الأئمة الاثنا عشر

الأئمة الاثنا عشر0%

الأئمة الاثنا عشر مؤلف:
تصنيف: مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام
الصفحات: 116

الأئمة الاثنا عشر

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
تصنيف:

الصفحات: 116
المشاهدات: 66817
تحميل: 9003

توضيحات:

الأئمة الاثنا عشر
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 116 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 66817 / تحميل: 9003
الحجم الحجم الحجم
الأئمة الاثنا عشر

الأئمة الاثنا عشر

مؤلف:
العربية

تسليط الضوء على شخصيته السامية

لا عتب على اليراع لو وقف عند تحديد شخصية كريمة معنوية خصّها الله تعالى بمواهب وفضائل، وكفى في ذلك ما رواه طارق بن شهاب، قال: كنت عند عبد الله بن عباس فجاء اُناس من أبناء المهاجرين فقالوا له: يا بن عباس أي رجل كان علي بن أبي طالب؟

قال: ملئ جوفه حكماً وعلماً وبأساً ونجدة وقرابة من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) .

روى عكرمة عن ابن عباس قال: ما نزل في القرآن :( يَا أَيِّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) إلاّ وعليعليه‌السلام رأسها وأميرها، ولقد عاتب الله أصحاب محمد في غير مكان، وما ذكر عليّاً إلاّ بخير(٢) .

وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ما نزل في أحد من كتاب الله ما نزل في علي(٣) .

وقال ابن عباس: نزلت في علي أكثر من ثلاثمائة آية في مدحه(٤) .

ونكتفي في ترجمة عليعليه‌السلام بكلمتين عن تلميذيه اللذين كانا معه سرّاً وجهراً:

___________________

(١) شواهد التنزيل ١ / ١٠٨ ح ١٥٣.

(٢) مسند أحمد ١ / ١٩٠، تاريخ الخلفاء ١٧١.

(٣) الصواعق المحرقة، الباب التاسع، الفصل الثالث ٧٦.

(٤) تاريخ الخلفاء ١٧٢.

٢١

١ _ قال ابن عباس _ عندما سئل عن علي فقال _: رحمة الله على أبي الحسن كان والله علم الهدى وكهف التقى وطود النهى ومحل الحجى وغيث الندى، ومنتهى العلم للورى، ونوراً أسفر في الدجى، وداعياً إلى المحجّة العظمى ومستمسكاً بالعروة الوثقى، أتقى من تقمّص وارتدى، وأكرم من شهد النجوى بعد محمد المصطفى، وصاحب القبلتين، وابو السبطين، وزوجته خير النساء فما يفوقه احد، لم تر عيناي مثله، ولم أسمع بمثله، فعلى من أبغضه لعنة الله ولعنة العباد الى يوم التناد(١) .

٢ _ إنّ معاوية سأل ضراراً بن حمزة بعد موت علي عنه، فقال: صف لي عليّاً، فقال: اوتعفيني؟ قال: صفه، قال: اوتعفيني؟ قال: لا أعفيك، قال: أما إذ لابدّ فأقول ما أعلمه منه:

والله كان بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلاً، ويحكم عدلاً، يتفجّر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل وظلمته، كان والله غزير الدمعة، طويل الفكرة، يقلّب كفّيه ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما خشن، ومن الطعام ما جشب.

كان والله كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه ويبتدئنا اذا اتيناه، ويأتينا اذا دعوناه، ونحن والله مع تقريبه لنا وقربه منّا لا نكلّمه هيبة، ولا نبتدئه عظمة، إن تبسّم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، يعظّم أهل الدين، ويحبّ المساكين، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله.

فأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه وقد مثل في محرابه قابضاً على لحيته يتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحزين وكأنّي أسمعه وهو يقول: يا دنيا أبي تعرّضت؟ أم إليّ تشوّقت؟ هيهات، هيهات غرّي غيري قد باينتك ثلاثاً لا رجعة لي فيك، فعمرك قصير وعيشك حقير، وخطرك كثير، آه من قلّة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق.

قال: فذرفت دموع معاوية على لحيته فما يملكها وهو ينشفها بكمّه وقد اختنق القوم بالبكاء، فقال معاوية: رحم الله أبا الحسن كان والله كذلك فكيف حزنك عليه يا ضرار؟ قال: حزن من ذبح ولدها في حجرها فلا ترقأ عبرتها ولا يسكن حزنها(٢) .

هذه شذرات من فضائله، وقبسات من مناقبه الكثيرة التي حفظها التاريخ عن تلاعب الأيدي.

غير أنّه لا يعرف عليّاً غير خالقه، وبعده صاحب الرسالة الكبرى ابن عمه المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

___________________

(١) ميزان الإعتدال ١ / ٤٨٤.

(٢) ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة ١٨ / ٢٢٥ وغيره.

٢٢

تنصيب عليعليه‌السلام للإمامة:

لا شك في أنّ الدين الإسلامي دين عالمي، وشريعة خاتمة، وقد كانت قيادة الأُمة الإسلامية من شؤون النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما دام على قيد الحياة، وطبع الحال يقتضي أن يوكل مقام القيادة بعده الى أفضل أفراد الأُمّة وأكملهم.

إنّ في هذه المسألة وهي أنّ منصب القيادة بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هل هو منصب تنصيصي تعييني أو أنّه منصب انتخابي؟ اتّجاهين:

فالشيعة ترى أنّ مقام القيادة منصب تنصيصي، ولابدّ أن ينصّ على خليفة النبيّ من السماء، بينما يرى اهل السنّة أنّ هذا المنصب انتخابي جمهوري، أي أنّ على الأُمّة ان تقوم بعد النبي باختيار فرد من أفرادها لإدارة البلاد.

إنّ لكل من الاتّجاهين المذكورين دلائل، ذكرها أصحابهما في الكتب العقائدية، إلاّ أنّ ما يمكن طرحه هنا هو تقييم ودراسة المسألة في ضوء دراسة وتقييم الظروف السائدة في عصر الرسالة، فإنّ هذه الدراسة كفيلة باثبات صحّة أحد الاّتجاهين.

إنّ تقييم الأوضاع السياسية داخل المنطقة الإسلامية وخارجها في عصر الرسالة يقضي بأنّ خليفة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لابدّ أن يعيّن من جانب الله تعالى، ولا يصحّ أن يوكّل هذا إلى الأُمّة، فإنّ المجتمع الإسلامي كان مهدّداً على الدوام بالخطر الثلاثي (الروم _ الفرس _ المنافقين) بشنّ الهجوم الكاسح، وإلقاء بذور الفساد والاختلاف بين المسلمين.

كما أنّ مصالح الأمّة كانت توجب أن يوحّد صفوف المسلمين في مواجهة الخطر الخارجي، وذلك بتعيين قائد سياسي من بعده، وبذلك يسد الطريق على نفوذ العدو في جسم الأمّة الإسلامية والسيطرة عليها، وعلى مصيرها.

وإليك بيان وتوضيح هذا المطلب:

لقد كانت الإمبراطورية الرومانية احد أضلاع الخطر المثلث الذي يحيط بالكيان الإسلامي، ويهدّده من الخارج والداخل.

وكانت هذه القوّة الرهيبة تتمركز في شمال الجزيرة العربية، وكانت تشغل بال النبي القائد على الدوام، حتى أنّ التفكير في أمر الروم لم يغادر ذهنه وفكره حتى لحظة الوفاة، والالتحاق بالرفيق الأعلى.

٢٣

وكانت أوّل مواجهة عسكرية بين المسلمين والجيش المسيحي الرومي وقعت في السنة الثامنة من الهجرة في أرض فلسطين، وقد أدّت هذه المواجهة إلى استشهاد القادة العسكريين البارزين الثلاثة وهم «جعفر الطيار» و«زيد بن حارثة» و«عبد الله بن حارثة».

ولقد تسّبب انسحاب الجيش الإسلامي بعد استشهاد القادة المذكورين الى تزايد جرأة الجيش القيصري المسيحي، فكان يخشى بصورة متزايدة أن تتعرّض عاصمة الإسلام للهجوم الكاسح من قبل هذا الجيش.

من هنا خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في السنة التاسعة للهجرة على رأس جيش كبير جداً إلى حدود الشام ليقود بنفسه أيّة مواجهة عسكرية، وقد استطاع الجيش في هذا الرحلة الصعبة المضنية أن يستعيد هيبته الغابرة، ويجدّد حياته السياسية:

غير أنّ هذا الانتصار المحدود لم يقنع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأعد قُبيل مرضه جيشاً كبيراً من المسلمين، وأمّر عليهم«أُسامة بن زيد»، وكلّفهم بالتوجّه الى حدود الشام، والحضور في تلك الجبهة.

أما الضلع الثاني من المثلث الخطير الذي كان يهدّد الكيان الإسلامي، فكان الإمبراطورية الإيرانية (الفارسية) وقد بلغ من غضب هذه الإمبراطورية على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومعاداتها لدعوته، أن أقدم امبراطور ايران «خسرو برويز» على تمزيق رسالة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتوجيه الإهانة الى سفيره باخراجه من بلاطه، والكتابة الى واليه وعميله باليمن بأن يوجّه الى المدينة من يقبض على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو يقتله إن امتنع.

و«خسرو» هذا وإن قتل في زمن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ أنّ استقلال اليمن _ التي رزحت تحت استعمار الامبراطورية الإيرانية ردحاً طويلاً من الزمان _ لم يغب عن نظر ملوك ايران آنذاك، وكان غرور اولئك الملوك وتجبّرهم وكبرياؤهم لا يسمح بتحمّل منافسة القوة الجديدة ( القوة الإسلامية) لهم.

والخطر الثالث كان هو خطر حزب النفاق الذي كان يعمل بين صفوف المسلمين كالطابور الخامس على تقويض دعائم الكيان الإسلامي من الداخل الى درجة أنّهم قصدوا اغتيال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في طريق العودة من تبوك الى المدينة.

٢٤

فقد كان بعض عناصر هذا الحزب الخطر يقول في نفسه، انّ الحركة الإسلامية سينتهي امرها بموت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورحيله، وبذلك يستريح الجميع.

ولقد قام أبو سفيان بن حرب بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمكيدة مشؤومة لتوجيه ضربة الى الامّة الإسلامية من الداخل وذلك عندما اتى علياًعليه‌السلام وعرض عليه ان يبايعه ضدّ من عيّنه رجال السقيفة، ليستطيع بذلك تشطير الامّة الإسلامية الواحدة الى شطرين متحاربين متقاتلين، فيتمكّن من التصيّد في الماء العكر.

ولكنّ الإمام علياًعليه‌السلام أدرك بذكائه البالغ نوايا أبي سفيان الخبيثة، فرفض مطلبه وقال له كاشفاً عن دوافعه ونواياه الشريرة:

«والله ما أردت بهذا إلاّ الفتنة، وإنّك والله طالما بغيت للإسلام شرّاً. لا حاجة لنا في نصيحتك»(١) .

ولقد بلغ دور المنافقين التخريبي من الشدّة بحيث تعرّض القرآن لذكرهم في سور عديدة هي: سورة آل عمران، والنساء، والمائدة والأنفال، والتوبة، والعنكبوت، والأحزاب، ومحمد، والفتح، والمجادلة، والحديد، والمنافقين والحشر.

___________________

(١) الكامل في التاريخ ج ٢ ص ٢٢٢، العقد الفريد ج ٢ ص ٢٤٩.

٢٥

فهل مع وجود مثل هؤلاء الاعداء الألداء والاقوياء الذين كانوا يتربّصون بالإسلام الدوائر، ويتحيّنون الفرص للقضاء عليه، يصح أن يترك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أُمّته الحديثة العهد بالإسلام، الجديدة التأسيس من دون أن يعيّن لهم قائداً دينياً سياسياً؟

إنّ المحاسبات الاجتماعية تقول: إنه كان من الواجب أن يمنع رسول الإسلام بتعيين قائد للأمّة،... من ظهور أيّ اختلاف وانشقاق فيها من بعده، وأن يضمن استمرار وبقاء الوحدة الإسلامية بايجاد حصن قوي وسياج دفاعي متين حول تلك الامّة.

إنّ تحصين الأمّة، وصيانتها من الحوادث المشؤومة، والحيلولة دون مطالبة كل فريق «الزعامة» لنفسه دون غيره، وبالتالي التنازع على مسألة الخلافة والزعامة، لم يكن ليتحقّق، إلاّ بتعيين قائد للامّة، وعدم ترك الامور للأقدار.

إنّ هذه المحاسبة الاجتماعية تهدينا الى صحّة نظرية «التنصيص على القائد بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » ولعلّ لهذه الجهة ولجهات اخرى طرح رسول الإسلام مسألة الخلافة في الايام الاولى من ميلاد الرسالة الإسلامية، وظلّ يواصل طرحها والتذكير بها طوال حياته حتى الساعات الاخيرة منها، حيث عيّن خليفته ونصّ عليه بالنصّ القاطع الواضح الصريح في بدء دعوته، وفي نهايتها أيضاً. وإليك بيان كلا هذين المقامين:

١ _ النبوّة والإمامة توأمان:

بغضّ النظر عن الأدلّة العقلية والفلسفية التي تثبت صحّة الرأي الأوّل بصورة قطعية، هناك أخبار وروايات وردت في المصادر المعتبرة تثبت صحّة الموقف والرأي الذي ذهب اليه علماء الشيعة وتصدّقه، فقد نصّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على خليفته من بعده في الفترة النبوية من حياته مراراً وتكراراً، وأخرج موضوع الإمامة من محال الانتخاب الشعبي والرأي العام.

فهو لم يعيّن (ولم ينص على) خليفته ووصيه من بعده في أُخريات حياته فحسب، بل بادر الى التعريف بخليفته ووصيه في بدء الدعوة يوم لم ينضو تحت راية رسالته بعد سوى بضع عشرة من الاشخاص، وذلك يوم امر من جانب الله العلي القدير ان ينذر عشيرته الأقربين من العذاب الإلهي الأليم. وأن يدعوهم الى عقيدة التوحيد قبل أن يصدع رسالته للجميع ويبدأ دعوته العامة للناس كافة.

٢٦

فجمع اربعين رجلاً من زعماء بني هاشم وبني المطلب، ثمّ وقف فيهم خطيباً فقال:

«أيّكم يؤازرني على هذا الأمر على ن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم؟» .

فأحجم القوم، وقام عليّعليه‌السلام وأعلن مؤازرته وتأييده له، فأخذ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برقبته، والتفت الى الحاضرين، وقال:

«إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم» (١) .

وقد عرف هذا الحديث عند المفسّرين والمحدّثين: ب «حديث يوم الدار» و«حديث بدء الدعوة».

على أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكتف بالنص على خليفته في بدء رسالته، بل صرّح في مناسبات شتّى في السفر والحضر، بخلافة عليعليه‌السلام من بعده، ولكن لا يبلغ شيء من ذلك في الاهمية والظهور والصراحة والحسم ما بلغه حديث الغدير.

٢ _ قصة الغدير:

لمّا انتهت مراسيم الحج، وتعلّم المسلمون مناسك الحجّ من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرّر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الرحيل عن مكة، والعودة الى المدينة، فأصدر امراً بذلك، ولمّا بلغ موكب الحجيج العظيم الى منطقة «رابغ»(٢) التي تبعد عن «الجحفة»(٣) بثلاثة أميال، نزل امين الوحي جبرئيل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمنطقة تدعى «غدير خم»، وخاطبه بالآية التالية:

( يا أيُّها الرَّسُولُ بَلُّغ مَا أُنزِلَ إِلَيكَ مِن رَبِّكَ وإن لمّ تَفعَل فَما بَلَّغتَ رِسالَتهُ وَاللهُ يَعصِمُكَ مِنَ النّاسِ ) (٤) .

___________________

(١) تاريخ الطبري ج ٢ ص ٢١٦، الكامل في التاريخ ج ٢ ص ٦٢ و٦٣.

(٢) رابغ تقع الآن على الطريق بين مكة والمدينة.

(٣) من مواقيت الإحرام وتنشعب منها طرق المدنيين والمصريين والعراقيين.

(٤) المائدة / ٦٧.

٢٧

إنّ لسان الآية وظاهرها يكشف عن أن الله تعالى ألقى على عاتق النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسؤولية القيام بمهمّة خطيرة، وأيّ امر اكثر خطورة من أن ينصّب علياًعليه‌السلام لمقام الخلافة من بعده على مرأى ومسمع من مائة ألف شاهد؟!

من هنا أصدر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمره بالتوقّف، فتوقّف طلائع ذلك الموكب العظيم، والتحق بهم من تأخر.

لقد كان الوقت وقت الظهيرة ، وكان المناخ حارّاً الى درجة كبيرة جداً، وكان الشخص يضع قسماً من عباءته فوق رأسه والقسم الآخر منها تحت قدميه،وصنع للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مظلّة وكانت عبارة عن عباءة أُلقيت على اغصان شجرة (سمرة)، وصلّى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالحاضرين الظهر جماعة وفيما كان الناس قد أحاطوا به صعدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على منبر أعدّ من احداج الإبل وأقتابها، وخطب في الناس رافعاً صوته، وهو يقول:

«الحمد لله ونستعينه ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات اعمالنا الذي لا هادي لمن اضلّ، ولا مضلّ لمن هدى، وأشهد أن لا إله إلاّ هو، وأنّ محمداً عبده ورسوله.

أمّا بعد: ايّها الناس انّي أوشك ان أدعى فأجيب، وأنّي مسؤول وأنتم مسؤولون فماذا انتم قائلون؟»

قالوا: نشهد أنّك قد بلّغت ونصحت وجهدت، فجزاك الله خيراً.

قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :«ألستم تشهدون أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمداً عبده ورسوله، وأنّ جنّته حق، وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها، وأنّ الله يبعث من في القبور؟» .

قالوا: بلى نشهد بذلك.

قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :«اللّهمّ اشهد» .

ثمّ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :«وإنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا أبداً» .

فنادى مناد: بأبي أنت وأمي يا رسول الله وما الثقلان؟

قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :« كتاب الله سبب طرف بيد الله، وطرف بأيديكم، فتمسّكوا به، والآخر عترتي، وانّ اللطيف الخبير نبّأني إنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فلا تقدموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا» .

٢٨

وهنا اخذ بيد «عليّعليه‌السلام » ورفعها، حتى رؤي بياض ابطيهما، وعرفه الناس اجمعون ثمّ قال:

«أيّها الناس من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟»

قالوا: الله ورسوله أعلم

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«إنّ الله مولاي وأنا مولى المؤمنين وأنا اولى بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه فعليّ مولاه (١) .

اللّهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأحب من أحبّه، وابغض من بغضه، وأدر الحق معه حيث دار» (٢) .

___________________

(١) لقد كرّر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه العبارة ثلاث مرات دفعاً لايّ التباس او اشتباه.

(٢) راجع للوقوف على مصادر هذا الحديث المتواتر موسوعة الغدير للعلاّمة الأمينيرحمه‌الله

٢٩

فلمّا نزل من المنبر، استجاز حسان بن ثابت شاعر عهد الرسالة في أن يفرغ ما نزل به الوحي في قالب الشعر، فأجازه الرسول، فقام وأنشد:

يناديهم يوم الغدير نبيّهم

بخمّ وأكرم بالنبيّ مناديا

يقول فمن مولاكم ووليكم

فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا

إلهك مولانا وأنت وليّنا

ولم تَرَ منّا في الولاية عاصيا

فقال له قم يا عليّ فانّني

رضيتك من بعدي إماماً وهاديا

فمن كنت مولاه فهذا وليّه

فكونوا له أنصار صدقٍ مواليا

هناك دعا: اللهّم! وال وليّه

وكن للذي عادى علياً معاديا

مصادر الواقعة:

هذه هي واقعة الغدير استعرضناها لك على وجه الإجمال، وهي بحق واقعة لا يسوغ لاحد انكارها بأدنى مراتب التشكيك والقدح، فقد تناولها بالذكر أئمّة المؤرخين امثال: البلاذري، وابن قتيبة، والطبري، والخطيب البغدادي، وابن عبد البر، وابن عساكر، وياقوت الحموي، وابن الاثير، وابن ابي الحديد، وابن خلّكان، واليافعي، وابن كثير، وابن خلدون، والذهبي، وابن حجر العسقلاني، وابن الصباغ المالكي، والمقريزي، وجلال الدين السيوطي، ونور الدين الحلبي الى غير ذلك من المؤرّخين الذين جادت بهم القرون والاجيال.

كما ذكره ايضاً أئمّة الحديث امثال: الإمام الشافعي، وأحمد بن حنبل، وابن ماجة، والترمذي، والنسائي، وأبو يعلى الموصلي، والبغوي، والطحاوي، والحاكم النيسابوري، وابن المغازلي، والخطيب الخوارزمي، والكنجي، ومحب الدين الطبري، والحمويني، والهيثمي، والجزري، والقسطلاني، والمتقي الهندي، وتاج الدين المناوي، وأبو عبد الله الزرقاني، وابن حمزة الدمشقي الىغير ذلك من أعلام المحدّثين الذين يقصر المقال عن عدّهم وحصرهم.

كما تعرض له كبار المفسرين، فقد ذكره: الطبري، والثعلبي، والواحدي في أسباب النزول، والقرطبي، وأبو السعود، والفخر الرازي، وابن كثير الشامي، والنيسابوري، وجلال الدين السيوطي، والآلوسي، والبغدادي.

٣٠

وذكره من المتكلّمين طائفة جمّة في خاتمة مباحث الإمامة وإن ناقشوا نقضاً وإبراماً في دلالته كالقاضي أبي بكر الباقلاني في تمهيده، والقاضي عبد الرحمن الايجيي في مواقفه، والسيد الشريف الجرجاني في شرحه، وشمس الدين الاصفهاني في مطالع النوار، والتفتازاني في شرح المقاصد، والقوشجي في شرح التجريد الى غير ذلك من المتكلّمين الذين تعرضوا لحديث الغدير وبحثوا حول دلالته ووجه الحجة فيه.

واقعة الغدير ورمز الخلود:

أراد المولى عزّ وجلّ أن يبقى حديث الغدير غضّاً طرياً على مرّ الأجيال لم يُكدّر صفاء حقيقته الناصعة تطاول الاحقاب، وكرّ الأزمان، وانصرام الاعوام، ويرجع ذلك الى امور ثلاثة:

١ _ إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد هتف به في مزدحم غفير يربو على عشرات الآلاف عند منصرفه من الحج الاكبر، فنهض بالدعوة والاعلان، وحوله جموع من وجوه الصحابة وأعيان الامّة، وأمر بتبليغ الشاهد الغائب ليكونوا كافّة على علم وخبر بما تمّ إبلاغه.

٢ _ إنّ الله سبحانه قد أنزل في تلك المناسبة آيات تلفت نظر القارئ الى الواقعة عندما يتلوها وإليك الآيات:

أ _( يا أيُّها الرَّسُولُ بَلِّغ مَا أنزِلَ إِليَكَ مِن رَبِّكَ وإن لم تَفعَل فَما بَلَّغتَ رِسالَتهُ وَاللهُ يَعصِمُكَ مِنَ النّاسِ ) (١) .

وقد ذكر نزولها في واقعة الغدير لفيف من المفسّرين يربو عددهم على الثلاثين، وقد ذكر العلاّمة البحّاثة المحقق الأميني في كتاب «الغدير» نصوص عبارات هؤلاء، فمن أراد الاطلاع عليها، فليرجع إليه.

ب _( اليَومَ أَكمَلتُ لَكُم دِينكُم وَأَتممَتُ عَلَيكُم نِعمَتي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلامَ دِيناً ) (٢) .

___________________

(١) المائدة / ٦٧.

(٢) المائدة / ٣.

٣١

وقد نقل نزول الآية جماعة منهم يزيدون على ستة عشر.

ج _( سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلكَافِرِينَ لَيسَ لَهُ دَافِعٌ * مِنَ اللهِ ذِي المَعارِج ) (١) .

وقد ذكر أيضاً نزول هذه الآية جماعة من المفسّرين ينوف على الثلاثين، أضف الى ذلك أنّ الشيعة عن بكرة أبيهم متّفقون على نزول هذه الآيات الثلاث في شأن هذه الواقعة(٢) .

٣ _ إنّ الحديث منذ صدوره من منبع الوحي، تسابقت الشعراء والأدباء على نظمه، وانشاده في ابيات وقصائد امتدّت رقعتها منذ عصر انبثاق ذلك النص في تلك المناسبة الى عصرنا هذا، وبمختلف اللغات والثقافات، وقد تمكّن البحّاثة المتضلّع العلاّمة الأميني من استقصاء وجمع كل ما نظم باللغة العربية حول تلك الحادثة، والمؤمّل والمنتظر من كافة المحققين على اختلاف ألسنتهم ولغاتهم استنهاض هممهم لجمع ما نظم وأُنشد في أدبهم الخاص.

وحصيلة الكلام: قلّما نجد حادثة تاريخية حطيت في العالم البشري عامّة، وفي التاريخ الإسلامي والأُمة الإسلامية خاصّة بمثل ماحظيت به واقعة الغدير، وقلّما استقطبت اهتمام الفئات المختلفة من المحدّثين والمفسّرين والكلاميين والفلاسفة والأُدباء والكتّاب والخطباء وأرباب السير والمؤرخين كما استقطبت هذه الحادثة، وقلّما اعتنوا بشيء مثلما اعتنوا بها.

___________________

(١) المعارج / ١ _ ٣.

(٢) راجع كتاب الغدير في شأن نزول هذه الآيات ج ١ ص ٢١٤ و٢١٧.

٣٢

هذا ويستفاد من مراجعة التاريخ إنّ يوم الثامن عشر من شهر ذي الحجة الحرام كان معروفاً بين المسلمين بيوم عيد الغدير، وكانت هذه التسمية تحظى بشهرة كبيرة الى درجة أنّ ابن خلكان يقول حول «المستعلى ابن المستنصر»:

«فبويع في يوم غدير خم، وهو الثامن عشر من شهر ذي الحجة سنة ٤٨٧ هجري»:

وقال في ترجمة المستنصر بالله العباسي: «وتوفي ليلة الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة سنة سبع وثمانين وأربعمائة، قلت، وهذه هي ليلة عيد الغدير أعني ليلة الثامن عشر من شهر ذي الحجة، وهو غدير خم»(١) .

وقد عدّه أبو ريحان البيروني في كتابه الآثار الباقية «ممّا استعمله أهل الإسلام من الأعياد»(٢) .

وليس ابن خلّكان، وأبو ريحان البيروني، هما الوحيدان اللذان صرّحا بكون هذا اليوم هو عيد من الأعياد، بل هذا الثعالبي قد اعتبر هو الآخر ليلة الغدير من الليالي المعروفة بين المسلمين»(٣) .

إنّ عهد هذا العيد الإسلامي، وجذوره ترجع الى نفس يوم «الغدير» لأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر المهاجرين والأنصار، بل امر زوجاته ونساءه في ذلك اليوم بالدخول على عليّعليه‌السلام وتهنئته بهذه الفضيلة الكبرى.

يقول زيد بن أرقم: كان أوّل من صافح النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليّاً: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وطلحة، والزبير، وباقي المهاجرين والأنصار، وباقي الناس(٤) .

الحمد لله الذي جعلنا من المتمسّكين بولاية علي بن أبي طالبعليه‌السلام .

___________________

(١) المصدر نفسه.

(٢) ترجمة الآثار الباقية ص ٣٩٥، الغدير ج ١ ص ٢٦٧.

(٣) ثمار القلوب ص ٥١١.

(٤) راجع مصدره في الغدير ج ١ ص ٢٧٠.

٣٣

بعض خصائصه

يطيب لي أن أُشير الى بعض خصائصه قياماً ببعض الوظيفة تجاه ما له من الحقوق على الإسلام والمسلمين عامة، فنقول: إنّ له خصائص لم يشترك فيها أحد:

١ _ ولادته في جوف الكعبة.

٢ _ احتضان النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له منذ صغره.

٣ _ سبقه الجميع في الإسلام.

٤ _ مؤاخاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له من دون باقي الصحابة.

٥ _ حمله من قبل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على كتفه لطرح الأصنام الموضوعة في الكعبة.

٦ _ استمرار ذرية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من صلبه.

٧ _ بصاق النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عينيه يوم خيبر، ودعاؤه له بأن لا يصيبه حرّ ولا قرّ.

٨ _ إنّ حبّه إيمان وبغضه نفاق.

٩ _ إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باهل النصارى به وبزوجته وأولاده دون سائر الأصحاب.

١٠ _ تبليغه سورة براءة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

١١ _ إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خصّه يوم الغدير بالولاية.

١٢ _ أنّه القائل:« سلوني قبل أن تفقدوني» .

١٣ _ إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خصّه بتغسيله وتجهيزه والصلاة عليه.

١٤ _ إنّ الناس جميعاً من أرباب الأديان، وغيرهم ينظرون اليه كأعظم رجل عرفه التاريخ(١) .

___________________

(١) قد استخرج هذه الخصائص الكاتب القدير محمّد جواد مغنية رحمه‌الله في كتابه: الشيعة والتشيع ٢٣٤.

٣٤

الإمام الثاني: أبو محمّد الحسن بن عليعليهما‌السلام المجتبى

هو ثاني أئمّة أهل البيت الطاهر، وأوّل السبطين، وأحد سيّدي شباب اهل الجنّة، وريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأحد الخمسة من أصحاب الكساء، أُمّه فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سيّدة نساء العالمين.

ولد في المدينة ليلة النصف من شهر رمضان سنة ثلاث أو اثنتين من الهجرة، وهو أوّل أولاد علي وفاطمةعليهما‌السلام .

نسب كان عليه من شمس الضحى

نور ومن فلق الصباح عمودا

وروي عن أنس بن مالك قال: لم يكن احد أشبه برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الحسن بن عليعليهما‌السلام (١) .

فلمّا ولد الحسن قالت فاطمة لعلي: سمّه، فقال: «ما كنت لاسبق باسمه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم »، فجاء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخرج اليه فقال: «اللّهمّ إنّي أعيذه بك وولده من الشيطان الرجيم وأذن في أذنه اليمنى وأقام في اليسرى.

أشهر ألقابه: التقي والزكي والسبط.

أمّا علمه: فيكفي إنّه كان يجلس في مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويجتمع الناس حوله فيتكلّم بما يشفي غليل السائل ويقطع حجج المجادلين. من ذلك ما رواه الإمام ابو الحسن علي بن احمد الواحدي في تفسير الوسيط: أنّ رجلاً دخل الى مسجد المدينة فوجد شخصاً يحدّث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والناس حوله مجتمعون فجاء اليه الرجل، قال: أخبرني عن (شاهد ومشهود) ؟ فقال: نعم، أمّا الشاهد فيوم الجمعة والمشهود فيوم عرفة.

فتجاوزه الى آخر غيره يحدّث في المسجد، سأله عن (شاهد ومشهود) قال: أمّا الشاهد فيوم الجمعة، وأمّا المشهود يوم النحر.

___________________

(١) ابن الصباغ المالكي (المتوفّى عام ٨٥٥ هجري): الفصول المهمّة ١٥٢.

٣٥

قال: فتجاوزه الى ثالث، غلام كأنّ وجهه الدينار، وهو يحدّث في المسجد، فسأله عن شاهد ومشهود، فقال: «نعم، أمّا الشاهد فرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمّا المشهود فيوم القيامة، أما سمعته عزّ وجلّ يقول:( يا أيُّها النبِيُّ إنّا أرسَلناكَ شاهِداً وَمُبشِّراً وَنَذِيراً ) (١) ، وقال تعالى: ( ذلِكَ يَومٌ مَجمَوعٌ لَهُ النّاسُ وذلِكَ يَومٌ مَشهُودٌ ) » (٢) .

فسأل عن الأوّل، فقالوا: ابن عباس، وسأل عن الثاني، فقالوا: ابن عمر، وسأل عن الثالث، فقالوا: الحسن بن علي بن ابي طالبعليه‌السلام .(٣)

وأمّا زهده: فيكفي في ذلك ما نقله الحافظ أبو نعيم في حليته بسنده أنهعليه‌السلام قال:«إنّي لأستحي من ربّي أن ألقاه ولم أمش إلى بيته» فمشى عشرين مرّة من المدينة الى مكّة على قدميه.

وروي عن الحافظ أبي نعيم في حليته ايضاً: أنّهعليه‌السلام خرج من ماله مرّتين، وقاسم الله تعالى ثلاث مرّات ماله وتصدّق به.

وكانعليه‌السلام من أزهد الناس في الدنيا ولذّاتها، عارفاً بغرورها وآفاتها، وكثيراً ما كانعليه‌السلام يتمثّل بهذا البيت شعراً:

يا أهل لذّات دنيا لا بقاء لها

إنّ اغتراراً بظلٍّ زائلٍ حَمِقُ(٤)

___________________

(١) الأحزاب / ٤٥.

(٢) هود / ١٠٣.

(٣) بحار الأنوار ١ / ١٣.

(٤) ابن الصباغ المالكي: الفصول المهمّة ١٥٤.

٣٦

وأمّا حلمه: فقد روى ابن خلّكان عن ابن عائشة: إنّ رجلاً من اهل الشام قال: دخلت المدينة _ على ساكنها أفضل الصلاة والسلام _ فرأيت رجلاً راكباً على بغلة لم أر أحسن وجهاً ولا سمتاً ولا ثوباً ولا دابة منه، فمال قلبي إليه، فسألت عنه فقيل: هذا الحسن بن علي بن أبي طالب، فامتلأ قلبي له بغضاً وحسدت علياً أن يكون له ابن مثله، فصرت اليه وقلت له: أأنت ابن علي بن أبي طالب؟ قال: «أحسبك غريباً»؟ قلت: أجل، قال:«مل بنا فإن احتجت إلى منزل أنزلناك أو إلى مال آتيناك أو إلى حاجة عاونّاك» قال: فانصرفت عنه وما على الارض أحبّ اليّ منه، وما فكرت فيما صنع وصنعت إلاّ شكرته وخزيت نفسي(١) .

وأمّا إمامته: فيكفي في ذلك ما صرّح به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قوله:«هذان ابناي إمامان قاما أو قعدا...» .

وروت الشيعة بطرقهم عن سليم بن قيس الهلالي قال: شهدت أمير المؤمنينعليه‌السلام حين أوصى الى ابنه الحسنعليه‌السلام وأشهد على وصيته الحسينعليه‌السلام ومحمّداً وجميع ولده ورؤساء شيعته وأهل بيته، ثمّ دفع اليه الكتاب والسلاح وقال له:«يا بني إنّه أمرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن أوصي اليك، وأدفع اليك كتبي وسلاحي، كما أوصى إليّ ودفع إليّ كتبه وسلاحه، وأمرني أن آمرك اذا حضرك الموت أن تدفعها الى اخيك الحسين، ثمّ أقبل على ابنه الحسين عليه‌السلام فقال: وأمرك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن تدفعها الى ابنك هذا، ثمّ أخذ بيد علي بن الحسين وقال: وأمرك رسول الله أن تدفعها الى ابنك محمّد بن علي فاقرأه من رسول الله ومنّي السلام» (٢) .

___________________

(١) ابن خلّكان: وفيات الأعيان ٢ / ٦٨.

(٢) الشيخ الطبرسي ( ٢٠٧ _ ٢٠٨ هجري): إعلام الورى بأعلام الهدى، ومن أراد الوقوف على نصوص امامته فعليه أن يرجع الى الكافي ١ / ٢٩٧، واثبات الهداة ٢ / ٥٤٣ _ ٥٦٨ فقد نقل خمسة نصوص في المقام.

٣٧

روى أبو الفرح الاصفهاني: انّه خطب الحسن بن علي بعد وفاة امير المؤمنين عليعليه‌السلام وقال:«قد قبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأوّلون بعمل، ولا يدركه الآخرون بعمل، ولقد كان يجاهد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيقيه بنفسه، ولقد كان يوجّهه برايته فيكتنفه جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن يساره، فلا يرجع حتى يفتح الله عليه، ولقد توفّي في هذه الليلة التي عرج فيها بعيسى بن مريم، ولقد توفّي فيها يوشع بن نون وصي موسى، وما خلف صفراء ولا بيضاء إلاّ سبعمائة درهم بقية من عطائه أراد أن يبتاع بها خادماً لاهله» .

ثمّ خنقته العبرة فبكى وبكى الناس معه.

ثمّ قال:«أيّها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنا ابن البشير: أنا ابن النذير، أنا ابن الداعي الى الله عزّ وجلّ بإذنه، وأنا ابن السراج المنير، وأنا من اهل البيت الذين اذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا، والذين افترض الله مودّتهم في كتابه اذ يقول: ( ومَن يَقتَرِف حَسَنَةً نَزِد لَهُ حُسناً ) (١) فاقتراف الحسنة مودّتنا أهل البيت» .

قال أبو مخنف عن رجاله: ثمّ قام ابن عباس بين يديه فدعا الناس الى بيعته فاستجابوا له وقالوا: ما أحبّه إلينا وحقّه بالخلافة، فبايعوه(٢) .

وقال المفيد: كانت بيعته يوم الجمعة الحادي والعشرين من شهر رمضان سنة أربعين من الهجرة، فرتب العمال وأمر الامراء، وأنفذ عبد الله بن العباس الى البصرة، ونظر في الأُمور(٣) .

وقال أبو الفرج الاصفهاني: وكان أوّل شيء أحدثه الحسن أنّه زاد في المقاتلة مائة مائة، وقد كان علي فعل ذلك يوم الجمل، وهو فعله يوم الاستخلاف، فتبعه الخلفاء بعد ذلك(٤) .

___________________

(١) الشورى / ٢٣.

(٢) مقاتل الطالبيين ٥٢.

(٣) المفيد: الارشاد ١٨٨.

(٤) مقاتل الطالبيين ٥٥.

٣٨

قال المفيد: فلمّا بلغ معاوية وفاة أمير المؤمنين وبيعة الناس ابنه الحسن، دسّ رجلاً من حمير الى الكوفة، ورجلاً من بني القين الى البصرة ليكتبا اليه بالأخبار ويفسدا على الحسن الأمور، فعرف ذلك الحسن فأمر باستخراج الحميري من عند لحام في الكوفة فأخرج وأمر بضرب عنقه. وكتب الى البصرة باستخراج القيني من بني سليم فأخرج وضربت عنقه(١) .

ثمّ إنّه استمرت المراسلات(٢) بين الحسن معاوية وانجرّت الى حوادث مريرة الى أن أدّت الى الصلح واضطرّ الى التنازل عن الخلافة لصالح معاوية، فعقدا صلحاً واليك صورته.

___________________

(١) المفيد: الارشاد ١٨٨، مقاتل الطالبيين ٥٢.

(٢) ومن أراد الوقوف عليها فليرجع الى مقاتل الطالبيين ٥٣ الى ٧٢ وبالامعان فيها وما أظهر أصحابه من التخاذل، يتضح سرّ صلح الإمام وتنازله عن الخلافة فلم يصالح إلاّ أنّه أتم الحجّة عليهم، ومن اراد التفصيل فليرجع الى صلح الحسن للشيخ راضي آل ياسين.

٣٩

صلح الحسنعليه‌السلام مع معاوية

بسم الله الرحمن الرحيم

هذا ما صالح عليه الحسن بن علي بن أبي طالب معاوية بن أبي سفيان، صالحه على أن يسلّم اليه ولاية المسلمين على أن يعمل فيهم بكتاب الله وسنّة رسول الله، وليس لمعاوية أن يعهد الى احد من بعده عهداً، على أنّ الناس آمنون حيث كانوا من ارض الله تعالى في شامهم ويمنهم وعراقهم وحجازهم.

وعلى أنّ أصحاب علي وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم حيث كانوا، وعلى معاوية بذلك عهد الله وميثاقه.

وعلى أن لا يبغي للحسن بن علي ولا لاخيه الحسين ولا لاحد من اهل بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غائلة سوء سرّاً وجهراً، ولا يخيف أحداً في أفق من الآفاق. شهد عليه بذلك فلان وفلان ، وكفى بالله شهيداً(١) .

ولما تمّ الصلح صعد معاوية المنبر وقال في خطبته: إنّي والله ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتصوموا، ولا لتحجّوا ولا لتزكّوا، إنّكم لتفعلون ذلك، ولكنّي قاتلتكم لأتأمّر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون. ألا وإنّي كنت منّيت الحسن وأعطيته أشياء وجميعها تحت قدميّ هاتين لا أفي بشيء منها له(٢) .

___________________

(١) ابن صباغ المالكي: الفصول المهمة ١٦٣.

(٢) المفيد: الارشاد ١٩١ طبعة النجف.

٤٠