الإمام علي الهادي ( عليه السلام ) مع مروق القصر وقضاة العصر

الإمام علي الهادي ( عليه السلام ) مع مروق القصر وقضاة العصر0%

الإمام علي الهادي ( عليه السلام ) مع مروق القصر وقضاة العصر مؤلف:
تصنيف: الإمام علي بن محمد الهادي عليه السلام
الصفحات: 286

الإمام علي الهادي ( عليه السلام ) مع مروق القصر وقضاة العصر

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: كامل سليمان
تصنيف: الصفحات: 286
المشاهدات: 19865
تحميل: 5809

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 286 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 19865 / تحميل: 5809
الحجم الحجم الحجم
الإمام علي الهادي ( عليه السلام ) مع مروق القصر وقضاة العصر

الإمام علي الهادي ( عليه السلام ) مع مروق القصر وقضاة العصر

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فقال: انظروا في ذلك - أي تدبّروا الأمر، ولا تبادروا فوراً؛ لأنّ في الذهاب إلى كربلاء مظنّة ضررٍ وأذى على مَن يُرى هناك، فقد مُنِع الناس من زيارة الحسين (عليه السلام) في ذلك العهد الظالم أشدّ مَنع -.

ثمّ قال (عليه السلام): إنّ محمداً ليس له سرّ من زيد بن عليّ، وأنا أكره أن يسمع ذلك - فهو (عليه السلام) يقصد محمد بن حمزة، وأنّه لا يكتم سرّاً، ويقول بإمامة زيد، وفي بعض النّسخ: ليس له شرّ، أي أنّه مأمون ولا يأتي الشرّ من قِبله، وهو من قِبل نفسه لم يُجِب إمامه في الذهاب إلى الحائر الحسيني -.

قال: فذكرتُ ذلك لعليّ بن بلال، فقال: ما كان يصنع بالحَير؟ هو الحَير - أي أنّ دعاءه لنفسه كافٍ؛ لأنّه في الشرف والكرامة كساكن الحائر (عليه السلام) -.

فقدِمتُ العسكر - سرّ مَن رأى - فدخلتُ عليه فقال لي: اجلِس، حين أردتُ القيام، فلمّا وجدتهُ قد أنسَ بي، ذكرتُ له قول عليّ بن بلال، فقال لي: ألا قلتَ له: إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كان يطوف بالبيت ويُقبّل الحجَر.

وحرمة النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، وحرمة المؤمن أعظم من حرمة البيت، وأمَرهُ الله عزّ وجلّ أن يقف بعرَفة، وإنّما هي مواطن يحبّ الله أن يُذكر فيها، فأنا أحبّ أن يُدعى لي حيث يحبّ الله أن يُدعى فيها) (1) .

____________________

(1) بحار الأنوار: ج 50 ص 224 - 225، والكافي: م 1 ص 567 - 568.

٤١

فالإمام (عليه السلام) أراحنا حين فلسفَ قوله لأصحابه: (ابعثوا إلى الحَير)، حين حدّث بما كان يفعله جدّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في الحرم من: الطواف، وتقبيل الحجر، والوقوف بعرفات وغير ذلك من الأماكن المقدّسة، وبُغيته الحقيقيّة هي: ربط شيعته بتوقير الأماكن المشرّفة، وشدّهم إلى الحائر الحسينيّ وغيره من مقدّساتهم، وزيارة كربلاء مهما قست عليهم الظّروف ومهما بلغَ منع الحكّام الظّلاّم،.. وهو يعلم - ساعتئذٍ - يقيناً أنّ حياته الشريفة قد انتهت بحسب العهد الذي بيده، وبمجرّد أن سقوه السمّ، وأنّ الدعاء له لا يُجدي نفعاً، ولكنّه يأبى أن يفارق الحياة قبل أن يبلّغهم أنّ الدعاء مستجاب في تلك الأماكن الكريمة، وأنّ زيارة الحسين (عليه السلام) تعادل عند الله سبعين حجّة، فلا ينبغي لهم التفريط في دنياهم بما يكسبون به الأجر الجزيل في أُخراهم حين يكرّمون أهل الكرامة من أولياء ربّهم عزّ وعلا،.. ولم يقل ذلك إلاّ من أجل ذلك.

***

وروى عبد الله بن عياش بإسناده عن أبي هاشم الجعفريّ أنّه قال فيه (عليه السلام) حين اعتلّ ومرض:

مادَت الأرض بي وآدت فؤادي

واعترَتني موارد العُرَواء (1)

حين قيل الإمام نضو عليل

قلتُ نفسي فَدَته كلّ الفداء (2)

مَرضَ الدّين لاعتلالك واعتلّ

وغارت له نجوم السّماء (3)

عَجباً أنْ مُنيتَ بالدّاء والسّقم

وأنت الإمام حسم الداء (4)

أنت آسي الأدواء في الدّين والدّنيا

ومحيي الأموات والأحياء (5)

____________________

(1) مادَت: اضطربت، وآدت: ثقلت، والعرواء: قرّة الحمّى ومسّها أوّل ما تأخذ بالرعدة.

(2) نضو: مهزول من الضّعف.

(3) غارت: غابت.

(4) مُنيتَ: أُصبتَ، وحسم الداء: برؤه والشفاء منه.

(5) آسي: طبيب، والأبيات في إعلام الورى: ص 348، وبحار الأنوار: ج 50 ص 222، والأنوار البهيّة: ص 248 - 249.

٤٢

في قصيدة عامرةٍ إن دلّت على شيءٍ فإنّما تدلّ على العاطفة الصادقة تصدر عن هذا السيّد الجليل، قد فاضت على لسانه شِعراً رقيقاً متيناً رصيناً، يظهر فيه اضطرابه للحال التي نزلت بإمامه (عليه السلام)؛ لأنّه يعلم أنّه بين أيدي ظلاّمٍ لئام عمرت صدورهم بالحقد والكيد لأهل بيت الوحي والتنزيل، فلاحقوهم تحت كلّ سماءٍ، وضيّقوا عليهم الآفاق والأجواء،.. وليس بيده أن يدفع عنه غائلةً، ولا أن يردّ نازلة..

***

أما كيفيّة سمّه، فقد ضربَ عليها التاريخ المأجور أقفالاً فوق أقفال، ولم يذكر عنها شيئاً ولا تسرّب لها تفصيل ولا إجمال؛ لشدّة ظلم الحاكم وعسفه، بالرّغم من أنّ سمّه كان جريمةً نكراء تهتزّ لها الأرض والسماء، ولكنّ ذلك تمّ على يد المعتزّ وأعوانه من الوزراء والمشيرين بلا أدنى ريب، لا رجماً بالغيب، وهذه هي سيرة العباسيّين مع أئمّة الهدى (عليهم السلام).

***

قال أبو دعامة: أتيت عليّ بن محمد (عليهما السلام) عائداً في علّته التي كانت وفاته فيها.

فلمّا هممتُ بالانصراف قال لي: (يا أبا دعامة، قد وجب عليّ حقك، ألا أُحدّثك بحديثٍ تُسَرّ به؟

فقلتُ له: ما أحوجني إلى ذلك يا بن رسول الله.

قال: حدّثني أبي محمد بن عليّ قال: حدّثني أبي عليّ بن موسى قال: حدّثني أبي موسى بن جعفر قال: حدّثني أبي جعفر بن محمد قال: حدّثني أبي محمد بن علي قال: حدّثني أبي عليّ بن الحسين قال: حدّثني أبي الحسين بن عليّ قال: حدّثني أبي عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) قال:

(قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): يا عليّ اكتُب:

فقلت: ما أكتب؟

فقال: اُكتب: بسم الله الرّحمن الرّحيم: الإيمان ما وقرَ في القلوب وصدّقه الأعمال، والإسلام ما جرى على اللسان وحلّت به المناكحة.

قال أبو دعامة: فقلت: يا بن رسول الله، والله ما أدري أيّهما أحسن، الحديث، أم الإسناد.

٤٣

فقال: إنّها لصحيفة بخطّ عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وإملاء رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، نتوارثها صاغراً عن كابر) (1) .

فهو (عليه السلام) - قبل أن يفارق دنيا أصحابه ومواليه - يُلقي بهذا الحديث ذي السّند الذهبيّ الفخم إلى صاحبٍ عاده في مرضه، فلم يرضَ أن يخرج من عنده إلاّ بهذه التّحفة السَنيّة، التي تُلخّص موضوع الفرق بين الإسلام والإيمان بأوجز عبارةٍ وأجلى بيان، رامياً إلى تثبيت شيعته الذين لا يتمّ (إيمانهم) إلاّ (بالولاية) من جهة، وإلى إذاعة ذلك بين الناس ليعرفوا أيّ طريق يختارون من جهةٍ ثانية؛ فإنّ الاعتراف - باللّسان - لله عزّ وجلّ بالوحدانيّة، ولنبيّه (صلّى الله عليه وآله) بالرّسالة، شهادتان تُعلنان إسلام المعترف بهما، فيصير له ما للمسلمين وعليه ما عليهم، فيحرم دمه وماله وعرضه على غيره، وتحلّ مناكحته والمعاطاة معه كأيّ كان منهم..

أمّا الإيمان: فهو ما استقرّ في القلب، وانعقدت عليه النيّة، وصدّقه العمل بجميع ما شرع الله تعالى وسنّه رسوله (صلّى الله عليه وآله) للناس، مع موالاة أولياء الله، ومعاداة أعدائه، وليس بين الأمرين حدّ وسط؛ لأنّ الدّين جزء لا يتجزّأ، ولا يصحّ أن يؤمن الإنسان ببعض ويكفر ببعضٍ، كأولئك الذين آمنوا بالله تبارك وتعالى ولم يعملوا بما أنزل على رسوله، وكهؤلاء الذين صدّقوا برسالة محمدٍ (صلّى الله عليه وآله) ولم يعملوا بأقواله ووصاياه، ولا رعوا لربّهم حرمةً ولا لنبيّهم كرامة.. وقد عقدنا فصلاً مسهباً حول موضوع (الإسلام والإيمان)، جاء في غاية الدّقة والتفصيل والبيان في كتابنا (صك الخلاص) ، ومَن شاء فليراجعه هناك؛ فإنّه لا يخلو من الفوائد الجمّة.

***

____________________

(1) بحار الأنوار: ج 50 ص 208، ومروج الذهب: ج 4 ص 85 - 86.

٤٤

وعلى كلّ حال، مات الإمام الهادي (عليه السلام) مسموماً (1) - كما قدّمنا -، وكان يوم وفاته يوماً مشهوداً اهتزّت له سرّ مَن رأى بسلطتها الحاكمة وشعبها المختلف الأهواء وعسكرها وقادته وأمرائه، وتَدافَع هؤلاء وهؤلاء إلى داره بالألوف، واجمين وذاهلين من وقْع النبّأ العظيم الذي كان لا يمكن أن يُعلِّق عليه أحد بكلمةٍ، ولا أن ينبُس ببَنْت شفةٍ؛ لأنّ سيوف الظّلم المُشرَعة فوق الرؤوس لا ترحم الغريب ولا ترأف بالقريب، إذ في مفهوم العباسيّين أنّ المُلك عقيم قد يستدعي قتل الأب، أو الأخ أو الابن وسائر الأقرباء، كما يستدعي قتل أيّ واحدٍ من الأباعد حين تُسوّل له نفسه أن يقول: مه مه!

وفي كتاب إثبات الوصيّة : (أنّ جماعةً دخلوا إلى دار أبي الحسن (عليه السلام) يوم وفاته، وإذا بها قد اجتمعَ فيها بنو هاشمٍ من الطالبيّين والعباسيّين، واجتمعَ خَلق كثير من الشيعة ولم يكن قد ظهرَ عندهم أمر أبي محمد، الإمام الحسن العسكريّ (عليه السلام)، ولا عرفَ خبر الوصيّة إليه إلاّ الثقات الّذين نصّ أبو الحسن (عليه السلام) على ابنه بحضورهم، فحكى النّاس أنّهم في حيرةٍ من الأمر ومصيبة، إذ خرجَ من الدار الداخليّة خادم صاح بخادمٍ آخر: يا رياش، خذ هذه الرّقعة وامضِ بها إلى دار أمير المؤمنين وادفعها إلى فلان وقل له: هذه رقعة الحسن بن عليّ.. فاستشرفَ الناس لذلك!

ثمّ فُتحَ من صدر الرواق باب وخرج خادم أسود، ثمّ خرجَ بعده أبو محمد (عليه السلام) مكشوف الرأس مشقوق الثّياب، وعليه مبطنة بيضاء - أي ثوب مبطّن - وكان وجهه وجه أبيه (عليه السلام) لا يخطئ شيئاً.

____________________

(1) انظر مروج الذهب: ج4 ص 86، وتذكرة الخواص: ص 375، والأنوار البهية: ص 269، ومناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 401 وأكثر مصادر بحثنا هذا.

٤٥

وكان في الدار أولاد المتوكل، وبعضهم ولاة العهد، فلم يبقَ أحد إلاّ قام على رجْليه، ووثبَ إليه أبو أحمد، فقصده أبو محمد (عليه السلام) فعانقه ثمّ قال له: (مرحباً بابن العمّ)، وجلسَ بين بابي الرواق والناس كلّهم بين يديه..

وكانت الدار كالسّوق بالأحاديث، فلمّا خرجَ وجلس أمسكَ النّاس فما كنّا نسمع شيئاً إلاّ العطسة والسّعلة،.. وخرَجت جارية تندب أبا الحسن (عليه السلام)، فقال أبو محمدٍ (عليه السلام): (ما هاهنا مَن يكفي مؤنة هذه الجارية...) ثمّ خرجَ خادم فوقف بحذاء أبي محمد، فنهضَ (عليه السلام) وخرجت الجنازة، وخرجَ يمشي حتى أخرجَ بها إلى الشارع الذي إزاء دار موسى بن بغا، وقد كان أبو محمد صلّى عليه قبل أن يخرج إلى الناس، وصلّى عليه لمّا خرجَ (المعتمد) ودُفن في بيتٍ من دوره) (1) .

وتعجّب بعض الأعداء الجهَلة من شقّ الإمام لثوبه يوم وفاة أبيه (عليه السلام)، ورأوا في ذلك أمراً مستهجناً، وسها عن بالِهم سمّهم للإمام واغتيالهم له؛ لأنّه يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويقف في وجه باطلهم وظلمهم , فقد قال محمد بن الحسن بن شمّون وغيره: خرجَ أبو محمد (عليه السلام) - أي الإمام الحسن العسكري - في جنازة أبي الحسن (عليه السلام) وقميصه مشقوق، فكتبَ إليه أبو عون الأبرش، قرابة نجاح بن سلمة: مَن رأيتَ أو بلغكَ من الأئمّة شقّ ثوبه في مثل هذا؟!

فكتبَ إليه أبو محمد (عليه السلام): (يا أحمق، وما يدريك ما هذا؟! قد شقّ موسى على هارون) (2) .

وفي رجال الكشّي نقلَ هذا الخبر عن إبراهيم بن الخضيب الأنباري الذي أورده قائلاً: (كتبَ أبو عون الأبرش، قرابة نجاح بن سلمة، إلى أبي محمد (عليه السلام): إنّ النّاس قد استوهنوا - وقيل: استوحشوا - من شقّك على أبي الحسن (عليه السلام).

____________________

(1) الأنوار البهيّة: ص 270 - 272.

(2) بحار الأنوار: ج 50 ص 191، ورجال الكشّي: ص 479 وص 480.

٤٦

فقال: (يا أحمق، ما أنت وذاك؟! قد شقّ موسى على هارون (عليهما السلام)، إنّ من النّاس مَن يولد مؤمناً، ويحيا مؤمناً، ويموت مؤمناً، ومنهم مَن يولد كافراً، ويحيا كافراً، ويموت كافراً، وإنّك لا تموت حتى تكفر ويتغيّر عقلك!) فما مات حتى حَجبهُ وِلده عن الناس وحبسوه في منزله في ذهاب العقل والوسوسة، ولكثرة التخليط، وكان يردّ على أهل الإمامة، وانكشفَ عمّا كان عليه) (1) .

فمَن طرقَ الباب تلقّى الجواب يا أبرش الاسم والهيئة وأغبرهما! أفما سألتَ نفسك حين قرأتَ رسالة الإمام (عليه السلام) إليك: من أين جاءه العلم بموتك كافراً بعد أن يختلط عقلك وتُجنّ، وتصبح سخريةً بين النّاس، فيضطرّ أولادك إلى حبسك في منزلك قبل أن تُحبس تحت أطباق الثّرى رهين كفرك وارتدادك؟! كان ينبغي لك أن تسأل نفسك، وأن تفكّر وتُقدّر.. وأن تتوب وتستغفر، لو كان الله تعالى يعلم فيك خيراً..

فتوقّوا خزّان علم الله أيّها المغترّون بزخرف الدّنيا وزبرجها.. وإيّاكم والاعتراض على أبواب الإيمان، وأمناء الرحمان؛ فإنّهم قد اصطفاهم ربّهم بعلمه، وارتضاهم لغيبه، واختارهم لسرّه، واجتباهم بقدرته، وأيّدهم بروح القدس من عنده، وخصّهم ببرهانه، وجعلهم تراجمة وحيه وشهداء خلقه، وأعلام عباده ومنار بلاده.. فلا تتعدّوهم بفتوىً، ولا تسبقوهم بحكمٍ؛ لأنّهم عَيبة علم الله، والأدلاّء على الحقّ - وحدهم دون غيرهم - ومَن ناصَبهم العداء نازعَ الله تعالى في مشيئته!

***

وعن أحمد بن داود القمّي، ومحمد بن عبد الله الطّلحيّ، أنّهما قالا: (حَمَلنا مالاً اجتمعَ من خُمس ونذرٍ، وعين وورق، وجوهرٍ وحليّ وثيابٍ وما يليها، فخرَجنا نريد سيّدنا أبا الحسن، عليّ بن محمد (عليهما السلام).

____________________

(1) المصدر السابق نفسه.

٤٧

فلمّا صِرنا إلى دسكرة المَلِك تلقّانا رجل راكب على جَمل ونحن في قافلةٍ عظيمة، فقَصَدنا ونحن سائرون في جملة النّاس وهو يعارضنا بجَمَله حتى وصلَ إلينا وقال: يا أحمد بن داود، ومحمد بن عبد الله الطّلحيّ، معي رسالة إليكما.

فقلنا له: ممّن يرحمكَ الله؟!

قال: من سيّدكما أبي الحسن عليّ بن محمد (عليه السلام)، يقول لكما: (إنّي راحل إلى الله في هذه اللّيلة، فأقيما مكانكما حتى يأتيكما أمر ابني أبي محمد..) فخشعت قلوبنا، وبكت عيوننا، وأخفينا ذلك ولم نظهره، ونزلنا بدسكرة المَلِك واستأجرنا منزلاً وأحرَزنا ما حملناه فيه، وأصبحنا والخبر شائع في الدسكرة بوفاة مولانا أبي الحسن (عليه السلام)، فقلنا: لا إله إلاّ الله، أترى الرسول الذي جاء برسالته أشاعَ الخبر في الناس! فلمّا تعالى النهار رأينا قوماً من الشيعة على أشدّ قلقٍ ممّا نحن فيه، فأخفينا ذلك ولم نظهره) (1) .

____________________

(1) مدينة المعاجز: ص 559.

٤٨

فسبحان الخالق العظيم الذي علّم أولياءه، وأصفياءه ما لا يعلمه الآخرون، وأطلَعهم على علم ما كان وما يكون - في أنفسهم وفي كافة أقطار أرضه - دون سائر العالَمين،.. وأرى نفسي تخاتلني أن أتجاوز هذا الخبر دون تعليق، ولكنّ راكب الجَمل يستوقفني قسراً بدافع سؤال أُوجّهه إليه: مَن هو أولاً، وهل طلعَ من الأرض أم نزلَ من السماء حتى وافى الرجلين في دسكرة المَلِك، وليلة وفاة الإمام (عليه السلام) بالذات، وهل كان على موعدٍ معهما عَيّنه سابقاً، وقرّر فيه ساعة اللقاء وموعد حلول القضاء بهذه الدّقة العجيبة؟!

لا، لا،.. فإنّها دقّة كومبيوتريّة إلكترونيّة بلغت الغاية في التقدير والحساب، ولا يتسنّى له أن يستعملها في حال انطلاقه من العراق، لملاقاة قادِمَين من إيران لم يتّصل بهما ولا اتّصلا به، ولا بيده ولا بيديهما توقيت جميع تلك المفارقات.. بل هي من علم الإمام الذي علّمه إياه علاّم الغيوب، يظهره لنا لنقف عنده مُفكّرين لا يرتدّ إلينا طرفنا قبل أن نقرّ بسفارة هذا المخلوق الكريم، وبكونه ينطق عن غيبٍ محتومٍ قدّره الله تعالى وأمضاه، ثمّ أطلعهُ عليه ليبرهن على أنّه الحجّة القائمة على العباد، فلا ينكرها إلاّ الكافرون من أهل العناد.

قال المسعودي: (وكانت وفاة أبي الحسن في خلافة المعتزّ بالله، وذلك يوم الاثنين،.. وسُمع في جنازته جارية تقول: ماذا لقينا من يوم الاثنين قديماً وحديثاً) (1) ، فأشارت بقولها إلي يوم وفاة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) - يوم الاثنين - وجفاء بعض أصحابه الذين تركوه جنازةً في بيته دون تجهيزٍ، واشتغلوا في غير ما أوصاهم به مراراً وتكراراً..

وقال ابن عياش - في كتابه (المقتضب): (لِمحمد بن إسماعيل بن صالح القميريّ رحمه الله، قصيدة يرثي بها مولانا أبا الحسن الثالث (عليه السلام)، ويُعزّي ابنه أبا محمدٍ (عليه السلام)، أوّلها:

الأرض خوفاً زَلزلت زلزالها

وأخرجت من جَزعٍ أثقالها

____________________

(1) مروج الذهب: ج 4 ص 84، والأنوار البهيّة: ص 270.

٤٩

إلى أن قال:

عَشرُ نجوم أفَلَت في فُلكها

ويُطلع الله لنا أمثالها

بالحسن الهادي أبي محمد

تَدرك أشياع الهدى آمالها

وبعده مَن يُرتجى طلوعه

يظلّ جوّاب الفلا أجزالها

ذو الغيبتين الطّوّل الحقّ الّتي

لا يَقبل الله مَن استطالها

يا حجج الرّحمان إحدى عشرةً

آلت بثاني عَشرها آمالها (1)

وبها يشير إلى الحجّة المنتظر، الإمام الثاني عشر، عجّل الله تعالى فرجه، وإلى غيبتيه الصّغرى والكبرى اللّتين يستطيل مدّتهما الناس فينكرون وجوده (عليه السلام).

وقد خلّف إمامنا من الولد: أبا محمدٍ - الحسن الذي هو الإمام من بعده - والحسين، ومحمداً، وجعفر - الملقّب بالكذّاب - وابنةً واحدةً تدعى عائشة - وقيل غالية، أو عليّة (2) -، أي أنّه (قضى عن أربعة ذكورٍ وأنثى، أجلّهم أبو محمدٍ الخالص) (3) ، كما قال ابن حجر الهيثمي في صواعقه المحرقة.

و(في سنة أربع وخمسين ومئتين أحضرَ ابنه أبا محمدٍ، الحسن العسكريّ (عليه السلام)، وأعطاه النّور والحكمة ومواريث الأنبياء والسلاح، ونصّ عليه، وأوصى إليه بمشهد ثقاتٍ من أصحابه) (4) ، فهو الإمام الحادي عشر الذي سنتناول دراسة سيرته الكريمة في كتابٍ مستقلّ إن شاء الله تعالى.

أمّا ابنه جعفر، فإنّه ادّعى أنّ أخاه الحسن العسكريّ (عليه السلام) جَعلَ الإمامة فيه، فسُمّي بالكذّاب، ووردَ بشأنه ذم كثير (5) ، ونحن نذكر من شأنه ما يلي:

____________________

(1) بحار الأنوار: ج 50 ص 214.

(2) الإرشاد: ص 314، وكشف الغمّة: ج 3 من ص 165 إلى ص 189، وإعلام الورى: ص 349، وينابيع المودة: ج 2 ص 263 وأكثر المصادر السابقة.

(3) الصواعق المحرقة: ص 207.

(4) مروج الذهب: ج 4 ص 19 - 20، وبحار الأنوار: ج 50 ص 209 - 210.

(5) ينابيع المودّة: ج 2 ص 263 - 264، ومَن شاء زيادة المعلومات في ذمّه فليراجع بحار الأنوار: ج 47 من ص 47 فما فوق، وقد ذكرنا عنه شيئاً في كتابنا (يوم الخلاص).

٥٠

روى صالح بن محمد بن عبد الله بن محمد بن زياد، عن أمّه فاطمة بنت محمد بن الهيثم، المعروف بابن سبالة، التي قالت: (كنتُ في دار أبي الحسن، عليّ بن محمد العسكريّ في الوقت الذي ولِدَ فيه جعفر، فرأيتُ أهل الدار قد سُرّوا به، فصرتُ إلى أبي الحسن (عليه السلام) فلم أرَ به سروراً، فقلت: يا سيدي، ما لي أراك غير مسرورٍ بهذا المولود؟!

فقال (عليه السلام): (هوّني عليك؛ فإنّه سيُضلُّ به خَلقٌ كثير) (1) .

وابنه هذا هو أصغر أولاده، وقد آذى أخاه الإمام العسكريّ (عليه السلام) في حياته بسوء سلوكه وعدم استقامته على طريقة آبائه، ثمّ اغتصبَ إرثه بعد موته وتعدّى على حقّ ابن أخيه الإمام المنتظر عجّل الله تعالى فرجه.

وأنت ترى أنّ الله تبارك وتعالى عرّف أباه ما يكون عليه حال مولوده الذي ولِد الساعة، فامتقعَ لونه ولم يَظهر عليه السرور؛ إذ أطلعهُ سبحانه على أنّه سيُضَلّ به خَلق كثير، وهو بعدُ لم يفتح ناظريه على نور الشمس!

فلا تسأل عن علم الأئمّة (عليهم السلام) كيف يكون ولا كيف يحصل؛ فإنّك إن فعلتَ ذلك تدور في فراغ عظيم تضيع فيه إذا انتقصتهم أيّ شيءٍ من قَدرهم، أو أنكرتَ عليهم أيّ عطاءٍ من مواهب ربّهم الذي انتدبهم لسياسة العباد، وجَعلهم أوتاد البلاد، وعلّمهم علم الأولين والآخرين، فكانوا حَملة شرع الإسلام في الأنام.

____________________

(1) بحار الأنوار: ج 50 ص 231، وكشف الغمّة: ج 3 ص 175، ومدينة المعاجز: ص 546.

٥١

طغوى.. عَهدَي المعتصم والواثق

عاشَ إمامنا (عليه السلام) عهوداً ستّةً في ظلّ ظلمٍ سافرٍ، إذ حملَ أمر الله تبارك وتعالى بولاية النّاس طيلة مُلك ستّةٍ من خلفاء بني العباس، هم: المعتصم، والواثق، والمتوكل، والمنتصر، والمستعين، والمعتزّ، ولاقى أثناء ذلك صنوفاً من الأذى وأنواعاً من المكر، وعاشرَ فيها عتاةً متغطرسين حَكموا المسلمين باسم رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وساروا وفق جاهليةٍ رعناء، ولم يعيشوا الإسلام إلاّ في مظاهر جوفاء!

ثمّ عَمدوا إلى بَني عليّ (عليه السلام) فأرعبوهم طيلة حياتهم التي ختموها معهم - كلّهم - بالسّمّ والقتل البشِع، حرباً لله تعالى ورسوله! ثمّ لم يخجلوا بأن تلقّبوا بألقابٍ كانوا أبعد عن معناها بُعد السماء عن الأرض؛ إذ كان الرشيد غير رشيدٍ حين أطغاه الحُكم، والمأمون غير مأمون على غير عبّاسيّته العنيدة، والمعتصم اعتصمَ بغير الله وبغير أهل الدّين ضدّ أهله، والواثق عرفَ الحقّ وعمل بغيره، والمتوكّل توكّل على الشيطان دون سواه، والمنتصِر انتصرَ بأبالسة التّرك والدّيلم على العرب والمسلمين، والمستعين لم يستعِن بالله طرفة عين، ومثلهم المعتزّ، والمعتضد، و...

وقد أضافوا أسماءهم جميعها إلى اسم الله ولم يَعرفوا الله، وتلبّسوا بخلافة فاقدةٍ لمحتواها، ثمّ حَملوا أوزار سلطانٍ غاشم فَعل الأفاعيل وجاء بالأباطيل، وغطّى على عهد الأمويّة الّذي سبق، وعلى عهد الوثنيّة التي سَلفت! فسحقاً لأصحاب ألقاب أغضبوا ربّ الأرباب؛ لكثرة ما احتطبوا من الآثام ولشدّة ما ارتكبوا من الإجرام..

٥٢

أجل، قد عاصرَ إمامنا (عليه السلام) هؤلاء الخلفاء الستّة المتجبّرين، فلوى كبرياءهم بجلالة قدره، وكفخَ طغواهم بعزّته من ربّه، وتغلّب على كيدهم بما آتاه الله تعالى من العلم والفضل والكرامة.. وخرجَ منتصراً على زورهم وبهتانهم في سائر مناسبات حياته معهم، من غير أن يَعلُق بأذيال أردانه الطاهرة شيء من شوائبهم ومصائبهم، ودون أن يُغبّر طريقه رماد قلوبهم المحترقة من عظمته؛ لأنّهم كانوا كلّما نفخوا في نار حقدهم، أعمى الرّماد أبصارهم!

ونحن إذا حاكَمنا العباسيّين محاكمةً عادلةً، ونظرنا إلى أعمالهم بعين العقل والدّين، نرى أنّ جرائمهم ضدّ الإسلام وحَملة الدّين تفوق جرائم الأمويّين، الذين أقسمَ شيخهم أن لا جنّة ولا نار! وقال معاويتهم: لم أُقاتلكم لتصلّوا، ولا لتصوموا، ولا لتزكّوا، ولا لتحجّوا؛ بل لأتأمّر عليكم وعلى رقابكم! وقَتلَ يزيدهم الحسين، ابن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ومزّق وليدهم القرآن وقال:

إذا ما جئت ربّك يوم حشرٍ

فقل يا ربِّ مزّقني الوليد

فأولئك قوم أعادوها وثنيّةً جاهليّةً، بقالب قيصرية كسرويةٍ حادت عن خطّ الإسلام من جهة، وكانت لهم تِرات وذحول عند أمير المؤمنين (عليه السلام) من جهةٍ أخرى، فاعتبروا عملهم الجاهليّ معه ومع أبنائه أخذاً بالثأر..

٥٣

أمّا بنو العبّاس، فقد جاءوا إلى الحكم على أساس تدمير تلك الوثنيّة وردّ الحقّ إلى مستقرّه، ولكنّه ما عتّم أن صار سكرهم يزري بسُكر يزيد العربيد، وفسْقهم يضمحلّ أمامه فسْق الوليد، وجرائمهم مع أئمّة أهل بيت النبيّ (صلّى الله عليه وآله) رجحت بجرائم كلّ جبّار عنيد!

فهُم في ميزان خلافة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) صفر وهباء، وفي ميزان السلاطين والملوك سفّاكون سفّاحون، وفي ميزان الحكّام العاديّين ظلمة جائرون، لم يربحوا معركةً مع أعداء الدّين، ولا خسروا معركةً مع أهل الحقّ من المسلمين! قصورهم كانت مواخير للسّكر والفسق والدعارة واللّواط، وأموال المسلمين كانت بين أيديهم نهباً للعملاء والسُّمّار والمهرّجين والمغنّين والراقصات.. وأحكام قضاتهم جَرت في رقاب أصحاب المذاهب، وسياطهم تقطّعت على جلود الفقهاء والعلماء،.. وعِنّا لأمرك يا ربّ في هؤلاء الخلفاء لرسولك الكريم (صلّى الله عليه وآله)!!

***

٥٤

ففي عهد المعتصم - الذي لم يعتصم إلاّ بسنّة آبائه كيداً للبيت العلويّ وحرباً لله - واجهَ إمامنا (عليه السلام) أزمَتين من أعظم أزمات عمره؛ إذ تلقّى كارثة الفجيعة بأبيه الذي سمّه المعتصم مرتكباً جريمةً نكراء بقتل إمام مُنصّب من ربّه، ثمّ لاقى منه - هو وآله من العلويّين - عزلاً وضيقاً أشدّ من عزل الهاشميّين في شِعب أبي طالب أيّام الجاهلية العمياء.. فإنّ حادثة قَتل أبيه (عليه السلام) آذت كلّ ذي ضمير، وأفزَعت كلّ إنسانٍ، واهتزّ من بشاعتها عرش الرحمان! إلاّ ضمائر المؤرّخين المأجورين فإنّها لم تتحرّك ولم تتأثّر، وأبقت تفصيلات ذلك كلّه طيّ الكتمان..

وقد كان الخليفة يومئذ يولّي على مكّة والمدينة كلّ جبّارٍ من ولاته، ثمّ يوصيه بالقسوة وأخذ العلويّين بالعنف، فأُضيف ظلمه إلى ظلم ولاته القُساة على أهل الحقّ، الجفاة لآل رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وأدّى ذلك التصرّف الأرعن إلى صرعةٍ شعبيّةٍ تركت الناس سكارى وما هم بسكارى ولكنّ ظلم الخليفة شديد!

  فمن ذلك ما حصلَ على يد عمر بن الفرج الرّخجيّ الذي أذاقهم ألواناً من الضّيق والحاجة، ومنعَ صِلتهم والتعامل معهم، وسدّ في وجوههم أبواب الرّزق وسبُل العيش، وأعطى أبشع صورةٍ عن جَور ذلك العهد المشؤوم - كما سترى بعد قليل - حيث كان الإمام (عليه السلام) لا يزال ما بين السابعة والتاسعة من عمره الشريف.

٥٥

ومع ذلك التعسّف - الذي ما عليه من مزيد - لم يكن الإمام الغلام (عليه السلام) قابعاً في زاوية همّه وغمّه وحزنه على أبيه، بل كان يخرج إلى مسجد جدّه الأعظم (عليه السلام)، فيُفتي ويقضي لمواليه ولسائر الناس ببيان ربّانيّ وبحجّة دامغةٍ، ناطقاً بالقرآن والسنّة، وحاكماً بما نزلَ من عند ربّه عزّ وعلا، فيرجع إليه مشايخ الفقهاء من الهاشميين وغيرهم؛ إذ لا يجدون الحقّ إلاّ عنده، ولا يرون الصّدق إلاّ على لسانه، ويلمسون من علمه وفضله ورشده ما لا يتوفّر عند شيوخهم وكبرائهم في سائر أرجاء الدولة الإسلاميّة؛ لأنّه ينطق عن علمٍ من علم الله تعالى، ورثة عن آبائه، عن جدّه صلوات الله عليه وعليهم، ولم يكتسبه من مدرسةٍ ولا من أستاذ، بل هو موهوب له وكأنّه مخلوق معه، قد زقّه زقّاً منذ طفولته المبكّرة،.. وقد كانت تظهر للناس براهينه الساطعة وآياته الباهرة، ثمّ لا يخفى ذلك على قصر الإمارة ومَن فيه؛ لأنّه كانت تتناول أحاديث عجائبه الرّكبان فتصل إلى كلّ مكان.

ومن أبرز ما حدثَ من دلائل عَظمته يومها وهو بعدُ دون الحُلم: أنّ أحد الثقات من أصحاب أبيه وأصحابه الذين كانوا يتولّون العمل في الدولة، حبسهُ المعتصم وهدّده بالقتل وبمصادرة أملاكه؛ لأنّه يتولّى الله ورسوله والّذين آمنوا! ذاك هو اليَسع بن حمزة القمّي الذي روى عنه محمد بن جعفر بن هشام الأصبغي قصّته قائلاً:

(أخبرَني عمرو بن مسعدة، وزير المعتصم الخليفة، أنّه جاء عَليّ بالمكروه الفظيع حتى تخوّفته على إراقة دمي وفقر عقِبي، فكتبتُ إلى سيّدي أبي الحسن العسكريّ (عليه السلام) أشكو إليه ما حلّ بي!

فكتبَ إليّ: (لا روعَ عليك ولا بأس، فادعُ الله بهذه الكلمات يُخلّصك الله وشيكاً ممّا وقعتَ فيه ويجعل لك فرجاً؛ فإنّ آل محمد (صلّى الله عليه وآله) يدعون بها عند إشراف البلاء وظهور الأعداء، وعند تخوّف الفقر وضيق الصّدر).

٥٦

قال اليسع بن حمزة:فدعوتُ الله بالكلمات التي كتبَ إليّ سيّدي بها، في صدر النّهار، فو الله ما مضى شطرهُ حتى جاءني رسول عمرو بن مسعدة فقال لي: أجب الوزير! فنهضتُ ودخلت عليه، فلمّا بصُرَ بي تبسّم إليّ، وأمرَ بالحديد ففُكّ عنّي، والأغلال فحُلّت منّي، وأمرَ لي بخُلعةٍ من فاخر ثيابه، وأتحَفَني بطِيب، ثمّ أدناني وقرّبني وجعلَ يُحدّثني ويعتذر إليّ، وردّ عَلَيّ جميع ما كان استخرجهُ منّي، وأحسنَ رفدي وردّني إلى الناحية التي كنتُ أتقلّدها وأضاف إليها الكورة التي تليها) (1) .

ثمّ ذكرَ الدعاء، وهو هذا:

____________________

(1) بحار الأنوار: ج 50 ص 224، ومنهج الدعوات: ص 272.

٥٧

(يا مَن تُحلّ بأسمائه عُقَد المكاره، ويا مَن يُفلّ بذكره حدّ الشّدائد، ويا مَن يُدعى بأسمائه العظام من ضيق المخرج إلى محلّ الفرَج، ذلّت لقدرتك الصّعاب، وتسبّبت بلطفك الأسباب، فهي بمشيئتك دون أمرك مؤتمرة، وبإرادتك دون وحيك منزجرة، وأنت المرجوّ للمهمّات، وأنت المفزع للملمّات، لا يندفع منها إلاّ ما دفعتَ، ولا ينكشف منها إلاّ ما كشفتَ، وقد نزلَ بي من الأمر ما فَدَحني ثِقله، وحلّ بي منه ما بَهضني حمْله، وبقدرتك أوردتَ عليّ ذلك، وبسلطانك وجّهته إليّ، فلا مصدر لِما أوردتَ، ولا ميسّر لِما عسّرت، ولا صارفَ لِما وجّهت، ولا فاتح لِما أغلقتَ، ولا مغلق لِما فتحتَ، ولا ناصر لِمن خذلتَ إلاّ أنت.

فصلِّ على محمّدٍ وآل محمّدٍ وافتح لي باب الفرج بطَولك، واصرِف عنّي سلطان الهمّ بحَولك، وأنِلني حسن النّظر فيما شكوتُ، وارزقني حلاوة الصّنع فيما سألتك، وهب لي من لدنك فرجاً وحِيّاً، واجعل لي من عندك مخرجاً هنيئاً، ولا تشغلني بالاهتمام عن تعاهد فرائضك واستعمال سنّتك، فقد ضقتُ بما نزلَ بي ذرعاً، وامتلأتُ بحمل ما حدثَ عليّ جزعاً، وأنت القادر على كشف ما بليتُ به، ودفع ما وقعتُ فيه، فافعل ذلك بي وإن كنتُ غير مستوجبه منك يا ذا العرش العظيم وذا المنّ الكريم، فأنت قادر يا أرحم الرّاحمين، آمين ربّ العالمين) (1) .

فمُذ رفع الإمام الغلام (عليه السلام) كفّ الابتهال إلى ربّه جلّ وعلا بشأن اليسع بن حمزة، استجاب الله تعالى دعاءه وفرّج عنه فكتبَ إليه: (لا روع عليك، ولا بأس)!

____________________

(1) انظر المصدر السابق، وهذا الدعاء موجود في أكثر كتب الأدعية مع اختلافٍ قليلٍ في النادر من ألفاظه الشريفة.

٥٨

فما هذه الثّقة الإيمانيّة التي يحملها ابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في قلبه! وما هذا الاطمئنان النفسيّ الّذي أبلَغه لصاحبه المكبّل بالحديد في غياهب السّجن، حين قال له بجزم: (ادعُ الله بهذه الكلمات يخلّصك الله وشيكاً ممّا وقعتَ فيه)، فكيف ضمنَ له الخلاص وأكّد له سرعته، فتمّ في جزءٍ من النّهار؟!

إنّ هذا الإمام الغلام وإن يكن صغيراً، فهو كالكبير من أهل هذا البيت الّذين أمْرَهم من أمر الله سبحانه، وسرّهم من سرّه، وعَظمتهم من عنده،.. مَن تَقدّمهم ضلّ، ومَن تأخّر عنهم زلّ وقطعَ صلته بآل الله، ولم يكن له حظ من الله ولا نصيب يوم تزلّ فيه الأقدام، فهم باب رحمته سبحانه، ومفاتح النجاة بين يديه، ما خابَ مَن تمسّك بهم، وأمِنَ مَن لجأ إليهم؛ لأنّ الحقّ معهم، وفيهم، ولهم،.. ما نازعهم إيّاه إلاّ شقيّ، ولا تعدّى عليهم فيه إلاّ غويّ مبين..

***

ثمّ (إنّ المعتصم استعملَ على المدينة المنوّرة ومكة المكرّمة عمر بن الفرج الرّخجيّ الذي مرّ ذكره، والّذي كان يقسو على آل أبي طالب ويضيّق عليهم - أيّام حَداثة الإمام الجواد (عليه السلام) - وكان يمنعهم سلوك سُبل العيش، ويحول بينهم وبين مساءلة الناس لهم، ويحذّر الناس بِرّهم وصِلتهم، حتى أنّه كان لا يبلغه عن أحدٍ بِرّهم بشيء وإن قلّ، إلاّ أنهكهُ عقوبة وأثقله غرماً وأشبعه عذاباً!! فبلغَ بهم ضيق الحال أن صارت العلوّيات يصلّين في القميص الواحد واحدةً بعد واحدةٍ؛ لأنّهنّ لا يملكْنَ غيره، ثمّ يُرقّعنه إذا تخرّق، ويجلسن في منازلهنّ عواري حواسر!!) (1) .

____________________

(1) حلية الأبرار: ج 2 ص 435 - 436.

٥٩

ثمّ تمّت فصول رواية ظلم المعتصم للطالبيّين بأن اغتالَ الإمام الجواد (عليه السلام) بالسّم، وتلطّخت يداه الآثمتان بتلك الجريمة الكبرى، ومع ذلك لم يبرد غليله، بل ثارت ثائرة الحقد في صدره وشَرهت نفسه إلى التشفّي من أهل بيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وهو يحكم المسلمين باسمه وباسم دينه، ولا يخجل منه ولا يخاف عُقبى عمله الكافر السافر، ناسياً موقفه المخزي بين يدي الله عزّ وجلّ وأمام رسوله (صلّى الله عليه وآله)، إن كان يؤمن بيوم البعث والحساب!

لكن مَن قَتلَ إماماً (منصوباً) من لدُن ربّه تبارك وتعالى، و(منصوصاً) عليه من رسوله الأعظم، و(موصىً) له من آبائه الكرام، و(حاملاً) لكلمة الله إلى عباده، آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، مقيماً للحقّ، مزهقاً للباطل، أقول: مَن قَتلَ مثل ذلك الإمام من أجل مُلكٍ يدوم عدّة أعوام، يكون عميلاً للشيطان لا خليفةً لرسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ويكون من أسفه مَن خَسرت تجارتهم حين باعوا آخرتهم بدنياهم ( فَبَآءوُاْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ ) (1) ، واستحقّوا العذاب المهين.

فيا أيّها المعتصِم بالعصبيّة الجاهلية: لم يُسئ أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) إلى أجدادكم، بل أحسنَ إليهم وولّى أربعة من أولاد عمّه العباس بالذات! فيا ليتك ارتفعتَ إلى منزلة الجاهليّين وقابلتَ الإحسان بالإحسان يا أمير (المتأسلمين) الضائعين مثلك عن الحقّ،.. لكنتَ إذاً ممّن لا يُسيئون إلى مَن أحسنَ إليهم..

***

نعم، كان الإمام في هذا العهد غلاماً، ولكنّه مهيب مرهوب، مفروض احترامه وتوقيره على الجميع بلا استثناء أحدٍ من الخلق، عطاءً من ربّه عزّ اسمه، وسترى آيات ذلك في طيّ فصول هذا الكتاب فتقف على حقيقة كون الأئمّة بَشراً من غير سِنخ البشر.

وإذا أحببتَ أن تسمع مثلاً على ذلك، وتلمس هيبته في هذا السنّ المبكّرة، فاستمِع إلى ما ذكره الحسن بن محمد بن جمهور العمّي الذي قال: (حدّثني سعيد بن عيسى قائلاً:

____________________

(1) البقرة: 90.

٦٠