الإمام علي الهادي ( عليه السلام ) مع مروق القصر وقضاة العصر

الإمام علي الهادي ( عليه السلام ) مع مروق القصر وقضاة العصر0%

الإمام علي الهادي ( عليه السلام ) مع مروق القصر وقضاة العصر مؤلف:
تصنيف: الإمام علي بن محمد الهادي عليه السلام
الصفحات: 286

الإمام علي الهادي ( عليه السلام ) مع مروق القصر وقضاة العصر

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: كامل سليمان
تصنيف: الصفحات: 286
المشاهدات: 20801
تحميل: 6912

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 286 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 20801 / تحميل: 6912
الحجم الحجم الحجم
الإمام علي الهادي ( عليه السلام ) مع مروق القصر وقضاة العصر

الإمام علي الهادي ( عليه السلام ) مع مروق القصر وقضاة العصر

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ولكن لكَ أن تسأل: هل كان الإمام (عليه السلام) جالساً على قارعة الطريق يتسلّى بجِبلّ الطّين وجعله طيراً؛ ليصفّق له الحاضرون؟ أم وقفَ وسط حَلقة المتفرّجين يريهم براعته ومواهب الله تعالى له؛ ليعترف بفضله المتفرّجون؟!

لا، لا هذا ولا ذاك،.. وعلينا أن نبيّن لك أنّ الإمام (عليه السلام) لا يأتي بمثل هذه المعجزة إلاّ بمناسبة يكون قد تحدّاه فيها كفر كافرٍ، ومروق مارقٍ، أو تحدّي قدرة الله تعالى، وأنكرَ أن يكون قد مكّن واحداً من البشر أن يأتي بمثلها من جهة، وأنّ هذه الآية لابدّ أنّها طَلَبت منه هي بذاتها من أحد المعاندين الّذين يعترضون على مشيئة الله سبحانه، ويبارزون قدرته من جهةٍ ثانية، وأنّ الإمام لا يستجيب لذلك إذا لم يكن من مبرّرٍ له، بحيث يستفيد من صدور هذا العمل المعجز بعض النّاس أو كثير من الناس من جهة أخيرة،.. وسامحَ الله الراوي الذي لم يذكر تلك المناسبة حين أوردَ هذه الآية التي لم يقم بها إلاّ المسيح (عليه السلام) من قبل؛ ليصفع الكفر والنّفاق والمروق.

وإليك أختها فيما رواه أبو التّحف المصريّ، يرفع الحديث برجاله إلى محمد بن سنان الرامزيّ أعلى الله مقامه، إذ يقول:

(كان أبو الحسن عليّ بن محمد (عليه السلام) حاجّاً، ولمّا كان في انصرافه إلى المدينة وجدَ رجلاً خراسانياً واقفاً على حمارٍ له ميّتٍ يبكي ويقول: على ماذا أحمل رَحلي؟!.

فاجتاز (عليه السلام) به فقيل له: هذا الرّجل الخراسانيّ ممّن يتولاّكم أهل البيت.

فدنا من الحمار الميّت فقال: (لم تكن بقرة بني إسرائيل بأكرم على الله تعالى منيّ، وقد ضربَ ببعضها الميّت فعاشَ، ثمّ وكَزهُ برِجله اليمنى وقال: قم بإذن الله).

فتحرّك الحمار، ثمّ قام! ووضعَ الخراسانيّ رَحله عليه وأتى به المدينة.

وكلّما مرّ الإمام (عليه السلام)، أشاروا إليه بإصبعهم وقالوا: هذا الّذي أحيا حمار الخراساني) (1) .

____________________

(1) بحار الأنوار: ج 50 ص 185، ومدينة المعاجز: ص 546.

٢١

وفي هذه المرّة لم يتحدَّ الإمام أحد، فما باله يأتي بهذه المعجزة المدهشة..

إنّه أتى بها ليتحدّى - هو هذه المرة - أفواج الحجيج ذي الضجيج الذي لا يسمع الله تعالى له تلبيةً ولا دعاءً، ضالّ عن حجّته في أرضه، ومنصرفٍ مع أهوائه وشهواته،.. فلفتَ بها الأنظار،.. وامتدّت إليه الأصابع تشير إلى محيي الميّت بإذن الله تعالى،.. وحرّكَ بها الأفكار والقلوب ليتفكّر مَن كان يلقي السمع وهو شهيد،.. وتناقَلها الناس فطارت إلى كلّ صقع في أقاصي المعمور.

وقد سبقهُ إلى مثلها جدّ أبيه الإمام الكاظم (عليه السلام)، كما في رواية عليّ بن المغيرة الذي قال:

(مرّ العبد الصالح بامرأة بمِنى وهي تبكي وصبيانها حولها يبكون، وقد ماتت بقرة لها.

فدنا منها ثمّ قال لها: (ما يُبكيك يا أمَة الله؟

قالت: يا عبد الله، إنّ لي صبياناً أيتاماً، وكانت لي بقرة، معيشتي ومعيشة صبياني كانت منها، فقد ماتت، وبقيتُ منقطعاً بي وبوِلْدي ولا حيلة لنا.

فقال: يا أمَة الله، هل لكِ أن أُحييها لك)؟!

قالت: فأُلهمتُ أن قلتُ: نعم، يا عبد الله.

قالت: فتنحّى ناحية فصلّى ركعتين، ثمّ رفع يديه هُنَيئة وحرّك شفتيه، ثمّ قام فَمرّ بالبقرة فنخسها نخساً أو ضربها برجْله، فاستوت على الأرض قائمة.

فلمّا نظرت المرأة إلى البقرة قد قامت، صاحت: عيسى بن مريم وربّ الكعبة!

قال: فخالطَ الناس وصار بينهم، ومضى بينهم صلّى الله عليه وعلى آبائه الطاهرين) (1) .

وهذه كتلك، وكسابقتها،.. ولا نقول أمام هذه الظواهر العجيبة إلاّ ما قاله الله تبارك وتعالى: ( كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً ) (2) ، ولا يغلبك إلاّ مَن يقول: إنّ الله أعطاني..

وفي ثاقب المناقب روي عن محمد بن حمدان، عن إبراهيم بن بلطون، عن أبيه، قال:

____________________

(1) الكافي: م 1 ص 484، وبصائر الدرجات: ج 6 ص 77.

(2) الإسراء: 20.

٢٢

(كنتُ أحجب للمتوكل فأُهدي له خمسون غلاماً، وأمَرَني أن أتسلّمهم وأحسن إليهم، فلمّا تمّت سنة كاملة كنتُ واقفاً بين يديه إذ دخلَ عليه أبو الحسن، عليّ بن محمد النقيّ (عليه السلام) فأخذَ مجلسه، وأمَرَني أن أُخرِج الغلمان من بيوتهم، فأخرَجتهم.

فلمّا بصروا بأبي الحسن سجدوا له بأجمعهم، فلم يتمالك المتوكل أن قام يجرّ ذيله حتى توارى خلف السّتر.. ثمّ نهض (عليه السلام).

فلمّا عَلم المتوكل بذلك خرجَ فقال: ويلك يا بلطون، ما هذا الذي فعلَ هؤلاء الغلمان؟!

فقلت: والله، ما أدري.

قال: سلْهم.

فسألتهم عمّا فعلوه، فقالوا: هذا رجل يأتينا كلّ سنة فيعرض علينا الدّين ويقيم عندنا عشرة أيام، وهو وصيّ نبيّ المسلمين.

فأمرَ بذبحهم عن آخرهم!

فلمّا صار وقت العتمة صرتُ إلى أبي الحسن (عليه السلام)، فإذا خادم على الباب.

فنظر إليّ، فقال لمّا بصَر بي: ادخُل.

فدخلت، فإذا هو جالس، فقال: (يا بلطون، ما صنعَ القوم؟

فقلت: يا بن رسول الله ذُبحوا عن آخرهم!

فقال: كلّهم!!

فقلت: نعم، إي والله!

فقال (عليه السلام): أتحبّ أن تراهم؟!)

قلت: نعم، يا بن رسول الله.

فأومأ بيده أن ادخُل السّتر، فدخلتُ فإذا أنا بالقوم قعود وبين أيديهم فاكهة يأكلون) (1) .

أمّا كيف كان ذلك؟! فلن نتفلسف في تحليله، وأقلّ ما يقال إنّهم لم يُذبحوا؛ لأنّ الإمام (عليه السلام) عَلم ما في نفس المتوكل فدعا الله أن ينجّيهم من شرّه، فقيّض سبحانه حاجباً شيعيّاً متستّراً أُمِر بذبحهم، فخرجَ بهم ليفعل ما أُمِر به، ولكنّه هرّبهم تحت جُنح الظلام، وأخبرَ المتوكل أنّه ذَبحهم جميعاً وأخفى جثثهم.

____________________

(1) مدينة المعاجز: ص 552، وحلية الأبرار: ج 2 ص 468.

٢٣

وكلّ ما في الأمر: أنّ أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) هكذا كانوا،.. وهكذا هم بفضل ربّهم عليهم، وسترى آياتٍ ومعجزاتٍ في مختلف فصول هذا الكتاب أتى بها إمامنا (عليه السلام) تكشف عن سرّهم الإلهيّ، فلا ينبغي لنا أن نَضيع مع أهوائنا المضلّة، وأن نزِنهم بموازين عقولنا المطفّفة ونركب جناحي النعّامة في سبيل تجريدهم من مواهب الله عزّ وعلا.

ولن أختم كلامي في هذه الإلمامة الوجيزة قبل أن أُطلع قارئي الكريم على كيفيّة خلق الأئمّة (عليهم السلام)؛ ليعلم أنّهم منتجبون من لدُن خالقهم عزّت قدرته، وأنّهم بشر من غير طينة البشر،.. فعن محمد بن مروان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

سمعتهُ يقول: (إنّ الله خَلقنا من نور عظمته، ثمّ صوّر خَلقنا من طينة مخزونةٍ مكنونةٍ من تحت العرش، فأسكنَ ذلك النّور فيه، فكنّا نحن خلقاً وبشراً نورانيّين لم يجعل لأحدٍ في مثل الذي خلقنا منه نصيباً، وخَلق أرواح شيعتنا من طينتنا، وأبدانهم من طينةٍ مخزونةٍ أسفل من تلك الطينة، ولم يجعل لأحد في مثل الذي خَلقهم منه نصيباً إلاّ الأنبياء) (1) .

وعنه (عليه السلام) أيضاً في حديث آخر:

(.. إنّ الله خلقنا من عِليّين، وخلقَ أرواحنا من فوق ذلك، وخلقَ أرواح شيعتنا من عِليّين، وخلقَ أجسادهم من دون ذلك، فمن أجل ذلك القرابة بيننا وبينهم، وقلوبهم تحنّ إلينا) (2) .

فأنا أعرضُ حقيقة أمرهم على الناس، ومَن صعّر خدّه ومشى ثاني عِطفه، فلا سبيل لي عليه؛ لأنّ الخالق تبارك وتعالى ترك لنا سبيل الاختيار لأنفسنا.

____________________

(1) الكافي: م 1 ص 389.

(2) المصدر السابق.

٢٤

تعريفٌ بأحد سادة العارفين

ولِدَ البدر الزاهر، الإمام العاشر، ذو العزّ الباذخ والمجد الشامخ، أبو الحسن عليّ الهادي، بن الإمام محمد الجواد (عليه السلام)، بِصَرْيا من ضاحية مدينة الرسول (صلّى الله عليه وآله)، للنّصف من ذي الحجة سنة اثنتي عشرة ومئتين للهجرة النبوّية الشريفة - في عهد المأمون -، وتوفّي في سرّ مَن رأى - سامرّاء - بالعراق، يوم الاثنين في الثالث من رجب، سنة أربع وخمسين ومئتين في عهد المعتزّ ابن المتوكل.

وقيل: إنه توفّي في عهد أبيه خطأً، ولكنّ المتوكل هو الذي أشخصهُ من المدينة إلى سامرّاء تحت حراسة يحيى بن هرثمة بن أعين، فأقامَ فيها حتى مضى لسبيله مسموماً، ودُفن في داره، وكان له يومئذ إحدى وأربعين سنةً وستة أشهرٍ واثنا عشر يوماً (1) .

____________________

(1) وقيل: إنّه ولِدَ في ثاني رجب أو خامسة في تلك السنة، كما قيل: إنّه ولِد سنة أربع عشرة ومئتين خطأ، ولكنّنا اعتمدنا أصدق الأقوال؛ مستأنسين بصحة الرّواية من جهة، وبمواكبة الأحداث والوقائع التاريخية الصحيحة من جهةٍ ثانية.

  ويعارض ذلك ما رواه ابن عيّاش الذي قال: خرجَ إلى أهلي على يد الشيخ الكبير أبي القاسم - بن روح - نائب الإمام الحجة عجّل الله تعالى فرجه هذا الدّعاء: اللّهمّ إنّي أسألك بالمولودَين في رجب: محمّد بن عليّ الثّاني، وابنه عليّ بن محمّد المنتجب.. إلخ..

  وانظر: الأنوار البهية: ص 244 - 245، وص 270، والإرشاد: ص 307 - 308 وص 314، ومناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 401، وفي كشف الغمّة: ج 3 ص 164 وص 165 ذكرَ أنّه توفي في جمادى الآخرة، فيكون عمره أربعين سنة غير أيّام، وانظر الصفحات: 166 و 184 و 188، وكذلك في الكافي: م1 ص 497 - 498، والصواعق المحرقة: ص 207، وإعلام الورى: ص 339، وتذكرة الخواص: ص 373 و ص 375، وبحار الأنوار: ج 50 من ص 114 إلى ص 117، وفي الكامل لابن الأثير: ج 5 ص 339 ذكر سنة وفاته (عليه السلام) وولادته، وانظر تاريخ الأُمم والملوك: ج7 ص 519، وينابيع المودّة: ج2 ص 463.

٢٥

وكانت مدة إمامته ثلاثاً وثلاثين سنةً وأشهراً؛ لأنّ أباه سلام الله عليه مضى سنة مئتين وعشرين للهجرة الكريمة، فيكون قد أقامَ في حياته ثماني سنوات وأشهراً، ثمّ تولّى الأمر غلاماً كأبيه (عليه السلام)، وأدّاه قسطه من الحيطة بقيّة عمره الشريف، الذي قضى منه في سرّ مَن رأى عشرين سنةً كان فيها مكرّماً من السّلطة في ظاهر حاله، ومهاباً من الجميع في واقع الأمر، وإن كان المتوكل - خاصة - قد اجتهدَ في إيقاع حيلةٍ به ليقتله، فلم يتمكّن من إيجاد مغمز يخوّله الفتك به، وستقرأ آيات بيّناتٍ له (عليه السلام) معه تشهد على ذلك) (1).

وكانت في أيام إمامته بقيّة مُلك المعتصم، ثمّ مُلك الواثق خمس سنين وسبعة أشهر، ومَلكَ المتوكل أربع عشرة سنة، ثمّ مَلك ابنه المنتصر ستة أشهر، ثمّ مَلك المستعين سنتين وتسعة أشهر، ثمّ مَلك المعتزّ ثماني سنين وستة أشهر، وفي آخر مُلكه استشهد هذا الوليّ الزكيّ (عليه السلام) (2) .

____________________

(1) انظر المصادر السابقة.

(2) وقيل: إنّه استشهدَ في آخر مُلك المعتمد خطأً؛ لأنّه لم يَدرك عهد المعتمد، وقد جاء الاشتباه عن طريق أنّ المعتمد هو الذي انتدبهُ المعتزّ للصلاة عليه، وانظر في كلّ ما سبق الأنوار البهية: ص 270، وكشف الغمّة: ج 3 ص 164 إلى ص 189، وإعلام الورى: ص 339 وص 349، والإرشاد: ص 314، وبحار الأنوار: ج 50 من ص 113 إلى ص 116 وص 192 وص 198 ومن ص 203 إلى ص 232، ومناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 401، وقيل: في مروج الذهب: ج 4 ص 19 - 20، وبحار الأنوار: ج 50 ص 209 - 210: قُتِل المتوكل في سبع وعشرين سنة من إمامة أبي الحسن (عليه السلام)، وبويعَ المنتصر.. إلخ.

٢٦

فلم يعش إمامنا سلام الله عليه عمراً طويلاً، ولكنّه قضاه حافلاً بجلائل الأعمال والأقوال، وبما أتى من الحقّ في مجالس أهل الباطل، وبما كرّس من العدل في مواطن الظّلم، وبما أرسى من الإيمان، ورسّخ من العقيدة التي ينبغي أن يُدان الله تعالى بها، فزادَ أتباعه زيادةً ملموسةً حتى أنّهم كان يعجّ بهم قصر الخلافة سرّاً وظاهراً، وكانوا ينتشرون في الجيش بين قوّاده وأفراده، مضافاً إلى كثيرين من أفراد الرعيّة والولاة كما سترى.

وقد كان (عليه السلام) إذا تكلّم نطقَ بالصواب، فأسكت أهل الفأفأة من مشايخ الفقهاء وقضاة البلاط، وأهل التّأتأة من الوزراء والأمراء وسائر الملتفّين حول معتلف السلطان، وإذا ظهرَ للناس في الشارع أو في ردهات القصر وصالاته تقوقع المتعالون وانكفأوا على ذواتهم، وذابَ أعداؤه ومناوئوه في لظى حقدهم وحسراتهم، وإذا حضرَ مجالسهم أحلّوه الصّدر وانتهى إليه الأمر، وكان فيما بينهم السيّد (المفدّى) بالنّفوس والأهل، وإذا غابَ عنهم صرّوا بأنيابهم حَنَقاً وعضّوا الأنامل من الغيظ!

***

(وكانت صفته - كما جاء في الفصول المهمة - أسمر اللّون، ونَقشُ خاتمه: الله ربّي وهو عصمتي من خلْقه ، وله خاتم نَقشهُ: حِفْظ العهود من أخلاق المعبود) (1) .

وألقابه: الناصح، والمتوكل، والنّجيب، والفتّاح، والمؤتمن، والنقيّ، والمرتضى، والعالم، والفقيه، والأمين، والطيّب، والعسكريّ، وأبو الحسن الثالث، ثمّ الهادي الذي هو أشهر ألقابه (2) .. ولُقّب بالعسكريّ؛ لأنّه لمّا أُشخِص من المدينة إلى سرّ مَن رأى وأسكنهُ الخليفة فيها وكانت تسمّى العسكر، عُرِف بالعسكريّ، فهو عليّ، وكنيته أبو الحسن لا غيرها (3) .

____________________

(1) الأنوار البهيّة: ص 145 وبعض المصادر السابقة.

(2) انظر أكثر المصادر السابقة.

(3) الصواعق المحرقة: ص 207 وبعض المصادر السابقة.

٢٧

أمّا أُمّه المعظّمة، فأُمّ ولدٍ اسمها سمانة المغربيّة ، وتُلقّب بأُمّ الفضل، وكانت تُدعى في زمانها بالسيّدة إطلاقاً (1) ؛ تقديراً لكرامتها وسموّ منزلتها.

قال محمد بن الفرج بن إبراهيم بن عبد الله بن جعفر: (دعاني أبو جعفر الجواد (عليه السلام)، فأعلَمَني أنّ قافلةً قد قدِمت فيها نخّاس معه جواري، ودفعَ إليّ بستّين ديناراً، وأمَرَني بابتياع جاريةٍ وَصَفها.

فمضيتُ فعملتُ ما أُمرت به، فكانت تلك الجارية أُمّ أبي الحسن (عليه السلام)) (2) .

ولإمامنا شهادة كريمة بحقّ أمّه (عليهما السلام) - رواها عنه محمد بن الفرج المذكور، وعليّ بن مهزيار - قالا فيها:

(أُمّي عارفة بحقيّ، وهي من أهل الجنّة لا يقربها شيطان مارد، ولا ينالها جبّار عنيد، وهي مكلوءة بعين الله التي لا تنام، ولا تختلف عن أمّهات الصّدّيقين والصالحين) (3) .

وكلمةُ (أمّ ولد) فيها ما فيها عند ضعفاء النفوس الّذين يجهلون أنّ أكثر أمّهات الأولاد عريقات الأصل، ومن كرائم الأسَر؛ لأنّهن يتحدّرن من أشرف العائلات اللواتي يأسر الغزاة والفاتحون المنتصرون نساءهّن ويبيعونهنّ في سوق النخّاسة، انتقاماً من أهلهنّ؛ إذ من المعلوم أنّه لا يأسر بنات السّوقة وعامّة البشر،.. وكم وكم بين العلماء والفقهاء والملوك والسلاطين والأمراء والعظماء والفلاسفة والكبراء، من أمّهاتهم أمّهات أولاد إذا ما رجعنا إلى التاريخ.

____________________

(1) وقيل: إنّها تُدعى سوسن، فانظر بعض المصادر السابقة ومدينة المعاجز: ص 539.

(2) انظر بعض المصادر السابقة والأنوار البهيّة: ص 345، ومدينة المعاجز: ص 539 بصورة خاصة.

(3) انظر الرقم السابق.

٢٨

هذا، وأمّهات الأولاد أعَفّ بكثير من البنات اللّواتي رُبّينَ في القصور المليئة بالمفاسد والموبقات، وأكثر حَدباً على راحة الأزواج، وأشدّ حصانةً من بنات الحضر اللاّئي ينغمسن في حياة اللّهو والطّيش ونعومة العيش،.. وقد عَقدنا فصلاً حول هذا الموضوع في كتابنا (الإمام الجواد (عليه السلام)) ، وذكرنا كثيراً من الأحاديث النبويّة الشريفة وأخبار الأئمة الحاثّة على التزوّج من الإماء، ولن نكرّر هنا؛ لعِلمنا بأنّ أكثر القرّاء يعرفون عظماء وعلماء وأصحاب مذاهب ولِدوا من أمّهات أولاد كُنّ مملوكات،.. وكم وكم بين أمّهات الأولاد من كاملات! وكم وكم بين (سيّدات المجتمع) المتحضّر من ساقطات!

***

وإمامنا الهادي (عليه السلام) غنيّ عن التعريف؛ لاشتهار علمه وفضله ومآثره الفاخرة ومعاجزه الباهرة التي ظهرت لمعاصريه، رغم أنّ السلطات الزمنيّة حاولت إطفاء نوره، فأبى الله إلاّ إظهاره ولو كرهَ الظالمون وعَبدة السلطان المتخمون، وكتَبَة التاريخ المزوّر المأجورون!

لقد كان على جانب كبير من العظمة التي لم تَخفَ على أهل زمانه أصحاباً وأعداءً، وبرهنَ على أنّه فرع زكيّ من الشجرة المباركة التي خلّد ذكرها القرآن الكريم.

قال فيه أعدى أعداء الشيعة الإماميّة، ابن حجر الهيثمي في (صواعقه المحرقة): (كان وارث أبيه عِلماً وسخاءً) (1) .

ووصفهُ العلاّمة المجلسيّ (قدّس الله سرّه) في بحاره الزاخرة بقوله: (كان أطيب الناس مهجةً، وأصدَقهم لهجةً، وأصلحهم من قريب، وأكملهم من بعيد، إذا صَمَتَ عَلَتْه هيبةُ الوقار، وإذا تكلّم علاه سيماء البهاء، وهو من بيت الإمامة ومقرّ الوصيّة والخلافة، شعبة من دوحة النبوّة منتضاة مرتضاة، وثمرة من شجرة الرّسالة مجتناة مجتباة) (2) .

____________________

(1) الصواعق المحرقة: ص 207.

(2) بحار الأنوار: ج 50 ص 114، ومناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 410.

٢٩

وقال فيه الشيخ المفيد رضوان الله عليه: (وكان الإمام بعد أبي جعفر (عليه السلام) ابنه أبا الحسن، عليّ بن محمد (عليهما السلام)؛ لاجتماع خصال الإمامة فيه، وتكامل فضله، وأنّه لا وارث لمقام أبيه سواه، وثبوت النّص عليه بالإمامة، والإشارة إليه من أبيه بالخلافة) (1) .

وقال القطب الرواندي: (وأمّا عليّ بن محمدٍ الهادي (عليه السلام)، فقد اجتمعت فيه خصال الإمامة، وتكامل فضله وعلمه وخصال الخير، وكانت أخلاقه كلّها خارقةً للعادة كأخلاق آبائه، وكان باللّيل مُقبلاً على القِبلة - للعبادة - لا يفتر ساعةً، وعليه جبّة صوف، وسجّادته على حصير، ولو ذكرنا محاسن شمائله لطالَ بها الكتاب) (2) .

فهو سلام الله عليه من دوحة العُلا في أعلاها، ومن سدرة المنتهى في منتهاها، وقد أجمعَ معاصروه على علمه الوافر، وفضله الظاهر، وحكمته البالغة، وسكينته ووقاره، وحِلمه وهيبته، فأجلّوه مختارين ومرغَمين، وانتهوا إلى حكمه في كلّ مسألة عوصاء، وعملوا بفتواه في كلّ قضيّة عجزَ عن الإفتاء بها الفقهاء، وكانوا كلّما اسْتَبْهمَ عليهم أمر دَعوا إليه، صلوات الله وسلامه عليه..

***

ذُكر في إثبات الوصيّة: أنّ الخضر بن محمدٍ البزّار، الشيخ المستور الثقة عند القضاة وسائر الناس، حكى القصّة التالية قبيل إشخاص الإمام إلى سرّ مَن رأى، فقال:

(رأيت في المنام كأنّي على شاطئ دجلة بمدينة السلام، في رحبة الجسر - أي الساحة العامّة ببغداد - والناس مجتمعون، خَلق كثير يزحم بعضهم بعضاً، وهم يقولون: قد أقبلَ البيت الحرام!

فبينا نحن كذلك إذ رأيت البيت - الكعبة أعزّها الله - بما عليه من ستائر الدّيباج والقباطي - وهو كتّان من صنع القبط - قد أقبلَ مارّاً على الأرض يسير حتى عبَرَ الجسر، من الجانب الغربيّ إلى الجانب الشرقيّ، والناس يطوفون به وبين يديه حتى دخلَ دار خزيمة،.. إلى أن قال:

____________________

(1) الإرشاد: ص 307.

(2) الأنوار البهيّة: ص 269.

٣٠

فلمّا كان بعد أيّام خرجتُ في حاجةٍ حتى انتهيتُ إلى الجسر، فرأيتُ الناس مجتمعين وهم يقولون: قد قدِمَ ابن الرّضا (عليهما السلام) من المدينة، فرأيتهُ قد عبرَ من الجسر على شهريّ تحته كبير يسير سيراً رفيقاً، والناس بين يديه وخلفه، وجاء حتى دخلَ دار خزيمة بن حازم، فعلمتُ أنّه تأويل الرّؤيا التي رأيتها، ثمّ خرجَ إلى سرّ مَن رأى (1) .

وقد صَدقَ حُلمك، وصدقتَ يا بن البزّاز في تأويله، ففي الخبر المرويّ أنّ (الرّؤيا الصادقة جزء من سبعين جزءاً من النبوّة)، أي أنّ ما يُنبّأ به المرء في منامه، قد يبلغ من الصّدق - أحياناً - حدّاً يشبه ما يُنبّأ به النبيّ من وحيٍ أثناء غيبوبته في شبه المنام.

وكأنّي برؤياك لم تعد الحقّ - عين الحقّ -؛ لأنّ البيت الحرام هو بيت الله عزّ وجلّ، والإمام هو من خير سَدَنة ذلك البيت الكريم، فلا جرَم أن يرمز البيت الكريم إلى سادنه العظيم، وأن يلقي الله عزّ وعلا على قلبك،.. وأنت الشيخ الثقة (عِلماً) ليس من أضغاث الأحلام، ولا من تخاليط المنام؛ لينبّه عباده الغافلين إلى أنّ هذا الإمام العزيز على الله تعالى، قد أشخَصهُ الحاكم الظالم إلى دار سلطنته.

فجاء في موكبه الجليل يحمل بين جنبيه أمر الله جلّ وعزّ، كما يحمل بيته الكريم عنوان التعبّد له سبحانه بأوامره ونواهيه، فيطاف من حول البيت الحرام امتثالاً لِما فُرض، ويُطاف بسادن ذلك البيت انتجاعاً لِما حلّل الله تعالى وحرّم؛ فإنّ لهذا الإمام (عليه السلام) آيات نتلوها في هذا الكتاب تدَع الإنسان مبهوراً، إذ كانت لا تتوافر لأحدٍ في الخلق - إذا استثنينا آله (عليهم السلام) - ظهرَ أمرها منذ طفولته الرشيدة، ودامَ حتى منتهى عمره الشريف.

فمن ظواهر العَجب في عهد صباوته: ما حدّث به الحسن بن عليّ الوشّاء الذي قال: (حدّثتني أمّ محمد - مولاة أبي الحسن الرّضا بالحَير، أي بكربلاء - وهي مع الحسن بن موسى، قالت:

____________________

(1) الأنوار البهيّة: ص 260 - 261.

٣١

جاء أبو الحسن (عليه السلام) قد رُعب حتى جلسَ في حِجر أمّ أبيها بنت موسى فقالت له: ما لكَ؟

فقال لها: (مات أبي والله الساعة!

فقالت له: لا تقل هكذا.

قال: هو والله كما أقول لك).

قال: فكتبنا ذلك اليوم، فجاءت وفاة أبي جعفر في ذلك اليوم) (1) .

وكذلك حدّث هارون بن الفضل قائلاً: (رأيتُ أبا الحسن (عليه السلام) في اليوم الذي توفّي فيه أبو جعفر، فقال (عليه السلام): (إنّا لله وإنّا إليه راجعون،.. مضى أبو جعفر!

فقيل له: وكيف عرفتَ ذلك؟!

قال: تُداخلني ذلّة لله لم أكن أعرفها) (2) .

ثمّ روى محمد بن عياض، عن هارون، عن رحيل - وكان رضيع أبي جعفر الثاني (عليه السلام) - قال: (بينا أبو الحسن (عليه السلام) جالس مع مؤدّبه إذ بكى بكاءً شديداً، فسأله المؤدّب: مِمّ بكاؤك؟

فلم يجبه؟ فقال: (ائذن لي بالدخول.

فأذِنَ له، فارتفع الصياح من داره بالبكاء، ثمّ خرجَ إلينا، فسألوه عن السبب في بكائه؟ فقال: إنّ أبا جعفر (عليه السلام) توفّي الساعة.

قال: قلنا له: فما عِلمك؟!

قال: دَخلني من إجلال الله عزّ وجلّ شيء لم أكن أعرفه قبل، فعلمتُ أنّ أبي قد مضى).

قال: فعرفنا ذلك اليوم والشهر، إلى أن وردَ خَبره، فإذا هو في ذلك الوقت بعينه) (3) .

____________________

(1) كشف الغمّة: ج 3 ص 174، وبحار الأنوار: ج 50 ص 175 - 176، ومدينة المعاجز: ص 543 - 544.

(2) بحار الأنوار: ج 50 ص 135 - 136 نقلاً عن بصائر الدرجات، وهو في مدينة المعاجز: ص 541، والكافي: م 1 ص 381.

(3) مدينة المعاجز: ص 544.

٣٢

وفي كتابنا (الإمام الجواد (عليه السلام))، تكلّمنا حول هذه الذّلة لله سبحانه، وكيف تتداخل الإمام - خاصةً ودون غيره - حين يموت أبوه ويُفضي الأمر إليه، فيخلع الله تعالى عليه سربال ولايته، ويلبسه جلباب اصطفائه لخلافته في أرضه، ويلقي إليه بمرسوم اختياره حجّةً من بين خليقته، ويهبه من علمه ما لا يهب لغيره، فيحسّ بما لا نحسّ به من عظمة الإلوهية، ويشعر بأنّ (الأمر) قد صار إليه،.. فيتواضع تواضع العبد الذليل بين يدي الرّبّ الجليل، ويعلم حينئذٍ أنّ أباه قد اختاره الله إلى جواره وكريم ثوابه، فيخشع قلبه لهذا الخالق الذي أجزلَ له العطاء، واختصّه بما يشاء من نورٍ يقذفه في قلوب الأولياء وخلفاء الأنبياء،.. ومَن شاء فليراجع بحثنا هناك..

ونُلفت نظر القارئ إلى أنّ علم الأئمة (عليهم السلام) موهوب لا مكسوب، وأنّ تكليف المؤدّب بتعليم كلّ إمام في طفولته، كان أمراً لابدّ منه لمصلحة حفظ الإمام (عليه السلام) وتغطية (أمره)؛ ولئلاّ تمتدّ إليه يد الغدر منذ نعومة أظفاره وقبل أن يؤدّي واجبه،.. فالإمام علاّم من عند ربّه، ومؤدّب بأدبه الرفيع.

***

أمّا أيام إمامنا مع أبيه (عليهما السلام)، فلم يذكر عنها التاريخ سوى نهلات يسيرة لا تعطي الصورة الواضحة المرجوّة،.. وقد كانت تلك الأيام قصيرةً وكان اجتماعه به أقصر؛ لأنّ السنوات الثمان الأخيرة من عمر الأب كانت مشحونةً بالسّموم والهموم، إذ كان الظَلَمة يطلبون رأسه في كلّ لحظة ويتآمرون على قتله مرةً بعد مرّةٍ، وهو بعيد عن ابنه بُعد الحجاز عن العراق، ولا يجتمعان إلاّ لماماً في موسم الحج.

فمن ذلك ما أورده أحمد بن محمد بن عيسى، عن أبيه الذي قال: (إنّ أبا جعفر (عليه السلام) لمّا أراد الخروج من المدينة إلى العراق، أجلسَ أبا الحسن في حِجره بعد النّص عليه وقال:

(ما الّذي تُحبّ أن أهدي إليك من طرائف العراق؟

فقال: سيفاً كأنّه شعلة نار!

ثمّ التفتَ إلى موسى ابنه وقال له: ما تحبّ أنت؟

فقال: فرَساً.

٣٣

فقال: أشبَهني أبو الحسن، وأشبهَ هذا أمّه) (1) .

ومَن يقعد في حِجر أبيه لا يكون شابّاً، ولا فتىً، ولا غلاماً،.. بل هو صبيّ حَدَث لم يتخطّ عهد صَباوته وحداثته،.. ولم نقف - عدا ذلك - على خلواتٍ له مع أبيه، ولا على اجتماعات له به، الأمر الذي يدلّ على أنّه لم يتيسّر له شرف الإقامة في وارف ظلّه، إذ فَرّق بينهما (أُمراء الجور) الذين كادوا لمحمد (صلّى الله عليه وآله) في أهل بيته، وسمّوا أنفسهم (خلفاء) له من بعده!!

أمّا نصوص أبيه على إمامته (عليهما السلام) فهذا بعضها:

قال إسماعيل بن مهران: لمّا أُخرِج أبو جعفر - الإمام محمد الجواد (عليه السلام) - من المدينة إلى بغداد في الدُفعة الأولى من خَرجَتيه قلت عند خروجه: جُعلت فداك، إنّي أخاف عليك في هذا الوجه، فإلى مَن الأمر بعدك؟

فكرّ إليّ بوجهه ضاحكاً - أي عَطفه نحوه - وقال لي: (ليس الغَيبة حيث ظننتَ في هذه السنة.

فلمّا استُدعي به إلى المعتصم صرتُ إليه فقلت له: جُعلت فداك، أنت خارج فإلى مَن هذا الأمر من بعدك؟

فبكى حتى اخضلّت لحيته - ابتلّت - ثمّ التفت إليّ فقال: عند هذه يُخاف عليّ، الأمر من بعدي إلى ابني عليّ) (2) .

فالإمام الجواد (عليه السلام) يعلم الخرجة التي يعود منها سالماً، والخرجة التي يجيء فيها أمر الله تعالى وتقع مشيئته، من عهدٍ معهود إليه عن آبائه عن جدّه النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله)؛ ولذلك يوصي في هذه المرة وينصّ على الوليّ من بعده.

وقال الصقر بن دلف: (سمعت أبا جعفر، محمد بن عليّ الرّضا (عليه السلام) يقول:

____________________

(1) بحار الأنوار: ج 50 ص 123 نقلاً عن عيون المعجزات.

(2) الإرشاد: ص 308، وكشف الغمّة: ج 3 ص 166 - 167، وإعلام الورى: ص 339 - 340، والكافي: م 1 ص 323 - 324، وبحار الأنوار: ج 50 ص 118، ومناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 408، وحلية الأبرار: ج 2 ص 476.

٣٤

(إنّ الإمام من بعدي ابني عليّ، أمرهُ أمري، وقوله قولي، وطاعته طاعتي، والإمامة بعده في ابنه الحسن) (1) .

وهذا نصّ صريح من الأب على إمامة ابنه وإمامة حفيده من بعده (عليهم السلام) جميعاً،.. صرّح به حين لزم الأمر طباقاً؛ لِما في يده من العهد الإلهيّ القدسيّ المرسوم بموجب قضاء الله سبحانه وتعالى، الذي نشير إلى شطرٍ منه يناسب موضوعنا، آخذين ذلك من لوح فاطمة (عليها السلام) أو صحيفتها.

قال أبو نضرة: (لمّا احتضرَ أبو جعفر، محمد بن عليّ الباقر (عليه السلام)، عند الوفاة دعا بابنه الصادق (عليه السلام) ليعهد إليه عهداً، فقال له أخوه زيد بن عليّ بن الحسين (عليه السلام): لو تمثّلتَ في مثال الحسن والحسين (عليهم السلام) لرجوتُ أن لا تكون أتيت منكراً، أي لو أوصى بالإمامة له، وهو أخوه، كما أوصى الحسن لأخيه الحسين (عليهما السلام).

فقال: (يا أبا الحسن، إنّ الأمانات ليست بالمثال، ولا العهود بالرّسوم، وإنّما هي أمور سابقة عن حجج الله عزّ وجلّ.

ثمّ دعا بجابر بن عبد الله الأنصاري - صاحب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) - فقال له: يا جابر، حدّثنا بما عاينتَ من الصحيفة.

فقال جابر: نعم، يا أبا جعفر، دخلتُ على مولاتي فاطمة بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؛ لأهنّئها بولادة الحسين (عليه السلام)، فإذا بيدها صحيفة بيضاء من درّة، فقلت لها: يا سيّدة النّساء، ما هذه الصحيفة التي أراها معكِ؟

قالت: فيها أسماء الأئمة من وِلدي.

قلتُ لها: ناوليني لأنظر فيها.

قالت: يا جابر، لولا النهي لكنتُ أفعل، لكنّه قد نُهي أن يمسّها إلاّ نبيّ، أو وصيّ نبيّ، أو أهل بيت نبيّ، ولكنّك مأذون لك أن تنظر إلى باطنها من ظاهرها.

____________________

(1) بحار الأنوار: ج 50 ص 118 نقلاً عن كمال الدين: ج 2 ص 50 في حديث، وحلية الأبرار: ج 2 ص 477 - 478، وهو في عدّة مصادر ذكرناها في كتابنا (يوم الخلاص).

٣٥

قال جابر: فإذا فيها: أبو القاسم، محمد بن عبد الله المصطفى، أمّه آمنة، أبو الحسن عليّ بن أبي طالب المرتضى، أمّه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف، أبو محمد الحسن بن عليّ البرّ، أبو عبد الله الحسين بن التقيّ، أمّهما فاطمة بنت محمد، أبو محمدٍ عليّ بن الحسين العدل، أمّه شهر بانويه بنت يزدجرد، أبو جعفر محمد بن عليّ الباقر، أمّه أمّ عبد الله بنت الحسن بن عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، أبو عبد الله جعفر بن محمدٍ الصادق، أمّه أمّ فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر، أبو إبراهيم موسى بن جعفر، أمّه جارية اسمها نجمة، أبو الحسن علي بن موسى، أمّه جارية اسمها تكتم، أبو جعفر محمد بن عليّ الزكيّ، أمّه جارية اسمها خيزران، أبو الحسن عليّ بن محمدٍ الأمين، أمّه جارية اسمها سوسن، أبو محمد الحسن بن عليّ الرفيق، أمّه جارية اسمها سمانة وتُكنّى أمّ الحسن، أبو القاسم محمد بن الحسن هو حجّة الله القائم، أمّه جارية اسمها نرجس، صلوات الله عليهم أجمعين) (1) .

فهو الإمام الأمين العاشر بمقتضى هذا العهد المرسوم الربّانيّ المقدّس الذي سبق جميع النّصوص والدلالات، ورُسِم بيد القدرة قبل أن تكون المخلوقات.

ثمّ وردَ عن محمد بن الحسن الواسطيّ (أنّه سمعَ أحمد بن أبي خالد، مولى أبي جعفر (عليه السلام)، يحكي أنّه أشهده على هذه الوصيّة المنسوخة - أي المكتوبة -.

____________________

(1) عيون أخبار الرضا: ج 1 ص 32 - 33 و ص 36 - و ص 206، وانظر بحار الأنوار: ج 51 ص 77 و ج 52 ص 277 و ص 312، وإعلام الورى: ص 372، وينابيع المودة: ج 3 ص 160، والنّص موجود في مصادر كثيرة باختلاف في اللفظ، وقد ذكرنا ذلك في كتابنا (يوم الخلاص).

٣٦

شَهدَ أحمد بن أبي خالد، مولى أبي جعفر، محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام)، أشهدهُ أنّه أوصى إلى عليّ ابنه، بنفسه وإخوانه، وجعلَ أمر موسى (1) إذا بلغَ إليه، وجعلَ عبد الله بن المساور قائماً على تركته من الضِياع والأموال والنفقات والرقيق وغير ذلك، إلى أن يبلغ عليّ بن محمدٍ صيّر عبد الله بن المساور ذلك إليه يقوم بأمر نفسه وإخوانه، ويصيّر أمر موسى إليه يقوم بنفسه بعدهما، على شرط أبيهما في صدقاته التي تصدّق بها.

وذلك يوم الأحد لثلاث ليالٍ خلونَ من ذي الحجة سنة عشرين ومئتين،.. وكتبَ أحمد بن أبي خالد شهادته بخطّه،.. وشهدَ الحسن بن محمد بن عبد الله بن الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وهو الجواني، على مثل شهادة أحمد بن أبي خالد في صدر هذا الكتاب، وكتبَ شهادته بيده،.. وشهد نصر الخادم، وكتبَ شهادته بيده) (2) .

ولا يخفى أنّ إقامة عبد الله قد نصّبه وكيلاً على الضِياع والأموال والنفقات والرقيق، وهو الواقع.

وأمّا أنّه قد أقامهُ وصيّاً للتقية؛ لأنّ ابنه الإمام عليّ الهادي (عليه السلام) كان لا يزال صبيّاً، والعامّة لا يعتبرون سنّه سنّ رشد شرعيّ، جاهلين أنّ هذا الأمر لا ينسحب على مَن كان إماماً.

ثمّ لا يخفى أيضاً على مَن يقرأ هذه الوصيّة أنّها صريحة النّص للإمام (عليه السلام) بولايته على نفسه، وعلى إخوانه صغاراً وكباراً.

وروى الحسين بن محمد بن عيسى الأشعري - الذي هو شيخ القميّين وفقيههم الذي يلقى السلطان - يجيء في السّحر من آخر كلّ ليلةٍ ليعرف خبر علّة قام أحمد بن محمد بن عيسى، وخلا به أبي.

فخرجَ ذات ليلة وقام أحمد عن المجلس، وخلا أبي بالرسول، واستدارَ أحمد بن محمدٍ، ووقفَ حيث يسمع الكلام.

____________________

(1) موسى هو ابنه (عليه السلام) الأصغر، الملقّب بالمبرقع، المدفون في قمّ.

(2) بحار الأنوار: ج 50 ص 122، والكافي: م 1 ص 325.

٣٧

فقال الرسول لأبي: إنّ مولاك يقرأ عليك السلام ويقول: (إنّي ماضٍ، والأمر صائر إلى ابني عليّ، وله عليكم بعدي، ما كان لي عليكم بعد أبي).

ثمّ مضى الرسول، فرجعَ أحمد بن محمدٍ بن عيسى إلى موضعه وقال لأبي: ما الذي قد قال لك؟

قال: خيراً.

قال: فإنّي قد سمعت ما قال لك، فلِمَ تكتمه؟ وأعادَ عليه ما سمعَ.

فقال أبي: قد حرّم الله عليك ما فعلتَ؛ لأنّ الله تعالى يقول: ( وَلاَ تَجَسَّسُوا ) (1) ، فأمّا إذا سمعتَ فاحفظ هذه الشهادة لعلّنا نحتاج إليها يوماً،.. وإيّاك أن تظهرها لأحدٍ إلى وقتها.

فلمّا أصبحَ أبي كتبَ نسخة الرسالة في عشر رقاعٍ بلفظها، وختمها ودفعها إلى عشرةٍ من وجوه العصابة - أي الأصحاب - وقال لهم: إنْ حَدثَ بي حدث الموت قبل أن أُطالبكم بها، فافتحوها واعمَلوا بما فيها.

قال: فلمّا مضى أبو جعفر (عليه السلام)، لبثَ أبي في منزله فلم يخرج حتى قطع على يديه نحو من أربعمئة إنسان، أي اعترفوا بإمامة الهادي الفتى (عليه السلام) واقتنعوا بنصّ أبيه عليه.

واجتمعَ رؤساء الإماميّة عند محمد بن الفرج الرّخجيّ - الثقة الذي هو من أصحاب الرّضا، والجواد، والهادي (عليهم السلام) - اجتمعوا يفاوضون في القائم بعد أبي جعفر ويخوضون في ذلك، فكتبَ محمد بن الفرج إلى أبي يُعلِمه باجتماع القوم عنده، وأنّه لولا مخافة الشّهرة لصارَ معهم إليه، وسألهُ أن يأتيه.

فركبَ أبي وصار إليه، فوجدَ القوم مجتمعين عنده، فتجاروا في الباب - أي تناقشوا في الأمر - فوجدَ أبي أنّ أكثرهم قد شكّوا، فقال لأبي: ما تقول في هذا الأمر؟

فقال أبي لِمن عنده الرّقاع: أحضِروا الرّقاع، فأحضروها، وفضّها وقال: هذا ما أُمرتُ به.

فقال بعض القوم: قد كنّا نحبّ أن يكون معك في هذا الأمر شاهد آخر ليتأكّد هذا القول.

فقال لهم أبي: قد آتاكم الله ما تحبّون، هذا أبو جعفر الأشعريّ يشهد لي بسماع هذه الرسالة.

وسألهُ أن يشهد بما عنده، فتوقّف أبو جعفر، وأنكرَ أن يكون قد سمعَ من هذا شيئاً.

____________________

(1) الحجرات: 12.

٣٨

فدعاه أبي إلى المباهلة، وخوّفه الله!

فلمّا حقّق عليه القول، قال: قد سمعتُ ذلك، ولكنّني كنت أحبّ أن تكون هذه المكرمة لرجلٍ من العرب، لا لرجل من العجم؛ ذلك أنّ الخيراني من الأعاجم، وكان الأشعريّ يحب أن يقوم عربيّ بما قامَ به الخيراني من كونه المؤتمَن والواسطة بين الإمام (عليه السلام) وبين أصحابه.

فلم يبرح القوم حتى اعترفوا بإمامة أبي الحسن (عليه السلام)، وزال عنهم الرّيب في ذلك، وقالوا بالحقّ جميعاً) (1) .

هذا، ومن رواة النّص على إمامته (عليه السلام) أيضاً إسماعيل بن مهران؛ والدليل عليها: إجماع الإماميّة على ذلك، وطريق النّصوص، والعصمة، إلى جانب الطريفين المختلفين من الخاصّة والعامّة - الشيعة والسنّة - من نصّ النبي (صلّى الله عليه وآله) على إمامة الاثني عشر، الذي حَفلت به بطون الكتب المعتبرة عند سائر الفِرق الإسلامية،.. وطريق الشيعة - خاصّةً - هو النّصوص على إمامته عن آبائه (عليهم السلام) واحداً بعد واحد (2) .

***

وقال شاهويه بن عبد الله بن سليمان الخلاّل:

(كنتُ رويت عن أبي الحسن - عليّ - الرّضا (عليه السلام) في أبي جعفر روايات تدلّ عليه.

فلمّا مضى أبو جعفر (عليه السلام) قلقت لذلك وبقيتُ متحيّراً لا أتقدّم ولا أتأخّر.. وخفتُ وكتبت إليه - أي إلى الهادي (عليه السلام) - في ذلك ولا أدري ما يكون،.. وكتبتُ إليه أسأله الدّعاء أن يفرّج الله عنّا في أسباب من قِبل السلطان كنّا نغتمّ بها من غلماننا - أي من وكلاء الخليفة وجلاوزته -.

____________________

(1) الكافي: م 1 ص 324، وإعلام الورى: ص 340 - 341، والإرشاد: ص 308 - 309، وكشف الغمّة: ج 3 ص 167 - 168، وبحار الأنوار: ج 50 ص 121، وحلية الأبرار: ج 2 ص 476 - 477.

(2) انظر بحار الأنوار: ج 50 ص 216، ومناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 402 وغيرهما من مصادر المسلمين المعتبرة.

٣٩

فرجعَ الجواب بالدعاء، وكتبَ في آخر الكتاب: (كنتَ أردتَ أن تسأل عن الخلَف بعد ما مضى أبو جعفر (عليه السلام) ، وقلقتَ لذلك ( وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ ) (1) يُقدّم الله ما يشاء ويؤخّر.. ( مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ) (2) .. كتبتُ بما فيه بيان وإقناع لذي عقل يقظان) (3) .

وروي عن أبي عليّ بن راشدٍ رضوان الله عليه قوله:

قال أبو الحسن (عليه السلام): (إنّ الأرض لا تخلو من حجّة، وأنا والله ذلك الحجّة) (4) .

***

أمّا ما كان في شأن تمرّض الإمام (عليه السلام) ووفاته - بالسمّ الذي ديفَ له في طعام أعدائه، أو شرابهم على يد المعتزّ العباسيّ وقضاة قصره والمشيرين عليه - فسنتناوله بالصورة الخاطفة التالية؛ لأنّ التاريخ خرسَ عن النّطق بالتفصيل أو الإجمال، كما أنّ المؤرّخين صمّوا عن سماع تلك الحادثة النّكراء:

فقد روى سهل بن زياد أنّ أبا هاشم الجعفريّ قال:

(بعث إليّ أبو الحسن (عليه السلام) في مرضه، وإلى محمد بن حمزة فسبَقَني إليه محمد بن حمزة فأخبرَني محمد: ما زال - أي الإمام (عليه السلام) - يقول: (ابعثوا إلى الحَير - أي أرسِلوا رجلاً يدعو لي في الحائر الحسينيّ في كربلاء -.

وقلت لمحمد: ألا قلتَ: أنا أذهب إلى الحَير؟ ثمّ دخلت عليه، وقلت له: جعلت فداك، أنا أذهب إلى الحَير.

____________________

(1) التوبة: 115.

(2) البقرة: 106.

(3) مدينة المعاجز: ص 554 و ص 558.

(4) الكافي: م 1 ص 379.

٤٠