الإمام علي الهادي ( عليه السلام ) مع مروق القصر وقضاة العصر

الإمام علي الهادي ( عليه السلام ) مع مروق القصر وقضاة العصر0%

الإمام علي الهادي ( عليه السلام ) مع مروق القصر وقضاة العصر مؤلف:
تصنيف: الإمام علي بن محمد الهادي عليه السلام
الصفحات: 286

الإمام علي الهادي ( عليه السلام ) مع مروق القصر وقضاة العصر

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: كامل سليمان
تصنيف: الصفحات: 286
المشاهدات: 19867
تحميل: 5809

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 286 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 19867 / تحميل: 5809
الحجم الحجم الحجم
الإمام علي الهادي ( عليه السلام ) مع مروق القصر وقضاة العصر

الإمام علي الهادي ( عليه السلام ) مع مروق القصر وقضاة العصر

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

قد كشفَ له ذلك مُقدِّر الأمور سبحانه وتعالى؛ ليكون آيةً دالّةً على قدرة الله الواحد الأحد..

***

ومثلها ما ذكره أيوب بن نوح - وهو أحد المؤمنين الأبدال كما ترى في فصل آخر من هذا الكتاب - إذ قال:

(كتبتُ إلى أبي الحسن: قد تعرّض لي جعفر بن عبد الواحد القاضي، وكان يؤذيني بالكوفة، أشكو إليك ما ينالني منه من الأذى.

فكتبَ إليّ: (تُكفى أمرهُ إلى شهرين).

فعُزلَ عن الكوفة في شهرين، واسترحتُ منه!) (1) .

إلاّ أنّ مرسوم عزل فضلة القاضي الساخر الماكر لم يكن بيد الإمام (عليه السلام)، ولا وضعَ بناءً على اقتراحه عند حاكم الزمان! ومع ذلك عيّن وقت صدروه بعزل ذلك القاضي وخذلانه قبل وقوع ذلك! وكان الأمر كما عيّن وحدّد،.. فهلاًّ فكّرت معي دقيقتين - لا شهرين - كيف يعلم هذا الإمام العظيم ما يحدث في المستقبل من أمورٍ كبيرةٍ وصغيرةٍ، ثمّ يتحدّث عنها بترسّل وكأنّه سيُنفّذها بيده وبكامل إرادته؟!

إذا تفكّرتَ وتدبّرت، عَلمتَ أنّ للأئمّة (عليهم السلام) بريداً إلهيّاً دبلوماسيّاً لا يطّلع عليه إلاّ الملائكة الموكّلون به، وأنّهم مسدّدون مؤيّدون تُحدّثهم الملائكة وتلقي في أسماعهم، ويُلهمون فيقولون،.. فلا يكون إلاّ ما يقولون بعلمٍ علّمهم الله تعالى إيّاه.

***

وكذلك قال أيوب بن نوح المذكور رحمه الله تعالى:

(كتبتُ إلى أبي الحسن أنّ لي حَمْلاً، فادعُ الله أن يرزقني ابناً.

فكتبَ إليّ: (إذا وُلِدَ فسمّه محمداً).

قال: فوُلِدَ لي ابن فسمّيته محمداً،.. وكان ليحيى بن زكريّا حَمل فكتبَ إليه: إنّ لي حَملاً فادعُ الله أن يرزقني ابناً، فكتبَ إليه: (ربّ ابنةٍ خير من ابن)، فوُلِدت له ابنة) (2) .

____________________

(1) المصدر السابق.

(2) كشف الغمّة: ج 3 ص 175 و ص 176، وبحار الأنوار: ج 50 ص 177.

٢٢١

وليس هذا من حساب الجُمَل، ولا هو ضرب بالرّمل، ولا من التنجيم،.. بل هو من عِلم الله الكريم الوهّاب الذي يعطي أولياءه ما لا يعطيه لغيرهم من العلم والفضل والحكمة، والعصمة عن خطل القول وهجر الكلام، فلا تسأل بعد ذلك: كيف؟ ولِمَ؟ ولماذا؟ ولا تتعجّب، ولا تقل كيف كان هذا؟ فالله سبحانه من وراء ذلك كلّه ( وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء... ) (1) .

***

وفي روايةٍ عن أبي محمدٍ الطبريّ أنّه قال:

(تمنّيتُ أن يكون لي خاتم من عنده (عليه السلام)، فجاءني نصر الخادم بدرهمين فصنعتهما خاتماً.

ودخلتُ على قوم يشربون الخمر، فتعلّقوا بي فشربتُ قدحاً وقدحين.

وكان - الخاتم - ضيّقاً في إصبعي لا يمكنني إدارته للوضوء، فأصبحتُ وقد افتقدته،.. فتبتُ إلى الله تعالى) (2) .

فقد تمنّى الطبريّ - فيما بينه وبين نفسه - أن يكون له خاتم من الإمام (عليه السلام)،.. فاطّلع الإمام على مُنيته وحقّق له رغبته من دون أن يطلب ومن غير أن يبوح لأحد بذلك؛ إذ اختصّه بالدّرهمين لهذه الغاية، ومن أجل أن يُخلّصه من شرب المسكر خصوصاً؛ لأنّه سلام الله عليه عَلم ما سيفعله من صنع الخاتم، وشرب الخمر، وعَلم أنّ الخاتم سيُنتزع من إصبعه رغم ضيقه ودون أن يحسّ؛ ليكون ذلك آية تفتح له باب التوبة عن الشراب المحرّم،.. فخلّصه الإمام صلوات الله عليه بهذه الطريقة الفريدة.

***

وقال محمد بن الفضل البغدادي:

(كتبتُ إلى أبي الحسن: إنّ لي حانوتين - دكانين - خلّفهما لنا والدنا رضي الله عنه، وأردنا بيعهما وقد عَسر علينا ذلك، فادعُ لنا يا سيّدنا أن ييسّر الله لنا بيعهما بإصلاح الثمن، ويجعل لنا الخيرة، فلم يجب بشيء.

وانصرفنا إلى بغداد، والحانوتان قد احترقا) (3) .

____________________

(1) البقرة: 255.

(2) كشف الغمّة: ج 3 ص 184 - 185.

(3) بحار الأنوار: ج 50 ص 176 - 177، وكشف الغمة: ج 3 ص 175.

٢٢٢

فقد عَلم الإمام (عليه السلام) بحرق الحانوتَين لمّا طلبَ صاحبهما الدعاء، فلم يدعُ له ولا أجابه على كتابه؛ كي لا يُزعجه بخبر الحرق، فمَن فسّر سكوته عن الجواب أدركَ علمه اللّدنيّ الذي يتلقّاه عن ربّه عزّ وعلا الذي ( لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ.. ) (1) .

***

وقال داود الضرير - داود الصّرمي -:

(أردتُ الخروج إلى مكّة فودّعت أبا الحسن بالعشيّ وخرجتُ، فامتنعَ الجمّال تلك الليلة.

وأصبحتُ فجئت أودّع القبر - مقام رسول الله (صلّى الله عليه وآله) - فإذا رسوله يدعوني، فأتيتهُ واستحييت، وقلت: جُعلت فداك إنّ الجمّال تخلّف أمس،.. فضحكَ وأمرَني بأشياء وحوائج كثيرة، ولعلّه قال - ولم أحفظ ما قال لي -.

فقال: (كيف تقول؟ - أي سأله أن يكرّر ذكر ما أوصاه به؛ لأنّه سلام الله عليه أحسّ بعدم حفظه للوصايا -.

فلم أحفظ ما قال لي، فمدّ الدواة وكتب: بسم الله الرّحمن الرّحيم، أذكُر إن شاء الله والأمر بيدك.

فتبسّمت، فقال لي: ما لكَ؟

قلت له: خير.

فقال: أخبِرني.

فقلت له: ذكرتُ حديثاً حدّثني رجل من أصحابنا أنّ جدّك الرّضا كان إذا أمرَ بحاجةٍ كتب:

بسم الله الرّحمن الرّحيم، أذكر إن شاء الله.

فتبسّم وقال: يا داود، لو قلتُ لك إنّ تارك التقيّة كتارك الصّلاة، لكنت صادقاً) (2) .

ويلاحظ أنّه (عليه السلام) قد ذكرَ هنا لصاحبه أمراً هامّاً يتعلّق بالتقيّة؛ لأنّ لسان حاله كلسان حال جدّه الإمام (عليه السلام) الذي قال: (التقيّة ديني وديني آبائي..) ولكن ما دَخلُ التقيّة هنا، وما الموجِب لذكرها؟!

____________________

(1) سبأ: 3.

(2) بحار الأنوار: ج 50 ص 181، وكشف الغمّة: ج 3 ص 179، وتحف العقول: ص 483.

٢٢٣

الجواب: أنّه عَرضَ لها في ختام حواره مع صاحبه بسبب أنّ الحوائج التي أوصاه بها لم يكتبها؛ لئلاّ تقع في يد مَن لا أمانة له من عملاء السلطان، وأدوات الاستخبارات والتجسّس في ذلك العهد الذي أذاقَ العلويّين أمَرّ العيش وأضيقه،.. ولذلك - فإنّه بعد أن كرّر ذكرها على مسمع الرجل - طلبَ إليه أن يعيد تعدادها حتى لا يُغيّر فيها ولا يُبدّل، كما رأيت.

***

وقال إسحاق بن عبد الله العلويّ العريضيّ:

(ركبَ أبي وعمومتي إلى أبي الحسن، عليّ بن محمدٍ (عليه السلام)، وقد اختلفوا في الأيام الأربعة التي تُصام في السنة، وهو مقيم بصَريا، قبل مسيره إلى سرّ مَن رأى.

فقال (عليه السلام): (جئتم تسألوني عن الأيام التي تُصام في السنة.

فقالوا: ما جئنا إلاّ لهذا.

فقال: اليوم السابع عشر من ربيع الأول، وهو اليوم الذي وُلِد فيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، واليوم السابع والعشرون من رجب، وهو اليوم الذي بُعث فيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، واليوم الخامس والعشرون من ذي القعدة، وهو اليوم الذي دُحيت فيه الأرض، واليوم الثامن عشر من ذي الحجة، وهو يوم الغدير) (1) .

فقد أجابهم قبل أن يسألوه! وإنّك لتَحسب كأنّه كان معهم حين اختلفوا في الموضوع قبل المجيء إليه (عليه السلام)، فأعدّ لهم الجواب وفجأهم به فور وصولهم؛ ليريهم أنّ الإمام لا تخفى عليه أمورهم أينما كانوا، بقدرة الله تعالى ومنّه عليه بالكرامة والزّلفى.

***

ومن مكارم أخلاقه وجميل تصرّفه: ما حكاه عنه محمد بن طلحة - كما روى الأربليّ - حيث قال: (إنّه كان يوماً قد خرج من سرّ مَن رأى إلى قريةٍ لمهمّ عَرضَ له، فجاء رجل من الأعراب يطلبه، فقيل له: قد ذهبَ إلى الموضع الفلانيّ.

فقصدهُ، فلمّا وصلَ قال (عليه السلام): (ما حاجتك؟

____________________

(1) مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 417، وبحار الأنوار: ج 50 ص 157 - 158، ومدينة المعاجز: ص 555.

٢٢٤

فقال: أنا رجلّ من أعراب الكوفة المتمسّكين بولاء جدّك عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وقد رَكبني دَين فادح أثقلَني حَمْله، ولم أرَ مَن أقصده لقضائه سواك.

فقال له أبو الحسن (عليه السلام): طِب نفساً، وقِرّ عيناً، ثمّ أنزَلهُ.

فلمّا أصبحَ ذلك اليوم قال له أبو الحسن (عليه السلام): أريد منك حاجةً، الله الله أن تخالفني فيها!

فقال الأعرابي: لا أخالفك.

فكتبَ أبو الحسن (عليه السلام) ورقةً بخطّه، معترفاً فيها أنّ للأعرابيّ مالاً عيّنه فيها، يرجح على دَينه، وقال: خُذ هذا الخطّ، فإذا وصلتَ إلى سرّ مَن رأى احضر إليّ وعندي جماعة فطالِبني به، وأغلِظ القول عَليّ في ترْك إيفائك إيّاه،.. الله الله في مخالفتي!

فقال: أفعل،.. وأخذَ الخط.

فلمّا وصلَ أبو الحسن (عليه السلام) إلى سرّ مَن رأى، وحضر عنده جماعة كثيرون من أصحاب الخليفة وغيرهم، حضر ذلك الرجل، وأخرجَ الخطّ وطالبه وقال كما أوصاه،.. فألانَ له أبو الحسن (عليه السلام) القول، ورفقهُ وجَعل يعتذر إليه، ووعدهُ بوفائه وطيبة نفسه.

فنُقلَ ذلك إلى الخليفة المتوكل، فأمرَ أن يُحمَل إلى أبي الحسن (عليه السلام) ثلاثون ألف درهم.

فلمّا حُملت إليه تركها إلى أن جاء الرجل، فقال: خذ هذا المال فاقضِ به دَينك، وأنفِق الباقي على عيالك وأهلك، واعذرنا).

فقال الأعرابي: يا بن رسول الله، والله إنّ أمَلي كان يقصر عن ثُلُث هذا، ولكنّ الله أعلم حيث يجعل رسالته، وأخذَ المال وانصرف) (1) .

____________________

(1) الأنوار البهيّة: ص 255 - 256، وكشف الغمّة: ج 3 ص 164 - 165، وبحار الأنوار: ج 50 ص 175، والصواعق المحرقة: ص 217 باختلافٍ يسيرٍ في اللفظ، وهو في حلية الأبرار: ج 2 ص 459 - 460.

٢٢٥

وهذه من مناقب الأوصياء والأولياء الصالحين يضربون المَثل الأعلى في الغيريّة؛ ليعلّموا الناس كرم الخلُق والبِرّ ونفع الآخرين ولو تنازلوا عن شيءٍ من مراتبهم السامية، وتواضعوا ليوصلوا الحقّ إلى مستحقّه بحُسن التدبير الذي إن خطرَ ببالك أنّه يحطّ من كرامتهم، كان بالحقيقة من مآثرهم التي ترفع شأنهم وتجعلهم سادةً في الأنام يعملون لرضا الله بإشاعة العدل، وتبريد غُلل ذوي الحاجات من قلوب عباده المحتاجين.

فالإمام يعلم أنّ الدسّاسين يشون به آنذاك، ويتّهمونه بجمع الأموال والسلاح لينقَضّ على الحكم بثورةٍ محرقةٍ مغرقةٍ،.. ويعلم أنّ مجلسه في سرّ مَن رأى - حين مقابلة الأعرابي - سيضمّ بعض هؤلاء المنافقين،.. في حين أنّه لا مالَ لديه، ولا سلاح.

وهذا الأعرابيّ لا حول له ولا طول،.. ولا يُصرف له حقّ من بيت مال المسلمين؛ لأنّه من المتشيّعين لعليّ وبنيه (عليهم السلام)، وهو مستَغَلّ يقيناً من ذوي الإقطاع والأطماع وولاة العرش الذين يتعمّدون ظلمه وتجويعه،.. وخير طريقةٍ لسدّ حاجته هو: أن ينال حقّه الذي كتبَ الله تعالى له من بيت المال أسوة بغيره من المعاصرين،.. ولا يوصله إلى ذلك الحقّ إلاّ هذه الطريقة الفذّة التي ابتدَعها - يومئذ - أبو الحسن (عليه السلام) ليُكذّب بها دعوى مَن يدّعي أنّ الأموال تُجبى إليه، والأسلحة تتجمّع في منزله وما حواليه.

ولهذه المنقبة الشريفة نظيرة لها، رواها الديلميّ عن أبي إمامة الذي قال:

(إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال ذات يوم لأصحابه: (ألا أُحدّثكم عن الخضر؟

قالوا: بلى، يا رسول الله.

قال: بينا هو يمشي في سوقٍ من أسواق بني إسرائيل، إذ بصُرَ به مسكين فقال: تَصدّق عليّ بارك الله فيك.

قال الخضر (عليه السلام): آمنت بالله،.. ما يقضي الله يكون،.. ما عندي من شيءٍ أعطيكه.

قال المسكين: بوجه الله لمَا تصدّقتَ عَليّ،.. إنّي رأيتُ الخير في وجهك، ورجوتُ الخير عندك.

٢٢٦

قال الخضر (عليه السلام): آمنت بالله،.. إنّك سألتني بأمر عظيم! ما عندي من شيءٍ أعطيكه إلاّ أن تأخذني فتبيعني.

قال المسكين: وهل يستقيم هذا؟

قال (عليه السلام): الحقّ أقول لك، إنّك سألتني بأمر عظيم! سألتني بوجه ربّي عزّ وجلّ،.. أمَا إنّي لا أُخيّبك في مسألتي بوجه ربّي فبِعني.

فقدّمه إلى السوق، فباعه بأربعمئة درهم، فمكثَ عند المشتري زماناً لا يستعمله في شيءٍ، فقال الخضر (عليه السلام): إنّما ابتَعتني التماس خدمتي، فمُرني بعمل.

قال: إنّي أكره أن أشقّ عليك، إنّك شيخ كبير.

قال: لستَ تشقّ عليّ.

قال: فقم فانقل هذه الحجارة - قال: وكان لا ينقلها دون ستّة نفرٍ في يوم -.

فقامَ فنقل الحجارة في ساعته، فقال له: أحسنتَ وأجملت، وأطقتَ ما لم يُطقه أحد.

ثمّ عرضَ للرجل سفر فقال: إنّي أحسبك أميناً، فاخلُفني في أهلي خلافةً حسنة، وإنّي أكره أن أشقّ عليك.

قال: لستَ تشقّ عليّ.

قال: فاضرِب من اللَّبِن شيئاً حتى أرجع إليك - أي اصنَع من الطّين ما يشبه الحجارة للبناء -.

فخرجَ الرجل لسفره، ورجعَ وقد شيّد بناءً، فقال له الرجل: أسألك بوجه الله ما حسبك وما أمرك؟!

قال: إنّك سألتَني بأمرٍ عظيم، وجه الله عزّ وجلّ، ووجه الله أوقَعني في العبوديّة، وسأخبرك مَن أنا،.. أنا الخضر الذي سمعتَ به،.. سألَني مسكين صدقةً ولم يكن عندي شيء أعطيه، فسألني بوجه الله عزّ وجلّ، فجعلتُ نفسي عبداً له حتى باعَني وانتفعَ بثمني،.. ومَن ردّ سائله وهو قادر على ذلك، وقفَ يوم القيامة ليس لوجهه جِلد ولا لحم ولا عظم إلاّ يتقعقع - أي يُحدث صوتاً عند التحريك! -.

قال الرجل: شققتُ عليك، ولم أعرفك.

قال: لا بأس، اتّقيتَ وأحسنت.

قال: بأبي أنت وأمي، احكُم في أهلي ومالي بما أراك الله عزّ وجلّ، أمّ أُخيّرك فأخلّي سبيلك؟

قال (عليه السلام): أحبّ إليّ أن تُخلّي سبيلي، فأعبد الله.

٢٢٧

فأخلى سبيله، فقال الخضر (عليه السلام): الحمد لله الذي أوقَعني في العبوديّة فأنجاني منها) (1) .

فهؤلاء صفوة من الناس، قد جَبلهم الله سبحانه من طينة علّيّين ففاقوا جميع العالمين؛ ولذا يستعصي على الباحث تحليل شخصيّاتهم الفذّة، وإدراك مغازي أفعالهم، إذ جعلهم خالقهم عزّ اسمه نماذج عُليا من الخلُق والطّيبة، تمثّل الحقّ والعدل والبِرّ والرّحمة، وبَرأهم على شاكلة النّاس، وهم على غير شاكلتهم بمعنى اصطفائهم وعطائهم الربّانيّ، وكونهم القدوة المثلى للبشر على الأرض.

***

من آثاره وفلسفته وأفكاره (عليه السلام)

ليس فوق قول أئمة أهل البيت (عليهم السلام) قول لأحدٍ - بلاغةً وصدقاً وحكمةً - إذا استثنينا قول الله تبارك وتعالى، وقول رسوله (صلّى الله عليه وآله)؛ لأنّهم من أفصح مَن نطقَ بالضّاد، ومن أبرز مَن تكلّم بالصدق، ومن أصدق مَن جاهرَ بالحقّ،.. فما في حكمهم مَنفذ لاعتراض معترِض، إلاّ أن يردّ الإنسان على الله سبحانه وعلى رسوله - والعياذ بالله -؛ لأنّ قولهم مُنزل من المنزل ما حادوا فيه حرفاً عن القرآن الكريم، ولا عَدوا فيه لفظةً عن السنّة النّبويّة الشريفة؛ لأنّهم عِدل القرآن وحَملة السنّة، بل القرآن هو القرآن الصامت، وهم - هم - القرآن الناطق والسنّة المبيّنة.

ونحن نتحدّى ذوي الأفهام، وأرباب العلم والفضل، أن يطعنوا في قولٍ قالوه، أو حكم أصدروه، أو بيان فصّلوه، أو حكمةٍ نطقوا بها، أو أن يجدوا في جميع ذلك معارضةً لِما نزلَ من عند الله عزّ وعلا، أو اختلافاً عمّا جاء به رسوله محمد (صلّى الله عليه وآله)، في جميع ما أحلّوه وسائر ما حرّموه،.. وقد أجادَ مَن قالَ في كلام جدّهم أمير المؤمنين (عليه السلام): (إنّه دون كلام الخالق، وفوق كلام المخلوق).

____________________

(1) الأنوار البهيّة: ص 256 - 257.

٢٢٨

ولإمامنا أبي الحسن عليّ بن محمدٍ، الهادي (عليه السلام)، كلام في التوحيد، والتشبيه، وصفات الله الثّبوتيّة، وفي الخلق والإيجاد، والتكليف، والجبر والتفويض وغير ذلك من الحِكَم البليغة،.. نضع بين أيدي قرّائنا الكرام ما وقعَ منه في يدنا؛ ليَروا بلاغة القول وصدقه ودقّته وحقيقته:

قال الفتح بن يزيد: (سألته عن أدنى المعرفة؟

فقال: (الإقرار بأنّه لا إله غيره، ولا شبيه ولا نظير، وأنّه قديم، مثبت، موجود غير فقيدٍ، وأنّه ليس كمثله شيء) (1) .

***

وقال حمزة بن محمد: (كتبتُ إلى أبي الحسن (عليه السلام) أسأله عن الجسم والصورة؟

فكتب: (سبحان مَن ليس كمثله شيء، لا جسم ولا صورة) (2) .

وقال محمد بن الفرج الرّخجي: (كتبتُ إلى أبي الحسن (عليه السلام) عمّا قال هشام بن الحكَم في الجسم، وهشام بن سالم في الصورة؟

فكتب: (دَع عنك حَيرة الحيران، واستعِذ بالله من الشيطان، ليس القول ما قال الهشامان) (3) .

وهذان الهشامان كانا من أجلّ أصحاب الإمامين الصادق والكاظم (عليه السلام)، وما نُسب إليهما من التجسيم مكذوب عليهما فيه، وقد رُميا بهذه الفِرية للحطّ من منزلتهما، وقد دافعَ السيد المرتضى - قدّس الله سرّه - عنهما وبرّأ ساحتهما من هذه التّهمة وذلك الدسّ الرّخيص في كتابه (الشافي)، ومَن شاء فليراجع حججه الدامغة وبيانه القاطع.

وقال الصقر بن دلف: (سألتُ أبا الحسن، عليّ بن محمد بن عليّ بن موسى - بن الرّضا (عليهم السلام) - عن التوحيد، وقلت له: أقول بقول هشام بن الحَكم؟

فغضب ثمّ قال: (ما لكم ولقول هشام؟ إنّه ليس منّا مَن زعمَ أنّ الله عزّ وجلّ جسم، ونحن منه بُراء في الدّنيا والآخرة.

يا بن دلف، إنّ الجسم مُحدَث، والله مُحدثه ومجسّمه) (4) .

____________________

(1) الكافي: م 1 ص 86.

(2) الكافي: م 1 ص 25.

(3) الكافي: م 1 ص 105.

(4) توحيد الصدوق: ص 62.

٢٢٩

وفي هذا الكتاب المختصر نكتة خفيّة في غاية الدقّة والعمق، فمِن المسلّم به المتسالَم عليه أنّ العالَم محدَث، ولا نزاع في ذلك البتّة، وعلى هذا الأساس لفتَ (عليه السلام) نظر صاحبه إلى حدوث الأجسام من خلال حدوث العالَم، بدون أن يخوض معه في حديثٍ طويل، فالله سبحانه وتعالى قد أفاضَ الوجود عن محض إرادته بعد أن كان في كتم العدم، وكذلك أفاضَ وجود الأجسام وجميع الكائنات، فهو ليس بجسمٍ، بل هو مُجسّم الأجسام كلّها، وهو مصوّرها ومُحدثها.

وقد ثبتَ عنه وعن أبيه سلام الله عليهما أنّهما قالا: (مَن قال بالجسم فلا تعطوه من الزكاة، ولا تصلّوا وراءه) (1) ؛ ذلك أنّه يكون من المشبّهة الذين أضلّهم الشيطان فتصوّروا له جسماً وصورة،.. تعالى الله عن أن يُتصوّر في الأوهام أو أن يُتخيّل في العقول..

وقال محمد بن عيسى:

(كتبتُ إلى أبي الحسن، عليّ بن محمد (عليه السلام): أنّ الله في موضعٍ دون موضعٍ على العرش استوى؟ وأنّه ينزل في كلّ ليلةٍ في النصف الأخير من اللّيل إلى السماء الدّنيا، ورويَ أنّه ينزل في عشيّة (عرَفة) ثمّ يرجع إلى موضعه! فقال بعض مواليك في ذلك: إذا كان في موضع دون موضع، فقد يلاقيه الهواء ويتكنّف عليه، والهواء جسم رقيق يتكنّف على كلّ شيءٍ بقدره، فكيف يتكنّف عليه جَلّ ثناؤه على هذا المثال؟!

فوقّع (عليه السلام): (عِلمُ ذلك عنده، وهو المقدِّر له بما هو أحسن تقديراً، واعلم أنّه إذا كان في السماء الدّنيا فهو كما هو على العرش، والأشياء كلّها له سواء: علماً، وقدرةً، ومُلكاً، وإحاطة) (2) .

____________________

(1) توحيد الصدوق: ص 20.

(2) الكافي: م 1 ص 126.

٢٣٠

وقد عَلّق عليه في (الكافي) قائلاً: (أي عِلم كيفيّة نزوله عنده سبحانه، وليس عليكم معرفة ذلك، ثمّ أشارَ إشارةً خفيّةً إلى أنّ المراد بنزوله وتقديره: نزول رحمته وإنزالها بتقديره بقوله: (وهو المقدِّر له بما هو أحسن تقديراً)، ثمّ أفادَ أنّ ما عليكم عِلمه أنّه لا يجري عليه أحكام الأجسام والمتحيّزات من المجاورة والقرب المكانيّ، والتمكّن في الأمكنة، بل حضوره سبحانه حضور وشهود علميّ، وإحاطة بالعلم والقدرة والملك بقوله (عليه السلام): (واعلم أنّه إذا كان في السماء الدّنيا، فهو كما هو العرش، والأشياء كلّها له سواء: علماً، وقدرةً، ومُلكاً، وإحاطة)، وهو تعليق أيضاً جيد متين في غاية الجودة.

***

وقال أحمد بن إسحاق:

(كتبتُ إلى أبي الحسن، عليّ بن محمدٍ العكسريّ أسأله عن الرؤية - أي إمكان رؤية الله عزّ وجلّ عن ذلك - وما فيه الخلق؟

فكتبَ: (لا تجوز الرؤية ما لم يكن بين الرائي والمرئيّ هواء ينفذه البصر، فمتى انقطعَ الهواء، وعدم الضياء، لم تصحّ الرؤية، وفي جواب اتّصال الضّياءين: الرائي والمرئيّ، وجوب الاشتباه، والله تعالى منزّه عن الاشتباه، فثبتَ أنّه لا يجوز عليه سبحانه الرؤية بالأبصار؛ لأنّ الأسباب لابدّ من اتّصالها بالمسبّبات) (1) .

ووردَ عنه (عليه السلام)، بلفظ: (..لا يجوز الرؤية ما لم يكن بين الرائي والمرئيّ هواء ينفذه البصر، فإذا انقطعَ الهواء وعدم الضياء بين الرائي والمرئيّ لم تصحّ الرؤية وكان في ذلك الاشتباه؛ لأنّ الرائي متى ساوى المرئيّ في السبب الموجب بينهما في الرؤية، وجبَ الاشتباه وكان في ذلك التشبيه؛ لأنّ الأسباب لابدّ من اتّصالها بالمسبّبات) (2) .

____________________

(1) الاحتجاج: ج 2 ص 449 - 450.

(2) توحيد الصدوق: ص 66.

٢٣١

فمَن لقّنكَ الفيزياء وعِلم الطبيعة يا سيّدي وقد كنتَ بين الجواري السّود في طفولتك، ورهن الرقابة والقيود في يفاعك، وحبيس السجون والسدود منذ مطلع فتوّتك وشبابك؟! مَن علّمك هذا وأنت في مرصدٍ من العيون المتفتّحة عليك والأنياب المكشّرة، التي لو أُتيحَ لها لنهشَت لحمَك، وعرّقت عظمك منذ بزوغ نجمك حتى تَدرّجك نحو الكهولة؟!

قد علّمك ذلك مُلهم العلوم كلّها لجدّك أمير المؤمنين، باب مدينة عِلم رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ولجدّك الإمام الصادق ولسائر أبائك من قبله ومن بعده عليهم الصلاة والسلام،.. فأنتم ذريّة أولها كآخرها، وصغيرها ككبيرها، يدور العلم على ألسِنتكم كما يدور الخاتم في الخنصر، وتتدفّق الحكمة من ألسِنتكم والرحمة من قلوبكم كما يتدفّق الماء الزّلال من النبع الثّرّار، ولقد كان الأحرى بمَن نازعوكم حقّكم وأزالوكم عن مراتبكم، أن يستفيدوا من عِلمكم وحكمتكم بعد أن ألقيتم دنياهم في نحورهم، وعَكفتم على نشر الدّين وإعلاء أوامر الدّيان.

فسبحان مَن علّمكم عِلم ما كان وعلم ما بقي، ووهبََكم الفضل كلّه، والرحمة كلّها فعملتم على إنقاذ النّاس من ظلمات الجهل والضلال، ودلَلتموهم أنّ الخالق تبارك وتعالى قد احتجبَ عن خلقه، وعزّ عن أن يُتصوّر في الأوهام، أو أن يُتخيّل في القلوب والبصائر، فضلاً عن أن يُرى بالأبصار!

  قد تنزّه عن التجسيم، وسَما عن الرؤية بالعيون، ولم يكن محدوداً بحدّ ولا مشبهاً لندٍّ، بل هو الحيّ القيّوم الذي (لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) (1) ، وإنّه لو أدركهُ بصر لنزلَ عن مرتبة الإلوهية، ولزالت عنه هالة الرّبوبيّة، ولشبّهناه ووصفناه،.. ولصارَ - إذاً - محدوداً يفوت عِلمه ما كان خارج حدوده ومكان وجوده،.. تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.

***

____________________

(1) الأنعام: 103.

٢٣٢

وسُئل (عليه السلام) عن التوحيد فقيل له: لَم يزل الله وحده لا شيء معه، ثمّ خلقَ الأشياء بديعاً، واختارَ لنفسه الأسماء، ولم تزل الأسماء والحروف له معه قديمة؟

فكتبَ: (لم يزل الله موجوداً، ثمّ كوّنَ ما أراد، لا رادّ لقضائه، ولا مُعقّب لحكمه،.. تاهت أوهام المتوهّمين، وقَصر طرف الطارفين، وتلاشت أوصاف الواصفين، واضمحلّت أقاويل المبطلين عن الدّرك لعَجيب شأنه، أو الوقوع بالبلوغ على علوّ مكانه، فهو بالموضع الذي لا يتناهى، وبالمكان الذي لم يقع عليه عيون بإشارة ولا عبارةٍ،.. هيهات، هيهات) (1) .

فهو سبحانه موجود قبل القبل إذ لم يكن قبله شيء، ثمّ يبقى إلى ما بعد البعد حيّاً سرمديّاً، دائماً أبديّاً وكلّ ما سواه مُحدَث، وهو تعالى قديم أوجدَ بقدرته ما أرادَ من الكائنات.

***

وقال إبراهيم بن محمد الهمداني:

(كتبتُ إلى الرجل - أي إلى أبي الحسن الثالث (عليه السلام): إنّ من قِبلنا من مواليك قد اختلفوا في التوحيد: فمنهم مَن يقول: جسم! ومنهم مَن يقول: صورة!

فكتبَ (عليه السلام) بخطّه: (سبحان مَن لا يُحدّ، ولا يوصف! ليس كمثله شيء، وهو السّميع العليم - أو قال: البصير -) (2) .

وروي مثله عن بشر بن بشّار النيسابوري بزيادة: (.. سبحان مَن لا يُحدّ، ولا يوصف، ولا يشبهه شيء، إلخ..) (3) .

فقد نفى عن الخالق تعالى الحَدّ - أي التجسيم - ونزّههُ عن أن يحتويه مكان، أو أن يَشغل حيّزاً، ثمّ نزّههُ عن الوصف والتشبيه والتصوّر.

***

وتكلّم في عِلم الله تبارك وتعالى.

فقد قال أيوب بن نوح رحمه الله: (إنّه كتبَ إلى أبي الحسن (عليه السلام) يسأله عن الله عزّ وجلّ: أكان يَعلم الأشياء قبل أن خلقَ الأشياء وكوّنها، أو لم يعلم ذلك حتى خَلقها وأراد خلقها وتكوينها، فعلِمَ ما خَلق عندما خلقَ، وما كوّن عندما كوّن؟

____________________

(1) الاحتجاج: ج 2 ص 449.

(2) الكافي: م1 ص 102، وتوحيد الصدوق: ص 59 وص 60 إلى ص 61.

(3) المصدر السابق.

٢٣٣

فوقّعَ (عليه السلام) بخطّه: (لم يزل الله عالِماً بالأشياء قبل أن يخلق الأشياء، كعلمه بالأشياء بعدَما خلقَ الأشياء) (1) .

فسبحان مَن أحاط بكل شيءٍ كان لا يعلمه، ولا يزيد في علمه ما يُحدثه ويكوّنه؛ لأنّه يفيض عن مشيئة حين إحداثه كما كان قدّره في سابق عِلمه به.

***

وقال جعفر بن محمد بن حمزة:

(كتبت إلى الرجل - أبي الحسن (عليه السلام) - أسأله: أنّ مواليك اختلفوا في العلم، فقال بعضهم: لم يزل الله عالماً قبل فعل الأشياء، وقال بعضهم لا نقول: لم يزل الله عالماً؛ لأنّ معنى يعلم: يفعل، فإنْ أثبَتنا العلم فقد أثبتنا في الأزل معه شيئاً! فإنْ رأيت جَعلني الله فداك أن تُعلّمني من ذلك ما أقف عليه ولا أجوزه.

فكتبَ (عليه السلام) بخطّه: (لم يزل الله عالماً تبارك وتعالى ذكره..) (2) .

فإنّه صلوات الله عليه وتحيّاته وبركاته - مع اختصاره للجواب - بيّن أنّه تعالى لم يزل عالماً، ثمّ نفى أزليّة الأشياء بإهمال ذكرها؛ لأنّه سبحانه واحدٌ أحديّ أزليّ سرمديّ لا يشاركه في ذلك شيء.

***

وقال الفتح بن يزيد الجرجاني: سمعته يقول:

(هو اللطيف الخبير السّميع البصير، الواحد الأحد الفرد الصّمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد،.. لو كان كما يقول المشبّهة، لم يُعرف الخالق من المخلوق).

وفي توحيد الصدوق زادَ: ولم يكن له كفواً أحد، مُنشئ الأشياء، ومجسّم الأجسام، ومصوّر الصّور،.. لو كان كما يقول المشبهة لم يُعرف الخالق من المخلوق ولا المُنشِئ من المُنشَأ، فَرقٌ بَين مَن جَسّمه، وصوّره، وأنشأه، إذ كان لا يشبهه شيء، ولا يشبه هو شيئاً.

قلت: أجل، جَعلني الله فداك، لكنّك قلت: الأحد الصّمد، وقلت: لا يشبهه شيء، ولا يشبه هو شيئاً، والله واحد، والإنسان واحد، أليس قد تشابهت الوحدانيّة؟

____________________

(1) الكافي: م1 ص 107، وتوحيد الصدوق: ص 98.

(2) الكافي: م 1 ص 107 - 108.

٢٣٤

قال: يا فتح، أحلتَ ثبّتك الله - أي أتيتَ بالمحال - إنّما التشبيه في المعاني، فأمّا الأسماء فهي واحدة، وهي دالّة على المسمّى - أو: دلالة على المسمّى -؛ وذلك أنّ الإنسان وإن قيل: واحد، فإنّما تخبر أنّه جثّة واحدة وليس باثنين، والإنسان نفسه ليس بواحدٍ؛ لأنّ أعضاءه مختلفة، وألوانه مختلفة غير واحدة، ومن ألوانه مختلفة غير واحدة، وهو أجزاء مجزّأة ليست بسواءٍ: دَمه غير لحمه، ولحمه غير دمه، وعَصبه غير عروقه، وشَعره غير بشره، وسواده غير بياضه، وكذلك سائر الخلق، فالإنسان واحد في الاسم، لا واحد في المعنى.

والله جلّ جلاله هو واحد في المعنى، لا واحد غيره، لا اختلاف فيه، ولا تفاوت، ولا زيادة ولا نقصان،.. فأمّا الإنسان المخلوق المصنوع، المؤلّف من أجزاءٍ مختلفةٍ وجواهر شتّى، غير أنّه بالاجتماع شيء واحد (1) .

قلت: جُعلت فداك، فرّجتَ عنّي، فرّجَ الله عنك، فقولك: اللطيف الخبير، فسِّره لي كما فسّرتَ الواحد؛ فإنّي أعلم أنّ لطفه على خلاف لطف خلقه للفصل - أي للفرق الظاهر بينه وبين خلقه - غير أنّي أُحب أن تشرح ذلك لي؟

فقال: يا فتح، إنّما قلنا اللطيف؛ للخلْق اللطيف، ولعِلمه بالشيء اللطيف، أولا ترى - وفّقك الله وثبّتك - إلى أثر صُنعه في النّبات اللطيف وغير اللطيف؟ وفي الخلق اللطيف من الحيوان الصّغار والبعوض والجرجس - البعوض الصغير - وما هو أصغر منهما ولا يكاد تستبينه العيون، بل لا يكاد يتبيّن لصغره الذّكر من الأنثى، والحدِث المولود من القديم؟!

____________________

(1) وفي هامش الكافي: م1 ص 119 علّق قائلاً: فالوحدة في المخلوق، هي الوحدة الشخصيّة التي تجتمع مع أنواع التكثرات، وليست إلاّ تألّف أجزاء، واجتماع أمورٍ متكثرة، ووحدته سبحانه هي النفي للتجزّؤ والكثرة والتعدّد عنه سبحانه مطلقاً.

٢٣٥

فلمّا رأينا صِغر ذلك في لطفه، واهتدائه للسّفاد - المناكحة - والهرب من الموت، والجمع لِما يصلحه، وما في لجج البحار، وما في لحاء الأشجار، والمفاوز والقفار، وفَهم بعضها عن بعض منطقها، وما يفهم به أولادها عنها، ونقلها الغذاء إليها، ثمّ تأليف ألوانها حمرةً مع صفرةٍ، وبياضاً مع حمرة، وما لا تكاد عيوننا تستبينه بتمامٍ لدَمامة خلقها، ولحقارة أجسامها وشدّة صغرها، ولا تراه عيوننا، ولا تلمسه أيدينا، عَلمنا أنّ خالق هذا الخلق لطيف، لطفَ في خلق ما سمّيناه بلا علاج، ولا أداةٍ، ولا آلةٍ، وأنّ صانع كلّ شيءٍ فمِن شيءٍ صنع، والله الخالق الجليل، خلقَ وصنعَ لا من شيء) (1) .

وليس بعد هذا البيان بيان أدقّ منه وألطف، ولا أشمل منه ولا أكمل،.. والتعليق عليه يحطّ من قيمته وقدره، مهما بالغَ الكاتب في التفكير والتقدير ودقّة التعبير..

***

وعن الفتح بن يزيد الجرجاني أيضاً، أنّه (عليه السلام) قال:

(إنّ لله إرادتين ومشيئتين: إرادة حتمٍ، وإرادة عَزم.

ينهى وهو يشاء،.. ويأمر وهو لا يشاء.

أوَ ما رأيت أنّه نهى آدم وزوجته أن يأكلا من الشجرة، وشاء ذلك..

ولو لم يشأ لم يأكلا، ولو أكلا لغَلبت مشيئتهما مشيئة الله تعالى.

وأمرَ إبراهيم أن يذبح إسماعيل وشاء أن لا يذبحه، ولو لم يشأ أن لا يذبحه، لغَلبت مشيئة إبراهيم مشيئة الله تعالى) (2) .

وقد علّق السيد الطباطبائي على هذا الكلام بما يلي:

(المشيئة والإرادة انقسام إلى الإرادة التكوينيّة الحقيقيّة، والإرادة التشريعيّة الاعتباريّة، فإنّ إرادة الإنسان التي تتعلّق بفعل نفسه نسبة حقيقيّة تكوينيّة تؤثّر في الأعضاء الانبعاث إلى الفعل، ويستحيل معها تخلّفها عن المطاوعة إلاّ لمانع.

____________________

(1) الكافي: م1 ص 118 إلى ص 120، وتوحيد الصدوق: ص 135 - 136.

(2) الكافي: م1 ص 151.

٢٣٦

وأمّا الإرادة التي تتعلّق منّا بفعل الغير، كما إذا أُمِرنا بشيءٍ أو نُهينا عن شيءٍ، فإنّها إرادة بحسب الوضع والاعتبار لا تتعلّق بفعل الغير تكوينيّاً.

فإنّ إرادة كلّ شخصٍ إمّا تتعلّق بفعل نفسه من طريق الأعضاء والعضلات، ومن هنا كانت إرادة الفعل أو التّرك من الغير لا تؤثّر في الفعل بالإيجاد والإعدام، بل تتوقّف على الإرادة التكوينيّة من الغير بفعل نفسه حتى يوجد أو يترك عن اختيار فاعله، لا عن اختيار آمره وناهيه.

إذا عرفتَ ذلك، عَلمتَ أنّ الإرادتين يمكن أن تختلفا من غير ملازمة، كما أنّ المعتاد بفعلٍ قبيح ربّما ينهى نفسه عن الفعل بالتلقين، وهو يفعل من جهة إلزام مَلَكته الرذيلة الراسخة، فهو يشاء الفعل بإرادة تكوينيّةٍ، ولا يشاؤه بإرادة تشريعيّة، ولا يقع إلاّ ما تعلّقت به الإرادة التكوينيّة،.. والإرادة التكوينيّة هي التي يسمّيها (عليه السلام) بإرادة حَتم، والتشريعيّة هي التي يسمّيها بإرادة عزم.

وإرادته تعالى التكوينيّة تتعلّق بالشيء من حيث هو موجود، ولا موجود إلاّ وله نسبة الإيجاد إليه تعالى بوجوده بنحو يليق بساحة قدسه تعالى، وإرادته التشريعيّة تتعلّق بالفعل من حيث إنّه حسن وصالح غير القبيح الفاسد، فإذا تحقّق فعل موجودٍ قبيحٍ، كان منسوباً إليه تعالى من حيث الإرادة التكوينيّة بوجهٍ، ولو لم يرده لم يوجد، ولم يكن منسوباً إليه تعالى من حيث الإرادة التشريعيّة، فإنّ الله لا يأمر بالفحشاء.

فقوله (عليه السلام): (إنّ الله نهى آدم (عليه السلام) عن الأكل، وشاء ذلك، وأمرَ إبراهيم (عليه السلام) بالذّبح ولم يشأه)، أرادَ بالأمر والنّهي التشريعيّين منهما، وبالمشيئة وعَدمها التكوينيّين منهما.

واعلَم أنّ الرواية مشتملة على كون المأمور بالذّبح إسحاق، دون إسماعيل، وهو خلاف ما تضافرت عليه أخبار الشيعة) (1) وهو بيان جيّد.

***

____________________

(1) انظر الكافي: م1 ص 151 في هامش الصفحة رقم (1).

٢٣٧

وقال الفتح بن يزيد الجرجاني في حديثٍ طويل: (ضَمّني وأبا الحسن (عليه السلام) الطريق حين منصرفي من مكّة إلى خراسان، وهو سائر إلى العراق، فسَمعته وهو يقول:

(مَن اتّقى الله يُتّقى، ومَن أطاع الله يطاع - أي مَن اتّقى الله يخافه كلّ شيء -.

فتلطّفتُ في الوصول إليه، فسلّمتُ عليه، فردّ عليّ السلام، وأمرَني بالجلوس، وأول ما ابتدَأني به أن قال:

يا فتح، مَن أرضى الخالق لم يبالِ بسخط المخلوق، ومَن أسخطَ الخالق فقَمِن أن يسلّط الله عليه سخطَ المخلوق - وفي نسخةٍ: فأيقنَ أن يحلّ به الخالق سخط المخلوق -، وإنّ الخالق لا يوصف إلاّ بما وصفَ به نفسه، وأنّى يوصَف الخالق الذي تعجز الحواسّ أن تدركه، والأوهام أن تناله، والخطرات أن تحدّه، والأبصار عن الإحاطة به! جلّ عمّا يصفه به الواصفون، وتعالى عمّا ينعته الناعتون، نأى في قربه، وقرُبَ في نأيه، فهو في نأيه قريب، وفي قُربه بعيد،.. كيّف الكيف فلا يقال: كيف؟ وأيّن الأين فلا يقال: أين؟ إذ هو منقطع الكيفوفية والأينونيّة (1) .

هو الواحد الأحد، الفرد الصّمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، فجلّ جلاله.

أم كيف يوصف بكنهه محمد (صلّى الله عليه وآله) وقد قرنهُ الجليل باسمه، وشَركه في عطائه، وأوجبَ لِمن أطاعه جزاء طاعته؛ إذ يقول: ( وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ ) (2) وقال - يحكي قول مَن ترك طاعته وهو يُعذّبه بين أطباق نيرانها وسرابيل قطرانها -: ( يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا ) (3) .

____________________

(1) تجده في الكافي: م1 ص 137 - 138، وفي تحف العقول: ص 482 مع اختلاف يسير في اللفظ.

(2) التوبة: 74.

(3) الأحزاب: 66.

٢٣٨

أم كيف يوصف بكنهه مَن قَرنَ الجليل طاعتهم بطاعة رسوله حيث قال: ( أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) (1) ، وقال: ( وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ ) (2) ، وقال: ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ) (3) ، وقال: ( فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ) (4) .

يا فتح، كما لا يوصف الجليل جلّ جلاله، والرسول، والخليل، ووِلد البتول، فكذلك لا يوصَف المؤمن المُسلّم لأمرنا! فنبيّنا أفضل الأنبياء، وخليلنا أفضل الأخلاّء، ووصيّه أفضل الأوصياء، واسمها - أي البتول (عليها السلام) - أفضل الأسماء، وكنيتهما أفضل الكنى وأجلاها.

لو لم يجالسنا إلاّ كفوء، لم يجالسنا أحد! ولو لم يُزوّجنا إلاّ كفوء، لم يزوّجنا أحد!

أشدّ الناس تواضعاً - يقصد النبيّ ووصيّه صلوات الله عليهما - وأعظمهم حِلماً، وأنداهم كفّاً وأمنَعهم كنفاً، ورثَ عنهما أوصياؤهما علمهما، فاردُد إليهم الأمر وسَلِّم إليهم.

قال فتح: فخرجت،.. فلمّا كان من الصباح تلطّفتُ في الوصول إليه، فسلّمت عليه، فردّ علّي السلام، فقلت: يا بن رسول الله، أتأذن لي في مسألةٍ اختلجَ في صدري أمرها الليلة؟

قال: سَل، وإن شَرحتها فلي، وإن أمسَكتها فلي، فصحِّح نظرك وتثبّت في مسألتك، واصغِ إلى جوابها سمعك، ولا تسأل مسألة تعنّتٍ، واعتنِ بما تعتني به؛ فإنّ العالم والمتعلّم شريكان في الرشد، مأموران بالنّصيحة، منهيّان عن الغش.

وأمّا الذي اختلجَ في صدرك ليلتك، فإنْ شاء العالِم - أي الإمام - أنبأكَ:

إنّ الله لم يُظهر على غيبه أحداً إلاّ مَن ارتضى من رسول، فكلّ ما كان عند رسول الله، كان عند العالِم، وكلّ ما اطّلعَ عليه الرسول، فقد اطّلعَ أوصياؤه عليه؛ لئلاّ تخلو أرضه من حجّةٍ يكون معه عِلم يدلّ على صدق مقالته وجواز عدالته.

____________________

(1) النساء: 59.

(2) النساء: 83.

(3) النساء: 58.

(4) الأنبياء: 7.

٢٣٩

يا فتح، عسى الشيطان أراد اللّبس عليك فأوهمكَ في بعض ما أودعتك، وشكّك في بعض ما أنبأتُك، حتى أرادَ إزالتك عن طريق الله وصراطه المستقيم فقلتَ: متى أيقنتُ أنّهم كذا، فهم أرباب؟!

معاذ الله! إنّهم مخلوقون، مربوبون، مطيعون لله، داخرون، راغبون،.. فإذا جاءك الشيطان من قِبل ما جاءك فاقمَعه بما أنبأتك به.

فقلتُ: جُعلت فداك، فرّجت عنّي، وكشفتَ ما لبّس الملعون عليّ بشرحك، فقد كان أوقعَ في خلَدي أنّكم أرباب.

قال: فسجدَ أبو الحسن وهو يقول في سجوده: راغماً لك يا خالقي، داخراً، خاضعاً.

قال: فلم يزل كذلك حتى ذهبَ ليلي، ثمّ قال: يا فتح، كدتَ أن تَهلك وتُهلك! وما ضرّ عيسى إذا هَلك مَن هَلك - ممّن قالوا بربوبيته - فاذهب إذا شئت، رحمك الله.

قال: فخرجت وأنا فرِح بما كشفَ الله عنّي من اللّبس بأنّهم هم، وحمدتُ الله على ما قدرت عليه،.. فلمّا كان في المنزل الآخر دخلت عليه وهو متّكئ وبين يديه حنطة مقلوّة - منضجة على النّار - وهو يعبث بها، وقد كان أوقعَ الشيطان في خلَدي أنّه لا ينبغي أن يأكلوا ويشربوا إذ كان ذلك آفةً، والإمام غير مؤوفٍ - غير ذي آفة -.

فقال: اجلس يا فتح، فإنّ لنا بالرُسل أسوة، كانوا يأكلون ويشربون، ويمشون في الأسواق، وكلّ جسم مغذوّ بهذا، إلاّ الخالق الرازق فإنّه جَسّم الأجسام، وهو لم يُجسَّم ولم يُجزَّأ بتناهٍ، ولم يتزايد ولم يتناقص، مبرّأ من ذاته ما رُكِّبَ في ذات مَن جَسّمه.

الواحد الأحد الصّمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، مُنشئ الأشياء، مُجسّم الأجسام، وهو السّميع العليم، اللطيف الخبير، الرؤوف الرّحيم، تباركَ وتعالى عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً، لو كان كما وصفَ ولم يُعرف الرّب من المربوب ولا الخالق من المخلوق، ولا المُنشئ من المنشَأ، ولكن فَرقٌ بينه وبين مَن جَسّمه، وشيّأ الأشياء إذ كان لا يشبهه شيء يرى، ولا يُشبِه شيئاً) (1) .

____________________

(1) كشف الغمّة: ج 3 من ص 176 إلى ص 178، وبحار الأنوار: ج 50 من ص 177 إلى ص 180.

٢٤٠