أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف

أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف0%

أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف مؤلف:
تصنيف: مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام
الصفحات: 150

أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
تصنيف: الصفحات: 150
المشاهدات: 25516
تحميل: 8528

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 150 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 25516 / تحميل: 8528
الحجم الحجم الحجم
أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف

أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

أهل البيت

تنوّع أدوار ووحدة هدف

تأليف

السيد محمّد باقر الصدررحمه‌الله

١

بسم اللّه الرحمن الرحيم

٢

٣

٤

موقف الإمام عليعليه‌السلام السياسي بعد تسلّمه زمام الحكم -١-

١٩/ شهر رمضان / ١٣٨٨ هجري

هذه الليلة..... لذكرى ...

ذكرى أشأم ليلة بعد يوم توفي فيه رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله فاليوم الذي توفي فيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان اليوم الذي خلّف فيه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله تجربته الإسلامية في مهبّ القدر ، في رحبة المؤامرات التي أتَت عليها بعد برهة من الزمَن ، واليوم الذي اغتيل فيه الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، كان اليوم الذي قضى على آخر أمله في إعادة خطّ تلك التجربة الصحيحة ، هذا الأمل الذي كان لا يزال يعيش في نفوس المسلمين الواعين متجسّداً في شخص هذا الرجل العظيم ، الذي عاش منذ اللحظة الأولى همومَ الدعوة وآلامها ، و اكتوى بنارها و شارك في بنائها لبنةً لبنة..... وأقام صرحها مع أُستاذهصلى‌الله‌عليه‌وآله مِدماكاً فوق مِدماك .

هذا الرجل الذي كان يعبّر عن كلّ هذه المراحل بكلّ همومها.... ومشاكلها وآلامها....

هذا الرجل هو الذي كان يمثّل هذا الأمل الوحيد الذي بقيَ للمسلمين الواعين ، في أنْ تسترجع التجربة خطّها الواضح الصريح وأُسلوبها النبوي المستقيم.... حيث إنّ الانحراف في أعماق هذه التجربة كان قد طغى وتجبّر واتسع ، بحيث لم يكن هناك أيّ أمل في أنْ يَقهر هذا الانحراف.... اللهم إلاّ على يد رجلٍ واحد كعليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ولهذا كانت حادثة اغتيال هذا الإمام العظيم.... حينما خرّ صريعاً في مثل هذه الليلة تقويضاً حقيقياً لآخر

٥

أمل حقيقي في قيام مجتمعٍ إسلامي صحيح على وجه الأرض إلى يومٍ غير معلوم ، وأجل غير محدود .

كان هذا الاغتيال المشؤوم عقيب حكم مارسه الإمامعليه‌السلام طيلة أربَع أو خمس سنوات تقريباً ، حيث بدأ منذ اللحظة الأُولى لتسلّم زمام الحكم عقلية التغيير الحقيقية في كيان هذه التجربة المنحرفة ، وواصَل سعيه في سبيل إنجاح عملية التغيير واستشهد وخرّ صريعاً بالمسجد وهو في قمة هذه المحاولة ، أو في آخر محاولة إنجاح عملية التغيير وتصفية الانحراف الذي كان قد ترسّخ في جسم المجتمع الإسلامي متمثّلاً في معسكر منفصل عن الدولة الإسلامية الأُمّ .

والظاهرة الواضحة في هذه الأربع أو الخمس سنوات التي مارس فيها الإمامعليه‌السلام عملية الحكم ، هي وإلى أنْ خرّ صريعاً في سبيل إقامة عدل الله على الأرض ، كان غير مستعدٍّ بأيّ شكلٍ من الأشكال وفي أيّ صيغةٍ من الصيَغ لتقبّل أنصاف الحلول بالنسبة إلى تصفية هذا الانحراف ، أو لتقبّل أي معنىً من معاني المساومة أو المعاملة على حساب هذه الأُمّة التي كان يرى بكلّ حرقة وألَم أنّها تهدر كرامتها وتُباع بأرخَص ثمَن.

هذه الظاهرة تسترعي الانتباه سياسياً من ناحية ، وتسترعي الانتباه فقهياً من ناحية أُخرى :

- أمّا من الناحية السياسية فقد استرعت انتباه أشخاص معاصرين للإمامعليه‌السلام واسترعت انتباه أشخاص حاولوا أنْ يُحلّلوا ويدرسوا حياة الإمامعليه‌السلام .

فقد لوحظ على الإمام عليه أفضل الصلاة والسلام : أنّ عدم تقبّله بأيّ شكل من الأشكال لهذه المساومات وأنصاف الحلول كأن يُعَقّدُ عليه الموقف ، ويثير أمامه الصعاب ويرسّخ المشاكل ويجعله عاجزاً عن مواجهته لمهمّته السياسية ، والمضيّ بخطّ تجربته إلى حيث يريد .

فمثلاً : ذاك الشخص الذي جاء إليه بعقلية هذه المساومات واقترح عليه أنْ يُبقي معاوية بن أبي سفيان والياً على الشام برهةً من الزمن قائلاً : إنّ بإمكانك إبقاء معاوية والياً على الشام برهةً من الزمن وهو في هذه الحالة سوف

٦

يخضع ويُبايع وبعد هذا يكون بإمكانك استبداله أو تغييره بأيّ شخصٍ آخر ، بعد أنْ تكون قد استقطبت كل أطراف الدولة وقد تمّت لك البيعة والطاعة في كل أرجاء العالم الإسلامي ، فاشترِ بإبقاء هذا الوالي أو ذلك الوالي ، هذا الحاكم أو ذلك الحاكم ، بإبقاء هذه الثروات المحرّمة في جيب هذا السارق أو في جيب ذلك السارق برهة من الزمن ، ثمّ بعد هذا يمكنك أنْ تصفّي كل هؤلاء الولاة الفجَرة وترجع كل هذه الثروات المحرّمة إلى بيت المال .

فالإمامعليه‌السلام في جواب هذا الشخص ، رفَض هذا المنطق واستمرّ في خطّه السياسي يرفض كلّ مساومة ومعاملة من هذا القبيل ، ومن هنا قال معاصروه ، وقال غير معاصريه أنّه كان بإمكانه أنْ يُسجّل نجاحاً كبيراً ، وأنْ يُحقّق توفيقاً من الناحية السياسية أكثر ، لو أنّه قبِل أنصاف الحلول ، ولو أنّه مارس هذا النوع من المساومات ولو بشكلٍ مؤقت .

- أمّا من الناحية الفقهية فهيَ ناحية التزاحم ، الفقه يقول : بأنّه إذا توقّف واجبٌ أهم على مقدّمة محرّمة فلا بدّ من الحفاظ على ذلك الواجب الأهم ، وفي سبيل حرمة المقدّمة لا يجوز تبرير ترك الواجب الأهم حينما يُقال ذلك ، إذا توقّف إنقاذ نفسٍ محترمة من الغرَق على اجتياز أرضٍ مغصوبة لا يرضى صاحبُها باجتيازها ، فلا بدّ من اجتيازها حيث تسقط هنا حرية هذا المالك وعدم رضاه ؛ لأنّ النتيجة أهمّ من هذه المقدّمة ، كما فعَل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في بعض غزواته مثالاً مشابهاً لهذا المثال ، حيث كان الجيش الإسلامي مضطراً إلى الخروج من المدينة عن طريقٍ معيّن ، وهذا الطريق كان فيه مزرعة لأحد الصحابة ، وكان لا بدّ للجيش حينما يمرّ على هذه المزرعة وبحكم طبيعة مروره كجيش من أنْ يتلف كثيراً من محاصيل هذه المزرعة ويصيبها بأضرار ، فصاحب المزرعة ما هان عليه أنْ يقدّم هذه الأضرار في سبيل الله وفي سبيل الرسالة.... احتجّ على ذلك وصرَخ ثمّ جاء إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : مزرعتي ومالي ، فلَم يُجبه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله واصدر أوامره إلى الجيش ، فمشى في هذه المزرعة حتى لم يبقَ في هذه المزرعة شيء ممّا كان يَخاف تلفه صاحب المزرعة إلاّ وتلَف.

كل ذلك لأنّ النتيجة كانت أهمّ من المقدّمة كان هذا الجيش يسير لأجل

٧

أنْ يغيّر وجه الدنيا ولأجل تغيير وجه الدنيا إذا تلفت مزرعة ، إذا ضاعت هناك ثروة صغيرة لشخص ، في سبيل أنْ يحفظ مقياس توزيع الثروات في العالم على الخطّ الطويل الطويل ، فهذا أمرٌ صحيحٌ ومعقول من الناحية الفقهية ، فمن الناحية الفقهية دائماً يُقرّر أنّ الواجب إذا توقّف على مقدّمة محرّمة وكان ملاك الواجب أقوى من ملاك الحرمة : فلا بدّ أنْ يقدَّم الواجب على الحرام .

وعلى هذا الضوء حينئذٍ تُثار هذه القضية في هذه الظاهرة التي استوضحناها في حياة أمير المؤمنينعليه‌السلام كحاكم .

وهي أنّه لماذا لم يطبّق هذه القاعدة في سبيل استباحة كثير من المقدّمات المحرّمة ، أليس إجماع الرأي عليه ، ألَيس تملّكه زمام قيادة مجتمع إسلامي ، ألَيس هذا أمراً واجباً محقِّقاً لمكسبٍ إسلامي كبير ؛ لأنّه هو الذي سوف يفتح أبواب الخيرات والبرَكات ويقيم حكومة الله على الأرض ؟؟؟

إذن فلماذا في سبيل تحقيق هذا الهدَف إذا توقّف هذا الهدف على مقدّمة محرّمة ، من قبيل إمضاء ولاية معاوية بن أبي سفيان برهة من الزمن ، أو إمضاء الأموال المحرّمة التي نهبها آل أُميّة ، أو غيرهم من الأُسَر التي وزّع عليها عثمان بن عفّان أموال المسلمين.... ؟؟

لماذا لا يكون السكوت مؤقّتاً عن غير هذا النهب والسلب مقدّمة للواجب الأهم ؟ .

ولماذا لا يكون جائزاً حينئذٍ على أساس توقّف الواجب الأهم على ذلك... ؟؟

الواقع هو أنّ الإمامعليه‌السلام كان لا بدّ له أنْ ينهج هذا الطريق ، ولم يكن بإمكانه ، كقائد رسالي يمثّل الإسلام وأهدافه ، لم يكن بإمكانه أنْ يقبل هذه المساومات وأنصاف الحلول ولو كمقدّمة ، وليس قانون باب التزاحم الفقهي هنا صالحاً للانطباق على موقف أمير المؤمنينعليه‌السلام وذلك بعد أخذ النقاط التالية بعين الاعتبار :

النقطة الأُولى : إنّه لا بدّ وأنْ يلحظ في المقام أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام كان

٨

يريد أنْ يرسّخ قاعدة سلطانه في قطرٍ جديد من أقطار العالم الإسلامي وهذا القطر هو العراق .

وكان شعب العراق وأبناء العراق مرتبطين روحياً وعاطفياً مع الإمامعليه‌السلام ، ولكن لم يكن شعب العراق ولا أبناء العراق يعون رسالة عليّعليه‌السلام وعياً حقيقياً كاملاً ، ولهذا كان الإمام بحاجة إلى أنْ يبني تلك الطليعة العقائدية ، ذلك الجيش العقائدي الذي يكون أميناً على الرسالة وأميناً على الأهداف ، وساعداً له ومنطلقاً بالنسبة إلى ترسيخ هذه الأهداف في كل إرجاء العالم الإسلامي .

والإمامعليه‌السلام لم يكن يملك هذه القاعدة ، بل كان بحاجة إلى أنْ يبنيها ، إذن كيف يبني هذه القاعدة ؟

هل يمكن أنْ يبني هذه القاعدة في جوٍ من المساومات وأنصاف الحلول ؟ حتى لو كانت هذه المساومات وأنصاف الحلول جائزة شرعاً إلاّ أنّ جوازها الشرعي لا يؤثّر في هذه الحقيقة النفسية الواقعية شيئاً ، وهي أنّ شخصاً لا يمكن أنْ يعيش في جو من المساومات وأنصاف الحلول فيكتسب روحية أبي ذر ، أو يكتسب روحية عمار بن ياسر ، روحية الجيش العقائدي الواعي البصير ، بأنّ المعركة ليست للذات وإنّما هي للأهداف الكبيرة التي هي أكبر من الذات .

هذه الروحية لا يمكن أنْ تنمو ولا يمكن لعليّعليه‌السلام أنْ يخلقها في مَن حوله في حاشيته وفي أوساطه وقواعده الشعبية ، في جوٍ من المشاحنات والمساومات وأنصاف الحلول حتى لو كانت جائزة أنّ جوازها لا يُغير مِن ملدلوها التربوي شيئاً ، ولا من دورها في تكوين نفسيّة هذا الشخص بأيّ شكلٍ من الأشكال...

إذن فالإمامعليه‌السلام كان أمامه حاجة ملحّة حقيقية في بناء دولته ، إلى قاعدة شعبية واعية يعتمد عليها في ترسيخ الأهداف في النطاق الأوسع ، وهذه القاعدة الشعبية لم تكن جاهزة له حينما تسلّم زمام الحكم حتى يستطيع أنْ يتّفق معها .

على أنّ هذه المساومات وأنصاف الحلول أنّها ضرورات استثنائية لا توجب

٩

الانحراف عن ذلك الخطّ أنّما كان على عليّعليه‌السلام أنْ يبني ذلك الجيش العقادي ، كان على عليّعليه‌السلام أنْ ينتزع الخيّر الخيّر الطيّب الطيّب من جماعته وحاشيته العراقيّين ؛ لكي يشكّل منهم كتلةً واعية من قبيل مالك الأشتر وغيره ، وهؤلاء لم يكن بالإمكان ممارسة بناء نفسي وروحي وفكري وعاطفي حقيقي لهم في جوٍ مليء بالمساومات وأنصاف الحلول... كانت المساومات وأنصاف الحلول نكسةً بالنسبة إلى عملية التربية لهذا الجيش العقائدي ، وكان فقدان هذا الجيش العقائدي يعني فقدان القوّة الحقيقية التي يعتمد عليها الإمامعليه‌السلام في بناء دولته ؛ لأنّ أيَّ دولة عقائدية بحاجة إلى طليعة عقائدية تستشعر بشكلٍ معمّق وموسّع أهداف الدولة وواقع أهمّيتها وضرورتها التاريخية .

ولهذا كان لا بدّ من الحفاظ على صفاء وطُهر عملية التربية لبناء هذا الجيش العقائدي ، كان لا بدّ لآلاف من مالك الأشتر أنْ يشهدوا إنساناً لا تزعزعه المغريات ولا يتنازل إلى أيّ نوع من أنواع المساومات حتى يستطيعوا من خلال حياة هذا الرجل العظيم أنْ يتبيّنوا المدلول الرسالي الكامل لأطروحته الأبعاد الواسعة للصيغة الإسلامية للحياة إذن فكان على عليّعليه‌السلام لأجل ممارسة عملية التربية لبناء هذا الجيش العقائدي كان لا بدّ له أنْ يترفّع عن هذه المساومات والحلول الوسط ؛ لكي يستطيع أنْ يخلق ذلك الجو الرفيع نفسياً وفكرياً وروحياً والذي سوف ينشأ في داخله وفي أعماقه... جيل يستطيع أنْ يحتضن أهداف أمير المؤمنينعليه‌السلام ويضحّي من أجلها في حياته وبعد وفاته ...

النقطة الثانية : لا بدّ من الالتفات أيضاً إلى أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام جاء في أعقاب ثورة ، ولم يجئ في حالة اعتيادية ، ومعنى ذلك أنّ البقية الباقية من العواطف السلامية ، كل هذه العواطف تجمّعت ، ثمّ ضغطت ، ثمّ انفجرت في لحظة ارتفاع... وماذا ينتظر القائد الرسالي غير لحظة ارتفاع في حياة أُمّة ، لكي يستطيع أنْ يستثمر هذه اللحظة في سبيل إعادة هذه الأُمّة إلى سيرها الطبيعي ...

كان لا بدّ للإمامعليه‌السلام أنْ يستثمر لحظة الارتفاع الثورية هذه ؛ لأنّ المزاج النفسي والروحي وقتئذ لشعوب العالم الإسلامي ، لم يكن ذاك المزاج الاعتيادي الهادئ الساكن لكي يمشي حسَب مخطّط تدريجي ، وإنّما كان هو

١٠

المزاج الثوري الذي استطاع أنْ يرتفع إلى مستوى قتل الحاكم والإطاحة به ؛ لأنّه انحرَف عن كتاب الله وسنّة نبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذن هذا الارتفاع الذي وجد في لحظة في حياة الأُمّة الإسلامية ، لم يكن من الهيّن إعادته وبعد ذلك كان لا بدّ للحاكم الذي يستلم زمام المسؤولية في مثل هذه اللحظة أنْ يعمّق هذه اللحظة أنْ يمدّد هذه اللحظة ، أنْ يرسّخ المضمون العاطفي والنفسي في هذه اللحظة ، عن طريق هذه الإجراءات الثورية التي قام بها أمير المؤمنين ..

لو أنّ الإمام عليّعليه‌السلام أبقى الباطل مؤقّتاً وأمضى التصرّفات الكيفية التي قام بها الحكّام من قبل ، لو أنّه سكت عن معاوية وسكَت عن أحزاب أُخرى مشابهة لمعاوية بن أبي سفيان ، إذن لهدَأت العاصفة ولانكمش هذا التيّار العاطفي النفسي ، وبعد انكماش هذا التيار العاطفي وهدوء تلك العاصفة سوف لنْ يكون بمقدور الإمامعليه‌السلام أنْ يقوم بمثل هذه الإجراءات .

النقطة الثالثة : ولا بدّ أيضاً من الالتفات إلى نقطة هي : إنّ الإمامعليه‌السلام ، كان حريصاً على أنْ تدرك الأُمّة كأمّة أنّ واقع المعركة بينهعليه‌السلام وبين خصومه ، بينه وبين معاوية ليست معركة بين شخصين ، بين قائدين ، بين قبيلتين ، وإنما هي معركة بين الإسلام والجاهلية .

كان حريصاً على أنْ يفهم الناس أنّ واقع المعركة هو واقع المعركة بين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله والجاهلية التي حاربته في بدرٍ وأُحد ، وغيرهما من الغزَوات وكان هذا الحرص سوف يُمنى بنكسةٍ كبيرة لو أنّهعليه‌السلام أقرّ معاوية ، وأقرّ مخلّفات عثمان السياسية والمالية ، لو أنّه أقرّ هذه المخلّفات ولو إلى برهةٍ من الزمن إذن لترسّخ في أذهان الناس ، وفي أذهان المسلمين بشكلٍ عام شكٌ في أنّ القضية ليست قضيّة رسالية وإنّما هي قضية أهداف حكم ، إذاً انسجمت مع واقع هذه المخلّفات فتلغي هذه المخلّفات ذلك الشكّ الذي نما عند الأُمّة في أمير المؤمنينعليه‌السلام بالرغم من أنّه لم يكن يوجد له أيّ مبرّر موضوعي ، وإنّما المبرّر كانت له مبرّراته الذاتية بالرغم من أنّه لم يكن يوجد أي مبرّر موضوعي للشكّ ، وبالرغم من أنّ المبرّر الوحيد للشكّ كان مبرّراً ذاتياً وبالرغم من هذا استفحل هذا الشك وقرّر ، وامتحن هذا الإمام العظيمعليه‌السلام بهذا الشك ومات واستشهد والأُمّة شاكّة... ثمّ استسلمت الأُمّة بعد هذا وتحوّلت إلى

١١

كتلة هامدة بين يدَي الإمام الحسنعليه‌السلام هذا كلّه بالرغم من أنّ الشك لم يكن له مبّرر موضوعي ، فكيف إذا افترضنا أنّ الشك وجدت له مبرّرات موضوعية بحسَب الصورة الشكلية ؟! .

كيف لو أنّ المسلمين رأوا أنّ عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام الذي هو رمز الأُطروحة ورمز الأهداف الرسالية ، هذا الشخص يساوم ويعمل ويبيع الأُمة ولو مؤقّتاً مع خيار الفسخ .

كيف يمكن للأُمّة أنْ تدرك الفرق بين بيع بلا خيار الفسخ وبين بيع يكون فيه خيار الفسخ ، إنّ البيع على أيّ حال طبيعته هو البيع وأمير المؤمنينعليه‌السلام كانت مهمّته الكبرى هي أنْ يحافظ على وجود الأُمّة ، على أنْ لا تتنازل الأُمّة عن وجودها .

الأُمّة التي قالت لعمر بن الخطّاب ، لأكبر خليفة تولّى الحكم بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إذا انحرفت عمّا نعرف من أحكام الله وسنّة رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله نقوِّمك بسيوفنا ، هذه الأُمّة التي قالت هذه الكلمة بكلّ شجاعة لأكبر خليفة بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كانت قد بدَأت تتنازل عن وجودها ، أو بتعبير آخر كانت هناك مؤامرات عليها لكي تتنازل عن وجودها ، وكان على عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام أنْ يحافظ على هذه الأمّة ، ويحصنّها ضدّ أنْ تتنازل عن وجودها ، عملية التنازل عن الوجود كان يمثّلها معاوية بن أبي سفيان ، وجذور معاوية في تاريخ الإسلام ، هذا الذي عبّر عنه وقتئذ ، بأنّ الإسلام أصبح هرقلية وكسرَوية ، الهرقلية والكسرَوية كان يُكنّى بها عن تنازل الأمّة عن وجودها ، يعني تحوّلت التجربة الإسلامية من أُمّة تحمل رسالة إلى مُلك وسُلطان ، يحمل هذه الرسالة بمستوى وعيه لهذه الرسالة وإخلاصه لهذه الرسالة سلباً وإيجاباً ، هذه المؤامرة الكبيرة التي نجَحت بعد هذا والتي توجّت بكلّ المآسي والمحَن والكوارث التي كانت ولا تزال إلى يومنا هذا ، هي نتيجة تنازل الأُمّة عن وجودها ، نتيجة خداع الأمّة ، وتحجيمها أو الضغط عليها حتى تنازلت عن وجودها في عقدٍ لا يقبل الفسخ ...

أمير المؤمنينعليه‌السلام كان يريد وقد أدرك الأُمّة في اللحظات الأخيرة من وجودها المستقل ، أنْ يمدّد هذا الوجود المستقل أن يشعر الأُمّة بأنّها ليست

١٢

سلعةٌ تباع وتشترى ، أنّها ليست شيئاً يساوم عليها ، إذن كيف يُشعرها بأنّها ليست سلعة تُباع وتشترى ، إذا كان هو يبيعها ويشتريها ، ولو في عقود قابلة للفسخ ؟

كيف يستطيع أنْ يشعر الأُمّة بأنّها لا تباع ولا تشترى ، ليست وفق رغَبات السلاطين وليستْ وِفق رغَبات الحكّام ، وإنّما تمثّل خلافة الله في الأرض ، لأجل أنْ تحقّق أهداف هذه الخلافة في الأرض .

كيف يُمكن أنْ يُفهم الأُمّة ذلك إذا كان هو يبيع قطاعات من هذه الأُمّة ، لحكّام فجَرة من قبيل معاوية بن أبي سفيان ، في سبيل أنْ يسترجع هذه القطاعات بعد ذلك ؟

بطبيعة الحال كان هذا معناه مواكبة المؤامرة التي كان روح العصر يتفجّر أو يتمخّض عن مثلها ، والتي كان أمير المؤمنينعليه‌السلام واقفاً لأجل أنْ يحبطها ويُنقذ الأُمّة منها ، وحينئذٍ لا يُمكن بحالٍ من الأحوال أنْ نفترض أنّ الإمامعليه‌السلام يُساهم في حبْك هذه المؤامرة .

النقطة الرابعة والأخيرة : هي أنّ عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام لم يكن يتعامل مع الفترة الزمنية القصيرة التي عاشها فقط ، وإنّما كان يحمل هدفاً أكبر من ذلك أمير المؤمنينعليه‌السلام كان يحسّ بأنّه قد أدرَك المريض وهو في آخر مرَضه ، قد أدركه حيث لا ينفع العلاج ولكنّه كان يُفكّر في أبعاد أطوَل وأوسَع للمعركة .

لم يكن يُفكّر فقط في الفترة الزمنية التي عاشها وإنّما كان يفكّر على مستوىً آخر أوسَع وأعمَق ، هذا المستوى يعني أنّ الإسلام كان بحاجة إلى أنْ تُقدّم له في خضمّ الانحراف بين يدَي الأُمّة أطروحةً واضحة صريحة نقيّة ، لا شائبة فيها ولا غموض ، لا التواء فيها ولا تعقيد ، لا مساومة فيها ولا نفاق ولا تدجيل .

لماذا.. ؟ لأنّ الأمّة كُتب عليها أنْ تعيش الحكم الإسلامي المنحرف منذ نجحت السقيفة في أهدافها ، إذن فالإسلام الذي تعطيه السقيفة امتدادها التاريخي ، هذا الإسلام إسلامٌ مشوّه ممسوخ ، إسلام لا يحفظ الصلة العاطفية فضلاً عن الفكرية بين الأمّة ككل وبين الرسالة ، بين أشرَف رسالات السماء وأشرف

١٣

أُمم الأرض لا يمكن أنْ يحفظ هذه الصلة العاطفية والروحية ، بين الأمّة الإسلامية وبين الإسلام على أساس هذا الإسلام المُعطى لهارون الرشيد ، ولمعاوية بن أبي سفيان ، ولعبد الملك بن مروان ، هذا الإسلام لا يمكن أنْ يحفظ هذه الصلة فكان لا بدّ لحفظ هذه الصلة بين جماهير الأمّة الإسلامية وبين هذه الرسالة ، من إعطاء صورة واضحة محدودة للإسلام ، وهذه الصورة أُعطيت نظرياً على مستوى ثقافة أهل البيتعليه‌السلام ، وأعطيت عملياً على مستوى تجربة الإمامعليه‌السلام ، فكان الإمامعليه‌السلام في تأكيده على العناوين الأولية في التشريع الإسلامي ، وفي تأكيده على الخطوط الرئيسية في الصيغة الإسلامية للحياة كان في هذا يريد أنْ يُقوّم المنهاج الإسلامي واضحاً غير ملوّث بلَوثة الانحراف التي كُتبت على تاريخ الإسلام مدّةً طويلة من الزمن ، وكان لا بدّ لكي يتحقّق هذا الهدف من أنْ يُعطي هذه التجربة بهذا النوع من الصفاء والنقاء والوضوح دون أنْ يعمل ما أسميناه بقوانين باب التزاحم ...

وهكذا كان وظلّ الإمامعليه‌السلام صامداً مواجهاً لكلِّ المؤامرات التي كانت الأمّة تُساهم في صنعها ، وفي حياكتها على أساس جهلها وعدَم وعيَها وعدَم شعورها بالدور الحقيقي ، الذي يمارسهعليه‌السلام في سبيل حماية وجودها من الضياع ، وحماية كرامتها من أنْ تتحوّل إلى سلعةٍ تُباع وتُشترى ، حتى خرّ صريعاً على يد شخصٍ من هذه الأمّة التي ضحّى في سبيلها... خرّ صريعاً في المسجد فقال :

( فُزْتُ وربِّ الكعبة )

لنحاسب عليّاً وهو في آخر لحظة من لحظات حياتهعليه‌السلام حينما قال :( فزت ورب الكعبة ) .

هل كان علي أسعد إنسان أو أتعس إنسان ؟

هنا مقياسان :

فتارة نقيس علياًعليه‌السلام بمقياس الدنيا .

وأُخرى نقيس عليّاً بمقاييس الله سُبحانه وتعالى ...

لو كان قد عمَل كل عمله للدنيا ، لنفسه ، فهو أتعَس إنسان ومَن

١٤

أتعَس من عليٍّعليه‌السلام الذي بنى كلّ ما بنى وأقام كل ما أقام ، من صرحٍ ثمّ حُرِم من كلِّ هذا البناء ومن كلّ هذه الصروح ؟

هذا الإسلام الشامخ العظيم الذي يأكل الدنيا شرقاً وغرباً ، هذا الإسلام بُنِي بدَمِ عليّعليه‌السلام ، بُني بخفقات قلب عليّعليه‌السلام بُني بآلام عليّعليه‌السلام ، بُني بنار عليّعليه‌السلام ، كان عليّ هو شريكُ البناء بكلّ مِحَن هذا البناء بكلّ آلام هذا البناء وفي كلّ مآسي هذا البناء ، أي لحظة محرجة وجدَت بتاريخ هذا البناء لم يكن عليّعليه‌السلام هو الإنسان الوحيد الذي يتّجه إليه نظَرُ البنّاء الأوّلصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونظر المسلمين جميعاً لأجل إنقاذ عملية البناء ؟ إذن فعليٌّعليه‌السلام كان هو المضحّي دائماً في سبيل هذا البناء ، هو الشخص الذي أعطى ولم يبخل ، الذي ضحّى ولم يتردّد الذي كان يضّع دمَه على كفّه في كل غزوةٍ في كل معركةٍ ، في كل تصعيدٍ جديد لهذا العمل الإسلامي الراسخ العظيم ..

إذن شُيّدت كلّ هذه المنابر بيد عليّعليه‌السلام واتّسعت أرجاء هذه المملكة بسيف عليّعليه‌السلام .

جهاد عليّ كان هو القاعدة لقيام هذه الدولة الواسعة الأطراف ، لكن ماذا حصّل عليّعليه‌السلام من كلّ هذا البناء في مقاييس الدنيا ، إذا اعتمدنا مقاييس الدنيا ؟

لو كان عليّعليه‌السلام يعمل لنفسِه فماذا حصّل عليّعليه‌السلام من كلّ هذه التضحيات ، من كلّ هذه البطولات ؟ ماذا حصّل غير الحرمان الطويل الطويل ، غير الإقصاء عن حقّه الطبيعي بقطْع النظَر عن نصٍّ أو تعيينٍ مِن الله سُبحانه وتعالى ؟ كان حقّه الطبيعي أنْ يحكم بعد أنْ يموت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لأنّه الشخص الثاني عطاءً للدعوة وتضحيةً في سبيلها .

أُقصيَ من حقّه الطبيعي ، قاسى ألوان الحِرمان ، أُنكِرَت عليه كلَّ امتيازاته ، معاوية بن أبي سفيان هو الذي يقول لمحمّد بن أبي بكر ، كان عليٌّ كالنجم في السماء في أيّام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكنّ أباك والفاروق ابتزّا حقّه وأخذا أمره ، وبعد هذا نحن شعرنا أنّ بإمكاننا أنْ ندخل في ميدان المساومة مع هذا الرجل ، ويقول عن نفسه ، يُحدّث عن مقامه في أيّام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكيف أخَذ المقام هذا يتنازل بالتدريج نتيجةً لمؤامرات الحاكمين عليه ، حتى قيل عليّ ومعاوية .

١٥

إذن ، فعليّعليه‌السلام حينما واجهه عبد الرحمان بن مُلجم بتلك الضربة القاتلة على رأسه الشريف ، كان ماضيه كلّه ماضي حرمان وألَم وخسارة لم يكن قد حصل على شيء منه ، لكن الأشخاص الذي حصلوا على شيءٍ عظيم من هذا البناء هم أُولئك الذي لم يُساهموا في هذا البناء ، هم أُولئك الذين كانوا على استعدادٍ دائمٍ للتنازل عن مستوى هذا البناء في أيّة لحظة من اللحظات ، أُولئك حصلوا على مكاسبٍ عريضة من هذا البناء ، أمّا هذا الإمام الممتَحن الذي لم يفرّ لحظةً ، الذي لم يتلكّأ في أيّ آن ، الذي لم يتلعثَم في قولٍ أو عمَل ، هذا الإمام العظيم لم يحصَل على أيّ مكسَبٍ من هذا البناء بأيٍّ شكل من الأشكال ، انظروا أنّ هذه الحادثة يُمكن أنْ تُفجّر قلب الإنسان ، وأمّا الإنسان غير العامل ، حينما ينظر في حالِ عاملٍ على هذا الترتيب يتفجّر قلبه ألماً لحال هذا العامل المسكين ، لحال هذا العامل التعيس ، الذي بنى فغيّر الدنيا ثمّ لم يستفِد من هذا التغيير ، ثمّ تعالوا انظروا إلى المستقبل الذي ينظره الإمام عليّعليه‌السلام بعين الغيب هذا ماضيه ، فماذا عن مستقبله ؟

كان يرى بعين الغيب أنّ عدوّه اللدود سوف يطأ منبره ، سوف يطأ مسجده ، سوف ينتهك كل الحرمات والكرامات التي ضحّى وجاهد في سبيلها ، سوف يستقل بهذه المنابر التي شُيّدت بجهاده وجهوده ودمه ، سوف يستغلّها في لعنه وسبّه عشَرات السنين ، هو الذي كان يقول لبعض الخُلّص من أصحابه أنّه سوف يُعرض عليكم سبّي ولعني والبراءة منّي ، أمّا السب فسبّوني وأمّا البراءة منّي فلا تتبرّؤوا منّي .

إذن فهو كان ينظر بعين الغيب إلى المستقبل بهذه النظرة لم يكن يرى في المستقبل نوعاً من التكذيب يتدارك به هذا الحرمان ، الأجيال التي سوف تأتي بعد أنْ يفارق الدنيا ، كانت ضحيّة مؤامرة أمويّة جعلتها لا تدرك أبداً دور الإمام عليّعليه‌السلام في بناء الإسلام .

هذا هو حرمان الماضي وهذا هو حرمان المستقبل .

وبالرغم من كل هذا قالعليه‌السلام :( فُزت وربّ الكعبة ) ، حينما أدرك أنّها اللحظة الأخيرة وأنّه انتهى خطّ جهاده وهو في قمّة جهاده وانتهى خطّ محنته

١٦

وهو في قمّة صلاته وعبادته قال :( فزت ورب الكعبة ) ؛ لأنّه لم يكن إنسان الدنيا ولو كان إنسان الدنيا لكان أتعس إنسان على الإطلاق ، لو كان إنسان الدنيا لكان قلبه يتفجّر ألَماً وكان قلبه ينفجر حسرةً ولكنّه لم يكن إنسان الدنيا ، لو كان إنسان الدنيا فسوف يندم ندَماً لا ينفعه معه شيء ؛ لأنّه بنى شيئاً انقلب عليه ليحطّمه ، أيّ شيء يُمكن أنْ ينفع هذا الشخص ؟

إذا فرضنا أنّ شخصاً أراد أنْ يربّي شخصاً آخر لكي يخدمه ، فلمّا ربّى ذاك الشخص ونمى واكتمل رُشده جاء ليقتله ، ماذا ينفع هذا الشخص ندَمه غير أنْ يموت ؟

هذا الرجل العظيم قال :( فزت ورب الكعبة ) ، كان أسعَد إنسان ولم يكن أشقى إنسان ؛ لأنّه كان يعيش لهدَفه ، ولم يكن يعيش للدنيا ، كان يعيش لهدفه ولم يكن يعيش لمكاسبه ولم يتردّد لحظةً وهو في قمّة هذه المآسي والمحَن ، في صحّة ماضيه ، وفي صحّة حاضره ، وفي أنّه أدّى دوره الذي كان يجب عليه .

هذه هي العِبرة التي يجب أنْ نأخذها .

نحن يجب أنْ نستشعر دائماً أنّ السعادة في عمل العامل لا تنبَع من المكاسب التي تعود إليه نتيجة لهذا العمل .

يجب أنْ لا نُقِّيم سعادة العامل على أساس كهذا ؛ لأنّنا لو قيّمناه على هذا الأساس فقد يكون حظّنا كحظّ هذا الإمام الذي بنى إسلاماً ووجّه أُمّةً ، ثمّ بعد هذا انقلبت عليه هذه الأُمّة لتلعنه على المنابر ألف شهر .

نحن يجب أنْ لا نجعل مقياس سعادة العامل في عمله هو المكاسب والفوائد التي تنجم عن هذا العمل ، وإنّما رِضى الله سُبحانه وتعالى وإنّما حقّانية العمل ، كون العمل حقّاً وكفى ، وحينئذٍ سوف نكون سُعداء سَواء أثّر عملنا أم لم يؤثّر ، سَواء قدّر الناس عملَنا أم لم يقدّروا ، سَواء رمَونا باللعن أم بالحجارة .

على أيّ حال سوف نستقبل الله سُبحانه وتعالى ونحن سُعداء ؛ لأنّنا أدّينا حقّنا وواجبنا وهناك مَنلا يُغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلاّ أحصاها ، لئن ضيّع هؤلاء السعادة ولئن ضيّعوا فهمَهم ، ولئن استولى عليهم الغَباء فخلطوا بين عليّعليه‌السلام ومعاوية ، لئن انصرفوا عن عليّ وهم في قمة الحاجة إليه فهناك من

١٧

لا يختلط عليه الحال ، مَن يُميّز بين عليّعليه‌السلام وبين أيّ شخصٍ آخر ، هناك مَن قد أعطى لعليّعليه‌السلام نتيجةً لعملٍ واحد من أعماله مثل عبادة الثقلين .

ذاك هو الحق وتلك هي السعادة .

اللهم احشرنا معه واجعلنا من شيعته والمترسّمين خطاه والحمد للّه .

* * *

١٨

موقف الإمام عليعليه‌السلام السياسي بعد تسلّمه زمام الحكم -٢-

بسم الله الرحمن الرحيم

٢٠/ شهر رمضان /١٣٨٨ هجري

كنّا نتحدّث عن تلك الظاهرة الفريدة في المرحلة التي قضاها الإمامعليه‌السلام حاكماً متصرّفاً ومصرّفاً لشؤون المسلمين .

هذه الظاهرة الفريدة هي ما ألمحنا إليها ، من أنّ الإمامعليه‌السلام كان حريصاً كلّ الحرص على إعطاء العناوين الأولية للصيغة الإسلامية للحياة ، والوقوف على التكليف الواقعي الأوّلي بحسَب مصطلح الأُصوليّين ، دون تجاوزه إلى ضرورات استثنائية تفرضها طبيعة الملابَسات والظروف .

قلنا إنّ هذه النقطة بُحثت من الناحية الفقهية ومن الناحية السياسية معاً ، فقيل مثلاً :

لماذا لم يرتضِ الإمام بأنصاف الحلول أو بشيءٍ من المساومة ؟

لماذا لم يسكت ؟

لماذا لم يُمضِ ولو بصورة مؤقّتة الجهاز الفاسد الذي تركه وخلّفه عثمان بعد موته ؟

لماذا لم يُمضِ الجهاز حتى إذا أطاعه هذا الجهاز وأسلَم له القيادة ، بعد ذلك يستطيع أنْ يُمارس بشكلٍ أقوى وأعنف عملية التصفية ؟

كنّا نُعالج هذه المسألة وقلنا أنّ الجواب على هذا السؤال وتفسير هذه الظاهرة الفريدة في الحياة للإمامعليه‌السلام يتّضح بمراجعة عدّة نقاط استعرضنا من هذه النقاط أربع :

النقطة الأُولى : هي أنّ الإمامعليه‌السلام كان بحاجةٍ إلى إنشاء جيش عقائدي في دولته الجديدة التي كان يخطّط لإنشائها في العراق ، وهذا الجيش العقائدي

١٩

لم يكن موجوداً بل كان بحاجةٍ إلى تربيةٍ وإعداد فكري ونفسي وعاطفي ، وهذا الإعداد كان يتطلّب جوّاً مُسبَقاً صالحاً لأنْ تنشأ فيه بذور هذا الجيش العقائدي وهذا الجو ما لَم يكن جوّاً كفاحيّاً رسالياً واضحاً ، لا يُمكن أنْ تنشأ في أحضانه بذور ذلك الجيش العقائدي ، لو افترضنا أنّ الجو كان جوّ المساومات وأنصاف الحلول حتى في حالة كون أنصاف الحلول تكتسب الصفة الشرعية بقانون التزاحم ، على ما ذكرناه ، حتى في هذه الحالة تفقد الصيغة مدلولها التربوي .

النقطة الثانية : هي أنّ الإمامعليه‌السلام جاء لتسلّم زمام الحكم في لحظة ثورة لا في لحظة اعتيادية ، ولحظة الثورة تستبطن لحظة تركيز وتعبئة ، وتجمّع كل الطاقات العاطفية والنفسية في الأُمّة الإسلامية لصالح القضية الإسلامية ، فكان لا بدّ من اغتنام هذه اللحظة بكلّ ما تستنبطه من هذا الزخم الهائل عاطفياً ونفسياً وفكرياً .

النقطة الثالثة : التي ركّزنا عليها ، هي أنّ ظاهرة الشك في مجتمع الإمامعليه‌السلام هذه الظاهرة التي بيّناها في محاضرات سابقة ، وكيف أنّها عصفت بالتجربة واستطاعت أنْ تقضي على الآمال والأهداف التي كانت معقودة عليها ، هذا الشك بالرغم من أنّه لم يكن يملك في سيرة الإمامعليه‌السلام أيّ مبرّر موضوعي ، وكانت مبرراته ذاتية محضة بالنحو الذي شرحناه تفصيلاً فيما مضى فقد استفحل وطغى ، فكيف لو افترضنا أنّ هذه المبرّرات الذاتية أُضيفت إليها مُبرّرات موضوعية من الناحية الشكلية ، إذن لكان هذا الشك أسرَع إلى الانتشار والتعمّق والرسوخ وفي النهاية إلى تقويض هذه التجربة .

النقطة الرابعة : التي ختمنا بها الحديث بالأمس هي عبارة عن أنّ أنصاف الحلول أو المساومة ـ هنا ـ كانت في الواقع اشتراكاً في المؤامرة ، وكانت تحقيقاً للمؤامرة من ناحية الإمامعليه‌السلام ، ولم تكن تعبيراً عن الإعداد لإحباط هذه المؤامرة ؛ لأنّ المؤامرة لم تكن مؤامرة على شخصِ الإمام عليّعليه‌السلام لم تكن مؤامرة على حاكميّة الإمام عليّعليه‌السلام حتى يقال : أنّه يُمهّد لهذه الحاكمية بشيء من هذه

٢٠