الإمام علي الهادي ( عليه السلام ) مع مروق القصر وقضاة العصر

الإمام علي الهادي ( عليه السلام ) مع مروق القصر وقضاة العصر0%

الإمام علي الهادي ( عليه السلام ) مع مروق القصر وقضاة العصر مؤلف:
تصنيف: الإمام علي بن محمد الهادي عليه السلام
الصفحات: 286

الإمام علي الهادي ( عليه السلام ) مع مروق القصر وقضاة العصر

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: كامل سليمان
تصنيف: الصفحات: 286
المشاهدات: 20812
تحميل: 6912

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 286 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 20812 / تحميل: 6912
الحجم الحجم الحجم
الإمام علي الهادي ( عليه السلام ) مع مروق القصر وقضاة العصر

الإمام علي الهادي ( عليه السلام ) مع مروق القصر وقضاة العصر

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

قد فعلَ ذلك إبقاء على سلطانه بلا شك، ولكن ما هو الدّين الذي كان يعتنقه الخليفة على المسلمين؟! وهل كان من شروط الخلافة في الإسلام أن يكون (قصر الإمارة) مقصف لهوٍ وطربٍ وقِيانٍ وحِسانٍ، ووصائف وغلمان،.. ومركز مؤامرات على مَن يحمل في قلبه ذرّةً من الإيمان؟!

***

أمّا الرواية الثالثة، فهي ما حكاه أبو القاسم البغداديّ، عن زرافة - خادم المتوكل - الذي قال:

(أرادَ المتوكل أن يُمشي عليّ بن محمد بن الرّضا (عليهم السلام) يوم السلام - وذلك للتصغير من شأنه حين يجبره على المشي بين يديه كعامّة النّاس -.

فقال له وزيره: إنّ في هذا شناعةً عليك وسوء قالةٍ، فلا تفعل. قال: لابدّ من هذا. قال الوزير - وهو الفتح بن خاقان -: فإن لم يكن بدّ من هذا، فتقدّم - أي أصدِر أمراً - بأن يمشي القوّاد والأشراف كلّهم؛ حتى لا يظنّ الناس أنّك قصدتهُ بهذا دون غيره. ففعل، ومشى الإمام (عليه السلام)! وكان الصيف، فوافى الدهليز وقد عَرق، فقال زرافة - خادم المتوكل -: فلقيته فأجلستهُ في الدهليز ومسحتُ وجهه بمنديل وقلت: ابن عمّك لم يقصدك بهذا دون غيرك، فلا تجد عليه في قلبك.

فقال (عليه السلام): (إيهاً عنك - أي كُفّ عن ذلك - ( تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ) ) (1) .

قال زرافة: وكان عندي معلّم يتشيّع، وكنت كثيراً ما أمازحه بالرافضي،.. فانصرَفت إلى منزلي وقت العشاء وقلت: تعالَ يا رافضيّ حتى أُحدّثك بشيءٍ سمعتهُ اليوم من إمامكم.

فقال لي: وما سمعتَ؟ فأخبرته بما قال. فقال: أقول لك فاقبل نصيحتي. قلت: هاتها.

قال: إن كان عليّ بن محمدٍ (عليه السلام) قال بما قلت، فاحترِز واخزِن كلّ ما تملكه؛ فإنّ المتوكل يموت أو يُقتل بعد ثلاثة أيام.

فغضبتُ عليه وشتمته وطردته من بين يديّ، فخرجَ،.. فلمّا خلوتُ بنفسي تفكّرت وقلت: ما يضرّني أن آخذ بالحزم؟ فإن كان من شيءٍ، كنت قد أخذتُ بالحزم، وإن لم يكن لم يضرّني ذلك.

____________________

(1) هود: 65.

١٦١

قال: فركبتُ إلى دار المتوكل، فأخرجتُ كلّ ما كان لي فيها، وفرّقتُ كلّ ما كان في داري إلى عند أقوام أثق بهم، ولم أترك في داري إلاّ حصيراً أقعد عليه،.. فلمّا كانت الليلة الرابعة قُتل المتوكل وسَلِمتُ أنا ومالي،.. وتشيّعت عند ذلك، فصرتُ إليه ولزمتُ خدمته، وسألتهُ أن يدعو لي، وتوليتهُ حقّ الولاية) (1) .

فلم يتنبّأ الإمام سلام الله عليه بموت المتوكل،.. ولا أوحيَ إليه ذلك وحياً،.. ولكنّه من صميم علمه الّذي علّمه الله تبارك وتعالى وجعله يعرف الآجال، ويطّلع على الأعمال بيسيرٍ، كما بيّنا سابقاً في أول الكتاب.

وفّقَنا الله سبحانه للإيمان بسرّك يا مولاي وسرّ آبائك وأجدادك وبنيك؛ لنفوز مع الفائزين بولايتكم، وننال مرضاة ربّنا عزّ وجلّ،.. فإنّك لكَما قال أبو بديل التميمي فيك:

أنتَ من هاشم بن عبد مناف بن

قصيّ في سرّها المختار

في اللّباب وفي الأرفع الأرفع

منهم وفي النّضار النّضار (2)

***

وأمّا الرواية الرابعة، (ففي رواية سالم أنّ المتوكل أمرَ الفتح بن خاقان بسبّه - أي بسبّ الإمام والعياذ بالله من ذلك - فذكرَ له الفتْح ذلك! أي ذكرهُ للإمام (عليه السلام). فقال: ( فَقَال تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ) (3) .

وأنهى ذلك إلى المتوكل - أي نقلَ له الفتْح قول الإمام -، فقال - المتوكل -: أنا أقتله بعد ثلاثة أيام. فلمّا كان اليوم الثالث، قُتل المتوكل والفتْح!) (4) .

( فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) (5) .

وكفى الله الإمام شرّه، إذ جاء تفسير الخليفة لآية الإنذار معكوساً؛ لأنّه لم يكن في يومٍ من الأيام مع القرآن، ولا كان القرآن معه في خلافته الجائرة!

***

____________________

(1) بحار الأنوار: ج 50 ص 147 - 148، والأنوار البهيّة: ص 268 - 269، ومدينة المعاجز: ص 547 و ص 560، وحلية الأبرار: ج2 ص 467.

(2) مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 418.

(3) هود: 65.

(4) مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 407، وبحار الأنوار: ج 50 ص 204.

(5) النحل: 34.

١٦٢

والرواية الخامسة، حدّثَ بها أبو روح النسابي، عن أبي الحسن، عليّ بن محمدٍ (عليهما السلام)، أنّه دعا على المتوكل بدعاء المظلوم على الظالم الذي تراه قريباً،.. وإذا دعا الإمام انقطعَ الكلام،.. ولوَى الخليفة ووزيره عنقيهما!

***

والرواية السادسة، وهي الأخيرة التي نُقلت عن زرافة حاجب المتوكل الذي روى الرابعة، ولكنّها مع شيءٍ من التفصيل المفيد، الذي يكفي فيه أن يكون قد ذكرَ دعاء الإمام (عليه السلام) بتمامه، فقد قال زرافة:

(كان المتوكل يُحظي الفتح بن خاقان ويقرّبه منه دون الناس جميعاً، ودون وِلده وأهله، وأراد أن يبيّن موضعه عندهم، فأمرَ جميع مملكته من الأشراف من أهله وغيرهم، والوزراء والأمراء والقوّاد وسائر العساكر، ووجوه النّاس أن يزيّنوا بأحسن التزيين، ويظهروا في أفخر عددهم وذخائرهم، ويخرجوا مشاةً بين يديه، وأن لا يركب إلاّ هو، والفتْح بن خاقان خاصّةً، بسرّ مَن رأى.

ومشى النّاس بين أيديهما على مراتبهم رجّالة - على أقدامهم - وكان يوماً قائظاً شديد الحرّ، وأخرَجوا في جملة الأشراف أبا الحسن، عليّ بن محمدٍ (صلّى الله عليه وآله)، وشقّ عليه ما لقيه من الحَرّ والزحمة.

قال زرافة: فأقبلتُ إليه وقلت له: يا سيّدي يعزّ والله عليّ ما تلقى من هؤلاء الطّغاة، وما قد تكلّفت من المشقّة!

وأخذتهُ بيده فتوكّأ عليّ وقال: (يا زرافة، ما ناقة صالحٍ عند الله بأكرم منّي - أو قال: بأعظم منّي قدراً! -.

ولم أزل أُسائله وأستفيد منه وأحدّثه، إلى أن نزلَ المتوكل من الرّكوب وأمرَ الناس بالانصراف، فقدّمتُ إليهم دوابّهم فركبوا إلى منازلهم.

١٦٣

وقدّمتُ له بغلةً فرَكبها، وركبت معه إلى داره، فنزلَ وودّعته وانصرفت إلى داري، ولوَلَدي مؤدّب يتشيّع من أهل العلم والفضل، وكانت لي عادة بإحضاره على الطعام، فحضرَ عند ذلك وتحرّينا الحديث وما جرى من ركوب المتوكل والفتح ومشي الأشراف وذوي الأقدار بين أيديهما، وذكرتُ له ما شاهدته من أبي الحسن، عليّ بن محمدٍ (عليهما السلام)، وما سمعتُ من قوله: ما ناقة صالحٍ عند الله بأعظم منّي قدراً!).

وكان المؤدّب يأكل معي، فرفعَ يده وقال: بالله إنّك سمعتَ هذا اللّفظ منه؟!

قلت: والله، إنّي سمعته يقوله.

فقال لي: إنّ المتوكل لا يبقى في مملكته أكثر من ثلاثة أيام ويهلك وانظر في أمرك، وأحرِز ما تريد إحرازه، وتأهّب؛ كي لا يفجأكم هلاك هذا الرجل، فتهلك أموالكم بحادثةٍ تحدث أو سببٍ يجري.

فقلت له: من أين لك هذا؟!

فقال لي: أمَا قرأت القرآن في قصّة الناقة، وقوله تعالى: ( تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ) (1)؟ !. ولا يجوز أن يبطل قول الإمام.

قال زرافة: فو الله ما جاء اليوم الثالث حتى هجمَ المنتصر، ومعه بغا ووصيف والأتراك، على المتوكل فقتلوه وقطّعوه والفتح بن خاقان جميعاً قطعاً حتى لم يُعرف أحدهما من الآخر، وأزالَ الله نعمته ومملكته! فلقيتُ أبا الحسن (عليه السلام) بعد ذلك وعرّفته ما جرى مع المؤدّب وما قاله.

فقال: صَدقَ، إنّه لمّا بلغَ منّي الجهد، رجعتُ إلى كنوز نتوارثها من آبائنا هي أعزّ من الحصون والسلاح والجُنن، وهو دعاء المظلوم على الظالم، فدعوتُ به عليه فأهلكه الله.

فقلت: يا سيّدي، إن رأيتَ أن تُعلّمنيه، فَعَلَّمنيه) وهو هذا:

____________________

(1) هود: 65.

١٦٤

اللّهمّ إنّي وفلان بن فلان عبدان من عبيدك، نواصينا بيدك، تَعلم مستقرّنا ومستودعنا، وتَعلم منقلبنا ومثوانا، وسِرّنا وعلانيتنا، وتطّلع على نيّاتنا، وتحيط بضمائرنا، عِلمُك بما نُبديه كعلمك بما نُخفيه، ومعرفتك بما نُبطنه كمعرفتك بما نُظهره، ولا ينطوي عليك شيء من أمورنا، ولا يستتر دونك حال، ولا لنا منك معقل يُحصّننا، ولا حِرز يحرزنا، ولا هارب يفوتك منّا، ولا يمتنع الظالم منك بسلطانه، ولا يجاهدك عنه جنود، ولا يغالبك مغالب بمنعةٍ، ولا يعازّك متعزّز بكثرةٍ، أنت مدركه أينما سلك، وقادر عليه أين لجأ، فمعاد المظلوم منّا بك، وتوكّل المقهور منّا عليك ورجوعه إليك، ويستغيث إذا خذله المغيث، ويستصرخك إذا قعدَ عنه النّصير، ويلوذ بك إذا نَفته الأفنية، ويطرق بابك إذا أُغلقت دونه الأبواب المرتجة، ويصل إليك إذا احتجبَتْ عنه الملوك الغافلة، تعلم ما حلّ به قبل أن يشكوه إليك، وتعرف ما يصلحه قبل أن يدعوك له، فلك الحمد سميعاً بصيراً، لطيفاً قديراً.

١٦٥

اللّهمّ قد كان في سابق علمك، ومحكم قضائك، وجاري قدرك، وماضي حكمك، ونافذ مشيئتك في خلقك أجمعين، سعيدهم وشقيّهم، وبَرّهم وفاجرهم، أن جعلتَ لفلان بن فلان عليّ قدرةً ظلمَني بها، وبغى عليّ لمكانها، وتَعزّز عليّ بسلطانه الّذي خوّلته إيّاه، وتجبّر عليّ بعلوّ حاله الّتي جعلتها له، وغرّه إملاؤك له، وأطغاه حِلمك عنه، فقصَدني بمكروهٍ عجزتُ عن الصّبر عليه، وتعمّدني بشرٍّ ضعفتُ عن احتماله، ولم أقدر على الانتصار منه لضعفي، والانتصاف منه لذلّي، فوكلتهُ إليك، وتوكّلتُ في أمره عليك، وتوعّدته بعقوبتك، وحذّرته سطوتك، وخوّفته نقمتك، فظنّ أنّ حِلمك عنه من ضعفٍ، وحسبَ أنّ إملاءك له من عجزٍ، ولم تنهه واحدة عن أخرى، ولا انزجر عن ثانيةٍ بأُولى، ولكنّه تمادى بغيّه، وتتابعَ في ظلمه، ولجّ في عدوانه، واستشرى في طغيانه جرأةً عليك يا سيّدي، وتعرّضاً لسخطك الّذي لا تردّه عن الظالمين، وقلّة اكتراثٍ ببأسك الّذي لا تحبسه عن الباغين.

١٦٦

فها أنذا يا سيّدي مستضعف في يديه، مستضام تحت سلطانه، مستذل بعنائه، مغلوب مبغيّ عليّ، مغضوب، وجِل، خائف، مروّع مقهور قد قلّ صبري، وضاقت حيلتي، وانغلقت عليّ المذاهب إلاّ إليك، وانسدّت عليّ الجهات إلاّ جهتك، والتبست عليّ أموري في دفع مكروهه عنّي، واشتبهت عليّ الآراء في إزالة ظلمه، وخَذلني مَن استنصرته من عبادك، وأسلمني مَن تعلّقت به من خلقك طرّاً، واستشرتُ نصيحي فأشار إليّ بالرغبة إليك، واسترشدتُ دليلي فلم يدلّني إلاّ عليك، فرجعتُ إليك يا مولاي صاغراً راغماً مستكيناً، عالماً أنّه لا فرجَ إلاّ عندك، ولا خلاص إلاّ بك، أنتجز وعدك في نصرتي وإجابة دعائي، فإنّك قلت وقولك الحقّ لا يُردّ ولا يبدّل: ( وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ ) وقلت جلّ جلالُك وتقدّست أسماؤك: ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) وأنا فاعل ما أمَرتني به لا منّاً عليك، وكيف أمِنُّ به وأنت عليه دلَلتني؟ فصلِّ على محمدٍ وآل محمدٍ فاستجب لي كما وعَدتني يا مَن لا يخلف الميعاد.

وإنّي لأعلم يا سيّدي أنّ لك يوماً تنتقم فيه من الظالم للمظلوم، وأتيقّن أنّ لك وقتاً تأخذ فيه من الغاصب للمغصوب؛ لأنّك لا يسبقك معاند، ولا يخرج عن قبضتك منابذ، ولا تخاف فوت فائت، ولكن جَزعي وهلعي لا يبلغان بي الصبر على أناتك وانتظار حلمك، فقدرتك عليّ يا سيّدي ومولاي فوق كلّ قدرة، وسلطانك غالب على كلّ سلطان، ومعاد كلّ أحدٍ إليك وإن أمهلته، ورجوع كلّ ظالمٍ إليك وإن أنظرته.

١٦٧

وقد أضرنّي يا ربّ حلمك عن فلان بن فلان، وطول أناتك له وإمهالك إيّاه، وكادَ القنوط يستولي عليّ لولا الثّقة بك واليقين بوعدك، فإن كان في قضائك النّافذ وقدرتك الماضية أن ينيب أو يتوب أو يرجع عن ظلمي، أو يكفّ مكروهه عنّي، وينتقل عن عظيم ما ركبَ منّي، فصلِّ على محمدٍ وآل محمدٍ وأوقِع ذلك في قلبه الساعة الساعة قبل إزالة نعمتك الّتي أنعمتَ بها عليّ، وتكديره معروفك الّذي صنعته عندي.

وإن كان في علمك به غير ذلك من مقام على ظلمي، فأسألك يا ناصر المظلوم المبغيّ عليه إجابة دعوتي، فصلِّ على محمدٍ وآل محمدٍ وخذه من مأمنه أخذ عزيز مقتدر، وافجأه في غفلته مفاجأة مليكٍ منتصر، واسلبه نعمته وسلطانه، وافضض عنه جموعه وأعوانه، ومزّق ملكه كلّ ممزّق، وفرّق أنصاره كلّ مفرّق، وأعِره من نعمتك الّتي لم يقابلها بالشّكر، وانزع عنه سربال عزّك الذي لم يجازه بالإحسان، واقصمه يا قاصم الجبابرة، وأهلكه يا مهلك القرون، وأبره يا مبير الأمم الظّالمة، واخذله يا خاذل الفئات الباغية، وابتر عمره، وابتزّ ملكه، وعفِّ أثره، واقطَع خبره، وأطفِئ ناره، وأظلم نهاره، وكدّر شمسه، وأزهق نفسه، وأهشم شدّته، وجبّ سنامه، وأرغِم أنفه، وعجّل حتفه، ولا تدع له جنّة إلاّ هتكتها، ولا دعامةً إلاّ قصَمتها، ولا كلمةً مجتمعة إلاّ فرّقتها، ولا قائمة عُلوّ إلاّ وضعتها، ولا ركناً إلاّ وهنته، ولا سبباً إلاّ قطعته، وأرنا أنصاره وجنده وأحبّاءه وأرحامه عباديد بعد الألفة، وشتّى بعد اجتماع الكلمة، ومُقنعي الرّؤوس بعد الظّهور على الأمّة، واشفِ بزوال أمره القلوب المنقلبة الوجلة والأفئدة اللهفة، والأمة المتحيرة، والبرية الضائعة، وأدل ببواره الحدود المعطّلة، والأحكام المهملة، والسّنن الدّائرة، والمعالم المغيّرة، والآيات المحرّفة والمدارس المهجورة، والمحاريب المجفوّة، والمساجد المهدومة، وأرِح به الأقدام المتعبة، وأشبِع الخماص الساغبة، واروِ به اللّهوات اللاّغبة، والأكباد الظّامئة , وأطرِقه بليلةٍ لا أختَ لها، وساعةٍ لا شفاء منها، وبنكبةٍ لا انتعاش

١٦٨

معها، وبعثرةٍ لا إقالة منها، وأبِح حريمه، ونغّص نعيمه، وأره بطشتك الكبرى، ونقمتك المثلى، وقدرتك التي هي فوق كلّ قدرةٍ، وسلطانك الذي هو أعزّ من سلطانه، وأغلبه لي بقوّتك القويّة ومحالك الشّديد، وامنعني منه بمنعتك التي كلّ خلقٍ فيها ذليل، وابتله بفقرٍ لا تجبره، وبسوءٍ لا تستره، وكِله إلى نفسه فيما يريد، إنك فعّال لِما تريد، وأبرئه من حولك وقوّتك، وأحوجه إلى حوله وقوّته، وأذلّ مَكره بمكرك، وادفع مشيئته بمشيئتك، وأسقم جسده، وأيتم وِلده، وأنقِص أجَله، وخيّب أمله، وأذلّ دولته، وأطل عولته، واجعل شغله في بدنه، ولا تفكّه من حزنه، وصيّر كيده في ضلال، وأمره إلى زوال، ونعمته إلى انتقالٍ، وجدّه في سفال، وسلطانه في اضمحلالٍ، وعاقبته إلى شرّ مآل، وأمِته بغيظه إذا أمتّه، وأبقه لحزنه إذا أبقيته، وقِني شرّه، وهمزه، وسطوته، وعداوته، والْمَحه لمحمةً تدمّر بها عليه؛ فإنّك أشدّ باساً، وأشدّ تنكيلاً، والحمد لله ربّ العالمين) (1) .

***

.. وقد لَمحهُ سبحانه وتعالى لمحةً دمّر بها عليه،.. وأطرَقه بليلةٍ لا أخت لها، وساعةٍ لا شفاء منها، وبنكبةٍ لا انتعاش معها، وبعثرةٍ لا إقالة منها،.. وخبطَ لحمه بلحم وزيره! فلا المتوكل، ولا الفتح، ولا خليفة، ولا وزير بعد ذلك التّدمير الذي استنزلتهُ دعوة الإمام المظلوم من قلبه المكلوم!

فإنّه إذا رفعَ الإمام (عليه السلام) كفّيه إلى السماء، وتضرّع وألحّ في السؤال،.. وجدَ الله تعالى قريباً مجيباً لا يردّ دعوة المضطّر إذا دعاه..

____________________

(1) مهج الدعوات: من ص 261 إلى ص 271، والخبر في بحار الأنوار: ج 50 ص 94.

١٦٩

ولو تسنّى لنا أن ننتقل بأفكارنا وإحساسنا إلى الجوّ القاتم الذي كان يعيش الإمام في زنزانته، لأخذَتنا الدهشة من ظالمه الذي لم يرَ منه سوءاً قط، ولا وقفَ له على قالةٍ البتّة، ولا صادَره رهن محاولةٍ، ولا شَعرَ منه بهمسةٍ في سرّه ولا في عَلنه،.. فكيف لا يدعو عليه الإمام بعد أن تعمّد إذلاله وسيّره ماشياً على قَدميه في يوم حارٍّ، وهو يركب جواداً مطهّماً تأخذه الخيلاء والكبرياء؟ ولِمَ لا يدقّ باب ربّه الذي اجتباه من خلقه، فعمدَ هذا الطاغية إلى ازدراء اصطفاء الله واختياره؟! فلو لَم يبلغ ظلم هذا الرجل الغاية، لبقيَ الإمام على صبره المعهود؛ فإنّ أهل البيت (عليهم السلام) هم أهل الصّبر على الأذى والظلم، وأهل المكابدة والمجاهدة في سبيل الإبقاء على الدّين وحفظ رسالة جدّهم سيد المرسلين (صلّى الله عليه وآله).

ويا أيّها المتوكل على غير الله، أخطأتَ الحكمة والصواب حين نازعتَ بجبروتك ربّ الجبروت والملكوت!

ولو قُدّر لآبائك أن يُطلعوك على ما صاروا إليه، لرأيتَ أمراً عظيماً وخطراً جسيماً،.. ولواجهكَ فعل الله بمَن يتصدّى لأولياء الله وعباده الصالحين!

وأقول لك توبيخاً، ولغيرك تحذيراً، ما قاله أحد الشعراء:

لا تَظلمنّ إذا ما كنتَ مقتدراً

فالظّلم آخره يأتيك بالنّدمِ

نامَت عيونك، والمظلوم مُنتبِه

يدعو عليك وعين الله لم تَنمِ!

وفي عهد المنتصر ومَن بعدهُ

.. وأزالَ الله تعالى تلك الغمّة التي خيّمت بثقلها في أجواء الإمام (عليه السلام)، وكشفَ الغيمة السوداء التي مَلأ قتامها آفاقه وآفاق مَن يدور في فلك الحقّ، حين قَطّع المتوكّل سيفه العزيز عليه، فمضى واحداً من سلسلة (أمراء المؤمنين) الذين أذلّوا المؤمنين وعباد الله الصالحين!

١٧٠

وتنفّس الناس الصّعداء، واستروحوا رَوح هدوء الأعصاب بعد ذي اللّحية الصفراء، الذي بعثره زند (باغر) التركيّ أشلاءً، ونثرهُ إرباً إرباً،.. في ليلةٍ عاشَ أولها في دار المُلك والسلطان، وقضى آخرها وجهاً لوجهٍ مع سوء عمله، ومصيره البئيس التّعيس..

وقعدَ المنتصر - المتشيّع - فأمرَ بالكفّ عن آل أبي طالب، وأن لا يُمنع أحد من زيارة الحسين (عليه السلام) في كربلاء، بعد أن كان أبوه - المتوكل - قد مَنعهم من ذلك وهَدَم القبر الشريف منذ سنة ستّ وثلاثين ومئتين، وتهدّد مَن يزورهُ بالتعذيب والقتل! وقد روى أبو جعفر الطبريّ هذه الحادثة في تاريخه قائلاً:

(وفيها - سنة 236 هـ - أمرَ المتوكل بهدم قبر الحسين بن عليّ وهدّم ما حوله من المنازل والدُور، وأن يُحرث ويُبذر، وأن يمنع النّاس من إتيانه.

فذكرَ أنّ صاحب الشّرطة نادى في الناحية: مَن وجدناه عند قبره بعد ثلاثةٍ بعثنا به إلى المطبق - الحَبس - فهربَ الناس وامتنعوا من المصير إليه، وحرثَ ذلك الموضع وزرعَ ما حواليه) (1) .

____________________

(1) تاريخ الأُمم والملوك: ج 7 ص 365.

١٧١

أمّا المسعودي فقال في مروج الذهب:

(وكان آل أبي طالب قبل خلافته - أي المنتصر - في محنةٍ عظيمةٍ وخوفٍ على دمائهم، قد مُنعوا من زيارة قبر الحسين والغريّ من أرض الكوفة - أي مقام أمير المؤمنين (عليه السلام) - وكذلك مُنع غيرهم من شيعتهم حضور هذه المشاهد، وكان الأمر بذلك من المتوكل سنة ستّ وثلاثين ومئتين.

وفيها أمرَ المعروف (بالذّيريج) بالسّير إلى قبر الحسين بن عليّ رضي الله تعالى عنهما وهَدمه ومحو أرضه وإزالة أثره، وأن يعاقب مَن وجِدَ به، فبذلَ الرغائب لِمن تقدّم على هدم هذا القبر فكلّ خشيَ العقوبة وأحجم، فتناولَ (الذّيريج) مسحاةً وهدّم أعالي قبر الحسين، فحينئذٍ أقدم الفعلة فيه،.. وإنّهم انتهوا إلى الحفرة وموضع اللّحد فلم يروا فيه أثر رمّةٍ ولا غيرها.

ولم تزل الأمور على ما ذكرنا إلى أن استخلفَ المنتصر، فأمِنَ النّاس وتقدّم بالكفّ عن آل أبي طالب وتركَ البحث عن أخبارهم، وأن لا يُمنع أحد من زيارة الحيرة لقبر الحسين رضي الله تعالى عنه، ولا قبر غيره من آل أبي طالب، وأمرَ بردّ فدك إلى وِلد الحسن والحسين، وأطلقَ أوقاف آل أبي طالبٍ وتركَ التعرّض لشيعتهم ودفعَ الأذى عنهم) (1) .

وقال ابن الأثير في تاريخه الكامل: (وفي سنة 236 هجريّة أمرَ المتوكل بهدم قبر الحسين بن عليّ (عليه السلام)، وهدم ما حوله من المنازل والدّور، وأن يُبذر ويُسقى موضع قبره، وأن يُمنع الناس من إتيانه، فنادى بالناس في تلك الناحية: مَن وجدناه عند قبره بعد ثلاثةٍ حبسناه في المطبق، فهربَ الناس وتركوا زيارته وخُرّب وزُرع..

وكان المتوكل شديد البغض لعليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ولأهل بيته، وكان يقصد مَن يبلغه عنه أنّه يتولّى عليّاً وأهله بأخذ المال والدم.

وكان من جملة نُدمائه عبادة المخنّث، وكان يشدّ على بطنه - تحت ثيابه - مخدّةً، ويكشف رأسه - وهو أصلع - ويرقص بين يدي المتوكل والمغنّون يُغنّون:

قد أقبلَ الأصلعُ البطين

خليفة المسلمين

____________________

(1) تاريخ الأمم والملوك: ج7 ص 365.

١٧٢

يحكي بذلك عليّاً (عليه السلام)، والمتوكل يشرب ويضحك!

ففعلَ ذلك يوماً والمنتصر حاضر، فأومَأ إلى عبادة يتهدّده، فسكتَ خوفاً منه.

فقال المتوكل - لعبادة -: ما لكَ؟! وأخبره.

فقال المنتصر: يا أمير المؤمنين، إنّ الّذي يحكيه هذا الكلب ويضحك منه الناس، هو ابن عمّك، وشيخ أهل بيتك، وبه فخرُك، فكُل أنت لحمهُ ولا تُطعم هذا الكلب وأمثاله منه.

فقال المتوكل للمغنّين: غنّوا جميعاً:

غارَ الفتى لابن عمّه

رأس الفتى في حرّ أمّه

فكان هذا من الأسباب التي استحلّ بها المنتصر قَتل المتوكل - أبيه -.

وقيل: إنّ المتوكل كان يبغض مَن تَقدّمه من الخلفاء: المأمون، والمعتصم، والواثق، في محبّة عليٍّ وأهل بيته، وإنّما كان ينادمه ويجالسه جماعة قد اشتهروا بالنّصب والبغض لعليٍّ منهم: عليّ بن الجهم الشاعر، وعمر بن الفرج الرُخّجي، وأبو السّمط، وابن أترجة، وكانوا يخوّفونه من العلويّين ويشيرون عليه بإبعادهم والإعراض عنهم والإساءة إليهم، ثمّ حسّنوا له الوقيعة في أسلافهم الّذين يعتقد الناس علوّ منزلتهم في الدين، ولم يبرحوا به حتى ظهرَ منه ما كان، فغطّت هذه السيّئة على جميع حسناته) (1) .

ويكفي هذا الخليفة نقصاً أن تصل بذاءة لسانه - وهو على طاولة الشراب وفي مجالس لهو - أنّه نالَ من عِرض زوجته (أمّ المنتصر) لمّا دافعَ عن كرامة عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)؛ إذ قال لابنه: (رأس الفتى في حرّ أمّه) ، وروي أنّه قالها بصراحةٍ: (كذا الفتى في حرّ أمّه) أي: فَرجه في فَرج أمّه.

____________________

(1) الكامل لابن الأثير: ج 5 ص 287 - 288.

١٧٣

ثمّ تكفيه هذه الشهادة من ثلاثة مؤرّخين أجلاّء ذكروا مخازيه وسوء سلوكه وقبح عقيدته، وفساد ما كان عليه من تصرّف! وتصوّر - بعدها - مبلغ مناصبته العداوة لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) في وصيّه وأخيه وابن عمّه، وفي ابن بنته وابن وصيّه وأبي أوصيائه البررة (عليهم السلام)؛ لتقف على ما كان عليه بعض حكّام المسلمين الذين تَسمّوا بأمراء المؤمنين!

ولذا ألقى الخليفة الجديد رجْله على المكبح، وغيّر وجهة السّير لمّا أعلنَ رفع الكابوس الثقيل الجاثم على صدور المؤمنين، فارتاحت النّفوس لذلك، وابتلعَ الكلّ ريقهم..

وقد قال ابن الأثير في تاريخه الكامل: (كان المنتصر عظيم الحِلم، راجح العقل،.. كثير الإنصاف،.. وأمرَ الناس بزيارة عليّ والحسين (عليه السلام)، وآمنَ العلويّين وكانوا خائفين أيام أبيه، وأطلقَ وقوفهم، وأمرَ بردّ فدك إلى وِلد الحسين والحسن ابني عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)) (1) .

وفي عصره المعتدل لم تغب عن الأذهان دلائل عَظمة إمامنا الهادي (عليه السلام) التي كانت تظهر لأوليائه وخصومه - بالرغم من أنّ واضعي التاريخ قد ضنّوا بذكر شيءٍ،.. وبخلوا بكلّ شيء! -، إلاّ أنّه رشحَ إلينا من أخباره نزر قليل يعطي صورةً معبّرةً عن (وجوده) وجوداً منظوراً، كإمامٍ لا يرضيه إلاّ ما يرضي الله عزّ وجلّ، ولا يغضبه إلاّ ما يغضب الله تعالى ورسوله (صلّى الله عليه وآله)، فلا يهادن باطلاً ولو صدرَ من أخيه وأقرب الناس إليه.

ولكنّنا لن ننتقل من مرحلة إلى مرحلة قبل أن نُطلع القارئ على تنصيب بعض أولئك الخلفاء، بعد أن عَرضنا لكيفيّة تنصيب المتوكل سابقاً،.. فقد قال ابن الأثير:

____________________

(1) الكامل لابن الأثير: ج 5 ص 310 - 311.

١٧٤

(في سنة 246 هجرية قُتل المتوكل، وكان هو والفتح بن خاقان قد عَزما على الفتك بالمنتصر ووصيفٍ وبغا، وبعض قوّاد الأتراك صباح غد، وكان ابنه المنتصر قد واعدَ هؤلاء الأتراك على قتل أبيه المتوكل؛ لأنّه يومها كثُر عبثه به فكان مرّةً يشتمه، ومرّةً يأمر بصفعه، ومرّةً يتهدّده بالقتل، ثمّ قال للفتْح: برئتُ من الله ومن قرابتي من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إن لم تلطمه - يقصد المنتصر - فقامَ إليه فلَطمهُ مرّتين!) (1) ثمّ كان ما كان ممّا ذكرناه عن قتلهما وقال:

(وفي اليوم التالي اجتمعَ القوّاد والكتّاب والوجوه والشاكريّة والجند وسائر الناس، فقرأ عليهم أحمد بن الخصيب - الوزير وشاهدَ التزوير - كتاباً يخبر فيه أنّ الفتح بن خاقان قَتل المتوكل، فقتلهُ المنتصر به، ودعاهم إلى المبايعة، فبايعوا!) (2) .

فدماء المسلمين - في عُرف العباسيّين - أجراها الله تعالى مُلكاً لهم يدفعونه ثمن عروش الظّلم،.. وهي في ميزان الأمراء،.. أرخص من الماء.. والهواء!

أمّا الدّهماء من حولهم،.. فسريعاً ما ينادون: ماتَ الزعيم،.. يحيا الزعيم! واللّعب كلّه في عين الله عزّ سلطانه..

***

قال عبد الله بن طاهر: (خرجتُ إلى سرّ مَن رأى لأمر من الأمور أحضَرني المتوكل له، فأقمتُ سنة، ثمّ ودّعت وعزمتُ الانحدار إلى بغداد، فكتبتُ إلى أبي الحسن (عليه السلام) أستأذنهُ في ذلك وأودّعه.

فكتب: (فإنّك بعد ثلاثٍ يُحتاج إليك، وسيحدث أمران) فانحدرتُ واستحسنتهُ.

فخرجتُ إلى الصيد ونسيتُ ما أشار إليّ به أبو الحسن (عليه السلام)، فعدلتُ إلى المطوة - أي الدابّة التي يمتطيها، يركبها - وقد صرتُ إلى مصري - بلدي - وأنا جالس مع خاصّتي إذ بمئة فارسٍ يقولون لي: أجب أمير المؤمنين المنتصر.

فقلت: ما الخبر؟

قالوا: قُتل المتوكل، وجلسَ المنتصر واستوزر أحمد بن الخصيب، فقمتُ من فوري راجعاً) (3) .

____________________

(1) الكامل لابن الأثير: ج 5 ص 302 وص 305.

(2) المصدر السابق.

(3) مدينة المعاجز: ص 552 - 553.

١٧٥

فسبحانَ مَن لم يَحجب عن حجّته أمراً، ولا أسدلَ دون علمه بالأشياء ستراً؛ ليكون الحجّة البالغة على الخلق أجمعين، وليكون آيةً بيّنةً دالّةً على قدرته في اصطفاء مَن شاء من العالمين.

***

وقال المنتصر بن المتوكل - الخليفة بن الخليفة، وكان متشيّعاً للإمام (عليه السلام) بعلمٍ من أبيه الذي كان من أجل ذلك يكرهه ويزدريه.. -:

(زرعَ والدي الآس في بستان وأكثرَ منه، فلمّا استوى الآس كلّه وحسن، أمرَ الفرّاشين أن يفرشوا الدكان - أي المقعد المرتفع - في وسط البستان، وأنا قائم على رأسه.

فرفعَ رأسه إليّ وقال: يا رافضيّ، سَل ربّك الأسود - أي الإمام (عليه السلام) - عن هذا الأصل الأصفر، ما لهُ بين ما بقيَ من هذا البستان قد اصفرّ؟! فإنّك تزعم أنّه يَعلم الغيب.

فقلت: يا أمير المؤمنين، إنّه ليس يَعلم الغيب.

فأصبحتُ وغدوت إليه (عليه السلام) من الغد، وأخبرتهُ بالأمر.

فقال: (يا بني، امضِ أنت واحفُر الأصل الأصفر؛ فإنّ تحته جمجمة نخرة، واصفراره لبخارها ونتنها).

قال: ففعلتُ ذلك، فوجدتهُ كما قال (عليه السلام).

قال - أبوه المتوكل -: يا بنيّ، لا تخبرنّ أحداً بهذا الأمر، ولن نُحدّثك بمثله) (1) .

وليس من العلم الطبيعيّ أنّ اصفرار ذلك الآس نتجَ عن بخار تلك الجمجمة،.. ولا كلّ شجرة آس تحتاج إلى دفن جمجمةٍ نخرةٍ بجانبها حتى يصفرّ ثمرها إذا استوى ونضج،.. ولم نعرف تفسيراً سهلاً لِما قصدهُ الإمام (عليه السلام) بهذا اللّغز الذي فهمه المتوكل حالاً، وأمرَ ابنه المنتصر بأن لا يخبر به أحداً، ثمّ وعدهُ بألاّ يعود إلى مثل تلك الغلطة معه!

____________________

(1) مدينة المعاجز: ص 552 - 553.

١٧٦

وأيسر ما نُقدّره: أنّ تلك الجمجمة شاهد على جريمةٍ كبرى من جرائم المتوكل التي بارزَ الله تعالى فيها وأهل دينه، قد ارتكبها سرّاً وأخفاها عن الناس وعن أقرب المقرّبين إليه لبشاعتها وقُبحها، وقد دُفنَ مَن قتله يومها تحت شجرات الآس، ففضحها الإمام (عليه السلام)، أطلعَ المتوكل على أنّه على علمٍ بها وأنّه يعرف كثيراً من الغيب،.. ويعلم كثيراً من الغيب الذي يرتكبه (خليفة) يدّعي الإسلام ويرتكب الفجور والمنكرات والآثام،.. فأُلقِم حجَراً، وقال لابنه: لن نُحدّثك بمثله..

***

قال أحمد بن محمد بن عيسى: (حدّثني أبو يعقوب، قال: رأيت أبا الحسن (عليه السلام) مع أحمد بن الخصيب - وزير المنتصر - يتسايران وقد قصّر أبو الحسن (عليه السلام) عنه.

فقال ابن الخصيب: سِر جُعلت فداك.

قال أبو الحسن (عليه السلام): (أنت المقدّم) وهذا إخبار له بأنّه يموت قبله.

فما لبثنا إلاّ أربعة أيامٍ حتى وضِعَ الوهق على ساق ابن الخصيب، وقُتل) (1) .

والوهق: حبلٌ في أحد طرفيه أنشوطة يُربط بهما ويُشدّ على رجلَي مَن رُمي للقتل أو أُريد ضربه.

قال الراوي: وألحّ قبل هذا ابن الخصيب على أبي الحسن (عليه السلام) في الدار التي كان قد نَزلها، وطالبهُ بالانتقال منها وتسليمها إليه، فبعثَ إليه أبو الحسن (عليه السلام): (لأقعِدنّ بك من الله مقعداً لا تبقى لك معه باقية!) فأخذهُ الله في تلك الأيام) (2) .

وابن الخصيب هذا، وزير للمنتصر - كما ذكرناه - كان قد استوزرهُ وندمَ على استيزاره؛ لأنّه كان طاغية متكبراً (فقد ركبَ ذات يوم فَتَظلّم له مُتظلّم، فأخرجَ رجْله من الركاب فزّج بها صدر المتظلِّم فقتلهُ! فتحدّث الناس في ذلك، وقال بعض الشعراء:

____________________

(1) الإرشاد: ص 311 - 312، وكشف الغمّة: ج 3 ص 170 - 171، وإعلام الورى: ص 342، وبحار الأنوار: ج 50 ص 139 نقلاً عن مختار الخرائج والجرائح: ص 238، وهو في مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 407، والكافي: م 1 ص 501، ومدينة المعاجز: ص 541.

(2) المصدر السابق.

١٧٧

قل للخليفة يا بن عمّ محمد

أشكِل وزيرك إنّه ركّال

أشكِله عن ركل الرّجال فإنْ تَرد

مالاً فعندَ وزيرك الأموال

وقد كان ابن الخصيب قليل الخير، كثير الشّر، شديد الجهل) (1) .

وأشكِل وزيرك، أي: اربطهُ برجليه وشدّهما إلى بعضهما كما تُربط الدابّة لمنعها من اللّبيط،.. والرّكل: هو أن يلبط الرّجل غيره برجله استهانةً به..

فيا ويحَ راكل ذلك المتظلّم برجْله رَكلاً قتله به! والويل لوزير متكبّرٍ جاهلٍ، كثير الشّر؛.. فإنّه لمّا دفعهُ الإمام (عليه السلام) ليقدّمه أثناء السّير معه، أراه مقعده من النار، منذ اللّحظة التي قال له فيها: (أنت المقدّم!)، فقد دعّه - منذئذٍ - إلى جهنّم التي ( عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) (2) ، حيث لقي ابن الخصيب عندهم منزلاً جديباً!

وبقيَ الإمام (عليه السلام) في منزله رغماً عن أنفه،.. وبمرتبته التي رتّبه الله تعالى فيها.

____________________

(1) انظر مروج الذهب: ج 4 ص 48 وص 51 و ص 52، والكامل لابن الأثير: ج 5 ص 269 و ص 287.

(2) التحريم: 6.

١٧٨

وابن الخصيب هذا، قد فعلَ الأفاعيل قبل موته، واختلسَ هو وبقيّة كتّاب القصر أموال المسلمين واكتنزوها في خزائنهم.

  (ففي سنة تسع وعشرين ومئتين للهجرة، حبسَ الواثق الكُتّاب وألزَمهم أموالاً عظيمةً، وأخذَ من أحمد بن إسرائيل ثمانين ألف دينار بعد أن ضربهُ، ومن سليمان بن وهب، كاتب إيتاخ، أربعمئة ألف دينار، ومن الحسن بن وهب أربعة عشر ألف دينار، ومن إبراهيم بن رياح وكتّابه مئة ألف دينار، ومن أحمد بن الخصيب وكتّابه ألف ألف دينار - مليون! -، ومن نجاح ستّين ألف دينار، ومن أبي الوزير مئة ألف وأربعين ألف دينار) (1)! ( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ) (2) يا أيّها الكاتب المتكبّر، والوزير المتجبّر..

(وروي أنّ الحسن العسكريّ (عليه السلام) اتّصل بأبي الحسن، عليّ بن محمد العسكريّ (عليه السلام) - أي بأبيه في هذا العهد - أنّ رجلاً من فقهاء شيعته كلّم بعض النّصاب فأفحَمهُ بحجّته حتى أبانَ فضيحته، فدخلَ - أي الرجل الفقيه من شيعته - على عليّ بن محمدٍ (عليه السلام)، وفي صدر مجلسه دست عظيم منصوب - وسادة عظيمة - وهو جالس خارج الدّست، وبحضرته خلق من العلويّين وبني هاشم، فما زال يرفعه حتى أجلسه في ذلك الدّست وأقبلَ عليه، فاشتدّ ذلك على أولئك الأشراف.

فأمّا العَلَوية فأجلّوه عن العتاب.

وأمّا الهاشميّون فقال له شيخهم: يا بن رسول الله، هكذا تؤثر عامّيّاً - غير ذي حسبٍ ونسبٍ - على سادات بني هاشم من الطالبيّين والعباسيّين؟!

____________________

(1) انظر مروج الذهب: ج 4 ص 48 و ص 51 و ص 52، والكامل لابن الأثير: ج5 ص 269 و 287.

(2) التوبة: 34.

١٧٩

فقال (عليه السلام): (إيّاكم وأن تكونوا من الذين قال الله تعالى فيهم: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ ) (1) ، أترضون بكتاب الله حَكماً؟ قالوا: بلى.

قال: أليس الله يقول: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ... ) (2) ؟! فلم يرضَ للعالِم المؤمن إلاّ أن يُرفع عن المؤمن من غير العالِم، كما لم يرضَ للمؤمن إلاّ أن يُرفع على مَن ليس بمؤمن.

أخبروني عنه، قال: ( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ... ) أو قال: يرفع الذين أوتوا شَرف النَسب درجات؟!

أو ليس قال الله: ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) (3) ؟! فكيف تنكرون رَفعي لهذا لمّا رفعهُ الله! إنّ كسر هذا (الرجل) لفلانٍ الناصب، بحجج الله التي علّمه إيّاها، لأفضَل من كلّ شَرفٍ في النَسب.

فقال العباسي: يا بن رسول الله، قد أشرفتَ علينا - أي قدّمت علينا في الشرف.. - هو ذا تقصير بنا عمّن ليس له نَسب كنَسبنا، وما زال منذ أول الإسلام يُقدّم الأفضل في الشرف على مَن دونه فيه.

فقال (عليه السلام): سبحان الله! أليس عباس بايع أبا بكرٍ وهو تيميّ والعباس هاشميّ؟!

أوَ ليس عبد الله بن عباس كان يخدم عمر بن الخطّاب، وهو هاشميّ أبو الخلفاء، وعمر عدويّ؟! وما بال عمر أدخلَ البُعداء من قريشٍ في الشورى، ولم يُدخل العباس؟! فإن كان رَفعُنا لِمن ليس بهاشميّ على هاشمي منكراً، فأنكروا على عباس بيعته لأبي بكر، وعلى عبد الله بن عباس خِدمته لعمر بعد بيعته! فإن كان ذلك جائزاً، فهذا جائز). فكأنّما ألقَمَ الهاشميّ حجَراً) (4) .

____________________

(1) آل عمران: 23.

(2) المجادلة: 11.

(3) الزمر: 9.

(4) الاحتجاج: ج 2 ص 455، وحلية الأبرار: ج 2 ص 454 - 455.

١٨٠