• البداية
  • السابق
  • 182 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 20323 / تحميل: 6738
الحجم الحجم الحجم
بين يدي الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله

بين يدي الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله الجزء 1

مؤلف:
العربية

أبو رافِع

١٦١

- أسمعت أحاديث مكة وشعابها، يجتاح شيوخها، ويمرّ بكهولها، ذلك حديث فتى عبد المطلب، ودعوته الجديدة.

حديث شيق يا أبا مناف، ينساب إلى قلبي انسياب العطر.

- كفى. كفى يا وليد. أفيك قوى لتحمل سوط قريش ومكاويهم الحديدية. اسكت بحق صاحب هذا البيت. هذا الشيخ أقبل علينا، وأخشى أن يكون أحد من القوم فيصيبنا بسوء.

وأقبل الشيخ يقترب رويداً رويداً حتى إذا وضح لهما فإذا به (أبو رافع مولى العباس بن عبد المطلب) وقد عَلَت ثغره الأسود ابتسامة مشرقة، وانضم إلى صاحبيه.

كيف أنت يا أبا رافع اليوم، أذهبتَ إلى دار الأرقم، أسمعت من حديث الرسول محمد صلى الله عليه وآله أعذبه وأنداه.

لو أتيت هذه الليلة معنا يا أبا مناف لرأيت من عطف نبي الرحمة الشيء الكثير.

١٦٢

وظهر على القوم دفعة أمية بن خلف، وقد علته موجة من السخط والكراهية، ومر بهذه الحلقة، ويكاد لا يلتفت لها، وخيم الوجوم على الجالسين، ولكن ما ان اجتاز الثلاثة بخطوات حتى عاد وألقى نظرة عليهم، وما إن وقعت على أبي رافع، حتى هجم عليه والشرر يتطاير من عينيه، وأخذ يلعب بسوطه على جسمه دون رحمة وشفقة، وأبو رافع يتلوى بين يديه، وإذا ما كلت يداه من الضرب، وقف وهو يسحب أنفاساً مهترئة، وهي تكاد تلفح وجهه بلهيبها.

والتفت اليه وهو يهذر بصخب: لو عدت لدار الأرقم لكويتك بالحديد.

وزحف ابو رافع وهو يجمع قواه يئن من آلامه ليذهب تواً الى بيته، وعيناه قد شدت الى الكعبة، وهو يتمتم كلمات تكاد تموت على شفتيه لانهيار قواه.

كان ابو رافع يجتمع في بادئ امره بإخوان له من موالي العرب، وكانت احاديث دعوة محمد تلهج بها أندية مكة وحلقات سمرها. وابو رافع يستمع لها بشيء من الاهتمام، وكلما تعرف على جديد من تلك الأخبار، خفق لها قلبه، ونبض صدره، غير انه لا يعرف سر هذا الخفقان، وتلك النبضات المتوالية، وبمرور الزمن انحاز الى اخبار الدعوة الجديدة، وتتبع احاديثها، بكل شوق ولهفة وحتى اصبح يوماً ما من جملة أعضائها.

١٦٣

ولكن ابا رافع ما كان في امكانه - وفي وقته المبكر - ان يجهر بأمره، وان كان في الواقع في منعة من ظلم قريش، لأنه مولى العباس بن عبد المطلب، وللعباس حرمة ومكانة.

وبطبيعة الحال كانت قريش تستأثر بحديث الرسول بالقسط الأوفر، من يومها، لأن الأمر كان يتعلق بهم قبل كل قبيلة فهو ان جلس الى فتيان اسياده، كان يلتهم احاديثهم عن الدعوة وان كان بعضهم لم يمل اليها، أو لم يعلن إسلامه بعد.

حتى كان يوم تحدثت مكة بصراحة عن إسلام العباس نفسه فطار ابو رافع فرحاً بهذه البشارة، وأزاح عن كاهله ثقلاً كبيراً ثقل الكتمان والتستر.

وعرف الناس بعدئذ ان ابا رافع من جملة الذين انضموا الى دعوة محمد رسول اللّه، ودخل يومها ابو جهل الى البيت وهو يحرق الارم، والتقى بزمرته وصاح بغضب متناهي حتى أبي رافع ذلك المولى القبطي صبا لدين فتى عبد اللّه، وحق اللات والعزى ان ظفرت به لأتركه طعمة للوحوش، وأشفي بدمه غليلي. ولكن رجلاً من القوم التفت اليه وقال: مهلاً يا أبا الحكم لا تظهر قواك على الموالي والضعفاء، أما علمت أن العباس نفسه قد تبع محمداً، فلو كنت شجاعاً لذهبت اليه، وتركت جسمه طعمة للوحوش، كما نويت أن تعمله مع ابي رافع؟.

وسكت ابو جهل على مضض، وفي قلبه شعلة من حقد، لقد

١٦٤

ضاق ذرعاً بما يطوي عليه نفسه، وقد أخذ امر المسلمين يشيع وينتشر، ويتلقاه الناس بكل مسرة واستبشار، ويستقبلون كل يوم اسماً جديداً ينداح لحوزة النبي كما ينداح العطر في الروضة الغناء، فتلهج أندية مكة بحديثه، حتى اذا ما أطل اسم جديد لهجت بذكره، ولاكت حديثه، والناس تواقة لكل جديد وهكذا دواليك.

وتحدث العرب عن اسم أبي رافع كشخص جديد لمع اسمه ثم حرره الرسول بشارة لإسلام العباس، واستطال الحديث الى ان هذه الدعوة تحاول تحرير الرق وترك هذه العادة السقيمة وهذا ما يثير الرعب في قلوب الكثيرين، وتكون لأبي رافع مكانة لدى الصفوة الطيبة من المسلمين، وكيف لا تكون كذلك والرسول الأعظم يعطف عليه لأنه من هذه المجموعة المستضعفَة التي اكتوت بعذاب قريش وهي تزداد صلابة كلما تفنن الكافر الأرعن في أساليب التعذيب والإبادة معهم.

فأمس تحدثت مكة عن اسلوب الطغاة في معاقبة ياسر وعمار وأمه، وبعد برهة تحدثت عن تعذيب بلال والخباب، ولقد كانت مكاوي الحديد المجمرة تلمع في أيدي ابي جهل وجلاوزته وهي تترنح على أجسام هؤلاء المستضعفين الذين صبوا الى دعوة الرسول، فلم ترقّ لهم قلوب ولم تلِنْ لهم نفوس.

وهاجر النبي الى المدينة، تاركاً مكة وقريش وحقدها

١٦٥

وضغنها، ولم تمر الأشهر على الطغاة بالشروق والأمل، فقد عزَّ عليهم، أن يسلم محمد وأصحابه، ويتوطد أمر دعوته في يثرب وكانت تتحين المناسبة للهجوم عليه، حتى كانت (بدر).

وكان اجتماعهم في دار الندوة عاجلاً للبتّ في طلب ابي سفيان وقرروا الاستجابة للطلب وكان من بدر ما كان.

وبقي في مكة من بقي يتصيد الأخبار، ويتعرف على المسافرين، علَّهم يحملون من أخبار قريش ما يسعد يومهم وينير ليلهم.. وعاشت مكة ردحاً من الزمن على أعصابها لم يبلغها قدوم أحد، إلا وهرعت اليه.. وانقطعت الأخبار وكادت القلوب المتلهفة لسماع نبأ جيشها تتقطع.. طال الانتظار ودبَّ القلق، وانسابت الوساوس الى الأذهان تحرك المشاعر وتثير العواطف، ولحظة الانتظار أشد ما يعانيها الانسان.

يحدثنا أبو رافع مولى رسول اللّه، فيقول:

كنت غلاماً للعباس بن عبد المطلب، وكان الإسلام قد فشى فينا أهل البيت، فأسلم العباس، وأسلمت أمُّ الفضل زوجته وكان العباس يهاب قومه، ويكره خلافهم فكان يكتم إسلامه وكان ذا مال كثير متفرق في قومه، وكان عدو اللّه أبو لهب قد تخلف عن بدر، وبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة وكذلك كانوا صنعوا، لم يتخلف رجل إلا بعث مكانه رجلاً

١٦٦

فلما جاء الخبر عن مصاب أصحاب بدر من قريش، كبته (ذله) اللّه وأخزاه، ووجدنا في أنفسنا قوة وعزاً.

قال: وكنت رجلاً ضعيفاً، وكنت أعمل القدَاح، أنحتها في حُجرة زمزم، فواللّه إني لجالس أنحت أقداحي، وعندي أم الفضل جالسة، وقد سرنا ما جاءنا من الخبر، إذ أقبل الفاسق أبو لهب بجر رجليه بشرّ، حتى جلس إلى طنب الحجرة، فكان ظهره إلى ظهري فبينا هو جالس إذ قال للناس: هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قد قدم - وكان شهد مع المشركين بدراً -، فقال أبو لهب: هلم يا ابن أخي فعندك واللّه الخبر قال: فجلس اليه، والناس قيام حوله، فقال: يا ابن أخي، أخبرني كيف كان أمر الناس؟ قال: لا شيء، واللّه ان هو إلا لقيناهم فمنحناهم أكتافنا، فقتلونا كيف شاؤوا، وأسرونا كيف شاؤوا وأيم اللّه مع ذلك ما لمت الناس٧ لقينا رجالا بيضاً على خيل بلق بين السماء والأرض، لا واللّه ما تبقي شيئاً، ولا يقوم لها شيء.

قال ابو رافع: فرفعت طنب الحجرة، ثم قلت: تلك واللّه الملائكة، قال: فرفع أبو لهب يده، فضرب بها وجهي ضربة شديدة، ثم احتملني فضرب بي الارض، ثم برك عليَّ يضربني وكنت رجلاً ضعيفاً. فقامت ام الفضل الى عمود من عُمد الحجرة فأخذته فضربته على رأسه، فشجته شجة منكرة، وقالت: استضعفته إذ غاب سيده، فقام مولياً ذليلاً، فواللّه ما عاش إلا

١٦٧

سبع ليالي، حتى رماه اللّه بالعدسة(١) فقتله.

هكذا تلقى القرشيون خبر الهزيمة وخسران المعركة.

ويقف ابو سفيان وهو مشدوه بما أصيب من نكبة، يصيح والحقد يغلي في صدره: يا معشر قريش، لا تبكوا على قتلاكم ولا تنح عليهم نائحة، ولا يندبهم شاعر، وأظهروا الجلد والعزاء فإنكم إذا نحتم عليهم وبكيتموهم بالشعر أذهب ذلك غيظكم فأكلّكم ذلك من عداوة محمد وأصحابه، مع أن محمداً إن بلغه وأصحابه ذلك شمتوا بكم فتكون أعظم المصيبتين ولعلكم تدركون ثأركم، فالدهن، والنساء عليّ حرام حتى أغزو محمداً.

وإذ كان ابو سفيان يتنقل في بيوتات قريش، وهو مخذول مهزوم يطلب منهم الجلد والصبر، كانت زوجته هند بنت عتبة من جانب آخر تقول لنساء قريش ذهبن لتعزيتها فقلن لها، ألا تبكين على أبيك وأخيك، وعمك، وأهل بيتك، فقالت: حلأني (منعني) أن أبكيهم، فيبلغ محمداً وأصحابه فيشمتوا بنا وبنساء بني الخزرج، لا واللّه حتى أثأر محمداً وأصحابه. والدهن عليّ حرام ان دخل رأسي حتى نغزو محمداً، واللّه لو أعلم الحزن يذهب عن قلبي لبكيت، ولكن بما لا يذهبه إلا أن

________________________________

(١) العدسة: قرحة كالطاعون قاتلة، شرح النهج: ١٤ - ١٨٢ هجري ١ .

١٦٨

أرى ثأري بعيني من قتلة الأحبة، تقول الرواية: فمكثت على حالها لا تقرب الدهن، ولا قربت فراش ابي سفيان من يوم حلفت حتى كانت وقعة أُحد.

لقد أخلص ابو رافع للنبي الأكرم، حتى أصبح جزءاً من صفوته، في ركابه بغزواته، وموكلاً على ثقله، وأميناً على ماله فقد قال رسول اللّه يوماً، وهو في جموع حاشدة بين يديه:

«يا أيها الناس، من أحبَّ أن ينظر الى أميني على نفسي وأهلي، فهذا ابو رافع أميني على نفسي».

وكان هذا أرفع وسام يقلده رسول اللّه، وأعظم فخر يناله بشرف الاسلام.

ودخل ذات مرة ابو رافع دار النبي، فوجد رسول اللّه نائماً، وعلى مقربة منه ثعبان عظيم يزحف باتجاه الرسول، وذهل الرجل الشيخ من هذا الأمر، وحاول ان يوقظ النبي صلى الله عليه وآله ولكنه عز عليه ان يقلق على الرسول نومه، وصمم على التضحية وتقدم فاضطجع الى جنب النبي باتجاه الثعبان بحيث فصل بينهما ليكون هو ضحية إذا قدم على الزحف، وكان هذا أعذب ما يدور في خاطره.

واستيقظ الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله، فألفى أبا رافع الى جانبه مستلقياً، وعلى بضعة أمتار يقف ثعبان، وعرف جلية الأمر

١٦٩

ورفع الرسول طرفاً خاشعاً الى السماء ليدعو اللّه ان يوفق أبا رافع.

وتمر الأيام ثقيلة السير، مليئة بالأحداث، قد لبى الرسول الأعظم نداء ربه، والزمن يطوي خطواته، وأبو رافع قد استقر في خيبر يزرع أرضاً له هناك.

وأعلن الإمام علي (ع) حربه - على معاوية، وفي الشدة تعرف الرجال - وأخذ يجمع أصحابه من حوله ما يقتضيه لتلك الحرب.

وانتشر النبأ يسري كالبرق في أرجاء الجزيرة العربية أن علياً عزم على قتال معاوية، وعلم ابو رافع بجلية الأمر كما سمع غيره.

وعندما أصبح الصباح أعلن ابو رافع بأنه عازم على السفر الى علي (ع).

- يا أبا رافع أنت شيخ طاعن في السن أخذت من العقد التاسع نصفه، وقد سقط التكليف عن الشيوخ، فالجهاد لغيرك.

- لا تتحدث بمثل هذا أبداً، إن القتال مع علي عبادة، لقد أصبحت لا احد بمنزلتي، بايعت البيعتين: بيعة العقبة، وبيعة الرضوان، وصليت القبلتين وهاجرت الهجرات الثلاث: مع

١٧٠

جعفر بن أبي طالب إلى الحبشة، ومع رسول اللّه صلى الله عليه وآله إلى المدينة ومع على بن أبي طالب سأهاجر إلى الكوفة.

يا أبا رافع: وأرضك ودارك.

- غداً سأبيعها.

وكان ما أراد، وقف إلى جانب علي في حروبه مجاهداً صابراً ومعاوية لم يتوان عن إغراء أبي رافع بالمال، والمكانة، والسلطان ولكن صلابة هذا الصحابي الجليل، وصموده الحديدي العجيب في خدمة الإسلام، كانا أقوى من أن تنهار أمام أموال معاوية ومواعيده المعسولة.

١٧١

١٧٢

جَعفر بن أبي طالب

١٧٣

كان الشيخ ابو معاذ مرهقاً في ليلته هذه، أثقله يوم متعب هدَّ من جسمه وأوغل في إيلامه، ورغم هذا فقد جاء الى مجلسه كعادته.. ولمس الجميع عليه بوادر العاصفة الثقيلة على وجه محدثهم.

وقال الشيخ ابو معاذ، وهو يجاهد نفسه مجاهدة على الكلام:

كانت ليلة قاسية جداً على أبي طالب، وهو يرقب عودة ابن أخيه، وقد مرَّ شطر كبير من الليل ولم يعد. نصف الليل انقضى، ومحمد لم يظهر له أي أثر، ومعه علي، ولكن أبا طالب وزوجته لم يهمهما أمر ولدهما علي بقدر ما يهمهما أمر محمد.. وكيف لا يفكر في أمره، وقريش تتحين له الفرص لتُنزلِ به السوء، فقد توسمت فيه خطراً مقبلاً عليها.

ومرّ الثلث الثاني من الليل، ولم يعد محمد، وأقلق الشيخ الوقور هذا الغياب ولا يريد أن يعلن الخبر، وأخذ يسأل عنه

١٧٤

هنا وهناك كالملهوف، لم يتمكن من الهدوء أمر ولده جعفر أن يأخذ سلاحه، ويخرج معه، وبدآ البحث. وطلع عليهما الفجر وهما في بعض جيال مكة، وإذا بمحمد في أعلاه، واقف وعلى يمينه علي يصليان، يركعان ويسجدان.

ودبّت الطمأنينة إلى قلب الرجل الحنون، وهدأت أعصابه واستردّ أنفاسه، وجلس وهو يشد نظراته إلي هذا المنظر، ثم لم يلبث أن أخذ يد ولده جعفر وجعله إلى يسار النبي، وقال له: «صل جناح ابن عمك»، وانساب الفتى اليافع مع ابن عمه وأخيه يركع ويسجد، حتى أكملوا جميعاً صلاتهم، وعادوا إلى شيخ الهاشميين، والسرور يطفح على وجوههم، وهزَّ السرور والاعتزاز الرجل الوقور، فأخذ ينشد:

إن علياً وجعفراً ثقتي

عند ملم الزمان والنوب

لا تخذلا، وانصرا ابن عمكما

أخي لأمي من بينهم وأبي

واللّه لا أخذل النبي ولا

يخذله من بني ذو حسب

ثم التفت محمد إلى جعفر وهو يقول:

«يا جعفر وصلت جناح ابن عمك، إن اللّه يعوضك من ذلك بجناحين تطير بهما في الجنة».

وبقيت هذه الكلمة الكريمة ترنُّ في أعماق فتى أبي طالب وهو لا يحب أن يفارقها في خواطره، عزيزة عليه كفجر ساحر

١٧٥

يمتد في قلب السماء فيزيح عنه الظلام ويشتت منه طيوف المساء القاتم.

ويعيش جعفر في ظل هذه الاشراقة الإيمانية، ويغمض عينيه في كل ليلة على خواطر عذبة تحمل من أماني ابن عمه رسول الإنسانية ما تفعم قلبه بالأمل والخير والازدهار..

وتتوثق الصلة بين الفتى المؤمن، وبين ابن عمه الداعي إلى الحق وكلما امتد الزمن ازدادت العلاقة، حتى يصبح جعفر عضواً في الأسرة المؤمنة، وتعرف قريش بذلك وتثور على هذا النبأ، إن عدد المؤمنين بهذه الرسالة الجديدة بدأ يتضخم شيئاً فشيئاً، ولم يقف في وجهها البطش والعنف، تزداد على مر الأيام.

وجعفر وإن كان في مأمن من عقاب، وأذى الطغمة الحاقدة لأنه محفوظ بقوة أبيه، ولكنه لم يسلم من بقية المشاكل التي لحقت بالصفوة الطيبة من صحابة النبي صلى الله عليه وآله ..

وقررت قريش مقاطعة بني هاشم، كما قاطعت كل أصحاب محمد، وأمعنت في إيذاء من تستطيع إيذاءه، وبكل صورة وكل أسلوب، وتعملق الاضطهاد قاسياً على هذه الطبقة، فقابلوه بصمود عجيب، وكلما تكاترت المجن، وتواترت الخطوب، تقوت العزائم، وتضخم الصبر وتجلى الثبات.. فتحملت الصفوة الطيبة كل أنواع القسوة، فلم يشكو أحدهم إلى النبي ما يعانوه من الظلم كما لم يظهروا السأم أمامه. فكل شيء في ذات اللّه يهون.

١٧٦

وطرق الخبر أسماع قريش. وهالهم النبأ، فقد هاجر الكثير من صحابة محمد حاملين لواء الدين الجديد. وطاش عقلهم فقد ذهلوا من ترويع ما أُصيبوا به.. فلت المستضعفون، والعبيد من بين أيديهم، وبقي الأقوياء الذين لا سبيل لهم على تعذيبهم وسيكون لهم شأن في الخارج، فأخبار الدعوة تنتشر في الخارج بعد ان كانت محصورة بمكة، وسيعطي المهاجرون عنها صورة رائعة المعالم شأن أي مخلص لقضيته.

وانعقد المجلس في دار الندوة يضم زعماء المعارضة، وكلهم أعصاب متفجرة من توسع هذه الدعوة، ويصرخ فيهم ابو جهل: أرأيتم كيف نجا أصحاب محمد، ولو قتلناهم لما امتد شرهم الى الخارج، لما انتشر خطرهم في تلك الأرجاء، وما ندري ما وراء الأكمة لنا.

وغصّ بكلامه، فقد مضَّ به التأثر بحيث انتفخت أوداجه وجحظت عيناه، ثم انبرى له أمية بن خلف، وجبل من الهم يجثم على ملامحه، وهو يعالج الكلام، وماذا نعمل يا أبا الحكم وقد أُخذنا على حين غرة؟.. أخبرني ولا تلح بالتعزير، وارفق بقومك من اللوم، ما العمل الآن؟ لم نقصر في تعذيب المستضعفين ولم نتهاون في شأن من نتمكن عليه بإنزال أقصى العقوبات، حتى مات من مات، ونجا من نجا.

خيم وجوم على الجالسين، وكلهم لاذوا في تفكير عميق..

١٧٧

وكان جل تفكيرهم بالطريقة التي يمكن استرداد هؤلاء المهاجرين من النجاشي.. وأخيراً انتهى بهم التفكير الى حل.. وصاح بهم ابو سفيان: ما هو الحل يا قوم؟ قالوا: نطلبهم من النجاشي فإن لم يجبنا قاتلناه ونأخذهم بالجبر والقوة.. وضحك عالياً صخر بن حرب من هذا الرأي، وقال لهم: وكيف تفكرون بمثل هذا، وهل اننا نستطيع ان نقاوم ملك الحبشة؟ دعونا من الحرب، وفكروا في طريقة اخرى.

ومضت برهة من الزمن والقوم سكوت، وهم يبحثون عن وسيلة يجتثون بها الخطر الذي ربض لهم في الحبشة، يهدد مصالحهم وأمجادهم البالية.

وأدار صخر بن حرب عينيه المشبعتين بالحقد والشرر في وجوه القوم، فلم ير منهم توصلاً الى حل، وتحدث وهو يدحرج الكلمات الملفعة بالألم والحزن، وكأنه يقتطعها من قلبه، قال: الرأي أن نرسل الى النجاشي وفداً يحمل له الهدايا والتحف ويقنعه على ان هؤلاء المهاجرين بغيتنا، ولنا معهم ثأر، فنطلبهم منه.. ثم سكت قليلاً، وعاود الحديث: وطبعاً هذا الأمر يتوقف - الى حد كبير - على قابلية الوفد، ولباقته، وحسن تصرفه..

وكأن هذا الاقتراح أصاب قبولاً من الجالسين، فصاحوا كلهم: هو الرأي، لا عدمناك يا أبا سفيان، فأنت من يستشار ومن هو أولى منك بالعطف على آلهتنا.

١٧٨

«ما أدري بأيهما أنا أشد سروراً: بفتح خيبر، أم بقدم جعفر»؟.

كانت ساعة رائعة عند النبي، وهو يستقبل الصفوة المؤمنة من صحابته الكرام الذين فارقوه منذ زمان حفاظاً على دينهم وأنفسهم.

ثم مع آل أبي طالب فقبل قليل فتح اللّه خيبراً على يد علي بن أبي طالب بعد ما ارتد عن فتحها أبطال وأبطال، ثم لقاء جعفر بن أبي طالب من هجرته منتصراً على الباطل، وهو يحمل مشعل الإسلام، وفي هذا كله ما يبعث على الاعتزاز.

ولم يكن جعفر بعد عودته من الحبشة، قد اعتزل دنياه البطولية، فقد بدأ دوراً جديداً بعد عودته.. دور القائد الذي يكلف بمهام عسكرية لها أثرها البعيد على امتداد الإسلام، وتوسع آفاقه الرحبة.

فلم تطُل السنة الثامنة من الهجرة - ولم يمر على عودته إلا عام واحد - حتى انتدبه الرسول القائد لمحاربة هرقل ملك الروم في بلاد الشام.. واستعد المسلمون وحان يوم الوداع، وتأهب الجيش، وأعلن النبي عن قادة هذا الجيش: جعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة، وعبد اللّه بن رواحة، يتناوبون على امارة الجيش..

١٧٩

وفي مؤتة من أرض الشام، دارت الحرب حامية تهز الرجال عنيفة تثير الشهامة، وراية محمد ترف بيد الأبطال الثلاثة، لا يهابون الموت، ولا يخافون القتال. وجعفر من القادة الثلاث بطلاً عرفته البطولة كيف تنحاز اليه خاضعة، وشجاعاً مغواراً تمرَّن على تمثيلها خير تمثيل..

وكلما استمر زمن الحرب، حمي وطيسها، وجعفر يحمل راية الإسلام، ويزحف بجيشه، ويغوص في أعماقه، فيجندل هذا، ويهزم ذاك، حتى ضاقت الفرسان منه وصعب عيها أن تشق طريقها بين جثث القتلى، واضطر هو نفسه أن ينزل عن فرسه ليجول بين القوم - فلم تملك الخيل طريقاً تسلكه في ساحة الميدان - غير هياب، ولا متزعزع.. بطل ولا كالأبطال ومحارب ولا كالمحاربين، ورث البطولة من أب وجد، وتمرَّس على الحروب وهو بعد لم يبلغ سن المحاربين، وفوق هذا وذاك انه محارب من أجل عقيدة، ومجاهد في سبيل دعوة عاش أبعادها ووعى حقيقتها.

وقطعت يده اليمنى في ساحة القتال، ولم يشغله أمرها مهما كان الألم الذي هجم عليه، بل همه أن لا تنكس الراية التي يجول بها، وعيون المسلمين مشدودة اليها. وأخذها بشماله، وخاض غمار الحرب، وطاف في خضمها، ولم يأبه بما أصيب، هكذا شأن الأبطال القادة، إنما جلُّ همه أن لا تسقط الراية فاحتضنها.

١٨٠