سلسلة أئمة أهل البيت عليهم السلام

سلسلة أئمة أهل البيت عليهم السلام0%

سلسلة أئمة أهل البيت عليهم السلام مؤلف:
تصنيف: مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام
الصفحات: 247

سلسلة أئمة أهل البيت عليهم السلام

مؤلف: مؤسسة البلاغ
تصنيف:

الصفحات: 247
المشاهدات: 101055
تحميل: 5682

توضيحات:

سلسلة أئمة أهل البيت عليهم السلام
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 247 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 101055 / تحميل: 5682
الحجم الحجم الحجم
سلسلة أئمة أهل البيت عليهم السلام

سلسلة أئمة أهل البيت عليهم السلام

مؤلف:
العربية

أمر هشام عامله على المدينة أن يبعث بالإمام الباقر وابنه جعفر إلى دمشق، وكانت دمشق في ذلك العهد مركزاً للحكم الإسلامي، وقد ازدهرت كثيراً، فارتفعت فيها الأبنية الكبيرة، وأقيمت المساجد العظيمة.

اضطرّ الإمام للتوجّه إلى دمشق مع ابنه، وحين وصلاها، تجاهلهما هشام ثلاثة أيام، دون أن يدعوهما إلى لقائه وكان يرمي إلى الاستهانة بالإمام، والحطّ من قدره أمام الناس وفي اليوم الرابع أرسل يدعوهما إلى مجلسه.

أخذ الإمام وابنه طريقهما نحو دار الحكم، وكانت تبدو في أبهى زينة، وقد حفّت بها الحدائق الجميلة، واصطفّ الحرس على الجانبين، بألبستهم الزاهية، ووجوههم العابسة بينما وقف قادة الجيش والوجهاء، وكبار بني أمية يرمون السهام على هدف قد نصب خصيصاً لذلك.

دخل الإمام مجلس هشام، وبادر الحاضرين بالسلام، دون أن يسلّم على هشام بالخلافة (أي دون أن يدعوه باسم أميرالمؤمنين). فكان هذا

١٢١

التصرف ثقيل الوطأة علىهشامٍ، بينما عقلت الدّهشة ألسنة الحضور.

يقول الإمام الصادقعليه‌السلام :

(فلمّا دخلنا، كان أبي أمامي وأنا خلفه، فنادى هشام: يا محمد، ارم مع أشياخ قومك .).

فقال أبي: (قد كبرت عن الرّمي، فإن رأيت أن تعفيني.).

فصاح هشام: (وحقّ من أعزّنا بدينه ونبيّه محمدٍصلى‌الله‌عليه‌وآله لا أعفيك.)

وظنّ الطّاغية أنّ الإمام سوف يخفق في رمايته، فيتخذ ذلك وسيلةً للحطّ من شأنه أمام الغوغاء من أهل الشام؛ وأومأ إلى شيخ من بني أميّة أن يناول الإمامعليه‌السلام قوسه، فتناوله وتناول معه سهماً، فوضعه في كبد القوس، ورمى به الغرض فأصاب وسطه. ثم تناول سهماً فرمى به فشقّ السهم الأوّل إلى نصله، وتابع الإمام الرمي حتى شقّ تسعة أسهم بعضها في جوف بعض وجعل هشام يضطرب من الغيظ.. فلم يتمالك أن صاح:

١٢٢

(يا أبا جعفر، أنت أرمى العرب والعجم وزعمت أنّك قد كبرت).

ثم أدركته الندامة على تقريظه للإمام، فأطرق برأسه إلى الأرض والإمام واقف، ولما طال وقوفه غضبعليه‌السلام وبان ذلك على وجهه الشريف، وكان إذا غضب نظر إلى السماء. ولما بصر هشام غضب الإمام قام إليه واعتنقه، وأجلسه عن يمينه، وأقبل عليه بوجهه قائلاً:

(يا محمد، لا تزال العرب والعجم تسودها قريش، ما دام فيها مثلك، لله درّك من علّمك هذا الرّمي؟ وفي كم تعلّمته؟ أيرمي جعفر مثل رميك؟.)

فقال أبوجعفرعليه‌السلام : (إنّا نحن نتوارث الكمال).

فاحمرّ وجه الطاغية من الغيظ، وقال:

(ألسنا بني عبد منافٍ، نسبنا ونسبكم واحد؟).

وردّ عليه الإمام مزاعمه قائلاً: (نحن كذلك، ولكنّ الله اختصّنا من مكنون سرّه وخالص علمه، بما لم يخصّ به أحداً غيرنا.).

١٢٣

وطفق هشام قائلاً: (أليس الله قد بعث محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله من شجرة عبد مناف إلى الناس كافّةً، أبيضها وأحمرها وأسودها، فمن أين ورثتم ما ليس لغيركم؟ ورسول الله مبعوث إلى الناس كافّةً، وذلك قول الله عزّ وجلّ:( ولله ميراث السموات والأرض ) . فمن أين ورثتم هذا العلم؟ وليس بعد محمدٍ نبيّ، ولا أنتم أنبياء.).

قال الإمام: (من قوله تعالى لنبيّه:( لا تحرّك به لسانك لتعجل به ) . فالّذي لم يحرّك به لسانه لغيرنا، أمره الله تعالى أن يخصّنا به من دون غيرنا ولذلك قال عليعليه‌السلام : (علّمني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ألف باب من العلم، يفتح من كلّ باب ألف باب). خصّه به النبي، وعلمه ما لم يخصّ به أحداً من قومه، حتّى صار إلينا فتوارثناه من دون أهلنا.).

والتاع هشام، ولم يدر ماذا يردّ عليه، ثم قال له: (سل حاجتك.).

قال الإمام: (خلّفت أهلي وعيالي مستوحشين لخروجي .).

١٢٤

قال هشام: (آنس الله وحشتهم برجوعك إليهم، فلا تقم وسر من يومك.).

مع العالم النصراني

لمّا كان الإمامعليه‌السلام في الشام، التقى بنفر من النصارى كانوا متوجّهين لزيارة كبير علمائهم، وذلك بمناسبة أحد أعيادهم، فسار معهم وكان النصارى يعيشون في كنف الإسلام أحراراً، يمارسون طقوسهم وعباداتهم كيفما شاؤوا.

دخل الإمام الباقرعليه‌السلام على العالم النصرانيّ، وهو قسّيس كبير، ولمّا استقرّ به المجلس نظر إليه العالم وسأله وهو لا يعرفه:

منّا أنت، أم من الأمّة المرحومة؟

فأجابهعليه‌السلام : من الأمّة المرحومة.

فسأله: من علمائها أم من جّهالها؟

فأجابه: لست من جهّالها.

سأل العالم: أنتم الذين تزعمون أنكم تذهبون إلى الجنة؛ فتأكلون وتشربون ولا تحدثون؟

قال الإمام : نعم.

١٢٥

قال: هات برهاناً على هذا.

قال الإمام: نعم، الجنين يأكل في بطن أمّه من طعامها، ويشرب من شرابها، ولا يحدث.

فبهر العالم وقال: ألست زعمت أنّك لست من علمائها؟

فأجابه الإمام: إنّما قلت: لست من جهّالها.

واستمرّ الأخذ والرّد بينهما طويلاً، حتّى أفحم العالم، وأسقط في يده. فصاح بأصحابه مغضباً: والله لا أكلّمكم، ولا ترون لي وجهاً اثني عشر شهراً.

فقد توهّم أنّهم عمدوا إلى إدخال الإمام عليه، لإفحامه وإظهار عجزه.

وانتشرت قصّة الإمام مع العالم المسيحيّ في دمشق، وعرف الناس قدر الإمام الباقرعليه‌السلام ، وإحاطته بشتّى العلوم والمعارف.

ووصلت القصة إلى مسامع هشام. وميلاً منه إلى مضايقة الإمام؛ أرسل مبعوثين إلى المدن الواقعة على الطريق إلى يثرب، فنشروا أكاذيب مؤدّاها أن ابن علي بن الحسين قد دخل ديراً

١٢٦

للنصارى، وأنّه مال إلى شريعتهم وصاروا يحرّضون الناس على مقاطعته؛ فلا يحدّثوه ولا يبايعوه، ولا يستضيفوه في بيوتهم، وأمروهم فوق ذلك أن يغلقوا الأبواب في وجهه.

آيات العذاب

خرجت قافلة الإمام من دمشق في طريقها إلى المدينة، حتى وصلت إلى بلدة كبيرة، وكان الإمام ومرافقوه على قدرٍ كبير من التعب والعطش، فحطّوا رحالهم قرب البلدة للتزوّد بالماء والطعام قبل أن يتابعوا طريقهم، لكنّ أهل البلدة أغلقوا أبوابها في وجوههم والناس أخيراً على دين ملوكهم.

كان أفراد القافلة قد أتوا على كلّ ما معهم من ماءٍ وزادٍ، وقد أغلقت دونهم الأبواب. فحاروا في أمرهم..

اعتلى الإمامعليه‌السلام صخرةً هناك، وراح يتحدّث إلى أهل المدينة، وينصحهم بصبر ولينٍ، لكنّهم لم يستمعوا إليه، وأصرّوا بعنادٍ على موقفهم، ولمّا يئس منهم رفع صوته عالياً. وراح يتلو آيات

١٢٧

العذاب، التي تلاها النبي شعيب على قومه، وقال:( بسم الله الرحمن الرحيم. وإلى مدين أخاهم شعيباً، قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إلهٍ غيره، ولا تنقصوا المكيال والميزان، إنّي أراكم بخير، وإنّي أخاف عليكم عذاب يوم محيط. ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط، ولا تبخسوا الناس أشياءهم، ولا تعثوا في الأرض مفسدين. بقيّة الله خير لكم إن كنتم مؤمنين، وما أنا عليكم بحفيظ ) .

ثم قال: يا أهل المدينة الظالم أهلها، أنا بقيّة الله.).

فما أتمّ كلامه حتى بادر شيخ من شيوخ المدينة، ونادى أهل قريته قائلاً: يا قوم، هذه والله دعوة شعيب، فاخشوا ربكم وافتحوا الأبواب أمام هذا الرجل الربّانيّ، فإن لم تفعلوا نزل بكم العذاب. يا قوم، إنّي أخاف عليكم، وإنّي لكم ناصح فاستمعوا.

خاف الناس من تحذير هذا الرجل الحكيم، وقد أدركوا أنّهم يخطون نحو العذاب، لأنّهم يقفون في وجه ابن نبيّهم، لا لشيءٍ إلاّ لينالوا رضى

١٢٨

هشام فبادروا إلى الأبواب وفتحوها، وراحوا يلتمسون من الإمام العفو والغفران.

نعم، ففي كلّ إنسان فطرة لابدّ أن تتحرّك، وضمير لابدّ أن يستيقظ.

حياة حافلة

كان عصر الإمام الباقرعليه‌السلام ، من أدقّ العصور الإسلامية، وأكثرها حساسيةً، فقد نشأ فيه الكثير من الفرق الإسلاميّة، وتصارعت فيه الأحزاب السياسيّة، كما عمّت الناس ردّه قويّة إلى الجاهلية وأمراضها، فعادوا إلى الفخر بالآباء والأنساب، ممّا أثار العصبيّات القبليّة، وعادت الصراعات القبلية إلى الظهور، وهذا ما شجّع عليه حكام بني أميّة، كما انتشرت مظاهر التّرف واللهو والغناء، والثراء الفاحش غير المشروع.

تصدّى الإمامعليه‌السلام لكلّ هذه الانحرافات، فأقام مجالس الوعظ والإرشاد، كي يحفظ لدين جدّه نقاءه وصفاءه.

١٢٩

كما تصدّىعليه‌السلام للفرق المنحرفة، فاهتمّ برعاية مدرسة (أهل البيت) التي أنشأها جدّه أميرالمؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، ثم من بعده الأئمة الأطهار من ولده. وقد التفّ حول الإمام الباقر علماء كثيرون، نهلوا من صافي علومه ومعارفه في الفقه والعقيدة والتفسير وعلوم الكلام.

وبعد عمر قضاه في الدعوة إلى الله، ونشر العلوم والمعارف، كما قضاه في مقارعة البغي والظلم والانحراف عن الدّين؛ دسّت له السمّ يد أثيمة، لا عهد لها بالله ولا باليوم الآخر، يد من أيدي أعدائه بني أميّة، الذين خافوا منه سموّ خلقه، وعظيم تقواه، ورفعة منزلته، والتفاف الناس من حوله.

وانطوت بموت باقر علوم الأوّلين والآخرين، صفحة رائعة من صفحات الرسالة الإسلامية، أمدّت المجتمع الإسلاميّ بعناصر الوعي والتطوّر والازدهار.

١٣٠

الإمام الصادقعليه‌السلام

الاسم: الإمام جعفر الصادقعليه‌السلام

اسم الأب: الإمام محمد الباقرعليه‌السلام

اسم الأم: فاطمة

تاريخ الولادة: ١٧ ربيع الأول سنة ٨٣ للهجرة

محل الولادة: المدينة

تاريخ الاستشهاد: ٢٥ شوال سنة ١٤٨ للهجرة

محل الاستشهاد: المدينة

محل الدفن: المدينة (البقيع)

ما قبل الإمامة

باسمه تعالى

بعد ثلاث وعشرين سنةً من واقعة كربلاء، رزق أهل بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وليداً ذكراً أسموه جعفر، وأبوه هو الإمام محمد الباقرعليه‌السلام ، أمّا أمه فهي السيدة فاطمة. وجده هو الإمام زين العابدينعليه‌السلام ، وهو كما نعرف، الرجل الوحيد الذي بقي من أهل البيت على قيد الحياة بعد فاجعة كربلاء.

عاش جعفر مع أبيه وإلى جانب جدّه زين العابدين، وحين بلغ الثالثة عشرة من عمره، توفّي جدّه العظيم بعد حياةٍ مليئةٍ بالتقوى والعمل الصالح.

نشأ جعفر نشأةً صالحةً في بيت طاهر، تلّقى فيه أصول الصدق والإيمان، وقد لقّب فيما بعد بـ (الصادق)، أي الذي يقول الحقّ والصدق دائماً، وصار يعرف بـ ( جعفر الصادق ).

١٣١

في تلك الأيام كان عبد الملك بن مروان حاكماً في بلاد المسلمين، وكان ممثله يدعى الحجاج بن يوسف، وهو رجل قاسي القلب عديم الرحمة، أنزل أشدّ العذاب والأذى بأصحاب وأهل أميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام ، فكان يلقي بهم في السجون، وينكّل بهم، وكان بيت الإمام زين العابدينعليه‌السلام موضوعاً تحت مراقبة شديدة، وقد حظر على الجميع أن يقربوا هذا البيت الكريم، وفي الوقت الذي كان فيه أعداء آل البيت أحراراً يقولون ما شاءوا، فقد حرم أهل بيت الرسول من هذه الحرّيّة.

وبعد موت عبد الملك بن مروان استلم الحكم ابنه الوليد، وكان هذا أشدّ من أبيه ظلماً وجرأةً على آل بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما كان يجهر بعدائه للإسلام وأحكامه، لكنّ حكمه لم يطل كثيراً، فتسلّمه من بعده عمر بن عبد العزيز.

كان الإمام الصادقعليه‌السلام ، في تلك الفترة من الزمن قد تجاوز أيّام شبابه، وكان أبوه الباقرعليه‌السلام إماماً وقائداً للأمّة. وفي عهد عمر بن عبد العزيز لقي أهل البيتعليه‌السلام معاملةً أفضل من

١٣٢

السابق، واستعادوا شيئاً من حرّيّتهم، وصار بمقدور الإمام الباقرعليه‌السلام أن يجلس إلى الناس، يحدّثهم ويعلّمهم أحكام الإسلام والقرآن الكريم، إلى جانب علوم أخرى كثيرةٍ. لكنّ حكم عمر بن عبد العزيز كان قصيراً جدّاً. وخلفه في الحكم هشام بن عبد الملك.

كان هشام رجلاً شديداً وقاسياً، لا يكتم بغضه لأهل البيت، وقد عانى الإمام الباقر كثيراً من شدة هشام، لكنّ قسوته - على أي حالٍ - لم تصل إلى درجة أسلافه. ويذكر أنّ هشاماً استدعى الإمام الباقر مرّةً، وطلب منه أن يسأله حاجةً يقضيها له، لكنّ الإمام طلب منه أن يدعه ليرجع إلى أهله في المدينة، ليتابع عمله في الوعظ والإرشاد. فوافق هشام، وعاد الإمام إلى المدينة، كما عاد إلى دروسه ومجالسه في مسجد جدّه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وقد اجتمع حوله خلق كثير من طلاب العلم، والتحق بدروسه الشباب والشيوخ، ومنذ ذلك الحين، أصبحت عائلة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله موضع اهتمام كبير من الناس، وكان الباقر على درايةٍ بعلومٍ كثيرةٍ، يتلقّاها عنه تلاميذه فينتشرون

١٣٣

في كلّ اتّجاه نحو المدن والقرى، يجلسون إلى الناس ويعلمونهم ما تعلموه من الإمام، حتى انتشرت أحكام الإسلام وعلومه ومعارفه انتشاراً كبيراً.

شعر أعوان هشام بالخطر الذي تشكّله مجالس الإمام في توعية الناس، وكشف الحقائق أمامهم، ولكن لم يكن بمقدورهم عمل شيءٍ، لأنّ حكم بني أميّة كان قد بدأ يتّجه نحو الضعف، وصار الناس في كل مكانٍ يجابهون عمّال هشامٍ ويتمردون على أوامرهم، وهكذا تمكّن الإمامعليه‌السلام من الاستمرار في دروسه، كما استمرّ تلاميذه بالازدياد والانتشار.

جامعة أهل البيتعليهم‌السلام

توفّي الإمام الباقرعليه‌السلام سنة ١١٤ للهجرة، بعد أن أوصى بالإمامة لابنه جعفر الصادقعليه‌السلام ، وقد ازداد خوف هشام بن عبد الملك من الإمام الصادق عن ذي قبل، لأنّه انصرف إلى متابعة أعمال أبيه، بهمّة ونشاط شابٍّ في الحادية والثلاثين، ممتلئ نشاطاً وحيوية، فاهتمّ بجامعة أهل البيت، التي أسّسها أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب، ورعاها من بعده أبناؤه

١٣٤

الأطهار، وخاصة أبوه الإمام الباقر عليهم جميعاً أزكى السلام، وشملت نشاطات هذه الجامعة كافة العلوم والمعارف، وكان لها دور كبير في صون الإسلام من الانحراف والتشويه، ونشر تعاليمه وأحكامه.

بعد موت هشام سنة ١٢٥ للهجرة، ازداد ضعف الحكم الأمويّ، وقامت في ذلك الوقت جماعتان تناهضان الحكم و تطالبان بالخلافة، والتحق بهما كل المعارضين للحكم.

كانت إحدى هاتين الجماعتين بقيادة أحد أبناء الإمام الحسينعليه‌السلام ، أمّا الثانية فكانت بقيادة أحد أبناء العباس، عمّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، قامت تطالب بالثأر لدماء الشهداء، وادّعت الولاء لآل بيت الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله

كان كلّ هذا يجري في وقت انصرف فيه الإمام الصادق إلى العمل على نشر العلوم و المعارف عن طريق إقامة المجالس، التي كان يحضرها كل الذين ينازعون بني أمية الحكم، حتى أنّ العباس السفّاح والمنصور وغيرهما من كبار بني العباس، كانوا

١٣٥

يحضرون دروس الإمام، متظاهرين بالولاء لأهل البيتعليهم‌السلام .

الإمامعليه‌السلام في مواجهة الأحزاب

في خضم هذه الأحداث كانت كل من الجماعتين تسعى للتقرّب من الإمام الصادقعليه‌السلام والدعوة إليه، كي تضمن بذلك النجاح لدعوتهما هي.

أمّا آل الحسن فلم تكن دعوتهم قد استكملت نضوجها بعد، على النقيض من بني العباس، الذين كانوا أكثر تعطشاً للملك، فقد نجحوا في جمع الأنصار حولهم، وحول دعوتهم، لما كان الناس يعانونه من ظلم بني أمية، ولأنّ الناس كانوا يرون في حركتهم الأمل بالخلاص من هذا الظلم. كما أنّ بني العباس رفعوا شعار الثأر لدماء آل بيت الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وشعار تحرير السجناء من سجون بني أمية، وإعادة الحقوق إلى أصحابها.

وكان ممّن التحق بحركتهم رجلان من أصحاب النفوذ والقوّة في تلك الأيام، وهما أبو مسلمٍ الخراساني وأبو سلمة الخلاّل، وكانا يدعوان الناس

١٣٦

إلى مناصرة بني العباس ومحاربة بني أميّة، وكان لهما تأثير كبير في مجرى الأحداث. لكنّهما سرعان ما اكتشفا أنّ بني العباس لا يختلفون عن بني أميّة في شيءٍ، وأنّ ادّعاءاتهم بالثأر للشهداء والولاء لآل البيت كانت كاذبةً، تخفي وراءها أطماعهم.

عند ذاك وجّه أبو مسلم وأبو سلمة كتاباً للإمام الصادقعليه‌السلام ، يعرضان عليه فيه أن يكون قائداً للتحرّك ضد الحكم الأموي، كما يعرضان عليه البيعة بالخلافة. لكنّ الإمام ما إن تسلّم كتابهما حتى أحرقه أمام الحاضرين في مجلسه، وكان تصرّفه هذا أبلغ رد على دعوة الرجلين، لأنّه يعلم حقّ العلم أنّهما يسعيان وراء مصالحهما الشخصيّة، وليس وراء مصالح المسلمين. وكنتيجةٍ لرفض الإمام لعرضهما، فقد التحقا بالسفاح والمنصور العباسيين، على أن يكونا وزيرين لديهما.

وأخيراً وبعد معركة كبيرة هزم فيها مروان بن الحكم آخر الحكّام الأمويين، وتسلّم الحكم أبو العباس السفاح، واسمه يغني عن وصفه. فعيّن أبا سلمة وزيراً له، وكانت نهاية أبي سلمة على يدي

١٣٧

رفيقه أبي مسلم فيما بعد.

كان السفاح يدّعي الميل إلى أهل بيت الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد رفع شعار الثّأر لشهداء كربلاء، ولهذا كان مجبراً في أول عهده أن يسلك مسلك المداراة واللّين مع الإمام الصادقعليه‌السلام ، ولكن إلى حين.

(الخمس) عامل استقلال

في تلك الأيام كان الفقهاء والعلماء يتقاضون حقوقهم من الدولة، وكانوا يرافقون الحكّام في تحرّكاتهم إلى المساجد وغيرها، ويحرصون على رضاهم وتبرير تصرّفاتهم، أولئك هم وعّاظ السلاطين، وكان الناس يدفعون إلى الدّولة أموال الخمس والزكاة والخراج، فتدفع الدولة حقوق عمّالها وموظّفيها، ومن جملتهم الفقهاء والعلماء، من هذه الأموال.

أمّا الإمام الصادق وأصحابه، فكانوا بعيدين كلّ البعد عن هذه الزمر من المنتفعين، لأنّ الإمام كان يعتبر الحاكم مغتصباً للخلافة، وأنّ التّعامل معه هو تعامل مع الطّغاة والظالمين. وكان أصحاب الإمام، وخاصّةً البعيدون منهم عن رقابة الحكّام، يؤدّون

١٣٨

الخمس والزكاة إلى الإمام، فينفقها في وجوهها الشرعية، وهكذا حفظ الله سبحانه وتعالى آل بيت رسوله من أي ارتباطٍ بأجهزة الحكم الظالم.

أدرك السفّاح العباسي أنّه لا يملك أي سلطةٍ على الإمام الصادقعليه‌السلام . كما أدرك أنّ حسابات الإمام في تحصيل الحقوق وفي وجوه إنفاقها، تختلف كثيراً عن حسابات الفقهاء والعلماء المرتبطين بأجهزته، فكان يستدعيه أحياناً إلى مقرّه في الأنبار قرب الكوفة، فيعاتبه حيناً بلهجةٍ لا تخفي مشاعره الحقيقيّة نحوه، أو يحاول استمالته أحياناً أخرى، غير أنّه لم يكن يجرؤ على إيذائه علناً، لأن هذا يتناقض مع ادّعائه الولاء لآل بيت الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله

وفي سنة ١٣٦ للهجرة هلك السّفّاح، وحلّ محلّه أخوه المنصور.

الإمامعليه‌السلام بمواجهه المنصور

كان المنصور يتمتّع بسمعةٍ طيّبةٍ بين الناس، الذين خدعتهم المظاهر، وكيف لا يكون كذلك؟ ألم يقاتل

١٣٩

طغاة بني أميّة سنواتٍ عديدة؟ ألم يقدّم مساعداتٍ جمّةً للسجناء العلويّين؟ ألم يتحدث كثيراً عن شهداء كربلاء؟ نعم، لقد تظاهر بكلّ هذا وبهذه الخلفيّة تربّع المنصور على كرسي الحكم.

أمّا الإمام الصادقعليه‌السلام ، فقد كان يعرف المنصور حقّ المعرفة، فلكم حضر هذا مجالسه، وبادله الأحاديث، وسأله عن مسائل كثيرةأجل، كان يعرفه تمام المعرفة، وكان يدعوه بـ ( جبّار بني العبّاس ).

كان سلوك المنصور نحو الإمام يتّسم في البداية بالاحترام الشديد، فكان يدعوه إليه ويجلسه إلى جانبه، ويأمر أولاده بالجلوس إليه، والتزوّد من علومه وإرشاداته. وكان يرمي من وراء هذا التصرّف إلى احتواء الإمام واستمالته إليه، فيجعله كباقي فقهاء العامّة، أداة في يده، وستاراً يخفي وراءه أطماعه وسوء مقاصده، لكنّ الإمام خيّب آماله وسفّه أحلامه، فلم يستجب إلى محاولاته، ولم يقع في شراك فخاخه، بل على النّقيض من ذلك، كانت آراؤه وتعليماته في هذا الصدد واضحةً، يعرفها كافّة أصحابهعليه‌السلام ، وهي أنّ المنصور وأمثاله من الحكّام،

١٤٠