أمالي المرتضى الجزء ٢

أمالي المرتضى9%

أمالي المرتضى مؤلف:
تصنيف: مكتبة اللغة والأدب
الصفحات: 403

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 403 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 67168 / تحميل: 10087
الحجم الحجم الحجم
أمالي المرتضى

أمالي المرتضى الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

لم تر أرضا ولم تسمع بساكنها

إلاّ بها من نوادي وقعه أثر(١)

وليس فيه إذا استنظرته عجل

وليس فيه إذا ياسرته عسر

فإن يصبك عدوّ في مناوأة

يوما، فقد كنت تستعلي وتنتصر

من ليس في خيره منّ يكدّره

على الصّديق، ولا في صفوه كدر

أخو شروب، ومكساب إذا عدموا

وفي المخافة منه الجدّ والحذر(٢)

مردى حروب، ونور يستضاء به

كما أضاء سواد الظّلمة القمر(٣)

مهفهف أهضم الكشحين منخرق

عنه القميص لسير اللّيل محتقر(٤)

طاوي المصير على العزّاء منجرد

بالقوم ليلة لا ماء ولا شجر(٥)

لا يصعب الأمر إلاّ ريث يركبه

وكلّ أمر سوى الفحشاء يأتمر

معنى (لا يصعب الأمر) أي لا يجده صعبا -

لا يتأرّى لما في القدر يرقبه

ولا يعضّ على شرسوفه الصّفر(٦)

____________________

(١) نوادي كل شيء: أوله

(٢) شرب: جمع شرب؛ وهو جمع شارب؛ كصحب وصاحب، ومكاب: اسم مبالغة من كاسب، وفي حاشية الأصل: (نسخة ص: أخو حروب).

(٣) المردى في الأصل: حجر يرمى؛ والمعنى:

أنه شجاع يقذف في الحروب ويرجم فيها؛ وفي حاشية الأصل (من نسخة):

مردى حروب شهاب يستضاء به

كما أضاء سواد الطّخية القمر

والطخية، بالفتح وبضم: الطلمة.

(٤) المهفهف: الخميص البطن الدقيق الخصر. والأهضم: المنضم الجنبين. والكشح: ما بين الخاصرة إلى الضلع من الخلف؛ وهو مما تمدح به العرب. ويقال: رجل منخرق السربال؛ إذا طال سفره فشققت ثيابه؛ وهو كناية عن الجلادة وتحمل المشقات.

(٥) المصير: جمع مصران، والعزاء: الشدة والجهد؛ والمنجرد: المشمر نشاطا، ومن نسخة بحاشية الأصل: (منصلت). وقوله: (ليلة لا ماء ولا شجر)، أي يرعى. وفي الخزانة بعد هذا البيت:

لا يهتك السّتر عن أنثى يطالعها

ولا يشدّ إلى جاراته النّظر

(٦) لا يتأرى: لا يتحبس ويتلبث؛ يقال: تأرى بالمكان إذا أقام فيه. الشرسوف: طرف الضلع والصفر - فيما يزعم العرب: حية تكون في البطن إذا جاع الإنسان عضته؛ وقد كذبه النبي عليه السلام بقوله: (لا عدوى ولا هامة ولا صفر).

٢١

لا يغمز السّاق من أين ولا وصب

ولا يزال أمام القوم يقتفر(١)

لا يأمن النّاس ممساه ومصبحه

في كلّ فجّ، وإن لم يغز ينتظر(٢)

تكفيه حزّة فلذ إن ألمّ بها

من الشّواء ويروي شربه الغمر(٣)

لا تأمن البازل الكوماء عدوته(٤)

ولا الأمون إذا ما اخروّط السّفر(٥)

كأنّه بعد صدق الناس أنفسهم

باليأس تلمع من قدّامه البشر(٦)

قال المبرّد" لا نعلم بيتا في يمن النقيبة وبركة الطلعة أبرع من هذا البيت" -

لا يعجل القوم أن تغلي مراجلهم

ويدلج اللّيل حتى يفسح البصر(٧) (٨)

عشنا به حقبة حيّا ففارقنا(٨)

كذلك الرّمح ذو النّصلين ينكسر(٩)

أصبت في حرم منّا أخا ثقة

هند بن أسماء، لا يهنى لك الظّفر(١٠) !

لو لم تخنه نفيل وهي خائنة

لصبّح القوم ورد ماله صدر(١١)

____________________

(١) يصف جلده وتحمله للمشاق، والأين: الإعياء، والوصب: الوجع، والاقتفاء: تتبع الآثار.

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): (من كل أوب).

(٣) الحزة: قطعة من اللحم قطعت طولا؛ والفلذ: كبد البعير والجمع أفلاذ. وألم بها: أصابها. والغمر: قدح صغير لا يروي.

(٤) حاشية الأصل: (نسخة ص: (ضربته).

(٥) البازل: البعير الّذي فطر نابه بدخوله في السنة التاسعة، ويقال للناقة أيضا. والكوماء: الناقة العظيمة السنام. والعدوة: التعدي. والأمون:

الناقة الموثقة الخلق، واخروط: امتد.

(٦) البشر: جمع بشير، وفي حاشية الأصل: (أي إذا يئس الناس من أمورهم ووطنوا نفوسهم على اليأس فالبشائر تلمع من قدامه).

(٧) حتى يفسح البصر، أي يجد متسعا من الصبح؛ وفي حاشية الأصل: (أي هو رابط الجأش عند الفزع، لا يستخفه الفزع فيجعل أصحابه عن الإطباخ).

(٨ - ٨) حاشية الأصل (من نسخة):

* عشنا بذلك دهرا ثم ودّعنا*

(٩) النصلان هما: السنان - وهي الحديدة العليا من الرمح - والزج، وهو الحديدة السفلى: ويقال:

هما الزجان أيضا؛ وهو مثل. وفي حاشية الأصل: (رواية الأصمعي بعد قوله (ينكسر) :

فإن جزعنا فقد هدّت مصابتنا

وإن صبرنا فإنا معشر صبر

والمصابة: المصيبة، والصبر: جمع صبور، مبالغة صابر).

(١٠) حاشية الأصل: (هند بن أسماء: من قبيلة نفيل، قاتل المنتشر)، وأراد بالحرم ذا الخلصة.

(١١) صبحه: سقاه الصبوح؛ وهو الشرب بالغداة، أراد: أنه كان يقتلهم.

٢٢

وأقبل(١) الخيل من تثليث مصغية

وضمّ أعينها عوران أو حضر(٢)

إمّا سلكت سبيلا كنت سالكها

فاذهب فلا يبعدنك الله منتشر

قال رحمه الله: وقد رويت هذه القصيدة للدّعجاء أخت المنتشر، وقيل لليلى أخته، ولعل الشبهة الواقعة في نسبتهما إلى ليلى الأخيلية من هاهنا والصحيح، ما ذكرناه.

***

أخبرنا أبو الحسن عليّ بن محمد الكاتب قال أخبرنا ابن دريد قال أخبرنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال: وفد الأخطل على معاوية فقال: إني قد امتدحتك بأبيات فاسمعها، فقال: إن كنت شبّهتني بالحية أو الأسد أو الصّقر فلا حاجة لي فيها؛ وإن كنت قلت في كما قالت الخنساء(٣) :

وما بلغت كفّ امرئ متناول(٤)

به المجد إلاّ حيث ما نلت أطول(٥)

وما بلغ المهدون في القول مدحة

وإن صدقوا إلاّ الّذي فيك أفضل

فهات، فقال الأخطل: والله لقد أحسنت وقلت بيتين؛ ما هما بدون ما سمعته، وأنشد:

إذا متّ مات العزّ(٦) وانقطع الغنى

فلم يبق إلاّ من قليل مصرّد(٧)

____________________

(١) حاشية الأصل: (قبل، بمعنى أقبل، ويعدّى بالألف، تقول: أقبلته أنا جعلته مقبلا، وأقبلته الشيء أي جعلته يلي قبالته؛ يقال: أقبلت الرماح نحو القوم، وأقبلت الإبل أفواه الوادي).

(٢) عوران وحضر: موضعان. ف: (خوان)، د، م: (رغوان). وهو يوافق ما في الخزانة، وفي حاشية الأصل (من نسخة): (روعان)، وفيها أيضا: (في نسخة ديوانه: رعوان، جوان، خوان)، هذه كلها مواضع).

(٣) ديوانها: ٤٨١.

(٤) م: (متطاول)

(٥) رواية اللسان (طول):

* من المجد إلاّ والّذي نلت أطول*

(٦) ف: (العرف).

(٧) مصرد: مقلل، وفي حاشية الأصل: (أي لم يبق الغنى إلا من قبل عطاء قليل).

٢٣

وردّت أكفّ الرّاغبين وأمسكوا

من الدّين والدّنيا بخلف مجدّد(١)

فأحسن صلته.

وأخبرنا المرزباني قال أخبرنا أبو عبد الله إبراهيم بن محمد النحوي قال أخبرنا أحمد بن يحيى النحوي أن ابن الأعرابي أنشدهم:

مررنا عليه وهو يكعم كلبه

دع الكلب ينبح؛ إنما الكلب نابح

قوله (يكعم كلبه) - أي يشدّ فاه خوفا أن ينبح فيدل عليه.

وقال آخر:

وتكعم كلب الحي من خشية القرى

ونارك كالعذراء من دونها ستر(٢)

قال: وقد قال الأخطل:

قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم

قالوا لأمّهم بولي على النار

قال أبو عبد الله: وسمعت محمد بن يزيد الأزدي يقول: هذا من أهجى ما هجى به جرير، لأنه جعل نارهم تطفئها البولة، وجعلهم يأمرون أمهم بالبول استخفافا بها.

____________________

(١) حاشية الأصل: (منقطع اللبن، من قولهم: ناقة جداء؛ يقال: ناقة مجددة الأخلاف إذا ضربها الصرار وقطعها، وتجدد ضرع الناقة ذهب لبنه). وفيها أيضا: (لما احتضر عبد الملك بن مروان غشي عليه، ثم أفاق، فسمع امرأة تقول: مات أمير المؤمنين: فتمثل بهذين البيتين).

(٢) اللسان (كعم) من غير عزو.

٢٤

مجلس آخر

[٥١]

تأويل آية :( رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ )

إن سأل سائل فقال: ما تأويل قوله تعالى:( رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ) ؛ [آل عمران: ٨].

أو ليس ظاهر الآية يقتضي أنه تعالى يجوز أن يزيغ القلوب عن الإيمان حتى تصحّ مسألته تعالى ألاّ يزيغها، ويكون هذا الدعاء مفيدا؟

الجواب، قلنا في هذه الآية وجوه:

أوّلها أن يكون المراد بالآية: ربنا لا تشدّد علينا المحنة في التكليف، ولا تشق علينا فيه، فيفضي بنا ذلك إلى زيغ القلوب منّا بعد الهداية؛ وليس يمتنع أن يضيفوا ما يقع من زيغ قلوبهم عند تشديده تعالى عليهم المحنة إليه؛ كما قال عز وجل في السورة: إنّها(١) زادتهم رجسا إلى رجسهم، وكما قال مخبرا عن نوح عليه السلام:( فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاّ فِراراً ) ؛ [نوح: ٦].

فإن قيل: كيف يشدّد عليهم في المحنة؟

قلنا: بأن يقوّي شهواتهم، لما قبحه في عقولهم، ونفورهم(٢) عن الواجب عليهم، فيكون التكليف عليهم بذلك شاقا، والثواب المستحقّ عليهم عظيما متضاعفا وإنما يحسن أن يجعله شاقا تعريضا لهذه المنزلة.

وثانيها أن يكون ذلك دعاء بالتثبيت لهم على الهداية، وإمدادهم بالألطاف التي معها يستمرّون على الإيمان.

فإن قيل: وكيف يكون مزيغا لقلوبهم بألاّ يفعل اللّطف؟

____________________

(١) الضمير يعود إلى المحنة؛ والآية في سورة التوبة: ١٢٥:( وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ ) .

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): (ونقارهم).

٢٥

قلنا: من حيث كان المعلوم أنه متى قطع إمدادهم بألطافه وتوفيقاته زاغوا وانصرفوا عن الإيمان. ويجري هذا مجرى قولهم: اللهم لا تسلّط علينا من لا يرحمنا؛ معناه لا تخلّ بيننا وبين من لا يرحمنا فيتسلّط علينا؛ ومثله قول الشاعر:

أتاني ورحلي بالمدينة وقعة

لآل تميم أقعدت كلّ قائم

أراد: قعد لها كل قائم؛ فكأنهم قالوا: لا تخلّ بيننا وبين نفوسنا وتمنعنا ألطافك، فنزيغ ونضلّ.

وثالثها ما أجاب به أبو عليّ الجبائي محمد بن عبد الوهاب، لأنه قال: المراد بالآية ربّنا لا تزغ قلوبنا عن ثوابك ورحمتك. ومعنى هذا السؤال أنهم سألوا الله تعالى أن يلطف لهم في فعل الإيمان؛ حتى يقيموا عليه ولا يتركوه في مستقبل عمرهم، فيستحقوا بترك الإيمان أن تزيغ قلوبهم عن الثواب، وأن يفعل بهم بدلا منه العقاب.

فإن قال قائل: فما هذا الثواب الّذي هو في قلوب المؤمنين؛ حتى زعمتم أنّهم سألوا الله تعالى ألاّ يزيغ قلوبهم عنه؟ وأجاب بأنّ من الثواب الّذي في قلوب المؤمنين ما ذكره الله تعالى من الشرح والسّعة بقوله تعالى:( فَمَنْ يُرِدِ الله أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ ) ؛ [الأنعام: ١٢٥]؛ وقوله تعالى لرسوله عليه وآله السلام:( أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ) [الشرح: ١] وذكر أن ضدّ هذا الشرح هو الضّيق والحرج اللّذان يفعلان بالكفار عقوبة، قال: ومن ذلك أيضا التطهير الّذي يفعله في قلوب المؤمنين، وهو الّذي منعه الكافرين، فقال تعالى:( أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ الله أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ) ؛ [المائدة: ٤١].

قال: ومن ذلك أيضا كتابته الإيمان في قلوب المؤمنين، كما قال الله تعالى:( أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الآيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ) [المجادلة: ٢٢] وضدّ هذه الكتابة هي سمات الكفر التي في قلوب الكافرين؛ فكأنهم سألوا الله تعالى ألاّ يزيغ قلوبهم عن هذا الثواب إلى ضده من العقاب.

٢٦

ورابعها أن تكون الآية محمولة على الدعاء بألاّ يزيغ القلوب عن اليقين والإيمان. ولا يقتضي ذلك أنّه تعالى سئل ما كان لا يجب أن يفعله، وما لولا المسألة لجاز فعله؛ لأنّه غير ممتنع أن يدعوه على سبيل الانقطاع إليه، والافتقار إلى ما عنده بأن يفعل تعالى ما نعلم أنه لا بدّ من أن يفعله، وبألاّ يفعل ما نعلم أنه واجب ألاّ يفعله؛ إذا تعلق بذلك ضرب من المصلحة؛ كما قال تعالى حاكيا عن إبراهيم عليه السلام:( وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ) ؛ [الشعراء: ٨٧] وكما قال في تعليمنا ما ندعو به:( قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ ) ؛ [الأنبياء: ١١٢] وكقوله تعالى:( رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ ) ؛ [البقرة: ٢٨٦]، على أحد الأجوبة:

وكل ما ذكرناه واضح بين بحمد الله.

***

قال سيدنا أدام الله تمكينه: وإني لأستحسن قول الراعي في وصف الأثافي والرماد، فقد(١) طبّق وصفه المفصل، مع جزالة الكلام وقوته واستوائه واطراده:

وأورق مذ عهد ابن عفّان حوله

حواضن ألاّف على غير مشرب

وراد الأعالي أقبلت بنحورها

على راشح ذي شامة متقوّب

كأنّ بقايا لونه في متونها

بقايا هناء في قلائص مجرب

الأورق: الرّماد، جعل الأثافي له كالحواضن؛ لاحتضانها له واستدارتها حوله.

وأراد بوراد الأعالي أن ألوانها تضرب إلى الحمرة، وخصّ الأعالي؛ لأنها مواضع القدر فلا تكاد تسودّ. والراشح: هو الراضع؛ وإنما شبّه الرماد بينهن بفصيل بين أظآر.

والمتقوّب: الّذي قد انحسر أعلاه.

وشبّه ما سوّدت النار منهن بأثر قطران على قلائص جربى. والمجرب: الّذي قد جربت إبله.

ونظير هذا المعنى بعينه، أعني تشبيه تسويد النار بالهناء قول ذي الرّمة:

____________________

(١) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (فلقد).

٢٧

عفا الزّرق من أطلال ميّة فالدّحل

فأجماد حوضي حيث زاحمها الحبل(١)

سوى أن يرى سوداء من غير خلقة

تخاطأها، وارتثّ جاراتها النّقل(٢)

من الرّضمات البيض غيّر لونها

بنات فراض المرخ واليابس الجزل

كجرباء دسّت بالهناء فأفصيت

بأرض خلاء أن تقاربها الإبل

قوله: (سوداء من غير خلقة) يعني أثفيّة؛ لأن السواد ليس بخلقة بها؛ وإنما سوّدتها النار.

وقوله: تخاطأها النقل، أي تجاوزها فلم تحمل من مكان إلى مكان؛ بل بقيت منفردة.

وارتثّ جاراتها: يعني بجاراتها؛ أي نقلن عنها الأثافي اللواتي كنّ معها. والمرتثّ:

هو المنقول من مكان إلى مكان؛ وأصل ذلك في الجريح والعليل؛ يقال ارتثّ الرجل ارتثاثا إذا حمل من المعركة وبه رمق. قال النضر بن شميل: معنى ارتثّ صرع. وقال أبو زيد:

هو مأخوذ من قولهم ارتثثنا رثّة القوم إذا جمعوا رديء متاعهم بعد أن يتحملوا من موضعهم؛ وكلا المعنيين يليق ببيت ذي الرّمة؛ لأنه قد يجوز أن يريد(٣) بقوله: (وارتثّ جاراتها)، أي نقلن عنها، ويجوز أن يريد(٣) : صرعن وبقيت ثابتة قائمة.

والرّضات: حجارة بيض بعضها على بعض. والفراض: جمع فرض، وهو الحزّ يكون في الزند وعنى ببنات فراض المرخ شرر النار الخارجة من ذلك الفرض. والمرخ: شجر تتخذ منه الرندة. ومن أمثالهم: (في كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار(٤) )، وهذا المثل يضرب للرجل الكريم الّذي يفضل على القوم ويزيد عليهم؛ فكأن المعنى: كلّ القوم كرام وأكرمهم فلان.

____________________

(١) ديوانه: ٤٥٤. الزرق: أكثبة بالدهناء؛ والدحل وحوضي: موضعان؛ والأجماد: جمع جمد؛ وهي الأرض الغليظة في صلابة الجبل، ويعني بالجبل حبل الرمل، وهو رمل مستطيل.

(٢) من نسخة بحاشية الأصل: (تخطأها).

(٣ - ٣) ساقط من م.

(٤) المثل في مجمع الأمثال للميداني (٢: ١٨)؛ قال: استمجد المرخ والعفار؛ أي استكثرا وأخذا من النار ما هو حسبهما؛ شبها بمن يكثر العطاء طلبا للمجد لأنهما يسرعان الوري).

٢٨

ومعنى (كجرباء دسّت بالهناء) أنه شبه الأثفيّة المفردة بناقة جرباء قد أفردت وأبعدت عن الإبل حتى لا تجربها ولا تعديها. ومعنى دسّت بالهناء، طليت به.

وفي معنى قول الراعي: (وراد الأعالي) شبه من قول الشّماخ بن ضرار:

أقامت على ربعيهما جارتا صفا

كميتا الأعالي جونتا مصطلاهما(١)

يعني (بربعيهما) منزلي إلا مرأتين(٢) اللتين ذكرهما، ويعني (بجارتا صفا) الأثفيّتين؛ لأنهما مقطوعتان من الصّفا الّذي هو الصّخر. ويمكن في قوله: (جارتا صفا) وجه آخر هو أحسن من هذا؛ وهو أنّ الأثفيّتين توضعان قريبا من الجبل، لتكون حجارة الجبل ثالثة لهما، وممسكة للقدر معهما؛ ولهذا تقول العرب: رماه بثالثة الأثافي؛ أي بالصخرة أو الجبل، وشبه أعلاهما بلون الكميت؛ وهو لون الحجر نفسه؛ لأن النار لم تصل إليه فتسوده(٣) .

ومصطلاهما جون أي أسود؛ لأنّ النار قد سفعته وسوّدته.

وقال الراعي في وصف الأثافي أيضا:

أذاع بأعلاه، وأبقى شريده

ذرا مجنحات بينهنّ فروج

كأنّ بجزع الدّار لمّا تحمّلوا

سلائب ورقا بينهنّ خديج

أذاع بأعلاه، يعنى الرماد؛ لأن السافي(٤) يطيّر ظاهره وما علا منه.

وأبقى شريده، أي بقي(٥) لما شرد على السافي فلم يطر.

وذرا لجنحات يعني الأثافي. وذرا كل شيء: جانبه وما استذريت به منه. والمجنحات:

المسبلات منه.

____________________

(١) ديوانه ٨٦

(٢) في حاشيتي الأصل، ف: (منزلتي المرأتين).

(٣) حاشية الأصل: ويمكن في (جارتا صفا) وجه آخر؛ وهو أحسن من هذا؛ وهو أن الأثفيتين توضعان قريبا من الجبل، لتكون حجارة الجبل ثالثة الأثافي وممسكة للقدر معهما؛ ولهذا يقال: رماه بثالثه الأثافي؛ أي الصخرة أو الجبل).

(٤) السافي: الريح التي تسفي التراب.

(٥) حاشية الأصل (من نسخة): (يبقى).

٢٩

والسلائب: جمع سلوب؛ وهي الناقة التي قد سلبت ولدها بموت أو نحر؛ فقد عطفت على حوار آخر.

والخديج: الّذي قد سقط لغير تمام.

والورق: اللواتي ألوانهن كلون الرماد.

وفي معنى قول الراعي: (وأبقى شريده ذرا مجنحات) قول المخبّل السعدي:

وأرى لها دارا بأغدرة السيّ

دان لم يدرس لها رسم(١)

إلاّ رمادا هامدا دفعت

عنه الرّياح خوالد سحم(٢)

إلا هاهنا: بمعنى الواو، فكأنه قال: وأرى رمادا هامدا، ولولا أن (إلاّ) هاهنا بمعنى الواو لفسد الكلام ونقض آخره أوّله، لأنه يقول في آخر البيت: إنّ الخوالد السّحم دفعت عنه الرياح، فكيف يخبر بأنه قد درس، وإنما أراد أنّه باق ثابت، لأنّ الأثافي دفعت عنه الرياح فلم يستثنه، إذن هو من جملة ما لم يدرس، بل هو داخل في جملته.

وللراعي أيضا في الأثافي:

أنخن وهنّ أغفال عليها

فقد ترك الصّلاء بهنّ نارا

شبه الأثافي بنوق أنخن أغفالا، ليست عليهنّ سمة؛ ثم أخبر أنّ الوقود أثّر فيهن أثرا كالسّمة، والنار السمة، تقول العرب: ما نار بعيرك؟ أي، ما سمته؟ وفي أمثالهم: (نجارها نارها)، أي سمتها تدلّ على كرمها، يضرب ذلك للرجل ترى له ظاهرا حسنا يدلّ على باطن خبره.

____________________

(١) من قصيدة في المفضليات ١١٣ - ١١٨، مطلعها:

ذكر الرباب وذكرها سقم

فصبا وليس لمن صبا حلم

وأغدرة: جمع غدير. والسيدان: أرض لبني سعد؛ والرسم: الأثر بلا شخص؛ ودروسه: ذهابه؛ يريد: لم يذهب كله.

(٢) الخوالد: البواقي، عنى بها الأثافي. بسحم: من السحمة؛ وهو لون يضرب إلى السواد.

٣٠

وقال عدي بن الرّقاع العاملي:

إلاّ رواكد كلّهنّ قد اصطلى

حمراء أشعل أهلها إيقادها(١)

كانت رواحل للقدور فعرّيت

منهنّ، واستلب الزّمان رمادها

وقال الأسعر الجعفي:

إلاّ رواكد بينهنّ خصاصة

سفع المناكب، كلّهنّ قد اصطلى(٢)

وقال حميد بن ثور:

فتغيّرت إلاّ ملاعبها

ومعرّسا من جونة ظهر(٣)

عرش الثّقاب لها بدار مقامة

للحي بين نظائر وتر

الجونة: القدر: ويقال: قدر ظهر، وقدور ظهور، إذا كانت قديمة(٤) . وعرش، أي جعل مثل العريش، يعني الوقود. والثّقاب: ما أثقبت به النار من الوقود. والنظائر: هي الأثافي: والوتر: الفرد، وأراد أنها ثلاث.

وقال الكميت بن زيد:

ولن تحيّيك أظآر معطّفة

بالقاع، لا تمك فيها ولا ميل

ليست بعوذ، ولم تعطف على ربع

ولا يهيب بها ذو النيّة الإبل

يعني الأثافي، فشبّه عطفها على الرماد بنوق أظآر قد عطفن على فصيل. والتّمك:

انتصاب السنام. والميل: من صفة السّنام أيضا.

والعائذ من النّوق: التي يتبعها ولدها. والرّبع: الّذي نتج في أول الربيع. والإهابة:

الدعاء؛ أهاب بإبله إذا دعاها. وذو النية: الّذي قد نوى الرّحيل. الإبل: صاحب الإبل.

____________________

(١) الطرائف الأدبية ٨٧ مع اختلاف في الرواية.

(٢) البيت في أمالي القالي ١: ٤٥ غير منسوب، ونسبه في اللآلي: ١٨٩ للرخيم العبدي، وفي م نسب إلى مالك الجعفي، والبيت ليس في قصيدة الأسعر التي في أول الأصمعيات.

(٣) ديوانه: ٩٣. المعرس: مكان تعريس القوم في السفر في آخر الليل.

(٤) في اللسان: (وقدر ظهر: قديمة؛ كأنها تلقى وراء الظهر لقدمها)، واستشهد بالبيت.

٣١

وقال ذو الرّمة:

فلم يبق إلاّ أن ترى في محلّه

رمادا نحت عنه السيول جنادله(١)

كأنّ الحمام الورق في الدّار وقّعت(٢)

على حرق بين الظّئور جوازله

شبه الأثافي بالحمام الورق؛ وجعلها ظئورا لتعطّفها على الرماد؛ وشبه الرّماد بفرخ حرق قد سقط ريشه. والجوازل: الفراخ. واحدها جوزل.

وقال البعيث:

ألا حييّا الرّبع القواء وسلّما

ورسما كجثمان الحمامة أدهما

قيل إن الحمام هاهنا القطاة؛ وإنه شبّه ألوان الرسوم من الرّماد، وموقد نار، ودمنة، ومجرّ طنب، وما أشبه هذه الأشياء بألوان ريش قطاة.

ومثله لجرير:

كأنّ رسوم الدّار ريش حمامة

محاها البلى واستعجمت أن تكلّما(٣)

ولقد أحسن كلّ الإحسان كثيّر في قوله:

أمن ال قيلة بالدّخول رسوم

وبحومل طلل يلوح قديم(٤)

لعب الرّياح برسمه فأجدّه

جون عواكف في الرّماد جثوم

سفع الخدود كأنّهنّ وقد مضت

حجج عوائد بينهنّ سقيم

وقيل في قوله: (فأجدّه جون عواكف) يعني الأثافي، لأن الريح لما كشفت عنها، وظهرت صارت هي كأنها أجدّت الرّسم. ويحتمل وجه آخر، وهو أن يكون معنى (أجدّت) أنّها حمت الرماد الّذي أحاطت به عن لعب الرّياح، فبقى بحاله يستدلّ به المترسم(٥) ،

____________________

(١) ديوانه: ٤٦٥. نحت: صرفت؛ وفي الديوان: (نفت)، والجنادل: الحجارة.

(٢) وقعت: ربضت، وفي الديوان: (جثمت).

(٣) ديوانه: ٥٤٣

(٤) ديوانه ١: ٢٥٣

(٥) حاشية الأصل (من نسخة): (المتوسم).

٣٢

فكأن الرياح درست الربع ومحته إلاّ ما أجدّته هذه الأثافي من الرماد، ومنعت الريح منه، ويجري ذلك مجرى قول المخبّل:

إلاّ رمادا هامدا

البيت ...

وقال المرار الفقعسيّ في الأثافي:

أثر الوقود على جوانبها

بخدودهنّ كأنّه لطم

ويقال إن أبا تمام الطائي أخذ ذلك في قوله:

قفوا نعط المنازل من عيون

لها في الشّوق أحساء غزار(١)

عفت آياتهنّ، وأي ربع

يكون له على الزّمن الخيار!

أثاف كالخدود لطمن حزنا

ونؤي مثل ما انفصم السّوار

وقد عاب عليه قوله: (لطمن حزنا) بعض من لا معرفة له، وقال: لا فائدة في قوله (حزنا)، ولذلك فائدة؛ وذلك أنّ لطم الحزن يكون أوجع وأبلغ، فتأثيره أظهر وأبين؛ وقد يكون اللطم لغير الحزن؛ فأما قوله.

* ونؤي مثل ما انفصم السوار*

فمأخوذ من قول الشاعر:

نؤي كما نقص الهلال محاقه(٢)

أو مثلما فصم السّوار المعصم

وقد شبّه الناس النّؤي بالسوار والخلخال كثيرا، وبغير ذلك، قال كثيّر:

عرفت لسعدى بعد عشرين حجّة

بها درس نؤي في المحلّة منحن(٣)

قديم كوقف العاج ثبّت حوله

مغارز أوتاد برضم موضّن

____________________

(١) ديوانه: ١٤٠؛ والرواية فيه: (قفا نعط). وأحساء: جمع حسي؛ وهو الماء تحت الرمل، ينبط بالأيدي.

(٢) المحاق، مثلثة: آخر الشهر.

(٣) ديوانه: ١: ٥٨.

٣٣

 - الوقف: السوار من الذّبل ومن العاج. والرّضم: صخور عظام. والموضّن: الّذي يعضه فوق بعض.

وقال بشار:

ونؤي كخلخال الفتاة، وصائم

أشجّ على ريب الزمان رقوب(١)

الصائم الأشج: يعني الوتد؛ وإنما وصفه بأنه صائم لقيامه وثباته، وجعله رقوبا لانفراده، والمرأة الرّقوب والشيخ الرّقوب: الّذي لا يعيش له ولد.

ومن مستحسن ما وصف به النؤي قول أبي تمام:

والنّؤي أهمد شطره فكأنّه

تحت الحوادث حاجب مقرون(٢)

وقال المتنبي في ذلك:

قف على الدّمنتين بالدّوّ من ريّ

اكخال في وجنة جنب خال(٣)

بطول كأنّهنّ نجوم

في عراص كأنّهنّ ليال

ونؤي كأنهنّ عليه

نّ خدام خرس بسوق خدال

الخدام: جمع خدمة(٤) ؛ وهي الخلخال، وجعلها خرسا لأنها غير قلقة، وشبه ما أحدق به النؤي من الأرض وامتلائها بامتلاء الخلخال، من الساق الخدلة، وهي الممتلئة.

____________________

(١) ديوانه: ١: ١٨١.

(٢) ديوانه: ٣٢٨.

(٣) ديوانه: ٣: ١٩٢. الدو: الأرض الواسعة المستوية القفرة؛ وريا: اسم امرأة؛ والمراد:

من ريا، والخال: شامة تخالف لون الوجه. والشامة: تكون في الوجه والجسم.

(٤) الخدمة في الأصل: سير يشد في رسغ البعير، وبه سمي الخلخال؛ لأنه ربما كان من سيور، يركب فيه الذهب والفضة.

٣٤

مجلس آخر

[٥٢]

تأويل آية :( إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِالله أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ. قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ. قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ. قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ الله لَمُهْتَدُونَ. قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ ) ، [البقرة: ٦٧ - ٧٠].

فقال: ما تأويل هذه الآيات؟ وهل البقرة التي نعتت بجميع النعوت هي البقرة المرادة باللفظ الأول والتكليف واحد، أو المراد مختلف والتكليف متغاير؟

الجواب، قلنا: أهل العلم في تأويل هذه الآية مختلفون بحسب اختلاف أصولهم؛ فمن جوّز تأخير البيان عن وقت الخطاب يذهب إلى أن التكليف واحد، وأن الأوصاف المتأخرة هي للبقرة المتقدّمة؛ وإنما تأخر البيان، ولما سأل القوم عن الصفات ورد البيان شيئا بعد شيء.

ومن لم يجوّز تأخير البيان يقول: إن التكليف متغاير؛ وإنهم لما قيل لهم: اذبحوا بقرة لم يكن المراد منهم إلا ذبح أي بقرة شاءوا، من غير تعيين بصفة، ولو أنهم ذبحوا أي بقرة اتفقت لهم كانوا قد امتثلوا الأمر، فلمّا لم يفعلوا كلّفوا ذبح بقرة لا فارض ولا بكر، ولو ذبحوا ما اختصّ بهذه الصفة من أي لون كان لأجزأ عنهم، فلمّا لم يفعلوا كلّفوا ذبح بقرة صفراء، فلما لم يفعلوا كلّفوا ذبح ما اختص بالصفات الأخيرة.

٣٥

ثم اختلف هؤلاء من وجه آخر، فمنهم من قال في التكليف الأخير: إنه يجب أن يكون مستوفيا لكل صفة تقدّمت، حتى تكون البقرة مع أنها غير ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث، مسلّمة لا شية فيها،(١) صفراء فاقع لونها، ولا فارض ولا بكر(١) . ومنهم من قال: إنما يجب أن تكون بالصفة الأخيرة فقط، دون ما تقدم.

وظاهر الكتاب بالقول المبني على جواز تأخير البيان أشبه، وذلك أنه تعالى لما كلّفهم ذبح بقرة قالوا للرسول:( ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ ) ، فلا يخلو قولهم: ما هِيَ من أين يكون كناية عن البقرة المتقدّم ذكرها، أو عن التي أمروا بها ثانيا؛ على قول من يدّعي ذلك.

وليس يجوز أن يكون(٢) سألوا عن صفة غير التي تقدّم ذكرها، لأن الظاهر من قولهم ما هِيَ بعد قوله لهم: اذبحوا بقرة يقتضي أن يكون السؤال عن صفة البقرة المأمور بذبحها؛ ولأنه لا علم لهم بتكليف ذبح بقرة أخرى فيستفهموا عنها؛ وإذا صحّ أن السؤال إنما كان عن صفة البقرة المنكّرة التي أمروا في الابتداء يذبحها فليس يخلو قوله:( إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ ) من أن يكون كناية عن البقرة الأولى، أو عن غيرها، وليس يجوز أن يكون ذلك كناية عن بقرة ثانية، لأن ظاهر قوله: إنّها بقرة من صفتها كذا بعد قولهم: ما هِيَ يقتضي أن يكون كناية متعلقة بما تضمنه سؤالهم، ولأنّ الأمر لو لم يكن على ما ذكرناه لم يكن ذلك جوابا لهم، بل كان يجب أن يكونوا سألوه عن شيء فأجابهم عن غيره، وهذا لا يليق بالنبي عليه السلام.

على أنه لما أراد أن يكلّفهم تكليفا ثانيا عند تفريطهم في الأول على ما يدعيه من ذهب إلى هذا المذهب قد كان يجب أن يجيبهم عن سؤالهم، وينكر عليهم الاستفهام في غير موضعه، وتفريطهم فيما أمروا به؛ مما لا حاجة بهم إلى الاستفهام عنه، فيقول في جواب قولهم: ما هِيَ:

____________________

(١ - ١) حاشية الأصل: (ش: صفراء فاقعا لونها، ولا فارضا ولا بكرا).

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): أن يكونوا).

٣٦

إنما كلّفتم أي بقرة شئتم، وما يستحق اسم بقرة، وقد فرّطتم في ترك الامتثال، وأخطأتم في الاستفهام، مع وضوح الكلام، إلاّ أنكم قد كلّفتم ثانيا كذا وكذا، لأن هذا مما يجب عليه بيانه؛ لإزالة الشك والإبهام واللبس؛ فلما لم يفعل ذلك، وأجاب بالجواب الّذي ظاهره يقتضي التعلّق بالسؤال علم أن الأمر على ما ذكرناه. وهب أنه لم يفعل ذلك في أول سؤال، كيف لم يفعله مع تكرار الأسئلة والاستفهامات التي لم تقع على هذا المذهب بموقعها؟ ومع تكرر المعصية والتفريط كيف يستحسن أن يكون جميع أجوبته غير متعلّقة بسؤالاتهم؟ لأنهم يسألونه عن صفة شيء فيجيبهم بصفة غيره من غير بيان؛ بل على أقوى الوجوه الموجبة لتعلّق الجواب بالسؤال؛ لأنّ قول القائل في جواب من سأله ما كذا وكذا: إنه بالصفة الفلانية صريح في أن الهاء كناية عمّا وقع السؤال عنه؛ هذا مع قولهم: إن البقر تشابه علينا، لأنهم لم يقولوا ذلك إلا وقد اعتقدوا أن خطابهم مجمل غير مبين، فلم لم يقل: أي تشابه عليكم إذ إنما أمرتم في الابتداء بأي بقرة كانت، وفي الثاني بما اختص باللون المخصوص من أي البقر كان؟

فإن قيل: كيف يجوز أن يأمرهم بذبح بقرة لها جميع الصفات المذكورة إلى آخر الكلام ولا يبين ذلك لهم، وهل هذا إلا تكليف ما لا يطاق!

قلنا: لم يرد منهم أن يذبحوا البقرة في الثاني من حال الخطاب؛ ولو كانت حال الفعل حاضرة لما جاز أن يتأخر البيان، لأن تأخيره عن وقت الحاجة هو القبيح الّذي لا شبهة في قبحه، وإنما أراد أن يذبحوها في المستقبل، فلو لم يستفهموا ويطلبوا البيان لكان قد ورد عليهم عند الحاجة إليه.

فإن قيل: إذا كان الخطاب غير متضمّن لصفة ما أمروا بذبحه، فوجوده كعدمه، وهذا يخرجه من باب الفائدة، ويوجب كونه عبثا!

قلنا: ليس يجب ما ظننتم؛ لأن القول وإن كان لم يفد صفة البقرة بعينها فقد أفاد تكليف ذبح بقرة على سبيل الجملة؛ ولو لم يكن ذلك معلوما قبل هذا الخطاب، لصار مفيدا من حيث ذكرنا،

٣٧

وخرج من أن يكون وجوده كعدمه. وفوائد الكلام لا يجب أن يدخلها الاقتراح، وليس يخرج الخطاب من تعلّقه ببعض الفوائد كونه غير متعلق بغيرها، وبما هو زيادة عليها.

فإن قيل: ظاهر قوله تعالى:( فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ ) يدلّ على استبطائهم وذمّهم على التقصير في امتثال الأمر!

قلنا: ليس ذلك صريح ذمّ، لأن كادُوا للمقاربة، وقد يجوز أن يكون التكليف صعب عليهم لغلاء ثمن البقرة التي تكاملت لها تلك الصفات، فقد روي أنهم ابتاعوها بمل ء جلدها ذهبا.

على أن الذمّ يقتضي ظاهره أن يصرف إلى تقصيرهم أو تأخيرهم امتثال الأمر بعد البيان التام، لأن قوله تعالى:( وَما كادُوا يَفْعَلُونَ ) إنما ورد بعد تقدّم البيان التامّ المتكرر، ولا يقتضي ذمّهم على ترك المبادرة في الأول إلى ذبح بقرة، فليس فيه دلالة على ما يخالف ما ذكرناه.

فإن قيل: لو ثبت تقديرا أن التكليف في البقرة متغاير، أي القولين اللّذين حكيتموهما عن أهل هذا المذهب أصحّ وأشبه؟ قلنا: قول من ذهب إلى أنّ البقرة إنما يجب أن تكون بالصفة الأخيرة فقط، لأن الظاهر به أشبه؛ من حيث إذا ثبت تغاير التكليف: وليس في قوله:( إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرْضَ ) إلى آخر الأوصاف ذكر لما تقدم من الصفات، وهذا التكليف غير الأول، فالواجب اعتبار ما تضمنه لفظه والاقتصار عليه.

فأما (الفارض) فهي المسنّة، وقيل: هي العظيمة الضخمة؛ يقال: غرب فارض، أي ضخم، والغرب الدلو؛ ويقال أيضا: لحية فارضة؛ إذا كانت عظيمة؛ والأشبه بالكلام أن يكون المراد المسنّة.

فأما (البكر) فهي الصغيرة التي لم تلد، فكأنه تعالى قال: تكون غير مسنّة، ولا صغيرة.

٣٨

والعوان: دون المسنّة وفوق الصغيرة؛ وهي النّصف التي ولدت بطنا أو بطنين؛ يقال:

حرب عوان إذا لم تكن أول حرب وكانت ثانية؛ وإنما جاز أن يقول: بَيْنَ ذلِكَ (وبين) لا يكون إلا مع اثنين أو أكثر؛ لأن لفظة (ذلك) تنوب عن الجمل، تقول: ظننت زيدا قائما، ويقول القائل: قد ظننت ذلك.

ومعنى( فاقِعٌ لَوْنُها ) ، أي خالصة الصفرة، وقيل: إن كل ناصع اللون؛ بياضا كان أو غيره فهو فاقع. وقيل: إنه أراد ب (صفراء) هاهنا سوداء.

ومعنى قوله تعالى:( لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرْضَ ) أي تكون صعبة لا يذللها العمل في إثارة الأرض وسقي الزرع.

ومعنى( مُسَلَّمَةٌ ) ، مفعلة، من السلامة من العيوب، وقال قوم: مسلّمة من الشّية، أي لا شية فيها تخالف لونها.

وقيل: لا شِيَةَ فِيها، أي لا عيب فيها؛ وقيل: لا وضح، وقيل: لا لون يخالف لون جلدها، والله أعلم بما أراد، وإياه نسأل حسن التوفيق.

***

قال سيدنا أدام الله تمكينه: كنت أظن أن المتنبي قد سبق إلى معنى قوله في مرثية أخت سيف الدولة:

طوى الجزيرة حتّى جاءني خبر

فزعت فيه بأمالي إلى الكذب(١)

حتّى إذا لم يدع لي صدقه أملا

شرقت بالدّمع حتّى كاد يشرق بي

حتى رأيت هذا المعنى لمسلم بن الوليد الأنصاري، وللبحتري.

____________________

(١) ديوانه ١: ٨٧ - ٨٨. الجزيرة: ما كان من الموصل إلى الفرات؛ وكان الخبر بوفاتها ورد إليه من حلب.

٣٩

أما الّذي لمسلم فقوله في قصيدة يرثي بها سهل بن الصباح:

وقف العفاة عليك من متحيّر

وله الرّجاء، وذي غنى يسترجع

ومخادع السّمع النّعي ودونه

خطب ألمّ بصادق لا يخدع

وقال البحتري يرثي وصيفا التركي:

إذا جدّ ناعيه توهّمت أنه

يكرّر من أخباره قول مازح(١)

وكنت أظن المتنبي قد سبق إلى قوله:

يحلّ القنا يوم الطّعان بعقوتي

فأحرمه عرضي، وأطعمه جلدي(٢)

حتى رأيت هذا المعنى واللفظ بعينه لجهم بن شبل الكلابي من أهل اليمامة في قوله:

ثنى قومه عن حدرجان وقد حنا

إلى الموت دامي الصّفحتين كليم(٣)

أخو الحرب، أمّا جلده فمجرّح

كليم، وأما عرضه فسليم(٤)

وكنت أظنّ البحتري قد سبق إلى معنى قوله في الفتح بن خاقان:

حملت عليه السّيف، لا عزمك انثنى

ولا يدك ارتدّت، ولا حدّه نبا(٥)

حتى وجدت لشاعر متقدم:

طعنت ابن دهمان بنجران طعنة

شققت بها عنه مضاعفة السّرد

فلا الكفّ أوهت بي، ولا الرّمح خانني،

ولا الأدهم المنعوت حاد عن القصد

***

____________________

(١) ديوانه ١: ١٢١.

(٢) ديوانه ٢: ٦١. عقوتي؛ أي بقربي.

(٣) في حاشيتي الأصل، ت: (الحدرجان، بالكسر: القصير؛ قال ابن دريد في كتاب الاشتقاق:

حدرجان: اسم رجل قتله أمير المؤمنين صلوات الله عليه؛ وهو فعللان؛ من قولهم: حدرجت السوط وغيره؛ إذا فتلته فتلا شديدا، ويجوز أن يكون من مقلوب دحرج).

(٤) التبيان ٢: ٦١.

(٥) ديوانه ١: ٥٦.

٤٠

قال محمد بن يحيى الصولي: وصف الناس صفرة اللون في العلل؛ فكلّ حكى ذلك وبلا فضيلة إلاّ البحتري:

قال أعرابي من أبيات:

جعلت وما عاينت عطرا كأنّما

جرى بين جلدي والعظام خلوق

وقال أبو تمام:

لم تشن وجهه المليح ولكن

جعلت ورد وجنتيه بهارا(١)

ولم تشن شيئا ولكنّها

بدّلت التّفّاح بالياسمين

وقال غيره:

وقال بكر بن عيسى:

علة زعفرت مورّد خدّ

كاد من رقة وري يفيض

ولأحمد بن يزيد المهلبي:

وقالوا عرت غراء حمّى شديدة

فوجنتها منها شديد صفارها

فقلت لهم: هيهات هاتيك روضة

مضى وردها عنا، وجاء بهارها

ولأبي العتاهية:

وكأنني مما تطاول بي

منك السّقام طليت بالورس

وقال ابن المعتز:

وصفّرت علته وجهه

فصار كالدّينار من حقّ(٢)

____________________

(١) ديوانه: ٤٤١.

(٢) حاشية الأصل: (كذا في ديوانه، وحق كلمة عراقية) أي حقيقة، أي هذا الّذي أقوله من جملة الحق، وقبله:

وا بأبي من جئته عائدا

فزادني عشقا على عشق

٤١

وقال البحتري:

بدت صفرة في لونه إنّ حمدهم

من الدّرّ ما اصفرّت نواحيه في العقد

وجرّت على الأيدي مجسّة كفّه

كذلك موج البحر ملتهب الوقد

وما الكلب محموما، وإن طال عمره

ولكنّما الحمّى على الأسد الورد

قال سيدنا أدام الله تمكينه: أما تشبيهه صفرة اللون بصفرة الدرّ فهو تشبيه مليح موافق لغرضه؛ إلاّ أنه أخطأ في قوله:

إنّ حمدهم

من الدّر ما اصفرّت نواحيه في العقد

لأن ذلك ليس بمحمود بل مذموم؛ ولو شبّه وترك التعليل لكان أجود.

***

وروى أبو العباس أحمد بن فارس المنبجي قال حدّثنا أبو أحمد عبيد الله بن يحيى بن البحتري قال حدثني أبي قال حدثني جدّي البحتري قال: كنت عند أبي العباس المبرّد، فتذاكرنا شعر عمارة بن عقيل، فقال لي: لقد أحسن عمارة في قوله لخالد بن يزيد لما وجّه إليه بهذين البيتين:

لم أستطع سيرا لمدحة خالد

فجعلت مدحيه إليه رسولا

فليرحلنّ إلى نائل خالد

وليكفينّ رواحلي التّرحيلا

قال البحتري: فقلت له: لمروان بن أبي حفصة في عبد الله بن طاهر - وقد أتاه نائله من الجزيرة ما هو أحسن من هذا - وأنشدته:

لعمري لنعم الغيث غيث أصابنا

ببغداد من أرض الجزيرة وابله

فكنّا كحي صبّح الغيث أهله

ولم ترتحل أظعانه ورواحله

فقال: نعم، هذا أحسن، فقلت له: إن لي في بني السّمط - وقد أتاني برّهم من حمص ما لا يتضع عن الجميع وأنشدته:

٤٢

جزى الله خيرا - والجزاء بكفّه

بني السّمط أخدان السّماحة والمجد

هم وصلوني والمهامة بيننا

كما ارفضّ غيث من تهامة في نجد

فقال: هذا والله أرقّ مما قالا وأحسن.

***

وروى أحمد بن فارس المنبجي عن عبيد الله بن يحيى بن البحتري قال حدثنا أبي عن جماعة من أهل العلم والأدب، منهم يموت بن المزرّع قال: قلت لأبي عثمان الجاحظ: من أنسب العرب؟ فقال: الّذي يقول:

عجلت إلى فضل الخمار فأثّرت

عذباته بمواضع التّقبيل(١)

وهذا للبحتري في القصيدة التي أوّلها:

* صبّ يخاطب مفحمات طلول(٢) *

قال سيدنا: وفي نسيب هذه القصيدة بيت ليس يقصر في ملاحة الكلام ورشاقته، وأخذه بمجامع القلوب عن البيت الّذي فضله به الجاحظ، وهو:

أأخيب عندك والصّبا لي شافع

وأردّ دونك والشّباب رسولي

وفي مديح هذه القصيدة بيت معروف بفرط الحسن، وهو:

لا تطلبنّ له الشّبيه فإنّه

قمر التأمّل مزنة التأميل

***

وبهذا الإسناد عن يحيى بن البحتري قال: انصرفت يوما من مجلس أبي العباس محمد بن يزيد المبرّد فقال لي البحتري أبي: ما الّذي أفدت يومك هذا من أبي العباس؟ قلت:

أملى عليّ أخبارا حسنة، وأنشدني أبياتا للحسين بن الضحاك، فقال أبي: أنشدني الأبيات، فأنشدته:

كأنّي إذا فارقت شخصك ساعة

لفقدك بين العالمين غريب

____________________

(١) عذاباته: جوانبه وأهدابه.

(٢) ديوانه ٢: ٢٠٥ - ٢٠٧.

٤٣

وقد رمت أسباب السّلوّ فخانني

ضمير عليه من هواك رقيب

أغرّك صفحي عن ذنوب كثيرة

وغضّي على أشياء منك تريب

كأن لم يكن في النّاس قبلي متيّم

ولم يك في الدّنيا سواك حبيب

إلى الله أشكو إن شكوت فلم يكن

لشكواي من عطف الحبيب نصيب

فقال: ما أحسن هذا الكلام! وأنشدني لنفسه:

حبيبي حبيب يكتم النّاس أنّه

لنا حين تلقانا العيون حبيب

يباعدني في الملتقى وفؤاده

وإن هو أبدى لي البعاد قريب

ويعرض عنّي والهوى منه مقبل

إذا خاف عينا أو أشار رقيب

فتنطق منّا أعين حين نلتقي

وتخرس منّا ألسن وقلوب

ثم قال: ارويا بنيّ هذين؛ فإنهما من حسن الشّعر وطريفه.

***

روى أحمد بن فارس المنبجيّ عن أبي نصر محمد بن إسحاق النحوي قال: سمعت بعض أهل الأدب يقول للزجاج: قد كنت تعرف أبا العباس المبرّد وكبره، وأنه لم يكن يقوم لأحد ولا يتطاول له، وينشد إذا أشرف عليه الرجل:

* ثهلان ذو الهضبات لا يتحلحل(١) *

ولقد رأيته يوما وقد دخل عليه رجل متدرع، فقام إليه أبو العباس فاعتنقه وتنحّى عن موضعه وأجلسه، فجعل الرجل يكفه ويستعفيه من ذلك؛ فلما أكثر من ذلك عليه أنشده أبو العباس:

أتنكر أن أقوم وقد بدا لي

لأكرمه وأعظمه هشام

فلا تنكر مبادرتي إليه

فإنّ لمثله خلق القيام(١)

فلما انصرف الرجل سألت عنه فقيل لي هذا البحتري.

____________________

(١) البيتان والخبر في طبقات النحويين واللغويين للزبيدي: ١١٤.

٤٤

مجلس آخر

[٥٣]

تأويل آية :( لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ الله رَبَّ الْعالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ )

إن سأل سائل عن قوله تعالى في قصة قابيل وهابيل حاكيا عن هابيل:( لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ الله رَبَّ الْعالَمِينَ. إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ ) ؛ [المائدة: ٢٨، ٢٩].

فقال: كيف يجوز أن يخبر عن هابيل - وقد وصفه بالتقوى والطاعة - بأنه يريد أن يبوء أخوه بالإثم؛ وذلك إرادة القبيح، وإرادة القبيح قبيحة عندكم على كل حال؛ ووجه قبحها كونها إرادة لقبيح، وليس قبحها مما يتغير؟

وكيف يصحّ أن يبوء القاتل بإثمه وإثم غيره؟ وهل هذا إلا ما تأبونه من أخذ البريء بجرم السقيم؟

الجواب، قلنا: جواب أهل الحق عن هذه الآية معروف؛ وهو أن هابيل لم يرد من أخيه قبيحا، ولا أراد أن يقتله، وإنما أراد ما خبر الله تعالى عنه من قوله:( إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ ) ؛ أي إني أريد أن تبوء بجزاء ما أقدمت عليه من القبيح وعقابه، وليس بقبيح أن يريد نزول العقاب المستحق بمستحقّه. ونظير قوله: (إثمي) ؛ مع أن المراد به عقوبة إثمي؛ الّذي هو قتلي قول القائل لمن يعاقب على ذنب جناه: هذا ما كسبت يداك، والمعنى: هذا جزاء ما كسبت يداك، وكذلك قولهم لمن يدعون عليه: لقّاك الله عملك، وستلقى عملك يوم القيامة، معناه ما ذكرناه.

٤٥

فإن قيل: كيف يجوز أن يحسن إرادة عقاب غير مستحق لم يقع سببه؛ لأن القتل على هذا القول لم يكن واقعا؟

قلنا: ذلك جائز بشرط وقوع الأمر الّذي يستحقّ به العقاب؛ فهابيل لمّا رأى من أخيه التصميم على قتله، والعزم على إمضاء القبيح فيه، وغلب على ظنه وقوع ذلك جاز أن يريد عقابه؛ بشرط أن يفعل ما همّ به، وعزم عليه.

فأما قوله:( بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ ) فالمعنى فيه واضح لأنه أراد بإثمي عقاب قتلك لي وبإثمك أي عقاب المعصية التي أقدمت عليها من قبل؛ فلم يتقبل قربانك لسببها، لأن الله تعالى أخبر عنهما بأنهما:( قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ ) ، وأن العلة في أن قربان أحدهما لم يتقبل أنه غير متق، وليس يمتنع أن يريد بإثمي ما ذكرناه؛ لأن الإثم مصدر، والمصادر قد تضاف إلى الفاعل والمفعول جميعا، وذلك مستعمل مطرد في القرآن والشعر والكلام.

فمثال ما أضيف إلى الفاعل قوله تعالى:( وَلَوْ لا دَفْعُ الله النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ) ؛ [الحج: ٤٠] ومن إضافته إلى المفعول قوله تعالى:( لا يَسْأَمُ الآنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ ) ؛ [فصلت: ٥١] وقوله تعالى:( لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ ) ؛ [ص: ٢٤].

ومما جاء في الشعر من إضافته إلى المفعول ومعه الفاعل قول الشاعر:

أمن رسم دار مربع ومصيف

لعينيك من ماء الشّئون وكيف(١)

____________________

(١) البيت للحطيئة، ديوانه: ٣٩؛ وهو مطلع قصيدة يمدح فيها سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص؛ حينما كان واليا على المدينة. الشئون: مجاري الدمع من الرأس إلى العين؛ واحدها شأن، وو كيف:

مصدر وكف، أي سال. وفي حاشية الأصل:) يقول: أأن رسم دارا مربع ومصيف بكيت! والمربع والمصيف واردان مورد المصدر، فلذلك عملا في رسم دار).

٤٦

وفي الكلام: يقول القائل: أعجبني ضرب عمرو خالدا، إذا كان (عمرو) فاعلا، وضرب عمرو خالد إذا كان (عمرو) مفعولا.

وقد ذكر قوم في الآية وجها آخر؛ وهو أن يكون المراد: إني أريد زوال أن تبوء بإثمي وإثمك؛ لأنه لم يرد له إلا الخير والرّشد؛ فحذف (الزوال)، وأقام (أن) وما اتصل بها مقامه؛ كما قال تعالى:( وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ ) ؛ [البقرة: ٩٣] أراد (حبّ العجل) فحذف (الحب) وأقام (العجل) مقامه، وكما قال تعالى:( وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ ) ؛ [يوسف: ٨٢]، وهذا قول بعيد، لأنه لا دلالة في الكلام على محذوف، وإنما تستحسن العرب الحذف في بعض المواضع لاقتضاء الكلام المحذوف ودلالته عليه.

وذكر أيضا وجه آخر وهو أن يكون المعنى: إني أريد ألاّ تبوء بإثمي وإثمك، أي أريد ألاّ تقتلني ولا أقتلك، فحذف (لا) واكتفى بما في الكلام(١) ، كما قال تعالى:( يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا ) ؛ [النساء: ١٧٦]، معناه ألاّ تضلوا، وكقوله تعالى:( وَأَلْقى فِي الأرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ ) ؛ [النحل: ١٥]، معناه ألا تميد بكم، وكقول الخنساء:

فأقسمت آسى على هالك

وأسأل نائحة ما لها(٢)

أرادت: (لا آسى).

وقال امرؤ القيس:

فقلت يمين الله أبرح قاعدا

ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي(٣)

أراد (لا أبرح).

____________________

(١) حاشية الأصل (من نسخة): (بباقي الكلام) :

(٢) ديوانها، ٢٠٢ والرواية هناك:

يد الدّهر آسى على هالك

وأسأل نائحة ما لها

(٣) ديوانه: ٥٨.

٤٧

وقال عمرو بن كلثوم:

نزلتم منزل الأضياف منّا

فعجّلنا القرى أن تشتمونا(١)

أراد ألاّ(٢) تشتمونا؛ والشواهد في هذا كثيرة جدّا.

وهذا الجواب يضعّفه كثير من أهل العربية؛ لأنهم لا يستحسنون إضمار (لا) في مثل هذا الموضع.

فأما قوله تعالى حاكيا عنه:( لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ) ؛ فقال قوم من المفسرين: إن القتل على سبيل الانتصار والمدافعة لم يكن مباحا في ذلك الوقت؛ وإن الله تعالى أمره بالصبر عليه، وامتحن بذلك، ليكون هو المتولّي للانتصاف.

وقال آخرون: بل المعنى أنك إن بسطت إلى يدك مبتدئا ظالما لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك على وجه الظلم والابتداء؛ فكأنه نفى عن نفسه القتل القبيح، وهو الواقع على سبيل الظلم.

والظاهر من الكلام بغير ما ذكر من الوجهين أشبه، لأنه تعالى خبّر عنه أنه وإن بسط أخوه إليه يده ليقتله لا يبسط يده ليقتله؛ أي وهو مريد لقتله ومخير(٣) إليه؛ لأن هذه اللام بمعنى (كي)، وهي منبئة عن الإرادة والغرض؛ ولا شبهة في حظر ذلك وقبحه؛ ولأن المدافع إنما تحسن منه المدافعة للظالم طلبا للتخلص(٤) من غير أن يقصد إلى قتله أو الإضرار به؛ ومتى قصد ذلك كان في حكم المبتدئ بالقتل؛ لأنه(٥) فاعل القبيح، والعقل شاهد بوجوب التخلص من المضرة بأي وجه يمكن منه؛ بعد أن يكون غير قبيح.

____________________

(١) من المعلقة، ص ٢٣٥ - بشرح التبريزي.

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): (لئلا تشتمونا).

(٣) حاشية ف (من نسخة): (مختار له).

(٤) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (طلبا للنجاة)، م: (طلب التخلص).

(٥) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (في أنه).

٤٨

فإن قيل: فكأنكم تمنعون من حسن امتحان الله تعالى بالصبر على ترك الانتصار والمدافعة وتوجبونهما على كل حال!

قلنا: لا نمنع من ذلك؛ وإنما بيّنا أن الآية غير مقتضية لتحريم المدافعة والانتصاف؛ على ما ذهب إليه قوم؛ لأن قوله:( لَأَقْتُلَنَّكَ ) يقتضي أن يكون البسط لهذا الغرض؛ والمدافعة لا تقتضي ذلك، ولا يحسن من المدافع أن يجري بها إلى ضرر(١) ؛ فلا دلالة في الآية على تحريم المدافعة، ووجب أن يكون ما ذكرناه أولى بشهادة الظاهر.

تأويل خبر [ (لا يموت لمؤمن ثلاثة من الأولاد فتمسه النار إلا تحلّة القسم.]

إن سأل سائل عن معنى الخبر الّذي رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: (لا يموت لمؤمن ثلاثة من الأولاد فتمسه النار إلا تحلّة القسم.

الجواب، قيل له: أما أبو عبيد القاسم بن سلاّم فإنه قال: يعني بتحلّة القسم قوله تعالى:

( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا ) ؛ [مريم: ٧١]، فكأنه قال عليه السلام: لا يرد النار إلا بقدر ما يبرّر الله قسمه.

وأما ابن قتيبة فإنه قال في تأويل أبي عبيد: هذا مذهب حسن من الاستخراج؛ إن كان هذا قسما.

قال: وفيه مذهب آخر أشبه بكلام العرب ومعانيهم؛ وهو أن العرب إذا أرادوا تقليل مكث الشيء وتقصير مدّته شبهوه بتحلّة القسم؛ وذلك أن يقول الرجل بعد حلفه: إن شاء الله، فيقولون: ما يقيم فلان عندنا إلا تحلّة القسم، وما ينام العليل إلا كتحليل الأليّة، وهو كثير مشهور.

قال ابن أحمر(٢) وذكر الريح:

____________________

(١) ف، وحاشية الأصل (من نسخة): (إلى الضرر).

(٢) ف: (مزاحم بن أحمر).

٤٩

إذا عصبت رسما فليس بدائم

به وتد إلا تحلّة مقسم(١)

يقول: لا يثبت الوتد إلاّ قليلا كتحلّة القسم، لأن هبوب الريح يقلعه.

وقال آخر(٢) يذكر ثورا:

يخفي التّراب بأظلاف ثمانية

في أربع، مسّهنّ الأرض تحليل(٣)

يقول: هو سريع خفيف؛ فقوائمه لا تثبت في الأرض إلا كتحليل اليمين.

وقال ذو الرّمة:

طوى طيّه فوق الكرى جفن عينه

على رهبات من جنان المحاذر(٤)

قليلا كتحليل الألى ثمّ قلّصت

به شيمة روعاء تقليص طائر(٥)

والألى: جمع ألوة، وهي اليمين.

قال: ومعنى الخبر على هذا التأويل أن النار لا تسمه إلا قليلا كتحليل اليمين ثم ينجّيه الله منها.

وقال أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري: الصواب قول أبي عبيد، لحجج ثلاث:

منها أن جماعة من كبار أهل العلم فسّروه على تفسير أبي عبيد.

ومنها أنه ادّعى أن النار تمسّ الّذي وقعت منزلته عند الله جليلة، لكن مسّا قليلا، والقليل لا يقع به الألم العظيم؛ وليس صفة الأبرار في الآخرة صفة من تمسّه النار لا قليلا ولا كثيرا.

____________________

(١) حاشية الأصل: (أي ضمته وأحاطت به). وفي ف، ش: (عصفت).

(٢) هو عبدة بن الطبيب، من قصيدة له في المفضليات ١٣٥ - ١٤٥ (طبعة المعارف).

(٣) في حاشيتي الأصل، ف: (يخفي [بفتح الياء]، أي يظهر ويثير؛ يقال: أخفى إذا ستر، وخفى إذا ظهر). في أربع: أربع قوائم، في كل قائمة ظلفان. تحليل: تحلة القسم؛ كأنه أقسم أن يمس الأرض؛ فهو يتحلل من قسمه بأدنى مس.

(٤) ديوانه: ٢٦٤؛ وفي حاشية الأصل: (يصف صاحب سفر أغفى إغفاءة ثم انتبه سريعا).

(٥) قلصت؛ أي ارتفعت. والشيمة: الطبيعة. روعاء: حديدة.

٥٠

ومنها أنّ أبا عبيد لم يحكم على هذا المصاب بولده بمسّ النار، وإنما حكم عليه بالورود، والورود لا يوجب ألاّ يكون من الأبرار؛ لأن (إلاّ) معناه الاستثناء المنقطع، فكأنه قال: فتمسّه النار لكن تحلّة اليمين، أي لكن ورود النار لا بدّ منه، فجرى مجرى قول العرب: سار الناس إلا الأثقال، وارتحل العسكر إلاّ أهل الخيام، وأنشد الفرّاء:

وسمحة المشي شملال قطعت بها

أرضا يحار بها الهادون ديموما(١)

مهامها وحزونا لا أنيس بها

إلاّ الصّوايح والأصداء والبوما(٢)

وأنشد الفراء أيضا:

ليس عليك عطش ولا جوع

إلاّ الرقاد، والرّقاد ممنوع

فمعنى الحديث: لا يموت للمسلم ثلاثة من الولد فتمسه النار البتة، لكن تحلّة اليمين لا بدّ منها، وتحلّة اليمين الورود، والورود لا يقع فيه مسّ.

وقال أبو بكر: وقد سنح لي فيه قول آخر: وهو أن تكون (إلا) زائدة دخلت للتوكيد، و (تحلّة) اليمين منصوب على الوقت والزمان، ومعنى الخبر: فتمسه النار، وقت تحلّة القسم، و (إلا) زائدة.

قال الفرزدق شاهدا لهذا:

هم القوم إلاّ حيث سلّوا سيوفهم

وضحّوا بلحم من محلّ ومحرم(٣)

معناه: هم القوم حيث سلّوا سيوفهم، و (إلا) مؤكدة.

وقال الأخطل:

يقطّعن إلاّ من فروع يردنها

بمدحة محمود نثاه ونائله(٤)

معناه يقطعون من فروع يردنها، والفروع: الواسعة من الأرض.

____________________

(١) سمحة المشي: سهلة المشي. والشملال: الناقة السريعة. والديموم والديمومة. الفلاة يدوم السير فيها لبعدها.

(٢) لا أنيس بها: لا أحد بها. والضوابح: جمع ضابح، والضباح صوت الثعالب. والأصداء:

جمع صدى، وهو الهامة.

(٣) ديوانه ٢: ٧٦٠.

(٤) ديوانه: ٦٣ ومن نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (ويقطعن). وفي الديوان:

* إليكم من الأغوار حتى يزرنكم*

٥١

قال سيدنا أدام الله تمكينه: والوجوه المذكورة في تأويل الخبر كالمتقاربة(١) ، إلا أن الوجه الّذي اختص به ابن الأنباري فيه أدنى تعسّف وبعد؛ من حيث جعل (إلاّ) زائدة، وذلك كالمستضعف عند جماعة من أهل العربيّة.

وقد تبقّى في الخبر مسألة، التشاغل بالجواب عنها أولى مما تكلّفه القوم، وهي متوجّهة على كل الوجوه التي ذكروها في تأويله.

وهو أن يقال: كيف يجوز أن يخبر عليه السلام بأنّ من مات له ثلاثة من الولد لا تمسّه النار إما جملة، أو مقدار تحلة القسم؛ وهو النهاية في القلة! أو ليس ذلك يوجب أن يكون إغراء بالذنوب لمن هذه حاله! وإذا كان من يموت وله هذا العدد من الأولاد غير خارج عن التكليف، فكيف يصحّ أن يؤمّن من العقاب!

والجواب عن ذلك، أنّا قد علمنا أو لا خروج هذا الخبر مخرج المدحة لمن هذه صفته والتخصيص له والتمييز، ولا مدحة في مجرد موت الأولاد؛ لأن ذلك لا يرجع إلى فعله، فلا بدّ من أن يكون تقدير الكلام: إنّ النار لا تمسّ المسلم الّذي يموت له ثلاثة أولاد؛ إذا حسن صبره واحتسابه وعزاؤه، ورضاه بما جرى به القضاء عليه؛ لأنه بذلك يستحقّ الثواب والمدح؛ وإذا كان إضمار الصبر والاحتساب لا بدّ منه لم يكن في القول إغراء؛ لأن كيفية وقوع الصبر والوجه الّذي إذا وقع عليه تفضّل الله سبحانه بغفران ما لعلّه أن يستحقّه من العقاب في المستقبل وإذا لم يكن معلوما، فلا وجه للاغراء.

وأكثر ما في هذا الكلام أن يكون القول مرغّبا في حسن الصبر، وحاثّا عليه رغبة في الثواب، ورجاء لغفران ما لعلّه أن يستحق في المستقبل من العقاب؛ وهذا واضح لمن تأمله.

____________________

(١) م، (متقاربة).

٥٢

مجلس آخر

[٥٤]

تأويل آية :( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ) ؛ [البقرة: ٧٤].

فقال: ما معنى أَوْ هاهنا؟ أو ظاهرها يفيد الشك الّذي لا يجوز عليه تعالى.

الجواب، قلنا في ذلك وجوه:

أوّلها أن تكون أَوْ هاهنا للإباحة كقولهم: جالس الحسن أو ابن سيرين؛ والق الفقهاء أو المحدّثين، ولم يريدوا الشك؛ بل كأنهم قالوا: هذان الرجلان أهل للمجالسة، وهذان القبيلان أهل للّقاء؛ فإن جالست الحسن فأنت مصيب، وإن جالست ابن سيرين فأنت مصيب، وإن جمعت بينهما فكذلك.

فيكون معنى الآية على هذا: إن قلوب هؤلاء قاسية متجافية عن الرّشد والخير، فإن شبّهتم قسوتها بالحجارة أصبتم، وإن شبّهتموها بما هو أشدّ أصبتم، وإن شبهتموها بالجميع فكذلك.

وعلى هذا يتأوّل قوله تعالى:( أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ ) ؛ [البقرة: ١٩]، لأن أَوْ لم يرد بها الشكّ بل على نحو الّذي ذكرناه، من أنكم إن شبهتموهم بالذي استوقد نارا فجائز، وإن شبهتموهم بأصحاب الصيّب فجائز، وإن شبهتموهم بالجميع فكذلك.

وثانيها أن تكون أَوْ دخلت للتفصيل والتمييز، ويكون معنى الآية: إن قلوبهم قست، فبعضها ما هو كالحجارة في القسوة، وبعضها ما هو أشد قسوة منها.

٥٣

ويجري ذلك مجرى قوله تعالى:( وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا ) ؛ [البقرة: ١٣٥] معناه: وقال بعضهم: كونوا هودا - وهم اليهود - وقال بعضهم: كونوا نصارى وهم النصارى - فدخلت أَوْ للتفصيل.

وكذلك قوله تعالى:( وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ ) [الأعراف: ٤] معناه فجاء بعض أهلها بأسنا بياتا، وجاء بعض أهلها بأسنا في وقت القيلولة.

وقد يحتمل قوله تعالى:( أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ ) هذا الوجه أيضا، ويكون المعنى أن بعضهم يشبه الّذي استوقد نارا، وبعضهم يشبه أصحاب الصيب.

وثالثها أن يكون أَوْ دخلت على سبيل الإبهام فيما يرجع إلى المخاطب، وإن كان الله تعالى عالما بذلك غير شاك فيه، لأنه تعالى لم يقصد في إخبارهم عن ذلك إلا التفصيل؛ بل علم عز وجلّ أن خطابهم بالإجمال أبلغ في مصلحتهم، فأخبر تعالى أنّ قسوة قلوب هؤلاء الذين ذمّهم كالحجارة أو أشد قسوة، والمعنى أنها كانت كأحد هذين لا يخرج عنهما.

ويجري ذلك مجرى قولهم: ما أطعمتك إلا حلوا أو حامضا، فيبهمون على المخاطب ما يعلمون أنه لا فائدة في تفصيله؛ والمعنى: ما أطعمتك إلا أحد هذين الضّربين.

وكذلك يقول أحدهم: أكلت بسرة أو ثمرة؛ وهو قد علم ما أكل على التفصيل إلا أنه أبهمه على المخاطب، قال لبيد:

تمنّى ابنتاي أن يعيش أبوهما

وهل أنا إلاّ من ربيعة أو مضر(١)

أراد: هل أنا إلاّ من أحد هذين الجنسين(٢) ، فسبيلي أن أفنى كما فنيا؛ وإنما حسن ذلك لأن قصده الّذي أجرى إليه، وغرضه الّذي نحاه وهو أن يخبر بكونه ممن يموت ويفنى، ولا يخلّ به إجمال ما أجمل من كلامه، فأضرب عن التفصيل؛ لأنه لا فائدة فيه، ولأنه سواء

____________________

(١) ديوانه: ٢: ١.

(٢) ش (الحيين).

٥٤

كان من ربيعة أو مضر فموته واجب. وكذلك الآية، لأن الغرض فيها أن يخبر تعالى عن شدة قسوة قلوبهم، وأنها مما لا تنثني لوعظ، ولا تصغي إلى حق، فسواء كانت في القسوة كالحجارة أو أشد منها، فقد تم ما أجرى إليه من الغرض في وصفها وذمّها، وصار تفصيل تشبيهها بالحجارة وبما هو أشد قسوة منها كتفصيل كونه من ربيعة أو مضر؛ في أنه غير محتاج إليه، ولا يقتضيه الغرض في الكلام.

ورابعها أن تكون أَوْ بمعنى (بل) كقوله تعالى:( وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ) (١) [الصافات: ١٤٧] معناه: بل يزيدون.

وروي عن ابن عباس في قوله تعالى:( وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ) ؛ قال: كانوا مائة ألف وبضعا وأربعين ألفا. وأنشد الفراء:

بدت مثل قرن الشمس في رونق الضّحا

وصورتها، أو أنت في العين أملح(٢)

وقد تكون (أم) في الاستفهام أيضا بمعنى (بل)، كقول القائل: أضربت عبد الله أم أنت رجل متعنت؟ معناه: بل أنت رجل متعنت.

وقال الشاعر:

فو الله ما أدري أسلمى تغوّلت،

أم النّوم، أم كلّ إلي حبيب!

معناه: بل كلّ.

وقد طعن بعضهم على هذا الجواب فقال: وكيف يجوز أن يخاطبنا تعالى بلفظة بل؛ وهي تقتضي الاستدراك والنقض للكلام الماضي والإضراب عنه، وليس ذلك بشيء.

أما الاستدراك فإن أريد به الاستفادة أو التذكر لما لم يكن معلوما فليس بصحيح، لأن

____________________

(١) في حاشيتي الأصل، ف: (قال ابن جني: الغرض في قوله تعالى:( أَوْ يَزِيدُونَ ) أنهم بحيث يحزرهم الحازر فيقول: هم مائة ألف أو يزيدون، فحكى على موجب الحزر).

(٢) ف، وحاشية الأصل (من نسخة): (وصورتها) بالضم. والمعنى: وصورة الشمس في العين أملح؛ بل أنت).

٥٥

أحدنا قد يقول: أعطيته ألفا بل ألفين، وقصدته دفعة بل دفعتين؛ وهو عالم في ابتداء كلامه بما أخبر به في الثاني، ولم يتجدد به علم، وإن أريد به الأخذ في كلام غير الماضي، واستئناف زيادة عليه فهو صحيح؛ ومثله جائز عليه تعالى.

فأما النقض للكلام الماضي فليس بواجب في كل موضع تستعمل فيه لفظة (بل)، لأن القائل إذا قال: أعطيته ألفا بل ألفين لم ينقض الأول؛ وكيف ينقضه؛ والأول داخل في الثاني وإنما زاد عليه! وإنما يكون ناقضا للماضي إذا قال: لقيت رجلا بل حمارا؛ وأعطيته درهما بل ثوبا؛ لأن الأول لم يدخل في الثاني على وجه، وقوله تعالى:( أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ) غير ناقض للأول، لأنها لا تزيد في القسوة على الحجارة إلا بعد أن تساويها، وإنما تزيد المساواة.

وخامسها أن تكون أَوْ بمعنى الواو كقوله:( أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ ) ؛ [النور: ٦١]، معناه: وبيوت آبائكم، قال جرير:

نال الخلافة أو كانت له قدرا

كما أتى ربّه موسى على قدر(١)

وقال توبة بن الحمير:

وقد زعمت ليلى بأنّي فاجر

لنفسي تقاها، أو عليها فجورها(٢)

وقال جرير أيضا:

أثعلبة الفوارس أم رياحا

عدلت بهم طهيّة والخشابا(٣)

أراد: أو رياحا.

____________________

(١) ديوانه: ٢٧٥؛ والبيت من قصيدة يمدح فيها عمر بن عبد العزيز؛ مطلعها:

لجّت أمامة في لومي وما علمت

عرض السماوة روحاتي ولا بكري

(٢) أمالي القالي: ١: ١٣١.

(٣) ديوانه: ٦٦؛ من قصيدته المشهورة التي يذم فيها الراعي؛ ومطلعها:

أقلّي اللوم عاذل والعتابا

وقولي إن أصبت لقد أصابا

٥٦

وقال آخر(١) :

فلو كان البكاء يردّ شيئا(٢)

بكيت على بجير أو عفاق

على المرءين إذ هلكا جميعا

لشأنهما بشجو واشتياق(٣)

أراد على بجير وعفاق.

وقد حكى المفضل بن سلمة هذا الوجه عن قطرب، وطعن عليه بأن قال: ليس شيء يعلم أشدّ قسوة عند المخاطبين من الحجارة، فينسق به عليها(٤) ؛ وإنما يصح ذلك في قولهم:

أطعمتك تمرا أو أحلى منه، لأن أحلى منه معلوم.

واختار المفضل الوجه الّذي يتضمن أن أَوْ بمعنى (بل).

وهذا الّذي طعن به المفضّل ليس بشيء، لأنهم وإن لم يشاهدوا أو يعرفوا ما هو أشدّ قسوة من الحجارة فصورة قسوة الحجارة معلومة لهم، ويصحّ أن يتصوروا ما هو أشد قسوة منها، وما له الزيادة عليها؛ لأن قدرا ما إذا عرف صح(٥) أن يعرف ما هو أزيد منه أو أنقص،

____________________

وهي القصيدة التي تسميها العرب: الفاضحة. والبيت من شواهد الكتاب (١: ٥٢) استشهد به على نصب (ثعلبة)، بإضمار فعل دل عليه ما بعده؛ فكأنه قال: أظلمت ثعلبة، عدلت بهم طهية، ونحوه من التقدير. وأورده أيضا في (١: ٤٨٩) شاهدا على دخول (أم) عديلة للألف. وفي حاشية الأصل: (كأنه قال: أأخملت ثعلبة الفوارس فعدلت بهم طهية والخشاب!).

(١) البيتان في اللسان (عفق)؛ ونقل عن ابن بري أنهما لمتمم بن نويرة، وعفاق: اسم رجل أكلته باهلة في قحط أصابهم.

(٢) حاشية الأصل (من نس خة): (ميتا)

(٣) رواية اللسان:

هما المرءان إذ ذهبا جميعا

لشأنهما بحزن واشتياق

وذكر أن بسطام بن قيس أغار على بني يربوع فقتل عفاقا وقتل بجيرا أخاه بعد قتله عفاقا في العام الأول، وأسر أباهما أبا مليك، ثم أعنقه وشرط عليه ألا يغير عليه؛ قال ابن بري: ويقوي قول من قال إن باهلة أكلته قول الراجز:

إنّ عفاقا أكلته باهله

تمششوا عظامه وكاهله

(٤) حاشية ف: (النسق أن تعطف كلاما على كلام، والنسق الترتيب).

(٥) م: (جاز).

٥٧

لأن الزيادة والنقصان إنما يضافان إلى معلوم معروف، على أن الآية خرجت مخرج المثل، وأراد تعالى بوصف قلوبهم بالزيادة في القسوة على الحجارة أنها قد انتهت إلى حد لا تلين معه للخير على وجه من الوجوه، وإن كانت الحجارة ربما لانت وانتفع بها، فصارت من هذا الوجه كأنها أشدّ قسوة منها تمثيلا وتشبيها.

فقول المفضل: (ليس يعرفون ما هو أقسى من الحجارة) لا معنى له إذا كان القول على طريق المثل.

وبعد؛ فإن الّذي طعن به على هذا الجواب يعترض على الوجه الّذي اختاره، لأنه إذا اختار أنّ أَوْ في الآية بمعنى (بل) فكيف جاز بأن يخبرهم بأنّ قلوبهم أشدّ قسوة من الحجارة، وهم لا يعرفون ما هو أقسى من الحجارة! وإذا جاز أن يقول لهم: بل قلوبهم أقسى مما يعرفون من الحجارة جاز أن يخبر عن مثل ذلك بالواو فيقول: قلوبهم كالحجارة التي يعرفون في القسوة، وهي مع ذلك تزيد عليها.

فإن قال [قائل](١) كيف يكون أَوْ في الآية بمعنى الواو، والواو للجمع، وليس يجوز أن تكون قلوبهم كالحجارة، وأشد من الحجارة في حالة واحدة؛ لأن الشيء إذا كان على صفة لم يجز أن يكون على خلافها!

قلنا: قد أجاب بعضهم عن هذا الاعتراض بأن قال: ليس يمتنع أن تكون قلوبهم كالحجارة في حال، وأشد من الحجارة في حال أخرى؛ فيصحّ المعنى، ولا يتنافى، وهذا قريب، ويكون فائدة هذا الجواب أن قلوب هؤلاء في بعض الأحوال مع القسوة والعدول عن قبول(٢) الحق والفكر فيه؛ ربما لانت بعض اللين؛(٣) وهمّت بالانعطاف، وكادت تصغي إلى الحق فتكون في هذه الحال كالحجارة التي ربما لانت(٣) ، وفي حال أخرى تكون في نهاية البعد عن الخير(٤) والنفور عنه، فتكون في هذا الحال أشدّ قسوة من الحجارة.

____________________

(١) من ف.

(٢) م: (تصور).

(٣ - ٣) ساقط من م

(٤) م: (الحق).

٥٨

على أنه يمكن في الجواب عن هذا الاعتراض وجه آخر؛ وقد تقدم معناه في بعض كلامنا، وهو أن قلوبهم لا تكون أشدّ من الحجارة إلا بعد أن يكون فيها قسوة الحجارة؛ لأن القائل إذا قال: فلان أعلم من فلان فقد أخبر أنه زائد عليه في العلم الّذي اشتركا فيه؛ فلا بدّ من الاشتراك ثم الزيادة، فليس هاهنا تناف على ما ظنّ المعترض، ولا إثبات لصفة ونفيها، فكل هذا واضح(١) بحمد الله.

***

قال سيدنا أدام الله تمكينه: وإني لأستحسن من الشعر قول الأحوص بن محمد الأنصاري:

ومولى سخيف الرّأي رخو تزيده

أناتي، وعفوي(٢) جهله عنده ذمّا(٣)

دملت، ولولا غيره لأصبته

بشنعاء باق عارها تقر العظما(٤)

طوى حسدا ضغنا عليّ كأنّما

أداوي به في كلّ مجمعة كلما(٥)

ويجهل أحيانا فلا يستخفّني

ولا أجهل العتبى إذا راجع الحلما(٦)

يصدّ وينأى في الرّخاء بودّه

ويدعو ويدعوني إذا خشي الهضما

فيفرج عنه أربة الخصم مشهدي

وأدفع عنه عند عثرته الظّلما

الإربة: الدهاء، والإربة: العقدة، وكلا المعنيين يحتمل لفظ البيت -

وكنت امر أعود(٧) الفعال تهزّني

مآثر مجد تالد لم يكن زعما

____________________

(١) م: (بين).

(٢) ف، حاشية الأصل (من نسخة): (غفرى).

(٣) في حاشيتي الأصل، ف: (أي كلما غفرت جهله زادني ذما).

(٤) دملت: داريت وداجيت؛ ويقال: (ادمل القوم) ؛ أي اطوهم على ما فيهم؛ ومنه قول ابن الطيفان:

ومولى كمولى الزّبرقان دملته

كما اندملت ساق يهاض بها الكسر

وتقر العظم: تصدعه وتكسره. وشنعاء، أي قصيدة في الهجو.

(٥) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (أداري). وبه أي بحطئه، والمجمعة: المجمع.

(٦) العتبى: الرضا.

(٧) عود الفعال: جليله وعظيمه.

٥٩

وكنت وشتمي في أرومة مالك

بسبّي له كالكلب إذ ينبح النجما

ولست بلاق سيّدا ساد مالكا

فتنسبه إلاّ أبا لي أو عمّا

ستعلم إن عاديتني فقع قرقر

أما لا أفدت - لا أبالك - أو عدما(١)

لقد أبقت الأيّام منّي وحرسها

لأعدائنا ثكلا وحسّادنا رغما(٢)

وكانت عروق السّوء أزرت(٣) وقصّرت

به أن ينال الحمد فالتمس الذّما

ومن مختار قوله:

إني إذا خفي اللئام(٤) رأيتني

كالشّمس لا تخفى بكلّ مكان

ما من مصيبة نكبة أمنى بها

إلاّ تشرّفني وتعظم شأني

وتزول حين تزول عن متخمّط(٥)

تخشى بوادره على(٦) الأقران

ومن جيد شعره.

خليلان باحا بالهوى فتشاحنت

أقاربها في وصلها(٧) وأقاربه

ألا إنّ أهوى النّاس قربا ورؤية

وريحا إذا ما اللّيل غارت كواكبه

ضجيع دنا منّي جذلت بقربه

فبات يمنّيني وبتّ أعاتبه

وأخبره في السّرّ بيني وبينه

بأن ليس شيء عند نفسي يقاربه

***

____________________

(١) فقع قرقر، أي يافقع قرقر، والفقع: ضرب من أردأ الكمأة، والقرقر: الأرض الخالية؛ ويشبه به الرجل الذليل؛ يقال: أذل من فقع بقرقر؛ لأن الدواب تنجله بأرضها؛ قال النابغة:

حدّثوني بني الشّقيقة ما يم

نع فقعا بقرقر أن يزولا

(٢) الحرس: الدهر.

(٣) م: (أودت).

(٤) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (الرجال).

(٥) التخمط: الغضب مع الثورة والجلبة.

(٦) البوادر: جمع بادرة وهي ما يبدر من الإنسان عند الشر، وفي ف: (لدى الأقران).

(٧) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف:

* أقاربها في وصله وأقاربه*

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403