أمالي المرتضى الجزء ٢

أمالي المرتضى0%

أمالي المرتضى مؤلف:
تصنيف: مكتبة اللغة والأدب
الصفحات: 403

أمالي المرتضى

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشريف أبى القاسم على بن الطاهر أبى أحمد الحسين
تصنيف: الصفحات: 403
المشاهدات: 61814
تحميل: 8739


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 403 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 61814 / تحميل: 8739
الحجم الحجم الحجم
أمالي المرتضى

أمالي المرتضى الجزء 2

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وقد غبّر في وجه كل من وصف المضاجعة امرؤ القيس حيث يقول(١) :

تقول وقد جرّدتها من ثيابها

كما رعت مكحولا من العين أتلعا(٢)

وجدّك لو شيء أتانا رسوله

سواك، ولكن لم نجد لك مدفعا

فبتنا نذود الوحش عنّا كأنّنا

قتيلان لم تعلم لنا النّاس مصرعا(٣)

إذا أخذتها هزّة الرّوع أمسكت

بمنكب مقدام على الهول أروعا(٤)

وقال علي بن الجهم في وصفه شدة الالتزام:

سقى الله ليلا ضمّنا بعد هجعة

وأدنى فؤادا من فؤاد معذّب(٥)

فبتنا جميعا لو تراق زجاجة

من الرّاح فيما بيننا لم تسرّب

ولعبد الصمد بن المعذّل في هذا المعنى:

كأنّني عانقت ريحانة

تنفّست في ليلها البارد(٦)

فلو ترانا في قميص الدّجى

حسبتنا في جسد واحد

____________________

(١) من قصيدة رواها أبو عمرو الشيباني، وأولها:

جزعت ولم أجزع من البين مجزعا

وغويت قلبا بالكواعب مولعا

وأصبحت ودّعت الصبا غير أنني

أراقب خلاّت من العيش أربعا

ولم تذكر في ديوانه بشرح البطليوسي؛ وهي في مجموعة أشعار الستة للأعلم ص ٧٩ (مخطوطة المكتبة التيمورية ٤٥٠ أدب) والأبيات أيضا في حماسة ابن الشجري: ١٩٥ - ١٩٦.

(٢) قال الأعلم: (قوله:) كما رعت مكحول المدامع)، أي لما جردتها من ثيابها بدت محاسنها وتبين طول عنقها، كما تبين ذلك من الغزل المروع. والأتلع: الطويل العنق).

(٣) بعد هذا البيت في رواية الأعلم عن أبي عمرو:

تجافى عن المأثور بيني وبينها

وتدني عليّ السّابري المضلّعا

تجافى: ترفع. والمأثور: السيف الّذي فيه أثر؛ وهو فرند السيف، والسابري: ضرب من الثياب.

والمضلع: الّذي فيه طرائق وشي.

(٤) أخذتها هزة الروع: ارتعدت فزعا وهيبة. والمقدام:

الكثير الإقدام على الأهوال. والأروع: المعجب المنظر جمالا وقوة.

(٥) ديوانه ٩٥ وحماسة ابن الشجري: ١٩٦.

(٦) حماسة ابن الشجري ١٩٦.

٦١

ولبشار بن برد:

إنّني أشتهي لقاءك والل

ه فماذا عليك أن تلقاني

قد تلفّ الرّياح غصنا من الب

ان إلى مثله فيلتقيان

ومثل هذا للبحتري:

ولم أنس ليلتنا في العن

اق لفّ الصّبا بقضيب قضيبا(١)

كما افتنّت الرّيح في مرّها

فطورا خفوتا، وطورا هبوبا

ولآخر في مثل هذا بعينه، ولسنا ندري هل سبق البحتري أو تأخر عنه:

وضمّ لا ينهنهه اعتناق

كما التفّ القضيب على القضيب

ولعلي بن الجهم:

وبتنا على رغم الحسود كأنّنا

خليطان من ماء الغمامة والخمر(٢)

وهذا وإن جعله في العناق فهو مأخوذ من قول بشار:

وإن نلتقي خلف الغيور كأنّنا

سلاف عقار بالنّقاخ مشوب(٣)

والأصل في هذا قول الأخطل، والناس من بعده على أثره:

من الجازئات الحور مطلب سرّها

كبيض الأنوق المستكنّة في الوكر(٤)

وإني وإيّاها إذا ما لقيتها

لكالماء من صوب الغمامة والخمر

وقد أخذه أيضا ابن أبي عيينة فقال:

____________________

(١) ديوانه ١: ٥١

(٢) ديوانه ١٤٤ وحماسة ابن الشجري ١٩٦، وروايته هناك:

* وبتنا على رغم الوشاة كأنّنا*

(٣) ديوانه ١: ١٨٥. والنقاخ: الماء البارد؛ وفي حاشية الأصل: (س: خلف العيون).

(٤) ديوانه: ٢١٢ الأنوق: الرخمة؛ وفي المثل: (أعزّ من بيض الأنوق)، لأنها تحرزه فلا يكاد يظفر به؛ لأن أو كارها في رءوس الجبال والأماكن الصعبة.

٦٢

ذاك إذ روحها وروحي مزاجا

ن كأصفى خمر بأعذب ماء(١)

وأخذه العباس بن الأحنف فقال(١) :

ما أنس لا أنس يمناها معطّفة

على فؤادي، ويسراها على راسى(٢)

وقولها: ليته ثوب على جسدي

أو ليتني كنت سربالا لعبّاس(٣)

أو ليته كان لي خمرا وكنت له

من ماء مزن، فكنّا الدّهر في كاس

ومثل هذا للبحتري:

وجدت نفسك من نفسي بمنزلة

هي المصافاة بين الماء والرّاح(٤)

ولقد أحسن بشار في قوله:

لقد كان ما بيني زمانا وبينها

كما بين ريح المسك والعنبر الورد

***

أخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال حدثنا أحمد بن محمد المكّي قال حدثنا أبو العيناء قال

____________________

(١ - ١) ساقط من م.

(٢) ديوانه: ٩٠؛ وبعده:

قالت وإنسان ماء العين في لجج

يكاد ينطق عن كرب ووسواس!

يطفو ويرسو غريقا ما يكفكفه

كفّ، فيا لك من طاف ومن راس

(٣) رواية الديوان:

عبّاس ليتك سربالي على جسدي

أو ليتني كنت سربالا لعباس

(٤) ديوانه: ١: ١١٣؛ وفي حاشية الأصل: وأشد إمعانا منه قوله:

وبتنا جميعا لو تراق زجاجة

من الخمر فيما بيننا لم تسرّب

وقول أبي الجوائز الواسطي رحمه الله:

فاعتنقنا ضمّا يذوب حصى اليـ

اقوت منه، وتطمّن النهود

٦٣

حدثنا العتبي عن أبيه قال: سيّر الوليد بن عبد الملك(١) الأحوص إلى دهلك(٢) ، فكتب الأحوص إلى عمر بن عبد العزيز حين استخلف:

وكيف ترى للنّوم طعما ولذّة

وخالك أمسى موثقا في الحبائل!

فمن يك أمسى سائلا عن شماتة

ليشمت بي، أو شامتا غير سائل

فقد عجمت منّي الحوادث ماجدا

صبورا على غمّاء تلك البلابل

إذا سرّ لم يفرح، وليس لنكبة

ألمّت به بالخاشع المتضايل

فبعث عمر بن عبد العزيز إلى عراك بن مالك، الّذي كان شهد عليه فقال: ما ترى في هذا البائس؟ فقال عراك: مكانه خير له، فتركه في موضعه، فلما ولى يزيد بن عبد الملك جلب الأحوص وسيّر عراكا(٣) .

____________________

(١) كذا جاءت الرواية هنا؛ وفي الأغاني ٤: ٢٤٦ (طبعة الدار) أن الأحوص كان ينسب بنساء ذوات أخطار من أهل المدينة ويتغنى في شعره معبد ومالك، ويشيع ذلك في الناس، فنهي فلم ينته، فشكي إلى عامل سليمان بن عبد الملك على المدينة، وسألوه الكتاب فيه إليه، ففعل ذلك؛ فكتب سليمان إلى عامله يأمره أن يضربه مائة سوط، ويقيمه على البلس للناس، ثم يصيره إلى دهلك. ففعل ذلك به، فثوى هناك سلطان سليمان بن عبد الملك، ثم ولى عمر بن عبد العزيز فكتب إليه يستأذنه في القدوم ويمدحه، فأبى أن يأذن له، وكتب فيما كتب إليه به ثم أورد الأبيات.

(٢) دهلك: جزيرة في بحر اليمن؛ وهو مرسى بين بلاد اليمن والحبشة.

(٣) في خبر صاحب الأغاني: (فأتى رجال من الأنصار عمر عبد العزيز فكلموه فيه وسألوه أن يقدمه، وقالوا له: قد عرفت نسبه وموضعه وقديمه، وقد أخرج إلى أرض الشرك، فنطلب إليك أن ترده إلى حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودار قومه؛ فقال لهم عمر: فمن الّذي يقول:

فما هو إلا أن أراها فجاءة

فأبهت حتّى ما أكاد أجيب

قالوا: الأحوص. قال: فمن الّذي يقول:

أدور ولولا أن أرى أم جعفر

بأبياتكم مادرت حيث أدور

وما كنت زوّارا ولكنّ ذا الهوى

إذا لم يزر لا بدّ أن سيزور

قالوا: الأحوص، قال فمن الّذي يقول: -

٦٤

قال سيدنا أدام الله علوه: وإنما كان الأحوص خال عمر بن عبد العزيز من جهة أنّ أمّ عمر هي أمّ عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، وأمها أنصارية.

فأما قوله (إذا سرّ لم يفرح) فمأخوذ من قول لقيط بن زرارة:

لا مترفا إن رخاء العيش ساعده،

وليس إن عضّ مكروه به خشعا(١)

وللأحوص:

وببطن مكّة لا أبوح به

قرشيّة غلبت على قلبي

ولو أنّها إذ مرّ موكبها

يوم الكديد أطاعني صحبي(٢)

قلنا لها: حيّيت من شجن

ولركبها: حييّت من ركب

والشّوق أقتله برؤيتها

قتل الظّما بالبارد العذب

والنّاس إن حلّوا جميعهم

شعبا - سلام، وأنت في شعب(٣)

____________________

كأنّ لبنى صبير غادية

أو دمية زيّنت بها البيع

الله بيني وبين قيّمها

يفرّ منّي بها وأتّبع

قالوا: الأحوص، قال: بل الله بينها وبين قيمه. قال: فمن الّذي يقول:

ستبلى لكم في مضمر القلب والحشا

سريرة حبّ يوم تبلى السّرائر

قالوا: الأحوص. قال: إن الفاسق عنها يومئذ لمشغول، والله لا أرده ما كان لي سلطان. فمكث هناك بقية ولاية عمر وصدرا من ولاية يزيد بن عبد الملك. قال فبينا يزيد وجاريته حبابة ذات ليلة على سطح تغنيه بشعر الأحوص، فقال لها: من يقول هذا الشعر؟ قالت: لا وعينيك ما أدري - وقد كان ذهب من الليل شطره - فقال: ابعثوا إلى ابن شهاب الزهري فعسى أن يكون عنده علم من ذلك، فأتى الزهري فقرع عليه بابه، فخرج مروعا إلى يزيد، فلما صعد إليه قال له يزيد: لا ترع، لم ندعك إلا لخير، اجلس، من يقول هذا الشعر؟ قال: الأحوص بن محمد ياأمير المؤمنين، قال: ما فعل؟ قال: طال حبسه بدهلك قال: قد عجبت لعمر كيف أغفله. ثم أمر بتخلية سبيله ووهب له أربعمائة دينار، فأقبل الزهري من ليلته إلى قومه من الأنصار فبشرهم بذلك).

(١) مختارات ابن الشجري: ٥.

(٢) حاشية الأصل: (خبر) إن) قوله: (أطاعني صحبي).

والعائد إلى الاسم الهاء من (موكبها) والتقدير: ولو أنها أطاعني صحبي إذا مر موكبها يوم الكديد).

(٣) حاشية الأصل (من نسخة): (وأنت في شعب).

٦٥

لحللت شعبك دون شعبهم

ولكان قربك منهم حسبي(١)

قوله:

* والشوق أقتله برؤيتها*

نظير قول جرير:

فلما التقى الحيّان ألقيت العصا

ومات الهوى لمّا أصيبت مقاتله(٢)

____________________

(١) في حاشيتي الأصل، ف: (في هذه الأبيات:

ثنتان لا أدنو لوصلهما

عرس الخليل وجارة الجنب

أما الخليل فلست خائنه

والجار قد أوصى به ربّي

(٢) ديوانه: ٤٧٨.

٦٦

مجلس آخر

[٥٥]

تأويل آية :( وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) ، [البقرة: ٣١].

فقال: كيف يأمرهم أن يخبروا بما لا يعلمون، أو ليس ذلك أقبح من تكليف ما لا يطاق؛ الّذي تأبونه؛ والّذي جوّز(١) أن يكلّف تعالى مع ارتفاع القدرة لا يجوّزه.

 الجواب، قلنا: قد ذكر في هذه الآية وجهان:

أحدهما أنّ ظاهر الآية إن كان أمرا يقتضي التّعلّق بشرط، وهو كونهم صادقين عالمين بأنهم إذا أخبروا عن ذلك صدقوا - فكأنه قال لهم: خبّروا بذلك إن علمتموه؛ ومتى رجعوا إلى نفوسهم فلم يعلموا، فلا تكليف عليهم. وهذا بمنزلة أن يقول القائل لغيره: خبّرني بكذا وكذا إن كنت تعلمه، أو إن كنت تعلم أنك صادق فيما تخبر به عنه.

فإن قيل: أليس قد قال المفسرون في قوله تعالى:( إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) إنّ المراد به: إن كنتم تعلمون بالعلّة التي من أجلها جعلت في الأرض خليفة، أو إن كنتم صادقين في اعتقادكم أنكم تقومون بما أنصب الخليفة له، وتضطلعون به، وتصلحون له؟.

قلنا: قد قيل كل ذلك، وقيل أيضا ما ذكرناه؛ وإذا كان القول محتملا للأمرين جاز أن يبني الكلام على كل واحد منهما؛ وهذا الجواب لا يتمّ إلاّ لمن يذهب إلى أن الله تعالى يصحّ أن يأمر العبد بشرط قد علم أنه لا يحصل، ولا يحسن أن يريد منه الفعل على هذا

____________________

(١) حاشية الأصل (من نسخة): (ومن يجوّز).

٦٧

الوجه؛ ومن ذهب إلى جواز ذلك صحّ منه أن يعتمد على هذا الجواب.

فإن قيل: فأي فائدة في أن يأمرهم بأن يخبروا عن ذلك بشرط أن يكونوا صادقين، وهو عالم بأنهم لا يتمكنون من ذلك لفقد علمهم به؟

قلنا: لمن ذهب إلى الأصل الّذي ذكرناه أن يقول: لا يمتنع أن يكون الغرض في ذلك هو أن ينكشف بإقرارهم وامتناعهم من الإخبار بالأسماء ما أراد تعالى بيانه من استئثاره بعلم الغيب، وانفراده بالاطلاع على وجوه المصالح في الدين.

فإن قيل: فهذا يرجع إلى الجواب الّذي تذكرونه من بعد؟ قلنا: هو وإن رجع إلى هذا المعنى فبينهما فرق(١) من حيث كان هذا الجواب، على تسليم أنّ الآية تضمنت الأمر والتكليف الحقيقيين.

والجواب الثاني لا نسلّم فيه أنّ القول أمر على الحقيقة، فمن هاهنا افترقا.

والجواب(٢) الثاني أن يكون الأمر(٣) وإن كان ظاهره ظاهر أمر، فغير أمر على الحقيقة؛ بل المراد به التقرير والتنبيه على مكان الحجة؛ وقد يرد بصورة الأمر ما ليس بأمر، والقرآن والشعر(٤) وكلام العرب مملوء بذلك(٤) .

وتلخيص هذا الجواب أنّ الله تعالى لما قال للملائكة:( إِنِّي جاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ ) ؛ [البقرة: ٣٠]؛ أي مطّلع من مصالحكم، وما هو أنفع لكم في دينكم على ما لا تطّلعون عليه. ثم أراد التنبيه على أنه لا يمتنع أن يكون غير الملائكة - مع أنها تسبح وتقدّس وتطيع ولا تعصي - أولى بالاستخلاف في الأرض؛ وإن

____________________

(١) م: (والوجه الثاني).

(٢) د، ف: (بون).

(٣) حاشية ف (من نسخة): (القول).

(٤ - ٤) حاشية الأصل (من نسخة): (وأخبار العرب مملوءة بذلك).

٦٨

كان في ذريته من يفسد ويسفك الدماء. فعلّم آدم عليه السلام أسماء جميع الأجناس، أو أكثرها(١) ثم قال:( أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ مقررا لهم ومنبها على ما ذكرناه، ودالا على اختصاص آدم بما لم يخصّوا به. فلما أجابوه بالاعتراف والتسليم إليه علم الغيب الّذي لا يعلمونه، فقال تعالى لهم أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالأرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ) [البقرة: ٣٣] منبّها على أنه تعالى هو المنفرد بعلم المصالح في الدين، وأن الواجب على كل مكلف أن يسلم لأمره، ويعلم أنه لا يختار لعباده إلا ما هو أصلح لهم في دينهم؛ علموا وجه ذلك أم جهلوه.

وعلى هذا الجواب يكون قوله تعالى:( إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) محمولا على كونهم صادقين في العلم بوجه المصلحة في نصب الخليفة، أو في ظنهم أنهم يقومون بما يقوم به هذا الخليفة، ويكملون له؛ فلولا أن الأمر على ما ذكرناه، وأنّ القول لا يقتضي التكليف لم يكن لقوله تعالى بعد اعترافهم وإقرارهم:( أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالأرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ) معنى، لأن التكليف الأول لا يتغير حاله بأن يخبرهم آدم عليه السلام بالأسماء، ولا يكون قوله:( إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالأرْضِ ) إلى آخر الآية إلاّ مطابقا لما ذكرناه من المعنى؛ دون معنى التكليف؛ فكأنه قال تعالى: إذا كنتم لا تعلمون هذه الأسماء، فأنتم عن علم الغيب أعجز؛ وبأن تسلموا الأمر لمن يعلمه ويدبّر أمركم بحسبه أولى.

فإن قيل: فكيف علمت الملائكة بأن في ذرية آدم عليه السلام من يفسد في الأرض، ويسفك الدماء؟ وما طريق علمها بذلك؟  وإن كانت غير عالمة فكيف يحسن أن تخبر عنه بغير علم!

قلنا: قد قيل إنها لم تخبر وإنما استفهمت؛ فكأنها قالت متعرفة: أتجعل فيها من يفعل كذا وكذا.

____________________

(١) م: بعد هذه الكلمة: (وقيل أسماء محمد صلى الله عليه وآله والأئمة من ولده وسلم، وفيه أحاديث مروية).

٦٩

وقيل: إن الله تعالى أخبرها بأنه سيكون من ذرّية هذا المستخلف من يعصي ويفسد في الأرض: فقالت على وجه التعرف لما في هذا التدبير من المصلحة والاستفادة لوجه الحكمة فيه: أتجعل فيها من يفعل كذا وكذا؟

وهذا الجواب الأخير يقتضي أن يكون في أول الكلام حذف ويكون التقدير: وإذ قال ربّك للملائكة إنّي جاعل في الأرض خليفة، وإني عالم أن سيكون من ذريته من يفسد فيها، ويسفك الدماء، فاكتفى عن إيراد هذا المحذوف بقوله تعالى:( قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ ) لأن ذلك دلالة على الأول؛ وإنما حذفه اختصارا.

وفي جملة جميع الكلام اختصار شديد، لأنه تعالى لما حكى عنهم قولهم:( أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ) كان في ضمن هذا الكلام: فنحن على ما نظنه ويظهر لنا من الأمر أولى بذلك لأنا نطيع وغيرنا يعصي.

وقوله تعالى:( إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ ) يتضمن أيضا أنني أعلم من مصالح المكلّفين ما لا تعلمونه، وما يكون مخالفا لما تظنونه على ظواهر الأمور.

وفي القرآن من الحذوف العجيبة، والاختصارات الفصيحة ما لا يوجد في شيء من الكلام؛ فمن ذلك قوله تعالى في قصة يوسف عليه السلام والناجي من صاحبيه في السجن عند رؤيا البقر السمان والعجاف:( أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ ) ؛ [يوسف: ٤٥]،(١) ففعلوا، فأتى يوسف، فقال له(١) :( يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ ) ؛ [يوسف: ٤٦] [و لو بسط الكلام فأورد محذوفه لقال أنا أنبئكم بتأويله، فأرسلون ففعلوا، فأتى يوسف فقال له: يايوسف أيها الصديق أفتنا(٢) ].

ومثله قوله في الأنعام،( قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) ؛ [الأنعام: ١٤]: أي، وقيل لي: ولا تكونن من المشركين.

____________________

(١) ساقط من م.

(٢) تكملة من ف.

٧٠

وكذلك قوله تعالى في قصة سليمان عليه والسلام:( وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ، وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ. يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ إلى قوله: اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً ) [سبأ: ١٢، ١٣]، أي وقيل لهم:( اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً ) .

وقال جرير:

وردتم على قيس بخور مجاشع

فبؤتم على ساق بطيء جبورها(١)

أراد: فبؤتم على ساق مكسورة بطيء جبورها، كأنه لما كان في قوله: (بطيء جبورها) دليل على الكسر اقتصر عليه.

وقال عنترة:

هل تبلغنّي دارها شدنيّة

لعنت بمحروم الشّراب مصرّم(٢)

يعني ناقته؛ ومعنى (لعنت) دعاء عليها بانقطاع لبنها وجفاف ضرعها، فصار(٣) كذلك هذا كله(٤) ؛ والناقة إذا كانت لا تنتج كان أقوى لها على السير. قال: تأبط شرا - ويروى للشنفرى:

____________________

(١) ديوانه: ٢٦٨؛ وفي حاشية الأصل: (قبله:

ألم تر قيسا حين خارت مجاشع

تجير، وما إن تبتغي من يجيرها

بني دارم من ردّ خيلا مغيرة

غداة الصّفا لم ينج إلاّ عشورها

وردتم .... البيت

ومجاشع هو مجاشع بن دارم بن مالك بن حنظلة بن عمرو بن تميم) وخور: جمع خوار، والخور:

الضعف، وناقة خوارة، والجمع أيضا خور). من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (فبؤتم).

(٢) من المعلقة؛ ص ١٨٣ - بشرح التبريزي. والشدنية: ناقة نسبت إلى شدن؛ موضع باليمن، وقيل: هو فحل كان باليمن، تنسب إليه الإبل: والمصرم: الّذي أصاب أخلافه شيء فقطعه؛ من صرار أو غيره.

(٣) حاشية الأصل (من نسخة): (فصارت).

(٤) من نسخة بحاشية الأصل، ف: (فحذف هذا كله).

٧١

فلا تدفنوني إنّ دفني محرّم

عليكم، ولكن خامري أمّ عامر(١)

لأنه أراد: فلا تدفنوني بل دعوني تأكلني التي يقال لها: خامري أم عامر؛ وهي الضّبع.

وقال أوس بن حجر:

حتّى إذا الكلاّب قال لها

كاليوم مطلوبا ولا طلبا(٢)

أراد: (لم أر كاليوم)، فحذف.

وقال أبو دؤاد الإيادي:

إنّ من شيمتي لبذل تلادي

دون عرضي، فإن رضيت فكوني

أراد: فكوني معي على ما أنت عليه، وإن سخطت فبيني فحذف هذا كلّه.

وقال الآخر:

إذا قيل سيروا إنّ ليلى لعلّها

جرى دون ليلى مائل القرن أعضب(٣)

أراد لعلّها قريب، وهذا يتسع؛ وهو أكثر من أن يحيط(٤) به قول. والحذف غير الاختصار. وقوم يظنون أنهما واحد؛ وليس كذلك لأن الحذف يتعلق بالألفاظ؛ وهو أن تأتي بلفظ يقتضي غيره ويتعلق به، ولا يستقلّ بنفسه؛ ويكون في الموجود دلالة على المحذوف، فتقتصر عليه طلبا للاختصار، والاختصار يرجع إلى المعاني وهو أن تأتي بلفظ مفيد لمعان كثيرة لو عبّر عنها بغيره لاحتيج إلى أكثر من ذلك اللفظ، فلا حذف إلا وهو اختصار، وليس كل اختصار حذفا.

____________________

(١) شعر الشنفرى ١: ٣٦ (ضمن الطرائف الأدبية للأستاذ عبد العزيز الميمني)، وانظر تحقيق نسبة البيت هناك والرواية فيه: (أبشري أم عامر). وأورد بعده:

إذا احتملوا رأسي وفي الرأس أكثري

وغودر عند الملتقى ثم سائري

هنالك لا أرجو حياة تسرّني

سجيس الليالي مبسلا بالجرائر

(٢) ديوانه: ٢

(٣) في حاشيتي الأصل، ف (يعني به الوحشي من الأوعال).

(٤) ف وحاشية الأصل (من نسخة): (نحيط به)، ومن نسخة أيضا بحاشيتي الأصل، ف: (أن يضبط).

٧٢

فمثال الحذف قوله: (ولكن خامري أمّ عامر) ونظائره مما أنشدناه؛ لأن القول غير مستغن بنفسه؛ بل يقتضي كلاما آخر غير أنه لما كان فيه دلالة على ما حذف حسن استعماله.

ومثال الاختصار الّذي ليس بحذف قول الشاعر:

أولاد جفنة حول قبر أبيهم

قبر ابن مارية الكريم المفضل(١)

أراد أنهم أعزاء مقيمون بدار مملكتهم، لا ينتجعون كالأعراب؛ فاختصر هذا المبسوط في قوله: (حول قبر أبيهم).

ومثله قول عدي بن زيد:

عالم بالذي يريد نقي الصّد

ر وعفّ على جثاه نحور(٢)

وفي معنى الاختصار قول أوس بن حجر:

وفتيان صدق لا تخمّ لحامهم

إذا شبّه النّجم الصّوار النّوافرا

فقوله: (لا تخم لحامهم) لفظ مختصر؛ ولو بسطه لقال: إنهم لا يدّخرون اللحم ولا يستبقونه فيخمّ،(٣) بل يطعمونه الأضياف والطّرّاق.

ومعنى قوله:

* إذا شبّه النّجم الصّوار النّوافرا*

يعني في شدة البرد وكلب الشتاء؛ والثريا تطلع في هذا الزمان عشاء، كأنها صوار متفرق.

____________________

(١) ديوانه: ٨٠؛ وهي مارية بنت أرقم بن ثعلبة بن عمرو بن جفنة.

(٢) اللسان (جثا). وفي حاشيتي الأصل، ف: (قوله (جثاه) : تراب كان يجمع ويجعل عليه حجارة وينحر عليها الأصنام؛ يريد أنه طائع متدين؛ ويروى: على جباه) ؛ وهي الحياض. والجابية:

شيء مثل الحوض يجعل فيها الماء للإبل؛ وجمعها الجوابي).

(٣) في حاشيتي الأصل، ف: (خم اللحم يخم)، وأخم يخم: إذا أنتن).

٧٣

وهذا أيضا أكثر من أن يحصى، وإنما فضّل الكلام الفصيح بعضه على بعض؛ لقوّة حظه من إفادة المعاني الكثيرة بالألفاظ المختصرة.

فأما قوله تعالى:( ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ ) بعد ذكر الأسماء التي لا تليق بها هذه الكناية، فالمراد به أنه عرض المسمّيات؛ لأن الكناية لا تليق بالأسماء، ولا بدّ من أن تكون تلك المسميات، أو فيها ما يجوز(١) أن يكنّى عنه بهذه الكناية؛ لأنها لا تستعمل إلاّ في العقلاء ومن يجري مجراهم.

وقيل إن في قراءة أبي: ثمّ عرضها وفي قراءة عبد الله بن مسعود: ثمّ عرضهنّ وعلى هاتين القراءتين يصلح أن تكون عبارة عن الأسماء.

وقد يبقى في هذه الآية سؤال لم نجد أحدا ممّن تكلم في تفسير القرآن، ولا في متشابهه ومشكله تعرّض له؛ وهو من مهمّ ما يسأل عنه.

وذلك أن يقال: من أين علمت الملائكة لما خبّرها آدم عليه السلام بتلك الأسماء صحة قوله، ومطابقة الأسماء للمسمّيات؛ وهي لم تكن عالمة بذلك من قبل؛ إذ لو كانت عالمة لأخبرت بالأسماء؛ ولم تعترف بفقد العلم؛ والكلام يقتضي أنّهم لما أنبأهم آدم بالأسماء علموا صحتها ومطابقتها للمسميات؛ ولولا ذلك لم يكن لقوله:( أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالأرْضِ ) معنى، ولا كانوا مستفيدين بذلك نبوّته وتمييزه واختصاصه بما ليس لهم؛ لأنّ كلّ ذلك إنما يتمّ مع العلم دون غيره.

والجواب أنّه غير ممتنع أن يكون الملائكة في الأوّل غير عارفين بتلك الأسماء؛ فلما أنبأهم آدم عليه السلام بها فعل الله لهم في الحال العلم الضروري بصحتها ومطابقتها للمسميات؛ إما عن طريق أو ابتداء بلا طريق؛ فعلموا بذلك تميّزه(٢) واختصاصه؛ وليس لأحد أن يقول:

إن ذلك يؤدي إلى أنهم علموا نبوّته اضطرارا؛ وفي هذا منافاة طريقة التكليف؛ وذلك أنّه ليس في علمهم بصحة ما أخبر به ضرورة ما يقتضي العلم بالنبوّة ضرورة، بل بعده

____________________

(١) حاشية الأصل (من نسخة): (من يجوز).

(٢) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (تمييزه).

٧٤

درجات ومراتب لا بدّ من الاستدلال عليها؛ ويجري هذا مجرى أن يخبر أحدنا نبي بما فعل على سبيل التفصيل على وجه يخرق العادة؛ وهو وإن كان عالما بصدق خبره ضرورة لا بدّ له من الاستدلال فيما بعد على نبوّته، لأنّ علمه بصدق خبره ليس هو العلم بنبوّته، لكنه طريق يوصل إليها على ترتيب.

ووجه آخر وهو أنه لا يمتنع أن يكون للملائكة لغات مختلفة، فكلّ قبيل منهم يعرف أسماء الأجناس في لغته دون لغة غيره، إلاّ أن يكون إحاطة عالم واحد لأسماء الأجناس في جميع لغاتهم خارقة للعادة، فلما أراد الله تعالى التنبيه على نبوّة آدم علّمه جميع تلك الأسماء، فلما أخبرهم بها علّم كل فريق مطابقة ما خبّر به من الأسماء للغته، وهذا لا يحتاج فيه إلى الرجوع إلى غيره، وعلم مطابقته ذلك لباقي اللغات يخبر كل قبيل، ولا شكّ في أنّ كل قبيل إذا كانوا كثيرة(١) ، وخبّروا بشيء يجري هذا المجرى علم مخبرهم، وإذا أخبر كلّ قبيل صاحبه علم من ذلك في لغة غيره ما علمه من لغته.

وهذا الجواب يقتضي أن يكون قوله:( أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ ) أي ليخبرني كلّ قبيل منكم بجميع هذه الأسماء.

وهذان الجوابان جميعا مبنيّان على أن آدم عليه السلام مقدّم له العلم بنبوّته، وأن إخباره بالأسماء كان افتتاح معجزاته(٢) ، لأنه لو كان نبيا قبل ذلك، وكانوا قد علموا بقدم ظهور معجزات على يده لم يحتج إلى هذين الجوابين معا، لأنهم يعلمون إذا كانت الحال هذه مطابقة الأسماء للمسميات بعد أن لم يعلموا ذلك بقوله الّذي قد أمنوا به فيه غير الصدق، وهذه بيّن لمن تأمله.

***

قال سيدنا أدام الله علوّه: رأيت قوما ممن تكلم على معاني الشعر، يذكرون في بيت حسان بن ثابت:

____________________

(١) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (كثرة).

(٢) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (افتتاحا لمعجزاته).

٧٥

لم تفتها شمس النّهار بشيء

غير أنّ الشّباب ليس يدوم(١)

أن المراد به الاعتذار من كبرها وعلوّ سنها، فكأنه قال: (لم تفتها شمس النهار بشيء) غير أنها كبيرة طاعنة في السن، وعذرها في ذلك أنّ الشباب ليس يدوم لأمثالها. وهذا الّذي ذكروه ليس بشيء، والأشبه والأولى أن يكون مراد حسّان أنّ شمس النهار لم تفتها بشيء غير أنّ شبابها مما لا يدوم، ولا بدّ من أن يلحقها الهرم الّذي لا يلحق الشمس، ولم يرد أنها في الحال كذلك، وكيف يريد ما توهموه مع قوله:

يالقوم(٢) هل يقتل المرء مثلي

واهن البطش والعظام سئوم!

شأنها العطر والفراش ويعلو

ها لجين ولؤلؤ منظوم

لو يدبّ الحولي من ولد الذّرّ

عليها لأندبتها الكلوم(٣)

وهذه الأوصاف لا تليق بمن طعن في السنّ من النساء، ولا يوصف بمثلها إلاّ الصبيان والأحداث.

ومن العجائب أنّ هذا الاستخراج على ركاكته مسند إلى الأصمعي، وما أولى من يكون نتيجة تغلغله، وثمرة توصله مثل هذه الثمرة بالإضراب عن استخراج المعاني والبحث عنها!

ومما فسّره أصحاب المعاني على وجه، وهو بغيره أشبه، وأقلّ الأحوال أن يكون محتملا للأمرين، فلا يقصر على أحدهما قول الخنساء:

ياصخر ورّاد ماء قد تناذره

أهل الموارد ما في ورده عار(٤)

لأنهم يقولون: مرادها بالبيت ما في ترك ورده عار، يظنون أنه متى لم يحمل على ذلك لم يكن له فائدة، ولا فيه مدح، ويجرونه مجرى قول المرقّش(٥) :

____________________

(١) ديوانه: ٩٩، والرواية فيه (لم تفقها).

(٢) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (يالقومي).

(٣) أندبتها: أثرت فيها وجرحتها.

(٤) ديوانها: ٧٥.

(٥) هو المرقش الأكبر، والبيت في المفضليات: ٢٣٩ (طبعة المعارف). ووراء هنا بمعنى أمام؛ ومنه قوله تعالى: وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ. وما يعلم: عاقبة عمله؛ أو الهرم والكبر والضعف.

٧٦

ليس على طول الحياة ندم

ومن وراء المرء ما يعلم

وليس الأمر كما ظنّوه، لأنه يحتمل أن يريد أنه لا عار في ورده على ظاهر الكلام والفائدة فيه ظاهرة لأن البيت وإن تضمّن ذكر ورود الماء فهو كناية عن ركوب الأمور الصعاب التي من جملتها إيراد الماء غلبة وقهرا، فكأنها قالت: إنك تورد ماء قد تناذره الناس، وتركب أمرا صعبا قد نكل عنه الخلق، ولك بذلك حظ في الشجاعة والبسالة، ومع ذلك فلا عار عليك في ركوبه، لأنّه ربما فعل الإنسان فعلا يحوز به أكثر الحظ من الشجاعة وإن لحقه بعض العار، من قطيعة رحم، أو نكث عهد، أو ما جرى هذا المجرى، فكأنها نفت عن فعله وجوه العار.

وليس يجري ذلك مجرى قول المرقّش:

* ليس على طول الحياة ندم*

لأن البيت متى لم يحمل على أن المراد به: ليس على فوت طول الحياة ندم، لم يفد شيئا، وقد بينا فائدة قول الخنساء إذا كان المراد ما ذكرناه.

٧٧

مجلس آخر

[٥٦]

تأويل آية :( وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ ) [الزخرف: ٤٥].

قلنا: قد ذكر في هذه الآية وجوه:

أولها أن يكون المعنى: وسل تبّاع من أرسلنا من قبلك من رسلنا؛ ويجري ذلك مجرى قولهم: السخاء حاتم، والشعر زهير؛ وهم يريدون السخاء سخاء حاتم، والشعر شعر زهير وأقاموا حاتما مقام السخاء المضاف إليه؛ ومثله قوله تعالى:( وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِالله ) [البقرة: ١٧٧]، ومثله قول الشاعر:

لهم مجلس صهب السّبال أذلّة

سواسية أحرارها وعبيدها

والمأمور بالسؤال في ظاهر الكلام النبي عليه وآله السلام؛ وهو في المعنى لأمته؛ لأنه عليه السلام لا يحتاج إلى السؤال؛ لكنه خوطب خطاب أمته، كما قال تعالى:( المص كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ ) [الأعراف: ١، ٢]، فأفرده الله تعالى بالمخاطبة، ثم رجع إلى خطاب أمته فقال:( اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ) [الأعراف: ٢]، وفي موضع آخر:( ياأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ الله وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ ) [الأحزاب: ١] فخاطبه عليه السلام والمعنى لأمته، لأنه بيّن بقوله تعالى:( إِنَّ الله كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً ) [الأحزاب: ٢]، وقال تعالى:( ياأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ) [الطلاق: ١] فوحّد وجمع في موضع واحد وذلك للمعنى الّذي ذكرناه.

٧٨

وقال الكميت:

إلى السّراج المنير أحمد لا

تعدلني رغبة ولا رهب

عنه إلى غيره ولو رفع النّا

س إلى العيون وءارتقبوا

لو قيل أفرطت بل قصدت ولو عنـ

فني القائلون، أو ثلبوا

لجّ بتفضيلك اللّسان ولو أكـ

ثر فيك الضّجاج واللّجب

أنت المصفّى المهذّب المحض في التشـ

بيه إن نصّ قومك النسب(١)

فظاهر الخطاب للنبي عليه السلام، والمقصود به أهل بيته عليهم السلام، لأن أحدا من المسلمين لا يمتنع من تفضيله عليه السلام والإطناب في وصف فضائله ومناقبه؛ ولا يعنّف في ذلك أحد، وإنما أراد الكميت: وإن أكثر في أهل بيته وذويه السلام الضجاج واللجب والتقريع والتعنيف، فوجّه القول(٢) إليه والمراد غيره، ولذلك وجه صحيح وهو أنّ المراد بموالاتهم والانحياز إليهم والانقطاع إلى حبهم؛ لما كان رسول الله صلى الله عليه وآله هو المقصود بذلك أجمع جاز أن يخرج الكميت الكلام هذا المخرج، ويضعه هذا الموضع. وقيل إن المراد بتبّاع الأنبياء الذين أمر بمسألتهم هم مؤمنو أهل الكتاب(٣) كعبد الله ابن سلام ونظرائه، وليس يمتنع أن يكون هو عليه السلام المأمور بالمسألة على الحقيقة كما يقتضيه ظاهر الخطاب، وإن لم يكن شاكا في ذلك، ولامر تابا به. ويكون الوجه فيه تقرير أهل الكتاب به، وإقامة الحجة عليهم باعترافهم، أو لأنّ بعض مشركي العرب أنكر أن تكون كتب الله تعالى المتقدمة وأنبياؤه الآتون بها دعت إلى التوحيد، فأمر عليه السلام بتقرير أهل الكتاب(٤)   بذلك دعت لنزول الشبهة عمن اعترضته.

والجواب الثاني أن يكون السؤال متوجها إليه عليه السلام دون أمته، والمعنى: إذا لقيت

____________________

(١) نص: رفع.

(٢) في حاشية الأصل: (نسخة ش: فوجه القول)، بالإضافة.

(٣) ف: (أهل الكتب).

(٤) من نسخة بحاشية الأصل: (الكتاب).

٧٩

النبيين في السماء فاسألهم عن ذلك؛ لأن الرواية قد وردت بأنه صلى الله عليه وآله لقي النبيين في السماء فسلّم عليهم وأمّهم؛ ولا يكون أمره بالسؤال، لأنه كان شاكا، لأن مثل ذلك لا يجوز عليه الشكّ فيه؛ لكن لبعض المصالح الراجعة إلى الدين؛ إمّا لشيء يخصه عليه السلام، أو يتعلّق ببعض الملائكة الذين يستمعون ما يجري بينه وبين النبيين من سؤال وجواب.

والجواب الثالث ما أجاب به ابن قتيبة، وهو أن يكون المعنى: وسل من أرسلنا إليه قبلك رسلا من رسلنا - يعني أهل الكتاب. وهذا الجواب - وإن كان يوافق في المعنى الجواب الأول - فبينهما خلاف في تقدير الكلام وكيفية تأويله، فلهذا صارا مفترقين.

وقد ردّ على ابن قتيبة هذا الجواب، وقيل إنه أخطأ في الإعراب؛ لأن لفظة (إليه) لا يصح إضمارها في هذا الموضع؛ لأنهم لا يجيزون: (الّذي جلست عبد الله)، على معنى (الّذي جلست إليه)، لأن (إليه) حرف منفصل عن الفعل، والمنفصل لا يضمر، فلما كان القائل إذا قال: (الّذي أكرمت إياه عبد الله) لم يجز أن يضمر (إياه) ؛ لانفصاله من الفعل كانت لفظة (إليه) منزلته.

وكذلك لا يجوز: (الّذي رغبت محمد)، بمعنى (الّذي رغبت فيه محمد) ؛ لأن الإضمار إنما يحسن في الهاء المتعلقة بالفعل كقولك: (الّذي أكلت طعامك)، و (الّذي لقيت صديقك)، معناهما:

الّذي أكلته ولقيته.

وقال الفراء: إنما حذفت (الهاء) لدلالة الّذي عليها. وقال غيره في حذفها غير ذلك؛ وكلّ هذا ليس مما تقدم في شيء، فصحّ أن جواب ابن قتيبة مستضعف، والمعتمد على ما تقدم.

٨٠