الإمام علي الهادي ( عليه السلام ) مع مروق القصر وقضاة العصر

الإمام علي الهادي ( عليه السلام ) مع مروق القصر وقضاة العصر0%

الإمام علي الهادي ( عليه السلام ) مع مروق القصر وقضاة العصر مؤلف:
تصنيف: الإمام علي بن محمد الهادي عليه السلام
الصفحات: 286

الإمام علي الهادي ( عليه السلام ) مع مروق القصر وقضاة العصر

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: كامل سليمان
تصنيف: الصفحات: 286
المشاهدات: 19860
تحميل: 5808

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 286 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 19860 / تحميل: 5808
الحجم الحجم الحجم
الإمام علي الهادي ( عليه السلام ) مع مروق القصر وقضاة العصر

الإمام علي الهادي ( عليه السلام ) مع مروق القصر وقضاة العصر

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فتعالى الله العزيز الوهّاب،.. وسلامه وتحيّاته وبركاته على خزّان علمه الذين زُقّوا العلم زقّاً؛ فإنّ مَن حاولَ أن يغوص في بحر علمهم غرق،.. ومَن عارضَ حقّهم بباطله زَهق،.. ومَن سلّمَ إليهم واتّبع أمرهم وسمعَ قولهم - الذي هو قول الله وقول رسوله - لحقَ بركب الهدى، ونجا من الضلال واللّهث وراء حطام الدنيا؛ لأنّهم حَملة رسالة الحقّ والعدل التي أنزلها الله تبارك وتعالى إلى خلقه، وهم حماتها ومستودع سرّ الله وأمناؤه على دعوته..

هذا، وإنّ الله تعالى لا يسأل يوم القيامة عن الأنساب، ولا عن العشائر والقبائل؛ إذ قال عزّ مَن قائل: ( فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءلُونَ * فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (1) ، فَنَسب المرء يوم القيامة يُقرّره علمه، وإنّ محمداً (صلّى الله عليه وآله) قال لبضعته الشريفة الغرّاء فاطمة الزهراء سيّدة نساء العالمين: (يا فاطمة، اعمَلي؛ فإنّي لا أغني عنك من الله شيئاً) وهو (صلّى الله عليه وآله) شفيع الأمّة يوم الحساب، في حين أنّ عمّه أبا لهبٍ كافر معاند ضال قد خلّد القرآن الكريم ذمّه إلى الأبد.

وقد قدّمنا: أنّ عهد المنتصر كان عهداً فرّج الله تعالى فيه عن الشيعة نوعاً ما، ومع ذلك فقد بخلَ المؤرّخون بذكر أيّ شيءٍ جرى عهدئذٍ على يد الإمام (عليه السلام)، وضَنّوا بوصف أعماله وتحرّكاته، وخَلت من ذلك كتبهم الطافحة بذكر الحوادث والأحداث،.. ثمّ توفّي المنتصر سنة 248 للهجرة وبويعَ المستعين الذي هو أحمد بن محمد بن المعتصم، ودام عهده إلى سنة 251 هجريّة حيث مات، وتولّى الأمر من بعده المعتزّ الذي سَمّ الإمام (عليه السلام) في عهده المشؤوم (2) .

***

____________________

(1) المؤمنون: 101 - 102.

(2) انظر الكامل لابن الأثير: ج 5 ص 311 وص 320.

١٨١

بعضُ آياته ومعجزاته (عليه السلام)

هذا العنوان يُنفّر بعض سامعيه قبل أن يطّلعوا على تفاصيله وحقيقة أمره، ولكنّهم حين يعلمون أنّ مصدر الآيات كلّها واحد، وهو الله سبحانه وتعالى - سواءً أنزلها للرّحمة أم للنقّمة، على يد نبيّ، أو يد وصيّ نبيّ، أو يد عبدٍ صالحٍ - فإنّ المستغربين حينئذٍ لا يعجبون..

وما زالت الآيات بإذنه تعالى، وبقدرته ومشيئته، فلا عجب إذاً إذا أجراها على يد النبيّ، والوصيّ، والعبد الصالح،.. ولا ينبغي أن تنفر النفوس من ذكر الآيات والمعاجز وخوارق الطبيعة؛ لمجرّد أنّ العقول لا تستوعب حدوثها ولا يقدر الآخرون على القيام بمثلها، فالأمر - بحدّ ذاته - يدور - إذاً - بين أنّ الله تعالى قادر على أن ينزّلها، أو أنّه - والعياذ به سبحانه - غير قادر!

أمّا هو تبارك وتعالى فيقول في محكم كتابه: ( قُلْ - يا محمد للنّاس - إِنَّ اللّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ) (1) ، ويقول عزّ مَن قائل: ( إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللّهِ ) (2) ، وقال تعالى أيضاً: ( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ ) (3) ، فمَن صدّقَ به - تعالى وعزّ قائلاً - وآمنَ بأنّها من عنده سبحانه، وأنّه قادر على إنزالها متى شاء لمصلحة العباد والحكمةٍ تقتضيها مشيئته ولزوم الأمر، صدّقَ بحدوثها، ومَن كذّبَ بذلك فله مكان في حظيرة الملحدين والمكابرين يأوي إليها يوم الدّين، ولا شأن لنا معه ما زال سيكون لجهنّم حَطباً.

فالآيات من عنده سبحانه،.. ولا تصدر إلاّ عن أمره وبقدرته التي تفوق ما ألِفه النّاس عُرفاً وعادةً، فتنزل على يد الرّسول لمصلحة أمّته،.. وعلى يد وصيّ رسوله - لأنّه وليّه على الخلق - لإثبات وصايته وولايته، فتكشف للناس على يد كلٍّ منهما صدق دعوته وكونه على الحق،.. ولا غرابة في نزولها حين نؤمن بحكمة الله تعالى، ولا تجفل نفوسنا من اسمها بمقدار ما تجفل حين وقوعها وصدورها.

____________________

(1) الأنعام: 37.

(2) الأنعام: 109.

(3) الرعد: 38، والمؤمن: 78.

١٨٢

وهي إنّما تنزل لتهزّ ضمائر الناس وتوقظها بعد إثارة إعجابهم،.. ولتفتح عليهم باب التفكّر،.. والتدبّر،.. والاختيار بين طريق الحقّ، وطريق الباطل،.. وإن هي نَزلت فإنّما تنزل في مناسباتٍ يكون لا مناص منها، ولا مخرج إلاّ بها، إذ تكون تلك المناسبات عظيمةً يبارَز الله تعالى فيها - عَلناً وعناداً - في قدرته، وتتحدّى فيها مشيئته،.. فيظهر قدرته الفائقة الوصف..

فالنبيّ، والوصيّ، بلا آياتٍ - وبلا معاجز - يكونان منتدَبين للأمر العظيم - الذي أقلّه حرب الكفر وأهل العناد - بلا سلاحٍ ولا عدّة،.. ويكونان سفيرَين لله تعالى مجرّدين من أهمّ عوامل القوّة للوقوف في وجه التكذيب، وللثبات في ساحة الدفاع عن أمره عزّ وعلا،.. فالآيات والمعاجز سلاح سفير السماء في الأرض حين لا تنفع الحسنى ولا الموعظة ولا الإنذار، وهي رأس ماله الربّانيّ الذي يطرحه كرصيدٍ كلّما كشّر الضلال في وجهه وتحدّى الكفر قدرة ربّه!

أمّا أن يرسل الله نبيّاً ويكِله إلى نفسه، أو أن يختار حجةً على الناس ويصرف وجهه الكريم عنه ولا يمنحه التسديد والتأييد، فأمران من المحال؛ إذ لا يُعقل أن أبعث مندوباً عنّي يضارِب في السوق التجاريّ - أو في البورصة والحرب الماليّة - صفر اليدين ومن غير مال، كما أنّ الدولة لا تلقي بالجنديّ في ساحة الحرب والدفاع عن الوطن دون سلاح.

١٨٣

فاستهجانُ الآيات قائم في نفوس الناس من جهة أنّ الآتين بها هم (بشر) من البشر ويبدون كسائر الناس - وإن فاقوهم في المزايا الكريمة والخُلق الرفيع - ثمّ يقومون بالخوارق ويأتون بما لا يستطيع الناس أن يأتوا بمثله،.. أمّا لو كانت الخوارق تأتي عن أيدي أفرادٍ من غير جنس البشر، فإنّه يكون للبشر منها موقف آخر؛ ولذا نرى أنّه ما من أناسٍ جاءهم أنبياء يبشّرون وينذرون، إلاّ ( قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا ) (1) ، فلا نؤمن لبشر.. ( أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا ) (2) ( فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوا ) (3) ، لهذا السبب أولاً وبالذات.

فلو مَسحنا من أذهاننا هذه الأفكار الموروثة الصدئة؛ لرأينا الأمر أبسط ممّا نتوهّم، ولآمنّا بالآيات والمعجزات والخوارق التي يأتي بها النبيّ أو الوصيّ، الذي تُجهّزه دولة السماء بكلّ ما تشاء له من قوّةٍ بعد أن جَعلتهُ (منتدباً عنها فوق العادة)، وذا حصانةٍ لا يرفعها إلاّ خالقها عزّ وجلّ.

***

وعلى كلّ حالٍ، قد مَررنا بالكثير الكثير من آيات إمامنا (عليه السلام) عِبر فصول هذا الكتاب، منذ عهد ولادته وحتى هذا الفصل، ونُشفع ذلك الذي مرّ، بهذه الطائفة التي نوردها فيما يلي، مستفتحين ذلك بقصّتين مختصرتين تُعبّران عن معنى الآية الخارقة للعادة والعُرف أوضح تعبير:

أُولاهما: رواها محمد بن الفرج الذي قال:

(قال عليّ بن محمدٍ (عليهما السلام): (إذا أردتَ أن تسأل مسألةً فاكتبها وضَع الكتاب تحت مصلاّك ودعه ساعةً، ثمّ أخرِجه وانظر).

ففعلتُ، فوجدتُ جواب ما سألته عنه موقّعاً فيه) (4) .

وهذه من العجائب حقّاً! ولا تحدث بحسب العادة والمألوف، ولا تكون حتى بالسّحر،.. إذ كيف انتقلت المسألة من تحت المصلّى فاطّلع عليها الإمام (عليه السلام) وأجابَ عنها ووقّع الجواب، ثمّ أُعيدت إلى مكانها؟!

____________________

(1) يس: 15.

(2) التغابن: 6.

(3) التغابن: 6.

(4) كشف الغمّة: ج 3 ص 185، وبحار الأنوار: ج 50 ص 155.

١٨٤

إنّها آية تتحدّى المألوف،.. وتضرب العُرف والعادة،.. وهي معجزة تكشف عن سرٍّ مكنونٍ عند أمين الله في أرضه! ولو استطعنا تفسيرها وتحليلها لبطل كونها خارقةً يعجز غير الإمام عن الإتيان بها؛ لأنّ الإمام - وحده - يعمل بين يديه ملائكة مُسخّرون لأمره، بأمر ربّه عزّ وجلّ..

***

والثانية: أعجب وأكثر غرابة، وهي ما رواها السيد ابن طاووس في كشف المحجّة بإسناده، من كتاب الرسائل للكليني عمّن سمّاه، قال:

(كتبتُ إلى أبي الحسن (عليه السلام): إنّ الرجل يحبّ أن يفضي إلى إمامه ما يحبّ أن يفضي إلى ربّه.

قال: فكتبَ: (إن كان لك حاجة فحرّك شَفتيك؛ فإنّ الجواب يأتيك) (1) .

فهل استغربتَها وعجبتَ مثل عَجبي منها؟ إذاً هي معجزة لا تصدر إلاّ عن إمام،.. ولا تقع إلاّ مع وليّ مخلصٍ امتحنَ الله تعالى قلبه بالإيمان، وهي والتي سَبقتها دلالتان على إمامة الإمام وحجيّته بين عباد الله، ولو كانتا غير عجيبتين لفقدَتا قيمتهما ولكانَ الآتي بهما إنساناً عاديّاً،.. وليس إماماً،.. ومثلهما آيات نوحٍ، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد صلوات الله عليهم؛ فإنّها كانت خوارق للعادة،.. عجيبةً، مدهشةً،.. صَدرت بإذن الله وبتقديره وتدبيره،.. وعينه وحكمته.

وآيتا الإمام اللتان ذكرناهما، هما - بحدّ ذاتهما - أسهل استساغةً من سفينة نوحٍ وطوفانه، ونار النمرود التي زُجّ فيها نبيّ الله إبراهيم، وعصا موسى، وإحياء عيسى للموتى، ومعاجز محمدٍ الذي سبّحَ الحصى بيده، ونبعَ الماء من بين أصابعه الشريفة، وكلّمه الطير والوحش!

***

فإذا أردتَ أن تسمع عجيباً وغريباً يقول عنه المنافقون: سحر وتخييل، وهو بالحقيقة من مِنح الربّ الجليل، فامحُ من قلبك النّكتة السوداء، ونظّف نفسك من أدران رواسب الجاهلية العمياء، واستقبِل آيات هذا الإمام الكريم على الله سبحانه بقلبٍ نقيّ ونفسٍ صافيةٍ، واستمع إلى ما ذكره أبو جعفر، محمد بن جرير الطبري الذي قال:

____________________

(1) المصدر السابق.

١٨٥

(حدّثنا سفيان عن أبيه، قال: رأيت عليّ بن محمدٍ ومعه جراب ليس فيه شيء، فقلت: أتراك ما تصنع بهذا؟ فقال: (أدخِل يدك. فأدخلتُ يدي، وليس فيه شيء. ثمّ قال لي: عُد).

فعدتُ فإذا هو مملوء دنانير!) (1) .

ما أشبهها بلعبة (الكلاكلا) والسّحر والشعوذة،.. لولا أنّها حقيقة لا تخييل فيها ولا تضليل،.. فالجراب مملوء بالدنانير واقعاً،.. ولو كنتَ حاضرها لنالكَ من الدنانير نصيب،.. وقد مررتَ بنظائر لها من معاجز إمامنا (عليه السلام)، وستمرّ بكثيرٍ من أمثالها.

فكيف امتلأ ذلك الجراب بالدنانير، لولا القدرة الخفيّة التي تفيض الوجود من كتم العدم بمشيئة الربّ القدير؟! إنّ تلك القدرة الهائلة لم يعجزها إيجاد الكائنات بأنواعها، مع خصائصها، وأحجامها، وأبعادها، وأنظمتها الأزليّة التي تُمسك السماء أن تقع على الأرض،.. وتنير الشمس فلا يطفئها طول الزمان،.. وتحمل الكواكب في الأفق اللامتناهي فلا تضطرب، ولا تتناثر، ولا تحول ولا تزول!! ولا تَعجز عن إيجاد دنانير، تملأ الجراب الصغير،.. ولا هي عَجزت عن خلق ناقة صالح (عليه السلام) من بطن الصخرة الصّماء: وبْراء، عشْراء، ذات حياةٍ ورغاء،.. وإحداث آيات مذهلات..

***

ومثلها ما ذكره الطبريّ عن عمارة بن يزيد الذي قال: قلت لعليّ بن محمد بن الرّضا: هل تستطيع أن تُخرج من هذه الأسطوانة رمّانة؟ قال: (نعم، وتمراً، وعنباً، وموزاً). ففعلَ ذلك، وأكلنا وحَملنا (2) . ولو كان غير حقيقيّ - كالسّحر والشعوذة - لمَا أكلوا، ولمَا حَملوا..

***

وهذه الآيات يقف الفكر أمامها حائراً، ويَحرُن العقل تجاهها مزورّاً، فلا تدخل إليه إلاّ بعسرٍ شديد؛.. لأنّه لا يستطيع فلسفة الآية التي تقلب العصا حيّةً تلقف حبال سَحرة فرعون، وتجعل نار النمرود بَرداً وسلاماً على إبراهيم، وتنقل عرش مَلِكة سبأ من اليمن إلى القدس بأقلّ من طرفة عين!

____________________

(1) مدينة المعاجز: ص 543.

(2) المصدر السابق.

١٨٦

أجل، إنّها معاجز يعجز أمام تحليلها الفكر، ولا يؤمن بها إلاّ مَن قد آمنَ بربّه ربّاً قادراً لا يعجزه شيء، وبالملائكة والرّسل والكتب،.. ولا يأتي بها إلاّ نبيّ، أو وصيّ بإذن ربّه وقدرته الفائقة،.. وهي لا تقع بدون مناسبةٍ هامّةٍ يترتّب عليها أثر هام؛ لأنّ الإمام لا يجمع الناس في الساحات ليتفرّجوا على آياته وبيّناته، ولا من شأنه عَرض ذلك كما يفعل السَّحرة والمشعوذون.

***

وقال محمد بن يزيد: (كنتُ عند عليّ بن محمدٍ (عليه السلام)، ولاذَ به قوم يَشكون الجوع، فضربَ يده إلى الأرض، وكان لهم بُرّاً ودقيقاً) (1) .

فبورِكتْ يد تجعل التراب مرّةً بُرّاً، وأخرى دقيقاً، وتُحيل الرمل ذهباً مرةً ثالثةً بإذن ربّها! وإنّها لَيد مباركة تحرّكها إرادة الرحمان، فتفعل بقدرته ما يبهر الإنسان، ويدفع البهتان، ويَدع العقل يعمل بسرعة الكهرباء ليقف في مصافّ المؤمنين المصدّقين، أو في عِداد المنافقين الذين تأخذهم العزّة بالإثم،.. فالإنسان أمام هذه الظواهر المدهشة إمّا أن يهضمها بإيمان،.. وإمّا أن يُصعّر خدّه عنها بكبرٍ وبنَفثة شيطان،.. ولا حال بين الحالين،.. ونحن ننقلها إلى الأخوة الأحبّة من القرّاء بأمانةٍ، ليتفكّروا ويتدبّروا ويختاروا التصديق أو التكذيب.

***

وذكرَ القطب الراوندي أنّ جماعةً من أهل أصفهان - منهم أبو العباس، أحمد بن النضر، وأبو جعفر، محمد بن علويّة - قالوا:

(كان بأصفهان رجل يقال له عبد الرحمان، وكان شيعيّاً، فقيل له: ما السبب الذي أوجبَ عليك القول بإمامة عليّ النقيّ دون غيره من أهل الزمان؟

فقال: شاهدتُ ما أوجبَ عليّ ذلك؛ وذلك أنّي كنتُ رجلاً فقيراً وكان لي لسان وجرأة، فأخرَجني أهل أصفهان سنةً من السنين مع قومٍ آخرين، فجئنا إلى باب المتوكل متظلّمين.

وكنّا بباب المتوكل يوماً إذ خرجَ الأمر بإحضار عليّ بن محمدٍ الرّضا (عليه السلام)، فقلتُ لبعض مَن حَضَر: مَن هذا الرجل الذي قد أمَرَ بإحضاره)؟

____________________

(1) مدينة المعاجز: ص 554.

١٨٧

فقيل: هذا رجل عَلويّ تقول الرافضة بإمامته، ثمّ قيل: ونُقدّر أنّ المتوكل يُحضره للقتل.

فقلت: لا أبرح من هاهنا حتى أنظر إلى هذا الرجل أيّ رجل هو.

فأقبلَ راكباً على فرسٍ وقد قامَ الناس صَفّين، يمنة الطريق ويسرَتها ينظرون إليه.

فلمّا رأيتهُ وقفتُ فأبصرته، فوقعَ حبّه في قلبي، فجعلتُ أدعو له في نفسي بأن يدفع الله عنه شرّ المتوكل.

فأقبلَ يسير بين الناس وهو ينظر إلى عُرف دابّته لا يلتفت يمنةً ولا يسرةً، وأنا أُكرّر في نفسي الدعاء له،.. فلمّا صارَ بإزائي أقبلَ بوجهه عليّ وقال: (قد استجابَ الله دعاءك، وطوّلَ عُمرك، وكثّر مالكَ ووِلدك).

قال: فارتعدتُ من هيبته، ووقعتُ بين أصحابي..

فسألوني: ما شأنك؟

قلت: خير،.. ولم أخبرهم بذلك.

فانصرفنا بعد ذلك إلى أصفهان، ففتحَ الله عليّ وجوهاً من المال حتى أنّي اليوم أغلُق بابي على ما قيمته ألف ألف درهم سوى مالي خارج داري! ورُزقت عشرةً من الأولاد، وقد بلغتُ الآن من عمري نيّفاً وسبعين سنةً، وأنا أقول بإمامة هذا الرجل الذي عَلِم ما في قلبي، واستجاب الله دعاءه فيّ ولي) (1) .

ونأسف أنّ عبد الرحمان هذا، قد مات برغم طول عمره، وليس في يدنا ولا في مقدورنا أن نسأله عن كيفيّة تأثير كلام الإمام (عليه السلام) في نفسه، لدرجةٍ بلغَ معها مبلغاً ارتعدَت منه فرائصه ووقعَ على وجهه مغشيّاً عليه بين أصحابه! ولكنّنا نقف ذاهلين أمام علم الإمام الذي نفذَ إلى ضمير عبد الرحمان فاطّلع على ما في نفسه، وقرأ غيرته عليه، ووقوع حبّه في قلبه، ودعاءه له خُفيةً عن غيره.

____________________

(1) كشف الغمّة: ج 3 ص 189 - 180، وبحار الأنوار: ج 50 ص 142 نقلاً عن مختار الخرائج والجرائح: ص 209، وهو في الأنوار البهية: ص 249 - 250، ومدينة المعاجز: ص 547، وحلية الأبرار: ج 2 ص 464 - 465.

١٨٨

وفي كلّ حالٍ، لا ينقضي عجبنا من انكشاف سريرة (واحدٍ) يقف بين (آلاف المتفرّجين) على يمين الشارع العامّ ويساره، وهم جميعاً يختلسون النظر إلى (رجلٍ) أمرَ الخليفة بإحضاره لقتله،.. ولا يمنعنا من التساؤل:

كيف سمعَ الإمام وسوسة صدر عبد الرحمان وما دارَ في خاطره، وما حدّثته به نفسه؟! وكيف وعَى ما يجول في فكره من دعاء وتمنيّات!

ثمّ ما هذه الثقة بالله عند الإمام الذي يقول لرجل لا يعرفه ولا رآه سابقاً، ولا سمعَ له قولاً: (قد استجاب الله دعاءك، وطوّل عمرك، وكثّر مالك ووِلدك)؟!

إنّ كلّ التساؤلات التي تخطر في البال حول مآتي الإمام، تنمحي ولا تدور في فكر مَن كان في قلبه إيمان،.. ويحلّ محلّها تقديس الله وتسبيحه والإقرار بعظمته وقدرته،.. ويريح الإنسان من الضياع والسير في الفراغ..

قال أبو الحسن، محمد بن إسماعيل بن أحمد القهقلي، الكاتب بسرّ مَن رأى سنة ثمانٍ وثلاثين وثلاثمائة ومئتين:

(حدّثني أبي، قال: (كنتُ بسرّ مَن رأى أسير في درب الحصى، فرأيت (يزداد) الطبيب النصرانيّ، تلميذ بختيشوع، وهو منصرف من دار موسى بن بغا، فسايَرَني وأفضى الحديث إلى أن قال لي: أترى هذا الجدار،.. تدري مَن صاحبه؟

قلت: ومَن صاحبه؟

قال: هذا الفتى العَلوي الحجازيّ - يعني عليّ بن محمد بن الرّضا (عليهم السلام) وكنّا نسير في فناء داره.

قلت ليزداد: نعم، فما شأنه؟

قال: إنّه كان مخلوق يَعلم الغيب!

قلت: فكيف ذلك؟!

قال: أخبرك عنه بأعجوبةٍ لن تسمع بمثلها أبداً ولا غيرك من الناس! ولكن لي الله عليك كفيل وراعٍ أن لا تُحدّث بها أحداً؛ فإنّي رجل طبيب ولي معيشة أرعاها عند السلطان، وبلغَني أنّ الخليفة استقدَمه من الحجاز فَرِقاً منه؛ لئلاًّ ينصرف إليه وجوه الناس، فيخرج هذا الأمر عنهم - يعني عن بني العباس -.

قلت: عَليّ ذلك، فَحدِّثني به وليس عليك بأس، إنّما أنت رجل نصراني لا يتّهمك أحد فيما تُحدّث به عن هؤلاء القوم.

١٨٩

قال: نعم، أُعلِمك،.. إنّي لقيته منذ أيامٍ وهو على فرسٍ أدهم، وعليه ثياب سود، وعمامة سوداء، وهو أسود اللون، فلمّا بصرتُ به وقفت إعظاماً له وقلت في نفسي - لا وحقّ المسيح، ما خرَجَت من فمي إلى أحدٍ من الناس -: ثياب سوداء، ودابّة سوداء، ورجل أسود؟!

فلمّا بلغَ إليّ نظرَ إليّ وأحدّ النظر وقال: (قلبك أسود ممّا ترى عيناك من سوادٍ في سوادٍ في سواد).

قال أبي (رحمه الله) للطبيب: فقلتُ له: أجل، فلا تُحدّت به أحداً، فما صنعتَ، وما قلت؟!

قال - أي الطبيب -: أسقطتُ في يده، فلم أجد جواباً.

قلت له: فما أبيضّ قلبك لِما شاهدتَ؟!

قال: الله أعلم.

قال أبي: فلمّا اعتلّ (يزداد) بعثَ إليّ فحضرتُ عنده، فقال: إنّ قلبي قد ابيضّ بعد سواده، فأنا أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وأنّ عليّ بن محمّدٍ حجة الله على خلقه، وناموسه الأعظم، ثمّ ماتَ في مرضه ذلك، وحضرتُ الصلاة عليه رحمه الله) (1) .

وقبل أن نقف مع قصة (يزداد)، نورد للقارئ قصةً أخرى ذكرها هبة الله بن أبي منصور الموصلي الذي قال:

(كان بديار ربيعة كاتب لها نصرانيّ، وكان من (كفرتوثا) - القرية الكبيرة الواقعة بين دجلة والفرات - يسمّى يوسف بن يعقوب، وكان بينه وبين والدي صداقة، فوافانا فقال له والدي: فيمَ قدِمتَ في هذا الوقت؟

قال: دُعيت إلى حضرة المتوكل، ولا أدري ما يراد منّي، إلاّ أنّي اشتريت نفسي من الله بمئة دينار، وقد حَملتها لعليّ بن محمدٍ الرّضا (عليهما السلام) معي.

فقال له والدي: قد وفِّقت في هذا.

قال: وخرجَ إلى حضرة المتوكل، وجاءنا بعد أيام قلائل فرحاً مسروراً مستبشراً.

فقال له والدي: حدِّثني حديثك.

____________________

(1) بحار الأنوار: ج 50 ص 161 - 162، ومدينة المعاجز: ص 548.

١٩٠

قال: صرتُ إلى سرّ مَن رأى وما دخلتها قطّ - أي أنّه لم يدخلها قبلئذٍ - فنزلتُ في دار وقلت: يجب أن أوصِل هذه المئة دينار إلى ابن الرّضا قبل مصيري إلى باب المتوكل، وقبل أن يَعرف أحد قدومي.

وعرفتُ أنّ المتوكل قد منعهُ من الرّكوب وأنّه مُلازم داره - أي بالإقامة الجبريّة - فقلت: كيف أصنع؟! رجل نصرانيّ يسأل عن ابن الرّضا! لا آمِن أن يُنذر بي، فيكون ذلك زيادةً في ما أحاذره.

قال: ففكّرت ساعةً في ذلك، فوقعَ في قلبي أن أركب حماري وأخرج في البلد، فلا أمنعهُ حيث يذهب، لعلّي أقِف على معرفة داره من غير أن أسأل أحداً،.. فجعلت الدنانير في كاغذٍ - ورقة، أو كيس من ورق - وجعلتها في كمّي وركبت، وكان الحمار يتخرّق في الشوارع والأسواق يمرّ حيث يشاء، إلى أن صرتُ إلى باب دارٍ، فوقفَ الحمار،.. فجهدت أن يزول فلم يزُل! فقلت للغلام: سَل لِمن هذه الدار؟ فقيل: دار ابن الرّضا (عليه السلام).. فقلت: الله أكبر! دلالة والله مُقنعة.

قال: فإذا خادم أسود قد خرجَ فقال: أنت يوسف بن يعقوب؟

قلت: نعم.

قال: فانزِل،.. فنزلتُ فأقعدَني في الدهليز ودخل، فقلت في نفسي: هذه دلالة أخرى، من أين عرفَ هذا الغلام اسمي واسم أبي، وليس في البلد مَن يعرفني ولا دَخلته قطّ؟!

فخرجَ الخادم فقال: المئة دينار التي في كمّك في الكاغد، هاتها.

فناولته إيّاها وقلت: هذه ثالثة.

ثمّ رجعَ فقال: ادخُل..

فدخلتُ وهو في مجلسه وحده، فقال: (يا يوسف ما آنَ لك؟! - أي ما آنَ أن تُسلم بعد هذه الدلائل الغيبيّة العجيبة -.

فقلت: يا مولاي، قد بانَ لي من البرهان ما فيه كفاية لِمن اكتفى.

فقال: هيهات، إنّك لا تُسلم، ولكن سيسلم وَلَدك فلان وهو من شيعتنا، يا يوسف، إنّ أقواماً يزعمون أنّ ولايتنا لا تنفع أمثالكم، كذبوا والله، إنّها لتنفع أمثالك، امضِ فيما وافيتَ له فإنّك سترى ما تُحب، وسيولد لك ولدٌ مبارك).

قال: فمضيتُ إلى باب المتوكل فنلتُ كلّ ما أردتُ، وانصرفت.

١٩١

قال هبة الله: فلقيتُ ابنه بعد هذا وهو مسلم حَسن التشيّع، فأخبرَني أنّ أباه ماتَ على النصرانيّة، وأنّه أسلمَ بعد موت أبيه، وكان يقول: أنا مؤمن ببشارة مولاي (عليه السلام)) (1) .

والعجيب في هذه القصة: أنّ الحمار اهتدى للدار من دون دليل،.. وراكب الحمار - يوسف بن يعقوب - لم يهتدِ إلى الحقّ مع دلالاتٍ ثلاثٍ قويّة البرهان، لمَسَها بنفسه وعدّها واحدةً بعد واحدة!

والأعجب في أمره: أنّه اشترى نفسه من الهلاك الذي كان ينتظره بمئة دينار نَذرها للإمام (عليه السلام)، إنْ نجّاه الله تعالى من يدي الخليفة الذي أرسلَ بطلبه، وأنّه لم يُنشئ النّذْر إلاّ عن إيمان بأنّ المنذور له ذو دعاءٍ مستجابٍ، وصاحب كراماتٍ عند ربّ الأرباب، وأنّه حارَ في أمر إيصال النّذْر إليه لجهله بمنزله فدلّه الحمار على المنزل، ثمّ لمّا حَرن الحمار أمام باب الدار نوديَ باسمه وباسم أبيه من غلام أسود لا يعرفه، وأنّه خوطِب باسمه من قِبل الإمام (عليه السلام)، وعوتِب على عدم اقتناعه بالبراهين السابقة وعدم إظهار التسليم والإسلام،.. وأنّه - بالأخير - اعترفَ بكفاية البراهين والدلائل لِمن أراد أن يكتفي! أقول: والأعجب في أمره أنّه لم يُسلم، ولم يؤمن!!

ولكنّ هذا العجب ينتهي بعد أن ينفتح الباب عمّا هو أعجب منه وأعظم، وهو قول الإمام (عليه السلام) له: (هيهات، إنّك لا تسلم)! ثمّ يبشّره بمولودٍ مبارك يكون من شيعته!

فلا عتبَ على مَن كان دليله حماراً،.. إذا بقيَ على جهله؛ لأنّ مَن كان دليله عقله - كيزداد الطبيب - آمنَ وصدّق وأيقن،.. وكان من الفائزين.

____________________

(1) كشف الغمّة: ج 3 ص 182 - 183، وبحار الأنوار: ج 50 ص 144 - 145 نقلاً عن مختار الخرائج والجرائح: ص 210، وهو في الأنوار البهيّة: ص 251 - 252.

١٩٢

ومرحى لك يا (يزداد)؛ إذ جعلَ الله تعالى خير أيّامك ما وليَ آخر عمرك، وكان أفضل أيام حياتك خواتيمها، حيث ختمَ لك بخير؛ لأنّ الإسلام يَجبّ ما قبله، فستُبعث بريئاً نظيفاً كيوم ولَدتك أمّك،.. وقد أبيضّ قلبك الأسود قبل فراق هذه الدنيا الزائلة إلى الآخرة الباقية الخالدة،.. فما أحسن ما استهلّيتَ به أول يوم من أيّام آخرتك،.. وكان الحقّ معك حين طلبتَ من صاحبك أن يكتم أمرك؛ لأنّ سلطان زمانك كان يستلّ لسانك من فمك إن هو سمع ما فهتَ به يومذاك،.. وإذ أُهنّئك بنهايتك السعيدة، لا لآسى على أولئك السلاطين المتربّبين على النّاس، فقد أعماهم التسلّط على رقاب العباد، وأطغاهم إمهال الله تعالى لهم، فعاثَوا في الأرض فساداً وانصبّ همّهم واهتمامهم على عداوة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وكيده في عترته الطاهرة،.. ثمّ لم يفرغوا من ذلك إلى شيءٍ غيره..

فكيف يقابل وجه الله أولئك السلاطين.. حين تُنصب الموازين؟!

وكيف يلاقون رسوله الكريم وأيديهم ملطّخة بدماء ذرّيته وأهل بيته؟!

***

وعن محمد بن داود القمّي، ومحمد بن طلحة، قالا: (حَمَلنا مالاً من خمسٍ ونذْرٍ وهدايا وجواهر اجتَمَعت في قم وبلادها، وخرَجنا نريد بها أبا الحسن الهادي (عليه السلام)، فجاءنا رسوله في الطريق أن (ارجعوا فليس هذا وقت الوصول،.. فرَجعنا إلى قم وأحرَزنا ما كان عندنا.

فجاءنا أمره بعد أيام أن (قد أنفَذنا إليكم إبلاً وعيراً، فاحمِلوا عليها ما عندكم وخلّوا سبيلها.

قالا: فحمّلناها وأودعناها الله..

فلمّا كان من قابل قدِمنا عليه فقال: انظروا إلى ما حَمَلتم إلينا).

فنظرنا فإذا المنائح كما هي) (1) - والمنائح هي: الهدايا والعطايا -.

هذه العير والإبل سارت وحدها ما بين قم في إيران، وسامرّاء في العراق وعلى ظهورها الأموال والجواهر والثياب،.. فمَن كان دليلها وحاديها وحارسها عِبر ذلك السفر الطويل؟!

____________________

(1) بحار الأنوار: ج 50 ص 185 نقلاً عن مشارق الأنوار، وهو في مدينة المعاجز: ص 547.

١٩٣

ومَن جَنّبها الوقوع في قَبضة جلاوزة السلطان، وأوصَلها إلى مكان قَصْدها بأمان؟!

ولماذا أتى الإمام (عليه السلام) بهذه الآية بين طرَفي دولة بني العباس شرقاً وغرباً؟!

إنّه سلام الله عليه وتحيّاته وبركاته، قد تعمّدها لتتحدّث بها الرّكبان،.. وليغطّي ذكرها آفاق دولة السلطان، فتكون آيةً بيّنة تتناقل من شَفةٍ إلى لسان، فشفةٍ فلسانٍ،.. حتى تَصلنا في أيامنا هذه فيقوى بها إيمان الوليّ، وتكون قذى في عين عدوّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وعدوّ ذرّيته..

***

وقال الفحّام: (حدّثني المنصوري عن عمّ أبيه، وحدّثني عمّي، عن كافور الخادم الذي قال:

(كان في الموضع مجاور الإمام من أهل الصنائع صنوف من الناس، وكان الموضع كالقرية، وكان يونس النّقّاش يغشى سيّدنا الإمام (عليه السلام) ويخدمه.

فجاءه يوماً يرعد، فقال: يا سيّدي أوصيك بأهلي خيراً.

قال: (وما الخبر؟

قال: عزمتُ على الرحيل.

قال: ولِمَ يا يونس؟ وهو (عليه السلام) مُتبسّم.

قال: موسى بن بغا وجّه إليّ بفصٍّ ليس له قيمة - أي أنّه ثمين لا تُقدّر قيمته - أقبلتُ أن أنقشهُ فكسرتهُ باثنين، وموعده غداً،.. وهو موسى بن بغا، إمّا ألف سوطٍ، وإمّا القتل!

قال: امضِ إلى منزلك إلى غدٍ، فما ترى إلاّ خيراً.

قال: وما أقول له يا سيّدي؟!

قال: فتبسّمَ وقال: امضِ إليه واسمع ما يخبرك به، فلن يكون إلاّ خيراً.

قال: فمضى، وعاد يضحك، وقال: قال لي يا سيّدي: الجواري اختصمنَ، فيمكنك أن تجعلهُ فصّين حتى نُغنيك.

فقال سيّدنا الإمام (عليه السلام): اللّهم لك الحمد، إذ جَعلتنا ممّن يَحمدك حقّاً، فأيش قلت له؟ - وهي لغة تعني: أيّ شيء؟ -.

قال: قلت له: أمهِلني حتى أتأمّل أمرهُ كيف أعمله.

فقال: أصبتَ) (1) .

____________________

(1) بحار الأنوار: ج 50 ص 126، ومدينة المعاجز: ص 542 - 543.

١٩٤

(فبأيش) نُعلّق على هذا الغيب من غيبك يا ربّ؟! وهل نملك أكثر من القول بأنّ الإمام (عليه السلام) عَلم بما يكون في اختلاف الجواري بشأن ذلك الحجَر الكريم، والاتفاق على جَعله نصفين؟! وإذا قلنا ذلك، وردَ السؤال: من أين له عِلم ذلك،.. ووردَ سؤال بعد سؤال، وإشكال بعد إشكال،.. إنّنا إذا أردنا التعليق وجبَ أن يكون تعليقنا كفاء علم الإمام (عليه السلام)،.. ومن أين لنا ذلك ونحن أطفال كلامٍ في معايير التحليل والتعليق!!

إنّه لا يغلب الناس إلاّ مَن يقول: أعطاني ربّي،.. والأئمة (عليهم السلام) أعطاهم ربّهم عزّ وعلا، وأنالهم وأنال، حتى يعيا المكيال وينقطع النفس..

***

قال أحمد بن يحيى الأوديّ:

(دخلتُ مسجد الجامع لأصلّي الظّهر، فلمّا صلّيت رأيت حرب بن الحسن الطحّان وجماعةً من أصحابنا جلوساً، فمِلتُ إليهم فسلّمت عليهم وجلست، وكان فيهم الحسن بن سماعة - من شيوخ الواقفة - فذكروا الحسن بن عليّ (عليه السلام) وما جرى عليه، ثمّ من بعد زيد بن عليّ وما جرى عليه، ومعنا رجل لا نعرفه، فقال:

يا قوم، عندنا رجل عَلوي بسرّ مَن رأى من أهل المدينة ما هو إلاّ ساحر أو كاهن.

فقال له ابن سماعة: بمَن يُعرف؟

قال: عليّ بن محمد بن الرّضا.

فقال له الجماعة: فكيف تبيّنتَ ذلك منه؟

قال: كنّا جلوساً معه على باب داره، وهو جارنا بسرّ مَن رأى نجلس إليه كلّ عشيّةٍ نتحدّث معه، إذ مرّ بنا قائد من دار السلطان ومعه خِلَع، ومعه جمع كثير من القوّاد والرجّالة والشاكريّة - أي الأُجرَاء والمستخدَمين - وغيرهم، فلمّا رآه عليّ بن محمدٍ وثبَ إليه وسلّم عليه وأكرمهُ.

فلمّا أن مضى قال لنا: (هو فرِحٌ بما هو فيه، وغداً يُدفن قبل الصّلاة)!

فَعجبنا من ذلك، فقمنا من عنده فقلنا: هذا علم الغيب! فتعاهدنا ثلاثةً إن لم يكن ما قال أن نقتلهُ ونستريح منه.

١٩٥

فإنّي في منزلي وقد صلّيت الفجر إذ سمعتُ جلبةً فقمت إلى الباب، فإذا خلق كثير من الجُند وغيرهم، وهم يقولون: ماتَ فلان القائد البارحة، سكرَ وعبرَ من موضع إلى موضع فوقعَ واندَقّت عُنقه!

فقلت: أشهد أن لا إله إلاّ الله، وخرجتُ أحضرهُ وإذا الرجل - كان كما قال أبو الحسن - ميت، فما برحتُ حتى دَفنته ورجعت! فتعجّبنا جميعاً من هذا الحال) (1) .

فلا تغلط أيّها الضّيف السامرّائيّ في تفسير آيات الله ودلائل عظمته! ولا تخلط بين الآيات وبين السّحر والشعوذة! فليس الرجل الذي رأيته ساحراً ولا كاهناً كما زعمتَ، ولكنّه عالِم أهل بيت النبوّة صلوات الله عليهم، وهو لا يَرجم بالغيب، بل ينطق عن علمٍ ثابتٍ محفوظٍ في صدره استقاه عن آبائه عن جدّه (صلّى الله عليه وآله)، عن جبرائيل (عليه السلام)، عن الله تبارك وتعالى..

وتعاهدُك مع رفيقيك على قَتل الإمام إذا لم يقع ما وعدَ به للاستراحة منه، تعاهدٌ سَفه أريح لك من الوفاء به؛ لأنّه تعاهد كفرٍ ونفاق كتعاهد كفّار قريش ورؤوس الضلال من أكابر مكّة، حين تواطئوا على قَتل رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فإنّ ما يقوله الإمام لابدّ أن يقع؛ إذ هو من المحتوم الذي أطلعهُ عليه الحيّ القيّوم!

ولذا فإنّ إجلاب الجند وضجيجهم قد طرقَ سمعك مع صلاة الفجر ليؤذنك بصدق الإمام (عليه السلام)، وبموت القائد الفرح المرح،.. فاهمِس في أُذنَي رفيقيك أنّك وإيّاهما كنتم في ضلالٍ عن الحقّ كأكثر المعاصرين لكم؛ إذ استحوذَ عليهم الشيطان وأنساهم أنّهم على دين نبيّ عظيم لم يعملوا بما أمرَ، ولم ينتهوا عمّا نهى عنه وزجر، بل وجدوا آباءهم على طريق ضلال فسلكوه، وخالفوا أوامر ربّهم ونواهيه، وما أغنت عنهم الآيات ولا النّذر،.. فأدّى بهم غرورهم إلى مصير وبيل، بعد أن رضوا بالعيش - صرفاً - بين المعتلف والنّثيل!

***

وعن الحسن بن إسماعيل، عن شيخٍ من أهل النهرين، قال:

____________________

(1) بحار الأنوار: ج 50 ص 186 - 187، ومدينة المعاجز: ص 543.

١٩٦

(خرجتُ أنا ورجل من أهل قريتي إلى أبي الحسن بشيءٍ كان معنا، وكان بعض أهل القرية قد حَمّلنا رسالةً ودفعَ إلينا ما أوصلناه وقال: تُقرئونه منّي السلام وتسألونه عن بيض الطائر الفلانيّ من طيور الآجام، هل يجوز أكله أم لا؟

فسلّمنا ما كان معنا إلى جاريةٍ، وأتاه رسول السلطان فنهضَ ليركب، وخرجنا من عنده ولم نسأله عن شيء،.. فلمّا صِرنا في الشارع لحقنا (عليه السلام) وقال لرفيقي بالنبطيّة: (أقرِئه منّي السلام وقل له: بيض الطائر الفلانيّ لا تأكلهُ؛ فإنّه من المسوخ) (1) .

فمِن أين له باللغة النبطية ومَن علّمه إياها؟ ولِمَ اختارَ التكلّم بها؟! وهل كان على إمامنا (عليه السلام) أن يخاطب أهل عصره باللّغة (النبطيّة) حتى يسمعوا ويَعوا؟! لا، أبداً،. ولقد استعملَ معهم كلّ وسيلة، وسلكَ كلّ طريقةٍ يمكن أن تؤدّي إلى الهدى للولاية الرّبانية، فما ازدادوا إلاّ بُعداً وضلالاً وتمسّكاً بما ورثوه عن أجدادهم وآبائهم من التنكّر للحق، وما زادهم دعاؤه لهم إلاّ فراراً، ركضاً وراء شهوات الدّنيا ولذائذ العيش التي حَرمتهم من الإيمان، ما كان ليُحرّم عليهم شهوةً محلّلةً، ولا لذّةً مباحة مسوّغةً!

فيا ليتهم كانوا يسمعون ويعقلون؛.. لينزعوا من عقولهم الصدئة أنّ الإمام واحد عاديّ كسائرهم، أو إنّما كان أفقه وأحسن أخلاقاً منهم.. فقط! جاهلين مرتبته الربّانية، وسرّه الإلهيّ، وأنّ قوله مُنزل من المنزل وليسوا بمُخيّرين بين قبوله أو رفضه، ولا صِدقه موقوف على اعترافهم التافه الذي لا يحتاج إليه ظهور حقّه وصدقه.

***

والآن انظر إلى ما أصاب محمداً بن عبد الله القميّ - الشيعيّ - من مكروهٍ حين خالفَ أمر مولاه مخالفةً جزئيّة، لا تمسّ جوهر العمل الدينيّ بمعناه الأصيل، بالرغم من أنّه قد تجشّم وعثاء السفر فيما بين إيران والعراق؛ ليتشرّف برؤية إمامه صلوات الله عليه والاجتماع بخدمته،.. فقد قال ذلك المسكين:

____________________

(1) بحار الأنوار: ج 50 ص 185 - 186، ومدينة المعاجز: ص 546.

١٩٧

(لمّا حملتُ ألطافاً من قمّ إلى سيّدي أبي الحسن (عليه السلام) إلى سرّ مَن رأى، وصلتُها واستأجرت بها منزلاً، وجعلتُ أروم الوصول إليه ومَن يوصل تلك اللطائف التي حَملتها، فتعذّر عليّ ذلك.

فكلّفتُ عجوزاً كانت معي في الدار أن تلتمس لي امرأةً أتمتّع بها.

فخرجَت العجوز في طلب حاجتي، فإذا أنا بطارقٍ قد طرقَ بابي وقَرعه، فخرجتُ إليه فإذا أنا بصبيّ منحولٍ، فقلت له: ما حاجتك؟

فقال لي: سيّدي ومولاي يقول لك: (قد شَكرنا بِرّك وألطافك التي حَملتها تريدنا بها، فاخرُج إلى بلدك واردُد ألطافك معك، واحذَر الحذر كلّه أن تقيم بسرّ مَن رأى أكثر من ساعة؛ فإنّك إن خالفتَ وأقمتَ عوقِبتَ،.. فانظر لنفسك!

فقلت: والله، إنّي أخرج ولا أُقيم.

فجاءت العجوز ومعها المتيعة،.. فتمتّعتُ بها، وبتّ ليلتي وقلت: أخرج غداً.

فلمّا تولّى الليل طرقَ باب دارنا ناس وقرَعوه قرعاً شديداً، فخرجَت العجوز إليهم، فإذا أنا بالطّائف والحارس وشرطةٍ معهما، ومشعلٍ وشمعٍ فقالوا لها: أخرجي إلينا الرجل والمرأة من داركِ! فجحَدتهم،.. فهجموا عليّ الدار فأخذوني والمرأة ونهبوا كلّ ما كان معي من اللطائف وغيرها،.. فرُفقت - أي شُدّ عضداه بحبل - وأقمتُ في الحبس بسرّ مَن رأى ستّة أشهر.

.. ثمّ جاءني بعض مواليه فقال لي: حلّت بك العقوبة التي حذّرتك منها، فاليوم تخرج من حَبسك، فصِرْ إلى بلدك)!

فأُخرجتُ في ذلك اليوم، وخرجتُ هائماً حتى وردتُ قُم فقلت: إنّي بخلافي لأمره نالَتني تلك العقوبة) (1) .

____________________

(1) مدينة المعاجز: ص 559.

١٩٨

فقد رجعَ المسكين خائباً لم يتشرّف برؤية سيّده ومولاه، رغم أنّه قطعَ المسافات الشاسعة الشاقة، وما أوصلَ له ألطافاً، ولا قضى من مآربه غير وطر المتعة التي قضت عليه بالانتشال من حضن المتيعة، والإلقاء في غياهب السجن ستّة أشهرٍ، حين لم يُنفّذ أمر إمامه الذي مَحضه النّصح فلم ينتصح،.. وثِق أنّنا لا تتسنّى لنا معرفة الإمام حقّاً وحقيقةً إلاّ حين نعتقد اعتقاداً جازماً لا يخامره ريب، أنّه حجّة الله تعالى على العباد وسفيره في البلاد، لا يخفي سبحانه عنه شيئاً ممّا قدّر وأراد،.. وإلاّ فإنّنا نضيع عنه مع الضائعين، ونظنّه واحداً كسائر العالمين، ونبوء بإثم تكذيب ما جاء به رسولنا العظيم (عليه السلام) عن ربّه عزّ وجلّ، بخصوص عترته الطاهرة الفاخرة صلوات الله وسلامه عليهم.

***

وقال الحسين بن عليّ: إنّه أتى النقيّ (عليه السلام) رجل خائف وهو يرتعد ويقول: إنّ ابني أُخذَ بمحبّتكم، والليلة يرمونه من موضع كذا ويدفنونه تحته!

قال: (فما تريد؟

قال: ما يريد الأبوان.

فقال: لا بأس عليه، اذهب فإنّ ابنك يأتيك غداً.

فلمّا أصبحَ أتاه ابنه فقال: يا بنيّ ما شأنك؟

قال: لمّا حفروا القبر وشدّوا لي الأيدي، أتاني عشرة أنفسٍ مطهّرة معطّرة وسألوا عن بكائي؟ فذكرتُ لهم:

فقالوا: لو جُعِل الطالب مطلوباً تُجرّد نفسك وتَخرج وتلزم تربة النبيّ (صلّى الله عليه وآله)؟

قلت: نعم.

فأخذوا الحاجب فرموهُ من شاهق الجبل ولم يسمع أحد جَزعه ولا رأوا الرّجال! وأورَدوني إليك وهم ينتظرون خروجي إليهم، وودّعَ أباه وذهب..

فجاء أبوه إلى الإمام وأخبرهُ بحاله، فكان الغوغاء تذهب وتقول: وقعَ كذا وكذا، والإمام (عليه السلام) يبتسم ويقول: إنّهم لا يعلمون ما نعلم!) (1) .

____________________

(1) بحار الأنوار: ج 50 ص 174، ومناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 416 - 417، ومدينة المعاجز: ص 554.

١٩٩

أي والله، ونعم، وبلى؛.. فإنّ الغوغاء - وهم سَفلة الناس والمتسرّعون إلى الشرّ - هم أبعد ما يكون عن علم ما تَعلم يا سيّدي يا أبا الحسن! بل أنت في المنظر الأعلى وهم أقصى ما يكون عن فهم علمك ومعرفة قدرك! بل إنّ العلماء والعقلاء يقصرون عن ذلك، ولا يدركون إلاّ جزءاً يسيراً ممّا حباكَ به ربّك سبحانه حين انتجبكَ لسياسة خلقه،.. فعِلمك من علم رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، من علم الله تعالى علاّم الغيوب الذي يسمع النّجوى ويطّلع على السرّ وأخفى، ولا يفوته ما توسوس به النفوس، ولا ما تجيش به الصّدور و ( وَمَا يَخْفَى عَلَى اللّهِ مِن شَيْءٍ فَي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء ) (1) ،.. فكيف يصل هذا الخلق القاصر إلى معرفة ما أنتَ عليه من القدرة والتمكّن، وقد اختصّك الله عزّ وجلّ بما اختصّ به أنبياءه السابقين، وسخّر لك الملائكة يعملون بين يديك بإذنه لتتمّ بك حجّته على الناس؟!

لا والله، إنّهم لا يعلمون ما تعلم،.. ولا كانوا يريدون أن يعلموا،.. بل ركبوا العناد وخانَهم السداد.

***

وقد روى الفحّام عن عمّه عمر بن يحيى، عن كافور الخادم، قال:

(قال لي الإمام عليّ بن محمدٍ (عليه السلام): (اترك لي السطل الفلانيّ في الموضع الفلانيّ لأتطهّر منه للصّلاة، وأنفذني في حاجةٍ، وقال: إذا عُدت، فافعل ذلك ليكون معدّاً إذا تأهّبت للصّلاة.

واستلقى (عليه السلام) لينام، ونسيتُ ما قال لي، وكانت ليلة باردة،.. فأحسستُ به وقد قام إلى الصّلاة وذكرتُ أنّني لم أترك السطل! فبعدتُ عن الموضع خوفاً من لومه، وتألّمتُ له حيث يشقى بطلب الإناء..

فناداني نداء مغضب، فقلت: إنّا لله! أيش - أي شيءٍ - عذري أن أقول نسيت مثل هذا؟!

ولم أجد بدّاً من إجابته، فجئتُ مرعوباً، فقال: يا ويلك، أمَا عرفتَ رَسمي أنّني لا أتطهّر إلاّ بماءٍ باردٍ، فسخّنتَ لي ماءً فتركتهُ في السطل؟!

فقلت: والله، يا سيّدي ما تركتُ السطل، ولا الماء.

____________________

(1) إبراهيم: 38.

٢٠٠