• البداية
  • السابق
  • 182 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 20320 / تحميل: 6738
الحجم الحجم الحجم
بين يدي الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله

بين يدي الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله الجزء 1

مؤلف:
العربية

من فرسان قريش، على الاصطدام المباشر بالمسلمين، واختار لهذه الغاية: عمرو بن عبد ود بطل بني عامر - وهو من مشاهير العرب - وعكرمة بن ابي جهل، وهبيرة بن ابي وهب بطلي بني مخزوم، وضرار بن الخطاب، أخا بني محارب، وأمثالهم ممن لهم دويّ وسمعة، ودفع هؤلاء ان يمروا على خيام أصحابهم ليدفعوهم على الاستعداد للقتال.. ثم أقبلوا تسرع بهم خيولهم وجالوا حول الخندق، حتى تلمسوا فيه ثغرة فاقتحموا..

وكانت هذه المبادرة قد أرعبت المسلمين. ووقف عمرو بن عبد ود وحوله جماعته يصرخ في المسلمين: هل من مبارز؟

وقف قبالته عدد من المسلمين، ولكن الوجوم خيم عليهم فلم يجبه أحد، وقام علي يطلب من النبي أن يأذن له في مبارزته فيمنعه، وكرر عمرو النداء ثلاثاً، وصار يقول: أين جنتكم التي تزعمون أن من قتل منكم دخلها أفلا يبرز إلي رجل؟.

فأذن النبي إلى علي ليخرج له، وما ان برز اليه، وعينه الكريمة مشدودة إلى ابن عمه، وهو يقول: «برز الإيمان كله إلى الشرك كله».

وتقابل البطلان، علي بن أبي طالب بكل بساطته، يقف في وسط الميدان، وعمرو بن عبد ود لم يترك شيئاً من لباس الحرب إلا وارتداه، وبرز كأنه جبل معلم.

٦١

وبادر بطل المشركين علياً بالسؤال: مَن المبارز؟

- فتى عبد مناف علي بن أبي طالب.

ويهز الفارس المغوار ويرد بصوته الأجش: ولم يا ابن أخي تقتل نفسك ألم يكن لابن عمك غيرك يخرجه لمبارزتي، فواللّه ما أحب أن تكون طعمه لسيفي.

وبكل بطولة وإصرار يقول علي: ولكني واللّه أحب أن أقتلك.

ويشتد الغضب بعمرو، ويهم بالانقضاض على (فتى أبي طالب) فتصدى له أبو الحسن قائلا: يا عمرو إنك كنت تقول لا يدعوني أحد إلى واحدة من ثلاث إلا أخذت واحدة منها.. قال عمرو: أجل. قال علي: فإني أدعوك إلى الإسلام، قال عمرو: لا أريد هذا، فقال علي: أو ترجع إلى بلادك فإن يك محمد صادقاً كنت أسعد الناس به، وإن يك كاذباً كان الذي تريد، قال عمرو: لا اريد هذا أيضاً، فما هي الثالثة؟ قال علي: أدعوك الى النزال راجلاً، فأنت فارس وأنا راجل.. فما كان من عمرو إلا أن عقر فرسه، وضرب وجهه، وأقبل عليه شاهراً سيفه وتقابلا في صراع حامي الوطيس..

وعلى مقربة من المعركة تقف كتلتان: من جهة جماعة عمرو بن عبد ود، وهم ينتظرون انكشاف الغبار، ولا يشكون ان النصر لصاحبهم.. وقبالتهم وقف آخرون، فيهم الخلَّص من

٦٢

أصحاب النبي يتوسطهم سلمان، وأبصارهم شاخصة الى ميدان المعركة، وكلمة الرسول الخالدة ترنُّ في آذانهم، وتملأ آفاقهم «برز الإيمان كله إلى الشرك كله»..

وانكشفت المعركة، وإذا بعلي فوق صدر عمرو يحز رأسه.. روّع المنظر الطرفين ولم يتمالك عكرمة بن ابي جهل إلا أن ألقى رمحه وهرب خائفاً، وتبعه بقيه أصحابه. وكان لهذا الموقف الخاسر أثره الكبير في تضعضع معنويات المهاجمين، وتحطم قوتهم ودب الذعر والخوف مما اضطر أن يفكر أبو سفيان - خوفاً من فرار أصحابه - في المبادرة بالتراجع، أو القتال، فأرسل إلى بني قريظة يقول لهم: إنا لسنا بدار مقام، قد هلك الخف والحافر (الإبل والخيل) فاغدوا للقتال، حتى نناجز محمداً ونفرغ ما بيننا وبينه.. ولكن بني قريظة لم ترغب في إثارة الحرب، بعد أن تحسست تضعضع الجيش المحارب. ولما شعر أبو سفيان بذلك وقف وسط جيشه قائلاً: يا معشر قريش إنكم واللّه ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخف وأخلفتنا بنو قريظة وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من شدة الريح ما ترون، لا يطمئن منها قدر، ولا تقوم لنا نار، فارتحلوا فإني مرتحل.. ثم قام إلى جمله، وهو معقول، فجلس عليه، وضربه فوثب به على ثلاث، فواللّه ما أطلق عقاله إلا وهو قائم.

ولم يكد يبصر به الجيش الغازي حتى تفكك، وأخذ كل

٦٣

يركب دابته ويعود، ولا يلتفت لصاحبه، ولم يمس المساء حتى بدت الصحراء خالية منهم..

وعاد رسول اللّه وأصحابه إلي المدينة، ويلتفت بعض الصحابة لسلمان قائلاً: جزاك اللّه خيراً يا سلمان، لقد حفظت المدينة وجيشنا بالخندق.

وتنازع المهاجرون والأنصار، كل يقول سلمان منا، شخصية فذة (بحر لا ينزف) كما قال عنه علي بن أبي طالب.. لكن الرسول الأعظم ينهي النزاع عن هذا الأمر فيقول:

«لا تقولوا سلمان الفارسي، بل سلمان المحمدي.. وهو منا أهل البيت».

وسام رفيع يناله سلمان من رسول اللّه، ذلك يقول عنه النبي مرة:

«أمرني ربي بحب أربعة، وأخبرني أنه سبحانه يحبهم: علي، وأبو ذر، وسلمان والمقداد».

ويقول النبي: «لو كان الدين في الثريا لناله سلمان».

واستمرت هذه الشخصية الكريمة في ظل رسولها العظيم تستمد من أخلاقه، ما يرفع مجدها، وتعبّ من غيرها بما يبني شخصيتها الإسلامية على أساس متين وصارت لها مكانة في قلب النبي يغبطها عليها الكثير من الصحابة.. تقول عائشة: «كان

٦٤

لسلمان مجلس من رسول اللّه يتفرد به بالليل، حتى كاد يغلبنا على رسول اللّه».

لقد دخل عليه قوم، وهو أمير على المدائن، وكان يعمل الخوص، فقيل له: لم تعمل هذا، وأنت أمير يجري عليك رزق يبلغ خمسة آلاف دينار، فتتصدق به، فقال: إني أحب أن آكل من عمل يدي..

ثم توقف الشيخ أبو معاذ قليلاً، وكفكف دمعة حزن، واستأنف حديثه قائلاً:

رحمك اللّه يا أبا عبد اللّه، فقد قيل له مرة ابن من أنت؟ قال: أنا سلمان ابن الإسلام من بني آدم: كان قوياً في إسلامه، صامداً لعقيدته، مخلصاً لنبيه وآله، وكان واقعياً زهد في الدنيا، يعمل الخوص، ويبيعه فيأكله، ويفترش عباءته لينام، ويباهي بأخلاقه.

وفي العقد الرابع من الهجرة يلبي نداء ربه. وخلف بعده ذكراً خالداً ما دام الزمان.

٦٥

٦٦

الحباب بن عبد اللّه بن أبي

٦٧

وانتشر الظلام في سماء المدينة، وتوافد رواد مجلس الشيخ أبي معاذ الى مجلسهم كالعادة، وهم في شوق لما سيحدثهم في ليلتهم هذه.

وفي تلك اللحظات أقبل الرجل، يحييهم بأحسن السلام والبسمة الهادئة، وبعد استراحة قصيرة بدأ حديثه..

دعا داعي الاسلام في مكة المكرمة، واستقبل الناس - خصوصاً في الجزيرة العربية - هذه الدعوة بكثير من التعصب فقد شقَّ عليهم أن يدعو صبي يتيم لنظام يطيح بكيان آلهتم وينفي جميع مبررات وجودها، فكان من جراء ذلك أن بقي قسم كبير من هذه الزمرة معلنين الحرب الشعواء على المسلمين يسومونهم سوء العذاب، وينكلون بهم أشد التنكيل بدافع من روح عدائية حاقدة، ولاقى المسلمون المخلصون في إسلامهم كل الأذى من هذه الطغمة القاسية التي صهرتها دوافع الضغينة وقسوة المصير.

٦٨

ولكن رغم هذه الصعوبات فالدعوة أخذت بالازدهار وأخذت الجموع تلتف حولها، تؤمن برسالة الاسلام تلك الرسالة التي جاءت لإنقاذ البشرية، مما اضطر البعض من تلك الشراذم أن يسلموا في ظاهرهم، وهم يكتمون في سرهم غير ما يعلنون.

ومن هؤلاء النفر الذين نافقوا في الدين، هو عبد اللّه بن أبيّ بن سلول الانصاري، ذلك الرجل الذي كان سيد الخزرج وكبيرها وشريفها- طبعاً في قاموس الجاهلية - وقد اجتمعت قبيلته على أن يكون زعيمهم ويسندوا اليه أمرهم، ويكون عليهم ملكاً - وذلك قبل بعثة الرسول الأعظم- .

وعندما صرح الرسول بالدعوة، والتف الناس حوله، تهدمت آمال عبد اللّه بن أبي، لقد كانت آمال هذا الرجل واسعة، فقد كان يأمل أن ينال ملك (يثرب) بعد أن دانت له قبيلته وأمرته عليها.

والخزرج: قبيلة يعتد بها، فاذا ما دانت له، واقتنعت بإمرته فلا بد أن يخضع له مما حولها كرهاً أو رضا.

ويشرق نور الاسلام، وتزحف الخزرج الى رسول اللّه، تمد يدها مسلمة لدعوة الحق، ويحسن إسلامها، ويتفرق العدد المرصود من حول هذا الرجل الطامع، فلم يبق له إلا أنفار يستنشق بواسطتهم ريح ملكه المنهار، وسطوته المتداعية على

٦٩

عتبة الاسلام، ويضطر أن يمد يده طائعاً ضامراً الكره الى محمد صلى الله عليه وآله، يبايعه على الاسلام، ولكنه يكتم في قلبه أكثر من موجدة على (فتى هاشم) ودعوته، ولا بد أن ينتقم لمجده السليب.

وعبد اللّه بن أبي - كما تقدم - شريف الخزرج، وكان معروفاً لدى الجميع، وكانوا يعلمون موقفه من الاسلام، لهذا لا نستغرب إذا رأينا داره تصبح بعد زمان قصير موئلاً للمنافقين، والحاقدين على الاسلام، يجتمعون فيها آناء الليل، وأطراف النهار يتهامسون في أمر الدعوة الجديدة، ووضع الحواجز والأشواك في طريقها.

وتجمعت أجهزة السوء يوماً تتداول أمرها وتستعرض الموقف وإذا بابن أبي يطلّ عليها. طلع عبد اللّه بن أبي على جماعته، وهو يأكله الحسد، ويجلجله النفاق، يطوى نفسه على صرخة مكبوتة ولوعة كامنة في أعماقه، ويتحرق ألماً وغيظاً، ويعود الى داره ملتاع الجانب فتستقبله زمرته تخفف منه المأساة.

- أهلاً بأبي الحباب، ماذا وراءك؟

وُيحتقن وجه الرجل، فتغور نظراته، ويتصبب عرقاً وتعلوه صفرة، ويجاهد كتمان صرخة تحاول ان تنطلق من بين أسنانه فيشد عليها بقوة.

وزمرته تلحظ عليه كل هذا، فتتهامس فيما بينها، وتبحث

٧٠

عن السبب، ولكن محاولتهم تذهب سدى، ويلتفت اليه بعضهم يخاطبه:

- ما حلّ بك يا أبا الحباب؟

فيمتعض الرجل، ويزداد ضيقاً، ثم يلتفت اليهم، وصفرة وجهه قد مالت الى الكدرة:

- لا تدعوني بهذا الإسم بعد هذا، لقد هدم شموخي الحباب وخابت آمالي فيه، فلا أرغب به.

وتعلو على الوجه مسحة من تساؤل، لماذا يا ابن أبي؟

- لقد صبا الحباب لدين محمد، وخلص له، وأبدل اسمه بعبد اللّه.

أتريدون أن أعتز بهذا الولد بعد هذه المصيبة؟

وخرست الألسن، وكفوا عن الحديث.

وامتد الزمن، والولد يحظى بالعطف عند الرسول، ويزداد كرهاً لأبيه، الذي ما فتأ يحارب رسول اللّه، ويعلن المعصية عليه في كل مناسبة، وعجز الولد في محاولاته المتكررة لتوجيه والده إلى طريق الصواب، ولم يترك طريقة توصله إلى مرماه إلا وسلكها، ولكن مع الأسف كانت النتيجة الفراق مما اضطر الابن أن يهجر أباه، ويترك داره.

والأب متمادي في غيه لا يرتدع عن عقد الاجتماعات المشبوهة

٧١

- في داره، ضد الإسلام، ولم يرض لنفسه أن يخضع للحقيقة لحظة دون أن يثير المشاكل في طريق المسلمين.

وهاجر رسول اللّه من مكة إلى المدينة، وكان الحباب (عبد اللّه) من جملة الذين لازموا النبي في هجرته، فقد ثقل عليه موقف أبيه، فتركه ولزم نبيه، وكأنه لم يعرف هذا الأب المنكِر والمتنكر للاسلام مما زاد كره عبد اللّه لولده، وأخذ ينتظر الساعة التي يفرغ فيها حقده.

وتبقى في نفس كل من الأب والولد لوعة، ومرارة على الآخر. لقد عز على الولد الذي .سلم فأحسن إسلامه أن يكون أبوه من أشد الحاقدين على الإسلام، وأن يكون مصدراً للأذى والشغب، وسبباً قوياً في عذاب النبي. وكانت هذه الأزرار تثير في نفسه خواطر فتدفعه على الإقدام على قتله وإراحة الاسلام والمسلمين منه، غير أن رسول اللّه - وهو ممثل الانسانية - كان يخفف من برم الحباب إزاء والده، ويطلب منه أن يعامله بالحسنى، وأمر رسول اللّه مطاع ممتثل على كل حال، ويسكت المؤمن على مضض.

ويشرق الاسلام، ويبسط جناحيه على المدينة ويضطر الرجل الحاقد ان يمد يداً غير مخلصة لمحمد، فيسلم ظاهراً، ويعود بعدها لزمرته، فيقول لبعض أصحابه:

- مادت الأرض بي، وأنا أمد يداً لمحمد فأبايعه مكرهاً.

٧٢

ويرد الرجل عليه: وما يضرك منها، ومصلحتك الشخصية اقتضتها.

ويعرف الكل أن ابن أبي مسلم في لسانه، كافر في قلبه.. يتربص الفرصة ليوقع بالاسلام وأتباعه ما يروي حقده الجاهلي.

حتى كانت وقعة بدر فخرج المسلمون، وتخلف (عبد اللّه بن أبي) عن مساندة جيش المسلمين متمارضاً، لقد كان - كما يقولون - مسلماً في لسانه، أما في عمله فهو على الاسلام، ولكن موقف الولد المعتز بالاسلام كان الامثولة الحية، فقد أبلى بلاءً حسناً في ذلك اليوم، وانتهت بدر، وزادت هذه الوقعة والمسلمون منتصرون، من غلواء (عبد اللّه الأب)، وبقي مستمراً في غيِّه وتعنته ضد الاسلام.

وبعد أيام خرج المسلمون لأحُد، والموقف صارم، والحرب على الأبواب، ولاحظ (ابن أبي) الظرف فرآه مناسباً لأحد الثأر من رسول اللّه، فأخد يجول على المسلمين يخذلهم، وتمكن بخبثه من إرجاع الكثير من المسلمين القريبي العهد بالاسلام عن نصرة رسول اللّه حتى حددها البعض بالثلث.

ولوى الحباب - ذلك الرجل المؤمن - رأسه حياءً من هذه الحادثة أمام رسول اللّه، و شهر سيفه في وجه الخزرج، وقاتلهم قتالاً شديداً، مما جلب انتباه النبي فرعاه، وأحسن رعايته وإن كانت صورة أبيه، وموقفه المخزي لم تفارق مخيلته أبداً.

٧٣

وأعلن الرسول صلى الله عليه وآله سنة ست، أو خمس - على اختلاف في التاريخ - عزمه على غزو بني المصطلق، وهم من خزاعة بعد أن وصلت الأخبار، بأنهم عقدوا العزم على قتاله بقيادة الحارث بن ابي ضرار: سيد هذه القبيلة، وكبيرهم.

وبادرهم الرسول، وهم يتوجهون اليه، وكان (المريسيع) - وهو موضع فيه ماء - مركزاً لتقابلهم، وقتالهم.

ولم تمضِ ليلة على العسكرين، حتى أمر الرسول علياً أن يزحف بالراية عليهم، واشتبك الجيشان، ولم تقع خسائر بالأرواح فيها كثيرة، فقد شعر بنو المصطلق بضعفهم فاستسلموا ونقل رسول اللّه أبناءهم وأموالهم، فأفاءهم عليهم.

وكان ابن أبي مع المسلمين الذين خرجوا في هذه الغزوة خرج لا ليدافع، بل ليغنم شيئاً.

ووضعت الحرب أوزارها، وتفرق المسلمون يخففون عن أنفسهم ثياب الحرب وعدّتها، بينما البعض منهم ذهب الى بئر ماء تجمع عليها نفر من المسلمين ليملأوا جرارهم وقرَبهم بما يحتاجون اليه من الماء.

وفي هذه الأثناء يحدث بين شخصين من المسلمين نزاع على الماء وكان أحدهم من المهاجرين، والآخر من الأنصار، وإذا ما

٧٤

اشتد النزاع بينهما، نادى كل منهما أصحابه، وكادت تقع الواقعة بين المسلمين.

وسمع ابن أبي بهذا النبأ فيضطرب ويولول، ثم يصرخ في وجوه الجالسين حوله من الخزرج:

«أوقد فعلوها، قد نافرونا وكاثرونا في بلانا، واللّه ما أعدنا وجلابيب(١) قريش هذه إلا كما قال القائل: (سمن كلبك يأكلك) أما واللّه لئن رجعنا الى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، ثم أقبل على من حضر مجلسه من قومه فقال لهم: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما واللّه لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم، لتحوَّلوا الى غير بلادكم، لقد قلت لكم لا تنفقوا عليهم، لو تركتموهم ما وجدوا ما يأكلون ويخرجوا أو يهربوا».

ثم سكت والحقد يغلي في صدره كأنه المرجل، وانتشر الخبر حتى بلغ مسمع رسول اللّه فتأثر منه غاية التأثر، وطلب البعض من رسول اللّه أن يسمح بقتله، ولكن الوفاء الاسلامي المتجسد في رسول اللّه أبى أن يفعل ذلك بل أراد أن يضرب مثلاً أعلى للإنسانية جمعاء فأجابهم: «إني أكره أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه».

__________________________________

(١) كان المنافقون يسمون المهاجرين: بالجلابيب.

٧٥

واضطر نبي الرحمة وهو بعد لم ينفض يديه من غبار الحرب وفي تلك الظهيرة القاسية، أن يعلن الرحيل، ولم يثنه عن أمره توسل المسلمين بأن يتأخر عن أمره. فإنه صلى الله عليه وآله حاول بأن يسير ليطوي هذا الحديث عن اسماع الناس، ويشغلهم عن التحدث به، والحيلولة دون التمهيد للنتائج الوخيمة المرتبة عليه ان انتشر.

ولملم المسلمون أمتعتهم امتثالاً لأمر رسول اللّه بالسفر، وتقدم اليه شيخ من المسلمين هو أسيد بن خضير يلتمس من النبي أن يؤخر سفره في هذه الساعة التي يصعب بها المشي، وشمس الظهيرة تلفح وجوههم.

ولكن رسول اللّه التفت اليه وقال: أوَ ما بلغك ما قاله صاحبكم؟

- وأي صاحب يا رسول اللّه؟

- عبد اللّه بن أُبيّ.

- وما قال؟

- زعم أنه إن رجع إلى المدينة أخرج الأعز منها الأذل.

- يا رسول اللّه أرفق به. فواللّه: لقد جاء اللّه بك، وأن صحبه لينظمون له الخرز ليتوّجوه، وانه ليرى أنك قد سلبته ملكاً.

ولكن رسول اللّه أصرّ على المسير، ليشغل الناس عن حديث

٧٦

ابن أُبيّ، وأمر الرسول المسلمين بالتوجه إلى المدينة عائدين.

ويتألم الحباب لهذا النبأ، وكاد يصعق لهول ما سمع، ويهرع إلى الرسول، ودموعه تتقاطر على خديه، ويقف قبالته، والألم يعصره عصراً ويقول: يا رسول اللّه بأبي أنت وأمي، أنت واللّه الاعز وهو الأذل، أما واللّه لقد قدمت المدينة يا رسول اللّه وأهل يثرب ليعلمون: ما بها أحد أبر مني، ولئن كان يرضي اللّه ورسوله أن آتيهما برأسه لأتيتهما به، وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل أبي فأقتله فأقتل مؤمناً بكافر فأدخل النار.

فقال رسول اللّه: بل نرفق به ونحسن صحبته معنا.

ولكن عبد اللّه الابن لم يقتنع بهذا، وبقيت كلمة أبيه القاسية تصرخ في أعماقه، وشق عليه هذا الأمر، ولا بد أن يثأر لنبيه وللّه، فكتم في نفسه أمراً، وصمم على تنفيذه.

وفي صباح مشرق كانت فلول المتخلفين تدخل المدينة، وكان شيخ المنافقين ابن أبيّ معهم، وشاهد الناس الحباب بن عبد اللّه ممتشقاً حسامه يقف على عتبة المدينة، والناس لا تعرف من أمره شيئاً، غير أن مظاهر الغضب كانت تثير في المشاهدين أن شيئاً يكتمه الحباب، وسوف ينفجر.

وأقبل ركب المتخلفين تتقدمهم ناقة شيخ المنافقين، فوصل باب المدينة يحاول أن يلجها.

٧٧

فتقدم الحباب وضرب وجه ناقة أبيه بالسيف، فأثناها عن سيرها، وتعجب الناس من هذا الفعل، وصدوره من الابن البار، وصاح به أبوه، ولكن الولد الذي دفعه اخلاصه لدينه لم يأبه لصراخ أبيه، وإنما وقف أمامه وقد شهر سيفه وقال له:

ألست القائل: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل؟

أما واللّه لسوف تعرفن العزة لك، أم لرسول اللّه، واللّه لا يأويك سقف إلا بإذن من رسول اللّه.

واصفرَّ وجه الأب، وكاد يغشى عليه، ماذا يرى، إن ولده يمنعه من دخول المدينة بدافع من إيمانه وعقيدته، وأدار عينيه فيمن حوله فوجد القوم في حيرة وذهول، فصاح مشدوهاً: يا للخزرج ابني يمنعني من بيتي.

وكرر النداء، وصدى النداء يكر راجعاً اليه.

فقد شده الناس هول المنظر، فقال الحباب لأبيه: واللّه لا تأويه أبداً إلا بإذن من رسول اللّه.

وزحف المشاهدون إلى الحباب يلتمسون منه أن يسمح لأبيه بالدخول، فأبى وقال: واللّه لا يدخله إلا بإذن من اللّه ورسوله.

وفشلت جميع المحاولات والتوسلات، فقد أصر الحباب أن يضرب أباه بسيفه لو حاول أن يخطو خطوة واحدة باتجاه المدينة.

٧٨

والأب المنكسر يقف على عتبة البلد، والذل قد كساه خزياً وعاراً، كل شيء كان ينتظره شيخ المنافقين، إلا هذا الموقف لم يحسب له حساباً.

وطال به المقام، كما طال بالمشاهدين الوقوف، ولما أعيتهم الحيلة ولم تنفع التوسلات مع الحباب ركض نفر إلى رسول اللّه ونقلوا له موقف الحباب من أبيه - رأس المنافقين - ذلك الذي نزلت في حقه سورة المنافقين كلها وانزاحت غمامة حزن، كانت قد ألمت بمحيا رسول اللّه، وقال: اذهبوا اليه، فقولوا له: إن رسول اللّه يأمرك بأن تترك أباك ليذهب إلى بيته.

وأخبروه بأمر الرسول. فقال بفخر واعتزاز:

- أما إذا جاء أمر النبي فنعم..

وأرجع حسامه إلى غمده، ورمق أباه بنظرة طويلة فيها كل معاني التحدي والصرامة، وقال له:

- لولا أمر رسول اللّه لما تركتك تدخل بيتك، ولو اجتمعت عليَّ الخزرج برمتها، إلا أن يفل صارمي ويسكت نفسي.

وغض الأب عينيه على حديث ولده، وأرخى عنان ناقته، وسار مخذول الجانب إلى بيته ليتقي فيه عيون الناس التي لاحقته من باب المدينة حتى بيته، وهي كسهام المنية توغر صدره

٧٩

وتذكره بموقفه المخزي، وبطولة ولده في الدفاع عن عقيدته ودينه تلك التي سيمجدها التاريخ مهما طال وامتد.

واستقبل الرسول الحباب مبتسماً، ثم يلتفت الى أصحابه الملتفين حوله فيقول:

«لقد وقف الحباب موقفاً من الاسلام تجلى فيه صدق العقيدة والإيمان. وفق اللّه الحباب، وجزاه عن الاسلام خيراً».

٨٠