنه الرّياح خوالد سحم(٢)

إلا هاهنا: بمعنى الواو، فكأنه قال: وأرى رمادا هامدا، ولولا أن (إلاّ) هاهنا بمعنى الواو لفسد الكلام ونقض آخره أوّله، لأنه يقول في آخر البيت: إنّ الخوالد السّحم دفعت عنه الرياح، فكيف يخبر بأنه قد درس، وإنما أراد أنّه باق ثابت، لأنّ الأثافي دفعت عنه الرياح فلم يستثنه، إذن هو من جملة ما لم يدرس، بل هو داخل في جملته.

وللراعي أيضا في الأثافي:

أنخن وهنّ أغفال عليها

فقد ترك الصّلاء بهنّ نارا

شبه الأثافي بنوق أنخن أغفالا، ليست عليهنّ سمة؛ ثم أخبر أنّ الوقود أثّر فيهن أثرا كالسّمة، والنار السمة، تقول العرب: ما نار بعيرك؟ أي، ما سمته؟ وفي أمثالهم: (نجارها نارها)، أي سمتها تدلّ على كرمها، يضرب ذلك للرجل ترى له ظاهرا حسنا يدلّ على باطن خبره.

____________________

(١) من قصيدة في المفضليات ١١٣ - ١١٨، مطلعها:

ذكر الرباب وذكرها سقم

فصبا وليس لمن صبا حلم

وأغدرة: جمع غدير. والسيدان: أرض لبني سعد؛ والرسم: الأثر بلا شخص؛ ودروسه: ذهابه؛ يريد: لم يذهب كله.

(٢) الخوالد: البواقي، عنى بها الأثافي. بسحم: من السحمة؛ وهو لون يضرب إلى السواد.

٣٠

وقال عدي بن الرّقاع العاملي:

إلاّ رواكد كلّهنّ قد اصطلى

حمراء أشعل أهلها إيقادها(١)

كانت رواحل للقدور فعرّيت

منهنّ، واستلب الزّمان رمادها

وقال الأسعر الجعفي:

إلاّ رواكد بينهنّ خصاصة

سفع المناكب، كلّهنّ قد اصطلى(٢)

وقال حميد بن ثور:

فتغيّرت إلاّ ملاعبها

ومعرّسا من جونة ظهر(٣)

عرش الثّقاب لها بدار مقامة

للحي بين نظائر وتر

الجونة: القدر: ويقال: قدر ظهر، وقدور ظهور، إذا كانت قديمة(٤) . وعرش، أي جعل مثل العريش، يعني الوقود. والثّقاب: ما أثقبت به النار من الوقود. والنظائر: هي الأثافي: والوتر: الفرد، وأراد أنها ثلاث.

وقال الكميت بن زيد:

ولن تحيّيك أظآر معطّفة

بالقاع، لا تمك فيها ولا ميل

ليست بعوذ، ولم تعطف على ربع

ولا يهيب بها ذو النيّة الإبل

يعني الأثافي، فشبّه عطفها على الرماد بنوق أظآر قد عطفن على فصيل. والتّمك:

انتصاب السنام. والميل: من صفة السّنام أيضا.

والعائذ من النّوق: التي يتبعها ولدها. والرّبع: الّذي نتج في أول الربيع. والإهابة:

الدعاء؛ أهاب بإبله إذا دعاها. وذو النية: الّذي قد نوى الرّحيل. الإبل: صاحب الإبل.

____________________

(١) الطرائف الأدبية ٨٧ مع اختلاف في الرواية.

(٢) البيت في أمالي القالي ١: ٤٥ غير منسوب، ونسبه في اللآلي: ١٨٩ للرخيم العبدي، وفي م نسب إلى مالك الجعفي، والبيت ليس في قصيدة الأسعر التي في أول الأصمعيات.

(٣) ديوانه: ٩٣. المعرس: مكان تعريس القوم في السفر في آخر الليل.

(٤) في اللسان: (وقدر ظهر: قديمة؛ كأنها تلقى وراء الظهر لقدمها)، واستشهد بالبيت.

٣١

وقال ذو الرّمة:

فلم يبق إلاّ أن ترى في محلّه

رمادا نحت عنه السيول جنادله(١)

كأنّ الحمام الورق في الدّار وقّعت(٢)

على حرق بين الظّئور جوازله

شبه الأثافي بالحمام الورق؛ وجعلها ظئورا لتعطّفها على الرماد؛ وشبه الرّماد بفرخ حرق قد سقط ريشه. والجوازل: الفراخ. واحدها جوزل.

وقال البعيث:

ألا حييّا الرّبع القواء وسلّما

ورسما كجثمان الحمامة أدهما

قيل إن الحمام هاهنا القطاة؛ وإنه شبّه ألوان الرسوم من الرّماد، وموقد نار، ودمنة، ومجرّ طنب، وما أشبه هذه الأشياء بألوان ريش قطاة.

ومثله لجرير:

كأنّ رسوم الدّار ريش حمامة

محاها البلى واستعجمت أن تكلّما(٣)

ولقد أحسن كلّ الإحسان كثيّر في قوله:

أمن ال قيلة بالدّخول رسوم

وبحومل طلل يلوح قديم(٤)

لعب الرّياح برسمه فأجدّه

جون عواكف في الرّماد جثوم

سفع الخدود كأنّهنّ وقد مضت

حجج عوائد بينهنّ سقيم

وقيل في قوله: (فأجدّه جون عواكف) يعني الأثافي، لأن الريح لما كشفت عنها، وظهرت صارت هي كأنها أجدّت الرّسم. ويحتمل وجه آخر، وهو أن يكون معنى (أجدّت) أنّها حمت الرماد الّذي أحاطت به عن لعب الرّياح، فبقى بحاله يستدلّ به المترسم(٥) ،

____________________

(١) ديوانه: ٤٦٥. نحت: صرفت؛ وفي الديوان: (نفت)، والجنادل: الحجارة.

(٢) وقعت: ربضت، وفي الديوان: (جثمت).

(٣) ديوانه: ٥٤٣

(٤) ديوانه ١: ٢٥٣

(٥) حاشية الأصل (من نسخة): (المتوسم).

٣٢

فكأن الرياح درست الربع ومحته إلاّ ما أجدّته هذه الأثافي من الرماد، ومنعت الريح منه، ويجري ذلك مجرى قول المخبّل:

إلاّ رمادا هامدا

البيت ...

وقال المرار الفقعسيّ في الأثافي:

أثر الوقود على جوانبها

بخدودهنّ كأنّه لطم

ويقال إن أبا تمام الطائي أخذ ذلك في قوله:

قفوا نعط المنازل من عيون

لها في الشّوق أحساء غزار(١)

عفت آياتهنّ، وأي ربع

يكون له على الزّمن الخيار!

أثاف كالخدود لطمن حزنا

ونؤي مثل ما انفصم السّوار

وقد عاب عليه قوله: (لطمن حزنا) بعض من لا معرفة له، وقال: لا فائدة في قوله (حزنا)، ولذلك فائدة؛ وذلك أنّ لطم الحزن يكون أوجع وأبلغ، فتأثيره أظهر وأبين؛ وقد يكون اللطم لغير الحزن؛ فأما قوله.

* ونؤي مثل ما انفصم السوار*

فمأخوذ من قول الشاعر:

نؤي كما نقص الهلال محاقه(٢)

أو مثلما فصم السّوار المعصم

وقد شبّه الناس النّؤي بالسوار والخلخال كثيرا، وبغير ذلك، قال كثيّر:

عرفت لسعدى بعد عشرين حجّة

بها درس نؤي في المحلّة منحن(٣)

قديم كوقف العاج ثبّت حوله

مغارز أوتاد برضم موضّن

____________________

(١) ديوانه: ١٤٠؛ والرواية فيه: (قفا نعط). وأحساء: جمع حسي؛ وهو الماء تحت الرمل، ينبط بالأيدي.

(٢) المحاق، مثلثة: آخر الشهر.

(٣) ديوانه: ١: ٥٨.

٣٣

 - الوقف: السوار من الذّبل ومن العاج. والرّضم: صخور عظام. والموضّن: الّذي يعضه فوق بعض.

وقال بشار:

ونؤي كخلخال الفتاة، وصائم

أشجّ على ريب الزمان رقوب(١)

الصائم الأشج: يعني الوتد؛ وإنما وصفه بأنه صائم لقيامه وثباته، وجعله رقوبا لانفراده، والمرأة الرّقوب والشيخ الرّقوب: الّذي لا يعيش له ولد.

ومن مستحسن ما وصف به النؤي قول أبي تمام:

والنّؤي أهمد شطره فكأنّه

تحت الحوادث حاجب مقرون(٢)

وقال المتنبي في ذلك:

قف على الدّمنتين بالدّوّ من ريّ

اكخال في وجنة جنب خال(٣)

بطول كأنّهنّ نجوم

في عراص كأنّهنّ ليال

ونؤي كأنهنّ عليه

نّ خدام خرس بسوق خدال

الخدام: جمع خدمة(٤) ؛ وهي الخلخال، وجعلها خرسا لأنها غير قلقة، وشبه ما أحدق به النؤي من الأرض وامتلائها بامتلاء الخلخال، من الساق الخدلة، وهي الممتلئة.

____________________

(١) ديوانه: ١: ١٨١.

(٢) ديوانه: ٣٢٨.

(٣) ديوانه: ٣: ١٩٢. الدو: الأرض الواسعة المستوية القفرة؛ وريا: اسم امرأة؛ والمراد:

من ريا، والخال: شامة تخالف لون الوجه. والشامة: تكون في الوجه والجسم.

(٤) الخدمة في الأصل: سير يشد في رسغ البعير، وبه سمي الخلخال؛ لأنه ربما كان من سيور، يركب فيه الذهب والفضة.

٣٤

مجلس آخر

[٥٢]

تأويل آية :( إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِالله أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ. قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ. قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ. قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ الله لَمُهْتَدُونَ. قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ ) ، [البقرة: ٦٧ - ٧٠].

فقال: ما تأويل هذه الآيات؟ وهل البقرة التي نعتت بجميع النعوت هي البقرة المرادة باللفظ الأول والتكليف واحد، أو المراد مختلف والتكليف متغاير؟

الجواب، قلنا: أهل العلم في تأويل هذه الآية مختلفون بحسب اختلاف أصولهم؛ فمن جوّز تأخير البيان عن وقت الخطاب يذهب إلى أن التكليف واحد، وأن الأوصاف المتأخرة هي للبقرة المتقدّمة؛ وإنما تأخر البيان، ولما سأل القوم عن الصفات ورد البيان شيئا بعد شيء.

ومن لم يجوّز تأخير البيان يقول: إن التكليف متغاير؛ وإنهم لما قيل لهم: اذبحوا بقرة لم يكن المراد منهم إلا ذبح أي بقرة شاءوا، من غير تعيين بصفة، ولو أنهم ذبحوا أي بقرة اتفقت لهم كانوا قد امتثلوا الأمر، فلمّا لم يفعلوا كلّفوا ذبح بقرة لا فارض ولا بكر، ولو ذبحوا ما اختصّ بهذه الصفة من أي لون كان لأجزأ عنهم، فلمّا لم يفعلوا كلّفوا ذبح بقرة صفراء، فلما لم يفعلوا كلّفوا ذبح ما اختص بالصفات الأخيرة.

٣٥

ثم اختلف هؤلاء من وجه آخر، فمنهم من قال في التكليف الأخير: إنه يجب أن يكون مستوفيا لكل صفة تقدّمت، حتى تكون البقرة مع أنها غير ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث، مسلّمة لا شية فيها،(١) صفراء فاقع لونها، ولا فارض ولا بكر(١) . ومنهم من قال: إنما يجب أن تكون بالصفة الأخيرة فقط، دون ما تقدم.

وظاهر الكتاب بالقول المبني على جواز تأخير البيان أشبه، وذلك أنه تعالى لما كلّفهم ذبح بقرة قالوا للرسول:( ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ ) ، فلا يخلو قولهم: ما هِيَ من أين يكون كناية عن البقرة المتقدّم ذكرها، أو عن التي أمروا بها ثانيا؛ على قول من يدّعي ذلك.

وليس يجوز أن يكون(٢) سألوا عن صفة غير التي تقدّم ذكرها، لأن الظاهر من قولهم ما هِيَ بعد قوله لهم: اذبحوا بقرة يقتضي أن يكون السؤال عن صفة البقرة المأمور بذبحها؛ ولأنه لا علم لهم بتكليف ذبح بقرة أخرى فيستفهموا عنها؛ وإذا صحّ أن السؤال إنما كان عن صفة البقرة المنكّرة التي أمروا في الابتداء يذبحها فليس يخلو قوله:( إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ ) من أن يكون كناية عن البقرة الأولى، أو عن غيرها، وليس يجوز أن يكون ذلك كناية عن بقرة ثانية، لأن ظاهر قوله: إنّها بقرة من صفتها كذا بعد قولهم: ما هِيَ يقتضي أن يكون كناية متعلقة بما تضمنه سؤالهم، ولأنّ الأمر لو لم يكن على ما ذكرناه لم يكن ذلك جوابا لهم، بل كان يجب أن يكونوا سألوه عن شيء فأجابهم عن غيره، وهذا لا يليق بالنبي عليه السلام.

على أنه لما أراد أن يكلّفهم تكليفا ثانيا عند تفريطهم في الأول على ما يدعيه من ذهب إلى هذا المذهب قد كان يجب أن يجيبهم عن سؤالهم، وينكر عليهم الاستفهام في غير موضعه، وتفريطهم فيما أمروا به؛ مما لا حاجة بهم إلى الاستفهام عنه، فيقول في جواب قولهم: ما هِيَ:

____________________

(١ - ١) حاشية الأصل: (ش: صفراء فاقعا لونها، ولا فارضا ولا بكرا).

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): أن يكونوا).

٣٦

إنما كلّفتم أي بقرة شئتم، وما يستحق اسم بقرة، وقد فرّطتم في ترك الامتثال، وأخطأتم في الاستفهام، مع وضوح الكلام، إلاّ أنكم قد كلّفتم ثانيا كذا وكذا، لأن هذا مما يجب عليه بيانه؛ لإزالة الشك والإبهام واللبس؛ فلما لم يفعل ذلك، وأجاب بالجواب الّذي ظاهره يقتضي التعلّق بالسؤال علم أن الأمر على ما ذكرناه. وهب أنه لم يفعل ذلك في أول سؤال، كيف لم يفعله مع تكرار الأسئلة والاستفهامات التي لم تقع على هذا المذهب بموقعها؟ ومع تكرر المعصية والتفريط كيف يستحسن أن يكون جميع أجوبته غير متعلّقة بسؤالاتهم؟ لأنهم يسألونه عن صفة شيء فيجيبهم بصفة غيره من غير بيان؛ بل على أقوى الوجوه الموجبة لتعلّق الجواب بالسؤال؛ لأنّ قول القائل في جواب من سأله ما كذا وكذا: إنه بالصفة الفلانية صريح في أن الهاء كناية عمّا وقع السؤال عنه؛ هذا مع قولهم: إن البقر تشابه علينا، لأنهم لم يقولوا ذلك إلا وقد اعتقدوا أن خطابهم مجمل غير مبين، فلم لم يقل: أي تشابه عليكم إذ إنما أمرتم في الابتداء بأي بقرة كانت، وفي الثاني بما اختص باللون المخصوص من أي البقر كان؟

فإن قيل: كيف يجوز أن يأمرهم بذبح بقرة لها جميع الصفات المذكورة إلى آخر الكلام ولا يبين ذلك لهم، وهل هذا إلا تكليف ما لا يطاق!

قلنا: لم يرد منهم أن يذبحوا البقرة في الثاني من حال الخطاب؛ ولو كانت حال الفعل حاضرة لما جاز أن يتأخر البيان، لأن تأخيره عن وقت الحاجة هو القبيح الّذي لا شبهة في قبحه، وإنما أراد أن يذبحوها في المستقبل، فلو لم يستفهموا ويطلبوا البيان لكان قد ورد عليهم عند الحاجة إليه.

فإن قيل: إذا كان الخطاب غير متضمّن لصفة ما أمروا بذبحه، فوجوده كعدمه، وهذا يخرجه من باب الفائدة، ويوجب كونه عبثا!

قلنا: ليس يجب ما ظننتم؛ لأن القول وإن كان لم يفد صفة البقرة بعينها فقد أفاد تكليف ذبح بقرة على سبيل الجملة؛ ولو لم يكن ذلك معلوما قبل هذا الخطاب، لصار مفيدا من حيث ذكرنا،

٣٧

وخرج من أن يكون وجوده كعدمه. وفوائد الكلام لا يجب أن يدخلها الاقتراح، وليس يخرج الخطاب من تعلّقه ببعض الفوائد كونه غير متعلق بغيرها، وبما هو زيادة عليها.

فإن قيل: ظاهر قوله تعالى:( فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ ) يدلّ على استبطائهم وذمّهم على التقصير في امتثال الأمر!

قلنا: ليس ذلك صريح ذمّ، لأن كادُوا للمقاربة، وقد يجوز أن يكون التكليف صعب عليهم لغلاء ثمن البقرة التي تكاملت لها تلك الصفات، فقد روي أنهم ابتاعوها بمل ء جلدها ذهبا.

على أن الذمّ يقتضي ظاهره أن يصرف إلى تقصيرهم أو تأخيرهم امتثال الأمر بعد البيان التام، لأن قوله تعالى:( وَما كادُوا يَفْعَلُونَ ) إنما ورد بعد تقدّم البيان التامّ المتكرر، ولا يقتضي ذمّهم على ترك المبادرة في الأول إلى ذبح بقرة، فليس فيه دلالة على ما يخالف ما ذكرناه.

فإن قيل: لو ثبت تقديرا أن التكليف في البقرة متغاير، أي القولين اللّذين حكيتموهما عن أهل هذا المذهب أصحّ وأشبه؟ قلنا: قول من ذهب إلى أنّ البقرة إنما يجب أن تكون بالصفة الأخيرة فقط، لأن الظاهر به أشبه؛ من حيث إذا ثبت تغاير التكليف: وليس في قوله:( إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرْضَ ) إلى آخر الأوصاف ذكر لما تقدم من الصفات، وهذا التكليف غير الأول، فالواجب اعتبار ما تضمنه لفظه والاقتصار عليه.

فأما (الفارض) فهي المسنّة، وقيل: هي العظيمة الضخمة؛ يقال: غرب فارض، أي ضخم، والغرب الدلو؛ ويقال أيضا: لحية فارضة؛ إذا كانت عظيمة؛ والأشبه بالكلام أن يكون المراد المسنّة.

فأما (البكر) فهي الصغيرة التي لم تلد، فكأنه تعالى قال: تكون غير مسنّة، ولا صغيرة.

٣٨

والعوان: دون المسنّة وفوق الصغيرة؛ وهي النّصف التي ولدت بطنا أو بطنين؛ يقال:

حرب عوان إذا لم تكن أول حرب وكانت ثانية؛ وإنما جاز أن يقول: بَيْنَ ذلِكَ (وبين) لا يكون إلا مع اثنين أو أكثر؛ لأن لفظة (ذلك) تنوب عن الجمل، تقول: ظننت زيدا قائما، ويقول القائل: قد ظننت ذلك.

ومعنى( فاقِعٌ لَوْنُها ) ، أي خالصة الصفرة، وقيل: إن كل ناصع اللون؛ بياضا كان أو غيره فهو فاقع. وقيل: إنه أراد ب (صفراء) هاهنا سوداء.

ومعنى قوله تعالى:( لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرْضَ ) أي تكون صعبة لا يذللها العمل في إثارة الأرض وسقي الزرع.

ومعنى( مُسَلَّمَةٌ ) ، مفعلة، من السلامة من العيوب، وقال قوم: مسلّمة من الشّية، أي لا شية فيها تخالف لونها.

وقيل: لا شِيَةَ فِيها، أي لا عيب فيها؛ وقيل: لا وضح، وقيل: لا لون يخالف لون جلدها، والله أعلم بما أراد، وإياه نسأل حسن التوفيق.

***

قال سيدنا أدام الله تمكينه: كنت أظن أن المتنبي قد سبق إلى معنى قوله في مرثية أخت سيف الدولة:

طوى الجزيرة حتّى جاءني خبر

فزعت فيه بأمالي إلى الكذب(١)

حتّى إذا لم يدع لي صدقه أملا

شرقت بالدّمع حتّى كاد يشرق بي

حتى رأيت هذا المعنى لمسلم بن الوليد الأنصاري، وللبحتري.

____________________

(١) ديوانه ١: ٨٧ - ٨٨. الجزيرة: ما كان من الموصل إلى الفرات؛ وكان الخبر بوفاتها ورد إليه من حلب.

٣٩

أما الّذي لمسلم فقوله في قصيدة يرثي بها سهل بن الصباح:

وقف العفاة عليك من متحيّر

وله الرّجاء، وذي غنى يسترجع

ومخادع السّمع النّعي ودونه

خطب ألمّ بصادق لا يخدع

وقال البحتري يرثي وصيفا التركي:

إذا جدّ ناعيه توهّمت أنه

يكرّر من أخباره قول مازح(١)

وكنت أظن المتنبي قد سبق إلى قوله:

يحلّ القنا يوم الطّعان بعقوتي

فأحرمه عرضي، وأطعمه جلدي(٢)

حتى رأيت هذا المعنى واللفظ بعينه لجهم بن شبل الكلابي من أهل اليمامة في قوله:

ثنى قومه عن حدرجان وقد حنا

إلى الموت دامي الصّفحتين كليم(٣)

أخو الحرب، أمّا جلده فمجرّح

كليم، وأما عرضه فسليم(٤)

وكنت أظنّ البحتري قد سبق إلى معنى قوله في الفتح بن خاقان:

حملت عليه السّيف، لا عزمك انثنى

ولا يدك ارتدّت، ولا حدّه نبا(٥)

حتى وجدت لشاعر متقدم:

طعنت ابن دهمان بنجران طعنة

شققت بها عنه مضاعفة السّرد

فلا الكفّ أوهت بي، ولا الرّمح خانني،

ولا الأدهم المنعوت حاد عن القصد

***

____________________

(١) ديوانه ١: ١٢١.

(٢) ديوانه ٢: ٦١. عقوتي؛ أي بقربي.

(٣) في حاشيتي الأصل، ت: (الحدرجان، بالكسر: القصير؛ قال ابن دريد في كتاب الاشتقاق:

حدرجان: اسم رجل قتله أمير المؤمنين صلوات الله عليه؛ وهو فعللان؛ من قولهم: حدرجت السوط وغيره؛ إذا فتلته فتلا شديدا، ويجوز أن يكون من مقلوب دحرج).

(٤) التبيان ٢: ٦١.

(٥) ديوانه ١: ٥٦.

٤٠