أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف

أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف0%

أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف مؤلف:
تصنيف: مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام
الصفحات: 150

أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
تصنيف: الصفحات: 150
المشاهدات: 25514
تحميل: 8528

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 150 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 25514 / تحميل: 8528
الحجم الحجم الحجم
أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف

أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

التي تتغيّر مواقف النبوّات بموجبها ، على أساس أنّ هذا الخط هو المرتبط بالقاعدة الفكرية الأساسية التي تعمل بموجبها كل النبوّات ، فمهما صعَدت درجة الوعي لهذه القاعدة الأساسية يجب أنْ يَعطي لها الصيغة العميقة المعمّقة الأكبر .

الخط الثاني :

هو خطّ تحمّل أعباء المسؤولية الأخلاقية للدعوة ، يعني كون الإنسان بالغاً إلى درجة تؤهّله لأن يتحمّل أعباء دعوة لها ضريبتها وواجباتها وآلامها وهمومها .

مثل هذا التحمّل أيضاً له درجات ، ولم يستطع الإنسان بالطفرة ، أنْ يصل إلى درجة أعباء التحمّل للرسالة العالمية الواسعة الغير محدودة الزمان والمكان ، لم يستطع أنْ يصل إلى هذا بالطفرة ، وإنّما استطاع أنْ يصل إلى ذلك عبر مران طويل ، على تحمّل المسؤوليات .

البشرية بقِيَت تتحمّل المسؤوليات عبر مران طويل ، ونمَت خلال مرانها الطويل ، حتى استطاعت أنْ تتحمّل مسؤولية رسالة لا حدّ لها ، ممتدّة مع الزمان والمكان ، وإلاّ فأيّ مسؤوليات كانت تتحمّلها أُمَم الانبياء السابقين ، الأُمَم التي تنكشف أمامنا اليوم تواريخها هي أُمم موسى وعيسى ؟

ونحن بالمقارنة بين موسى وعيسى ، والمسؤوليات التي تحملتها الأُمّة الإسلامية حينما نزَل الوحي على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بالرسالة الخاتمة ، المقارنة ما بين هذا وذاك ، يكشف درجة كبيرة في تحمل المسؤوليات ، تعبّر عن نمو الاستعداد على مرّ الزمن ، وموسى مات وشعب بني إسرائيل في التيه ، يعني وجه حياته وجّه كل أعماله بكلّ ما يُمكِن من جهاد وتضحية في سبيل أداء رسالته ، ولكنّه أنهى حياته وشعب بني إسرائيل في التيه ، كتب اللّه جلّ جلاله عليهم التيه أربعين سنة ؛ لأنّهم لم يستجيبوا لمتطلّبات الرسالة ، لم يستجيبوا أبداً لما تقتضيه رسالة موسى بالنسبة إليهم ، حتى خلّفهم موسى حيارى ومات .

أين هذا من أُمّةٍ حملت أعباء الرسالة ؟

٤١

الخط الثالث :

وهو خط سيطرة الإنسان على الكون والطبيعة .

هذا الخط متطوّر قبل الإسلام وبعد الإسلام ، ولنْ يقف هذا الخط عند مرحلة من المراحل على الإطلاق .

والإنسان سوف لنْ تقف سيطرته بإذن اللّه جلّ جلاله ، عند مرحلة من مراحل الاستيلاء على الكون والطبيعة ، إنْ انتهى استيلاؤه على الأرض سوف يُفكّر بالاستيلاء على السماء ، في الاستيلاء على كل أبعاد الكون ، إذن ، فهو في نموٍّ مستمر لا ينقطع ولا توضَع له حدود مفترضة من هذه الناحية .

فلو كانت النبوّة مرتبطة بهذا الخط أيضاً لتحتّم أنْ تتغير النبوّات على مرّ الزمن ، وإلى يومنا هذا ، والى يوم القيامة ، ولكن النبوّة غير مرتبطة بهذا الخط ؛ لأنّ النبوّة لم تجد التيه ، لكي تأخذ بالإنسان في مجال السيطرة على الكون والطبيعة ، وإنما جاءت لتصنع هذا الإنسان المسيطر على الكون بالدرجة التي هيّأته لها هذه الظروف - ظروفه الموضوعية - أنْ تجعل من هذا الإنسان إنساناً فاضلاً نبيلاً مدبّراً حكيماً ، سَواء أكانت سيطرته على الطبيعة تهيّئه لأنْ ينتقل من بلدٍ إلى بلد على رجليه ، أم على الحمير ، أم في الطائرات أم في الصواريخ .

على جميع هذه التقادير وفي جميع هذه المراحل التي تعبر عن درجات من سيطرة الإنسان على الكون والطبيعة في جميع هذه المراحل ، النبوّة لا يختلف دورها وطبيعة رسالتها .

ومن هنا ليس من الحتْم أنْ تتغير النبوّة بين الحين والحين ، وفقاً للخط الأول والخط الثاني ، هذان الخطّان اللذان ترتبط بهما التغييرات في النبوة ، هذان الخطّان لهما حدٌّ نهائي يصل إليه الإنسان ، هذا الحد النهائي هو الحدّ النهائي الذي وصل إليه الإنسان حينما جاء الإسلام كرسالة شاملة كاملة عامّة للحياة .

جاءت على أبواب وصول الإنسان إلى رشده الكامل ، من ناحية استعداده لتقبّل وعي توحيدي صحيح كامل شامل ، ومن ناحية تحمّله لمسؤولية أعباء الدعوة .

٤٢

ونحن باستقراء تاريخنا المنظور ، منذ جاء الإسلام إلى يومنا هذا ، لا نجد أيّ تغير حقيقي في هذين الخطّين ، لا في مدى اتساع الوعي التوحيدي عند الإنسان ولا في اتّساع التحمّلات الأخلاقية في أعباء الدعوة .

في كلا هذين الخطّين لا نجد أيّ تغيرٍ حقيقي .

نعم نجد التغيير الواسع جدّاً في الخطّ الثالث الذي يُعتبر خارجاً عن نطاق عمل النبوّة ورسالتها .

والحمد للّه ربَّ العالمين

٤٣

٤٤

٤ - مضاعفات وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله

اليوم نجتمع بمناسبة أعظَم فاجعة مرّت على تاريخ البشرية على الإطلاق .

بمناسبة الفاجعة المزدوجة التي يُمثّل الجزء الأول منها انقطاع الوحي في تاريخ البشرية .

هذه الظاهرة التي لم يعرف الإنسان في تاريخه الطويل الطويل ظاهرةً يُمكن أنْ تُماثلها ، وأنْ تناظرها في القدسيّة والجلال والأثر في حياة الإنسان وتفكيره ، ويمثّل الجزء الآخر من الفاجعة الانحراف داخل المجتمع الإسلامي ، على يد المؤامرة التي قام بها جناح من المسلمين بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فانحرف ـ بذلك ـ الخطُ عمّا كان مقرّراً له من قِبَل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ومن قبل الله تعالى .

كان هذا اليوم المشؤوم بداية انحراف طويل ونهاية عهد سعيد بالوحي ، تمثّل في مِئة وأربعة وعشرين ألف نبيّ كما في بعض الروايات ، وكان بداية ظلام ومحِن ومآسٍ وفواجع وكوارث من ناحية أُخرى تمثّل في ما عقَب وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من أحداث في تاريخ العالَم الإسلامي ، هذه الأحداث المرتبطة ارتباطاً شديداً وقويّاً بما تمّ في هذا اليوم من الفاجعة على ما في زيارة الجامعة التي نقرؤها :( بيعتهم التي عمّت شؤمها الإسلام ، وزرعت في قلوب الأُمّة الآثار وعنّفت سلمانها ، وضربت مقدادها ، ونفَت جندبها ، وفتحت بطن عمّارها ، وأباحت الخُمس للطلقاء أولاد الطلقاء وسلّطت اللعناء على المصطفين الأخيار ، وأبرزت بنات المهاجرين والأنصار إلى الذلّة والمهانة ، وهدَمت الكعبة وأباحت المدينة وخلطت الحلال بالحرام ) إلى غير ذلك من الأوصاف .

٤٥

والجزء الثاني من الفاجعة الذي تمّ في هذا اليوم تحدّثنا عنه خلال الكلام عن حياة الأئمّةعليهم‌السلام ، وسوف نتحدّث عنه أيضاً خلال كلامنا عن مناسبات أُخرى في حياة الأئمةعليهم‌السلام .

وأودّ الآن أنْ أقتصر على الجزء الأوّل من هذه الفاجعة ، يعني أنْ أنظر إلى الحدَث الذي وقَع في هذا اليوم بوصفِه حدَثاً قد وضَع حدّاً لتلك الظاهرة العظيمة التي اقترنت مع هبوط الإنسان على وجه الأرض ، ظاهرة الوحي ظاهرة ارتفاع الإنسان وتفانيه للاتصال المباشر مع الله سبحانه وتعالى .

ففي مثل هذا اليوم وضع حد نهائي لهذه الظاهرة المباركة الميمونة وفي بعض الروايات أنْ جبرائيلعليه‌السلام حينما ارتفع ملائكة السماء بروح محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى ربّها راضيةً مرضية ، التفت إلى الأرض مودّعاً ثمّ طار إلى سماواته .

هذا اليوم كان يوم انقطاع الإنسانية عن الاتّصال المباشر باللّه سُبحانه بانتهاء حياة خاتم الأنبياء والمرسلين .

بهذه المناسبة أُريد أنْ أُعطي فكرة موجزة على مستوى بحث اليوم عن الوحي ، الوحي الذي يتمثّل في اتّصال خاص بين الإنسان وبين الله .

فالوحي هو ضرورة من ضرورات تخليد الإنسان على وجه الأرض وبهذا خلق الله الإنسان وأودعه الاستعداد الكامل والأرضية الصالحة بإفاضة هذه الموهبة منه سبحانه ؛ لأنّ ضرورة الوحي يُمكن أنْ توضَع في قِبال جانبين في الإنسان ، الآن اقتصر على أحد الجانبين :

الإنسان خُلِق حسّياً أكثر منه عقلياً خلق يتفاعل مع حسّه أكثر ممّا يتفاعل مع عقله ، يعني أنّ النظريات والمفاهيم العقلية العامّة في إطارها النظري هذه المفاهيم حتى لو آمن بها الإنسان إيماناً عقليّاً حتى لو دخَلَت إلى ذهنه دخولاً نظريّاً مع هذا لا تهزّه ولا تحركه ولا تبنيه ولا تزعزع ما كان فيه ولا تنشئه من جديد إلا في حدود ضيقة جداً على عكس الحسّ فإنّ الإنسان الذي يواجه حسّاً ، ينفعل بهذا الحس و ينجذب إليه ، وينعكس هذا الحسّ على روحه

٤٦

ومشاعره وانفعالاته وعواطفه بدرجةٍ لا يمكن أنْ يُقاس بها انعكاس النظرية والمفهوم المجرّد عن أيّ تطبيق حسّي .

وليس من الصدفة أنْ كان الإنسان على طول الخط في تاريخ المعرفة البشرية ، أكثر ارتباطاً بمحسوساته من معقولاته وأكثر تمسّكاً بمسموعاته ومنظوراته من نظريّاته .

فإنْ هذا هو طبيعة التسليم الفكري والمعرفي عند الإنسان ، وليس من الصدفة أنْ قُرِن إثبات أيّ دينٍ بالمعجرة وكانت أكثر معاجز الأنبياء معاجز على مستوى الحس ؛ لأنّ الإنسان يتأثّر بهذا المستوى أكثر ممّا يتأثّر بأيّ مستوىً آخر .

إذن : ( فالإنسان بحسَب طبيعة جهازه المعرفي وتكوينه النظري خُلِق حسّياً أكثر منه عقلياً ) ، خُلِق متفاعلاً مع هذا المستوى من الانخفاض من المعرفة أكثر ممّا هو متفاعل مع المستوى النظري المجرّد عن المعرفة ، وهذا يعني أنّ الحسّ أقدر على تربية الإنسان من النظر العقلي المجرّد ويحتل من جوانب وجوده وشخصيته وأبعاد مشاعره وعواطفه وانفعالاته أكثر ممّا يحتل العقل : المفهوم النظري المجرّد .

بناء على هذا كان لا بدّ للإنسانية من حسٍّ مربّي ، زائد على العقل والمدركات العقلية الغائمة الغامضة التي تدخل إلى ذهن الإنسان بقوالب غير محدودة وغير واضحة .

إضافة إلى هذه القوالب كان لا بدّ لكي يربّى الإنسان على أهداف السماء ، على مجموعة من القِيَم والمثل والاعتبارات ، كان لا بدّ من أنْ يُربّى على أساس الحس وهذا هو السبب في أنّ كل الحضارات التي يعرفها تاريخ النوع البشري إلى يومنا هذا ، إلى حضارة الإنسان الأوروبّي التي تحكّم العالم ظلماً وعدواناً كل هذه الحضارات التي انقطعت عن السماء ربّاهاً الحس ولم يربّها العقل ؛ لأنّ الحس هو المربّي الأول دائماً ، فكان لا بدّ لكي يمكن تربية الإنسان على أساس حس يبعث في هذا الإنسان إنسانيته الكاملة الممثّلة لكلّ جوانب وجوده الحقيقية كان لا بد من خلق حس في الإنسان يدرك تلك القِيَم والمُثل والمفاهيم ويدرك التضحية في سبيل تلك القيم والمثل إدراكاً حسياً لا إدراكاً عقلانياً بقانون الحسن والقبح العقليين فقد وهذا يعني ما قلناه من أنّ ضرورة الإنسان في خط التربية تفرض أنْ يودّع في طبيعة تكوينه وخلقه أرضية تكون صالحة ، لأنْ

٤٧

تكون فيه حسّيا بحُسن العدل بقبحِ الظلم بآلام المظلومين ، أنْ تكون فيه حسّا بكلّ ما يُمكن للعقل إدراكه وما لا يُمكن إدراكه من قِيَم ومثل واعتبارات .

وهذه الأرضية أو هذا الاستعداد الكامل الذي كان الارتباط المباشر مع الله سُبحانه وتعالى لكي تنكشف كلّ الصحف ، كل الستائر عن كلّ القِيم ، وكل المُثل وكل هذه الاعتبارات والأهداف العظيمة لكي ترى رؤية العين وتسمَع سماع الأُذن لكي يلمسها بيده ، يراها بعينه .

كان لا بدّ من أنْ توجد بذرة مثل هذا الحسّ في النوع البشري ، إلاّ أنّ وجدان هذه البذرة في النوع البشري لا يعني أنّ كل إنسان سوف يصبح له مثل هذا الحس ، وينفتق إدراكه عنه وإنما يعني إنْ الإمكانية الذاتية موجودة فيه إلا أنّ هذه الإمكانية لنْ تخرج إلى مرحلة الفعلية إلاّ ضِمن شروطها وظروفها وملابساتها الخاصة كأي إمكانية أُخرى في الإنسان .

هناك شهَوات وغرائز موجودة في الإنسان منذ يخلق وهو طفل ولكنّه لا يعيش تلك الشهَوات ولا يعيش تلك الغرائز إلى مراحل متعاقبة من حياته فإذا مر بمراحل متعاقبة من حياته تفتحت تلك البذور حينئذ أصبح يعيش فعلية تلك الشهوات والغرائز كذلك على مستوى هذا الحس الذي هو أشرف وأعظم وأروَع ما أودع في طبيعة الإنسان .

هذا قد لا يعيشه مئات الملايين من البشر في عشرات الآلاف من السنين ، قد لا يتفتح يبقى مجرد استعداد خام و أرضية ذاتية تمثّل الإمكان الذاتي لهذه الصيغة فقط دون أنْ تتفتّح عن وجود مثل هذا الحس ، لأنّ تفتّحه يخضع لما قلناه من الملابسات والشروط التي لها بحثٌ آخر أوسع من كلامنا اليوم .

أرضية أنْ يحس الإنسان بتلك القِيَم والمثل تصبح أمراً واقعياً في أشخاص مميزين يختصّهم الله تعالى بعنايته ولطفه واختياره وهؤلاء هم الأنبياء والمرسلون الذين يرتفعون إلى مستوى أنْ تصبح كل المعقولات الكاملة محسوسات لديهم يصبح كل ما نفهمه وما لا نفهمه من القيَم والمُثل أمراً حسّياً لديهم يحسّونه ويسمعونه ويبصرونه .

ذلك أنّ الأفكار التي ترد إلى ذهن الإنسان تارة ترد إلى ذهنه وهو لا يدرك

٤٨

إدراكاً حسّياً مصدر هذه الأفكار .

الأفكار التي ترد إلى الإنسان كلّنا نؤمن بأنّها أفكار بقدرة الله وعنايته ورَدت إلى ذهن الإنسان و إلى فكره ، لكن إيماننا بذلك إيمان عقلي نظري لا حسّي ؛ لأنّ اللّه سُبحانه وتعالى هو مصدر العِلم والمعرفة والأفكار الخيرة في ذهن الإنسان ، ولهذا أي فكرة من هذا القبيل تطرأ في ذهن الإنسان نؤمن عقلياً بأنّها من اللّه سبحانه وتعالى .

لكن هناك فارق كبير بين حالتين : بين حالة أنْ ترد فكرة إلى ذهن الإنسان فيحسّ بأنّ هذه الفكرة أُلقيت إليه من أعلى ، بحيث يدرك إلقاءها من أعلى كما تدرك أنت الآن أنّ الحجَر وقَع من أعلى ، يدرك هذا بكلّ حسّه وبصره يدرك أنّ هذه القطرة هذا الفيض هذا الإشعاع قد وقَع من أعلى ، أُلقي عليه من اللّه سبحانه وتعالى .

وأُخرى لا يُدرك هذا على مستوى الحس يدركه عقلياً ، يُدرك أنّ هناك فكرة تعيش في ذهنه نيّرة خيّرة لكنّه لم يرَ بعينه أنّ هناك يداً قذَفت بهذه الفكرة إلى ذهنه .

وهذه الأفكار التي تُقذَف في ذهن الإنسان فيتوفّر لدى ذاك الإنسان حسٌّ بها بأنّها قُذِفت إليه من الله سُبحانه وتعالى وأُفيضت عليه من واجب الوجود واهب الوجود وواهب المعرفة فهي أيضاً على أقسام .

لأنّ هذا الإنسان تارةً قد بلَغ حسّه إلى القمّة فاستطاع أنْ يحس بالعطاء الإلهي من كلّ وجوهه وجوانبه ، يسمعه ويبصره يراه في جميع جهاته يتعامل معه ويتفاعل معه بكلّ ما يُمكن للحسّ أنْ يتفاعل مع الحقيقة هذا هو الذي يعبّر عنه بمصطلح الروايات على ما يظهر من بعضها بمقامٍ عال من الأنبياء مقام الرسول الذي يسمع الصوت ويرى الشخص أيضاً .

ويمكن أنْ نفترض أنّ هناك ألواناً أُخرى من الحسّ تدعم هذا الحس السمعي والبصري عند هذا الإنسان العظيم فهو يحس بالحقيقة المعطاة من الله تعالى من جميع جوانبها ، يحس بها بكلّ ما أُوتي من أدوات الحسّ بالنسبة إليه هذه هي الدرجة العالية من الحس وقابلية الاتصال مع العمل الإلهي .

وأُخرى يفترض أنّه يحسّ بها من بعض جوانبها وهو الذي عبّر عنه بأنّه

٤٩

يسمَع الصوت ولا يرى الشخص ، هذا إحساس إلاّ أنّه إحساس ناقص ، وقد يفترض أنّه أقّل من ذلك وهو الذي عُبّر عنه في بعض الروايات بأنّه يرى الرؤيا في المنام هنا يرى هذه الرؤيا المناميّة ، وهي طبعاً تختلف عن الرؤيات في اليقظة من حيث درجة الوضوح .

فهنا فارق كيفي بين الحسّ والرؤيا المناميّة والرؤيا في عالم اليقظة والانتباه الكامل .

هناك درجات من الحسّ وعلى وِفق هذه الدرجات وضِعت مصطلحات الرسول والنبيّ والمحدّث والإمام ، ونحو ذلك من المصطلحات ، أنّه الذي يمثّل أعلى هذه الدرجات هو الوحي المتمثّل في ملك يتفاعل معه النبيّ تفاعلاً حسيّاً من جميع جوانبه كما كان يعيش سيد المرسلينصلى‌الله‌عليه‌وآله مع جبرائيلعليه‌السلام هنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يعيش الحقيقة الإلهية عيشاً حسّياً من جميع جوانبها ، يعيشها كما نعيش نحن على مستوى حسنٍ ووجود رفيقنا وصديقنا ، لكن مع فارق بين هذين الحسّين بدرجة الفارق بين المحسوسين .

هذا الحس هو الذي استطاع أنْ يربّي شخص النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وأُعدّ لكي يكون المثَل الأوّل والرائد الأوّل لخط هذه القِيَم والمُثل والأهداف الكبيرة .

يعني هذا الحس قام بدور التربية للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لأنّه استنزل القِيم والمُثل والأهداف والاعتبارات العظيمة من مستواها الغائم المُبهم من مستواها الغامض العقلي من مستوى النظريّات العمومية فأعطاها معالم الحسّ التي لا ينفعل الإنسان ـ كما قلنا بقدر ما ينفعل بها بهذا تصبح الصورة المحسوسة التي هبَطت على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، على أيّ نبيّ من الأنبياء ملء وجوده ، ملء روحه ملء كيانه .

تصبح همّه الشاغل في ليله ونهاره ؛ لأنّها أمامه يراها يحسّها... يلمسَها ويشمّها بأروَع ممّا نلمس ونشمّ ونسمع ونبصر .

ثمّ هذا الشخص الذي استطاع أنْ يُربّيه الحس القائم على الوحي يصبَح هو حسّاً مربّياً للآخرين ، فالآخرون من أبناء البشرية الذين لم تُتِح لهم الظروف ، ظروفهم وملابساتهم وعناية الله أنْ يرتفعوا هُم إلى مستوى هذا الحس ، الذين لم يُتَح لهم هذا الشرف العظيم سوف يُتاح لهم الحس لكن بالشكل

٥٠

غير المباشر ، حسٌّ بالحس لا حس بالحقيقة الإلهية مباشرة ، حسٌّ بالمرآة الحقيقية الإلهية انعكست على هذه الحقيقة الإلهية ، يعني المعطى الإلهي - الثقافة الإلهية - انعكست على هذه المرآة ، والآخرون يحسّون بهذه المرآة بينما النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه كان يحسّ مباشرة بتلك الثقافة الإلهية بما هي أمرٌ حسّي لا بما هي أمرٌ نظري ، أمّا نحن نحسّ محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله ، بما هو رجلٌ عظيم بما هو رجلٌ استطاع أنْ يُثبت للبشرية أنّ هناك اعتباراً وهدَفاً فوق كلّ المصالح والاعتبارات ، فوق كل الأنانيّات ، فوق كل الأمجاد المزيّفة والكرامات المحدودة ، أنّ هناك إنساناً لا ينقطع نفسه إذا كان دائماً يسير على خط رسالة الله سُبحانه وتعالى .

هذا المضمون الذي للإنسان أنْ يُدركه عقلياً ، هذا المضمون الذي حشَد أرسطو وأفلاطون مئات الكتب بالبرهنة العقلية عليه ، على إمكانية الاستمرار اللامتناهي من اللامتناهي ، هذا المعنى أصبح لدى البشرية أمراً محسوساً خرَج من نطاق أوراق أرسطو وأفلاطون التي لم تستطع أنْ تصنع شيئاً ، والتي لم تستطع أنْ تفتح قلب إنسان على الصلة بهذا اللامتناهي ، وأصبحت أمراً حسّياً يعيش مع تاريخ الناس لكي يكون هذا الأمر المحسوس هو التعبير القويّ دائماً عن تلك القيَم والمُثل وهو المربّي للبشرية على أساس تلك القِيم والمثل .

فالوحي بحسب الحقيقة إذن هو المربّي الأول للبشرية الذي لم يكن بالإمكان للبشرية أنْ تربّى بدونه ؛ لأنّ البشرية بدون الوحي ليس لديها إلاّ حسٌ بالمادّة وما على المادة من ماديات ، وإلاّ إدراك عقلي غائم قد يصل إلى مستوى الإيمان بالقيَم والمُثُل وباللّه ، إلاّ أنّه إيمانٌ عقليّ على أيّ حال لا يهزّ قلب هذا الإنسان ، ولا يدخل إلى ضميره ولا يسمَع كل وجوده ولا يتفاعل مع كل مشاعره وعواطفه .

فكان لا بدّ أنْ يستنزل ذلك العقل على مستوى الحس ، لا بدّ أنْ تستنزل تلك المعقولات على مستوى الحس وحيث إنّ هذا ليس بالإمكان أنْ يعمل مع كل الناس ؛ لأنّ كل إنسان مهيّأ لهذا ، ولهذا استصفى لهذه العملية أُناسٌ معيّنون أوجَد الله تبارك وتعالى فيهم الحس القائد الرائد ، هذا الحس ربّاهم هم أوّلاً وبالذات ثمّ خلَق وجوداً حسّياً ثانوياً هذا الوجود الحسّي الثانوي كان هو المربّي للبشرية .

٥١

والخلاصة لئن بقيَت القيَم والمُثل والأهداف والاعتبارات عقلية محضة ، فهي سوف تكون قليلة الفهم ضعيفة الجذب بالنسبة إلى الإنسان ، وكلّما أمكن تمثيلها حسّياً أصبحت أقوى وأصبحت أكثر قدرة على الجذب والدفع .

إذا كان هذا حقّاً فيجب أنْ نخطّط لأنفسنا ونخطّط في علاقاتنا مع الآخرين على هذا الأساس .

يجب أنْ نخطّط في أنفسنا على هذا المستوى ، ومعنى أنْ نخطّط في أنفسنا على هذا ، يعني أنْ لا نكتفي بأفكار عقلية نؤمن بها نضعها في زاوية عقلنا كإيمان الفلاسفة بآرائهم الفلسفية ، لا يكفي أنْ نؤمن بهذه القِيَم والمثل إيماناً عقلياً صرفاً بل يجب بأنْ نحاول... أنْ نستنزلها إلى أقصى درجة مُمكنة من الوضوح الحسّي ، طبعاً نحن لا نطمَع أنْ نكون أنبياء ولا نطمع أنْ نحظى بهذا الشرف العظيم الذي انغلق على البشرية بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ولكن مع هذا الوضوح مقول بالتشكيك على حسَب اصطلاح المناطقة ليس كل درجة من الوضوح معناها النبوّة ، هناك ملايين من درجات الوضوح قبل أنْ تصبح نبيّاً يمكن أنْ تكسب ملايين من درجات الوضوح ، وهذه المراتب المتصاعدة قبل أنْ تبلغ إلى الدرجة التي أصبح فيها موسىعليه‌السلام ، في لحظةٍ استحقّ فيها أنْ يخاطبه اللّه سبحانه وتعالى ، أو قبل أنْ يصل الإنسان إلى الدرجة التي بلغ إليها محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله حينما هبَط عليه اشرف كتب السماء ، هناك ملايين من الدرجات هذه الملايين بابها مفتوح أمامنا ، ولا بدّ أنْ لا نقتصر أنْ لا نزهد في هذا التطوير العقلي للقِيَم والمُثُل الموجود عندنا ، لا بدّ لنا أنْ لا نقتصر وأنْ نطمع في أكثر من هذا الوضوح وفي أكثر من هذا من التحدّد ومن الحسيّة ، لا بدّ لنا أنْ نفكّر في أنْ يعبأ كل وجودنا بهذا القِيم والمثل لكي تكون على مستوى المحسوسات بالنسبة إلينا .

من أساليب استنزال هذه القِيم والمثل إلى مستوى المحسوسات ، هو التأثير الذهني عليها باستمرار حينما توحي إلى نفسك باستمرار بهذه الأفكار الرفيعة ، حينما توحي إلى نفسك باستمرار بأنّك عبدٌ مملوك للّه سبحانه وتعالى ، وأنّ الله تبارك وتعالى هو المالك المطلق لأمرك وسلوكك ووجودك ، وهو المخطّط لوضعك ومستقبلك وحاضرك وأنّه هو الذي يرعاك بعينٍ لا تنام في دنياك

٥٢

وآخرتك ، حينما توحي إلى نفسك باستمرار بمستلزمات هذه العبوديّة من انّك مسؤول أمام هذا المولى العظيم ، مسؤول أنْ تطيعه ، أنْ تطبّق خطّه ، أنْ تلتزم رسالته ، أنْ تدافع عن رايته ، أنْ تلزم شعاراته حينما تسر إلى نفسك وتؤكّد على نفسك باستمرار أنّ هذا المعنى للعبودية ، لأنّك دائماً وأبداً يجب أنْ تعيش مع الله .

حينما توحي إلى نفسك بأنّك يجب أنْ تعيش للّه ، سوف تتعمّق دقّة العيش للّه في ذهنك سوف تتّسع ، سوف تصبح بالتدريج شبحاً يكاد أنْ يكون حسّياً بعد أنْ كان نظرياً عقلياً صِرفاً .

أليس هناك أشخاص من الأولياء والعلماء والصدّيقين قد استطاعوا أنْ يبصروا محتوى هذه القِيَم والمُثل بأُمّ أعينِهم ؟ ! ولم يستطيعوا أنْ يبصروها بأُم أعينهم إلاّ بعد أنْ عاشوها عيشا تفصيلياً ، مع الالتفات التفصيلي الكائن ، وهذه عملية شاقّة جدّاً ؛ لأنّ الإنسان ـ كما قلنا ـ ينفعل بالحس وما أكثر المحسوسات مِن أمامه ومِن خلفه ، الدنيا كلّها بين يدَيه تمتّع بحسّه في مختلف الأشياء ، وهو يجب عليه دائماً وهو يعيش في هذه الدنيا التي تنقل إلى عينه مئات المبصَرات ، وتنقل مئات المسموعات ، يجب عليه أنْ يُلقّن نفسه دائماً بهذه الأفكار ويؤكّد هذه الأفكار خاصّة في لحظات ارتفاعه وفي لحظات تساميه ؛ لأنّ أكثر الناس إلاّ مَن عصَم الله تحصل له لحظات التسامي ، وتحصل له لحظات الانخفاض .

ليس كل إنسان يعيش محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله مئة بالمئة ، وإلاّ لكان كل الناس من طلاّبه الحقيقيين كل إنسان لا يعيش محمّداً إلاّ لحظات معيّنة تتّسع وتضيق بقدر تفاعل هذا الإنسان برسالة محّمدصلى‌الله‌عليه‌وآله .

إذن ففي تلك اللحظات التي تمرّ على أيّ واحد منّا ويحس بأنّ قلبه منفتح لمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّ عواطفه ، ومشاعره كلّها متأجّجة بنور رسالة هذا النبيّ العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، في تلك اللحظات يغتنم تلك الفرصة ليختزن وأنا أؤمِن بعملية الاختزان يعني أؤمن بأنّ الإنسان في هذه اللحظة إذا استوعب أفكاره ، وأكّد على مضمون معيّن وخزَنه في نفسه ، سوف يفتح له هذا الاختزان في لحظات الضعف بعد هذا حينما يفارق هذه الجلوة العظيمة ، حينما يعود إلى حياته الاعتيادية سوف يتعمّق بالتدريج هذا الرصيد هذه البذرة التي وضعها في

٥٣

لحظة الجلوة في لحظة الانفتاح المطلق على أشرف رسالات السماء ، تلك البذرة سوف تُشعره وسوف تقول له في تلك اللحظة : إيّاك من المعصية ، إيّاك من أنْ تنحرف قيدَ أَنملة عن خطّ محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله .

كلّما ربَط الإنسان نفسه في لحظات الجلوة والانفتاح بقيود محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، واستطاع أنْ يعاهد نبيّه العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، على أنْ لا ينحرف عن رسالته على أنْ لا يتمَلمَل عن خطّه على أنْ يعيشه ويعيش أهدافه ورسالته وأحكامه ، حينئذٍ بعد هذا حينما تفارقه هذه الجلوة وكثيراً ما تُفارقه ، إذا أراد أنْ ينحرف يتذكّر عهده يتذكّر صلته بمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله تصبح العلاقة حينئذٍ ليست مجرّد نظرية عقلية ، بل هناك اتفاق هناك معاهدة هناك بيعة أعطاها لهذا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في لحظة حسٍّ في لحظةٍ قريبة من الحس .

كان كأنّه يرى النبيّ أمامه فبايعه .

لو أنّ أيّ واحد منّا استطاع أنْ يرى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بأمّ عينه أو رأى أمامه إمام زمانه عجّل اللّه تعالى فرجه ، رأى قائده بأمّ عينه وعاهده وجهاً لوجه على أنْ لا يعصي على أنْ لا ينحرف على أنْ لا يخون الرسالة ، هل بالإمكان لهذا الإنسان بعد هذا لو فارقته تلك الجلوة ولو ذهب إلى ما ذهَب ولو عاش أيّ مكان وأي زمان ، هل بإمكانه أنْ يعصي ؟ هل يمكنه أنْ ينحرف أو يتذكّر دائماً صورة وليّ الأمر عجّل اللّه تعالى فرجه وهو يأخذ منه هذه البيعة وهذا العهد على نفسه .

نفس هذه العملية يمكن أنْ يعملها أيّ واحدٍ منّا لكن في لحظة الجلوة في لحظة الانفتاح .

كل إنسان من عندنا يعيش لحظة لقاء الإمام عجّل اللّه تعالى فرجه من دون أنْ يلقى الإمام عجّل اللّه تعالى فرجه ولو مرّة واحدة في حياته ، هذه المرّة الواحدة أو المرّتين والثلاثة يجب أنْ نعمل لكي تتكرّر ؛ لأنّ بالإمكان أنْ نعيش هذه اللحظة دائماً هذا ليس أمراً مستحيلاً ، بل هو أمرٌ ممكن والقصّة قصّة إعداد وتهيئة لأنْ نعيش هذه اللحظة حتى في حالة وجود لحظات أكثر بكثير تعيش

٥٤

فيها الدنيا تعيش فيها أهواء الدنيا ورغَبات الدنيا وشهوات الدنيا ، مع هذا يجب أنْ تخلّف فينا هذه اللحظة رصيداً يجب أنْ تخلق فينا بذرة منعة عصمة ، قوّة قادرة على أنْ تقول : لا ، حينما يقول الإسلام : لا ، ونعم حينما يقول الإسلام ذلك .

هذه اللحظة يجب أنْ نغتنمها ، ويجب أنْ نختزن لكي تتحوّل بالتدريج هذه المفاهيم إلى حقائق ، وهذه الحقائق إلى محسوسات ، وهذه المحسوسات إلى جهاد نعيشه بكلّ عواطفنا ومشاعرنا وانفعالاتنا ، آناء الليل وأطراف النهار ونحن ما أحوَجنا إلى ذلك ؛ لأنّ المفروض أنّنا نحن الذين يجب أنْ نبلّغ للناس نحن الذين يجب أنْ نشعّ بنور الرسالة على الناس .

نحن الذين يجب أنْ نحدّد معالم الطريق للأُمّة والمسلمين ، إذن فما أحوجنا إلى أنْ يتبيّن لنا الطريق تبيّناً حسّياً تبيّناً أقرب ما يكون إلى تبيّن الأنبياء وطُرقهم .

ليس عبثاً وليس صدفةً أنّ رائد الطريق دائماً كان إنساناً يعيش الوحي ؛ لأنّه كان لا بدّ له أنْ يعيش طريقه بأعلى درجة ممكنة للحس ، حتى لا ينحرف حتى لا يتململ حتى لا يضيع حتى لا يكون سبباً في ضلال الآخرين ، ونحن يجب أنْ ندعو أنْ نتضرّع إلى اللّه دائماً لأنْ يفتح أمام أعيننا معالم الطريق ، أنْ يُرينا الطريق رؤية عينٍ لا رؤية عقل فقط ، أنْ يجعل هذه القيَم وهذه المُثل والطريق إلى تجسيد هذه القِيم وهذه المُثل شيئاً محسوساً بكلّ منعطفات هذا الطريق ، وبكلّ صعوبات هذا الطريق وما يُمكن أنْ يصادفه في أثناء هذا الطريق .

لا بدّ لنا أنْ نفكّر في أنْ نحصل اكبر درجة ممكنة من الوضوح في هذا الطريق هذا بيننا وبين أنفسنا ..

وأمّا العبرة التي نأخذها بالنسبة إلينا مع الآخرين ، نحن أيضاً يجب أنْ نفكّر في أنّنا سوف لنْ نطمع في هداية الآخرين عن طريق إعطاء المفاهيم فقط ، عن طريق إعطاء النظريّات المجرّدة فقط وتصنيف الكتب العميقة ، كل هذا لا يكفي إلقاء المحاضرات النظرية لا يكفي .

لا بدّ لنا أنْ نبني تأثيرنا في الآخرين أيضاً على مستوى الحس ، يجب أنْ نجعل الآخرين يحسّون منّا بما ينفعلون به انفعالاً طيّباً طاهراً مثالياً ، فإنّ الآخرين مثلنا ، الآخرون هُم بشر والبشر ينفعلون بالحس أكثر ممّا ينفعلون

٥٥

بالعقل فلا بدّ إذن أنْ نعتمد على هذا الرصيد أكثر ممّا نعتمد على ذلك الرصيد .

كتاب مئة كتاب نظري لا يساوي أنْ تعيش الحياة التي تمثّل خط الأنبياء ، حينما تعيش الحياة التي تمثّل خط الأنبياء بوجودك بوضعك بأخلاقك بإيمانك بالنار والجنّة ، إيمانك بالنار والجنّة حينما ينزل إلى المستوى الحس إلى مستوى الرقابة الشديدة ، إلى مستوى العصمة حينما ينزل إلى هذا المستوى يصبح أمراً محسوساً ، يصبح هذا الإيمان أمراً حسّياً حينئذ سوف يُكهرب الآخرين ، ولا نطمع بالتأثير عليهم على مستوى النظريات فحسب فإنّ هذا وحده لا يكفي ، وإنْ كان ضرورياً أيضاً ولكن يجب أنْ نضيف إلى التأثير على مستوى النظريات ، تطهير أنفسنا وتكميل أرواحنا وتقريب سلوكَنا من سلوك الأنبياءصلى‌الله‌عليه‌وآله وأوصياء هؤلاء الأنبياء لنستطيع أنْ نجسّد تلك القِيَم والمثل بوجودنا أمام حسّ الآخرين قبل أنْ نعطيها بعقول الآخرين أوْ توأماً مع إعطائها لعقول الآخرين ...

اللهم وفّقنا للسير في خطّ أشرف أنبيائك والالتزام بتعالميه غفر اللّه لنا ولكم جميعاً .

٥٦

٥ - دور الأئمّةعليهم‌السلام بعد وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله

الصلاة والسلام على محمّد وآله الطيبين الطاهرين .

حينما توفّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله خلّف أُمّة ومجتمعاً ودولة .

وأقصد بالأُمّة المجموعة من المسلمين الذين كانوا يؤمنون برسالته ويعتقدون بنبوّته ، وأقصد بالمجتمع تلك المجموعة من الناس التي كانت تمارس حياتها على أساس تلك الرسالة ، وتنشئ علاقاتها على أساس التنظيم المقرّر لهذه الرسالة ، وأقصد بالدولة القيادة التي كانت تتولّى ، تزعّم التجربة في ذلك المجتمع ، والاشتغال على تطبيق الإسلام وحمايته ممّا يهدّده من أخطار وانحراف .

الانحراف الذي حصَل يوم السقيفة ، كان أوّل ما كان في كيان الدولة ؛ لأنّ القيادة كانت قد اتخذت طريقاً غير طريقها الطبيعي ، وقلنا بأنّ هذا الانحراف الذي حصل يوم السقيفة ، في زعامة التجربة ـ أي الدولة ـ كان من الطبيعي في منطق الأحداث أنْ ينمو ويتّسع ، حتى يحيط بالتجربة نفسها ، فتنهار الزعامة التي تشرف على تطبيق الإسلام .

هذه الزعامة باعتبار انحرافها ، وعدم كونها قادرة على تحمّل المسؤولية ، تنهار في حياتها العسكرية والسياسية ، وحينما تنهار الدولة ، حينما تنهار زعامة التجربة ينهار تبَعاً لذلك المجتمع الإسلامي ؛ لأنّه يتقوّم بالعلاقات التي تنشأ

٥٧

على أساس الإسلام ، فإذا لم تبقَ زعامة التجربة لترعى هذه العلاقات وتحمي وتقنّن قوانين لهذه العلاقات ، فلا محالة ستتفتت هذه العلاقات ، وتتبدّل بعلاقات أُخرى قائمة على أساس آخر غير الإسلام ، وهذا معناه زوال المجتمع الإسلامي .

تبقى الأُمّة بعد هذا ، وهي أبطأ العناصر الثلاثة تصدّعاً وزوالاً ، بعد أنْ زالت الدولة الشرعية الصحيحة ، وزال المجتمع الإسلامي الصحيح ، تبقى الأُمّة ، إلاّ أنّ هذه أيضاً من المحتوم عليها أنْ تتفتت ، وانْ تنهار ، وأنْ تنصهر ببوتقة الغزو الكافر ، الذي أطاح بدولتها ومجتمعها ؛ لأنّ الأُمّة التي عاشت الإسلام زمناً قصيراً ، لم تستطع أنْ تستوعب من الإسلام ما يحصّنها ، ما يُحدّد أبعادها ما يقوّيها ، ما يعطيها أصالتها وشخصيتها وروحها العامّة وقدرتها على الاجتماع على مقاومة التميّع والتسيّب والانصهار في البوتقات الأُخرى .

هذه الأُمّة بحكم أنّ الانحراف قصّر عمر التجربة ، وبحكم أنّ الانحراف زوّر معالم الإسلام ، بحكم هذين السببين الكمّي والكيفي الأُمّة غير مستوعبة ، الأُمّة تتحصّن بالطاقات التي تمنعها وتحفظها عن الانهيار أمام الكافرين وأمام ثقافات الكافرين ، فتتنازل بالتدريج عن عقيدتها عن آدابها ، عن أهدافها وعن أحكامها ، ويخرج الناس من دين اللّه أفواجاً ، وهذا ما أشارت إليه رواية عن أحد الأئمّةعليهم‌السلام ، يقول فيها بأنّ أوّل ما يتعطّل من الإسلام هو الحكم بما أنزل اللّه سبحانه وتعالى ، وآخر ما يتعطّل من الإسلام هو الصلاة ، هذا هو تعبير بسيط عمّا قلناه من أنّ أوّل ما يتعطّل هو الحكم بما أنزل اللّه أي إنّ الزعامة والقيادة للدولة تنحرف ، وبانحرافها سوف يتعطّل الحكم بما أنزل اللّه .

وهذا الخط ينتهي حتماً إلى أنْ تتعطل الصلاة ، يعني إلى تمييع الأُمّة ، تَعطّل الصلاة هو مرحلة أنّ الأُمّة تتعطّل ، إنّ الأُمّة تتنازل عن عقيدتها ، أنّ الأُمّة تضيع عليها رسالتها وآدابها وتعاليمها .

الحكم بغير ما أنزل اللّه ، معناه أنّ التجربة تنحرف ، أنّ المجتمع يتميّع ...

في مقابل هذا المنطق وقَف الأئمّةعليهم‌السلام على خطّين كما قلنا :

٥٨

الخط الأول : هو خط محاولة تسلّم زمام التجربة ، زمام الدولة ، محو آثار الانحراف ، إرجاع القيادة إلى موضعها الطبيعي ؛ لأجل أنْ تكتمل العناصر الثلاثة : الأُمّة والمجتمع والدولة .

الخط الثاني : الذي عمل عليه الأئمّةعليهم‌السلام ، هو خط تحصين الأُمّة ضدّ الانهيار ، بعد سقوط التجربة وإعطائها من المقوّمات القدر الكافي لكي تبقى وتقف على قدميها ، وتعيش المحنة بعد سقوط التجربة بقدَم راسخة وروح مجاهدة وبإيمان ثابت .

والآن ، نريد أنْ نتبيّن هذين الخطّين في حياة أمير المؤمنينعليه‌السلام ، مع استلال العِبَر في المشي على هذين الخطّين .

علىالخط الأوّل ، خط محاولة تصحيح الانحراف وإرجاع الوضع الاجتماعي والدولي في الأُمّة الإسلامية إلى خطه الطبيعي ، في هذا الخط عملعليه‌السلام ، حتى قيل عن عليّعليه‌السلام : إنّه أشدّ الناس رغبةً في الحكم والولاية ، اتهمه معاوية بن أبي سفيان ، بأنّه طالب جاه ، وأنّه طالب سلطان ، اتهمه بالحقد على أبي بكر وعمر ، اتهمه بكل ما يمكن أنْ يتّهم الشخص المطالب بالجاه وبالسلطان وبالزعامة .

أمير المؤمنينعليه‌السلام عمل على هذا الخط ، خط تسلّم زمام الحكم ، وتفتيت هذا الانحراف ، وكسب الزعامة زعامة التجربة الإسلامية إلى شخصه الكريم ، بدأ هذا العمل عقيب وفاة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله مباشرةً ، كما قلنا بالأمس ، حيث حاول إيجاد تعبئة وتوعية فكرية عامّة في صفوف المؤمنين وإشعارهم بأنّ الوضع وضعٌ منحرف .

إلاّ أنّ هذه التعبئة لم تنجح لأسباب ترتبط بشخص عليّعليه‌السلام استعرضنا بعضها بالأمس ، ولأسباب أُخرى ترتبط بانخفاض وعي المسلمين أنفسهم .

لأنّ المسلمين وقتئذ لم يدركوا أنّ يوم السقيفة كان هو اليوم الذي سوف ينفتح منه كلّ ما انفتح ، من بلاء على الخط الطويل لرسالة الإسلام ، لم يدركوا هذا ، ورأوا أنّ وجوهاً ظاهرة الصلاح قد تصدّت لزعامة المسلمين ولقياداتهم في هذا المجال ، ومن الممكن خلال هذه القيادة ، أنْ ينمو الإسلام وأنْ تنمو الأُمة .

٥٩

لم يكن يفهم من عليّعليه‌السلام إلاّ أنّ له حقّاً شخصيّاً يطالب به ، وهو مقصّر في مطالبته ، إلاّ أنّ المسألة لم تقف عند هذا الحد ، فضاقت القصّة على أمير المؤمنينعليه‌السلام من هذه الناحية ، ومن أنّنا نجد في مراحل متأخّرة من حياة أمير المؤمنينعليه‌السلام المظاهر الأُخرى لعمله على هذا الخط ، لمحاولة تسلّمه أو سعيه في سبيل تسلّم زعامة التجربة الإسلامية وتفادي الانحراف الذي وقع ، إلاّ أنّ الشيء الذي هو في غاية الوضوح ، من حياة أمير المؤمنينعليه‌السلام ، أنّهعليه‌السلام في عمله في سبيل تزعّم التجربة ، وفي سبيل محاربة الانحراف القائم ومواجهته بالقول الحق وبالعمل الحق ، وبشرعيّة حقّه في هذا المجال ، كان يواجه مشكلة كبيرة جداً ، وقد استطاع أنْ ينتصر على هذه المشكلة انتصاراً كبيراً جداً أيضاً .

هذه المشكلة التي كان يواجهها هي مشكلة الوجه الظاهري لهذا العمل والوجه الواقعي لهذه العمل .

قد يتبادر إلى ذهن الإنسان الاعتيادي لأوّل مرّة إنّ العمل في سبيل معارضة زعامة العصر ، والعمل في سبيل كسب هذه الزعامة ، أنّه عمل في إطار فكري ، أنّه عمل يعبَّر عن شعور هذا العامل بوجوده ، وفي مصالحه ، وفي مكاسبه ، وبأبعاد شخصيته ، هذا هو التفسير التلقائي الذي يتبادر إلى الأذهان ، من عمل يتمثّل فيه الإصرار على معارضته في زعامة العصر على كسب هذه الزعامة ، وقد حاول معاوية كما أشرنا أنْ يستغل هذه البداهة التقليدية في مثل هذا الموقف من أمير المؤمنينعليه‌السلام .

إلاّ أنّ الوجه الواقعي لهذا العمل من قِبَل الإمامعليه‌السلام لم يكن هذا ، الوجه الواقعي هو أنّ عليّاً كان يمثّل الرسالة ، وكان هو الأمين الأوّل من قِبَل رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله على التجربة على استقامتها وصلابتها ، وعدم تميّعها على الخط الطويل ، الذي سوف يعيشه الإسلام والمسلمون بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فالعمل كان بروح الرسالة ولم يكن بروحه هو ، كان عملاً بروح تلك الأهداف الكبيرة ، ولم يكن عملاً بروح المصلحة الشخصية ، لم يكن يريد أنْ يبني زعامة لنفسه ، وإنّما كان يريد أنْ يبني زعامة الإسلام وقيادة الإسلام في المجتمع الإسلامي ، وبالتالي في مجموع البشرية على وجه الأرض .

٦٠