ديوان السيد حيدر الحلي الجزء ٢
0%
مؤلف: السيد حيدر الحلي
تصنيف: دواوين
الصفحات: 241
مؤلف: السيد حيدر الحلي
تصنيف: دواوين
الصفحات: 241
الرّسائل.. (مدح، رثاء، عتاب)
1 - قال مقرظاً كتاب (الرحلة المكية) للحاج محمد حسن كبّه:
أيّها الرائد خميلة الآداب، الماخض ثميلة الأفكار والألباب، أمعن سير رواحل فكرك في شعاب هذه الرحلة، وذق بذوقك السليم في استعذاب هذه النحلة، واعرف كيف يُجتنى الوردُ، وبأيّ عين يراد، وكيف يجتنى الشهد، ومن أين يشتار ويستجاد.
فلقد بهرني هذا الكامل الذي ما كشفتْ عن مثله ذيولها الحواضنُ من العقائل، ولا علقتْ بمثله من النطف الغرّ أرحام الحوامل، ولا اتفقت ألسنة المدح إلاّ على فضله، ولا قلَّب الدهر أجفان حائرٍ قبل هذا في مثله؛ فابعث رائد نظرك في نجمع شمائله، ولمع مخائله، وقلَّبْ أجفان التوسّم، والحظْ كيف جمع بين التبذخ في معاليه، وبين التواضع في شرف التكرُّم، وتصفحّه بعين الفراسة، وتعجبْ من ماجدٍ كملت في شرخ شبابه فيه معاني السؤدد والرياسة، فأصبح كعبة الفتوّة، ومروة الإحسان والمروّة. تتعرّف للناس عرفاتُ جوده ونداه، فما دعا طائف الرجاء به إلاّ ولبّاه، فكلّ أيامه ولياليه نحرٌ وتشريق، وكلّ آناته مباهلةٌ بالجود وتصديق. قد جمع في حجّه بين مشعر الحرم ومشعر الجود والكرم؛ في رحلة شرفٍ راقتْ منه بأميرها، ونحلة ظرفٍ شاقتْ منه بابن أثيرها؛ تارةً تجدُه ابنَ مفازة، وتارة ملكاً جعل إلى العليا على النجوم مجازه.
يتنقَّل في تلك الأودية، وتخفق عليه تلك الرايات والألوية، في فلوات مجاهل عميِّة الإيضاح، خرساء صدى الصحاري والبطاح. يتلون خرِّيتها تلون آلها، ويمور من الهجير مور أنقائها، أوقبَّ صلالها؛ وتارة يصف لك تلك المنازل، وما حوتْ رياضها من ألمها الخواذل، والجواري المطافل، فيدعُك آنساً بتلك الخمائل كأنّك بينها نازل، وينعت لك شقائقَ وردٍ كأنّه أبو قابوسها، ويأخذ في نشر حديث أزهارها كأنّه وشيُ حلية طاووسها، ويحدّث عن مناهل كان
ابن فراتها، وعن صواهل كما قيل: كأنّما نتجتْ تحتهُ قياماً، أو كأنّه ولد على صهواتها، وعن إبلٍ ما أعجب ما وصف به رواحلها، كأنّه لا سواه نتج قادحها وبازلها، ثمّ يذكر في أثناء ذلك مساءه وصباحه، وغدوَّه ورواحه، وعشيَّه وأبكاره، وأصيله وأسحاره، بمنطق عذبٍ، وكلامٍ أرقِّ من خدِّ المحبوب وحشاشة الصبّ، ويتنقل في خلال ذلك في وصف طلوع الشمس وغروبها، وبزوغ الكواكب ومغيبها، ويتشوّق إلى أحبّته، وأهل مودّته، إلى غير ذلك ممّا اشتملتْ عليه أبيات تلك الرحلة، وكلمات هذه النحلة، في نظمٍ كالذهب الإبريز، أخلصه السبك، أو كالؤلؤ الرطب، تتوالى فرائده في أحسن سلك، وحيث راقني بها الإعجاب، وأخذك منّي ما تأخذه محاسنُ بارعة الجمال من القلوب والألباب، قرضتُ كعابها، وقرطتُ من أبياته أترابها، فحليتُها بهذا الوقف، وشنّفتها بهذا الرعاث والشنف، وذلك قولي فيها، وفي منشيء معانيها:
طرح الدهرُ في حمى المجد رحله |
عند مولىً يميره اليومَ كلَّه (1) |
أقول: ولعمري أين يقع هذا التقريض من مدحه على هذا النظم الذي عادت به حياة القريض؟ وإنّي لأحمدُ اللّه على ما أولانا من عظيم المنن، إذ رُفع يتمُ الشعر في هذا الزمن بخلف آبائه الحسن، وحقيقٌ أن أقول فيه، وإن لم أوفّه من المدح حقَّ معانيه (2) :
ما حليةُ الدنيا سوى أمجادها |
يزهرُ في بهائم نديّها |
|
واليوم قد زينتْ ومن محمدٍ |
لا من سواه حسن حليُّها |
|
قد نسج الفخر له مطارفا |
مطرّزٌ بصنعه بهيُّها |
فلا أدري أوسط الزوراء، أم قمرٌ توسّط منها فلكاً، تباع جواهرُ الحمد،
____________________
1 - تقدّمت في حرف اللام.
2 - وفي المطبوع: معاليه.
وتجلَّت لطائمُ الثناء، أعبق من لطائم المسك والند إلى عالمٍ منه بأثمانها، وخبيرٍ بتفاوت حسنها وإحسانها.
***
2 - قال وقد كتب بها إلى الحاج محمد حسن كبّه جواباً على رسالةٍ وردت منه:
ما عقدَ الحمدُ خنصره، ولا فتح المجدُ بصره، على أنضر عود مكارمٍ، وأزهر طلعةٍ لشائم، من أبلج بسّام العشيّة في الزمن البهيم، سيماء الشرف الوضّاح على قسمات وجهه الكريم، يسفرُ للجود عن محيّا أنور من بدرٍ تم، يقرأ الوافدُ عنوان صحيفته هذا قبلة الكرم:
وجهٌ كأنَّ البدر شا |
طره الضياءَ أو النجوما |
|
لو قابل الليلَ البهيم |
لمزَّق الليل البهيما |
|
يجلو الهموم وربَّ وجهٍ |
إن بدا جلب الهموما |
فبوركتْ طلعة ذلك الأغرّ، وحياه اللّهُ ما تعاقب الأبيضان الشمس والقمر، فلعمري كم أطلقت يده البيضاء من صنيعةٍ غرّاء، قد عُقلتْ نعمُ الشكر بأفنية نعمه، وملكتْ أعنَّة سوابق النظم والنثر فلا تستبق لغاية سوى الثناء على أخلاقه وكرمه حتى مكث ركابُ الشكر على تلك المواهب حبيساً، وأقسم الثناء بتلك المناقب لا لمستْ يداه سواها لموسى، وأين بركاب الشكر من تلك الرحبة الخضراء، وماذا تلمس بعد تلك المناقب يدُ الحمد والثناء؟ وهل في هذا الزمن إلاّ (محمد حسن) ماجدٌ ما اسودَّ ليلُ الظنّ لطامع، إلاّ أبيضَّ من أشعة وجهه القمر الطالع؟ وإنّي وإن أحكمتْ منّي يدُ الإخلاص عقد ودّه، وأمنتُ عليها أنْ تحلَّ بيد هجرانه وصدِّه، لمعتذرٌ إليه من إبطائي عليه، فلقد ساورني الدهرُ بشواغل هي قيدُ الفؤاد والفكر، فأصبحت قليل الحظوة، ثقيل الخطوة، عاثراً بذيل التقصير، ناظراً من الخجل على البعد بطرفٍ حسير، قد بعثت العذرَ على
لسان هذه الغادة الكعاب التي ربما وقف الحياءُ بها دوين الباب، والرجاء من كرم أخلاقه، وشرف أعراقه، أن يعيرها سمعَ مسامحٍ وهّاب:
إحدى الغواني إلى الزوراء |
جاءتك تمشي على استحياءِ (1) |
* * *
3 - وكتب إليه أيضاً يعتذر إليه:
قد جنى لي الزمانُ أعظم ذنبٍ |
وغدا عنه شاغلي أن يتوبا |
فلقد أقعدتني العللُّ حيث أقامني الخجلُ، ومثلت بي الأمراض في هيئةٍ من غيره الصدود والإعراض، إلاّ أنّ أعناق الآمال لم تزل متطاولة إلى هبوب نفحات الإقبال بقبول العذر ممّن نزل به السقم منزلة الصحة من جسده، وحنى اللحدُ أضلاعه على بعض أولاد أخيه وكان أعزّ عليه من أفلاذ كبده، ومع طوارق أُخر، كلُّ طارقهٍ منها تقول لا وَزَر، أيسرُها ابتلاء الدهرُ له بحبسه مع غير أبناء جنسه؛ لأنّي منذ فارقت ذلك النادي، وحللتُ ولكن في غير بلادي، إلى الآن مقسم الفكر بين معالجة الأوصاب، ومعالجة انتساخ ذلك الكتاب، فإذا انحسرتْ عنّي آونة غمرةُ الألم، وأفقتُ قليلاً من سكرة السقم، أقبلتُ على التحرير، قائلاً لا يُحمد ترك القليل لفوات الكثير، وبينما أنا كذلك إذ وردتْ إليّ تلك الرسائل، وأنا في حالٍ كأنّي المنعوت فيها بقول القائل:
أهمُّ بأمر العزم لا أستطيعه |
كما حيل بين العير والنزوانِ |
فلولا أنّها تابعتْ إلى طروقها، وشفعت برعدها بروقها، حتى خفتُ أنْ ينصبَّ عليَّ سوط عذابها، لما ألهاني عن تنميق الكتاب تنسيق جوابها؛ لأنّها يا عافاك اللّه ممّا أشتكيه، ومتَّعك من الصحة بأكمل ما ألتمسه من اللّه وأرجيه، وإنْ كان ورودُها إليَّ منك؛ فإنّي قد آثرتُ الاشتغال بك
____________________
1 - تقدّمت في باب الموشّحات.
حتى عنك، هذا عذريْ إليك، وأنا على ثقةٍ من قبوله إذا نشره بنانُ الاستعطاف لديك، ولقد وشحتُ هذه الألوكة بنظم هذه الأبيات التي جاءت أرقُّ من ريطة وشيٍ محوكة، وجعلتُ معانيها السحّارة كفّارة ما سلف من الذنوب، وأيَّ كفارة:
يا مَنْ لويتُ به يد الخطب |
وبه ثنيتُ طلايعَ الكربِ (1) |
4 - وقال وقد كتب بها إليه جواباً على كتابٍ أرسله أيضاً:
في فمي لم يزلْ لذكركَ نشر |
طيّبٌ واختبرْ بذاكَ النسيما |
|
وبمرآة فكرتي لم يزلْ شخـ |
صُك نصب العينين منّي مقيما |
|
وعلى النحر من عُلاك ثنائي |
ليس ينفكُّ عقده منظوما |
|
لا تظنّ البعاد يحجبُ عنّي |
منك ذيالك المحيّا الكريما |
|
أنت عندي بالذكر أحضر من قلـ |
بي بقلبي فكنْ بذاك عليما |
|
لستُ أقوى لحمل عتبكَ يا منْ |
حملتْ فخره المعالي قديما |
|
فاثنِ عن غرب عتبك اليوم عنّي |
فيه قد تركت قلبي كليما |
إنّي ومَنْ جعلك ريحانة الأديب، وسلوة الغريب، لم استوجبْ منك هذا العتاب، ولم استجلبْ بمساءةِ كلّ هذا الخطاب، فهبني أسأت فأين العفوُ والكرم؟! ولعمري، لقد تجرّمتَ عليَّ ولا جرم، إنّي اعتذر الآن فأقول: إنْ هبَّت من ذلك الجناب نسماتُ القبول ما حلَّتْ أزرار جيبها الصبَا، ولا فتحت أكمام النور على الرُبى عن أطيب من تسليمات كأنّما تحدّثت بها أرواح النسيم فعطَّرتْ أنفاسها، وعن أبهى من تحيات كأنّما باهت بها الرواةُ أنواع الربيع فغطَّت خجلاً بالأكمام رأسها، ولا ملاطفة غادة كعاب، لم تعرفْ إلاّ العطر والخضاب بأوقع في النفس، واشغل للحواس الخمس،
____________________
1 - تقدّمت في باب المدائح.
من بديع بيان كلّه قطعُ جنان، يجلو بواضح الاعتذار ظلمة العتب، ويمحو بصادق التنصّل كاذب الذنب، من محبٍٍّ صدع التقريع منه الأحشاء، وأرمضتْ قلبه هواجس الاستجفاء إلى مَنْ حنوتُ عليه ولا حنوَّ المرضعات على الغرام، وغذوتُ له الحبَّ ولا غذاء الآباء طرائف الهيام حتى شبَّ وليد شوقي إليه على الشغف، ونشأ طفل ولعي به في حجر الصبابة والكلف حتى سكنتْ نفسي إلى هواه، سكون الجفن الساهر إلى كراه، وعقدتُ خنصر التعويل عليه حين توسّمت عنوان النهى بين عينيه، وسبرتُ في مباديه، وتفرّستُ في معانيه؛ لأعلم أين يكون موقعه من فخر أبيه، فرأيت الخيرُ كلّه فيه بعد أخيه حيث أنبأتني شمائله، وبشّرتني مخائله إنّه سيكون إنسان تلك المقلة، وطراز تلك الحُلة، ولا عجب، والأمر ليس بمستغرب ممّنْ ترشحُه معالي هممه، وتؤهّله محاسنُ أخلاقه وكرائم شيمه لمعارف أبيه وعوارف كرمه، أن يتّشح ببردة فخره، ويتوشّح بمناقبه بين أبناء دهره.
ولعمري، لئن حكتْ أخلاقه خلائقه، ووصفتْ مخائله بوارقه، ففي الشبل من ابن الغيل شمائل، وعلى ابن ذكاء من الغزالة دلائل، والفيء ناشيٌ من الظلّ، والفرع مبنيٌ على الأصل، وذكاء النبت بقدر ذكاء تربه، والبلد الطيّب يخرج نباته بإذن ربّه، وهذه الصلصالة من ذلك الطين، وهذه السلسالة من ذلك الماء المعين، قد استهلَّ معه سعده حين وُلد مجده:
عفُّ السريرة طاهر الـ |
أبراد معصومُ البصيره |
يقتدي به مشايخُ الحزم في عنفوان شبيبته، وتعرف الإصابة كلّما رمتْ عن قسيِّ روّيته، زاده اللّهُ عليهم في الحزم بسطة، وجعل له في الكرم أنامل بسطه، قد مشى في ديار التجارب فجاس خلالها، وقاس بفتره أشبار الكرماء فطالها، يضرب بعرقيْ نسبه، ويمتُّ بطرفي حسبه إلى أبوين لا يجاريان شرفاً؛ أبٌ مرتضىً، وأبٌ مصطفى، قد صعد الذروة من هاشم،
واقتعد الصهوة من مجد قبيلة المكارم، فهو من أهل ( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ) ، ومن أسرةٍ جعلوا الإنفاق لوجه اللّه ذخيرةً وذخراً، ليس على (الزوراء) وباهر نداها. أسرةٌ للشرف الواضح سواها، بل ولا على فقارة جميع ظهر الأرض عترةٌ غيرها للكرم المحض، قبيلةٌ صوَّرها اللّهُ من طينة المعروف والإحسان، وحدَّرها من صلب الشرف الأقدم على أولي الزمان، وأقرَّها في أرحام النجابة، وأولدها في رباع السماحة والمثابة، ولفَّعها بأبهى مطارف الحمد، وربّاها في حجر السؤدد والمجد، وأرضعها لبان العلياء، وفطمها إلاّ عن رضاع الحمد والثناء، وجعل بها سماحة البحر الذي لا يُخاض في عبابه، وأبرزها بهيبة الهزبر الذي لا يواجه في غابه، وكفى طيبُ أصلها إبّانه أنَّ في حدائق أحسابها ذلك الحبيب أطيب ريحانه، أعني به جوهرة الزمن، وغرَّة وجهه (الحسن)، أنمى اللّهُ غصن شبيبته على الفضائل، وشدَّ أزر المعروف من عطائه بواصل، وأرسى قواعد مجده على الأبد تخليداً، وورّد بمكانه من حسان الآداب خدودها توريداً، وأقرّ نواظرنا وناظره بشفاء أبيه الذي عقد على الكرم مآزره، مولىً أهلُ الفضل من بوارقه، وزهرةٌ من حدائقه، وأهل البذل قطرة من أمطاره، وغرفة من بحاره:
فله أيادٍ لا تزالُ |
سماؤها كرماً مخيله |
|
ونقيبةٍ ما غيَّرتْ |
في الجود عادتها الجميله |
|
ويدٌ كضرع الغيث يمـ |
خضها الرجا مخض الثميله |
أمّا بعد: فحين وصلتْ إليَّ عقيلة فكرك، وجميلة نظامك ونثرك، طرحتُ عنها الإزار، وحللتُ من غلالتها الأزرار، ثمّ قبّلتُ منها فتاتاً تزري بفتات المسك بخلوقها، وبابنة العنقود في راووقها، فشفتْ بعذب كلامها غلّة صدري، ونفثتْ بسحر بيانها في عقد صبري، قد نشرتْ لديَّ
حديثَ واصل، ثمّ بسطتْ عليَّ لسان عاذل فأباتني تأنيبها مبيت نابغي، وقلبَّني توبيخها في مضجع ابن هاني المغربي، بل كلّما ضرب الليلُ على الأفق رواقه، وعقد على الشفق أزراره ونطاقه، أمسي وهمومي القارعة، وأفلاذ كبدي الواقعة، وفاتحة الرعد سائغ ريقي، وخاتمة الأعلى في شرايين أوردتي ووشائج عروقي، وآراثي في الشعراء، وأحشائي ما جعله الخليل في وسط الأنبياء، تقريباً بلا استثناء، وكلّما فلق الصبحُ بعموده هامة الغسق، وشهرَ خاضباً من وريد الظلام سيفه الشفق، أصبح ولسانُ حالي يترجم عن لسان مقالي، إذا رأيت قوماً إنّي نذرتُ للرحمن صوماً، فواعجباه والدهر سلكُ عجائب! والأيام مثرية من الغرائب، كيف ينصرف إليّ وهم، أو يتصوّر في خيال أخي فهم إنّي في تيّاك المودَّة أشقى بعدما تمسكتُ منها بالعروقة الوثقى؟ لا وعافاك اللّهُ من العلل، وبلَّغك منتهى المجد وقد فعل، لا يلهو عن تلك المحبّة عميدها، ولا يخلق على تعاقب الليالي والأيام جديدها، وليت شعري أعتاض عنك بأيّ بدلٍ منك؟ ولمَنْ أربِّي مولود الوفاء؟ ولمَنْ أزفُّ عروس الإخلاص والصفاء، وملتمس الثقة لإيداع المقه، كالمرتبع بواد غير زرع، والمنتج في بوارٍ خالبةٍ اللمع، والمغترف من السراب الخادع، والقابض على الماء خانته فروجُ الأصابع؟ فهم ومَنْ جعلك جوهرة الزمن حريّون بقول المهيار أبي الحسن:
خُلقٌ إذا حدثت عن أخلاقها |
فكأنّما كشَّفتَ عن سوءاتها |
وأمّا وعلياًّ أبيك، وخلاله الصالحة التي اجتمعت في أخيك وفيك، وسماء مجده التي أنتما قمراها، وعبقات فخره التي ينفح عطفاً كما بريّاها، لأنت على بعدك يا نسيج وحدك، ثاني النفس لديَّ، وثالث عينيَّ، بل أعزُّ منهما عليَّ، وما تركتُ المواجهة رغبة عن المشافهة، ولا المراسلة رغبةً عن المواصلة، كلا، بل لعوائق طارية، وشواغل غير متناهية، تلهي
الحليم عن نفسه، وتنسيه يومه فضلاً عن أمسه، ولولاها:
لنثرتُ حبّات القلوب ألوكةً |
ونظمتها شوقاً إليك قريضا |
* * *
5 - وكتب إلى الحاج محمد رضا كبّه بهذه الرسالة، وصدرَّها بهذه الأبيات:
أغضّ النسيم تحملْ سلامي |
فحيِّ بريّاهُ (دار السلامِ) |
|
سلامُ محبٍّ غريق الوداد |
غريق الفؤادِ ببحر الغرامِ |
|
يُميتُ بشوق بياض النهار |
ويحيي بشوق سوادَ الظلامِ |
|
وتهفو نوازع أشواقه |
بلبِّ حشاشته المستهامِ |
|
يطالع بالفكر وجهَ الحبيب |
فيحظى برؤية بدر التمامِ |
|
حبيبٌ أروِّحُ قلبي العليل |
من ذكره بنسيم المدامِ |
|
وشوقي إلى درِّ ألفاظه |
كشوق الرياض لدرّ الغمامِ |
ممّنْ سكن روحُه بمحاني (الزوراء)، وأقام جسمه بمغاني (الفيحاء)، إقامة المغترب عن وطنه، اللابث في غير عطنه، لا يملك على الخفوق أثناء قلبه المشوق، ولا يُلقي سمعه إلى نديم، ولو كان أفصح الأنام، ولا يرتاح إلى مفاكهةٍ ولو كان من ولدان النعيم، عبقُ الكلام، ولا ينظر إلاّ بعين أنسيّة الأجفان وحشيّة الإنسان، قد عرفتْ آماقها الأرق، وأنكرت أحداقها الرفّق، لم تفتحْ على أناسٍ بصرها إلاّ استوحشتْ عنه؛ فغضَّتْ عنهم نظرها:
أتأنسُ في فتح أجفانها |
عيوني في غير إنسانها |
|
ويخلص يوماً لنفسي السرورُ |
إذا وصلت غير خلصانها |
|
إذاً كذبتْ بادعاء الوداد |
نفسي وما الكذب من شأنها |
|
نعم عندها الغدر بعد الوفاء |
هو الكفر من بعد إيمانها |
على أنّني لم أبرح مسائي وصباحي، وغدوّي ورواحي، وعشيتي وأبكاري،
وأصيلي وأسحاري حرج الصدر، متشعّب الفكر، ملويَّ الحشاشة على حسرات متعالية، طويَّ الجوانح على زفرات إلى التراقي متراقية من لوعةٍ غير ماضية، أقتل من ماضية الحدِّ، وصبابةٍ كأنّها جمرةٌ ذاكية الوقد، فإذا غشيني الدجى بغياهبه، ورقدت الورى أحصيتُ عدد كواكبه بعين ابن شوقٍ نسيتْ أجفانه الكرى، وإذا نضا الليلُ عنّي ثيابَ ظلمائه، وألبسني النهارُ جلباب ضيائه، أقبلتُ على نفسي أعللها بوشيك التداني، وأسلّي غلّة شوقها بسراب الأماني، فتذمُّ من أمسها ما استدبرتْ، وتحمدُ من يومها ما استقبلتْ حتى يأكل فمُ الغروب قرصَ الشمس، ولم تحصل من الرجاء إلاّ على اليأس، ولمّا لم يبقَ لي في قوس الأماني منزعٌ، ولا في مطمعات الأماني مطمعٌ؛ سبرتُ بعين البصيرة والعقل مذاهب طرق الوصل، فوجدتها على ثلاثة أنحاء بين أهل المودَّة والإخاء؛ إمّا بمشاهدة العيان على القرب، أو حضور الحبيب في مهجة المحبّ، أو بثِّ الشوق إليه والوجد بالمراسلة على البعد، فألفيتُ أوّلها مستحيلاً، بعد أن طلبته بكرةً وأصيلاً.
وأمّا الثاني فما عداني، وحين وصلتُ بالنظر إلى طريقها الثالث، وقطعتُ عن أوّلها قرينة البواعث، وجدتُ نفسي مقصِّرةً في عدم إتيانه؛ لاقتدارها عليه مع شدّة إمكانه، فلم أزلْ أوبّخُها في ذلك وألومها وأعذلها والندم فيما هناك نديمها إلى أن تمنّت من شدّة الخجل لو سبق السيف إليها ذلك العذل، وقد أخرسها الذنبُ، وأفحمها العتب؛ لأنّها قطعتْ لسان عذرها في شبات هجرها، حيث أنّها وإن طلبتْ من أنواع المواصلة أطيبها، وأكملها لذةً وأعذبها إلاّ أنَّ ما لا يُدرك جلُّه لا يُترك أقله، ولكنَّ منها هذه الزلّة صدرتْ بعد ماجدٍ شابهَ فرعُه أصله، ووصفَ طيبُ أخلاقه، كريمَ أعراقه؛ ولذا نهضتْ بعد كبوتها، بأذيال هفوتها، وسلكتْ إلى المواصلة بطريق المراسلة، وإلى المخاطبة بالمكاتبة، ولم تزل تمحضُ غزير درِّها، وتمخض ثميلة فكرها حتى استخلصتْ زبدة سلام
رائقه، يستعذبُ بها حتى مَنْ لم تكن له ذائقة، لو ضوعت في لهاة مَنْ حشرجتْ من الموت نفسه لانساغت بفيه، أو تنفَّست أرواحها على بدنه لقرَّت الروحُ فيه:
فما روضةٌ مرشوقةٌ عن عبيرها |
تحدّثنَ أنفاسَ الصبا والجنائبِ |
|
بأطيب عرفاً من سلامٍ بنشره |
يعطّر فاه كلُّ راوٍ وخاطبِ |
ترفعه عواملُ شوقٍ تنازعتْ جلدي، وجلبتْ السقمَ في تصرُّفها إلى كبدي، فنسختْ جميل صبري، وأطالت اشتغال فكري إلى مَنْ نصب اللّه على التمييز علمَ فخره، فانخفضت بالإضافة إلى عزّه جميع أبناء دهره، وجزمتْ بنو الدنيا أنّه في السماحة البحر المحيط إذا بسط لها بالعطاء كفّاً استغرق وافر جودها ما حوته دائرة البسيط، فأقال به من كبوة الجد عثارها حتى سلمتْ له بالفضل إقرارها، فهو في أصله الذي عرقت به العلياء، كما قلتُ فيه مخاطباً له بهذا الثناء:
يا أمجد الناس فرعا |
ينمي لأكرم أصلِ (1) |
ولعمري، كيف ينالها بهمة جسمه مَنْ ليس ينالها بها حسنُّ فهمه؛ إذ هي عُلا مجدٍ تفرّع من دوحةٍ ضربت في طينة المجد أرومَها، واُخذ بأطراف الشرف حديثها وقديمها، فهو ينتمي منها إلى نسبٍ كريم الطرفين، وحسبٍ لم يزلْ معشارُ فخره فخار الثقلين، ذاك صفوة المكارم في أبنائها الأكارم، وأنجبُ مَن ضمَّه الفضا، (محمدٌ الرضا) رفع اللّهُ قواعد مجده، وخفض حواسدَ جدِّه، وجعل كوكب سعده طالعاً في سماء الفخار، ما استدار الفلك الدوّار:
دعاء إخلاصٍ إذا رفعته |
قال الحفيظان معي آمينا |
____________________
1 - تقدّمت في باب المدائح.
أمّا بعد: فالغرض من توشيح هذه الألوكة وتسهيمها، وترصيف منثورها ومنظومها، بثُّ وجدٍ حركتْ ساكنه الذكرى، وترويحُ كبدٍ أرمضتها هواجرُ البعد فغودرت حرّى، وتعليلُ نفسٍ لم تزل من ثنايا الشوق إليكم متطلّعة، ولأخباركم من فم الصادر والوارد لم تزل منتجعة؛ ليرد عليها في ارتيادها ما يجلب المسرَّة إلى فؤادها؛ من صحة أجسادكم التي هي لجسم الزمان أرواحٌ تدبّره، وصفاء أيّامكم التي هي أوضاحُ هذا الدهر وغررِه، وصل اللّهُ عزّكم بيمن إقبالها، وقرن لكم بعمر الدهر غضارة اقتبالها، فلستُ أسأل غير ذلك من محقّق الحقائق في كلّ غاسقٍ وشارق، والسّلام عليكم ما رفَّ قلبي بأجنحة الشوق إليكم.
* * *
6ـ وكتب بها إلى الحاج محمد رضا كبّه أيضاً:
نسختُ ولم يُحصِ اشتياقي ألوكة (1) |
جميع الذي قد ضمَّه الكون ناسخُ |
|
لقد دان قلبي في شريعة حبِّكم |
فليس لهُ حتى القيامة ناسخُ |
سلامٌ فتَّقتْ نَورَ زهره صبا الحبّ، وأعربتْ أنفاسُ نشره عن طيِّ سريرة الصبّ، ورقَّت ألفاظه حتى سرق النسيم طبعه من رقّتها، ونفحتَّ بريّاً الإخلاص فقراته حتى استعار العبيرُ المحض طيبه من نفحتها، وما هي فقراتٌ في الطروس قد وسمت، بل روحُ محبٍّ أذابها الشوق، وفي قالب الألفاظ تجسَّمت، فلو نشق أرواحَ عَرفها مَنْ غشيتهُ سكرات الموت لصحا، ولو سرَّح النظر في لؤلؤ ألفاظها ذو الطبع السليم لسحرتْ عقله وماس منها مرحاً، فحقيقٌ أن أوشِّح خصورَ عرائسها الأنيقة بدرٍّ من ألفاظَي التي تحتوي من المعاني على نفائسها الدقيقة:
عرائسُ لفظٍ حكى مسكُها |
على الطرس أنفاس ريح الصَبا |
____________________
1 - الألوكة: الرسالة. وفي نسخة: والهاً.
رقاقٌ كرقَّة قلب المحبِّ |
وخدَّ الحبيب بعصر الصِبا |
|
حكتْ في العذوبة أخلاق مَنْ |
لها اُهديتْ واليها صبا |
من محبٍّ قطع قلبه الشوق الملحُّ، وترّح به الغرامُ المبرّح، وحال من البعاد بينه وبين حبيبه ما أوقدَ في أحشائه سعيرَ وجدٍ، إذا انحنت عليه أضلاعه تجافت من لهيبه، وغودر جنباه من تلهُّب أنفاسه الحرار، يُرسَل عليها شواظٌ من نار، وكاد في تصاعد حريق زفرته يضرم الهوى ناراً في كرته، وحشدت جحافلُ الغرام في منحنى ضلوعه، وانتجعت سفحَ عقيق دموعه، فهي تستدرُّ عينه دموعها في كلّ آن، فتنبعثُ كأنّهنّ الياقوت والمرجان، وأوطنت الصبابة في غوير لبِّه، وقوَّض السلوُّ عن غضي قلبه، وحال من مترادفات الأشجان، بينها برزخٌ لا يبغيان، وأوشك الفراق أن ينسف طود حلمه بريح عقيم، ما تذر من شيء أتت عليه إلاّ جعلته كالرميم، فلا يتناهي في تحرير نعت شوقه الكلام، ولو أنّ ما في الأرض من شجرةٍ أقلام، إلى مَنْ حلَّقت به قدامي شرفه، فقصَّر كلُّ محلّقٍ عن شأو عُلاه التي أحرزها عن سلفه، وتسنَّم غاربَ كلّ فخرٍ، ووطأ بأخمصه رقاب الأنجم الزهر، وناصى برفيع مجده أعنان العلاء، ورقي ذروتها بسلَّم شرفه المطلّ على الجوزاء، ولطفت شمائله، ولم يوجد في الكرم مَنْ يساجله، وغذيَّ بلبان العلياء إلى أن بحجرها نشأ، وارتشف مدامة حبّها إلى أن نشا، وطابت منه الخليقة، فكانت ممّا قلتُ فيها خليقة:
يا طيب أخلاق كريم روي الـ |
سامعُ منها ما روى المبصرُ |
|
بأنّها أطيبُ من روضةٍ |
طينتها مازجها العنبرُ |
|
لو مزج الماء بها شاربٌ |
ما شك فيه أنّه الكوثرُ |
|
ندبٌ له في حلبات العُلى |
دون الأنام الورد والمصدرُ |
|
كأنَّ مَنْ يأوي إلى بشره |
من وحشةٍ في روضةٍ يحبرُ |
معارجُ العلياء مرصودةٌ |
ليس عليها غيره يظهرُ |
الفصيح الذي عقدت عليه الفصاحة حبُك نطاقها، والبليغ الذي مدّت فوقه البلاغة رفيع رواقها، والماجد الذي سمح الدهر بجوده، فدلّ على نفي بخل الدهر وإثبات وجوده، وأحيا به روضة الأدب بعدما ذوت، وأجدَّ به ربوع الفضل بعدما عفت، ورفع به سماء المجد بعد هبوطها، وأقام به أعمدة السؤدد بعد سقوطها، وأقرَّ عيون السماح منه بإنسانها، ووصل يمين المعروف منه ببنانها، ونشر به جميع ما طوى من المحاسن العجيبة، وأظهر فيه ما أُخفيَ من بدايع الكمالات الغريبة، فهو من أهل زمانه بمنزلة الروح من الجسد، والواسطة من العقد المنضد، فأكرم به من ماجدٍ بهيجٍ تعشو من ضوء صباح محياه نواظرُ الراثين إذا ملأتْ من نوره البصر، وأعجب به من فطنٍ تعشو في ظلام الإشكال إلى مصباح ذكاه بصائرُ ذي النظر؛ الصفيُّ الذي أخلصته نفسي من جميع ما ضمّه الفضا، (الحاج محمدٌ الرضا). لا زالت شمس إقباله طالعةً في أعلى بروج المراتب، وكوكب سعده ثاقباً في سماء شرفه التي يتمنّى أن يحلَّ فيها سعدُ الكواكب، ولا برح طائر اليمن له مزجوراً، وروض مسرّته غضاً مونقاً نضيراً، بمحمدٍ وآله المبرّئين من الزلل، وصحبه الذين ما لهم في التقى من مثل.
أمّا بعد: فإنّي لم أزل للغرام فيك نديماً، وعلى الصبابة حيثما رحلتُ مقيماً، تذهب بيَ الأشواقُ كلَّ مذهب، وطرف عيني لم يزل في آفاق السماء مقلَّب، فكان عينيَ قد جنَّت عن إغضائها، وكلَّت بعدّ النجوم وإحصائها:
أنا أحصي النجوم فيكَ ولكن |
لذنوب الزمان ليس بمحصي |
غير أنّي كلّما ألحَّ على قلبي الجوى فأضناه، روّحتُه بذكراك فتنتعش بعد الضعف قواه، وبينما أعللُ نفسي بذكر الوصال، وهي من شدّة الشوق
تتمثّل بقول منْ قال:
ولم أرَ مثلي قطَّع الشوقُ قلبه |
على أنّه يحكي قساوته الصخرُ |
إذ وردتْ منك إليَّ رسالةٌ بديعة الكلام، حسنة النسيج والانسجام، قد افتتحت بزهر السّلام روضة كلماتها، وختمت بمسك الثناء عقود فقراتها، فنشقت منها نسيم المودّة حين نُشرت لديَّ، واقتطفتُ منها نور المحبّة حين قُرئتْ عليَّ، وهزَّني إليها الطرب، وملكني منها العجب، ولمّا استوقفتُ النظر فيها، وأجلت الفكر في ألفاظها ومعانيها، سكرتُ من ألفاظها ولا جام، بمدامة معانيها ولا مدام، فحينئذٍ ثنيت عطفَ ذي نشوة، وذبّت بها صبابةً وصبوة، لكنّي كلّما فوّقت سهام فكري لم أصب الغرض في تفويقها حين غلب عليَّ الشكّ في تحقيقها.
أهيَ السلافة مُزجتْ بالغيث الذي انسجم وانسكب؟ أم (المستظرف) من أرواح الكتب، أو زُفَّتْ إليَّ دمية القصر، أو يتيمة الدهر؟ وجُليت لي بين أنوار الربيع في المعاهد، حاليةً بدرّ القلائد، وغرر الفوائد، فيا لها عرائس فكرٍ أغرب مبتكرها وأبدع، ولآلي ألفاظٍ أحسن ناثرُها حين جانس بينها وسجَّع، وجمع فيها فصاحة الألفاظ وبلاغة المعاني فسحر الألبابَ بيانها، وألَّف بين الإيجاز والإطناب فبهر العقولَ تلخيصها وتبيانها، ووالى في سلك الطروس بين فرائد منظومها ومنثورها، وقابل بين التدبيج والتطريز في وشيِ رياض سطورها، قد ابتدأتْ برفع خبر الشوق عند الخليل، وأنهت إليه الجزم في تمييزه فيما بنيتْ عليه من مضمر الحبّ وظاهر المدح الجليل، وأنبأتُ فيما أكدتُ من الشوق أن لا بدلَ من الصبّ عند صبِّه، وأن لا عوض عنه فيما نعتت من اشتغال قلب الحبيب بمحبّه، وأنَّ هوى الخليل مقصورٌ على خليله في كلّ أحواله.
بالإضافة إلى الاستثناء في حذف عذاله، وصرّحتُ عن إلغاء مقالة الحسّاد، وإثبات ما راموا نفيه من المحبّة والوداد، فطفقتُ
أكسوها من إستبرق المدائح بُرداً أحكم فكري نسجه، وأحليّها بعقود الثناء وإن لم تزدْ حسنها بهاءً وبهجة:
أطرسكَ أم خدُّ عذراء بكرٍ |
وذا درُ لفظكَ أم لفظُ درِّ |
|
سحرٌ غداة فضضتَ الختام |
عنه كأنّ لفظه نفثُ سحرِ |
|
وشكَّكني حسنُ تنميقه |
أوشيُ بنانك أم وشيُ زهرِ |
فناهيكَ بها مبلغةُ أو غرتْ فأوجزت، ومفصحةً بما فيه لكلّ منطيقٍ أعجزت، قد حملت جزيل الحمد من مبادرٍ لشكره، إلى مَنْ تقدّم إليه بمدح مجده وتنويه قدره، فللّه أبوكَ وأنت، أتشكرني على مديحٍ به إلى نفسي أحسنتَ؟! لأنّ النفس منّا ومنكم في الحقيقة واحدة، وإن كانت الأجساد متعددةً متباعدة، على أنّكم في غنىً عن جميع المدايح، بما أحرزتم من المكارم والشرف الواضح، وبنشر فخركم طبق مجدكم سائر الأرجاء، لا بما نشرت لكم من الثناء ألسنُ الشعراء، غير أنّي كلّما فكرتُ في نفسي، لم أجدُ إلاّ المحبّة الخالصة، دعتكَ إلى شكر مدائحي التي هي بالنسبة إلى كمال شرفكم متناقصة.
فنسأل اللّه سبحانه وتعالى أن يجعل عزّكم ملازماً للدوام ما بقيَ الدهر، ويصل بالبقاء ما خلع عليكم من مطارف الوقار والفخر، إنّه على كلّ شيٍ قدير وبالإجابة.
***
7 - هذه صورة ما كتبه حول قصيدة المرحوم عمّه السيد مهدي السيد داود:
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد للّه ربّ العالمين، وصلّى اللّه على أشرف أنبيائه محمدٍ وآله الطيبين الطاهرين.
أمّا بعد: فيقول الراجي عفو ربّه الغنيّ (حيدر بن سليمان
الحسيني): إنّي لمّا جارى عمُّنا وسيّدنا السيد مهدي السيّد صالح القزويني (1) في قصيدة مدح إنسان عين الزمان، وواحد الأبدال والأعيان، مَنْ حطَّ عن أدنى مراقي علاه الفرقدان، وأشرق في سماء فخره المشرقان، زعيم الفضلاء الجحجاح، الحاج محمد صالح (كبّه).
أحببتُ أنْ أتصدى إلى تشطير قصيدة سيّدنا السيد مهدي، كما تصدّى إلى تشطير قصيدة السيّد المشار إليه الشيخ إبراهيم العاملي (2) ، فوجدتها في دقائق معانيها، وسلاسة ألفاظها، ورقة قوافيها فوق ما قلتُ فيها:
ومُعربةٍ عن فضل مَنْ صاغ لفظها |
وأودع فيها من بدايعه اللحنا |
|
بديعه حسنٍ لو سواه يرومها |
لكان التقاط الشهب من مثلها أدنى |
|
تودُّ قلوبُ السامعين لو أنّها |
إذا أُنشدتْ في محفلٍ كانت الأدنى |
|
فما هي إلاّ وردةٌ ما تفتَّقت |
كمائمُ زهر الشعر عن مثلها حُسنا |
|
ولا ولدت أمُّ القريض نظيرَها |
ولا فتحت يوماً على مثلها جفنا |
|
فما روضةٌ غنّاء راقت بزهرها |
وما برحت أزهارها ترضع المـُزنا |
|
بألطف من مدحٍ بها (لمحمدٍ) |
وأنّى وفيه فاقت الروضة الغنا |
|
فتىً قبل دحو الأرض بيتُ علائه |
بناه إله العرش للملتجي أمنا |
|
وقام بنصر الدين لله ناصرا |
وفي علمه للخلق نهجَ الهدى سنّا |
|
فما المجدُ إلاّ صورةٌ وهو روحها |
وما الفخرُ إلاّ لفظه وهو المعنى |
|
فتىً في معاليه وفي مجده يرى |
أجلّ بني الدنيا وأمنعهم ركنا |
|
وأكرم به من ماجدٍ سيبَ جودُه |
لوفاده عن طيّب المزن قد أغنى |
|
أيا مَنْ لعيدان الندى رَّد ماءها |
بعيدَ ظماً لم يُبقِ في دوحها غصنا |
|
وقد عاد منها ما ذوى فيه مورقا |
وما قد عسى أمسى لعاطفه لدنا |
|
بمدحك أمَّ الساريات حسودُها |
إذا تليت من سحر ألفاظها جَنّا |
____________________
1 - مرّ ذكره في باب المدائح.
2 - ترجمت له في شعراء الغري 1 / 68.
ومن حسنها وافى معنّىً قد اغتدى |
وسيعُ فضاء الأرض في عينها سجنا |
|
يودُّ إذا ما أنشدوها بمحفلٍ |
له منشئُ الأجساد ما خلق الأذنا |
|
مسدَّدة الأقوال يمسي معيبُها |
لخجلته بين الورى يقرعُ السنّا |
|
ولو رزقَ اللهُ السكوت معيبَها |
لكان له من نطق مذوده أهنا |
ثمّ إنّي أعرضتُ عن تشطيرها، وقلتُ: ما يمنعني من تخميسها وقد أنحلني أدبه، وشربتُ من نطاف هذا النظام مشربه؟ فأطلقت عنان فكرتي في مجاراته، وقابلت بتخميسها جميع بدائعه ومخترعاته، فقلت:
إذا عنّ لي برقٌ يضيء على البعد |
نزت كبدي من شدّة الشوق والوجد (1) |
ولمّا قدم حضرة قطب دائرة الوزارة، ومؤمَّل الإمارة، وإلى بغداد جناب أحمد مدحت باشا، نظمَ بيتين يتحمّس بهما، وذلك قوله:
فلا والقنا والمرهفات البواتر |
فلا ترة أبقيتَ لي عند واترِ |
|
أيذهب خصمٌ في دمٍ لي مضيَّع |
ولستُ أذيق الخصم حدَّ البواترِ |
فكتب إليَّ الحاج مصطفى كبّه إلى الحلّة يستحثّني بعد الالتماس على تشطيرهما وتخميسهما، وأن أنثر مع ذلك نبذة من مدح الوالي المشار إليه، وأن أنظم من الشعر ممّا يحسن به الثناء عليه، وذكر أنّه حضر في تلك المجالس، وجرى ذكر البيتين فضمّن التشطير والتخميس، ثمّ ألزمني بذلك وحثّني على الاستعجال، فأجبته وقلتُ مصدّراً للنثر بهذين البيتين، مورِّيا فيهما باسم الوالي المتقدّم ذكره:
لي قوافٍ في جنبها البحر رشحه |
سلسلتها رويَّةٌ لي سمحه |
|
مدح الدهرُ حسنها غير أنّي |
لستُ أرضى بها لأحمد مدحه |
ذلك من ألحف بيضة الإسلام جناح ظلّه، وأقام دون حوزة المُلك سدّاً من
____________________
1 - ذكرت في باب المدائح.