الإمام علي الهادي ( عليه السلام ) مع مروق القصر وقضاة العصر

الإمام علي الهادي ( عليه السلام ) مع مروق القصر وقضاة العصر0%

الإمام علي الهادي ( عليه السلام ) مع مروق القصر وقضاة العصر مؤلف:
تصنيف: الإمام علي بن محمد الهادي عليه السلام
الصفحات: 286

الإمام علي الهادي ( عليه السلام ) مع مروق القصر وقضاة العصر

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: كامل سليمان
تصنيف: الصفحات: 286
المشاهدات: 19863
تحميل: 5809

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 286 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 19863 / تحميل: 5809
الحجم الحجم الحجم
الإمام علي الهادي ( عليه السلام ) مع مروق القصر وقضاة العصر

الإمام علي الهادي ( عليه السلام ) مع مروق القصر وقضاة العصر

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فلمّا اشتدّ الحرّ والجوع والعطش، وبينما نحن كذلك في أرض ملساء لا نرى شيئاً ولا ظلاًّ ولا ماءً نستريح إليه، فجعلنا نشخص بأبصارنا نحوه، قال: (وما لكم؟ أحسبكم جياعاً، وقد عطشتم.

فقلنا: إي والله يا سيّدنا، قد عَيينا. قال: عرّسوا، وكلوا، واشربوا. فتعجّبت من قوله ونحن في صحراء ملساء لا نرى فيها شيئاً لنستريح إليه، ولا نرى ماءً ولا ظلاًّ! فقال: ما لكم؟! عرّسوا.

فابتدرتُ إلى القطار - القافلة - لأُنيخ، ثمّ التفتّ وإذا أنا بشجرتين عظيمتين يستظلّ تحتهما عالَم من الناس، وإنّي لأعرف موضعهما أنّه أرض براح قفراء! وإذا بعينٍ تسيح على وجه الأرض أعذب ماءٍ وأبرده! فنزلنا وأكلنا وشربنا واسترحنا، وإنّ فينا مَن سلكَ ذلك الطريق مراراً.

فوقعَ في قلبي ذلك الوقت أعاجيب، وجعلتُ أحِدّ النظر إليه وأتأمّله طويلاً، وإذا نظرتُ إليه تبسّم وزوى وجهه عنّي!

فقلت في نفسي: لأعرفنّ هذا، كيف هو؟! فأتيتُ وراء الشجرة فدفنتُ سيفي ووضعت عليه حَجَرين، وتغوّطت في ذلك الموضع وتهيّأت للصلاة. فقال أبو الحسن (عليه السلام): استرحتم؟! قلنا له: نعم. قال: فارتحِلوا على اسم الله، فارتحلنا.

فلمّا أن سِرنا ساعةً رجعت على الأثر، فأتيت الموضع فوجدت الأثر والسيف كما وضعتُ والعلامة، وكأنّ الله لم يخلق ثَمّ شجرةً ولا ماءً، ولا ظلاًّ ولا بللاً! فتعجّبت من ذلك ورفعت يديّ إلى السماء فسألت الله الثبات على المحبّة والإيمان به، والمعرفة منه،.. وأخذتُ الأثر ولحقتُ القوم..

فالتفت إليّ أبو الحسن (عليه السلام) وقال لي: يا أبا العباس، فَعَلتَها؟!

قلت: نعم يا سيّدي، لقد كنت شاكّاً، وأصبحتُ أنا عند نفسي من أغنى الناس في الدّنيا والآخرة.

فقال: هو كذلك، هم معدودون معلومون - أي الشيعة - لا يزيد رجل ولا ينقص) (1) .

____________________

(1) بحار الأنوار: ج 50 ص 156 - 157 عن مختار الخرائج والجرائح: ص 212، وهو في مدينة المعاجز: ص 551 و ص 552.

٨١

والأسئلة التي تفرض نفسها علينا هي: لماذا تعمّد الإمام (عليه السلام) أن يُعرّس هذا العدد الهائل من الجند في صحراء ملساء حرّها لاهب؟! ولِم أنبتَ الله تعالى هاتين الشجرتين، وفجّر قربهما الماء العذِب البارد؟!

ولماذا أجرى الله تبارك وتعالى على يدَي الإمام هذه المعجزة في ذلك المكان، وذاك الزمان؟! أليتشيّع أبو العباس، أو عتاب، أو هرثمة ورجاله؟!

لا، طبعاً.. لا من أجل ذلك، ولا من أجل ما يدور في فكرك لأوّل وهلة،.. بل من أجل أن تخلد هذه الآية على المدى البعيد، فتصلني وتصلك فنؤمن بالله وبكتُبه وملائكته ورسُله وأوليائه الأصفياء،.. ثمّ من أجل أن يَشحن يومئذ ثلاثمئة قوّة مدمّرةٍ يلقيها من حول عرش الظّلم، ومن أجل أن يشاع ذلك ويذاع في جيشٍ كان عدد أفراده تسعين ألفاً يُحدقون بصرَ ذلك الحاكم، المتحكّم برقاب الناس من غير أن يُنصّبه عليهم ربّ ولا انتخاب؛ ولينتشر أمر الإمام الحقّ ويشتهر في كل مكان، وكل زمان.

وإنّ الإنسان ليقف حائراً أمام كثير من أفعال الإمام (عليه السلام) وأقواله، التي تتناول الغيب وتأتي بالخوارق،.. ومتفكّراً في تحليلها تحليلاً يتقبّله ذهنه، وفي فلسفتها فلسفةً يتهضّمها عقله،.. فيعجز لدى التفكير والتحليل، ولا يرى إلاّ الإذعان لأفعال الخالق الجليل عزّ وعلا، والإيمان بانتجاب هذا الإمام العظيم الذي يُدلّ الناس على عظمة الخالق من خلال عظمة مخلوقه، وعلى قدرته سبحانه وما اختصّ به أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، ممّا لم يختصّ به أحداً من خلقه حتى الأنبياء السابقين وأوصياءهم؛ لأنّهم - هم وحدهم - ورثة النبيّين والوصيّين جميعاً، وعندهم ما كان عندهم، مضافاً إليه ما كان عند جدّهم الأعظم (صلّى الله عليه وآله)..

***

٨٢

وأرجو أن لا يكون قارئي الكريم قد نسيَ ذكر خان الصعاليك الذي نزلَ فيه الإمام (عليه السلام) ليلة وروده سرّ مَن رأى؛ لئلاّ يفوته ذكر واحدةٍ من آيات الإمام - في ذلك الخان - تُبيّن له كيف تكون سفارة السماء.. على الأرض! فإنّ سفير الله تعالى في عباده، ليس هذا منزله في الدّنيا يا أيّها (المتوكل) الذي احتجب عنه بكبرياء (السلطان) والطغيان،.. ولا يمكن أن يكون منزله كذلك ولو رأيناه في العيان!

أجل، قال صالح بن سعيد: (دخلتُ على أبي الحسن يوم وروده - إلى سرّ مَن رأى - فقلت له: جُعلت فداك، في كلّ الأمور أرادوا إطفاء نورك والتقصير بك، حتى أنزلوك في هذا الخان الأشنع، خان الصعاليك!

فقال: (هاهنا أنت يا بن سعيد! - أي: أنت في هذه المرتبة من معرفتنا، وتظنّ أنّ هذه الأمور تُنقص من قدْرنا؟ - ثمّ أومأَ بيده وقال: انظر..

فنظرتُ، فإذا أنا بروضاتٍ أنيقاتٍ، وأنهارٍ جارياتٍ، وأطيارٍ وظِباءٍ، وجنّاتٍ فيها خيرات عطرات، وولدانٍ كأنّهم اللّؤلؤ المكنون! فحارَ بصري، وحسرَت عيني، وكثر تعجّبي!

فقال لي: حيث كنّا فهذا لنا عتيد يا بن سعيد! لسنا في خان الصعاليك) (1) .

____________________

(1) الكافي: م 1 ص 498، والأنوار البهية: ص 261، والإرشاد: ص 314، وكشف الغمّة: ج 3 ص 173، وإعلام الورى: ص 348، ومناقب آل أبي طالب: ج 1 ص 411، وبحار الأنوار: ج 50 ص 133 وص 202 - 203 نقلاً عن بصائر الدرجات: ص 406، وهو في مدينة المعاجز: ص 540، وحلية الأبرار: ج 2 ص 463 - 464.

٨٣

فصالح بن سعيدٍ الغيور على كرامة إمامه، قد اقتصرَ نظره وعلمه على المظاهر الزائلة من مباهج الحياة، وقصرَ - حينها - عن إدراك اللّذة الرّوحانيّة العلويّة، فعظُم عليه أن يرى إمامه في منزلٍ مُعَدّ لعامّة الفقراء والمساكين، وظنّ أنّ ذلك يحطّ من منزلته، فأراه الإمام (عليه السلام) أنّ مثل هذه الحالة يضاعف من علوّ منزلته عند ربّه،.. ثمّ كشفَ له عمّا هيّأه سبحانه له من كريم المقام وحسن المنزل أينما أقام،.. وأظهرَ له بعض آياته؛ ليشتهر إعجازه بين النّاس فتقوم الحجّة على الخصوم، وتتثبّت قلوب شيعته فلا يلج إليها نَفث الشيطان،.. وعلى هذا الأساس استفتحَ أولى لياليه في سرّ مَن رأى بهذه الآية؛.. ليسمع الناس ويروا،.. ولنسمع ونرى عِبر الدوران عناية الخالق بعباده المنتجبين الّذين جَعلهم خيرة الخلق أجمعين..

أفكان للناس عَجباً أن يكون للإمام مثل ذلك وأكثر أينما حلّ أو ارتحل؟! لا، بل هو في كنف بارئه حجّة منذ بَرأه، وفي عين خالقه ممتاز عن الآخرين، مميّز عن العالَمين، منذ صوّره وخلقه،.. قد جعلَ له مثل ذلك وأكثر أينما حلّ أو ارتحل، ولكنّنا لا نراه.. ويراه؛ لأنّ حواسّ أولياء الله وخلفائه في أرضه تختلف قدراتها عن قدرات حواسّنا بحسب ما خلقها الله تعالى عليه؛ فإنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) كان يرى جبرائيل الأمين (عليه السلام) وكثيرين من الملائكة، ويسمع كلامهم ويخاطبهم - وكذلك سائر الأنبياء - ولا يُكذّب بذلك إلاّ الكافرون - في حين أنّ صحابة النبيّ لم يروه مَلَكاً ولا سمعوا كلامه!

فأهل البيت (عليهم السلام) مجهّزون بما أهّلهم لخلافة النبيّ وخلافة الله عزّ اسمه بدون أدنى شك،.. والسفير عن العرش السماويّ أولى من السفير عن أيّ عرشٍ أرضيّ بأن تكون لديه إمكانات تفوق حدّ المعقول؛ لأنّه يمثّل العزيز الجبّار الذي ( وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ) (1) .

____________________

(1) الزمر: 67.

٨٤

فلا جرمَ أن يُسخّر لسفيره المنتدب لأمره سائر مخلوقاته؛ ليكون جديراً بتمثيل القدرة الإلهيّة التي تقول للشيء: كن، فيكون،.. وإذا لم يكن ذلك كذلك، تَبطل آيات الأنبياء والرُسل، وتذهب ثمّة حجج الأوصياء والأولياء والأصفياء أدراج الرياح.

فلا غرابة في أن نرى عبده الصالح - الذي يحمل أمره ودعوته - يستريح في مثل تلك الجنّة الوارفة الظلاّل، بعد وعثاء السفر الذي حَمله عليه عبد جائر يريد أن يبارز الله تعالى في مُلكه، ويحجب عن الناس حجّته البالغة،.. حتى ولو رأيناه - ظاهراً - في خان الصعاليك الذي أزرى ساعتئذ بقصر الخليفة، وأنافَ على داره ومقرّ قراره؛.. لأنّه كان النافذة المطلّة من السماء على الأرض، تنشر منها الرحمة والخير والبركة على قلب كلّ عبدٍ منيب.

***

آياتٌ في قصر الإمارة والمؤامرات أيام المتوكل

.. ودخلَ الإمام (عليه السلام) إلى القصر؛ ليكون صرخةً صاعقةً في وجه صاحب القصر، ومستشاريه، ووزرائه، وكلمةً ماحقةً لقُضاته وضفادعه النقّاقة، وكبرائه.

ومعجزةً ساحقةً لكيدهم ومكرهم،.. بما ظهرَ من أمر انتدابه لحمل كلمة الله،.. ومن آياته ومعجزاته التي كانت بأمر الله تعالى وبإذنه.

وبشيراً ونذيراً،.. يمنع الزّيادة في الدّين،.. ولا يرضى بالنّقصان فيه..

***

(رويَ في إثبات الوصيّة أنّه (عليه السلام)، دخلَ إلى دار المتوكل مرّةً فقام يصلّي، فأتاه بعض المخالفين فوقفَ حياله فقال له: إلى كم هذا الرّياء؟!

فأسرعَ الصلاة وسلّم، ثمّ التفتَ إليه فقال: (إن كنت كاذباً سحتكَ الله).

فوقعَ الرجل ميّتاً، فصار حديث الدار!) (1) .

.. ولم يرتح لهذه الظاهرة القاهرة صاحب الدار، ولا مَن فيه من جِرذان تَقضم لذائذ الأطعمة فتنتفش كروشها، وتخضم أموال المسلمين التي ستكوى بها جباهها!

فإن يستفتحوا مع الإمام (عليه السلام) بمثل هذا البادرة المذهلة،.. فقد ( وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ) (2) .

____________________

(1) الأنوار البهيّة: ص 261 - 262.

(2) إبراهيم: 15.

٨٥

وأن ينالوا من (ضيف) القصر الذي قالوا إنّهم (مشتاقون) إليه ويؤذوه بُعيد وصوله، فليس ذلك من الميسور لهم مهما بلغَ بهم الكيد لبني عليّ والزّهراء (عليهما السلام)..

وأن يصبروا على ظهور كراماته ودلالاته، فذلك هو العَلقم في لهواتهم،.. بل هو ( كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ ) (1) ويُقطّع أمعاءهم!

فليبتلعوا الصّبر،.. أو ليشربوا البحر،.. فليس في اليد - الآن - حيلة.

وهاهو ذا (عليه السلام) - أيضاً - يأتيه رجل من أهل بيته اسمه معروف ويقول له: (جئتك وما أذنتَ لي.

قال (عليه السلام): (ما علمتُ بك، وأُخبِرتُ بعد انصرافك، وذكرتني بما لا ينبغي.

فحلفَ ما فعلتُ،.. وعَلم أبو الحسن (عليه السلام) أنّه كاذب فقال: اللّهمّ إنّه حَلفَ كاذباً، فانتقم منه) فماتَ من الغد) (2) .

وانتشر الخبرَ الثاني وذاع، وانتقل من أسماع إلى ألسنةٍ فأسماع، فسارَ بين المؤالفين والمخالفين،.. فكانت البادرة الثانية ثانية الأثافي!

فما العمل وقد أخذَت تَرجح بالإمام - وتشيل بعدوّه - كفّة الميزان، في كلّ مكان!

أمّا ثالثة الأثافي فلا تستعجل عليها؛ لأنّها استمرّت ألفاً وثلاثمئة وخمسين ليلةً وليلة، إذ دامت ثلاثة أعوام وتسعة شهور بين المتوكل و(ضيفه) الذي استقدَمه (مشتاقاً) إلى.. الإيقاع به وقتله مهما كلّف الأمر! فكادَ له ودبّر وكادَ هو وأعوانه،.. ولكنّه سبحانه قال: ( إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً ) (3) ، وقد قُتِل الخليفة (المشتاق) قبل أن يظفر بأمنيته ( وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ ) (4) !

***

____________________

(1) الدخان: 45 و 46.

(2) كشفة الغمّة: ج 3 ص 184، وبحار الأنوار: ج 50 ص 147.

(3) الطارق: 15 و 16.

(4) التوبة: 48.

٨٦

وقبل أن ننتقل إلى استعراض آيات الله عزّ وجلّ التي ظهرت على يد سيّدنا أبي الحسن الهادي (عليه السلام) طيلة عشرين عاماً، قضاها بين أشرس أعدائه وأشدّهم حقداً عليه، نُبقي المتوكل قليلاً في صفوف المشاهدين - المتفرّجين؛ لنعرض (مناظر) الشريط أولاً، ثمّ نورد الأحداث العديدة التي جرت له معه؛ فإنّ المتوكل كان أشدّ بني العباس عداوةً للعلويّين، وهو الذي جعجعَ بالإمام (عليه السلام)، وألزمهُ بهجر وطنه ومنازل الوحي المقدّسة التي ولِد وترعرعَ وشبّ فيها، وأشخصه من الحجاز إلى العراق ليقف في وجه كلمة الحقّ التي يحملها،.. وليقتله متى استطاع!

فمن مناظر تلك التمثيليّة: أنّه (نقلَ بعض الحفّاظ أنّ امرأةً زَعمت أنّها شريفة بحضرة المتوكل؛ فسألَ عمّن يخبره بذلك، فدلّ على عليّ الرّضا (عليه السلام) - وهذا خطأ سنوضّحه؛ لأنّه دلّ على ابن الرّضا -.

فجاء فأجلسهُ معه على السرير وسأله؟ فقال: (إنّ الله حرّم لحم أولاد الحَسنين على السّباع، فلتُلقَ للسّباع).

فعرضَ عليها ذلك، فاعترَفت بكذبها.

ثمّ قيل للمتوكل: ألا تجرّب ذلك فيه؟

فأمرَ بثلاثةٍ من السّباع، فجيء بها في صحن قصره، ثمّ دعاه.

فلمّا دخلَ باب القفص أُغلقَ عليه والسّباع قد أصمّت الأسماع من زئيرها!

فلمّا مشى في الصّحن يريد الدرجة، مشت إليه وقد سكنت وتمسّحت به ودارت حوله وهو يمسحها بكمّه، ثمّ رَبضت!

فصعدَ المتوكل وتحدّث معه ساعةً من وراء قضبان القفص الحديديّ فَفعلت معه - أي مع الإمام (عليه السلام) - كفعلها الأول حتى خرجَ، فأتبعهُ المتوكل بجائزة عظيمة!

فقيل للمتوكل: افعل كما فعل ابن عمّك.

فلم يجسر عليه وقال: أتريدون قتلي؟!

ثمّ أمَرَهم أن لا يُفشوا ذلك) (1) .

____________________

(1) الصواعق المحرقة: ص 205، وبحار الأنوار: ج 50 ص 146 وص 204، ومروج الذهب: ج 4 ص 86، ومناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 416، وحلية الأبرار: ج 2 من ص 468 إلى ص 473 بتفصيل وافٍ.

٨٧

(وذُكرَ أنّ ابن الجهم قال: فقمتُ وقلت للمتوكل: يا أمير المؤمنين، أنت إمام، فافعل كما فعلَ ابن عمّك.

فقال: والله، لئن بلّغني أحد من الناس ذلك، لأضربنّ عنقك وعنق هذه العصابة كلّهم!

فو الله ما تحدّثنا بذلك حتى مات (1) .

لقد خابَ ظنّ المتوكل حين حسبَ أنّ السّباع تفترس الإمام وتريحه منه؛ ولذلك أسرعَ بإحضار السّباع الجائعة على جناح السرعة، زعماً بأنّ فرصة الخلاص منه قد سَنحت،.. فتحطّم أمله وكذّبه حُلمه الذهبيّ بقتل الإمام بفتوى الإمام نفسه، وبحضور شهود الزّور في تلك القصور!

(ونقلَ المسعودي أنّ صاحب هذه الحادثة هو ابن ابن عليّ الرّضا، وهو عليّ العسكريّ، وصوّب - ذلك وهو على حقّ -؛ لأنّ الرّضا (عليه السلام) توفّي في خلافة المأمون اتّفاقاً ولم يُدرك المتوكل) (2) ، فالحادثة وقَعت مع المتوكل بلا شك؛ ولذلك علّق ابن حجر الهيثمي عليها في صواعقه المحرقة - في ترجمة إمامنا (عليه السلام) بقوله:

(ومرّ أنّ الصواب في قضيّة السّباع الواقعة من المتوكل، أنّه - أي الهادي (عليه السلام) - هو الممتحَن بها، وأنّها - أي السّباع - لم تقربه، وهابته، واطمأنّت لمّا رأتهُ) (3) .

فممّا لا شكّ فيه أنّ القصّة حَصلت مع إمامنا هذا لا مع جدّه (عليهما السلام).

وقد روى أبو الهلقام، وعبد الله بن جعفر الحميريّ، والصقر الجبليّ، وأبو شعيب الحنّاط، وعليّ بن مهزيار، قائلين: (كانت زينب الكذّابة تزعم أنّها بنت عليّ بن أبي طالب، فأحضَرها المتوكل وقال: اذكري نَسَبك.

فقالت: أنا زينب بنت عليّ،.. وأنّها كانت حُملت إلى الشام فوقعت إلى باديةٍ من بني كلبٍ، فأقامت بين ظهرانيهم.

فقال لها المتوكل: إنّ زينب بنت عليّ قديمة، وأنت شابّة!

فقالت: لحَقتني دعوة رسول الله بأن يرد إليّ شبابي في كلّ خمسين سنة.

فدعا المتوكل وجوه آل أبي طالب، فقال: كيف نعرف كذبها؟

____________________

(1) مدينة المعاجز: ص 550.

(2) مروج الذهب: ج 4 ص 86.

(3) الصواعق المحرقة: ص 207.

٨٨

فقال الفتح - بن خاقان -: لا يخبرك بهذا إلاّ ابن الرّضا.

فأمرَ بإحضاره وسأله؟ فقال (عليه السلام): (إنّ في وِلْد عليّ علامة.

قال: وما هي؟

قال: لا تعرِض لهم السّباع، فألقِها إلى السّباع، فإن لم تَعرض لها فهي صادقة).

فقالت: يا أمير المؤمنين، الله الله فيّ، فإنّما أراد قتلي! وركبَت الحمار وجعلَت تنادي: ألا إنّني زينب الكذّابة!

وفي روايةٍ أنّه عُرضَ عليها ذلك فامتنعت، فطُرحت للسّباع فأكلَتها) (1) .

وقيل: (إنّ أمّ المتوكل استوهبتها منه فوهَبها لها) (2) .

أمّا ذكر حدوث القصّة مع الإمام الرّضا - الجدّ - (عليه السلام) في أيام المأمون، فقد روي أنّه (دخلَ الإمام الرّضا (عليه السلام) على المأمون وعنده زينب الكذّابة التي كانت تزعم أنّها ابنة عليّ بن أبي طالب، وأنّ عليّاً دعا لها بالبقاء إلى يوم القيامة، فقال المأمون للإمام (عليه السلام): سلّم على أختك.

فقال: (والله، ما هي أختي، ولا ولَدَها عليّ بن أبي طالب.

فقالت زينب: والله ما هو أخي، ولا ولَده عليّ بن أبي طالب.

فقال المأمون للرّضا (عليه السلام): ما مصداق قولك؟

قال: إنّا أهل البيت لحومنا محرّمة على السّباع، فاطرَحها إلى السّباع، فإن تكُ صادقةً فإنّ السّباع تغبّ لحمها - أي تقرّبه مرةً، وتتركه أخرى، وتأنف أن تذوقه.

قالت زينب: ابدأ بالشّيخ.

فقال المأمون: لقد أنصفتِ.

قال الرّضا (عليه السلام): أجل.

ففُتحت بركة السّباع، وأُضربت - أُهيجت - فنزلَ الرّضا إليها! فلمّا أن رأته بَصبصت - أي طأطأت رؤوسها، وحرّكت أذنابها - وأومَأت له بالسجود، فصلّى ما بينها ركعتين، وخرجَ منها.

____________________

(1) مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 416، وبحار الأنوار: ج 50 ص 149 و ص 204، ومدينة المعاجز ص 549، والقصة مكرّرة بلفظ آخر في ص 550، وهي في حلية الأبرار: ج 2 من ص 468 إلى ص 473 بتفصيل وافٍ.

(2) المصدر السابق.

٨٩

فأمرَ المأمون زينب لتنزل، وامتنعت،.. فطُرحت إلى السّباع فأكلَتها) (1) .

***

.. وفي كلّ حال طاشَ سهم المتوكل حين عاش لحظاتٍ سعيدة خاطفةً، كان أثناءها يحلم برؤية السّباع تُمزّق جسد الإمام، الذي أذهبَ الله تعالى عنه الرّجس وطهّره تطهيراً ( وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً ) (2) .

وخسئ كلّ مَن أرادَ مبارزة الله تعالى في قدرته، وتحدّيه في مشيئته، والاعتراض عليه سبحانه في انتجاب أهل البيت النّبويّ الشريف وجعلهم أمناءه وخلفاءه..

ولكن.. كيف غابت عن ذهن المتوكل فعلة هارون الرشيد - بالأمس - مع أحد أبناء عليّ (عليه السلام)، وفَشله في محاولته الخسيسة معه، يوم كان المتوكل شريكه فيها؟! فقد قال ابن حجر في الصواعق المحرقة - تعليقاً على دخول الإمام (عليه السلام) إلى قفص السّباع ولواذها به، وتمسّحها بأعطافه الشريفة -:

(ويوافقه ما حكاه المسعودي وغيره: أنّ يحيى بن عبد الله المحض بن الحسن المثنّى بن الحسن السّبط (عليه السلام)، لمّا هربَ إلى الدّيلم ثمّ أتى به الرشيد وأمرَ بقتله، أُلقيَ في بركةٍ فيها سباع قد جوِّعت، فأمسَكت عن أكله، ولاذَت بجانبه، وهابت الدّنوّ منه! فبنى عليه ركن بالجصّ وهو حيّ بأمر المتوكل (3) ، الذي كان إذ ذاك في مقتبل عمره ولم يتربّع بعد على ذلك العرش الظالم، الذي لم تنزل أحكامه في قرآنٍ ولا في سنّة،.. فلم يتّعظ بتلك الآية التي يتّعظ بها مَن كان على غير الإسلام، بل جرّب مثلها مع إمام الحقّ وسيّد الخلق في زمانه بجرأة الفراعنة المتربّبين!

____________________

(1) فرائد السمطين: ج 2 ص 208 - 209، وبحار الأنوار: ج 50 ص 149، ومناقب آل أبي طالب: ج 54 ص 518.

(2) الأحزاب: 25.

(3) بحار الأنوار: ج 50 ص 124، ومناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 417، ومدينة المعاجز: ص 541.

٩٠

آية ذلك: أنّ المتوكّل نبتَ لحمه ونما عظمه على كُره العلويّين، الذي كان لا يستطيع تبريره حتى فيما بينه وبين نفسه؛ ولذلك دأبَ على الحطّ من شأن الإمام الهادي (عليه السلام) إبّان عهده الطويل، فما ازدادَ الإمام إلاّ رفعةً وعزّة.. ( وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ) (1) .. وأبو الحسن الهادي يومئذٍ هو رأس المؤمنين،.. ووليّ الله عليهم،.. وإمامهم..

قال عليّ بن إبراهيم بن هاشم في تفسيره:

(حدّثني أبي قال: أمرَ المعتصم أن يحفر بالبطانية بئر، فحفر ثلاثمئة قامةٍ فلم يظهر الماء، فتركهُ ولم يحفره.

فلمّا وليَ المتوكّل أمرَ أن يُحفر ذلك البئر أبداً حتى يظهر الماء، فحفروا حتى وضعوا في كلّ مئة قامةٍ بَكرةً، حتى انتهوا إلى صخرةٍ فضربوها بالمِعوَل فانكسرت، فخرجَ منها ريح باردة فمات مَن كان بقُربها! فأخبروا المتوكل بذلك فلم يعلم ما ذاك؟ فقالوا: سل ابن الرّضا عن ذلك، وهو أبو الحسن عليّ بن محمد العسكري (عليه السلام).

فكتبَ إليه يسأله عن ذلك؟ فقال أبو الحسن (عليه السلام): (تلك بلاد الأحقاف، وهم قوم عادٍ الذين أهلكهم الله بالريح الصّرصر) (2) .

فالإمام (عليه السلام) هو مرجعهم دائماً وأبداً،.. وفي كلّ معضلة.

***

ونفتح الستار - بعد انتهاء (المناظر) التي ظهرَ فيها جانب ممّا كان عليه صاحب القصر في سامرّاء، حين كان في مجلس الحكم، وعلى عرش السلطة؛ ليظهر مَن كان يُلقّب (بأمير المؤمنين)، وخليفة رسول ربّ العالمين، في مجلسه الخاصّ في منزله وقد تحرّر من عبء السّلطة، وخَلعَ ربقة الإسلام من عنقه؛ لأنّه لا يعرف في الدّين قُبيله من دُبيره،.. مُبتدئين بما رواه الفحّام، عن المنصوريّ، عن عم أبيه الذي قال:

(دخلتُ يوماً على المتوكّل وهو يشرب، فدعاني إلى الشرب، فقلت: يا سيّدي، ما شربته قط!

قال: أنت تشرب مع عليّ بن محمد! يعني بذلك الإمام (عليه السلام)!

____________________

(1) المنافقون: 8.

(2) حلية الأبرار: ج 2 ص 446 نقلاً عن تفسير القمّي: ج 2 ص 298.

٩١

فقلت له: ليس تعرف مَن في يديك،.. إنّه يضرّك، ولا يضرّه! أي أنّ خليفة المسلمين الذي قعدَ مقعد النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، والذي يعيش بين الكأس والطّاس، ويجهل شأن الإمام، وفريته عليه، تضرّه ولا تضرّ الإمام.

ثمّ قال: ولم أعد ذلك عليه) (1) أي أنّه لم يُعد حديث المتوكل على سمع الإمام (عليه السلام).

قال: فلمّا كان يوم من الأيام، قال لي الفتح بن خاقان: قد ذُكر عند الرجل - يعني المتوكل - خبر مالٍ يجيء من قمّ، وقد أمرَني أن أرصدهُ لأخبره به، فقل لي من أيّ طريقٍ يجيء حتى أجتنبه.

فجئت إلى الإمام عليّ بن محمدٍ، فصادفتُ عنده مَن أحشمه، فتبسّم وقال لي: (لا يكون إلاّ خيراً يا أبا موسى، لِمَ لَم تعِد الرّسالة الأوّلة؟!

يعني: لِمَ لَم تذكر لي فرية المتوكل عليّ واتّهامه لي بالشرب؟!

فقلت: أجللتُك يا سيّدي.

فقال: المال يجيء الليلة وليس يصلون إليه، فبِت عندي.

فلمّا كان من اللّيل قامَ إلى ورده، وقطعَ الرّكوع بالسلام وقال لي: قد جاء الرجل ومعه المال، وقد منعهُ الخادم الوصول إليّ، فاخرج خذ ما معه.

فإذا معه زنفيلجة فيها المال، فأخذتهُ ودخلت إليه، فقال: قل له: هات الجبّة التي قالت لك القمّية إنّها ذخيرة جدّتها.

فخرجتُ إليه فأعطانيها،.. فدخلت بها إليه فقال لي: الجبّة التي أبدلتَها منها، ردّها إليها، فخرجت إليه فقلت له ذلك، فقال: نعم، كانت ابنتي استحسنتها فأبدَلتها بهذه الجبّة، وأنا أمضي فأجيء بها.

فقال: اخرج فقل له: إنّ الله تعالى يحفظ ما لنا علينا، هاتها من كتفك!

فخرجتُ إلى الرجل فأخرجتها من كتفه، فغشيَ عليه!

فخرج َالإمام (عليه السلام) إليه فقال له: قد كنتَ شاكّاً فتيقّنتَ؟!) (2) .

____________________

(1) المصدر السابق.

(2) بحار الأنوار: ج 50 ص 125، ومناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 413، ومدينة المعاجز: ص 541.

٩٢

وتستوقفنا هذه الرواية بالأسئلة الكثيرة التي تزدحم حولها، وبالتعجّبات التي تثيرها، ودلائل الإمامة التي تحتويها دون أن تصرف نظرنا عن سكر الخليفة وخمره..

فمن العادة والمألوف أنّ خليفة المسلمين يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر،.. ويقيم الحدّ على شارب الخمر فيما يقيم من حدود ما أنزل الله تعالى،.. أمّا هذا الخليفة فإنّه مع الزّيّ الجديد فهو سكّير خمّير، يشربها، ويأمر بها، ويدعو إليها،.. ثمّ يجترح فريةً على الإمام يهتزّ لها عرش الرحمان! ويكذب على الرجل، ويكذب على نفسه بتلك التّهمة الشّنيعة حين يقول: أنت تشرب مع عليّ بن محمد!

فَدَعنا من سُكر هذا الخليفة وعهره، ومن خموره وفجوره؛ لئلاّ ننصرف عن جوهر ما مرّ من الآيات في هذه الرّواية.

لقد كتمَ الرجل فِرية المتوكل على الإمام،.. فمَن بلّغه إياها حتى قال للرجل: (لِمَ لَم تعد عليّ الرّسالة الأوّلة؟!)

ثمّ كان أن جاء الرجل ليخبر الإمام أنّ الخليفة عرفَ بالمال القادم إليه من قمّ، وأنّه كلّف مَن يرصده ليصادره ويقبض على ناقله،.. ودخلَ على الإمام ولم يفاتحه بذلك احتشاماً ممّن وجدهُ بحضرته.. فمَن عَرّف الإمام أنّ الرّجل قادم بهذا الشأن؟! حتى تبسّم وقال له: (لا يكون إلاّ خيراً، فاطمئنّ على المال).

ومَن أخبره (عليه السلام) أنّ المال يصل الليلة، وأنّ (عيون) القصر تعمى عنه؟

ولماذا ألزم الرجل بالمبيت عنده؟ وكيف شعرَ بوصول المال أثناء صلاته في الليل وقبل أن ينصرف منها؟

وكيف عَلم أنّ الخادم منعَ ناقل المال من الدخول عليه؟!

ثمّ مَن أخبرهُ بجبّة القمّية؟ وأنّها من ذخيرة جدّتها؟! وكيف عرفَ استبدالها بغيرها؟! ومَن دلّه على مخبئها من كتف الرجل، وأنّ الرجل كان غير صادقٍ حين قال: أنا أمضي وأجيء بها؟!

ولماذا - أخيراً - أُغشيَ على الناقل حين استخراجها من كتفه؟!

٩٣

وما سبب خروج الإمام (عليه السلام) إليه؟! و، و، و.. إلخ، فإنّنا قد نَفدت عندنا أدوات الاستفهام وبقيت التساؤلات، وتَعِبت منّا: لماذا، وكيف، ومَن، وماذا وغيرها!

ورحمَ الله أبا نؤاسٍ الذي قال بمدح الإمام الرّضا (عليه السلام) حين عوتِبَ بعدم مَدحه:

قيل لي أنت أشعر الناس طرّاً

في فنونٍ من الكلام النّبيه

لك من جيّد القريض نظام

يثمر الدُرّ في يدي مجتنيه

فعلامَ تركتَ مدح ابن موسى

والخصال التي تجمّعنَ فيه

قلتُ لا أستطيع مدح إمامٍ

كان جبريلُ خادِماً لأبيه

فلا عجبَ أن يأتي الإمام علم ذلك كلّه بواسطة محدّثيه ومسدّديه من الملائكة المسخّرين لخدمته كسفير لله عزّ وجلّ، ولا غرابة أن يأتي الإمام بهذه الآيات ولا بغيرها، طالما هو مرفود بعناية الخالق العزيز الجبّار، الذي لا يعجزه شيء ولا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء؛ فإنّ أئمة أهل البيت (عليهم السلام) قد أتعبوا سلاطين عصورهم أكثر ممّا نُتعب نحن أدوات الاستفهام حول أقوالهم، وأفعالهم، وآياتهم، وبيّناتهم..

وأولئك السلاطين لم يكونوا عديمي الفهم، ولا قليلي الإدراك، بل كان أكثرهم على جانبٍ كبيرٍ من الوعي، وقسطٍ عظيمٍ من العلم، ولكنّهم كانوا فراعنة مُلكٍ استحوذَ عليهم حُبّ المِلك والتسلّط، فقعدوا مقعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وحكموا بغير ما أنزل الله تعالى عليه، وأخافوا ذرّيته وأرعبوهم؛ لئلاّ يَحولوا بينهم وبين دنياهم، ثمّ قتلوهم ولم يراعوا للنبيّ فيهم إلاًّ ولا ذمّةً متناسين قول الله عزّ وعلا: ( قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (1) متصامّين عن قوله سبحانه، وذاهبين في الغيّ كلّ مذهب..

____________________

(1) الشورى: 23.

٩٤

إنّ حادثةً واحدةً كهذه التي مررتَ بها، تجد فيها أكثر من عشر آياتٍ بيّناتٍ أتى بها إمامنا العظيم، ثمّ لم يدعها طيّ الكتمان، بل صرّح بها أمام رجلٍ يتردّد بينه وبين القصر، وأمام رجلٍ آخر جاء من إيران شاكّاً متحيّراً، لم يُخبّئ الجبّة ليسرقها، ولا استحسنتها بنته فاستبدَلتها، بل أراد أن يبحث عن الحقّ فيتّبعه؛ لأنّه لا ينتمي إلى (تنابل) القصر الذين يرون الآيات، ويتغاضون في سبيل فتات الموائد، ولَحس الصحون، وملء الكروش والجيوب! ممّا صَرفهم عن الإيمان، وأنساهم ذكر ربّهم!

فقل لصاحب القصر وأعوانه ومشيريه ومُخبريه: قد ( فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ ) (1) أفأمِنتم مكر الله حين استسلمتم للشهوات، وكِدتم لعترة نبيّكم ومكرتُم بهم، أم كنتم على غير ملّة الإسلام؟! إنّ نُطقكم بالشهادتين لا يغرّ إلاّ الجَهلة،.. فقد آمَنتم ببعض الدّين وكفرتم ببعض، وعَبدتم الله على حرفٍ! ومَن فعلَ ذلك فلا إيمان له ولا أمانَ على أبناء رسول الإسلام منه، ولو كانوا من أكرم خَلق الله عليه، ومَن آذاهم فقد أذاه، ومَن آذاه فقد آذى الله.

أجل، قد مَنع هؤلاء أئمّة المسلمين من إيصال كلمة الحقّ إلى المسلمين،.. وبزعمي أنّ تبرير أذيّتهم من قِبل الأمويّين الموتورين، أسهل من تبرير أذيّة العباسيّين لهم وأيسر؛ لِمَا كان بين أولئك وأولئك من تِراتٍ وذحول، ولِمَا كان بين هؤلاء وهؤلاء من قربى وإفضال.

____________________

(1) الحديد: 14.

٩٥

فكأيّن من هنَاتٍ وهنَاتٍ كانت للمتوكل مع إمامنا الشابّ (عليه السلام)! وكم له معه من تصرّفاتٍ يَندى منها جبين الإنسانية خجلاً؛ لِما كان عنده من جرأةٍ على الله، ومن استهانةٍ بأوليائه وأصفيائه وحَملة دعوته!! فإنّك إذا راقبتَ أفعاله معه، تظنّ أنّ هذا الخليفة التّعيس كان متفرّغاً لأذيّته (عليه السلام)، راصداً قسطاً كبيراً من وقته لمحاولة انتقاص قدره؛ إذ ظلّ أكثر وقته يتعمّد الحطّ من شأنه، وما فتئ يضيّق عليه إلى أن بترَ الله تعالى عمره،.. إذ لمّا حاولَ قتلهُ فعلاً، قتلهُ الله تعالى شرّ قتلةٍ فاختلطت أشلاؤه المقطّعة إرباً إرباً بأشلاء وزيره، قبل أن ينال بُغيته اللّئيمة كما سترى.

نعم، قد تحدّاه كثيراً ليوقِعه في فخاخ مكائده فأنجاه الله! وأرادَ مراراً أن يزلّ لسانه بكلمةٍ فيأخذه بها أخذاً ظالماً، فجلّ لسان المعصوم عن أن يزلّ، وجلّت قدرة الله سبحانه عن أن تَخذل عبده الناطق بلسان توحيده، الصادع بأمره بين عباده.

***

قال عليّ بن يحيى بن أبي منصور:

(كنتُ يوماً عند المتوكل، ودخلَ عليّ بن محمد بن عليّ بن موسى (عليهم السلام)، فلمّا جلسَ قال له المتوكل: ما يقول وِلْد أبيك في العباس بن عبد المطلّب؟

قال: (ما يقول ولْد أبي يا أمير المؤمنين، في رجلٍ فرض الله طاعة نبيّه على خلْقه، وفرضَ طاعته على نبيّه (صلّى الله عليه وآله)؟!) (1) .

فجاء الجواب مسكتاً،.. بليغاً غاية البلاغة، لا ذِكر فيه للعبّاس لِمن دقّق النظر، ولا مُمسك فيه على الإمام (عليه السلام)، وإن كان يحتمل أكثر من وجهٍ حين يُفسّر حسب مشيئة المفسّر؛ فإنّ إمامنا سلام الله عليه وتحياته وبركاته قد قصدَ أنّ الله تعالى فرض طاعة النبيّ على الخلق، ثمّ فرضَ طاعته - أي طاعة الله سبحانه - على نبيّه، ولم يقصد العباس في الضمير الواقع في آخر لفظة (طاعته).

____________________

(1) كشف الغمّة: ج 3 ص 166، وبحار الأنوار: ج 50 ص 206، والأنوار البهية: ص 265 - 266.

٩٦

وإذا فرضنا أنّ ذلك لم يخفَ على المتوكل، فإنّ المتوكل رضي الجواب و(أراد) أن يفهم الكلام على أساس أنّ الله تعالى فرضَ طاعة العباس على النبيّ، أمام الناس، وكانت بُغيته أن يقول الإمام (عليه السلام) قولاً لا يحتمل الجدل،.. فهو يفتح على نفسه باباً مغلقاً ويطلب التفسير؟! لا، قطعاً.

ومع ذلك، فإنّ مُزوّري الحقائق التاريخية من عملاء السلطان والزمان، لمّا أدركوا النّكتة الخفيّة عَمدوا إلى اللّعب باللّفظ؛ لتغيير المعنى الذي أراده الإمام سلام الله عليه، ولينزعوا عن هذا الجواب الكريم بلاغته الفائقة وعمقه العجيب، فامتدّت أيديهم الآثمة إليه فجعلته على لسان محمد بن يزيد المبرّد هكذا:

(قال المتوكّل لأبي الحسن، عليّ بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم: ما يقول وِلْد أبيك في العباس بن عبد المطلب؟!

قال: (وما يقول وِلْد أبي يا أمير المؤمنين، في رجلٍ افترضَ الله طاعة بنيه على خلْقه، وافترضَ طاعته على بنيه)؟

فأمرَ له بمئة ألف درهم!

وإنّما أراد أبو الحسن طاعة الله على بنيه، وقد عرّضَ) (1) أي أنّه (عليه السلام) نبّه بني العباس إلى وجوب طاعة الله..

ويظهر تزويق الكلام في أول هذه الرواية المكذوبة الموضوعة، حيث بدأها الراوي بذكر نسب الإمام إلى جدّه عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)،.. وهي ظاهرة الوضع؛ لأنّ الله تعالى لم يفرض طاعة بني العباس على الخلق، ولا هو نصّبهم خلفاء له على عباده من جهة ثانية، ولأنّ الإمام (عليه السلام) لا يشتغل في القصر بالأجرة ككِذبة الرّواة ومزوّر روايته من جهةٍ أخرى.

____________________

(1) مروج الذهب: ج 4 ص 10 - 11، والأنوار البهية: ص 265 - 266.

٩٧

فقد تلاعبَ الراوي بتبديل لفظة (نبيّه) بلفظة (بنيه) فغيّر المعنى، وجعلَ الجواب منطوياً على ممالأة سافرةٍ يُبعد الإمام عنها بُعداً لا متناهياً؛ لأنّه من الّذين ( لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً ) (1) ولا يقول بغير علمه الصحيح الذي تلقّاه عن الوحي الّذي نزل على جدّه المصطفى (صلّى الله عليه وآله).

أمّا العبارة التي ذيّل بها الراوي المزوِّر روايته حين قال: وإنّما أرادَ أبو الحسن طاعة الله على بنيه، وقد عرّضَ، فإنّها (رقعة) فاقع لونها جاءت من غير جنس الثوب المرقوع بها، وفضحت الكذب والتعمّل والدّس! والرواية الأولى هي الصحيحة جزماً؛ لأنّها تنمّ عن عقيدة الإمام الذي لا يقول إلاّ الحق ولا يخاف في القول إلاّ الله جلّ وعلا، وهو لا يشتري رضا أحدٍ من المخلوقين بسخط الخالق، ولا يداري، ولا يرائي، ولا يهاب في الصّدق لوماً، ولا يخشى غرماً.

.. وفي كلّ الأحوال، لاحِظ هذا الإحراج المفاجئ الذي زجّ المتوكل فيه الإمام حين فاجأه بهذا السؤال المحرِج فور جلوسه، ترى أنّ اللّؤم يسيل على لسانه، والحقد يتفجّر من قلبه؛ إذ أراد أن يُحرجه فيخرجه لينتقم منه، فلقّاه الله سبحانه الجواب الذي يلجم الخصم ولا يغيّر من الحقّ حرفاً.

***

وكذلك تحرّش المتوكل بالإمام (عليه السلام) في سؤاله عن جدّه أبي طالب، كما في رواية عليّ بن عبد الله الحسني الذي قال:

(ركبنا مع سيّدنا أبي الحسن (عليه السلام) إلى دار المتوكل في يوم السلام - يوم العيد - فسلّم سيّدنا أبو الحسن (عليه السلام)، وأرادَ أن ينهض فقال له المتوكل:

تجلس يا أبا الحسن، إنّي أريد أن أسألك.

فقال له: (سَل.

فقال له: ما في الآخرة شيء غير الجنّة والنار يحلّون به الناس؟

فقال أبو الحسن (عليه السلام): ما يعلمه إلاّ الله.

فقال له: فمن عِلم الله أسألك.

قال: ومن عِلم الله أخبرك.

____________________

(1) آل عمران: 199.

٩٨

قال: يا أبا الحسن، ما رواه الناس أنّ أبا طالبٍ يوقَف إذا حوسِبَ الخلائق بين الجنّة والنار وفي رجْله نعلان من نارٍ يغلي منها دماغه، ولا يدخل الجنّة لكفره، ولا يدخل النار لكفالته رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وصدّه قريشاً عنه، وأيسر على يده حتى ظهرَ أمره؟!

قال له أبو الحسن (عليه السلام): ويحك! لو وُضِعَ إيمان أبي طالب في كفّةٍ، ووُضِعَ إيمان الخلائق في الكفّة الأخرى؛ لرجُحَ إيمان أبي طالبٍ على إيمانهم جميعاً.

قال له المتوكل: ومتى كان مؤمناً؟

قال له: دَع ما لا تعلم، واسمع ما لا يردّه المسلمون جميعاً ولا يكذّبون به).

فأطرقَ المتوكل،.. ونهضَ عنه أبو الحسن (عليه السلام) (1) .

ولا جرمَ أن يُطرق هذا المتوكّل على غير ربّه، أمام تسفيه الإمام، ومقابل زجره له؛ فإنّ إيمان أبي طالب (عليه السلام) يدلّ عليه شِعره، وقوله، وفعله؛ لأنّه كان الحامي الوحيد للرسالة والرسول مدّة حياته الكريمة التي لاقى فيها المصاعب الشاقّة، دفاعاً عن ابن أخيه (صلّى الله عليه وآله) وعن دعوته.

***

وفي الواقع لم يعرف أن يقف مع المتوكل موقف ثأرٍ لنفسه إلاّ ذاك الحنفيّ (2) ، الذي روى محمد بن العلا السّراج قصته - نقلاً عن البختريّ – فقال:

( قال البختريّ: كنت بمنبج - بلدة قرب حلب - بحضرة المتوكل، إذ دخلَ عليه رجل من أولاد محمد بن الحنفية، حلو العينين، حسن الثياب، قد قُرِفَ عنده بشيء - أي اتُّهم بجُرم -، فوقفَ بين يديه والمتوكل مُقبل على الفتح - بن خاقان - يُحدّثه.

فلمّا طالَ وقوف الفتى بين يديه وهو لا ينظر إليه قال: يا أمير المؤمنين، إن كنتَ أحضَرتني لتأديبي، فقد أسأتَ الأدب! وإن كنتَ قد أحضَرتني ليعرف مَن بحضرتك من أوباش الناس استهانتك بأهلي، فقد عَرفوا.

____________________

(1) حلية الأبرار: ج2 ص 461 - 462، ومدينة المعاجز: ص 560 - 561.

(2) هو من وِلْد محمد بن الحنفيّة بن عليّ بن أبي طالب (عليه السلام).

٩٩

فقال له المتوكل: والله يا حنفيّ، لولا ما يثنيني عليك من أوصال الرحِم، ويعطفني عليك من مواقع الحِلم؛ لانتزعتُ لسانك بيديّ، ولفرّقتُ بين رأسك وجسدك ولو كان بمكانك محمد أبوك!

قال: ثمّ التفتَ إلى الفتح فقال: أمَا ترى ما نلقاه من آل أبي طالب؟! إمّا حَسَني يجذب إلى نفسه تاج عزّ نقله الله إلينا قبله، أو حسينيّ يسعى في نقض ما أنزلَ الله إلينا قبله، أو حنفيّ يدلّ بجهله أسيافنا على سفك دمه.

فقال له الفتى: وأيّ حِلمٍ تَركَتهُ لك الخمور وإدمانها، أم العيدان وفتيانها؟! ومتى عَطفك الرحِم على أهلي وقد ابتزَزتهم فَدكاً إرثهم من رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فورَثها أبو حرملة؟!

وأمّا ذكركَ محمداً أبي، فقد طفقتَ تضع من عزٍّ رفعه الله ورسوله، وتطاول شرفاً تقصر عنه ولا تطوله! وأنت كما قال الشاعر:

فغضّ الطّرف إنّك من نميرٍ

فلا كعباً بلغتَ ولا كلابا

ثمّ ها أنت تشكو إلى عِلْجك هذا - أي الفتح بن خاقان الذي هو تركي لا عربيّ - ما تلقاه من الحسنيّ والحسينيّ والحنفيّ.. فـ ( لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِير ُ ) (1) !-أي بئس الوزير وزيرك-.

ثمّ مدّ رجْليه، ثمّ قال: هاتان رجْلاي لقيدك، وهذه عُنقي لسيفك! فبؤ بإثمي، وتحمّل ظلمي، فليس هذا أول مكروهٍ أوقَعتهُ أنت وسَلَفك بهم!

يقول الله تعالى: ( قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (2) .. فو الله ما أجبتَ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عن مسألته، ولقد عطفتَ بالمودّة على غير قرابته، فعمّا قليل ترِد الحوض فيذودك أبي، ويمنعك جدّي صلوات الله عليهما.

قال: فبكى المتوكّل، ثمّ قام فدخلَ إلى قصر جواريه،.. فلمّا كان من الغد أحضرهُ وأحسن جائزته، وخلّى سبيله) (3) .

حقّاً إنّ قول هذا الحنفيّ رضوان الله عليه يفشّ الخُلُق،.. وإن كان لا يوصِل إلى حق!

____________________

(1) الحج: 13.

(2) الشورى: 23.

(3) بحار الأنوار: ج 50 ص 213 - 214.

١٠٠