الإمام علي الهادي ( عليه السلام ) مع مروق القصر وقضاة العصر

الإمام علي الهادي ( عليه السلام ) مع مروق القصر وقضاة العصر13%

الإمام علي الهادي ( عليه السلام ) مع مروق القصر وقضاة العصر مؤلف:
تصنيف: الإمام علي بن محمد الهادي عليه السلام
الصفحات: 286

  • البداية
  • السابق
  • 286 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 21905 / تحميل: 7969
الحجم الحجم الحجم
الإمام علي الهادي ( عليه السلام ) مع مروق القصر وقضاة العصر

الإمام علي الهادي ( عليه السلام ) مع مروق القصر وقضاة العصر

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

ولك أن تسألني: لِمَ لا يقف الإمام (عليه السلام) من الخلفاء والظّلَمة مثل هذا الموقف..؟ فأُجيبك فوراً: إنّ مثل هذا الموقف ليس من وظيفة الإمام، ولا هو يرضاه من أحد مقرّبيه؛ لأنّ واجبه يتلخّص بحفظ الدّين وبالمحافظة على المتديّنين، وينحصر بدفع أذى الظّلَمة من السلاطين عنهم ليبقى مَن يعبد الله في الأرض حقّ عبادته، ويعتنق شريعته السماويّة المقدّسة التي أنزلها دون زيادةٍ ولا نقصان.

ومثل هذا الموقف يضرّ بالإمام وبأتباعه وأشياعه، فيستأصل الظالم شأفتهم ويقطع دابرهم؛ ولذا كان مأموراً بالصّبر على أذاهم، ليبقى حرّاً في إعلان كلمة الله تعالى في عهدٍ قاسٍ ضالٍّ لا يتورّع السلطان فيه عن قتل النبيّ والوصي في سبيل مُلكه، فصبرهُ على تجرّع الغصص التي كان يعانيها في زمانه مفروض عليه، وملازِم لوظيفته السماويّة..

***

هذا، وإنّ المتوكل كان يرى من دلائل إمامة هذا الشابّ السّريّ صلوات الله عليه ما يُحار به لبّه، ولكن إذا أطاعَ الإنسان شيطانه مرّةً، فانتظِر له أن يجري الشيطان منه مجرى الدّم والنفس في كلّ مرة.. وحينئذٍ ترى لحيته مع لحى (التّيوس).. في قبضة إبليس،.. وتراه يتولّى كِبره ويغلق قلبه دون الكلمة المنصفة، ولا يتحكّم بأذنيه إلاّ الصارفون له عن الحق!

فالآيات كانت تُصابح المتوكل وتماسيه، ومعاجز الإمام (عليه السلام) كانت تسدّ منافذ بصره،.. ولكنّه كان على ضلاله؛ لأنّ الإيمان بالإمام يقضي بزوال مُلكه.. وبزواله!

قال أبو هاشم الجعفريّ رحمه الله:

(كان للمتوكل مجلس بشبابيك كي ما تدور الشمس في حيطانه، وقد جعلَ فيه طيوراً مصوّتةً، فإذا كان يوم السلام جلسَ في ذلك المجلس، فإذا دخلَ إليه أحد لم يُسمع ولم يَسمع ما يقول لاختلاف أصوات تلك الطيور! فإذا وافاه عليّ بن محمدٍ الرّضا (عليه السلام) سَكنت الطّيور جميعاً،.. فإذا خرجَ من باب المجلس عادت في أصواتها!

١٠١

قال: وكان عنده عدّة من القَوابج - الحجل والكروان - في الحيطان - أي في الحدائق - فكان يجلس في مجلس له عال، ويرسل تلك القَوابج تقتتل وهو ينظر إليها ويضحك منها،.. فإذا وافى عليّ بن محمدٍ (عليه السلام) ذلك المجلس، لصقت القوابج بالحيطان فلا تتحرك من مواضعها حتى ينصرف، فإذا انصرفَ عادت في القتال) (١) .

فما أحرى الإنسان بأن يتعلّم الأدب من مثل هذا الحيوان.. يا خليفة الزمان!

أمَا كان الألْيَق بالعاقل أن يتفكّر، ويتدبّر،.. بدل أن يحقد، ويتكبّر؟!

وحقيقٌ بمَن كان يملك رشداً أن يختار لنفسه الأَولى والأحجى،.. ومَن يدّعِ بأنّك لم تدرك هذه الظواهر الغريبة من الطّيور أثناء وجود الإمام (عليه السلام)، نقول له: أخطأتَ في ادّعائك وغَمستَ لقمتك خارج الصّحن؛ لأنّ الطيور المتقاتلة الصاخبة لم يكن ليهدأ صخبها إلاّ بحضرة الإمام، الذي هو حجّة الله على مخلوقاته من الإنس والجنّ وجميع ذوات الأرواح،.. وبمرأى من خليفة المسلمين الذي لم يكن عديم الفهم ولا قليل الإدراك،.. والذي هو من أسرةٍ استعدّت لبني عليّ (عليه السلام)،.. والعدوّ لا يكون صديقاً بوجهٍ من الوجوه! ولكن لِمَ لا يكون مسلماً مُسلِّماً بمشيئة الله وتقديره في خلقه؟! وإذا استعدى لعليّ وبنيه فلِم استعدى لله ولتقديره في مخلوقاته؟!

إنّه خليفة خائب يريد أن ينزع عن الإمام (عليه السلام) ما ألبسهُ الله تعالى من سربال عَظمته وهيبته ووقاره، ويحاول كإنسان أن يقف بوجه إرادة ربّه،.. فانقلبَ حسيراً، بَقيت غصّته في صدره كما بقيت أحقاد آبائه مدفونةً معهم في صدورهم.. وقبورهم!

***

وإليك مكيدةً دبّرها الخليفة وأعوانه في ليلٍ؛ ليمكروا بالإمام (عليه السلام) فتجلّى فيها سرّه الإلهيّ، وقلبَ مَكرهم على رؤوسهم صاعقةً ماحقةً بمعنى المحق الواقعيّ، فإنّ زرافة - حاجب المتوكل - قال:

____________________

(١) بحار الأنوار: ج ٥٠ ص ١٤٨ - ١٤٩، وكشف الغمّة: ج ٣ ص ١٨٤ وباختصار، وهو في مدينة المعاجز: ص ٥٤٩.

١٠٢

(وقعَ عندي رجل مشعوذ يلعب بالحقّة لم يُرَ مثله - والحقة: عُلبة من خشبٍ يضعون فيها شيئاً يراه الناس ويُغلقونها، ثمّ يفتحونها فلا يجدون شيئاً -.

وكان المتوكل لعّاباً - كثير اللعب -، فأراد أن يُخجل عليّ بن محمدٍ بن الرّضا (عليهم السلام)، فقال لذلك الرجل: إنْ أنتَ أخجَلته فلكَ ألف دينارٍ زكيّة.

قال المشعوذ: فتقدّم - أي أعطِ أوامرك - بأن يُخبز رقاق خفاف تُجعل على المائدة، وأقعِدني إلى جنبه،.. ففعلَ.

وأُحضرَ عليّ بن محمد ٍ(عليهما السلام) للطعام، وجُعل له مسورة - متّكأ من جِلد - عن يساره كان عليها صورة أسد، وجلسَ اللاعب إلى جنب المسورة.

فمدّ عليّ بن محمدٍ (عليهما السلام) يده إلى رقاقةٍ - من الخبز - فطيّرها اللاعب في الهواء،.. ومدّ يده إلى أخرى، فطيّرها،.. فتضاحكَ الناس.

فضربَ عليّ بن محمد (عليهما السلام) يده على تلك الصورة - صورة الأسد التي على المسورة - وقال: (خُذ عدوّ الله!

فوثَبت تلك الصورة من المسورة فابتلَعت الرجل اللاعب، وعادت إلى المسورة كما كانت!

فتحيّر الجميع،.. ونهضَ عليّ بن محمدٍ (عليهما السلام) ليمضي، فقال المتوكل: سألتك بالله إلاّ جلستَ ورَدَدته.

فقال: والله، لا يُرى بعدها! أتُسلّط أعداء الله على أوليائه؟)

وخرجَ من عنده، ولم يُرَ الرجل بعد ذلك (١) .

____________________

(١) الأنوار البهيّة: ص ٢٥٣، وكشف الغمّة: ج ٣ ص ١٨٣ - ١٨٤، وبحار الأنوار: ج ٥٠ ص ١٤٦ - ١٤٧ نقلاً عن مختار الخرائج والجرائح: ص ٢١٠، وهو في مدينة المعاجز: ص ٥٤٩ و ص ٥٦٠، وحلية الأبرار: ج٢ من ص ٤٧٣ إلى ص ٤٧٥ بتفصيل.

  وقد حدَثت قصّة مثلها مع جدّه الإمام الرّضا (عليه السلام)، حين سلّط صورة أسَدين كانت على مسند المأمون، فنزلتا وصارتا أسدين حقيقيّين، مَزّقا جسد حميد بن مهران (لعنه الله) حين هَزئ بالإمام، وتحدّى قدرة الله تعالى فيه بين يدي المأمون ووزرائه وقضاته ومجلسه العام. انظر بحار الأنوار: ج ٤٩ ص ١٨٣ - ١٨٤.

١٠٣

وقد رويَت هذه الحادثة في مشارق الأنوار عن البرسي، عن محمد بن الحسن الجهني الذي قال:

(حضرَ مجلس المتوكل مشعبذ هنديّ، فلعبَ عنده بالحُقّ فأعجبهُ، فقال: يا هندي، الساعة يحضر مجلسنا شريف، فإذا حضرَ فالعب عنده ما يُخجله.

قال: فلمّا حضرَ أبو الحسن (عليه السلام) المجلس، لعبَ الهنديّ، فلم يلتفت إليه، فقال له: يا شريف ما يعجبك لعبي؟ كأنّك جائع؟ ثمّ أشار إلى صورةٍ مدوّرةٍ في البساط على شكل الرغيف، وقال: يا رغيف، مُرّ على هذا الشريف،.. فارتفعت الصورة.

فوضعَ أبو الحسن (عليه السلام) يده على صورة سبع في البساط، وقال: (قُم فخذ هذا) فصارت الصورة سَبُعاً وابتلع الهنديّ وعادَ إلى مكانه في البساط!

فسقطَ المتوكل لوجهه، وهربَ مَن كان قائماً) (١).

فسبحان مَن تجلّت عنايته بعبده الصالح الذي اختاره لأمره وقضيّته، وجعله حجةً على بريّته، ونَصرهُ على مَن أرادَ أن ينال من قدسيّته الربّانيّة وينتقص من قدْره في مجالس لهوه وطيشه.

وقد قال جُحا لزوجته: تقولين إنّ القطّ أكلَ اللحم الذي اشتريته، وقد وزنتُ القطّ فكان وزنه بوزن اللحم! فإذا كان هذا القط، فأين اللحم؟ وإذا كان هذا اللّحم، فأين القط؟!

ونحن نقول للمتوكل: وضعَ الإمام (عليه السلام) يده المباركة على صورة الأسد وقال له: (قم فخذ هذا!) فانبعثت الصورة أسداً هائجاً ابتلعَ صاحبك الهنديّ وعادَ إلى مكانه في الصورة،.. فإذا كانت هذه الصورة، فأين هنديّك بجسده ولحمه وعَظمه وهامته؟! وكيف ابتلعته صورة مرسومة على مسندك وغَيّبته بما فيه وبما معه، وجَعلته طيّ العدم، ثمّ عادت صورةً كما كانت؟! وإذا كان الهندي قد تحوّل إلى صورةٍ على بساطك فأين الأسد الزائر الذي أسقطكَ على وجهك هلعاً؟!

____________________

(١) بحار الأنوار: ج ٥٠ ص ٢١١، ومدينة المعاجز: ص ٥٤٧، وانظر حلية الأبرار: ج ٢ من ص ٤٧٣ إلى ص ٤٧٥.

١٠٤

أفلم يظهر لهذا العابث اللاهي - الذي تَسمّى (خليفة المسلمين) - أنّ عمل الإمام (عليه السلام) لم يكن سحراً ولا شعوذة، بل هو آية صَدرت عنه بإذن ربّه لمّا تحدّى الخليفة إرادة ربّه؟! وأنّ مَن نصّب نفسه لإمارة المؤمنين، وقعدَ مقعد سيّد المرسلين، لا ينبغي له أن يتنقّص من آل الله وصفوته وخلصائه؛ فإنّ قدرة الله عزّ اسمه لا يقوم لها شيء،.. ولن تلهينا فاجعتك بالهنديّ يا أمير المسلمين، عن أن نسألك - عمّا هو أهمّ من فاجعتك به - ذلك أنّه كيف تدفع للمشعوذ ألف دينارٍ زكيةً من بيت مال المسلمين، وحولكَ الألوف والألوف من الجوعى والمحرومين من المسلمين؟!

ثمّ تنتقل بنا آلة التصوير إلى فعل الله عزّ وجلّ مع المتوكل نفسه، حين أراد أن يفتري على الإمام وينسب إليه السوء، فقد قال فارس بن حاتم بن ماهويه:

(بَعث يوماً المتوكل إلى أبي الحسن (عليه السلام): أنا راكب فاخرج معنا إلى الصّيد لنتبرّك بك.

فقال - أي الإمام (عليه السلام) - للرسول: (قل له: إنّي راكب.

فلمّا خرجَ الرسول قال - الإمام - لنا: كذب، ما يريد إلاّ غير ما قال.

قلت: يا مولانا، فما الذي يريد؟

قال: يظهر هذا القول - أي التبرّك به - فإن أصابه خير نَسَبه إلى ما يريد بنا ممّا يبعده من الله، وإنْ أصابه شرّ نَسبه إلينا، وهو يركب في هذا اليوم ويخرج إلى الصّيد، فيرد هو وجيشه عَليّ فتزلّ رجله وتتوهّن يداه ويمرض شهراً.

قال فارس: فركب سيّدنا وسِرنا في المركب معه، والمتوكل يقول: أين ابن عمّي المَدني؟ أي الإمام (عليه السلام) الذي لم يدر اسمه على لسان الخليفة فقال: المدنيّ.

فيقال له: سائر يا أمير المؤمنين في الجيش.

فيقول: ألحقوهُ بنا.

١٠٥

وورَدْنا النهَر والقنطرة، فعبرَ سائر الجيش وتشعّثت القنطرة وتهدّمت ونحن نسير في أواخر الناس مع سيّدنا، ورسل المتوكل تحثّه.. فلمّا ورَدْنا النّهر والقنطرة امتنعت دابته أن تعبر، وعبرَ سائر دوابّنا، فأجهدت رسل المتوكل عبور دابّته فلم تعبر، وعبرهُ المتوكل فلحقوا به، ورجعَ سيدنا.

فلم يمضِ إلاّ ساعات حتى جاءنا الخبر أنّ المتوكل سقطَ عن دابّته، وزلّت رجْله وتوهّنت يداه، وبقيَ عليلاً شهراً،.. وعتبَ على أبي الحسن (عليه السلام)، وقال: إنّما رجعَ عنّا لئلاّ يصيبنا هذه السقطة فنشأم به.

فقال أبو الحسن (عليه السلام): صدقَ الملعون، وأبدى ما في نفسه) (١) .

فيا أيّها الملعون على لسان إمامنا الهاشميّ القرشيّ المدنيّ (عليه السلام)، والملعون معك راوي هذه الحادثة الذي أمرَ الإمام بقتله لكفره فيما بعد، إنّنا نقول لك: ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ) (٢) .

فقد انقلبتَ على وجهك عن ظَهر فرَسك، وبؤتَ بعار هذه الآية الكريمة وشنارها، بعد أن توهّنَت يداك ومرضتَ شهراً كاملاً، كما قال أبو الحسن (عليه السلام) حين عَلم ما في نفسك،.. وإنّه لقَذى في عينك وشَجاً في حلقك! وقد رجعَ من رحلتك المشؤومة بسلامٍ بعد أن صدقَ قوله فيك.

وأنت هو ذاك الذي يعبد الله على حرف؛ إذ أضمرتَ إن أصبتَ خيراً أن تتزلّف وترائي وتقول للإمام: هذا ببركتك، وإن أصابكَ شر أن تتشأم به..

ولأنتَ كالمعاندين لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) الذين وصفهم سبحانه بقوله الكريم: ( وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ ) (٣) .

***

____________________

(١) مدينة المعاجز: ص ٥٥٩ - ٥٦٠.

(٢) الحج: ١١.

(٣) النساء: ٧٨.

١٠٦

قال محمد بن مسعود :

(قال يوسف بن السخت: كان عليّ بن جعفر - عمّ جدّ الإمام - وكيلاً لأبي الحسن صلوات الله عليه، وكان رجل من أهل همينيا - قرية من سواد بغداد - قد سعى به إلى المتوكل فحبسهُ فطالَ حَبسه، واحتال - أي قُبلت حوالته كإخلاء سبيله - من قِبل عبد الرحمان بن خاقان بمالٍ ضمنهُ عنه ثلاثة آلاف دينار.

وكلّم - الضامن - عبيد الله بن يحيى بن خاقان - وزير المتوكل - فعرضَ حاله على المتوكل فقال: يا عبيد الله، لو شككتُ فيك لقلتُ إنّك رافضي، هذا وكيل فلانٍ - أي الإمام (عليه السلام) - وأنا على قتله - أي مصمّم على قتله -.

قال: فتأدّى الخبر إلى عليّ بن جعفر - المحبوس - فكتبَ إلى أبي الحسن (عليه السلام): يا سيّدي، الله الله فيّ، فقد والله خفتُ أن أرتاب.

فوقّعَ رقعته: (أمّا إذا بلغَ بك الأمر ما أرى، فسأقصد الله فيك).

وكان هذا في ليلة الجمعة، فأصبحَ المتوكل محموماً،.. فازدادت عليه حتى صرخَ عليه يوم الاثنين - أي أعلنَ قرب احتضاره - فأمرَ بتخلية كلّ محبوس عُرضَ عليه اسمه، حتى ذكرَ هو عليّ بن جعفر وقال لعبيد الله - وزيره -: لِمَ لَم تعرض عليّ أمرهُ؟!

فقال: لا أعود لذكره أبداً - خوف اتّهامه بكونه رافضيّاً -.

قال: خلِّ سبيله الساعة، وسَله أن يجعلني في حِلّ.

فخلّى سبيله، وصار إلى مكّة بأمر أبي الحسن (عليه السلام) مجاوراً بها،.. وبَرئ المتوكل من علّته) (١) .

وقال عليّ بن جعفر بهذه المناسبة:

(عرضتُ أمري على المتوكل فأقبلَ على عبيد الله بن يحيى بن خاقان فقال: لا تتعبنّ نفسك بعرض قصّة هذا وأشباهه؛ فإنّ عمّك أخبرني أنّه رافضيّ وأنّه وكيل عليّ بن محمد،.. وحلفَ أن لا يخرج من السجن إلاّ بعد موته، فكتبتُ إلى مولانا: إنّ نفسي قد ضاقت، وإنّي أخاف الزّيغ.

فكتب إليّ: (أمّا إذا بلغَ الأمر منك ما أرى، فسأقصد الله فيك).

فما عادت الجمعة حتى أُخرجتُ من السّجن) (٢) .

____________________

(١) بحار الأنوار: ج ٥٠ ص ١٨٣ - ١٨٤، ورجال الكافي: ص ٥٠٥.

(٢) بحار الأنوار: ج ٥٠ ص ١٨٤، ورجال الكشّي: ص ٥٠٦.

١٠٧

فهلاًّ اتّعظَ بها الخليفة الغاضب الذي باتَ ليلته مصمّماً على قتله، وأفاقَ على معاناة الحمّى التي كادت تودي بحياته؟! قطعاً، لا.. ومَن لم يكن له من نفسه واعظ، لا تنفعهُ المواعظ،.. وما أبعدَ أرباب الممالك عن ترك جَبروتهم الذي يوردهم المهالك!

***

وحدّث أبو الحسين، سعيد بن سهل البصريّ الذي كان حاجباً للمتوكل، وكان يلقّب بالملاّح، فقال:

(دلّني أبو الحسن، وكنتُ واقفيّاً - وغير قائل بإمامته - فقال: (إلى كم هذه النَومة؟ أمَا آنَ لك أن تنتبه منها؟!) فقدحَ في قلبي شيئاً، وغُشي عليّ، واتّبعتُ الحق) (١) .

ورويَ مثل هذا الخبر عنه نفسه، فقال:

(كان جعفر بن القاسم الهاشميّ البصريّ يقول بالوقف - أي لا يعترف بإمام زمانه - وكنتُ معه بسرّ مَن رأى إذ رآه أبو الحسن (عليه السلام) في الطريق، فقال: (إلى كم هذه النَومة؟ أمَا آنَ تنتبه منها؟!).

فقال لي جعفر: أمَا سمعتَ ما قال لي عليّ بن محمد؟! قد والله وقعَ في قلبي شيء، أي قد تأثّر بقول الإمام له؛ لأنّه عَلم ما في نفسه من الوقْف، رغم أنّه لم يُصرّح بذلك.

فلمّا كان بعد أيام، حدثَ لبعض أولاد الخليفة وليمة، فدعانا إليها، ودعا أبا الحسن معنا، فدخلنا، فلمّا رأوه أنصَتوا إجلالاً له.

وجعلَ شابّ في المجلس لا يوقّره، وأخذَ يتحدّث، ويلغط، ويضحك.

فأقبلَ - الإمام - عليه فقال له: (يا هذا، أتضحك بملء فيك، وتَذهل عن ذكر الله وأنت بعد ثلاثة أيام من أهل القبور؟!).

قال جعفر بن القاسم الهاشمي: فأمسكَ الفتى، وكفّ عمّا هو عليه، وطُعمنا وخرجنا،.. فلمّا كان بعد يوم اعتلّ الفتى؛ وماتَ في اليوم الثالث من أول النهار، ودُفن فيه!) (٢) .

____________________

(١) إعلام الورى: ص ٣٤٦ - ٣٤٧، وكشف الغمّة: ج ٣ ص ١٨٨، وبحار الأنوار: ج ٥٠ ص ١٧٢ و ص ١٨٢ - ١٨٣، ومناقب آل أبي طالب: ج ٤ ص ٤٠٧ وص ٤١٤ - ٤١٥ وص ٤١٦ - ٤١٧، ومدينة المعاجز: ص ٥٤٦.

(٢) انظر مصادر الرقم السابق.

١٠٨

وقبل أيّ تعليقٍ على هذه الآية الكريمة الصادرة عن إمامنا العظيم صلوات الله عليه، نورد للقارئ آيةً مشابهةً لها، رواها سعيد بن سهل البصريّ - أيضاً - فقال:

(اجتمعنا في وليمةٍ لبعض أهل سرّ مَن رأى، وأبو الحسن (عليه السلام) معنا، فجعلَ رجل يعبث ويمزح ولا يرى له جلالة - أي لا يوقِّر الإمام -.

فأقبلَ الإمام على جعفر - بن القاسم الهاشمي - فقال: (أمَا إنّه لا يأكل من هذا الطعام، وسيرِد عليه من خبر أهله ما يُنغّص عليه عيشه).

قال: فقُدِّمت المائدة، وقال جعفر - الواقفيّ -: ليس بعد هذا خبر، قد بطلَ قوله، أي لم يتحقّق ما قاله الإمام، وقد رأى جعفر ذلك بنفسه.. والرجل لا يزال يعبث - فو الله قد غَسل الرجل يديه وأهوى إلى الطعام، فإذا غلامهُ قد دخلَ من باب البيت يبكي وقال له: اِلحَقْ أمّك، فقد وقَعَت من فوق سطح البيت، وهي الموت!

قال جعفر: والله، لا وقفتُ بعد هذا! وقطعتُ عليه) (١) ، اعترَفَ بإمامته (عليه السلام).

فتباركَ ربّك الذي اجتباكَ لعزائم أمره يا أبا الحسن، واصطفاكَ لحَمل الكلمة العظمى والدّعوة الكبرى.

وكم هي ساهرة عينه سبحانه على كرامتك يا وليّه في أرضه!

فكثيراً ما حاولوا النّيل من جاهكَ عند الله، فتلقّاهم ربّك بقاصمةٍ قطعت منهم حبل الوريد، ولَوت عُنق كلّ جبّارٍ عنيد!

وخسئَ شاب غرّ، أو رجل عابث، أن يتطاولا إلى سامي المرتبة التي رتّبكَ الله تعالى فيها، وخسرَ مَن ناواكَ خسراناً عظيماً، وضلّ مَن ضَلّ عن عيبة علمك وجزيل فضلك ضلالاً مبيناً..

وبقيتَ أنت أنت في سموّ معناك وفي سموّ ذاتك،.. سفيراً لله، مُحصَّناً من لدُنه،... يسند ظهره إلى ركنٍ ركين..

***

وروى الفحّام، عن أبي الحسن محمد بن أحمد، عن عمّ أبيه، قائلاً:

____________________

(١) المصدر السابق.

١٠٩

(قصدتُ الإمام (عليه السلام) يوماً فقلت: يا سيّدي، إنّ هذا الرجل - أي المتوكل؛ لأنّ العمّ المذكور من حجّابه - قد أطرَحني وقطعَ رزقي، ومَلّني، وما أُتّهم في ذلك إلاّ عِلمه بملازَمتي لك، وإذا سألته شيئاً منه يلزمه القبول منك، فينبغي أن تتفضّل عليّ بمسألته.

فقال: (تُكفى إن شاء الله.

فلمّا كان في اللّيل طرَقني رُسل المتوكل رسول يتلو رسولاً، فجئتُ والفتح بن خاقان على الباب قائم، فقال: يا رجل ما تأوي في منزلك بالليل؟! كدَّني هذا الرجل - أي المتوكّل - ممّا يطلبك.

فدخلتُ وإذا المتوكّل جالس على فراشه، فقال: يا أبا موسى، نشغل عنك وتُنسينا نفسك؟ أيّ شيءٍ لك عندي؟

فقلت: الصّلة الفلانيّة والرّزق الفلانيّ، وذكرتُ أشياء فأمرَ لي بها وبضعفها!

قلت للفتح: وافى علي بن محمد إلى ههنا؟

فقال: لا.

فقلت: كتبَ رقعة؟!

فقال: لا.

فولّيتُ منصرفاً، فَتبعني فقال لي: لستُ أشكّ أنّك سألتهُ دعاء لك، فالتمِس لي منه دعاءً.

فلمّا دخلتُ إليه (عليه السلام)، قال لي: يا أبا موسى، هذا وجه الرّضا.

فقلت: ببركتك يا سيّدي، ولكن قالوا لي: إنّك ما مضيتَ إليه، ولا سألته!

فقال: إنّ الله تعالى عَلم منّا أنّا لا نلجأ في المهمّات إلاّ إليه، ولا نتوكّل في الملمّات إلاّ عليه، وعوّدَنا إذا سألناه الإجابة، ونخاف أن نعدل فيعدل بنا.

قلت: إنّ الفتح قال لي كيت وكيت - أي طلبَ اِلتِماس دعاء -.

قال: إنّه يوالينا بظاهره، ويجانبنا بباطنه، الدّعاء لِمن يدعو به - أي تابع لحال الداعي - إذا أخلصتَ في طاعة الله، واعترفتَ برسول الله (صلّى الله عليه وآله) وبحقّنا أهل البيت، وسألتَ الله تبارك وتعالى شيئاً لم يحرمك.

قلت: يا سيّدي، فتُعلّمني دعاءً أختصّ به من الأدعية؟

قال: هذا الدعاء كثيراً ما أدعو الله به، وقد سألتُ الله أن لا يُخيّب مَن دعا به في مشهدي بعدي، وهو هذا:

١١٠

يا عدّتي عند العدد، ويا رجائي والمعتمد، ويا كهفي والسّند، ويا واحد يا أحد، يا قل هو الله أحد، أسألك اللّهمّ بحقّ مَن خلقتهم من خلقك ولم تجعل في خلقكَ مثلهم أحداً، أن تصلّي عليهم وتفعل بي كيت وكيت) (١) .

فمذ أراد أبو الحسن (عليه السلام) الفرج لصاحبه المظلوم الذي يتولاّه، قضى الله تعالى له المراد، فقد عوّده سبحانه الجميل؛ لأنّه لا يصانع غير وجهه الكريم - أكرم الوجوه - ولا يطرق إلاّ بابه، ولا يلجأ في مهمّاته وملمّاته إلاّ إلى حضرة قدسه التي لا ينطق إلاّ بأمرها، ولا يعمل إلاّ بوحيها وإلهامها.

أفرأيتَ أيّها المتوكل.. كيف يُديل الله تعالى أولياءه من أعدائه؟! وشعرتَ كيف بَدّل سبحانه غَضبك وسخطك على الرّجل باعتذارٍ منك له عن تقصيرك بحقّه، فاندفعتَ تُضاعف له عطاياه وصِلاته؟! غَيرك يحسّ، ويتدبّر،.. وأنت سادر في نشوة الحُكم والمكث في قصر (إمارة المؤمنين)، الذي انقلبَ بوجودك إلى ماخورٍ تنبعث منه روائح الخمر، والفسق، والدّعارة، والفجور..

***

وفي المعتمد في الأصول، قال عليّ بن مهزيار:

(وردتُ العسكر وأنا شاكّ في الإمامة، فرأيتُ السلطان قد خرجَ إلى الصّيد في يوم من الربيع إلاّ أنّه صائف، والناس عليهم ثياب الصيف، وعلى أبي الحسن (عليه السلام) لُبادة وعلى فرَسه تجفاف لبود، وقد عقدَ ذنَب الفرس والناس يتعجّبون ويقولون: ألا ترون إلى هذا المَدنيّ وما قد فعلَ بنفسه؟!

فقلت في نفسي: لو كان هذا إماماً ما فعلَ هذا.

فلمّا خرجَ الناس إلى الصحراء، لم يلبثوا إلاّ أن ارتفعت سحابة عظيمة هطلت، فلم يبقَ أحد حتى غرقَ بالمطر، وعادَ (عليه السلام) وهو سالم من جميعه! فقلت في نفسي: يوشك أن يكون هو الإمام،.. ثمّ قلتُ: أريد أن أسأله عن الجُنُب إذا عرقَ في الثوب، فقلتُ في نفسي: إنْ كشفَ وجهه فهو الإمام.

____________________

(١) بحار الأنوار: ج ٥٠ ص ١٢٧ - ١٢٨، ومناقب آل أبي طالب: ج ٤ ص ٤١٠ - ٤١١، باختصار آخره، وهو في مدينة المعاجز: ص ٥٤٢.

١١١

فلمّا قرُب منّي كشفَ وجهه ثمّ قال: (إن كان عَرقَ الجنُب في الثوب وجنابته من حرام لا يجوز الصلاة فيه، وإن كان جنابته من حلال فلا بأس).

فلم يبقَ في نفسي بعد ذلك شبهة) (١) .

ولن نتجاوز هذه الحادثة قبل أن نشير إلى أنّ هذا (المَدني) سلام الله عليه وتحيّاته، كان وحده - من بين الخارجين في موكب السلطان - إماماً عالِماً بما يكون، عارفاً بكلّ خطوةٍ يخطوها، وبكلّ ما يدور حوله من أحداثٍ طبيعيّة ومصطنعةٍ، معرفةً أُوتيها من ربّه سبحانه الذي أكرمهُ ونعّمه، وأطلعهُ على تقديره وتدبيره، وعرّفه ما تكِنّ نفس كلّ إنسان وما يجيش بضميره؛ ليكون حجّة له تعالى على خلقه، وشاهداً على عباده، ولولا ذلك لمَا لبسَ اللّباد ولا وضعَ على فرسه التّجفاف، ولا كشفَ عن وجهه لعلي بن مهزيار، ولمَا أفتاه بحُكم عَرق الجنُب من غير أن يسأله.

هكذا يكون الإمام المنتجَب من ربّه،.. ومَن لم يكن كذلك فليس بإمام!

***

وشبيه بذلك ما حدّث به عليّ بن يقطين بن موسى الأهوازي، إذ قال: (كنتُ رجلاً أذهب مذاهب المعتزلة، وكان يبلغني من أمر أبي الحسن، عليّ بن محمدٍ، ما أستهزئ به ولا أقبله، فدَعَتني الحال إلى دخولي بسرّ مَن رأى للقاء السلطان، فدخَلتُها، فلمّا كان يوم، وعدَ السلطان الناس أن يركبوا إلى الميدان.

فلمّا كان من الغد ركبَ الناس في غلائل القصب - أي الملابس الناعمة من الكتان، وتُلبس تحت الثياب - بأيديهم المراوح - لشدّة الحرّ - وركبَ أبو الحسن (عليه السلام) في زيّ الشتاء وعليه لُباد وبُرنُس، وعلى سرجه تجفاف طويل، وقد عقدَ ذَنبَ دابّته والناس يهزءون به وهو يقول: ( إنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ) ؟ ! (٢) .

____________________

(١) بحار الأنوار: ج ٥٠ ص ١٧٣ - ١٧٤، ومناقب آل أبي طالب: ج ٤ ص ٤١٣ - ٤١٤، ومدينة المعاجز: ص ٥٥٣.

(٢) هود: ٨١.

١١٢

فلمّا توسّطوا الصحراء، وجاوزوا الحائطين، ارتفعت سحابة وأرخت السّماء عزالَيها، وغاصت الدّوابّ إلى رُكَبها في الطّين ولوّثتهم أذنابها، فرجعوا في أقبح زيّ ورجعَ أبو الحسن (عليه السلام) في أحسن زيّ، ولم يُصبه شيءٍّ ممّا أصابهم، فقلتُ: إن كان الله عزّ وجلّ أطلعهُ على هذا السّرّ فهو حجّة.

ثمّ إنّه لجأ إلى بعض السقائف، فلمّا قرب نحّى البُرنس وجَعلهُ على قربوس سرْجه ثلاث مرّات - وكنتُ قد نويتُ أن أسأله عن عَرق الجنُب أيُصلّى فيه أم لا؟ - ثمّ التفتَ إليّ وقال: (إن كان من حلالٍ فالصّلاة في الثوب حلال، وإن كان من حرامٍ فالصلاة في الثوب حرام..).

فصدّقته وقلت بفضله ولزمته) (١) .

فلِمَ لبسَ الإمام اللّباد والبُرنس في يوم شامسٍ حارٍّ، ظهرَ فيه الناس بغلائل الحرير والقصب وحَملوا المراوح؟ ولِمَ لفتَ نظر الجميع بوضع التّجفاف على سَرج دابّته وعقدَ ذَنبها، مع علمه بأنّ ذلك يجلب النّقد والتعجّب؟

إنّه فعلَ ذلك على رؤوس الأشهاد، وفي ذلك الموكب العظيم؛ ليُظهر علمه ويفضح جهلهم به وبحقّه،.. وليُقبّح ما هم عليه من عنادٍ ومكابرةٍ ومكايدةٍ لاختيار الله تعالى واصطفائه،.. وليُنادى في ذلك الحشد الكثير: حيّ على خير العمل،.. الذي يتجسّد بالإمام قولاً وعملاً بلا مشاحّةٍ وبلا نزاع!

وإنّ الإمام الذي يعلم ما يعتمل في نفس ابن مهزيار - الشاكّ بإمامته - وما في نفس ابن يقطين - المعتزليّ - ويجيبهما على سؤاليهما، اللّذين لم يبوحا بهما لأحد - أقول: إنّ هذا الإمام (عليه السلام) ليقدّم الدليل القاطع على إمامته لِمن كان يُلقي السمع وهو شهيد.

____________________

(١) بحار الأنوار: ج ٥٠ ص ١٨٧ - ١٨٨، ومدينة المعاجز: ص ٥٥٣.

١١٣

معَ زور القصر وإفك قُضاة العصر

نذكر فيما يلي طائفةً من افتراءات أهل قصر الإمارة وقضاته على الإمام (عليه السلام)، وردوده الحكيمة البليغة، وفتاواه التي مَسحت زورهم وإفكهم، ومسخت قضاتهم حين تسوّروا محراب قدس الله تعالى بالنّيل من كرامة عبده المجتبى لحفظ شريعته وحَمل أمره.

ونحن لا نبالغ إذا قلنا: إنّ العباسيّين قد لبسوا ثوب الدّين لبس الفرو مقلوباً، وساروا من حيث انتهى الأمويّون في ارتكاب المنكرات والبعد عن الدّين والديّان!

فالأمويّون - بالحقيقة - متزعّمون جاهليون، وخصماء تقليديون للهاشميين ولعترة النبيّ صلوات الله عليه وعليهم بالخصوص، تحكّموا برقاب العباد - لمّا نزلت الكُرة في مضربهم - على أساس أنّه:

لَعبتْ هاشم بالمُلك فلا

خبرٌ جاء ولا وحيٌ نَزَل

وكانوا مع الهاشميين على خطّين متوازيين لا يلتقيان، أو بالأحرى على خطّين متعاكسين لا يزالان يتباعدان،.. وما على الجاهليّ إن عيّرتهُ بعدم الالتزام بالدّين؟!

أمّا العباسيّون، فقد جاءوا إلى الحُكم تحت ظلّ دعوة رفْع الحيف عن الدّين وعن الهاشميين، وليعيدوا الحقّ إلى العلويّين، ولكنّهم حين وصلوا إلى عرش المُلك فاقوا أسلافهم ظلماً وجوراً وبُعداً عن الدّين، وتنكيلاً بذريّة سيّد المرسلين (صلّى الله عليه وآله)، حتى لتحسب أنّهم على غير ملّته وعلى غير شريعته، وأنّهم لم يؤمنوا بما جاء به عن ربّه، ولم يُصدّقوا شيئاً ممّا قاله!

فقد كان هَمّ كلّ عباسيّ واهتمامه ينحصران في إذلال أولياء الله، والحطّ من كرامة عباده الصالحين، لا بباعث شهوة التشفيّ، كما فعلَ الأمويّون ثأراً لرؤوس الضلال من عتاتهم الّذين قَتلهم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، بل بشهوة إقامة مُلكٍ ظالم ذاقوا حلاوة التسلطّ فيه، فأقاموه على أشلاء كلّ ذي كرامةٍ، وكلّ ذي حقّ من أهل الحقّ، ليتمرّغوا في نعيمه ليس إلاّ!

فهل هذا هو عدل الإسلام يا خلفاء المسلمين؟

١١٤

لا، طبعاً.. ولكن لِمَ خَرست الألسن عن نزع هالة تقديسكم المزوّرة حتى أيامنا هذه، مع أنّ الحقّ لا يَحجِبهُ الرّكام مهما تطاولت الأيام؟!

عِلمُ ذلك عند شهداء الزّور من الذين مَجّدوكم ولبسوا الإسلام لبس الفرو مقلوباً إرضاءً لكم: كقضاة الزّور، وكوزراء وولاة الجَور، وكالمؤرّخين المأجورين الذين رضوا بشهوتَي البطن والفرْج، وكالخطباء والشعراء والكتّاب الذين ألهاهم عن الحقّ ذَهَبكم الوهّاج أو السّوط و(الكرباج)! يليهم المستشرقون الدسّاسون الّذين أطنبوا في مدح كلّ سلطان جبّارٍ ابتدع طريقةً يخالف فيها طرائق الإسلام،.. ويمدّهم أعداء الدّين من الشرق ومن الغرب الذين خلّدوا ذكر كلّ حائدٍ عن الإسلام، واعتبروه مجدّداً لشكل الدولة والحُكم، ومنشئاً لسلطانٍ حديثٍ يماشي روح العصر!

***

وفي هذا الفصل نعرض للقارئ شيئاً من تعدّيات الحكّام، وبعض أذنابهم، على كرامة الإمام (عليه السلام)، ونعطي صورةً عن مضايقاتهم التي كانت تهدف إلى إحراجه، والتغلّب على واضح برهانه وجليّ بيانه، وحقّه الصّراح الذي يعرفونه وينفسون به عليه.

قال أبو يعقوب البغداديّ:

(قال المتوكل لابن السكّيت (١) : سَل ابن الرّضا مسألةً عوصاء بحضرَتي؟

____________________

(١) ابن السكّيت: هو يعقوب بن إسحاق النحوي المعروف المتوفّى سنة ٢٤٥ هـ، وكان سبب موته: أنّه دعاه المتوكل فقال له: أيّهما أحبّ إليك: المعتزّ والمؤيّد، أو الحسن والحسين؟ فتنقّص ابن السّكّيت ابنَي المتوكل، وذكرَ الحسن والحسين (عليهما السلام) بما هما أهل له، فأمرَ الأتراك فداسوا بطنه فحُمل إلى داره فماتَ رحمه الله.. انظر التاريخ الكامل لابن الأثير: ج ٥ ص ٣٠٠، وتجد حديثه مع الإمام (عليه السلام) في الكافي: م ١ ص ١٢٤ أيضاً.

١١٥

فسألهُ؟ فقال: لِمَ بعثَ الله موسى بن عمران (عليه السلام) بالعصا واليد البيضاء وآلة السّحر، وبعثَ عيسى (عليه السلام) بإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بآلة الطّب، وبعثَ محمداً (صلّى الله عليه وآله) بالقرآن والسيف؟!

فقال أبو الحسن (عليه السلام): (بعثَ الله موسى (عليه السلام) بالعصا واليد البيضاء في زمان الغالب على أهله السّحر، فأتاهم من عند الله بما قهرَ سحرهم وأثبتَ الحجّة عليهم.

وبعثَ عيسى (عليه السلام) بإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله، في زمان الغالب على أهله الطبّ - في وقتٍ ظهرت فيه الزّمانات والآفات التي يصعب برؤها - فأتاهم من عند الله بما لم يكن عندهم من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله، فقهرَهم وبهرهم.

وبعثَ محمداً (صلّى الله عليه وآله) بالقرآن والسيف في زمانٍ الغالب على أهله السيف والشِّعر، فأتاهم من القرآن الزاهر، والسيف القاهر، ما بهرَ به شِعرهم، وبهرَ به سيفهم، وأثبتَ الحجّة عليهم.

فقال ابن السّكّيت: تالله، ما رأيتُ مثلك قط! فما الحجّة على الخَلق الآن؟

قال (عليه السلام): العقل يُعرف به الصادق فيصدّقه، والكاذب على الله فيكذّبه).

فقال ابن السّكّيت: هذا هو والله الجواب) (١) .

____________________

(١) المصدر السابق.

١١٦

فبُهت الخليفة ومَن حوله من الذين يعيشون على معتلفه؛ لأنّهم كانوا يريدون من السائل أصعب من هذه المسألة، ويبتغون أن يُعيوا الإمام ويقطعوه عن الجواب ويناقشوه ويفحموه؛ ولذا فإنّه لمّا خرجَ الإمام (عليه السلام) من المجلس، رفعَ الجرذ الأكبر رأسه وتنحنح وترنّح، وتشجّع وتبرّع بنصيحة سيّده الذي في نعمته يتمرّغ،.. أعني به يحيى بن أكثم (١) الذي كان يقضم مال الله، ويحكم بغير ما أنزل، والذي قال للمتوكل: ما لابن السّكيت ومناظرته؟! وإنّما هو صاحب نحوٍ وشِعرٍ ولغة..

ثمّ انتفجَ ونفجَ حضنه وأخذَ قرطاساً وأثبتَ فيه مسائل.

ثمّ حاصَ وباص وحارَ ودار،.. ولم يتجرّأ أن يُبادِ بها الإمام سلام الله عليه، فأعطاها لموسى المبرقع (٢) - وهو أخو الإمام - وسألهُ الفتوى بها، قاصداً بذلك إحراج الإمام دون غيره قطعاً..

فقد قال موسى بن محمد بن الرّضا (عليه السلام) - وهو المبرقع -: (لقيتُ يحيى بن أكثم في دار العامّة فسألني عن مسائل، فجئتُ إلى أخي عليّ بن محمدٍ (عليهما السلام) فدارَ بيني وبينه من المواعظ ما حَملني وبصّرني طاعته، فقلت له: جُعلت فداك، إنّ ابن أكثم كتبَ يسألني عن مسائل لأفتيه فيها.

فضحكَ (عليه السلام) ثمّ قال: (فهل أفتَيتَه؟

قلت: لا، لم أعرفها.

قال (عليه السلام): وما هي؟

قلت: كتبَ يسألني عن قول الله: ( قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ.. ) (٣) نبيّ الله كان محتاجاً إلى علم آصف؟

وعن قوله: ( وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً... ) (٤) سجدَ يعقوب ووِلده ليوسف وهم أنبياء؟

____________________

(١) في سنة ٢٤٠ هـ، عُزِل يحيى بن أكثم عن القضاء، وقُبض منه ما مبلغه خمسة وسبعون ألف دينار وأربعة آلاف جريب في البصرة، كما في الكامل لابن الأثير: ج ٥ ص ٢٩٤، وهذه هي نوعيّة قضاة الشرع الذين كانوا يأكلون مال الله ومال عباده.

(٢) وقيل أعطاها لابن السّكّيت، فأملَى الإمام (عليه السلام) أجوبتها عليه، وما ذكرناه هو الأصح.

(٣) النمل: ٤٠.

(٤) يوسف: ١٠٠.

١١٧

وعن قوله: ( فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ.. ) (١) مَن المخاطَب بالآية؟ فإن كان المخاطَب النبيّ (صلّى الله عليه وآله) فقد شكّ! وإن كان المخاطَب غيره فعلى مَن إذاً أنزلَ الكتاب؟

وعن قوله: ( لَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ ) (٢) ما هذه الأبحر، وأين هي؟

وعن قوله: ( فِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ.. ) (٣) فاشتهت نفس آدم (عليه السلام) أكل البُرّ، فأكلَ وأُطعم (وفيها ما تشتهي الأنفس) فكيف عُوقِب؟

وعن قوله: ( أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً ) (٤) يزوّج الله عباده الذّكران، وقد عاقبَ قوماً فعلوا ذلك؟ أي قوم لوط.

وعن شهادة المرأة جازت وحدها وقد قال الله: ( وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ ) (٥) .

وعن الخنثى وقول عليّ (عليه السلام): (يورّث من المَبال)، فمَن ينظر إذا بالَ إليه، مع أنّه عسى أن يكون امرأة وقد نظرَ إليها الرجال، أو عسى أن يكون رجلاً وقد نظرت إليه النساء، وهذا ما لا يحلّ، وشهادة الجارّ إلى نفسه لا تُقبل..

وعن رجل أتى إلى قطيع غنم فرأى الراعي ينزو على شاةٍ منها، فلمّا بصرَ بصاحبها خلّى سبيلها، فدخَلَت بين الغنم، كيف تُذبح، وهل يجوز أكلها أم لا؟

وعن صلاة الفجر لِمَ يُجهر فيها وهي من صلاة النهار، وإنّما يُجهر في صلاة الليل؟

وعن قول عليّ (عليه السلام) لابن جرموز: (بشِّر قاتل ابن صفيّة بالنار)، فلِمَ لم يقتله وهو إمام؟

وأخبِرني عن عليّ لِمَ قَتلَ أهل صِفّين وأمرَ بذلك مقبلين ومدبرين وأجهزَ على الجرحى، وكان حكمه يوم الجَمل أنّه لم يَقتِل مولّياً ولم يَجهز على جريحٍ ولم يأمر بذلك وقال: (مَن دخلَ داره فهو آمِن، ومَن ألقى سلاحه فهو آمن!) لِمَ فعلَ ذلك؟ فإن كان الحكم الأول صواباً، فالثاني خطأ!

وأخبِرني عن رجلٍ أقرّ باللّواط على نفسه، أيُحدّ أم يُدرأ عنه الحدّ؟

____________________

(١) يونس: ٩٤.

(٢) لقمان: ٢٧.

(٣) الزخرف: ٧١.

(٤) الشورى: ٥٠.

(٥) الطلاق: ٢.

١١٨

قال (عليه السلام) لأخيه موسى: اُكتب.

قلت: وما أكتُب؟

قال (عليه السلام): اُكتب:

بسم الله الرّحمن الرّحيم: وأنتَ فألهمكَ الله الرّشد،.. أتاني كتابك فامتحَنتَنا به من تَعنّتك لتجد إلى الطّعن سبيلاً إن قصّرنا فيها، والله يكافيك على نيّتك! وقد شَرَحنا مسائلك، فأصغِ إليها سَمعك، وذلِّل لها فهمك، وأشغِل بها قلبك، فقد لزَمتك الحجّة، والسلام.

سألتَ عن قول الله جلّ وعزّ: ( قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ ) (١) فهو آصف بن برخيا، ولم يعجز سليمان (عليه السلام) عن معرفة ما عرفَ آصف، ولكنّه أحبّ أن يُعرّف أمّته من الجنّ والإنس أنّه الحجّة من بعده، وذلك من علم سليمان (عليه السلام) أودعهُ آصف بأمر الله، ففهّمه ذلك؛ لئلاّ يختلف عليه في إمامته وولايته من بعده، ولتأكيد الحجّة على الخلق.

وأمّا سجود يعقوب (عليه السلام) لولده، فإنّ السجود لم يكن ليوسف، وإنّما كان ذلك من يعقوب ووِلده طاعة لله تعالى، وتحيّة - ومحبّة - ليوسف (عليه السلام)، كما أنّ السجود من الملائكة لم يكن لآدم (عليه السلام)، وإنّما كان ذلك طاعة لله ومحبّةً منهم لآدم، فسجود يعقوب ووِلده ويوسف معهم كان شكراً لله باجتماع الشّمل، ألم تر أنّه يقول في شكره في ذلك الوقت: ( رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ ) ؟ (٢) .

____________________

(١) النمل: ٤٠.

(٢) يوسف: ١٠١.

١١٩

وأمّا قوله: ( فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ ) (١) ، فإنّ المخاطَب بذلك رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ولم يكن في شكّ ممّا أنزلَ الله إليه، ولكن قالت الجهَلة: كيف لم يبعث نبيّاً من الملائكة؟ ولِمَ لَم يُفرّق بينه وبين الناس في الاستغناء عن المأكل والمشرب والمشي في الأسواق؟ فأوحى الله إلى نبيّه (صلّى الله عليه وآله): ( فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ ) بمحضرٍ من الجهَلة: هل بعثَ الله نبيّاً قبلك إلاّ وهو يأكل الطعام ويشرب الشراب؟ ولكَ بهم أسوة يا محمّد،.. وإنّما قال: ( فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ ) ولم يكن - أي والحال أنّه (صلّى الله عليه وآله) لم يكن في شكّ - ولكن للنّصفة، كما قال: ( فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) (٢) ولو قال: تعالوا نبتهل فنجعل لعنة الله (عليكم) لم يكونوا يجيبوا إلى المباهلة، وقد عَلمَ الله أنّ نبيّه مؤدّ عنه رسالته وما هو من الكاذبين، وكذلك عَرّف النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بأنّه صادق فيما يقول، ولكن أحبَّ أن ينصف من نفسه.

وأمّا قوله: ( وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلامٌ... ) (٣) فهو كذلك، لو أنّ شجر الدّنيا أقلام، والبحر مِداد يمدّه سبعة أبحُر حتى انفجرت الأرض عيوناً كما انفجَرت في الطوفان، ما نَفدت كلمات الله!! وهي عين الكبريت، وعين اليمن، وعين برهوت، وعين طبريّة، وحَمّة ما سيدان، وحَمّة أفريقيا (تُدعى بسيلان) وعين باحوران.

ونحن الكلمات التي لا تُدرك فضائلنا، ولا تُستقصى.

____________________

(١) يونس: ٩٤.

(٢) آل عمران: ٦١.

(٣) لقمان: ٢٧، وفي مناقب آل أبي طالب: ج ٤ ص ٤٠٤: أنّ يحيى بن أكثم سألَ أبا الحسن (عليه السلام) عن قوله: ( سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ ) قال: (وهو كذلك..) إلخ، وكذلك في الاحتجاج: ج ٢ ص ٤٥٤.

١٢٠

وأمّا الجنّة، ففيها من المأكل والمشرب والملاهي وما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين، وأباحَ الله ذلك كلّه لآدم، والشجرة التي نهى الله آدم عنها وزوجته أن يأكلا منها، شجرة الحسد، عهدَ الله إليهما أن لا ينظرا إلى مَن فضّل الله عليهما وعلى خلائقه بعين الحسد ( فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ) (1) ونظرَ بعين الحسد.

وأمّا قوله: ( أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً ) (2) أي يولد له ذكور، ويولد له إناث يقال كلّ اثنين مقرنَين: زوجان، كلّ واحدٍ منهما زوج - يعني يزوّجهم: يجعلهم أزواجاً: توائم حين يولدون، لا بمعنى الزواج والنّكاح - ومعاذَ الله أن يكون الجليل العظيم عنى ما لبّستَ على نفسك بطلب الرّخص لارتكاب المحارم ( وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً ) (3) إن لم يتب.

ولا يخفى أنّ يحيى بن أكثم قصدَ اللّواط والسّحاق: أي تزويج الذَكر من الذَكر، والأنثى من الأنثى، يريد بذلك أن يُبرّر لواطه بما لبّسه على نفسه.

فأمّا شهادة امرأةٍ وحدها التي جازت، فهي القابلة التي جازت شهادتها مع الرضا، فإن لم يكن رضاً فلا أقلّ من امرأتين، تقوم المرأتان بدل الرجل للضرورة؛ لأنّ الرجل لا يمكنه أن يقوم مقامها، فإنْ كانت وحدها قُبل قولها مع يمينها.

وأما قول عليّ (عليه السلام) في الخنثى، فهو كما قال: يرِث من المَبال، ويَنظر إليه قوم عدول يأخذ كلّ واحدٍ منهم مرآةً وتقوم الخنثى وراءهم عريانةً، ويَنظرون إلى المرآة - للمرأة الخنثى - فيرونَ الشيء ويَحكمون عليه.

____________________

(1) طه: 115.

(2) الشورى: 50.

(3) الفرقان: 69 و70.

١٢١

وأمّا الرجل الناظر إلى الراعي وقد نزا على شاةٍ، فإنْ عَرفها ذَبحها وأحرقها، وإن لم يَعرفها قسّمها الإمام نصفين - أي قسّم الغنم كلّه - وساهمَ بينهما، فإن وقعَ السهم على أحد القسمين فقد انقسمَ النّصف الآخر، ثمّ يُفرّق الذي وقعَ عليه السهم نصفين فيُقرع بينهما، فلا يزال كذلك حتى يبقى اثنتان فيُقرع بينهما، فأيّتها وقعَ السهم عليها ذُبحت وأُحرِقت، وقد نجا سائرها، وسهم الإمام سهم الله لا يخيب.

وأمّا صلاة الفجر والجهر فيها بالقراءة؛ لأنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) كان يغلّس بها - يُبكّر والظلام مستحكم - فقراءتها من الليل.

وأمّا قول أمير المؤمنين: بشِّر قاتل ابن صفيّة بالنّار (1) ، فهو لقول رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وكان - ابن جرموز - ممّن خرجَ يوم النهروان، فلم يقتله أمير المؤمنين (عليه السلام) بالبصرة؛ لأنّه عَلِم أنّه يُقتل في فتنة النهروان.

____________________

(1) هو الزّبير بن العوّام بن خويلد بن أسد بن عبد العزّى القرشي، وهو ابن صفيّة بنت عبد المطّلب، عمّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، كما أنّه ابن أخي خديجة بنت خويلد (رضي الله تعالى عنها) التي هي زوج الرسول (صلّى الله عليه وآله).

وقد شهدَ حرب الجَمل وقاتلَ فيها عليّاً (عليه السلام)، فذكّره بقول رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إليه: (لتقاتلنّه وأنتَ له ظالم)، فذكرَ ذلك وانصرف عن القتال، فنزلَ بوادي السّباع فأتاه ابن جرموز، فقتلهُ وجاء بسيفه ورأسه إلى عليّ (عليه السلام) فقال: (هذا سيف طالما جَلا الكرب عن وجه رسول الله (صلّى الله عليه وآله)! بشِّر قاتل ابن صفيّة بالنّار)؛ وذلك أنّ ابن جرموز استأذنَ في الدخول على عليّ (عليه السلام)، فلم يأذن له وقال للآذن ذلك القول، فقال ابن جرموز:

أتيتُ عليّاً برأس الزبير

أرجو لديه به الزّلفة

فبشّر بالنّار إذ جئته

فبِئس البشارة والتّحفة

وسيّان عندي قَتل الزّبير

وضرطة عنز بذي الجحفة

١٢٢

وأمّا قولك: إنّ أمير المؤمنين قاتلَ أهل صِفّين مُقبلين ومُدبرين وأجهَزَ على جريحهم، وأنّه يوم الجَمل لم يتّبع مولّياً ولم يَجهز على جريحهم، وكلّ مَن ألقى سيفه وسلاحه آمَنه؛ فإنّ أهل الجمل قُتل إمامهم ولم تكن لهم فئةً يرجعون إليها، وإنّما رجعَ القوم إلى منازلهم غير محاربين ولا مخالفين ولا منابذين، ولا محتالين ولا متجسّسين ولا مبارزين.

فقد رضوا بالكفّ عنهم إذ لم يطلبوا عليه أعواناً، وأهل صِفّين يرجعون إلى فئةٍ مستعدّةٍ وإمام منتصبٍ يجمع لهم السلاح من الرّماح والدّروع والسيوف، ويستعدّ لهم، ويسني لهم العطاء، ويهيّئ الأموال، ويعود مريضهم، ويجبر كبيرهم، ويداوي جريحهم، ويحمل راجلهم، ويكسو حاسرهم، ويردّهم فيرجعون إلى محاربتهم وقتالهم! فإنّ الحُكم في أهل البصرة الكفّ عنهم لمّا ألقوا أسلحتهم؛ إذ لم تكن لهم فئةً يرجعون إليها، والحُكم في أهل صفّين أن يتّبع مُدبرهم، ويجهز على جريحهم، فلا يُساوى بين الفريقين في الحُكم، ولولا أمير المؤمنين (عليه السلام) وحُكمه في أهل صِفّين والجَمل، لمَا عُرف الحُكم في عُصاة أهل التوحيد، لكنّه شرحَ ذلك لهم، فمَن أبى عُرض على السيف أو يتوب من ذلك.

وأمّا الرجل الذي أقرّ باللّواط، فإنّه أقرّ بذلك متبرّعاً من نفسه، ولو لم تقم عليه بيّنة ولا أخذه سلطان، وإذا كان للإمام الذي من الله أن يعاقِب في الله، فله أن يعفو في الله، أمَا سمعتَ الله يقول لسليمان: ( هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (1) فبدأ بالمنّ قبل المنع.

قد أنبأناك بجميع ما سألتنا عنه، فاعلَم ذلك) (2) .

____________________

(1) ص: 39.

(2) بحار الأنوار: ج 50 من ص 164 إلى ص 172، ومناقب آل أبي طالب: ج 4 من ص 403 إلى ص 405، وتُحف العقول: من ص 476 إلى ص 481، وحلية الأبرار: ج 2 من ص 441 إلى ص 446.

١٢٣

(فلمّا قرأه ابن أكثم - فشّ انتفاخه وهزلَ ورَمه - وقال للمتوكل: ما نحبّ أن تسأل هذا الرجل عن شيءٍ بعد مسائلي؛ فإنّه لا يرد عليه شيء بعدها إلاّ دونها، وفي ظهور علمه تقوية للرّافضة) (1) .

أفرأيتَ قاضي السلطان الذي كان يبيع آخرته بدنياه كيف نصحَ ربّه الأرضيّ، ولو أغضبَ ربّ السماوات والأرضين؟!

ورأيتَ كيف ينثال العلم على لسان الإمام الشابّ الذي ينحدر كالسّيل ولا يرقى إليه الطّير؟!!

وشاهَدَت عيناك منظر المجلس المخزي الذي تقوقعَ فيه فقيه السّوء بين يدي (ربّه)، الذي تقوقعَ أيضاً رغم جبروته وفرعنته؟!

إذا كنتَ قد لمست شيئاً من ذلك، فأنتَ إذاً في الطريق نحو معرفة ما يكون عليه الإمام من العلم الموهوب، والفضل الربّانيّ، والتسديد الإلهيّ، والكرامة العلويّة، والحصانة السماويّة، التي تلازمه طيلة حياته كالظّل.

فعلمُ أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) من علم الله تعالى اللاّمحدود،.. فهو غير محدود.

ومَن جرّب أن يقطعهم بمسألة عوصاء يا أيّها الخليفة الأحوص الألوص، قطعَ الله تعالى لسانه، وقصمَ ظهره , وأمّا أنت يا قاضي البلاط الخلاّط فقط مددتَ عنقك بالأمس نحو الإمام الجواد أبي إمامنا الهادي (عليه السلام) في مجلس المأمون، فلواها ودقّها ومزّقها، وأزالَ ما حاكَ حولك إبليس.. من تقديس.. أفلا ارعويت؟!

علماء أهل بيت النبيّ صلوات الله عليه وعليهم، يغترفون من بحر،.. فما شأن مَن يرتشف قطرة بمنقاره يا بومة القصر؟!

وهم آل القرآن والبيان والأحكام،.. يتهاوى تحت أقدامهم مَن لا يَعرف لِمَ وُضِعت الألف في أوّل حروف الهجاء، ثمّ وضِعت ثانية مع اللام - ألف - في آخرها..

والعيرُ البسيط يحيد عن الجدار إذا ارتطمَ به حِمله أوّل مرّة،.. فما بال القاضي العبيط،.. الرّبيط على معلف السلطان، ينزل إلى الميدان ولو زلّ حافره في كلّ مرّة؟!

***

____________________

(1) المصدر السابق.

١٢٤

وفي ذلك العهد المليء بالخلافات الدينيّة والنزاعات المذهبيّة، العامر بالجدل والنّقاش حول كثير من المسائل التي تمسّ العقيدة في أصول الدّين وفروعه، وفي خَلق القرآن وقِدَمه، وتشمل ما لا يحصى من الفتن الطائفيّة والمشاكل السياسيّة، كان السلطان ومَلأه المأجورون يتحدّون الله تعالى في خلقه، ويقصدون الإمام بالأذيّة ويتآمرون عليه وينصبون له الفخاخ ليوقعوه في زلّة لسان - جلّ عنها - ويدبّرون له المكائد و ( يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ ) (1) ويحصيه عليهم، ثمّ ( وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) (2) فيزداد طغيانهم وتتزايد مضايقتهم لوليّه وحجّته وعينه الساهرة، وكلمته العليا التي تفضح باطلهم،.. ولا يزدادون إلاّ مكراً كبّاراً، وعناداً واستهتاراً بكل ما نزلَ من السماء!

فمِن فِتنهم اللّئيمة: أنّهم كانوا يقفون في وجه ترسّله (عليه السلام) عنه كل لقاء، ويستثيرونه بمناسبةٍ وبلا مناسبة،.. ولكن أنّى لهم أن ينتصروا على الله، حين يتصدّون لإذلال مجتباه ومرتضاه!

قيل للمتوكل - بافتراءٍ سافلٍ خبيثٍ -: (إنّ أبا الحسن، يعني عليّ بن محمد بن عليّ الرّضا يفسّر قول الله عزّ وجلّ: ( وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ ) (3) في الأول والثاني..

قال: فكيف الوجه في أمره؟

قالوا: تَجمع له الناس وتسأله بحضرتهم، فإن فَسّرها بهذا كفاك الحاضرون أمره، وإن فسّرها بخلاف ذلك افتضحَ عند أصحابه.

قال: فوجّه إلى القضاة، وبني هاشم، والأولياء.

وسُئل (عليه السلام)، فقال: (هذان رجلان كنّى عنهما، ومَنّ بالسّتر عليهما، أفيُحبّ أمير المؤمنين أن يُكشف ما سترهُ الله)؟

فقال: لا أحبّ) (4) .

____________________

(1) النساء: 108.

(2) البقرة: 15.

(3) الفرقان: 27.

(4) بحار الأنوار: ج 50 ص 214 نقلاً عن كتاب الاستدراك عن ابن قولويه.

١٢٥

.. وبار ما هم فيه، وفضحَ الله سبحانه تآمرهم الباطل لمّا وضَعَهم الإمام (عليه السلام) في موقف خصومةٍ مع الله عزّ اسمه! فإن رغبوا في كشف ما سترهَ الله تعالى كانوا كافرين،.. وإن سَكتوا ورضوا بقول الإمام ( فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ ) (1) وطارت فِرْيتهم مع النّسر الطائر.

أمّا نصّ الآيتين الشريفتين فهو: ( وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً ) والرجلان اللّذان كنّى سبحانه عنهما هما المعنيّان بلفظتَي: الظالم، وفلاناً ، وهو جلّ وعزّ لم يُسمّهما ولا أشارَ إليهما بشيء مميّزٍ لأحدهما أو لكليهما، وتفضّلَ بعدم التصريح باسميهما تكرّماً منه من جهة، وليُعلّمنا أدب الحديث وحسن الكناية في الأمور العامة والخاصة من جهة ثانية، فجاء بهذا السّتر على (الظالم) الذي لم يتّخذ سبيل الرسول (صلّى الله عليه وآله)، واتّبع (فلاناً) الذي أضلّه عن سبيل ربّه وسبيل رسوله الكريم، ودفعَ به في سبيلٍ آخر لا يُرضي الله تعالى ولا رسوله.

فالكناية تتناول (الظالم) الذي سترَ عليه ربّه، وكلّ ظالم يسلك طريقاً غير طريق ربّه ونبيّه بدافع من صديقه أو قريبه، أو أسرته أو عشيرته، أو ما يمكن أن نسمّيه (فلاناً) أو فُلَيتاناً،.. فليس في الآيتين أيّ تصريح بأحدٍ بالعين والذات، ولا أيّ تلميح بذلك الظالم وذلك الفلان، وجواب الإمام (عليه السلام) هو جواب الله تعالى من فوق عرشه؛ ولذلك أسكتَ به الخليفة الذي ربّما كان كذلك (الظالم) أو كان مندرجاً تحت العنوان، وكمّ أفواه القضاة وبني هاشم والأولياء الذين ربّما كان يندرج بعضهم تحت عنوان (فلان)، وبُهت كلّ مفترٍ سَمع بذلك أو يسمع به فيما بعد؛ لأنّه يضع نفسه موضع خصومة مع الله، واعتراضٍ على قوله الحكيم.

____________________

(1) الأعراف: 118 و119.

١٢٦

هذا، وإنّ الكشف عمّا سترهُ الله جلّ وعلا لا يجوز؛ لأنّه لو شاءَ الكشف أو رضيَ به لكشفَ هو ولكانَ الحريّ بالتصريح، الجدير بالمبادهة، الأجرأ على فضح ما عَلِم، الأقدر على ذرّ الرّماد في عيون الظالمين والفلانيّين،.. فكيف يجوز أن نخالف صريح ما أنزلَ سبحانه في كتابه الكريم، وفصيح ما نَطقَت به الآيتان الكريمتان؟!

ويا خليفة المسلمين، متى كان الفقه المزوّر الذي يَسنّه الحاكم الظالم، قادراً على أن يكفيك أمره إمام يحمل ما سَنّه الحاكم العدل تبارك وتعالى؟ وهل يستطيع الفقه (الموجّه) أن يخوض في آيات الله ويؤوّلها برأيه بمحضر ترجمان القرآن العالِم بسنّة نبيّ الرحمان؟ لقد جرّبتَ أنت وأسلافك، وجرّكم فقهاء السوء إلى كل موبقةٍ فما اتّعظتم،.. وكان الأحجى أن تتفكّروا وتتدبّروا.. ( أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) (1) ؟!.

***

قال أبو عبد الله الزبادي: (لمّا سُمّ المتوكل نذرَ إن رزقهُ الله العافية أن يتصدّق بمالٍ كثير.

فلمّا عوفيَ اختلفَ الفقهاء في المال الكثير، فقال له الحسن - حاجبه -: إنْ أتيتك يا أمير المؤمنين بالصواب، فما لي عندك؟

قال: عشرة آلاف درهم، وإلاّ ضَربتُك مئة مقرعة.

قال: قد رضيت.

فأتى أبا الحسن (عليه السلام) فسألهُ عن ذلك؟ فقال: (قل له يتصدّق بثمانين درهماً.

فأخبرَ المتوكل، فسألهُ ما العلّة؟

فأتاه فسأله؟ قال (عليه السلام): إنّ الله تعالى قال لنبيّه (صلّى الله عليه وآله): ( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ) (2) فَعدَدنا مواطن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فبلَغت ثمانين موطناً).

____________________

(1) محمد: 24.

(2) براءة: 25.

١٢٧

فرجعَ إليه فأخبرهُ، ففرحَ وأعطاه عشرة آلاف درهم) (1) .

فللّه هذه البديهة العجيبة التي تعطي صورةً واضحةً عن غزير علم الإمام الذي أخذَ الحكم من الآية الكريمة؛ لأنّ الله عزّ اسمه لم يضع في كتابه الكريم شيئاً إلاّ ولهُ مدلول خاصّ أو عام، وقد أنزلَ سبحانه عبارة ( مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ) في الآية منزل (ثمانين موطناً)،.. فتباركَ الذي اصطفاه حجّةً على الخلق، ولم يُغيّب عنه حُكماً ولا حَجب علماً.

ولو اجتمعَ مع الخليفة وزراؤه وقُضاته وسائر المستكبرين، على قطع الإمام سلام الله عليه بمسألة ما قطعوه، ولا وصلوا إلى إدراك ما هو عليه من العلم والفضل؛ لأنّ عِلمه من علم الله تعالى الذي لا ينفد، وفضله عطاء إلهيّ وعطاء الله تعالى ليس له حد،.. ولكنّهم لا يريدون أن يستوعبوا هذا المعنى فيه سلام الله عليه، ولا في نيّتهم أن يعترفوا بما خَلعه الله سبحانه عليه من عَظمته التي لا يقوم لها شيء، بالغاً ما بلغَ ذلك الشيء من الجبروت والاستكبار، فقد انتدَبه تعالى لأن يكون أحد حَمَلة أحكامه في الأرض، وجَعله الناطق بكتابه وبسنّة نبيّه دون سائر مَن لاث عمامةً، وأسبلَ لحيةً عريضةً، ولبسَ ثوباً دينيّاً فضفاضاً، وتصدّى للحكم في الدّماء والأموال والأعراض!

***

____________________

(1) بحار الأنوار: ج 50 ص 162 - 163، ومناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 402، والاحتجاج: ج 2 ص 453 - 454، وتحف العقول: ص 481، وفي الكافي: م 1 ص 463 عن علي بن إبراهيم، عن أبيه بلفظ آخر.

وفي معاني الأخبار: ص 218 روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال في رجل نذرَ أن يتصدّق بمالٍ كثير: الكثير: (ثمانون فما زاد؛ لقول الله تبارك وتعالى: ( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ) وكانت ثمانين موطناً). وهو في تذكرة الخواص: ص 374 مرويّ عن يحيى بن هرثمة مع زيادة (حيث أكرمَ المتوكل الإمام (عليه السلام) وأرسلَ له مالاً جزيلاً يتصدّق به هو أيضاً بما أحبّ). وهو في حلية الأبرار: ج 2 ص 447 - 448 مع فرق بسيط.

١٢٨

وقال جعفر بن رزق الله: (قُدّم إلى المتوكل رجل نصرانيّ فجَرَ بامرأةٍ مسلمةٍ، فأراد أن يُقيم الحدّ عليه فأسلَم، فقال يحيى بن أكثم: الإيمان يمحو ما قبله، قد هدّمَ إيمانه شِركه وفِعله، وقال بعضهم: يُضرب ثلاثة حدود،.. وقال بعضهم: يُفعل به كذا وكذا،.. فكتبَ المتوكل إلى عليّ بن محمدٍ يسأله.

فلمّا قرأ الكتاب كتبَ: (يُضرب حتى يموت.

فأنكرَ يحيى، وأنكرَ فقهاء العسكر ذلك فقالوا: يا أمير المؤمنين، سَله عن ذلك؛ فإنّه شيء لم ينطق به كتاب ولم يجئ به سنّة.

فكتبَ إليه: إنّ الفقهاء قد أنكروا هذا وقالوا: لم يجئ به سنّة ولم ينطق به كتاب، فَبيِّن لنا لِمَ أوجبتَ علينا الضرب حتى يموت؟

فكتبَ إليه: (بسم الله الرّحمن الرّحيم ( فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا... )) (1) .

قال: فأمرَ المتوكل فضُرِب حتى مات) (2) .

فيا قُضاة الأثواب الزاهية المعطّرة، ما أدراكم بما نطقَ به الكتاب وجاءت به السُنّة وأنتم في حالة تخمةٍ من أطايب الطعام، جَعلت أفكاركم تختبط وعقولكم تختلط؟! ولكأنّي بأثوابكم لم يفُح منها شذى الطّيب والعطر بعد أن غَرقت بعرَق الخيبة والفشل، وانتشرَت منها روائح الكروش التي يتكدّس فيها الحرام يوماً بعد يوم، حين نزلَ حُكم الله تعالى على رؤوسكم نزول الصاعقة الماحقة! فقوموا بروائح نتن جهلكم الذي تريدون أن تقابلوا به عِلم الله المتجلّي على لسان عبده الصادع بأمره الناطق بوحيه.

لقد غَلطتم جدّاً حين اعتمدتم على أنّ القاضي إذا أصابَ فله حَسنتان، وإذا أخطأ فله حَسنة؛ لأنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) قال:

____________________

(1) الآيتان في غافر: 84 – 85، وانظر الاحتجاج: ج 2 ص 454، وبحار الأنوار: ج 50 ص 172، ومناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 405 - 406، وحلية الأبرار: ج 4 ص 447.

(2) المصدر السابق.

١٢٩

(مَن أفتى الناس بغير عِلم، فليتبوّأ مقعدهُ من النّار) (1) ، فالحَسنتان عند إصابة الحُكم، والحَسنة عند الخطأ، مشروطة بالعلم وموازين الحُكم وكيفية استنباطه من القرآن والسُنّة وفْق قواعد أصوليةٍ، وأوامر فقهيةٍ يقطع بموجبها الحاكم في حكمه،.. وإلاّ فلا حُكم ولا حاكم في ميزان الشرع الشريف عند مَن يَحكم بغير علمٍ ولا فقهٍ وعَينُه على الرّغيف!

وعن موسى بن بكر أنّ أبا الحسن (عليه السلام)، قال: (مَن أفتى الناس بغير علم، لعَنَته ملائكة الأرض وملائكة السماء) (2) .

وإنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) حين ولّى القضاء لشريح قال: (يا شريح، قد جلستَ مجلساً لا يجلسه إلاّ نبيّ، أو وصيّ نبيّ، أو شقيّ) (3) ؛ وبناءً على ذلك لا يكون القضاء في الدين - بعد وفاة النبيّ - إلاّ للإمام، أو لنوّابه من العلماء المجتهدين الذين يستنبطون الأحكام الشرعيّة من أدلّتها القطعيّة - من الكتاب والسُنّة -.

وهيهات أن تجد مَن كانت عنده هذه المَلَكة من آلاف وآلاف المعمّمين، الذين يَعرف (العالِم) منهم بعض فتاوى الشرع، ويجهل أدلّتها تمام الجهل! فوقوفكم في وجه فقه الإمام (عليه السلام) وفضله وولايته، مصداق لقوله عزّ وجلّ: ( أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ - وهو الإمام - كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ ) (4) وهم أنتم وجميع مَن لفّ لفّكم من عبيد البطون والفروج ولذائذ الحياة.

وأنتَ يا سلطان هذه الزّمرة المزيّنة لك حُسن ما أنت فيه، تسمع وترى،.. وتستحقّ الشفقة - لو كانت تجوز عليك الشَفقة -؛ لأنّك محاط بأبالسةٍ موسوسين يعِجّ بهم قصرك، والواحد منهم يكفي لإطغاء المرء وإلباسه ثوبه مقلوباً،.. ولكنّك شيخهم، وأصابعك تُحرّكهم وتُملي لهم، وطَمَعهم بما في يديك من المال والجاه يَجتذبهم كما يجتذب الطعام الدّسم أفواج الذّباب.

____________________

(1) الوسائل: م 18 ص 16.

(2) المصدر السابق.

(3) الوسائل: م 18 ص 7.

(4) محمد: 14.

١٣٠

ويا فضيلة قاضي قضاة السلطان، ويا زملاءه الذين أنكروا حُكم الإمام، قد جاء في الخبر الصحيح عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قوله: (القضاة أربعة: ثلاثة في النار، وواحد في الجنّة:

رجل قضى بجورٍ وهو يعلم، فهو في النّار.

ورجل قضى بجورٍ وهو لا يعلم، فهو في النّار.

ورجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم، فهو في النّار.

ورجل قضى بالحقّ وهو يعلم، فهو في الجنّة) (1) .

وقد روى أنس بن مالك أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال:

(لسانُ القاضي بين جمرتين من نارٍ حتى يقضي بين النّاس، فإمّا إلى الجنّة، وإمّا إلى النّار) (2) ( فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ) (3) يا يحيى بن أكثم، ويا جميع المائلين عن الحقّ المجانبين للإمام المفترض الطاعة!.

***

أجل، كان المتوكل على حقده، ومع هؤلاء وأمثالهم يعمل جاهداً في إطفاء نور الله في إمامنا الشابّ، الذي رصَدته القدرة الإلهيّة لهداية النّاس وإحقاق الحقّ وإبطال الباطل،.. وسَها عن باله أنّ حربه كانت حرباً لمشيئة الله عزّت قدرته، وتعدّياً على أوليائه، وانتهاكاً لحرماته،.. وغابَ عن ذهنه أنّه أعجَز من أن يطفئ نور الشمس، وأنّه لا يَخرق الأرض ولا يبلغ الجبال طُولاً، وأنّ له من واسع سلطانه موضع قبر ليست رقدته فيه بمريحة، وأنّه تأمّر على المسلمين باسم الإسلام وكان يجتهد في الكيد لنَقَلة الشّرع وتراجمة الوحي،.. ثمّ استجازَ لنفسه اختيار الوزير، والمشير، والقاضي، والموظّف ليوطّدوا له سلطانه،.. ووقفَ في وجه اختيار الله سبحانه لواحدٍ من خلفائه في أرضه وملكوته الواسع!!

____________________

(1) الوسائل: م 18 ص 11.

(2) الوسائل: م 18 ص 157.

(3) طه: 72.

١٣١

وأنا لا أعرف كيف كان هو وأسلافه يُعلّلون حربهم الشعواء لأهل بيت النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، وهم يحكمون باسمه ويدّعون أنّهم على دينه الذي جاء به عن ربّه! ولم أهتدِ إلى تبرير لعداوتهم الضارية لأهل الدّين، وهم (أمراء مؤمنين)! ولا أعرفُ لهم عذراً بين يدي سلطان السلاطين في قَتل أبناء عليّ سوى إطفاء نور الله في مَن خُلِقوا من نوره!

***

لقد نزلَ هذا المتوكل مع الشيطان إلى الدّرك الأسفل من الضّعة، وسَلكَ مسلك أبناء الأزقّة في محاولاته الدنيئة للتصغير من مقام أبي الحسن الهادي (عليه السلام)، فما ازدادَ إلاّ رفعةً وكرامةً؛ لأنّه لا واضِعَ لِما رفعَ الله، ولا رافِع لِما وضَعهُ سبحانه،.. فقد قال أبو الطّيب المثنّى يعقوب بن ياسر (المديني):

(كان المتوكل يقول: ويحَكم، قد أعياني أمر ابن الرّضا، وجهدتُ أن يشرب معي وينادِمني، فامتنعَ، وجهدتُ أن أجد فرصةً في هذا المعنى فلم أجدها!

فقال له بعض مَن حضر: إن لم تجد من ابن الرّضا ما تريده في هذه الحال، فهذا أخوه موسى المبرقع قصّاف عزّاف - أي شارب للخمر، لاهٍ بآلات الطرب - يأكل ويشرب، ويعشق ويتخالع، فأحضِره وأشهِره؛ فإنّ الخبر يشيع - يُسمع - عن ابن الرّضا بذلك، فلا يُفرّق الناس بينه وبين أخيه، ومَن عَرفه اتّهم أخاه بمثل فعاله.

فقال المتوكل: اكتبوا بإشخاصه مكرّماً، وجيئوا به حتى نُموِّه به على النّاس ونقول: ابن الرّضا.

فكتبَ إليه فأُشخص مكرّماً،.. فتقدّم المتوكل - أي أمرَ - بأن يتلقّاه جميع بني هاشم، والقوّاد، وسائر الناس، وعملَ على أنّه إذا وافى - وصلَ - أقطِعه قطيعة - وَهبهُ ضيعة يأكل غلّتها - وبنى له فيها وحوّل إليه الخمّارين والقِيان - المغنّيات - وتقدّم بصِلته وبِرّه وأفردَ له منزلاً سريّاً - عليّاً - يصلح أن يزوره هو فيه.

١٣٢

فلمّا وافى موسى تلقّاه أبو الحسن (عليه السلام) في قنطرة وصيف - وهو موضع يتلقّى فيه القادمون - فسلّم عليه ووفّاه حقّه، ثمّ قال له: (إنّ هذا الرجل - أي المتوكل - قد أحضركَ ليهتِك أمرك ويَضَع منك، فلا تقرّ له أنّك شربتَ نبيذاً قط، واتّق الله يا أخي أن ترتكب محظوراً - محرّماً -

فقال له موسى: وإنّما دَعاني لهذا، فما حيلتي؟!

قال (عليه السلام): فلا تَضع من قَدرك، ولا تعصِ ربّك، ولا تفعل ما يشينك، فما غرضهُ إلاّ هَتكك.

فأبى عليه، فكرّر عليه أبو الحسن القول والوعظ، وهو مقيم - مصمّم - على خلافه..

فلمّا رأى أنّه لا يجيب قال: أمَا إنّ المجلس الذي تريد الاجتماع معه عليه، لا تجتمع أنت وهو أبداً)!

قال: فأقام موسى ثلاث سنين يُبكّر كلّ يوم إلى باب المتوكل، فيقال له: قد تشاغلَ اليوم فرُحْ، فيروح، ويُبكّر فيقال له: قد سكرَ، فبكّر، ويُبكّر فيقال له: قد شربَ دواءً، فما زال على هذا ثلاث سنين حتى قُتل - المتوكل - ولم يجتمع معه على شراب!) (1) ، فمن أهمّ آيات الإمام (عليه السلام) في هذه المناسبة: أنّه أخبرَ أخاه بعدم التوفيق للاجتماع مع الخليفة على مائدة شرابٍ،.. فكان كما أخبر..

ومن المفروض - مبدئياً - أن يقيم خليفة المسلمين الحدّ على شارب الخمر!

والمأمول منه أن لا يشربها هو على الأقل إذا فَسدت رعيّته بأكملها!

فما بال هذا الخليفة يشربها ويدعو إليها؟!.. وسَلوه معي: لِمَ أعياه أمر ابن الرّضا (عليه السلام)، ولم يَعيه إقامة حدود الله وإشاعة العدل في سلطانه؟!

أوَ لم يكن الأجدر به أن يجتهد في رفع قدر نفسه إلى موازاة قدر مَن هو أرفع منه وأشرف؛ ليكون لائقاً بإمارة المؤمنين؟!

____________________

(1) الإرشاد: ص 312، وكشف الغمّة: ج3 ص 171، وإعلام الورى: ص 345 - 346، وبحار الأنوار: ج 50 ص 159 - 160، والكافي: م 1 ص 502، ومناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 409 - 410، ومدينة المعاجز: ص 541، وحلية الأبرار: ج 2 ص 458 - 459.

١٣٣

وهلاّ كان عليه أن يجاهد نفسه في محاولة ترك السُّكر وارتكاب المعاصي والآثام،.. وهو يدّعي اعتناق الإسلام، ويتقمّص خلافة النبيّ (صلّى الله عليه وآله)؟! وما بالهُ لم يُتعب نفسه في تقوى الله وامتثال أوامره بمقدار ما امتثلَ أمر نفسه الأمّارة بالسوء، وأمره الهمّازين المشّائين الذين قادوه بلحيته إلى حتفٍ فَتحَ عليه باب آخرةٍ لا أسوأ ولا أشدّ عذاباً منها؟!

كان الأليَق به أن يعيى بإصلاح نفسه، لا بمحاولة إفساد إمام منصّب من ربّه، معصومٍ عن الزّلل والخطل! ولكنّ العباسيين كانوا يرون أنّ المُلك عقيم، واختاروا بسبيله النّار وغضب الجبّار،.. فأين كان منهم العقل، والفهم، والحكمة؟! لقد أخطأوا حين لم يكونوا أمراء مؤمنين بمقدار ما كانوا فراعنةً متربّبين،.. ونفخوا في رمادٍ وعثيرٍ فكانت عاقبتهم عاقبة مَن تفرعنَ وتربّب وتجبّر،.. وما استطاعوا أن يطفئوا قرص الشمس، ولا أن يمنعوا حرارتها عن الأحياء، ولا أن يمنعوا الهواء عن أن يتنفّسه الوليّ والعدوّ على السّواء، ولم يُنزلوا المطر إذا انحبسَ، ولا أوقفوه حين انبجسَ، ولا وقفوا في وجه خالق الكائنات ولا مَلكوا عطاء الله، ولا مَنعه، ولا ضرّه، ولا دفعه،.. بل تجرّأوا على مآثم تهتزّ منها الأرض وترتجّ،.. وذهبوا بأوزار ذلك كلّه..

***

قال أبو محمد الفحّام، بالإسناد إلى سَلمة الكاتب - في قصر الخليفة -:

(قال خطيب يلقّب بالهريسة للمتوكل: ما يعمل أحد بك أكثر ممّا تعمله أنت بنفسك في عليّ بن محمدٍ، فلا يبقى في الدار إلاّ مَن يخدمه، ولا يتعبونه بشيل سَترٍ ولا فتح باب! وهذا إذا عَلمه الناس قالوا: لو لم يعلم استحقاقه للأمر - أي للخلافة - ما فعلَ به هذا،.. دَعه إذا دخلَ يشيل السَتر لنفسه، ويمشي كما يمشي غيره، فتمسّه بعض الجفوة!

فتقدّم - أي أمرَ - المتوكل أن لا يُخدم ولا يُشال بين يديه سَتر..

ولم يكن أحد كالمتوكل يهتمّ بالخبر - أي يعطي أُذنه للوشاة والنّمامين ورجال الاستخبارات -.

١٣٤

قال: فكتبَ صاحب الخبر إليه: إنّ عليّ بن محمدٍ دخلَ الدار فلم يُخدم ولم يَشِل أحد بين يديه ستراً، فهبّت هواء رَفع السّتر له، فدخل!

فقال المتوكل: اعرفوا خبر خروجه.

فذكرَ صاحب الخبر: هواء خالفَ ذلك الهواء، شالَ الستر له حتى خرج!

فقال - المتوكل -: ليس نريد هواءً يشيل السّتر! شيلوا السّتر بين يديه) (1) .

وفي تخريج أبي سعيدٍ العامريّ، رواية عن صالح بن الحكم بيّاع السابريّ، قال:

(وكنت واقفيّاً - غير قائلٍ بإمامة ابن الرّضا (عليه السلام) - فلمّا أخبرَني حاجب المتوكل بذلك - أي بشَيل الهواء للسَتر حالَ دخول الإمام - أقبلتُ أستهزئ به، إذ خرجَ أبو الحسن، فتبسّم في وجهي، من غير معرفةٍ بيني وبينه، وقال:

(يا صالح، إنّ الله تعالى قال في سليمان: ( فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ ) (2) ونبيّك وأوصياء نبيّك أكرم على الله من سليمان).

قال صالح: وكأنّما انسلّ من قلبي الضلالة، فتركتُ الوقْف) (3) - أي قال بإمامته (عليه السلام) -.

فيا أيّها الخطيب الملّقب بالهريسة، لو لم يكن عقلك مختبطاً مختلطاً كما يختبط ويختلط لحم الهريسة بمائها وبُرّها ودهنها وملحها، لمَا لقّبوك بهذا اللّقب الذي هو على وزن الفطيسة! والله تعالى قد عَلم بإشفاقك على سيّدك الذي يملأ بطنك، ولقّاك خزياً وأنت في المجلس ذاته،.. ثمّ عَلم بمكيدة سيّدك وبما بيّته من احتقار وليّ الله، فسخّر له الرّيح تجري بأمره؛ ليطّلع الناس على سرّه،.. وهو سبحانه يرقب الأفّاكين ( وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً ) (4) فأطلعَ وليّه على ما بيّتوا له، فأراهم آيات ربّهم التي فَضحت مكيدتهم.

____________________

(1) بحار الأنوار: ج 50 ص 128 وص 203 بلفظ قريب، وهو في مدينة المعاجز: ص 542، ومناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 406 - 407 ملخّصاً.

(2) ص: 36.

(3) بحار الأنوار: ج 50 ص 203 - 204، ومناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 407.

(4) النساء: 108.

١٣٥

ولا يخفى أنّ الإمام (عليه السلام) قد عرفَ ما في نفس صالح بن الحكم، وعَلم استهزاءه بخبر الحاجب عن هبوب ريح شالت السّتر بين يديه، وعرفَ - أيضاً - أنّ صالح بن الحكم وقفَ يتفحّص ذلك بنفسه حين خروجه، ففجأه بذكر اسمه الذي كان يعتقد صالح أنّه لا يعرفه، ثمّ أردفَ بذكر الآية البيّنة والحجّة الدامغة، فانتزعَ الحيرة من نفسه وردّه إلى جادّة الصواب والاعتراف بالحقّ لأهله..

فما بال الخليفة.. (طويل الأذنين) من شدّة اهتمامه بالأخبار التي يأتيه بها حاكة الدسائس، لا تنسلّ من قلبه الضلالة حين يرى الآيات والمعجزات؟! لقد ألهاهُ اهتمامه بالحطّ من شأن سفير الله،.. فضلّ عن الحقّ ضلالاً كبيراً، وخسر خسراناً مبيناً..

ولو أنّه استفادَ من فهمه وعلمه وعقله، لقرّب الإمام وأدناه، وأجلّه وتفدّاه بحقّ وحقيقةٍ؛ لظهور علمه وفضله، وبقرب منزلته من ربّه، وإكراماً لعينَي جدّه (صلّى الله عليه وآله)، وهو ينزو على منبره كما نزا القِرَدة من الأمويّين والعباسيّين،.. ولو فكّر بعين البصيرة لسلكَ مسلكاً يُخلّصه غداً من زبانية جهنّم وملائكة العذاب، حين يدعّون (المتأمّر) على الناس باسم رسول الله، بغير استحقاقٍ، إلى نار جهنّم دعّاً؛ لأنّه قعدَ مقعداً يُغضب الله، وسارَ سيرة تستنزل النّقمة..

***

وروي أنّ أبا محمد الفحّام قال:

(دخلَ الإمام (عليه السلام) على المتوكل يوماً، فسأل المتوكل ابن الجهم: مَن أشعر النّاس؟ فذكرَ شعراء الجاهليّة والإسلام.

فقال المتوكل: يا أبا الحسن، مَن أشعر الناس؟

قال: (فلان بن فلان (1) حيث يقول:

لقد فاخَرَتنا من قريش عصابة

بمدّ خدودٍ وامتداد أصابع

فلمّا تنازعنا القضاء قضى لنا

عليهم بما فاهوا نداء الصّوامع

تَرانا سكوتاً والشهيد بفضلنا

عليهم جهير الصّوت في كلّ جامع

فإنّ رسول الله أحمد جدّنا

ونحن بنوه كالنّجوم الطّوالع

____________________

(1) هو الحمّانيّ، من تميم، من العدنانية: أبو زكريّا، يحيى بن عبد الرّحمان بن ميمون الكوفي.

١٣٦

قال - المتوكل -: وما نداء الصوامع يا أبا الحسن؟

قال (عليه السلام): أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأشهد أنّ محمّداً رسول الله.. جدّي أم جدّك)؟!

فضحكَ المتوكل كثيراً ثمّ قال: هو جدّك، لا ندفعك عنه) (1) .

وإنّه لضحك الممثّل البارع على خشبة المسرح؛ لأنّه انتزعهُ من قلبه العامر بالحقد انتزاعاً، إذ عَلِم ما قصده أبو الحسن (عليه السلام) من مدح.. وقدح! ولكنّه ضَحِكٌ كانت تظهر فيه صورة التكشير عن الأنياب الناقعة بالسّم بوضوح،.. وليس أجرأ على الله من (خليفة المسلمين) يفتعل مجلس عبثٍ ولهوٍ ومفاضلةٍ بين الشعراء؛ ليُنزل الإمام إلى نقاشٍ تافهٍ ليس من وظيفته السماوية، وليوقفه بمقابل عليّ بن الجهم، الذي كان أشدّ النّاس عداوةً لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب وأبنائه (عليهم السلام)، ثمّ يحاول أن يجعل منه سميراً من سمّار القصر ونديماً من ندمان موائد القصف! ولكنّ الإمام عرفَ كيف يطعنه في الصمّيم، حين تلا أبياتاً من الشِعر أذلّت نفسه في عين نفسه، ولوَت كبرياءه وعنجهيّة آبائه الذين اتّخذوا مال الله دُوَلاً وعباده خوَلاً، وزيّف الكبرياء والعزّة حين تكونان لغير الله ورسوله، وبغير الدّين وطاعة ربّ العالمين.

***

وممّا لا شكّ فيه أنّنا إذا اتّهمنا المتوكل بالغباء، نكون من أغبى الأغبياء،.. ولكنّنا نحار في تصرّفاته التي انحصرت في الغضّ من جاه الإمام، مع علمه بما هو عليه من العناية الربّانيّة.

فإنّه قد عَرضَ إليه بالسّوء كثيراً، وواقعه مراراً، ونازلَ قدرة الله تعالى فيه مراراً وتكراراً،.. فقد ذكر المحقّق الإربلي: (أنّه عرضَ عسكره - وهم تسعون ألف فارس من الأتراك الساكنين بسرّ مَن رأى - وأمرَ كلّ فارس أن تُملأ مخلاة فرسه طيناً، ويطرحوه في موضع واحدٍ - بعضه فوق بعض في وسط بريّةٍ واسعةٍ هناك - فلمّا فعلوا صار مثل جبلٍ عظيم؛ واسمه تلّ المخالي.

____________________

(1) بحار الأنوار: ج 50 ص 128 - 129 وص 190 - 191، ومناقب آل أبي طالب: ج4 ص 406، ومدينة المعاجز: ص 542.

١٣٧

وصعدَ هو فوقه، واستدعى أبا الحسن (عليه السلام)، واستصعده وقال: إنّما طلبتك لتشاهد خيولي،.. وكانوا قد لبسوا التجافيف - دروع الخيل - وحملوا السلاح، وقد عرضوا بأحسن زينةٍ، وأتمّ عدّةٍ، وأعظم هيئةٍ،.. وكان غرضهُ أن يكسر قلب كلّ مَن يريد أن يخرج عليه، وكان يخاف من أبي الحسن أن يأمر أحداً من أهل بيته بالخروج على الخليفة.

فقال أبو الحسن صلوات الله عليه: (فهل أعرضُ عليك عسكري؟!

قال: نعم.

فدعا الله سبحانه، فإذا بين السماء والأرض من المشرق إلى المغرب ملائكة مُدجّجون - لابسون للسلاح - فغُشيَ على المتوكل!

فلمّا أفاق، قال له أبو الحسن: نحن لا ننافسكم في الدّنيا؛ فإنّا مشغولون بالآخرة، فلا عليك شيء ممّا تظن) (1) .

ولكن أنّى لقولة الإمام أن تدخل إلى سمع خليفةٍ أعطى أُذنيه للوشّائين، ووضعَ لحيته في أيدي المشّائين بنميم! وأنّى لها أن تدخل بسهولة إلى قلبه المظلم؛ فإنّ الكره لا ينقلب إلى حبّ على الماشي عند عَبدة الدّنيا، والخليفة هذا محاط بكَذَبةٍ يزيّنون له الأمور، ويضعون رأسه في سعير التنّور!

فدلّوني متى كان هذا (المتوكل) متوكلاً على الله أثناء خلافته، وقبلها؟!

الخليفةُ والعشيرة يقعون في الحفيرة!

يقول المَثل: مَن حفرَ بئراً لأخيه، وقعَ فيها ! والمَثل ذو دلالةٍ صادقةٍ؛ لأنّه لا يوضع إلاّ بعد آلاف التجارب الصائبة، ولذلك قالوا: إنّ المَثل نبيّ؛ لأنّه لا ينطق إلاّ بالحقّ والصّدق.

____________________

(1) الأنوار البهية: ص 253 - 254، وكشف الغمّة: ج 3 ص 185، وبحار الأنوار: ج 50 ص 155 - 156، ومدينة المعاجز: ص 551، وحلية الأبرار: ج 2 ص 475 - 476.

١٣٨

وإمامنا (عليه السلام) كان يعاشر الحاكمين وسائر الحاكمين وسائر الظالمين له بتمام العفويّة والترسّل؛ لأنّ الله تعالى حين نصّبه لهذا الأمر الخطير، قلّده بكلّ ما يجعله على مستوى اختياره السماويّ، وأطلعهُ على خفاياهم وخفايا النّاس جميعاً ليكون جديراً بتمثيل ظلّه سبحانه على الأرض، يعلم كثيراً من غيبهم ويطّلع على أعمالهم ولا تفجأه مكائدهم، فسارَ فيهم سيرة جدّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مع جبابرة قريش وعتاة المشركين في مكّة وما حولها، يصدقهم القول، ويمحضهم النّصح، ويبذل قصارى جهده في سبيل هدايتهم وإنقاذهم من الضلال، ولكنّهم كانوا يَغِشّون إذا نصحَ، ويتكبّرون إذا تواضعَ، ويجافون إذا تقرّب، رغم أنّه لم ينازعهم سلطاناً ولا رغبَ في منصب، بل كان كلّما قدّم لهم نصحاً قابلوه بسوء!

فقد روى علي بن إبراهيم، عن إبراهيم بن محمد الطاهري أنّه قال: (مرض المتوكل من خُرّاج - دمّل - فأشرفَ على الموت، فلم يجسر أحد أن يمسّه بحديدة، فنَذرت أمّه إن عوفيَ أن تحمل إلى أبي الحسن، عليّ بن محمدٍ (عليهما السلام) مالاً جليلاً من مالها.

وقال الفتح بن خاقان للمتوكل: لو بُعث إلى هذا الرجل - يعني أبا الحسن (عليه السلام) - فَسألته، فإنّه ربّما كان عنده صفة شيءٍ يُفرّج الله تعالى به عنك.

فقال: ابعثوا إليه.

فمضى الرسول.. ورجعَ فقال: قال أبو الحسن (عليه السلام): (خذوا كُسْب الغنم - أي عصارة دهنه - فديفوه بماء الورد - اخلطوه به - وضَعوه على الخرّاج؛ فإنّه نافع بإذن الله..).

فجعلَ مَن يحضر المتوكل يهزأ من قوله.

فقال لهم الفتح بن خاقان: وما يضرّ من تجربة ما قال؟! فو الله إنّي لأرجو الصلاح به.

فأحضروا الكُسْب، وديفَ بماء الورد، ووضِع على الخُرّاج، فانفتحَ وخرجَ ما كان فيه.

وبُشّرت أمّ المتوكل بعافيته، فحَملت إلى أبي الحسن (عليه السلام) عشرة آلاف دينار تحت خاتمها.

واستقلّ - شُفي - المتوكل من علّته.

١٣٩

فلمّا كان بعد أيام، سعى البطحائي (1) بأبي الحسن (عليه السلام) إلى المتوكل وقال: عنده أموال وسلاح.

فتقدّم المتوكل إلى سعيد الحاجب - الذي كان من ألأم حجّابه - أن يهجم عليه ليلاً ويأخذ ما عنده من الأموال والسلاح، ويُحمل إليه!

قال إبراهيم بن محمد: قال لي سعيد الحاجب: صرتُ إلى دار أبي الحسن (عليه السلام) بالليل ومعي سُلّم، فصعدتُ منه إلى السطح، ونزلتُ من الدرَجة إلى بعضها في الظُلمة، فلم أدرِ كيف أصِل إلى الدار.

فناداني أبو الحسن (عليه السلام) من الدار: (يا سعيد، مكانك حتى يأتوك بشمعة.

فلم ألبِث أن أتَوني بشمعة، فنزلتُ فوجدت عليه جبّة صوف وقلنسوةً منها، وسجّادته على حصيرٍ بين يديه، وهو مُقبل على القِبلة.

فقال: دونك البيوت.

فدخلتها وفتّشتها، فلم أجد فيها شيئاً، ووجدتُ البُدْرة - الصّرة - مختومةً بخاتم أمّ المتوكل وكيساً مختوماً معها.

فقال لي أبو الحسن: دونك المصلّى.

فرفعتهُ، فوجدت ُسيفاً في جفنٍ غير ملبوس.

فأخذتُ ذلك، وصرتُ إليه - إلى المتوكل - فلمّا نظرَ إلى خاتم أمّه على البُدْرة بَعث إليها.

فخرجَتْ إليه، فسألها عن البُدرة؟ قالت: كنت نذرتُ في علّتك إن عوفيتَ أن أحمل إليه من مالي عشرة آلاف دينار، فحملتها إليه، وهذا خاتمي على الكيس ما حرّكه.

وفتحَ الكيس الآخر فإذا فيه أربعمئة دينار،.. فأمرَ أن يُضمّ إلى البُدْرة بُدرةً أخرى، وقال لي: احمل ذلك إلى أبي الحسن (عليه السلام) واردُد عليه السيف والكيس بما فيه.

فحملتُ ذلك، واستحييت منه فقلت له: يا سيّدي عزّ عليّ دخول دارك بغير إذنك، ولكنّي مأمور.

____________________

(1) البطحائي هو: محمد بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهو وأبوه وجدّه، كانوا مظاهرين لبني العباس على سائر أولاد أبي طالب.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286