مباني نقد متن الحديث

مباني نقد متن الحديث0%

مباني نقد متن الحديث مؤلف:
تصنيف: علم الدراية
الصفحات: 215

مباني نقد متن الحديث

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: قاسم البيضاني
تصنيف: الصفحات: 215
المشاهدات: 63340
تحميل: 7970


توضيحات:

مباني نقد متن الحديث المقدمة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 215 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 63340 / تحميل: 7970
الحجم الحجم الحجم
مباني نقد متن الحديث

مباني نقد متن الحديث

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الباب الثاني / الفصل الثاني: عَرْضُ الحَديثِ على السُنَّة

1 - المَبحث الأوّل: السُنّة في اللُغة والاصطلاح، وأقوال العُلماء.

2 - المَبحث الثاني: مَعنى السُنّة عند الفَريقَين.

3 - المَبحث الثالث: أدلَّة القاعِدة.

4 - المَبحث الرابع: حُدود القاعِدة.

5 - المَبحث الخامس: الروايات الّتي تُخالِف السُنّة.

- روايات الاستخارة بالرِقَاعِ والبَنادِقِ والحَصَى.

- الروايات الوارِدة في نُحُوسَةِ الأيّامِ والأشياء.

- الروايات الوارِدة في نَجاسَة الحَديد.

- الروايات الوارِدة في الرَضَاعِ.

- الروايات الوارِدة في تَحريمِ أو كَراهة الخِضَابِ.

المَبحث الأوّل:

السُنّة في اللُغة

تُعرَّف السُنّة في اللُغة بأنّها السِيرة، حَسنة كانتْ أو قبيحة (301) .

والأصلُ فيها الطَريقة والسِيرة (302) ، وقال بعضُهم: إنّ الأصلَ الواحد في هذه الماّدة: هو جَرَيان أمرٍ مُنضبِط، سَواء كان هذا الأمر وجَرَيانه في ظهور صِفة، أم عَمل، أم قول، وإنّما سُمِّيَتْ بذلك؛ لأنّها تَجري جَرْياً (303) .

فالسُنّة إذن، هي: الطَرِيقَة، السِيْرَة، ومن صِفاتها الاستِمرار والجَرَيان.

السُنّة في الاصْطِلاح

السُنّة في اصطلاح الفقهاء هي: (قول النبيّ أو فِعله أو تَقريره)، وعند فقهاء الإماميّة هي: (قول المَعصومِ أو فِعله أو تَقريره).

وليس لها إلاّ قِسم واحد فقط، وهو الصَحيح المَصُون عن الكَذبِ والخَطأ (304) .

وقال الجُرجاني: السُنّة في الشريعة هي: الطَريقة المَسلُوكَة في الدِّين في غيرِ

١٠١

افتراضٍ ولا وُجوب (305) .

وهناك مَن جعلَ السُنّة مُرادفة للحديث المَنقول أو فعله أو تقريره. وإطلاق السُنّة على الحديث اصطلاحٌ حادِث لا تَعرفه اللغة.

معنى السنة في الأحاديث وأقوال العلماء.

المُتَتبِّع لأحاديث المعصومين (عليهم السلام) يَتبيَّن له بوضوح، أنّهم قد استخدموا السُنّة في مَعناها اللغوي، ففي الحديث الوارد عن الرسول (صلّى الله عليه وآله)، في الحثِّ على الالتزام بالسُنّة وعدم الخروج منها، قال: (... أمّا إنّي أُصلِّي وأنام وأصوم وأفطر، وأضحك وأبكي، فمَن رَغبَ عن مِنهاجي وسُنَّتي فليس مِنِّي) (306) .

وقد كان القدماء من العلماء يستخدمون هذا المُصطَلَح في هذا المَعنى فقط، فمِن خلال تَتَبُّع هذه الكلمة في بعض آثار الشيخ المُفيد وغيره، يَتبَيَّن لنا أنّها لا تخرج عن معناها اللغوي، وسوف نضرب بعض الأمثلة لتوضيح هذا المعنى، قال الشيخ:

1 - ويُستَحَب أن لا يُجاوِز الإنسان في المَهْرِ السُنَّة، وهي خمسمئة دِرهَم (307) .

2 - ومن السُنّة الثابتة عن الرسول (صلّى الله عليه وآله) الدعاء عند رؤية الهلال (308) .

3 - والسُنّة في الصيد، بالكلابِ المُعلَّمَة (309) .

وغيرها من الأمثلة الأُخرى الّتي تدلّ على أنّ السُنّة هي طريقة النبي في حياته الشخصيّة والاجتماعيّة، في عباداته ومُعامَلاته، وتنقسم إلى قِسمين: السُنّة الواجِبة، والمُستحبَّة، وهذا ما يشهد له الحديث الوارِد عن الرسول (صلّى الله عليه وآله)، قال: (السُنّة سُنَّتان: سُنّة في فريضة، الأخذ بها هدى وتَرْكها ضَلالة، سُنّة في غير فريضة، الأخذ بها فَضيلة وتركها غير خَطيئة) (310) .

وقد كان القدماء يُفرِّقون بين الحديث والسُنّة، فيقولون مثلاً: سُفيان الثَوري إمامٌ في الحديث، وليس بإمامٍ في السُنّة.

١٠٢

المبحث الثاني: معنى السُنّة عند الفريقَين

اتّفق الفريقان على حُجيّة السُنّة، لم يَشذّ منهم أحد، واختلفوا في المعنى المُراد من السُنّة، فهي عند الشيعة تشمل قول وفعل وتقرير المعصوم (الرسول (صلّى الله عليه وآله) والأئمّة الاثني عشر (عليهم السلام)).

أمّا عند السُنّة، فقد اقتصروا على قول وفعل وتقرير النبيِّ محمّد (صلّى الله عليه وآله).

واستدلّ الشيعة بنوعين من الأدلّة:

1 - الأدلّة الّتي تدلّ على حُجّيّة سُنّتهم بصورةٍ مُستقلِّة.

أ - الكتاب:

استدلّوا بآياتٍ كثيرة أهمّها آية التطهير، والّتي تدلّ على عِصمَتِهم، ومنها على حُجِّيّة أقوالهم، قال تعالى: ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (311) .

أمّا كيفيّة الاستدلال: فما وَرَدَ فيها من أداةِ حَصْر، وأنّ المُراد من الإرادة هنا هي الإرادة التكوينيّة، واستحالة تَخلّف المُراد بالنسبة إليه تعالى..

ب - السُنّة:

ومن أقوى الأدلّة على ذلك هو الحديث المُتواتِر بين السُنّة والشيعة، وهو حديث الثَقلَين، ففي رواية أبي سعيد الخدري عن الرسول (ص)، قال: (إنّي أُوشِك أن أُدعَى فأُجِيب، وإنّي تَارِكٌ فِيكُم الثَقَلَين، كتاب الله وعِتْرَتِي، كِتاب الله حَبْلٌ مَمَدُود مِن السَمَاءِ إلى الأرْضِ، وَعِتْرَتي أهلُ بَيْتي، وإنّ اللَطيفَ الخبيرَ أخبَرني أنَهما لَنْ يَفتَرِقا حتّى يَرِدا عَليَّ الحَوضَ، فانْظُرُوا كَيفَ تَخلُفُوني فيهما) (312) .

١٠٣

2 - الأدلّة الّتي تدلّ على كونِهم واسِطة إلى سُنّة النبي:

أ - عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: (حَديثِي حَديثُ أبي، وحَديثُ أبي حَديثُ جَدِّي، وحَديثُ جَدِّي حَديثُ الحسن، و... وحديثُ أمير المؤمنين حَديثُ رسولِ الله‏ (صلّى الله عليه وآله) ، وحَديثُ رسولِ الله ‏ (صلّى الله عليه وآله) قولُ الله (عَزَّ وَجَلَّ) ).

ب - عن يونس بن عبد الرحمان، عن هِشام بن الحَكم - في حديثٍ طويل نقتصرُ على مَوضع الحَاجة -، أنّه سمع أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (لا تَقْبَلوا علينا حَديثاً إلاّ ما وافقَ القرآن والسُنّة... فإنّا إذا حَدَّثْنا قُلنا: قال الله (عزّ وجلّ) ، وقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ).

وغيرها من الأحاديث.

والفرق بين المجموعة الأُولى من الأدلّة والثانية، أنّ الثانية تُثبِتْ حُجّيّة أقوالهم وسُنّتهم بما هُم رُواة مُوَثَّقون، وطريق إلى سُنّة النبي، على عكس الأدلّة الأُولى، فهي تُثبِت حُجِّية سُنّتهم بصورةٍ مُستقلّة (313) .

المبحث الثالث: أدلّة القاعدة

استُدِلَّ على هذه القاعدة بالقُرآن والسُنّة والإجماع، والأحاديث على طائفتين:

الطائفة الأُولى:

ما يَدلّ صراحة على رَدِّ كلّ حديث يُخالِف السُنّة، وهي:

1 - عن ابن أبي يَعفور، قال: ( سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن اختلاف الحديث، يَرويه مَن نَثِق به، ومنهم مَن لا نَثِق به؟ قال: إذا وردَ عليكم حَديث فوَجدتُم له شاهِداً من كتاب الله، أو من قول رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وإلاّ فالّذي جاءَكم به أولَى به) (314) .

2 - عن أبي جعفر (عليه السلام) في مُناظَرته مع يَحيى بن أكثر، أنّه قال: (قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في حُجّة الوَداع: قد كَثُرتْ عليَّ الكذَّابَة وستَكْثُر، فمَن كَذبَ عليَّ مُتعمّداً فليَتَبَوّأ مَقعدَه من النار، فإذا أتاكم الحديث فاعرضوه على كتاب الله وسُنَّتي، فمَن وافَق كتاب الله

١٠٤

وسُنّتي فخُذوا به، وما خالَفَ كتاب الله وسُنّتي فلا تأخُذوا به) (315) .

3 - روى سدير عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام)، أنّهما قالا: (لا تُصدِّق علينا إلاّ بما يُوافِق كتاب الله وسُنّة نَبِيّه) (316) .

4 - روى الكُليني بسَنده عن أيّوب بن الحُرّ، قال: ( سمعتُ أبا عبد الله (عليه السلام) أنّه يقول: كُلّ شي‏ء مَردود إلى الكتاب والسُنّة، وكُلّ حديث لا يوافِق كتاب الله فهو زُخرُف) (317) .

5 - عن هِشام بن الحَكم، أنّه سمع أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (لا تَقْبَلوا علينا حَديثاً إلاّ وافَق الكتاب والسُنّة، أو تَجِدون معه شاهِداً من أحادِيثنا المُتقدِّمَة) (318) .

6 - روى الخطيب البغدادي عن أبي هُريرة، أنّ النبيّ (ص) قال: (سَيأتيكُم عنّي أحاديث مُخْتَلَقَة، فما جاءَكم مُوافِقاً لكتاب الله وسُنّتي فهو منّي، وما جاءَكم مُخالِفاً لكتابِ الله وسُنّتي فليس منّي) (319) .

إلى غيرها من الأحاديث.

وهناك طائفة من الأحاديث الّتي يُمكِن أن يُستَدَلّ بها، والواردة عن أهل البيت‏ (عليهم السلام) الّتي تَنصّ على أنّ كُلّ حديثٍ لا يُشبِه أحاديثهم فهو باطِل.

الطائفة الثانية من الأخبار:

ما يدلّ على التَمسّك بالسُنّة، حيث يَقتَضِي رَدّ كلّ ما يُخالِفها، وهي:

1 - روى الكُليني بسَنده عن علي بن الحسين (عليه السلام)، قال: (إنّ أفضلَ الأعمال عند الله ما عمل بالسُنّة وإن قلَّ) (320) .

2 - عن زُرارَة بن أعيُن، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: (كُلّ مَن تعَدّى السُنّة رُدَّ إلى السُنّة) (321) .

إلى غيرها من الأحاديث الكثيرة الّتي تدلّ على التَمسّك بسُنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، والّتي تدلّ بصورة

غير مباشرة برَدِّ الأحاديث الّتي تُخالِفها.

١٠٥

الإجماع.

أجمعَ المسلمون كافّة على ردَِ الأحاديث الّتي تُخالِف سُنّة الرسول (صلّى الله عليه وآله) مُخالَفة صريحة، وهذا مّما لا خلاف فيه، قال الشيخ المُفيد: (أمّا إجماع الأُمّة، فإنّهم مُطبِقون على أنّ كلّ ما خالَف الكتاب والسُنّة فهو باطِل) (322) .

وقال السيّد الطباطبائي: (وبالجملة، لا مُوجِب لطَرحِ رواية أو روايات، إلاّ إذا خالَفتْ الكتاب والسُنّة القَطعيّة) (323) .

المبحث الرابع: حُدود القاعِدة

لكي نَحكم على الحديث بمُخالَفته للسُنّة، لابُدّ من تَحقّق شَرطَين رئيسيَّين، وهما:

1 - لابُدّ من أن يكون الكاشِف عن السُنّة إمّا الخبر المُتواتر، أو الإجماع على النَقلِ بين الفريقَين.

ولتَحقيق الكلام هنا، نقول: إنّ السُنّة - كما جاءَ في التعريف - هي نفس قول وفعل وتقرير المَعصوم، فلا يُوجَد غير قِسمٍ واحد منها فقط، وهو الصحيح، فلابُدَّ أن يكون الكاشِف عنها إمّا شي‏ء قَطعِي أو قريب من القَطعِي، وذلك لسَبَبَين:

1 - لأنّ أحاديث العَرْضِ صَرَّحتْ بعرضِ الحديث على السُنّة، والسُنّة أمر قطعي، فلابُدَّ أن يكون الكاشِف عنها أمراً قطعيّاً أيضاً.

2 - لكي يكون الشي‏ء مِقياساً ومِعياراً، لابُدَّ من تَوفّر عنصر القَطعِ فيه، حتّى يُمكِن رَدّ أو قبول الأحاديث في ضوءه، وأمّا إذا كان ظنّيّاً فلا يُمكن جعله مِعياراً؛ إذ لا يُمكن ترجيح ظَنّ به ظَنّ آخر.

والآن نأتي إلى مُفرَدات الكَشفِ عن السُنّة، والّتي يمكن أن تكون:

1 - الأخبار المُتواتِرة.

2 - أخبار الآحادِ المَحفوفَة بالقرائِن.

١٠٦

3 - الإجماع على النَقْلِ بين الفَريقَين.

4 - خَبَر الواحِد المُجَرَّد عن القَرينة.

أمّا بالنسبة إلى الثلاثة الأُولى، فلاشكَّ ولا رَيب في كونِها كاشِفة عن السُنّة كَشْفاً قَطْعِيّاً، أو على الأقلِّ حصول الاطمِئنان بكونِها هي السُنَّة.

وإنّما الخِلاف في وجودِ أخبار الآحاد المَحفوفَة بالقرائِن، فقد قال بعضُهم بعَدَمِ وجودِ أخبارٍ مَحفوفَة بالقرائِن في أخبارنا (فأخبارنا اليوم كلّها ظنّيّة، إلاّ ما نَدَرْ، ومُخالَفة الإخباريّين في ذلك ودعواهم قَطْعيَّتها فاسدة) (324) .

أمّا بالنسبةِ إلى أخبارِ الآحاد، فيُمكن تقسيمها إلى قِسمَين:

أ - الخبر الواحد الّذي لا يَصل إلى درجةِ الاستفاضة.

ب - الخبر الواحد المُستَفِيض.

أمّا بالنسبة إلى الأوّل، فيُمكن اعتباره كاشِفاً عن السُنّة كشفَاً ظنَيّاً، وحُجّة في مَقام العَمل بالأحكام - كما حُقِّقَ في مَحلِّه - إمّا باعتباره قاعِدة في تَميِيز الخَبرِ الصحيح من غيره، وميزاناً تُوزَن به الأخبار فلا؛ لأنّه ظنّ، ولا يُمكن ترجيح ظنٍّ على ظنٍّ آخر.

ثُم إنّه خارج من دائرة أخبار العرضِ على السُنّة، باعتبار أنّ الظاهرَ والقَدر المُتيقّن منها هو السُنّة المَقطوع بها، والّتي يُمكن الكَشف عنها بالأخبار المُتواترة، والإجماع على الرواية الصادرة من المَعصوم من الفريقَين.

بالإضافة إلى ذلك، فإنّه يُمكن الاسْتِينَاس بقول أمير المؤمنين (عليه السلام) لابن عبّاس - عندما بعثه إلى الخوارج للاحتجاج عليهم -، قال له: (لا تُحاجِجْهُم بالقرآن، فإنّه حَمّال ذو وُجوه، ولكنْ حَاجِجْهُم بالسُنّة، فإنّهم لَن يَجدوا عنها مَحيصاً) (325) .

فالسُنّة هنا أمرٌ ثابِتٌ مُجمَع عليه يُمكن الاحتجاج به، بحيث إنّهم لا يملِكون الحُجّة للرَدِّ، ولو كان أمراً مُختَلَفاً فيه لما أمكن إفحامهم بها.

١٠٧

أمّا بالنسبة إلى النوع الثاني من أخبار الآحاد، وهي الأخبار المُسْتَفِيضَة، فقد أفرَدْناها بالبحث؛ لأنّ الكثيرَ من الّذين كَتَبوا في هذا الموضوع اعتبروا الأخبار المُستفيضَة قاعِدة، يُمكن رَدّ أو قبول الأخبار في ضوئِها.

وقبل أن نتكلَّم عن هذا الأمر، لابُدَّ من تعريف الخبر المُستَفِيض.

وهو: الخَبَرُ الّذي تَكثُر رُواته في كلّ مَرتبة عن ثلاثة، وعن بعضِهم أنّه ما زادتْ عن اثنين (326) .

ولا شكّ أنّه من أخبار الآحاد ولا يفيد إلاّ الظنّ. نعم، يُمكن أن يرتفع إلى درجة العِلم بضَميمَة القرائِن الداخليّة والخارجيّة، ولكن الكلام في نوعيّة هذه القرينةِ وتحقّقها خارِجاً.

فالمُتحصِّل: أنّه لا يُمكن اعتبار الاستفاضة مِقياساً لرَدِّ الأخبار؛ لأنّها لا تخرج عن حَيِّز الظنِّ كما قُلنا.

أمّا الإجماع بين الفريقَين على الحديث ونَقْلِه، فإنّه يُحقِّق كِلا الأمرين، بالنسبة إلى درجة الاطمئنان والكشفِ عن السُنّة، بالإضافة إلى كونه مبنىً مُشتَرَك لنقدِ الأخبار.

وهناك نقطة جديرة بالذِكر، وهي أنّه ليس بالضرورة أن تكون السُنّة قولاً أو فعلاً أو تقريراً، بل قد يكون هناك خبراً مَنقولاً عن الرسول، قام الإجماع بين الفريقَين بأنّه لم يَرِدْ في السُنّة ولم يَفعله الرسول، فإنّه يَنطبِق عليه بأنّه مُخالِف للسُنّة، أي نقول: إنّ هذا ليس من سُنّة الرسول.

2 - الشرط الثاني الّذي لابُدّ من تَوفُّره - للحُكمِ على الحديث بالرَدِّ - وهو: عدم إمكانيّة الجَمعِ بينهما بدون تَكَلُّف ولا تَعَسّف، سواء كان جَمْعاً عُرْفِيّاً أم مِن خلال الحَمل على اختلاف الأحوال والأزمان.

خلاصة وتقويم.

تبيَّن من خلال هذا العَرضِ السريع، أنّ هذا المِقياس هو مّما أجمع عليه المسلمين ووردتْ فيه الأخبار، وإن اختلفَ علماء الحديث في تفاصيل هذا المقياس.

وتَوَصَّلنا

١٠٨

إلى أنّ المقصود من السُنّة هي: السيرة المَسنُونَة لرسول الله، وتشمل أفعاله وأقواله وتقريراته، المَكشوفة من خلال إجماع المسلمين أو تواتر الأخبار، وأنّ الأخبار الّتي تُخالِف الخبر المُجمَع عليه بين الفَريقَين أو المتواتر، فإنها تُعتبر مُخالِفة للسُنّة، وكذلك يُرَدّ الخبر الّذي يتَحقّق الإجماع بين الفريقين بأنّه لم يفعله الرسول أو لم يَقُله، فإنّه ينطبق عليه بأنّه مُخالِف للسُنّة.

المَبحث الخامس: الروايات المُخالِفة للسُنّة

1 - روايات الاستخارة بالرِقَاعِ، والبَنَادِقِ، والحَصَى.

وردت روايات كثيرة في كيفيّة الاستخارة، منها: الاستخارة بالرِقاع، بالبَنادِق، بالحَصى والسُبحَة، نذكر منها على نحو الإجمال:

روى الكُليني بسَنده عن أبي عبد الله (صلّى الله عليه وآله)، أنّه قال: (إذا أرَدْتَ أمراً فخُذ سِتّ رِقاع، فاكتبْ في ثلاثٍ منها: بسم الله الرحمن الرحيم، خِيرة من الله العزيز الحكيم لفلان بن فلانة (افْعَلْ)، وفي ثلاث منها: بسم الله الرحمن الرحيم، خِيرة من الله العزيز الحكيم لفلان بن فلانة، (لا تَفْعَلْ).

ثُمَّ ضَعها تحت مُصلاّك، ثُمَّ صَلِّ ركعتين، فإذا فَرغت فاسجدْ، وقُل فيها مئة مرّة: أستَخيرُ الله برحمَته خِيرة في عافية، ثُمَّ استَوِ جالِساً وقُل: اللّهمّ خِرْ لي واخترْ لي في جميع أموري، في يُسرٍ مِنك وعافية، ثُمَّ استوِ جالِساً وقُلْ: اللّهمّ خِر لي واختر لي في جميع أموري، في يسر منك وعافية، ثُمَّ اضربْ بيَدِك إلى الرِقاع فَشَوِّشْها وأخرجْ واحدة واحدة.

فإن خرجَ ثلاث متواليات (افعل) افعل الأمر الّذي تُريده، وإن خرجَ ثلاث متواليات (لا تفعل) فلا تفعله، وإن خرجت واحدة (افعل) وواحدة (لا تفعل)، فأخرجْ من الرِقاع إلى خَمسٍ، فانظر أكثرها فاعمل به ودَع السادسة لا تحتاج إليها) (327) .

وفي رواية أُخرى - فيما تُسمَّى الاستخارة المُصَرَّيَة - عن مولانا الحُجّة صاحب

١٠٩

الزمان (عليه السلام): (يُكتَب في رقعتين (خِيرة من الله ورسولِه لفلان بن فلانة)، ويكتب في إحداهما (افعل) وفي الأُخرى (لا تفعل)، ويُترَك في بُندُقَتَين من طين ويُرمَى في قَدحٍ فيه ماء، ثُمّ تَتَطَهَّر وتُصلِّي ركعتين وتَدعُو عقيبها... ثُمَّ تَسجد سَجدةً تقول فيها: (أستخير الله خِيرة في عافِية، مئة مرّة، ثُمَّ ترفع رأسك وتُفَرقِع البَنادِق، فإذا خَرَجَتْ الرُقعة من الماء، فاعمل بمُقتضاها إن شاء الله تعالى) (328) .

إلى غيرها من الروايات في هذا الباب.

وقد حَكَمَ بعضُ العلماء بشذوذِ هذه الروايات، قال الشيخ المُفيد - بعد أن أورد الاستخارة بالرقاع -: (وهذه الرواية شاذَّة، ليستْ كالّذي تقدَّم، لكنّا أوردناها للرُخصَة، دون تحقيق العمل به) (329) .

والمقصود أنّها لا تُشِبه الروايات الوارِدة عن الرسول (صلّى الله عليه وآله) والأئمّة (عليهم السلام)، والواردة عن طريق الفَريقَين في كيفيّة الخِيرة، وهي الصلاة ركعَتين ثُمَّ الدعاء بالمَأثور.

روى البُخاري عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: ( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِه) يُعَلِّمُنَا الاسْتِخَارَةَ فِي الأُمُورِ كُلِّهَا كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ، يَقُولُ: إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالأَمْرِ، فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ، ثُمَّ لِيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلا أَقْدِرُ وَتَعْلَمُ وَلا أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ...) (330) .

وقد نُقِلَ ما يُشبِه هذا الحديث عن طريق رواياتِنا، قال صاحب البحار: (وقد ورد في العمل بها [ الاستخارة ] وُجوه مُختلِفة، من أحسنها أن تَغتَسِل ثُمَّ تُصلِّي ركعتين، تَقرأ فيهما ما أحبَبْت، فإذا فَرغت منهما قُلْت: (اللّهمّ إنّي أستخيرك لعِلمك...) (331) ، وقد ساقَ

١١٠

الدُعاء.

وهي روايات كثيرة منقولة عن الفريقَين (وهذه الروايات كثيرة، وهي مَشهورة بين العامّة والخاصّة) (332) .

أمّا الروايات الأُخرى، فهي ضعيفة ولم ينقلها أحد من العلماء السابقين، ومُخالِفة لِما نُقلَ عن الفريقَين (فأمّا الرِقاع والبَنادِق والقُرعَة، فمِن أضعَفِ أخبار الآحاد، وشواذّ الأخبار؛ لأنّ رُواتها فَطَحيَّة مَلعونُون مثل: زرعة، ورفاعة، وغيرهما، فلا يُلتَفتْ إلى ما اختَصّا بروايَته، ولا يُعرَّج عليه.

والمُحصّلون من أصحابِنا ما يَختارون في كُتبِ الفقهِ إلاّ ما اخترناه، ولا يَذكرون البَنادِق، والرِقاع، والقُرعة إلاّ في كُتبِ العبادات، دون كُتبِ الفِقهِ.

فشيخنا أبو جعفر الطوسي (رحمه الله) لم يذكر في نهايته ومَبسوطِه واقتِصادِه، إلاّ ما ذكرناه واخترناه، ولم يَتَعرَّض للبَنادِق، وكذلك شيخنا المُفيد - في رسالَتِه إلى وَلَدِه - لم يَتَعَرَّض للرِقاع ولا للبَنادِق (333) .

والظاهر أنّ هذه الأخبار مُخالِفة لسُنَنِ الرسول (صلّى الله عليه وآله) - طِبْقاً لرأي هؤلاءِ الأعلام - فلم يَرِدْ عنه في كتب السيرة والسُنَنِ والتاريخ، أو عن الأئمّة (عليهم السلام)، أنّه كان يعمل بالرِقاعِ والسُبحَةِ والبَنادِق،وما شابه ذلك، والأخبار المَنقولة عن الأئمّة (عليهم السلام) في هذا الأمر هي أخبارٌ شَاذَّة ضعيفة، بقولِ الشيخ المُفيد وغيره، وهي مُتأخِّرة لم ينقلها المُتقدِّمون من عُلمائنا، وتُخالِف الصحيح الوارِد عن الفَريقين.

2 - الروايات الوارِدة في نُحُوسَة الأيّام والأشياء.

وَرَدَتْ روايات كثيرة تَدلّ على نُحُوسَة بعض الأيّام والشهور والأشياء، والتَطَيُّر منها، وأكثرها ضعيفة (وهي رواياتٌ بالِغةٌ في الكَثرة، مُودَعة في جوامِع الحديث، أكثرها ضِعاف من مَراسِيل ومَرفوعات، وإنْ كان فيها ما لا يَخلو من اعتبار من حيث إسنادِها) (334) .

وهذه الروايات مُخالِفَة للقرآن والسُنّة النبويّة الّتي تَنهي عن التَطيُّر

١١١

والتَشاؤم، والتَوكُّل على الله وَحده في هذه الأمور، فمن هذه الروايات:

عن الرضا (عليه السلام)، عن آبائِه (‏عليهم السلام)، قال: (قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): آخر أربعاء في الشهر يوم نَحْسٍ مُستمر) (335) .

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: (قال علي (عليه السلام): ينبغي أن يُتَوَقَّى النَورة يوم الأربعاء؛ فإنّه يوم نَحْس مُستمر) (336) .

وعن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام)، قال: (الشُؤم للمُسافِر في طريقه خَمْسَة: الغُراب الناعِق عن يَمينِه، الناشِز لذنبه، والذِئب العاوِي الّذي يَعوِي في وجهِ الرجل وهو مُقع على ذَنَبه، يعوي ثُمّ يرتفع ثُمّ يَنخَفِض ثلاثاً، والظَبي السَانِح من يمين إلى شمال، والبُومَة الصَارِخة، والمَرأة الشَمطاء تَلْقِي فَرجها، والأتان العَضْباء - يعني: الجَدعَاء - فمَن أوجَسَ في نفسه مِنهنَّ شيئاً، فليَقُل: اعتصمتُ بك يا ربّ من شرِّ ما أجد في نفسي، فاعصمْني من ذلك، قال: فيُعصَم من ذلك) (337) .

وغيرها من الروايات الّتي تَصبّ في نفس المعنى، والّتي تُؤكِّد على وجود شُؤم ونَحْسٍ في ذات الأيّام والأشياء، وهو نوع من التطيُّر المَنهي عنه والّذي يُخالِف السُنّة النبويّة الشريفة، والّتي تُؤكّدها الروايات الكثيرة الواردة عن الفريقين، فمنها مثلا:

كتبَ بعضُ البغداديِّين إلى أبي الحسن الثاني (عليه السلام)، يسأله عن الخروج يوم الأربعاء لا يَدور، فكتبَ (عليه السلام): (مَن خرجَ يوم الأربعاء لا يدور، خِلافاً على أهل الطِيَرَة وُقِيَ من كلِّ آفة، وعُوفِي من كلِّ عاهَة، وقَضَى اللهُ له حاجته) (338) .

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: (قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): لا طِيَرَة) (339) .

وروى التَرمذي بسَنده عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، أنه قال: (الطِيَرَة من الشرك وما منّا، ولكنّ الله يُذهبه بالتوكّل) (340) .

وغيرها من الأحاديث الّتي تَنفي التَطيِّر وتأمر بالتوكّل على الله

١١٢

سبحانه وتعالى، فقد أجاب أمير المؤمنين (عليه السلام) لمَن قال له عند مسيره إلى الخوارج: ( إن سرتَ يا أمير المؤمنين في هذا الوقت خشيتُ أن لا تظفر بمَرامِك - عن طريقِ علم النجوم -، فقال: أتَزعُم أنّك تُهدِي إلى الساعة الّتي مَن سار فيها صُرِفَ عنه السوء؟ وتُخوِّف مِن الساعة الّتي مَن سار فيها حاقَّ به الضرّ؟ فمَن صدَّقك فقد كذَّب القرآن، واستغنى عن الاستعانة بالله في نيل المَحبوب ودَفع المَكروه) (341) .

وأمّا ما يظهر من بعض الآيات في وجود نَحْسٍ في بعض الأيّام، فليس المقصود به النَحْس الذاتي، بل إنّ نُحوستها إنّما جاءَت لاقترانها ببعض الحوادث المَشؤومة، كما صرَّح بذلك العلاّمة، حيث قال في التعليق على الآية (26) من سورة السَجدة: (لكن لا يظهر من سِياق القصّة ودلالَة الآيتين، أزيد من كون النُحُوسة والشُؤم خاصّة بنفس الزمان الّذي كانت تَهبّ عليهم فيه الريح عذاباً، وهو سبع ليالِ وثمانية أيّام مُتوالِية، يستمرّ عليهم فيها العذاب من غير أن تَدور بدَوران الأسابيع، وهو ظاهر وإلاّ كان جميع الزمان نحوساً) (342) .

وفي الختام قال السيّد الطباطبائي: (فتبيَّن مّما تقدَّم على طوله، أنّ الأخبار الواردة في سَخاوَة الأيّام ونُحوسَتها، لا تدلّ على أزيد من ابتنائهما على حوادث مُرتَبطة بالدِّين، تُوجِب حُسناً وقبحاً بحسب الذوق الدِّيني، أو بحسب تأثير النفوس.

وأمّا اتّصاف اليوم أو أيّ قطعة من الزمان بصفة المَيمَنه أو المَشأمه، واختصاصه بخواصّ تكوينيّة عن علَل وأسباب طبيعيّة تكوينيّة فلا، وما كان من الأخبار ظاهراً في خِلافِ ذلك، فإمّا مَحمول على التقيّة أو لا اعتماد عليه) (343) .

3 - الروايات الواردة في نَجاسة الحديد.

روى الطوسي بسَنده عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الرجل إذا قصَّ أظفاره بالحديد، أو جَزَّ من شعره أو حلق قفاه، فإنّ عليه أن يَمسحه بالماء قبل أن يُصلِّي، سُئِلَ: (فإن صَلَّى ولم

١١٣

يمسح من ذلك بالماء، قال: ([ يمسح بالماء و ] يُعيد الصلاة، لأنّ الحديد نَجس، وقال: لأنّ الحديد لباس أهل النار والذَهب لباس أهل الجنة) (344) .

وهو خبر مُخالِف للإجماع العامّ، فلم يقل أحد من المسلمين بأنّ الحديد نَجس، قال الشيخ الطوسي: (لأنّه خبر شاذّ مُخالِف للأخبار الكثيرة، وما يجري هذا المَجرى لا يُعمل عليه) (345) .

4 - الروايات الواردة في الرَضاع.

ورُوى أيضاً عن زُرارَة، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: (قال: سألتُه عن الرَضاع، فقال: لا يحرم الرَضاع إلاّ ما ارتَضَعا من ثديٍ واحد حولَين كاملين) (346) .

وعن العلاء بن رزين، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: (سألتُه عن الرَضاع فقال: لا يحرم من الرَضاع إلاّ ما ارتضعَ من ثديٍ واحد سنة) (347) .

فمثل هذه الأخبار مُخالِفة لإجماع المسلمين والروايات المتواترة، قال الشيخ الطوسي في الحديث الأخير: (فهذا الخبر نادر مُخالِف للأحاديث كلّها، وما كان هذا سبيله لا يعترض به الأخبار الكثيرة) (348) .

5 - الروايات الوارِدة في تحريمِ أو كراهة الخِضاب بالسَواد.

عن ابن عبّاس قال: (قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): يكون قوم يَخْضِبُون في آخر الزمان كحَواصِل الحمام، لا يَريحُون رائِحة الجنّة) .

وعن أبي الدَرداء قال: (قال رسول الله (ص): مَن خَضَب بالسَواد سوَّد الله وجهه يوم القيامة) (349) .

١١٤

قال الهَيثَمي: وفيه الوَضين بن عطاء - وثَّقَه أحمد، وابن مُعين، وابن حبّان، وضعََّفه من هو دونهم في المنزلة، وبقيّة رجاله ثُقات (350) -، وقد سَئلَ أحد المُفتِين عن حُكمِ صبغ اللِحيَة بالسواد، فأجاب: (لا يجوز أن يصبغ الرجل لِحيته بالسواد؛ لوُرود الأمر باجتنابه والنهي عن فعله) (351) .

ومثل هذه تُخالِف ما وردَ عن الرسول‏ (صلّى الله عليه وآله) من الأحاديث المُتَّفق عليها بين الفَريقَين.

روى ابن ماجة بسَنده عن طريق صُهيب، عن رسول الله (ص)، أنّه قال: (إنّ أحسن ما اختَضَبْتُم به لهذا السواد، أرْغَب لنسائِكم فيكم، وأهْيَب لكم في صدور عَدوِّكم) (352) .

وكذلك روى الهَيثمي أنّ الحسن والحسين ابني فاطمة يَخضِبان بالسَواد (353) .

وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: (دخل قوم على الحُسين بن علي (عليه السلام) فرَأوه مُختَضِباً بالسواد، فسألوه عن ذلك، فمَدَّ يَدَه إلى لحيته، ثُمَّ قال: أمَر رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في غُزاةٍ غَزاها أن يَختَضِبوا بالسواد ليَقووا به على المُشرِكين) (354) .

6 - روايات بيع التَمر مّمن يَجعله خَمراً.

وردتْ روايات تدلّ على جواز بيع التمر مّمن يجعله خمراً، وقد فعل ذلك الأئمّة (عليهم السلام)، منها:

عن رفاعة بن موسى، قال: (سُئل أبو عبد الله (عليه السلام) وأنا حاضر، عن بيع العَصير مّمن يُخمِّره، قال: حلال، ألسنا نَبيع تَمرنا مّمن يجعله شراباً خبيثاً) .

وهذه الرواية مُخالِفة للروايات الكثيرة الّتي وردتْ في تحريم الخمر ونجاسته، بل وتحريم حتّى مُعتصرها وبائعها ومُشتريها (355) .

١١٥

قال الإمام الخُميني في التعليق على هذه الروايات: (إنّ العمل بمِثل تلك الروايات جُرأة على المَولى؛ لمُخالَفة مَضمونها للكتاب والسُنّة) (356) .

ولكن مع هذا، يُمكن المُناقَشة في مُخالَفة هذه الرواية للسُنّة؛ لاختلاف الموضوع في كلتا الحالتين، فالموضوع في الرواية الأُولى هو بيع التمر، في حين أنّ الموضوع في الروايات الأُخرى هو الخمر.

نعم، يُمكن رَدّ هذه الأخبار لمُخالَفتها لشأن الأئمّة ومنزلتهم، وإنّ مثل هذه الأعمال لا يُمكن أن تصدر منهم.

١١٦

الباب الثاني / الفصل الثالث :عَرْضُ الحَدِيثِ على التاريخِ

المبحث الأوّل: مفهوم التاريخ ودليليّته

المبحث الثاني: التاريخ بين الظَنِّ واليَقين

المبحث الثالث: مصاديق الروايات الّتي تُخالِف التاريخ

عَرْضُ الحَدِيثِ على التاريخِ

المبحث الأوّل: مفهوم التاريخ ودليليّته

بدأ التدوين التاريخي للحوادث في بداية القرن الثاني للهجرة، وكان يُطلَق على المُؤرِّخين لقب (الإخباريِّين)، ويُعرَّف التاريخ بأنّه: البحث عن وقائع الزمان من حَيثيَّة التعيين والتوقيت، بل عمّا كان في العالَم (357)، ويمكن تصنيف الكتابة التاريخيّة إلى أشكال مُتنوّعة مثل:

1 - كُتُب السِيَر والمَغازِي.

2 - المَقاتِل والفِتَن والحروب.

3 - التواريخ العموميّة (الأخبار الطِوال - تاريخ اليَعقوبي).

4 - التواريخ المَحلِّيَّة (تاريخ مكّة - تاريخ بُخارى).

5 - الأنْساب (أنساب الأشراف).

6- الطَبَقات (طَبَقات ابن سَعْد).

7 - تاريخ الفِرَق والمَذاهِب، وغيرها من أشكال الكتابة التاريخيّة.

وقد اعتبر كثير من نُقّاد الحديث أنّ التاريخ هو أحد المَعايير المُهمَّة في نقد

١١٧

الحديث، ويرجع ذلك إلى اعتباره قَرينَة قَطعيَّة على كذب الخبر وترجيح القَطع والاطمئنان على الظنِّ.

وقد استخدم القرآن الكريم هذا المقياس في ردِّ بعض المسائل والدعاوي الكاذبة، فقد وَرَدَ في الروايات أنّ علماء اليهود والنصارى جاؤوا إلى النبي (صلّى الله عليه وآله)، وأخذوا يُجادلونه في إبراهيم‏ (عليه السلام)، فقالت اليهود: إنّه كان يهوديّاً، وادّعى النصارى مثل هذا الادعاء، فنزلتْ الآية: ( مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) (358) لتبين كذب هذه الادعاءات (359) ، فقال تعالى: ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ) (360).

وهذا في الحقيقة استناد إلى التاريخ في كذبِ هذه الدعوة، فقد كانت رسالة إبراهيم سابقة على رسالة موسى وعيسى، فكيف يُدين نَبيّ سابق بدِينٍ لاحِق؟!

ملاحظة:

يَفترِق هذا المِعيار عن المِعيار السابق (السُنّة)، فالتاريخ له ماهيّة خاصّة يختلف عن السُنّة؛ لأنّه أعمّ من السُنّة بالمَعنى المنطقي؛ وذلك لأنّ السُنّة هي قول وفعل وتقرير المعصوم (‏عليه السلام)، في حين أنّ التاريخ يشمل السُنّة وغيرها من الوقائع الّتي يُمكن أن تُشكِّل قرينة على كذبِ الخبر.

المبحث الثاني: التاريخ بين الظنِّ واليَقين

تأثَّر منهج المُؤرِّخين في نقل الحوادث التاريخيّة بمَنهجِ المُحدِّثين في بادئ الأمر، فكانوا يذكرون الروايات التاريخيّة مُسنَدة كما هو الحال في تاريخ الطبري (ت 310 هـ)، وكانت مُهمّة المُؤرّخ تنحصر في النقل الصادق للخبر، والتأدية له كما سمع دون إعْمَال النَقْد، وكان يعتقد أنّ التَبِعة لا تقع عليه في هذه الحالة، إنّما تقع على

١١٨

الراوي الأصلي الّذي سمع الخبر من المصدر الأصلي.

قال الطَبري في مقدّمة تاريخه: (فما يكن في كتابي هذا من خبرٍ ذكرته عن بعض الماضين مّما يستنكره قارئه، أو يَستَبشِعه سامِعه؛ من أجل أنّه لم يُعرَف له وجهاً من الصحّة ولا معنى من الحقيقة، فليُعلَم أنّه لم يأت في ذلك من قِبَلِنا، وإنّما أُوتي من قِبل بعض ناقليه إلينا، وإنّا إنّما أدّينا ذلك على نحو ما أُدّى إلينا) (361) .

فهو يعترف أنّ تاريخه يتضمّن من الحوادث المُستَبشَعة في نظر العقل، ويستنكرها الذَوق السليم، وأنّه إنّما روى ذلك كما سَمِعَه.

وقد نَقَدَ ابن خلدون (ت 808 هـ) مَنهج المُؤرِّخين في نقل الأخبار، فقال: (ولم يُلاحِظوا أسباب الوقائع والأحوال ولم يُراعوها، ولا رفضوا تُرَّهات الأحاديث ولا دفعوها، فالتحقيق قليل، وطُرق التنقيح في الغالب كلَيل، والغَلَط والوَهم نَسيب للأخبار وخليل) (362) .

ثُمَّ دعا إلى مَنهج جديد في نقد الروايات التاريخيّة، سَمَّاه (عِلم العمران)، فقال: (لأنّ الأخبار إذا اعتُمِدَ فيها على النقل، ولم تُحكّم أُصول العادَة وقواعد السياسة، وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني، ولا قِيس الغائِب منها بالشاهِد، والحاضِر بالذاهب، فرُبّما لم يُؤمَن فيها من العثور ومَزلَّة القدم، والحَيد عن جادّة الصِدق) (363) .

فكيف - والحال هذه - يمكن أن يكون التاريخ مِقياساً في رَدِّ الأخبار؟

وكيف نحصل على القطع في النقل التاريخي، وهو لا يرقى إلى رُتبَة روايات الآحاد في إفادَة الظنّ؟

في هذا الجواب على هذا السؤال نقول: إنّه لا مَطمَع لنا في الحصول على الحقيقة التاريخيّة المُطلَقة، وكلّ ما نستطيع الحصول عليه من التاريخ - بعد النقد والتَمحيص - هو الحقيقة النِسبيَّة.

قال أحد الباحثين في هذا المجال: (وينبغي علينا أن نُلاحِظ أنّه ليس المقصود بالحقيقة التاريخيّة الوصول إلى الحقيقة المُطلَقة؛ إذ أنّ هذا الأمر غير مُستطاع لعَوامِل مُختلِفة، مثل ضياع الأدلّة وانطماس الآثار...

فالحقيقة الّتي يصل إليها المُؤرِّخ هي حقيقة صحيحة نسبيّاً، وكلّما زادتْ نِسبة الصدق فيها اقترب التاريخ من

١١٩

أن يُصبح تاريخاً بالمَعنى الصحيح) (364) .

والآن نأتي على ذكر بعض الطُرقِ للوصول إلى الحقيقة النسبيّة.

طُرق الوصول إلى الحقيقة النسبيّة:

للوصول إلى الرواية التاريخيّة الصحيحة، الّتي تُورِث الاطمئنان ويُمكن اعتبارها مقياساً لردِّ الحديث، هناك بعض الطُرق:

1 - الاعتماد على وَثائق تُعتبَر من الطِراز الأوّل في التَدوين.

وذلك لأنّ المُؤرِّخ يعتمد في تدوينه على نوعَين من الوَثائق (365) :

أ - وثائق الدرجة الأُولى: وهي الوثائق الّتي لم يقصد كاتبوها شهادة التاريخ، ومن هنا يأتي صِدقها، كما هو الحال في المعاملات الرسميّة مثل عقود البيع والشراء، الايجار، والزواج. وذلك بعد إجراء بعض العمليّات النقديّة المعروفة في النقد التاريخي (366) .

ب - وثائق الدرجة الثانية: الّتي يقصد مُؤلِّفوها شهادة التاريخ، مثل مُعظَم كتب التاريخ، ومثل هذه الوثائق تتأثر بكثير من الأسباب الّتي تُقلِّل من قيمتها التاريخيّة.

2 - الإجماع على النَقلِ بين جميع المُؤرِّخين، وعدم وجود أيّ قَرينة على خِلاف هذا النقل.

إنّ الإجماع على النقل بين المُؤرِّخين يُمكن أن يُشكّل مقياساً صحيحاً لردِّ الرواية؛ لأنّ هذا الإجماع لم يأتِ جُزافاً، وإنّما جاء نتيجة لعدَّة عوامل، منها استقراء السيرة النبويّة والأحاديث ومُقارَنتها مع نصوص القرآن، بالإضافة إلى استخدام العقل في ترتيب الحوادث.

كُلّ هذه العوامِل شكَّلتْ إجماعاً عند المُؤرِّخين على نقل هذه

١٢٠