مباني نقد متن الحديث

مباني نقد متن الحديث0%

مباني نقد متن الحديث مؤلف:
تصنيف: علم الدراية
الصفحات: 215

مباني نقد متن الحديث

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: قاسم البيضاني
تصنيف: الصفحات: 215
المشاهدات: 63347
تحميل: 7970


توضيحات:

مباني نقد متن الحديث المقدمة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 215 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 63347 / تحميل: 7970
الحجم الحجم الحجم
مباني نقد متن الحديث

مباني نقد متن الحديث

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الخلاصة:

ومن خلال هذا العَرْض السريع، يُمكن تحديد المُراد بالعَقل هنا، فنقول:

1 - حُكْمُ العَقل المُعتمِد على المُسلَّمات البَديهيّة، سواء كانت بَداهتها ثابِتة بالعقل أم عن طريق حساب الاحتمالات.

2 - حُكْمُ العَقل العَملي بقُبحِ وحُسنِ الأعمال، بناءً على نظريّة التحسين والتقبيح العقليَّين، وذلك مع ضَمِّها إلى بعض المُسلّمات العقليّة، لإنتاج حُكم عقلي على بعض الأحاديث.

3 - هناك فَرْق بين ما يرفضه العَقل وما يَستبعده ويَستغربه؛ لأنّ ما يرفضه ناشِئ‏ من استحالَته أو قُبحه، وما يَستغربه ناشئ‏ من استبعاده وعَدَمِ القُدرة على تَصوّره.

وأكثر ذلك يرجع إلى المَسائل الّتي ليس للعَقلِ عليها سبيل، مثل أمور الآخرة والجنَّة والنار.

4 - هناك بعض الأحاديث تُعتَبَر مُستحيلة ومُخالِفة للعَقل القَطْعي على بعض المَباني، حيث تُعتَبر مُمكِنة وجائِزة على مَباني أُخرى.

المَبحث السابع: الأحاديث المُخالِفة لِهذه القاعِدة

1 - روى الكُليني بسَنده عن هِشام بن الحَكَم، قال: (سألني عبد الله الديصاني، فقال لي: ألكَ رَبّ؟ فقُلتُ: بلى، قال: أقادرٌ هو؟ قُلتُ: نعم، قادِر قاهِر، قال: يَقدر أنْ يُدخِل الدنيا كُلّها البَيضَة، لا تَكبر البَيضة ولا تَصغر الدُنيا؟ قال هشام: النَظْرَة، فقال له: قد أنْظَرتُك حولاً، ثُمَّ خرجَ عنه.

فركبَ هشامُ إلى أبي عبد الله (عليه السلام)، فاستأذن عليه، فأذن له، فقال له: يا بن رسول الله، أتاني عبد الله الديصاني بمسألةٍ ليس المُعوّل فيها إلاّ على الله وعليك.

فقال له أبو عبد الله‏ (عليه السلام): عمّاذا سألك؟ فقال: قال لي: كَيتْ وكَيتْ، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): يا هشام، كَمْ حَواسّك؟ قال: خمس، قال: أيّها أصغر؟ قال النَاظِر، قال: وكَمْ قَدْرُ النَاظِر؟ قال: مِثل العَدَسَة أو أقلّ منها، فقال له: يا هشام، فانْظُر أمامك وفَوقك

١٤١

وأخبرني بما تَرى، فقال: أرى سماءً وأرضاً، ودُورَاً وقصوراً، وبراريَ وجبالاً وأنهاراً، فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): إنّ الّذي قَدَرَ أن يُدْخِل الّذي تراه العَدَسَة أو أقلّ منها، قادِر أن يُدْخِل الدنيا كُلّها البيضة، لا تصغر الدنيا ولا تكبر البيضة...) (447) .

ولذلك، فالحديث بمَعناه الحقيقي والظاهري غير مَعقول؛ لأنّ قُدْرَة الله لا تَتَعلَّق بالمُحالات العقليّة، وهذا ليس نقصاً في قُدرَته تعالى، ولكن هناك قُصور في القابِل، وامتِناعه الذاتي.

وقد اعتبر السيّد المُرتضى هذا الخَبر من الموضوعات، قال: (وهذا الخبر المذكور بظاهره، يَقتَضي تجويز المُحال المَعلوم بالضَرورات فَساده، وإنْ رواه الكُليني (رحمه الله) في كتاب التوحيد.

فكم رَوى هذا الرجلُ، وغيره من أصحابنا (رحمهم الله تعالى) في كُتبِهم ما له ظواهِر مُستحيلَة أو باطِلة.

والأغلَب الأرجَح أنْ يكون هذا خبراً مَوضوعاً مَدسوساً) (448) .

وقد سُألَ أمير المؤمنين (‏عليه السلام) عن هذا السؤال نفسه، فقال: (إنَّ الله تبارَك وتَعَالى لا يُنسَب إلى العَجزِ، والّذي سألتَني لا يكون) (449) .

2 - رُوي أيضاً: أنّ أربعين صحابيّاً طلبوا أمير المؤمنين إلى الضيافة، في ليلةٍ واحدة وفي وقتٍ واحد، ولمّا أصبحوا، قال كلّ واحد منهم: إنّ عليّاً كان ضيفي البارحة (450) .

وهو من المُحالات العقليّة؛ إذ لا يُمكن أن يتواجد أمير المؤمنين (عليه السلام) في مَكانين مُختلفَين وفي نفسِ الوقت.

ولا يُمكن المُناقَشة في ذلك بأنّ هذا الأمر من المُعجِزات؛ لأنّ المُعجِزة لابُدَّ أن تقع في مَقام التحدِّي، ولا يُوجَد في المَقام ما يُثبِت ذلك.

وحتّى لو قُلنا إنّها مُعجِزة، فإنّ المُعجِزة لا تقتضي تجويز المُحال، إلاّ أن يُقال إنّ الأمرَ لا يعدو أن يكون تخيّلا وليس له واقعيّة حقيقيّة.

3 - روى البُخاري بسَنَده عن أبي هُريرة، عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: (إِنَّ مُوسَى

١٤٢

كَانَ رَجُلاً حَيِيًّاً سِتِّيراً، لا يُرَى مِنْ جِلْدِهِ شَيْءٌ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ، فَآذَاهُ مَنْ آذَاهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالُوا: مَا يَسْتَتِرُ هَذَا التَّسَتُّرَ إِلاَّ مِنْ عَيْبٍ بِجِلْدِهِ، إِمَّا بَرَصٌ وَإِمَّا أُدْرَةٌ وَإِمَّا آفَةٌ.

وَإِنَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ يُبَرِّئَهُ مِمَّا قَالُوا لِمُوسَى، فَخَلا يَوْمًا وَحْدَهُ، فَوَضَعَ ثِيَابَهُ عَلَى الْحَجَرِ ثُمَّ اغْتَسَلَ، فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ إِلَى ثِيَابِهِ لِيَأْخُذَهَا وَإِنَّ الْحَجَرَ عَدَا بِثَوْبِهِ، فَأَخَذَ مُوسَى عَصَاهُ وَطَلَبَ الْحَجَرَ فَجَعَلَ يَقُولُ: ثَوْبِي حَجَرُ، ثَوْبِي حَجَرُ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَلَئٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَرَأَوْهُ عُرْيَانًا أَحْسَنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ، وَأَبْرَأَهُ مِمَّا يَقُولُونَ.

وَقَامَ الْحَجَرُ فَأَخَذَ ثَوْبَهُ فَلَبِسَهُ، وَطَفِقَ بِالْحَجَرِ ضَرْبًا بِعَصَاهُ، فَوَاللَّهِ، إِنَّ بِالْحَجَرِ لَنَدَباً مِنْ أَثَرِ ضَرْبِهِ، ثَلاثًا أَوْ أَرْبَعاً أَوْ خَمْساً، فَذَلِكَ قَوْلُهُ : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ... ) ) (451) .

وفي هذا الحديث من ما لا يجوز من إنسان عادي، فكيف بكَليمِ الله!

والمُضحِك المُبكِي أنّ مُسلِم ذكره في باب (فضائِل موسى)، ولا أدري أيّ فضيلة في انكشاف عورةِ نبيٍّ من الأنبياء، من أُولِي العَزم، أمام الملأ من بني إسرائيل؟! وكيف يُمكن لحَجرٍ أصمّ أن يعدو بالثوب؟!

إلاّ أن يُقال إنّها مُعجِزة من المُعجِزات، ولكن المُعجِزات لا تصدر إلاّ في مَقام التحدِّي، لا في سبيل فَضحِ أنبياء الله، على أنّ الأُدْرَة والبَرص والآفة ليس أمراً مُستَهجَناً، بحيث يستلزم معها هذا الأسلوب. (ولو فُرِضَ ابتلاؤه بالأُدرَة، فأيّ بأس عليه بذلك؟ وقد أُصيبَ شُعَيب (عليه السلام) ببَصَره وأيّوب (عليه السلام) بجِسمه، وأنبياء الله كافّة تَمَرَّضوا وماتوا.

ولا يَجب انتفاء مثل هذه العوارِض عن أنبياء الله ورُسلِه، ولاسيّما إذا كانت مَستورة عن الناس، كالأُدرَة) (452) .

ثُمَّ إنَّ الحَجَرَ هل يَشعر بأثرِ العَصا، حتّى يُعاقِبَه موسى بالضَرْب؟!

وبالإجمال، فإنَّ هذه الرواية تتضمّن أُموراً مُستهجَنة وقبيحة عقلاً، نَربَأ بأصحابها من أنْ يُسوِّدوا صفحات كُتبِهم بمِثل هذه الروايات.

4 - أخرجَ الشيخان بسَندهما عن أبي هُريرة، واللَفظ لمُسلِم، قال: (فُقِدَتْ أُمَّةٌ

١٤٣

مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا يُدْرَى مَا فَعَلَتْ، وَلا أُرَاهَا إِلاّ الْفَأْرَ، أَلا تَرَوْنَهَا إِذَا وُضِعَ لَهَا أَلْبَانُ الإِبِلِ لَمْ تَشْرَبْهُ، وَإِذَا وُضِعَ لَهَا أَلْبَانُ الشَّاةِ شَرِبَتْهُ...) (453) .

واستنتجَ النَوَوي من عَدَمِ تناول الفأرة من لَبن الإبل، على أنّها مِسخٌ من بني إسرائيل، فقال: (معنى هذا أنّ لُحوم الإبل وألبانها حُرِّمت على بني إسرائيل، دون لُحوم الغَنَمِ وألبانِها، فدلّ بامتناع الفأرةِ من لَبنِ الإبلِ، على أنّها مِسخ من بني إسرائيل) (454) .

ولا أدري ما هي العلاقة المنطقيّة في الاستدلال، بين كون الفأرة مِسخاً من بني إسرائيل، وشربها أو عدم شربها من ألبان الشَاء والإبل، هذا إذا تَنَزَّلنا وقلُنا بصحّة هذا المَسخ، وبصِدق الدعوى.

وقد علّق السيّد عبد الحسين شرف الدِّين فقال: (أين أولوا الألباب ينظرون إلى هذا التخريف في أصل الدعوى، وفي دليلها؟!) (455) .

5 - روى البُخاري بسَنده عن أبي هُريرة، أنّه قال: (قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ (عَلَيْهِمَا السَّلام) لأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِئَةِ امْرَأَةٍ، أَوْ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ، كُلُّهُنَّ يَأْتِي بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَمْ يَحْمِلْ مِنْهُنَّ إِلاّ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ جَاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ.

وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ) (456).

وهذا الحديث يُخالِف العَقل من عدّة جوانب، فبالإضافة إلى أنّه قَبيح عقلاً، ومُستهجَن عند الناس؛ لأنّه يصوّر نبي من أنبياء الله لم يكن همه إلاّ مُمارسة العمل الجنسي، فهو غير مُمكن عقلاً أيضاً، فكيف يُمكن للإنسان مهما بلغَ من قوّته الجسديّة أن يفعل ذلك بليلة واحدة، سواء كان ذلك من الناحية الجسميّة أم من الناحية الزمنيّة؟!

فلو قسّمنا حصّة كلّ امرأة عشرة دقائق، لاستغرق ذلك أكثر من تسعة عشر ساعة.

١٤٤

وبالإجمال، فإنّ ذلك غير مُمكن، أو مُحال عقلاً.

6 - أخرج الشَيخان بإسنادِهما إلى أبي هُريرَة، أنّه قال: (أُرْسِلَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى (عَلَيْهِ السَّلام)، فَلَمَّا جَاءَهُ صَكَّهُ، فَرَجَعَ إِلَى رَبِّهِ فَقَالَ: أَرْسَلْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لا يُرِيدُ الْمَوْتَ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ عَيْنَهُ، وَقَالَ: ارْجِعْ فَقُلْ لَهُ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ، فَلَهُ بِكُلِّ مَا غَطَّتْ بِهِ يَدُهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَنَةٌ، قَالَ: أَيْ رَبِّ ثُمَّ مَاذَا قَالَ ثُمَّ الْمَوْتُ) (457) .

وهذا الحديث مُخالِف للعَقل من عدّة جهات.

فمن جهةٍ يُصوِّر موسى (عليه السلام) إنسان يكره الموت كُرهاً شديداً، ويعتدي على الآخرين بغير ذَنب، وأنّ الله يُبارك هذا التَعدّي، ويُثيب موسى بَدلَ أن يُعاقبه، بأن يُطيل عمرَه.

ويصوِّر موسى بأنّه لا يعرف أنّ الموت سُنّة من سُننِ الحياة، وأنّ الموت هو نهاية الإنسان مهما امتدَّت وطالتْ، فيسأل ربّ العالَمين، وماذا بعد هذا التأجيل؟

ويُصوِّر مَلك الموت مَخلوق مادّي ضعيف تُفقَأ عَينه، وهو مُخالِف لسُننِ الحياة.

فإنّ الملائكة مَخلوقات نوريّة، لا تُرى بالعَين.

وقد ذكر النَوَوي عن بعض العُلماء توجيهات ضعيفة لهذا الحديث، فقال: (إنّه لا يمتنع أن يكون موسى فَقَأ عين مَلك الموت بإذن الله، امتحاناً للمَلطوم، أو أنّ الضربَ على نحوِ المَجاز لا الحقيقة، يعني ناظَرَه فغَلبَه، أو أنّ موسى لا يعلم أنّ المَلَك هو مَلَك الموت) (458) .

وفيه: أمّا الأوّل: إنّ الله لا يُمكن أن يأمر بالمُنكر، ومن دون سَببٍ شرعي لذلك، وإلاّ لَجوّزنا القبيح على الله، ثُمّ إنّه لا دليل على ذلك.

وأمّا الثاني: فهو بَعيد عن الظاهر، وفي تَكمِلة الحديث ما يُفنِّد هذا الرأي، لقوله (‏صلّى الله عليه وآله): (فرَدَّ الله عَينَه) .

أمّا بالنسبة إلى الثالث: وهو أنّ موسى لا يعلم حقيقة أنّ الشخص الّذي يُريد قَبْض

١٤٥

روحه هو مَلَك الموت، فمع أنّه لا دليل عليه من الحديث، فإنّ موسى بعد أن رجع إليه المَلَك عَرَفه.

وعلى كلّ حال، فالتَمسّك بمثل هذه الأحاديث الضعيفة، المُخالِفة للقواعد العَقليّة والتشبث بتأويلها مهما كان بعيداً ومُتكلّفاً غير صحيح.

7 - رُوي عن الإمام الصادق (عليه السلام): (أنّه كان بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم قَطرَة بولٍ قَرضُوا لُحومَهم بالمَقاريض، وقد وَسَّعَ الله (عزّ وجلّ) عليكم ما بين السماء والأرض، وجعل لكم الماء طهوراً، فانظروا كيف تكونون) (459) .

واستثنى العلاّمة المَجلسي - الأب - مَخرَج البول من هذا الحُكم. (460) .

وقال الفيض: (لعلّ قَرْض بني إسرائيل لُحومَهم إنّما كان من بولٍ يُصيب أبدانهم من خارج، لا أنّ استنجاءهم من البول كان بقَرضِ لُحومِهم، فإنّه يُؤدِّي إلى انقراضِ أعضاءهم في مُدِّةٍ يَسيرة، وكأنّ أبدانهم كانت كأعْقابِنا، لم تَدُم بقَرْضٍ يَسير، أو لم يكن الدم نَجِساً في شَرعِهم، أو مَعفوّاً عنه) (461) .

وقد وجّه بعض الأعلام فقال: (إنّ الرواية مَنقولة بالمَعنى، وأصل الخَبَرِ في تفسير القُمّي - ذيل قوله تعالى: ( وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ) - هكذا: إنّ الرجُلَ من بني إسرائيل، إذا أصاب شيء من بدنه البول قطعوه، والضمير المُفرَد راجِع إلى الرجل، والجمع إلى بني إسرائيل، يعني تركوا مُعاشَرته واعتزلوا عنه، أو يَمنعوه أن يدخل الكنيسة.

ثُمّ قال: وقال أُستاذنا الشعراني: (لم أرَ إلى الآن وجهاً لتوجيه الخبر تَطمئنّ إليه النفس غير ما ذكرناه، أو رَدّه لِعدم الاعتماد على خبر الواحد) (462) .

وكيف كان، فسواء كان الخبر له توجيه مَعقول، أم لا، فالنَقد مُتوجِّه إلى فَهْمِ بعض

١٤٦

الأعلام لمَعنى الحديث، فالرواية بالمَعنى المُتقدِّم مُخالِفة للعقل قطعاً؛ لأنّه تكليف بما لا يُطاق.

8 - أخرج ابن مَاجة في سُنَنه عن ابن الدَيلَمي، عن زيد بن ثابت، قال: (سمعتُ رسول الله يقول: لو أنّ الله عَذّبَ أهل سماواته وأهل أرضه، لعذَّبهم وهو غير ظالِم لَهم، ولو رَحمهم لكانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم...) (463) .

وهذا الحديث من الأحاديث الّتي تُخالِف العقول، فكيف يُمكن مُعاقبة البَري‏ء بدون ذنب؟!

فإذا كان العقل السليم يُنكر هذا أشدّ النكران، ويعتبره من الأمور القبيحة، فكيف بسيِّد العُقلاء؟!

(إنّ الوجدان خير شاهِد على قُبح تعذيب البَري‏ء من أيّ فاعِلٍ صَدَر، سواء كان الفاعل هو الواجب أم المُمكِن، فلو لم يتمكَّن العَقل من دَركِ هذا المِقدار من التحسين والتقبيح، فلا يصحّ له القضاء في أيّ أمرٍ يَمتُّ إليه بصِلَة) (464) .

١٤٧

١٤٨

الباب الثاني / الفصل الخامس:

عَرْضُ الحَديثِ على العِلْمِ القَطْعِي

المَبحث الأوّل: العِلم في اللُغة والاصطِلاحِ.

المَبحث الثاني: تَقسيمُ العُلومِ.

المَبحث الثالث: العُلوم التَجريبيَّة بين الظَنّ واليَقِين.

المَبحث الرابع: تَعارُض العِلم والدِّين.

المَبحث الخامس: مَنزِلة العِلم في الكتابِ والسُنّة.

المَبحث السادس: أدلّةُ القاعِدة.

المَبحث السابع: الأحاديثُ الّتي تُخالِف العِلم القَطعي.

الفصل الخامس: عَرْضُ الحَديثِ على العِلْمِ القَطْعِي

المَبحث الأوّل: العِلم في اللُغة والاصْطلاحِ

العِلم في اللُغة واضح لا يحتاج إلى تعريف، أمّا بالنسبة إلى المَعنى الاصطلاحي، فهناك تعاريف كثيرة للعِلم، منها:

1 - هو جُملة من المَعارف المُرتَّبة في نَسَقٍ، بحيث تَرتبِط هذه الوقائع والقوانين بعلاقات مَحدودة فيما بينها، بشرط أن يَستَدعِي بعضها بعضاً (465).

2 - فرع من المَعرفة النَسقيّة المُنظّمَة، خاصّةً تلك المَعرفة الّتي تَتَّبِع الوسائِل الفَنيّة والمبادئ‏ داخل المَنهج العِلمي (466) .

3 - العِلم هو: الإدراك مُطلَقاً، تَصوّراً كان أو تَصديقاً، يَقيناً أو غير يَقين (467) .

4 - العِلم هو: إدراك الكُلّي مفهوماً كان أو حكماً، وإدراك المَراتب تصوّراً أو تصديقاً، وإدراك المسائل عن دليل (468) .

5 - العِلم هو: حضور صورة الشي‏ء عند العَقل (469) .

١٤٩

المَبحث الثاني: تَقسيمُ العُلوم

تُوجَد تقسيمات كثيرة للعُلوم، فقد تُصنَّف على أساس مَنهج البحث، أو على غير ذلك، والآن نذكر عدَّة تقسيمات لهذه العلوم:

أ - تقسيم العلوم إلى نَظَريّة وعَمليّة:

هناك مَن قام بتقسيم العلوم إلى قِسمين، نَظَريّة وعَمليّة، والعلوم النظرية إلى ثلاثة أقسام:

1 - العِلم الإلهي (الفلسفة الأُولى).

2 - العِلم الرياضي (العِلم الوسط).

3 - العِلم الطبيعي (العِلم الأدنى).

أمّا العلوم العمليّة، فتَنقَسِم إلى ثلاثة أقسام:

1 - عِلم تدبير المَنزل.

2 - عِلم الأخلاق.

3 - العِلم بتدبير المُشارَكة - الّتي للإنسان - مع الناس كافّة (وهذا عِلم أصله العلوم الشرعيّة، وتُكمّله العلوم السياسيّة) (470) .

ب - تَقسِيم العُلوم إلى ثلاثةِ أقسام (471) :

1 - العلوم الطبيعيّة: وهي العلوم الّتي يكون موضوعها الطَبيعة، والّتي تَستخدِم المَنهج التجريبي في البحث، كالفيزياء، الكيمياء، و...

2 - العلوم الاجتماعيّة: وهي العلوم الّتي تَهْتّمّ بالإنسان، من حيث هو فَرْد ومن حيث هو عُضو في جماعة، كالعلوم اللُغويّة والتَشريعيّة والأخلاقيّة و...

3 - العلوم الرياضيّة: وهي العلوم الّتي يكون مَوضوعها العَدَد والتابِع.

١٥٠

والمقصود من العلوم هُنا - في هذه الدراسة -، هي العلوم التجريبيّة، الّتي تستخدم المَنهج التجريبي في البحث (472).

المَبحث الثالث: العلوم التجريبيّة بين الظَنِّ واليَقين

بسَببِ اعتماد العلوم التجريبيّة على مَنهجِ الاستقراء (473) في تحصيل المَعرفة، وأنّ الاستقراء مهما تَعَدَّدَت مُفرداته لا يُمكن أن يكون تامّاًٍ؛ لأنّه يقوم على أساس تجميع الشواهِد والقرائِن لتأييد أحدى الظواهر أو دَحْضِها، وهذا التَجميع مهما بلغَ من القوَّة والكَثرة، لا يَبلغ درجة اليَقين.

فكيف يُمكن حلّ مُشكلة الطَفرَة من الخاصِّ إلى العامِّ (474) ، ومن الاحتمال إلى اليَقين؟

هناك ثلاثة مَذاهب في إفادَةِ الاستقراء اليقين، أو الاحتمال، هي:

1 - المَذهب العَقلي:

وهي المَدرسة الّتي يُمثّلها أرسطو وتلامذته، والّتي تُؤمِن بوجود قضايا أوّلية، بَديهيّة، يَقينيّة.

وقد أرجع المَذهب العقلي القضيّةَ الاستقرائية (التَجريبيَّة) إلى قَضِيَّتَين بُرهانِيَّتَين:

صُغرَى: من مجموعة القضايا المُجرَّبة المَحسوسَة، وهي بَديهيَّة.

وكُبرى:

١٥١

(التكرار لا يكون دائماً)، وهي قاعدة عقليّة بَديهيّة - حَسب رأيهم -.

فيكون ناتِج هاتَين القضيّتين يَقِينيّ أيضاً (475).

ولهذا فقد اعتقد المَذهب العَقلي بأنّ القضيّة التجريبيّة يُمكن أن تُورِث اليَقين، فيما إذا كانت القضيّة الأُولى صحيحة (تَكرّر القضيّة المَحسوسَة)، وأنّ المَعرفة التجريبيّة هي مَعرفة واقعيّة تَكشِف عن واقع موضوعي.

2 - المَذهب التَجْريبي (476):

وهو المَذهب الّذي يُنكِر وجود مَعرفة قَبليّة بَديهيّة، ويردّ جميع المَعارف البشريّة إلى التجربة والاستقراء، وهو يُؤمِن بأنّ التعميم الاستقرائي يحتاج إلى افتراضِ قضايا، ومُصادَرات لا يُمكن إثباتها عن طريق المَذهب العقلي؛ ولهذا فلا يُمكن للدليل الاستقرائي أن يُؤدِّي إلى اليقين، بل يُؤدِّي إلى تَنمِية احتمالها (477) .

وهناك مَن يَعتقد بأنّ العِلم هو مجموعة من الفَرضيَّات المُقتَرنة، لتَوصيف ظاهرة من الظواهر، وأنّه لا يُمكن أن نَجزم بصِدْقِ أيّ نَظَريّة، ولو خَرجَتْ من تجارب دقيقة بمُوفّقيّة تامّة، ولكن يُمكن استخدامها مُؤقّتاً إلى أن تحلّ بَدَلها نَظَريّة أفضل (478) ، وأنّ القضايا عندهم تَنقسم إلى قِسمين:

أ - قضايا لا تَقبَل الإبطال ولا الاستثناء مُطلَقاً: كالقضيّة الّتي تقول بأنّ جميع نقاط الدائِرة تَبتَعد عن المَركز بمَسافات مُتساوية.

ب - القضيّة الّتي تَقبَل الإبطال: كالقضيّة الّتي تقول بأنّ الجِسم الثَقيل يَسقط إلى الأسفلِ بخطٍ مُستقيم، فإنّه وإنْ كانت صادِقة؛ لأنّه لا يُوجَد هناك تَناقضاً منطقيّاً عندنا، بأنّ الجسم الثقيل لا يَسقط إلى الأسفل وإنّما يَتَحرَّك إلى الأعلى (479) .

١٥٢

هذا وأنّ جميع قضايا العلوم هي من النوع الثاني، قال أحدُ الباحثين: (وفي مَجال العلوم الطبيعيّة، لا سبيل لنا للحديث عن حقيقةٍ مُطلَقة، بل هناك فروض أمكن تحقيقها تجريبيّاً) (480) .

3 - المَذهب الذاتي للمَعرِفة:

وهو مَنهج مُستقِل في تفسير الاستقراء، أبدَعَه الشهيد الصدر، يختلف عن المَذهب العَقلي والتَجريبي، فَسَّرَ فيه المَعرفة الاستقرائيّة على أساس قِيَمِ الاحتمال، وتَوَلّد المَعرفة ذاتياًّ إلى أن تَصِل إلى مُستوى اليَقين؛ وذلك بتَراكُم القِيَمِ الاحتماليّة لقَضيّة ما، حتّى يَصِل احتمال نقيضها قريباً من الصفر.

قال الشهيد الصدر: (وأنا أعتقد أنّ كُلّ مَعرفة ثانويّة يحصل عليها العقلُ على أساس التَوالِد الذاتيّ (481) ، تَمرّ بمَرحلَتَين، إذ تبدأ أوّلاً مَرحلة التَوالد المَوضوعي (482)، وفي هذه المَرحلة تبدأ المَعرفة احتماليّة، وينمو الاحتمال باستمرار، ويسير نحو الاحتمال في هذه المَرحلة بطريقة التوالد الموضوعي، الّتي تَعجز عن تصعيد المَعرفة إلى درجة اليَقين، وحينئذٍ تبدأ مَرحلة التَوالد الذاتيّ، لكي تُنجِز ذلك وتَرتفع بالمَعرفة إلى مُستوى اليقين) (483) .

وهنا أنقذَ السيّد الشهيد المَعرفة البشريّة التجريبيّة من التَشكيك في قِيمتِها، وأنّها يُمكن أن تُورِث اليَقين والاطمئنان؛ بتَقريرٍ يَختلف عن تقريرِ المَذهب العقلي.

وهذا ما نذهب إليه في تفسير المَعرفة التَجريبيّة، وحتّى لو سَلَّمنا بالنَظريّات الأُخرى في تفسير العلم، فإنّ من المُؤكَّد أنّ هناك أشياء واقعيّة يقينيّة، لا يستطيع أصحاب النَظريّات التَشكيكيّة أن تَتَجاهله، مثل: حركة الأرض حول الشمس، وكُرَوِيّتها، وبعض الحقائق في الطبِّ والفيزياء و...؛ لأنّ هذه الحقائِق لا تخرج عن كونِها

١٥٣

مُشاهَدات حِسِّيّة مُتطوِّرة، وهذا ما نَقصده من العِلم هنا، وليس النَظَريّات الّتي لم تَتَأكّد صحّتها بعد.

خَطَواتُ تَكوين القانون العِلمي:

يَمرُّ القانون العلمي بعدَّة خَطوات، قبل أن يتحوَّل إلى حقيقة علميّة مُعتَرَف بها:

1 - المُلاحَظة وتجميع المَعلومات:

يقوم العُلماء بتجميعِ معلومات تفصيليّة عن الظاهِرة المُراد دراستها، والمُلاحظة هي أحد الوسائل المُستخدَمة في جَمْعِ المعلومات، فإنَّ بعض الاكتشافات كانتْ نتيجة لمُلاحظات عاديّة حول بعض الأحداث.

2 - تَكوِين النَظَريَّات:

تَعتَمد النَظريّات العلميّة على تفسيرِ وتعليلِ هذه المَجموعة من المَعلومات، وشرح علاقة الأحداث المُختلِفة بعضها مع البعض الآخر، والتنبُّؤ بنتائج اختبارات وأحداث مُستَقبَليَّة.

3 - إجراءُ التَجارب والبَرْهَنَة العلميَّة:

إنّ إجراء الاختبارات والتجارب، هي السبيل للتَأكّد من صحّة الأفكار الجديدة وصِدق فاعليَّتها، وإقناع الناس بصحّة إحدى النظريّات.

كما قد يُصمِّم العُلماء أيضاً تجارب؛ لتِبيان أيٍّ من النظريَّتين المُتنافِستَين أفضل لتفسير ظاهرة طبيعيّة مُعيَّنة (484) .

وهنا يَتبيَّن أنّ النظريّة العلميّة ما هي إلاّ تفسير لظاهرة من الظواهر، قد يكون صحيحاً وقد يكون غير صحيح، وأنّ مقدار صحّة هذا التفسير يَتَوقّف على إجراء التجارب والاختبارات لإثبات صحّته، وكُلّما زادت هذه الاختبارات، واستطاعتْ النظريّة أن تَتَنبّأ ببعض الظواهر مُستقبَلاً، كُلّما زادَ حظّها من

١٥٤

الاقتراب من الحقيقة العلميّة.

وهكذا يَتَبَيَّن أنّ هناك فرقاً كبيراً بين النظريّة والحقيقة العلميّة.

فالحقيقة العلميّة تَتَحدَّث عن واقعٍ مَلمُوس، والنظريّة هي تحليل لظواهِر، وتفسير للمعلومات المُستَحصلَة عن طريق المُلاحظة، وهذا ما يُفسِّر لنا تَغيِير النظريّات بين الحين والآخر؛ لأنّها لم تَستطِع أن تُفسِّر الواقِع تفسيراً صحيحاً، فقد ظلّتْ نظريّة التَطوّر للعالم الانجليزي داروين (1882 - 1809 م) مَوضِع نقدٍ وتَحوير، وإضافة وهَدَف، مع كُلِّ تقدّم علمي.

المَبحث الرابع: تعارض العِلم مع الدِّين

قبل أن نبدأ ببحث تعارض العِلم والدِّين، ومن ضِمنه الروايات الصادِرة عن المعصومين (‏عليهم السلام)، لابُدَّ من تناول علاقة الدِّين - ومنها الروايات - مع العِلم، والّتي يُمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام:

1 - القضايا الّتي توافِق العِلم القطعي.

2 - القضايا الّتي تُخالِف العِلم القطعي.

3 - القضايا الّتي لا يُمكن للعِلم أن يُثبِتَها أو يَنفِيها؛ وذلك لأنّها خارجة عن مَنهَج العِلم في البَحث.

فكما قُلنا سابقاً: إنّ طريقة العلوم الطبيعيّة هي التجربة والمُلاحَظة، ومثل هذه القضايا - تفاصيل الجنّة والنار، ووجود المَلائِكة والجِنِّ - لا يُمكِن أنْ تُثبَت أو تُنفى من خلال هذا المَنهج.

فمَجموعة القضايا الأُولى والثالثة خارجة عن تناول هذه الدراسة، ولم يَبقَ حينئذٍ إلاّ القضايا الّتي تُخالِف العِلم القطعي.

والتعارض لا يكون واقعيّاً - فيما إذا كان الحديث مَقطوع الصدور والدلالة - مع العلم القطعي أبداً؛ لأنّنا نعتقد أنّ المَعصوم لا ينطقُ عن الهوى، وما يأتي به إنّما يكون من الله (سبحانه وتعالى) خالِق الكون والحياة، فلا يُمكن حينئذٍ أنْ يقعَ تعارض بين العالَم التشريعي والعالَم التكويني؛ لأنّ صاحب الشريعة هو خالِق الكون وواضِع قوانينه.

١٥٥

وعلى كُلِّ حال، فإنّ المقياس في رَدِّ الأحاديث هي العلوم القطعيّة، وليستْ النظريّات الظنيّة الّتي تَتَغيَّر بين الآوِنة والأُخرى، فلا يُمكِن الحُكم على الأحاديث الّتي تُخالِف نظريّة التَطوّر بالردِّ مثلاً - فيما إذا وُجِدتْ أحاديث -؛ لأنّ هذه النظريّة ليستْ من قطعيّات العلوم، بل هي فَرَضِيّة لم تصل إلى حدِّ القانون، وقد تَعَرَّضتْ إلى الكثير من التَحوير والتبديل بمرور الزمن، وما زالتْ، لأنّ البناء الّذي يجب أن نبني عليه، يجب أن يكون مُحكَمَاً وقويَّاً، وخصوصاً إذا كان حديثاً صادِراً عن المعصوم.

المَبحث الخامس: مَنزِلة العِلم في الكتاب والسُنَّة

لا يُوجَد دين من الأديان، حثَّ ورَغَّبَ في طلب العِلم واكتسابه كالدِّين الإسلامي، فقد وردتْ كلمة العِلم ومُشتَقَّاتها في القرآن الكريم ما يُقارب أربعمئة مرَّة (485) ؛ وذلك لِما له من أهمِّيّة كبيرة في تحصيل السعادة الدنيويّة والأخرويّة، والمُتَتَبِّع لآيات القرآن يجد أنّه لا يقصر العلم على نوعٍ خاصٍّ، وإن كانت بعض العلوم أشرف وأعلى مَرتبة من علوم أُخرى، تبعاً للنتائج المُترتِّبة عليها.

ويُمكن تصنيف الآيات القرآنية الّتي تناولت موضوع العِلم إلى عدَّة أقسام:

1 - الآيات الّتي تُعطي قيمة كبيرة للعلم والاتِّصاف به، قال تعالى: ( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) (486) .

2 - الآيات الّتي تُشير إلى أدوات تحصيل العلوم: ( وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (487) .

3 - الآيات الّتي تدعو إلى التَفَكّر في آيات الله في الكون، واتّخاذها وسيلة من أجل زيادة الإيمان، قال تعالى: ( وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ... ) (488) ، وقال تعالى: ( أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا... ) (489) .

4 - الآيات الّتي تُبيِّن أسرار عالَم الطبيعة في علم الفَلَكِ (490) ، وعلم الأرضِ (491) ، وعلم

١٥٦

الأحياء (492) .

والغرض من ذلك هو الحثّ على تحصِيله والاستفادة منه.

بالإضافة إلى الروايات الكثيرة الوارِدة عن المعصومين (‏عليهم السلام)، الّتي تَحثّ على طلب العلم واعتباره من الفرائِض (493) ، وتفضيل العلم على العبادة (494) ، وأنّ طالب العلم يستغفر له كُلّ شي‏ء (495) ، وتقسيم أنواع العلوم (496) ، والمَنع من بعضها (497) .

مّما يكشف مَنزلة العِلم في الإسلام، وقيمته والحثّ عليه، وكما قُلنا إنّ ذلك لا يختصّ بالعلوم الدِّينيّة، بل كلّ علم يُؤدِّي إلى فائدة دينيّة أو دنيويّة، ومنها العلوم الطبيعيّة.

المَبحث السادس: الاستدلال على هذه القاعِدة

يُمكن الاستدلال على هذه القاعِدة على أساس تقديم القَطع على الظنِّ؛ لأنّ القطعَ حُجّة من أيّ طريق كان.

وكما قُلنا سابقاً، فإنّ المُراد من العلم هنا هو العلم القطعي، وليس النظريّات الّتي لم يَتَأكّد صحّتها بعد، مع الأخذ بنَظرِ الاعتبار بعض القضايا المُسلَّمة، منها:

1 - عَدم تناقض القوانين الكونيّة مع التعاليم الشَرعيّة:

وذلك لأنّ الله هو خالِق الكون ومُنزِّل الشريعة، فلا يُمكن أن يحدث تعارضاً بين الاثنين فيما إذا كانا قَطعِيَّين، وقد أشرنا إلى هذه المَسألة فيما سبق.

2 - عِصمة الرسول (صلّى الله عليه وآله)، والأئمّة (عليهم السلام):

فإذا ما تَحدَّث النبي (صلّى الله عليه وآله) والأئمّة (عليهم السلام) عن أمرٍ من الأمور التشريعيّة أو التكوينيّة، فإنّه لا يُمكن أن يُخالِف الحقيقة العلميّة أبداً؛ لأنّه إنّما ينطق عن لِسان الوَحي ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى ) (498) .

أمّا بالنسبة إلى الأئمّة (عليهم السلام)، فما وردَ من أدلّة على عِصمَتهم (499) .

١٥٧

وطبقاً لهاتين المُسلَّمتين، فإذا ما ورد حديث يُخالِف العلم القطعي، فهذا يعني عدم صدوره من المعصوم.

ولم يختلف علماء المسلمين في المسألة الأُولى، وإنّما حدث الاختلاف في المسألة الثانية وذلك؛ لأنّ الاعتقاد بعصمة الأنبياء أو عدم عصمتهم، وإمكانيّة تَعبُّدهم بالاجتهاد أو المَنْع من ذلك، له مَدخليّة في الموقف من الروايات المُخالِفة للعلوم القطعيّة.

وكذلك بالنسبة إلى تقسيم السُنّة إلى تشريعيّة وغير تشريعيّة - كما يعتقد بعض الأصوليّين -؛ لأنّ الحُكم على بعض أنواع السُنّة بأنّها ليست وارِدة في مجال التشريع، وأنّها غير معصومة من الخَطأ، ولم تصدر من مَعين الوحي، يختلف عن موقف الّذي يُنْكِر هذا التقسيم ويعتقد بأنّ السُنّة كلّها تشريع.

وفيما يلي نُشير إلى هذين البحثين، بما لَهنّ من ارتباط بموضوع البحث:

أ - اجتهاد الرسول (صلّى الله عليه وآله) فيما لا نصّ فيه:

اختلف الأصوليّون في جواز أو عدم جواز الاجتهاد من الرسول (صلّى الله عليه وآله) إلى أربعة آراء:

1 - المَنع من الاجتهاد مُطلَقاً، سواء كان في أمور الدِّين أم أمور الدنيا.

2 - جواز الاجتهاد مُطلَقاً، في أمور الدِّين والدنيا.

3 - جواز ذلك في الأمور الدنيويّة، كالأمور الحربيّة، دون الأحكام الشرعيّة.

4 - التوقّف؛ لتعارض الأدلّة (500) .

ثُمّ اختلفوا في جواز الخطأ من الرسول (صلّى الله عليه وآله)، فأصحاب الرأي الأوّل اتّفقوا على عدم جواز الخطأ؛ إذ لا اجتهاد.

والطائفة الأُخرى انقسمتْ بدورها إلى قِسمين، فالمُصَوِّبَة يمنعون من جواز الخطأ عليهم، والمُخَطِّئَة منهم مَن قالوا بجواز الخطأ على الأنبياء، ومنهم مَن منع ذلك (501) .

فإذا ما ورد حديث من الأحاديث مُخالفاً للعلم القَطعي، مُخالَفةً من جميع الجِهات، ولا يُمكن تأويله تأويلاً قريباً يَتَّفِق مع أساليب اللغة، فهذا يعني عدم صدوره من المعصوم، على رأي الّذين يعتقدون بعصمة الأنبياء (عليهم السلام).

١٥٨

أمّا على الرأي الآخر، فلا يعتبرون هذه الأحاديث غير صادِرة من المعصوم قطعاً؛ لجواز أن يخطأ الرسول (صلّى الله عليه وآله) في الأمور الدُنيويّة. (إنّ إنكار النبي (صلّى الله عليه وآله) في بعض الأمور الدُنيويّة المَبنيَّة على التجارب للتشريع، كتلقيح النخل فامتنعوا عنه فأشَاصَ (خَرَجَ ثمره شِيْصاً، أي رَديئاً أو يابِساً)، فراجعوه في ذلك فأخبرهم: أنّه قال ما قال عن ظنّ ورأي لا عن تشريع، وقال لهم: (أنتم أعلم بأمور دُنياكم...) ) (502) .

ب - تقسيم السُنّة إلى تشريعيّة وغير تشريعيّة:

وهو من البحوث المُهمّة، ومثار جدل بين الكُتّاب والمُحدِّثين، فهناك من قام بتقسيم السُنّة إلى أقسام مُتعدِّدة، منها:

1 - ما صدرَ منه (صلّى الله عليه وآله) بحسب الطبيعة البشريّة، كالأكل، والشرب...

2 - ما صدرَ منه بحسب خِبْرته وتجاربه في الحياة، مثل شؤون التجارة والزراعة، والمسائل المُتعلّقة بالتدبيرات الحربيّة.

3 - ما صدر منه على وجه التبليغ عن الله تعالى.

وإنّ القِسمين الأوّلين ليسا من التشريع؛ لأنّ مَرجع الأُولى إلى الطبيعة البشريّة والجِبْلة الإنسانيّة، والثانية إلى التجارب الحياتيّة والخِبرة الشخصيّة (503) .

وهناك مَن استغربَ هذا التقسيم، واعتبر السُنّة النبويّة كلّها تشريع، بلا فرق بين ما تقتضيه الطبيعة البشريّة، أو ما كان صادِراً عن طريق الخبرة والتجارب، أو ما صدر منه على وجه التبليغ؛ لأنّه ما من واقعة إلاّ ولَها حُكم في الشريعة الإسلاميّة، بلا فرق بين هذه الأقسام الثلاثة.

ثُمّ ما ورد من أدلّة العِصمة الشامِلة لكلّ هذه الموارد (504) .

فعلى الرأي الأوّل، فإنّ كثيراً من أقوال النبي (صلّى الله عليه وآله) تخرج عن دائرة التشريع؛ لأنّها

١٥٩

سوف تكون خاضِعة للتجارب والخبرة الشخصيّة، ولم تصدر من الوحي، وبالتالي فلا يُمكن الجزم بعدم مُخالَفتها للعلم القطعي، وإن كانت صادرة عن الرسول؛ لأنّها - والحال هذه - لم تخرج من مِشكاة الوَحي.

أمّا على الرأي الثاني، فلا يُمكن تصوّر الخطأ في مثل هذه الأخبار؛ لأنّها كلّها صادِرة من مَعين الوحي، وكلّها حقّ، فإذا ما وردَ حديث يُخالِف العلم القطعي مُخالَفةً من جميع الوجوه، فهذا يعني عدم صحّة هذا الخبر، أو أنّه مُؤوَّل.

نُبْذَة عن الأخبارِ الطبِّيَّة:

وعلى أساس المَباني السابقة، اختلفت المواقف من الأخبار الواردة في كتب الفريقين في الطِبِّ، والتداوي بالأعشاب وبعض العَقاقِير المُستخدَمة في العِلاج، فهناك مَن اعتبر هذه الأخبار وَصْفَة علاجيّة صادرة عن الوَحي، مُفيدة لكلّ زمان ومكان.

قال الشيخ المُفيد: (الطِبّ صحيح، والعلم به ثابِت وطريقه الوَحي، وإنّما أخذه العلماء به عن الأنبياء (عليهم السلام)، وذلك أنّه لا طريق إلى عِلم حقيقة الداء إلاّ بالسَمعِ، ولا سبيل إلى معرفة الدواء إلاّ بالتوفيق) (505) .

ومنهم مَن اعتبر هذه الأخبار صادِرة عن المعصومين‏ (عليهم السلام) من باب الخِبرة. قال ابن خلدون: (وإنّما هو أمر كان عاديّاً، ووقعَ في ذكرِ أحوال النبي (صلّى الله عليه وآله)، من نوع ذكر أحواله الّتي هي عادَة وجِبْلة، لا من جهة أنّ ذلك مَشروع) (506) .

وصَنّف الشيخ الصدوق الأخبار الطبِّيَّة إلى عدّة أقسام، فقال: (إنّ اعتقادنا في الأخبار الطبيّة على وجوه:

1 - ما قيل على هواء مكّة والمدينة، فلا يجوز استعماله في سائر الأهوية.

١٦٠