سلسلة أئمة أهل البيت عليهم السلام

سلسلة أئمة أهل البيت عليهم السلام23%

سلسلة أئمة أهل البيت عليهم السلام مؤلف:
تصنيف: مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام
الصفحات: 247

سلسلة أئمة أهل البيت عليهم السلام
  • البداية
  • السابق
  • 247 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 107583 / تحميل: 6327
الحجم الحجم الحجم
سلسلة أئمة أهل البيت عليهم السلام

سلسلة أئمة أهل البيت عليهم السلام

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

إنّ كلمة (الرحمة) التي ذكرت هنا لها مفهوم واسع ، ويدخل ضمنه كل خير وبركة وسعادة ، سواء في هذه الحياة أو في العالم الآخر ، وهذه الجملة في الواقع جاءت مقابلة لحال المنافقين الذين لعنهم الله وأبعدهم عن رحمته.

ولا شك أنّ وعد الله للمؤمنين قطعي ويقيني لأنّ الله قادر وحكيم ، ولا يمكن للحكيم أن يعد بدون سبب ، وليس الله القادر بعاجز عن الوفاء بوعده حين وعد( إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) .

الآية الثّانية شرحت جانبا من هذه الرحمة الإلهية الواسعة التي تعم المؤمنين في بعديها المادي والمعنوي. فهي أوّلا تقول :( وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ) ، ومن خصائص هذه النعمة الكبيرة أنّها لا زوال لها ولا فناء ، بل الخلود الأبدي ، لذا فإن المؤمنين والمؤمنات سيكونون( خالِدِينَ فِيها ) .

ومن المواهب الإلهية الأخرى التي سوف ينعمون بها هي المساكن الجميلة ، والمنازل المرفهة التي أعدها الله لهم وسط الجنان( وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ) .

(عدن) في اللغة تعني الإقامة والبقاء في مكان ما ، ولهذا يطلق على المكان الذي توجد فيه مواد خاصّة اصطلاح (معدن) ، وعلى هذا المعنى فإنّ هناك شبها بين الخلود وعدن ، لكن لما أشارت الجملة السابقة إلى مسألة الخلود ، يفهم من هذه الجملة أن جنات عدن محل خاص في الجنّة يمتاز على سائر حدائق الجنّة.

لقد وردت هذه الموهبة الإلهية بأشكال وتفسيرات مختلفة في الرّوايات وكلمات المفسّرين ، فنطالع في حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «عدن دار الله التي لم ترها عين ، ولم يخطر على قلب بشر ، لا يسكنها غير ثلاثة : النّبيين ، والصدّيقين ، والشّهداء»(1) .

وفي كتاب الخصال نقل عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : «من سرّه أن يحيا حياتي ، ويموت مماتي ، ويسكن جنتي التي واعدني الله ربّي ، جنات عدن فليوال علي بن أبي

__________________

(1) مجمع البيان ، ذيل الآية.

١٢١

طالبعليه‌السلام وذريتهعليهم‌السلام من بعده».(1) ويتّضح من هذا الحديث أن جنات عدن حدائق خاصّة في الجنّة سيستقر فيها النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجماعة من خلّص أصحابه وأتباعه. وهذا المضمون قد ورد في حديث آخر عن عليعليه‌السلام ، ويدل على أن جنات عدن مقر إقامة نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

بعد ذلك تشير الآية إلى الجزاء المعنوي المعد لهؤلاء ، وهو رضى الله تعالى عنهم المختص بالمؤمنين الحقيقيين ، وهو أهم وأعظم جزاء ، ويفوق كل النعم والعطايا الأخرى( وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ) .

إنّ اللذة المعنوية والإحساس الروحي الذي يحس ويلتذ به الإنسان عند شعوره برضى الله سبحانه وتعالى عنه لا يمكن أن يصفه أي بشر ، وعلى قول بعض المفسّرين فإنّ نسمة ولحظة من هذه اللذة الروحية تفوق نعم الجنّة كلها ومواهبها المختلفة والمتنوعة واللامتناهية.

من الطبيعي أنّنا لا نستطيع أن نجسم ونرسم صورة في أفكارنا عن أي نعمة من نعم الحياة الأخرى ونحن في قفص الحياة الدنيا وحياتها المحدودة ، فكيف سنصل إلى إدراك هذه النعمة المعنوية والروحية الكبرى؟!

نعم ، يمكن إيجاد تصور ضعيف عن الاختلافات المادية والمعنوية التي نعيشها في هذه الدنيا ، فمثلا يمكن إدراك الاختلاف في اللذة بين اللقاء بصديق عزيز جدا بعد فراق طويل ولذّة الإحساس الروحي الخاص الذي يعتري الإنسان عند إدراكه أو حلّه لمسألة علمية معقدة صرف في تحصيلها والوصول إلى دقائقها الشهور ، بل السنين ، أو الانشداد الروحي الذي يبعث على النشاط والجد في لحظات خلوص العبادة ، أو النشوة عند توجه القلب وحضوره في مناجاة تمتزج بهذا الحضور ، وبين اللذة التي نحس بها من تناول طعام لذيذ وأمثالها من اللذائذ ، ومن الطبيعي أن هذه اللذائذ المادية لا يمكن مقارنتها باللذائذ المعنوية ، ولا يمكن

__________________

(1) كتاب الخصال ، على ما نقل في نور الثقلين ، ج 2 ، ص 241.

١٢٢

أن تصل إلى مصافها.

من هنا يتّضح التصور الخاطئ لمن يقول بأن القرآن الكريم عند ما يتحدث عن الجزاء والعطاء الإلهي الذي سيناله المؤمنون الصالحون يؤكّد على النعم المادية ، ولا يتطرق إلى النواحي المعنوية ، لأن الجملة أعلاه ـ أي : رضوان من الله أكبر ـ ذكرت أن رضوان الله أكبر من كل النعم ، خاصّة وأنّها وردت بصيغة النكرة ، وهي تدل على أن قسما من رضوان الله أفضل من كل النعم المادية الموجودة في الجنّة ، وهذا يبيّن القيمة السامية لهذا العطاء المعنوي.

إن الدليل على أفضلية الجزاء المعنوي واضح أيضا ، لأنّ الروح في الواقع بمثابة (الجوهر) والجسم بمكان (الصدف) ، فالروح كالآمر والقائد ، والجسم كالجندي المطيع والمنفذ ، فالتكامل الروحي هو الهدف ، والجسم وسيلة ولهذا السبب فإن إشعاعات الروح وآفاقها أوسع من الجسم واللذائذ الروحية لا يمكن قياسها ومقارنتها باللذائذ المادية والجسمية ، كما أن الآلام الروحية أشدّ ألما من الآلام الجسمية.

وفي نهاية أشارت الآية إلى جميع هذه النّعم المادية والمعنوية ، وعبرت عنها بأنّ( ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) .

* * *

١٢٣

الآية

( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) )

التّفسير

جهاد الكفار والمنافقين :

وأخيرا ، صدر القرار الإلهي للنّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في وجوب جهاد الكفار والمنافقين بكل قوّة وحزم( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ ) ولا تأخذك بهم رأفة ورحمة ، بل شدد( وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ) . وهذا العقاب هو العقاب الدنيوي ، أمّا في الآخرة فإن محلهم( وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) .

إن طريقة جهاد الكفار واضحة ومعلومة ، فإنّ جهادهم يعني التوسل بكل الطرق والوسائل في سبيل القضاء عليهم ، وبالذات الجهاد المسلح والعمل العسكري ، لكن البحث في أسلوب جهاد المنافقين ، فمن المسلم أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يجاهدهم عسكريا ولم يقابلهم بحد السيف ، لأنّ المنافق هو الذي أظهر الإسلام ، فهو يتمتع بكل حقوق المسلمين وحماية القانون الإسلامي بالرغم من أنّه يسعى لهدم الإسلام في الباطن فكم من الأفراد لا حظّ لهم من الإيمان ، ولا يؤمنون حقيقة بالإسلام ، غير أنّنا لا نستطيع أن نعاملهم معاملة غير المسلمين.

اذن ، فالمستفاد من الرّوايات وأقوال المفسّرين هو أنّ المقصود من جهاد

١٢٤

المنافقين هو الاشكال والطرق الأخرى للجهاد غير الجهاد الحربي والعسكري ، كالذم والتوبيخ والتهديد والفضيحة ، وربّما تشير جملة( وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ) إلى هذا المعنى.

ويحتمل في تفسير هذه الآية : أنّ المنافقين يتمتعون بأحكام الإسلام وحقوقه وحمايته ما دامت أسرارهم مجهولة ، ولم يتّضح وضعهم على حقيقته ، أمّا إذا تبيّن وضعهم وانكشفت خبيئة أسرارهم فسوف يحكمون بأنّهم كفار حربيون ، وفي هذه الحالة يمكن جهادهم حتى بالسيف.

لكن الذي يضعف هذا الاحتمال أنّ إطلاق كلمة المنافقين على هؤلاء لا يصح في مثل هذه الحالة ، بل إنّهم يعتبرون من جملة الكفار الحربيين ، لأنّ المنافق ـ كما قلنا سابقا ـ هو الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر.

* * *

١٢٥

الآية

( يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (74) )

سبب النّزول

ذكرت في سبب نزول هذه الآيات أقوال وآراء مختلفة ، وكلّها تتفق على أن بعض المنافقين قد تحدثوا بأحاديث سيئة وغير مقبولة حول الإسلام والنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبعد أن فشا أمرهم وانتشرت أسرارهم أقسموا كذبا بأنّهم لم يتفوهوا بشيء ، وكذلك فإنّهم قد دبروا مؤامرة ضد النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، غير أنّها قد أحبطت.

ومن جملتها : أنّ أحد المنافقين ـ واسمه جلاس ـ سمع بعضا من خطب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيّام غزوة تبوك ، وأنكرها بشدّة وكذبها ، وبعد رجوع المسلمين إلى المدينة حضر رجل يقال له : عامر بن قيس ـ كان قد سمع جلاس ـ عند النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبلغه كلام جلاس ، فلما حضر جلاس وسأله النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك أنكر ، فأمرهما

١٢٦

النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقسما بالله ـ في المسجد عند المنبر ـ أنّهما لا يكذبان ، فاقتربا من المنبر في المسجد وأقسما ، إلّا أن عامرا دعا بعد القسم وقال : اللهم أنزل على نبيّك آية تعرّف الصادق ، فأمّن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمون على دعائه. فنزل جبرئيل بهذه الآية ، فلمّا بلغ قوله تعالى :( فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ ) قال جلاس : يا رسول الله ، إنّ الله اقترح عليّ التوبة ، وإنّي قد ندمت على ما كان منّي ، وأتوب منه ، فقبل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم توبته.

وكما أشرنا سابقا فقد ذكر أن جماعة من المنافقين صمموا على قتل النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في طريق عودته من غزوة تبوك ، فلمّا وصل إلى العقبة نفروا بعيره ليسقط في الوادي، إلّا أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أطلع بنور الوحي على هذه النّية الخبيثة ، فرد كيدهم في نحورهم وأبطل مكرهم. وكان زمام الناقة بيد عمار يقودها ، وكان حذيفة يسوقها لتكون الناقة في مأمن تام ، وأمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المسلمين أن يسلكوا طريقا آخر حتى لا يخفي المنافقون أنفسهم بين المسلمين وينفّذوا خطتهم.

ولما وصل إلى سمع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقع أقدام هؤلاء أو حوافر خيولهم أمر بعض أصحابه أن يدفعوهم ويبعدوهم ، وكان عدد هؤلاء المنافقين اثني عشر أو خمسة عشر رجلا ، وكان بعضهم قد أخفى وجهه ، فلمّا رأوا أن الوضع لا يساعدهم على تنفيذ ما اتفقوا تواروا عن الأنظار ، إلّا أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عرفهم وذكر أسماءهم واحدا واحدا لبعض أصحابه(1) .

لكن الآية ـ كما سنرى ـ تشير إلى خطتين وبرنامجين للمنافقين : إحداهما : أقوال هؤلاء السيئة. والأخرى : المؤامرة والخطة التي أحبطت ، وعلى هذا الأساس فإنا نعتقد أن كلا سببي النزول صحيحان معا.

__________________

(1) ما ذكرناه اقتباس من تفسير مجمع البيان والمنار وروح المعاني وتفاسير أخر.

١٢٧

التّفسير

مؤامرة خطرة :

إنّ ارتباط هذه الآية بالآيات السابقة واضح جدّا ، لأنّ الكلام كان يدور حول المنافقين ، غاية ما في الأمر أنّ هذه الآية تزيح الستار عن عمل آخر من أعمال المنافقين ، وهو أن هؤلاء عند ما رأوا أن أمرهم قد انكشف ، أنكروا ما نسب إليهم بل أقسموا باليمين الكاذبة على مدّعاهم.

في البداية تذكر الآية أن هؤلاء المنافقين لا يرتدعون عن اليمين الكاذبة في تأييد إنكارهم ، ولدفع التهمة فإنّهم( يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا ) في الوقت الذي يعلمون أنّهم ارتكبوا ما نسب إليهم من الكفر( وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ ) وعلى هذا فإنّهم قد اختاروا طريق الكفر بعد إعلانهم الإسلام( وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ ) ومن البديهي أن هؤلاء لم يكونوا مسلمين منذ البداية ، بل إنّهم أظهروا الإسلام فقط ، وعلى هذا فإنّهم بإظهارهم الكفر قد هتكوا ومزّقوا حتى هذا الحجاب المزيف الذي كانوا يتسترون به.

وفوق كل ذلك فقد صمّموا على أمر خطير لم يوفقوا لتحقيقه( وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا ) ويمكن أن يكون هذا إشارة إلى تلك المؤامرة لقتل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ليلة العقبة ، والتي مرّ ذكرها آنفا ، أو أنّه إشارة إلى كل أعمال المنافقين التي يسعون من خلالها إلى تحطيم المجتمع الإسلامي وبثّ بذور الفرقة والفساد والنفاق بين أوساطه ، لكنّهم لن يصلوا إلى أهدافهم مطلقا.

ممّا يستحق الانتباه أن يقظة المسلمين تجاه الحوادث المختلفة كانت سببا في معرفة المنافقين وكشفهم ، فقد كان المسلمون ـ دائما ـ يرصدون هؤلاء ، فإذا سمعوا منهم كلاما منافيا فإنّهم يخبرون النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم به من أجل منعهم وتلقي الأوامر فيما يجب عمله تجاه هؤلاء. إنّ هذا الوعي والعمل المضاد المؤيّد بنزول الآيات أدى إلى فضح المنافقين وإحباط مؤامراتهم وخططهم الخبيثة.

١٢٨

الجملة الأخرى تبيّن واقع المنافقين القبيح ونكرانهم للجميل فتقول الآية : إنّ هؤلاء لم يروا من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أي خلاف أو أذى ، ولم يتضرروا بأي شيء نتيجة للتشريع الإسلامي، بل على العكس ، فإنّهم قد تمتعوا في ظل حكم الإسلام بمختلف النعم المادية والمعنوية( وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ ) (1) وهذه قمة اللؤم.

ولا شك أنّ إغناءهم وتأمين حاجاتهم في ظل رحمة الله وفضله وكذلك بجهود النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يستحق أن ينقم من جرائه هؤلاء المنافقون ، بل إنّ حقّه الشكر والثناء ، إلّا أنّ هؤلاء اللؤماء المنكرين للجميل والمنحرفي السيرة والسلوك قابلوا الإحسان بالإساءة.

ومثل هذا التعبير الجميل يستعمل كثيرا في المحادثات والمقالات ، فمثلا نقول للذي أنعمنا عليه سنين طويلة وقابل إحساننا بالخيانة : إنّ ذنبنا وتقصيرنا الوحيد أنّنا آويناك ودافعنا عنك وقدّمنا لك منتهى المحبّة على طبق الإخلاص.

غير أنّ القرآن ـ كعادته ـ رغم هذه الأعمال لم يغلق الأبواب بوجه هؤلاء ، بل فتح باب التوبة والرجوع إلى الحق على مصراعيه إن أرادوا ذلك ، فقال :( فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ ) . وهذه علامة واقعية الإسلام واهتمامه بمسألة التربية ، ومعارضته لاستخدام الشدّة في غير محلّها وهكذا فتح باب التوبة حتى بوجه المنافقين الذين طالما كادوا للإسلام وتآمروا على نبيّه وحاكوا الدسائس والتهم ضده ، بل إنّه دعاهم إلى التوبة أيضا.

هذه في الحقيقة هي الصورة الواقعية للإسلام ، فما أظلم هؤلاء الذين يرمون

__________________

(1) ممّا يستحق الانتباه أن الجملة أعلاه بالرغم من أنّها تتحدث عن فضل الله ورسوله ، إلّا أن الضمير في( مِنْ فَضْلِهِ ) جاء مفردا لا مثنى ، والسبب في ذلك هو ما ذكرناه قبل عدة آيات من أن أمثال هذه التعبيرات لأجل إثبات حقيقة التوحيد ، وأن كل الأعمال بيد الله سبحانه ، وأنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا ما عمل عملا فهو بأمر الله سبحانه ، ولا ينعزل عن إرادته سبحانه.

١٢٩

الإلام بأنّه دين القوة والإرهاب والخشونة

هل توجد في عالمنا المعاصر دولة مستعدة لمعاملة من يسعى لإسقاطها وتحطيمها كما رأينا في تعامل الإسلام السامي مع مناوئيه ، مهما ادّعت أنّها من أنصار المحبة والسلام؟! وكما مرّ علينا في سبب نزول الآية ، فإنّ أحد رؤوس النفاق والمخططين له لما سمع هذا الكلام تاب ممّا عمل ، وقبل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم توبته.

وفي نفس الوقت ومن أجل أن لا يتصور هؤلاء أن هذا التسامح الإسلامي صادر من منطق الضعف ، حذّرهم بأنّهم إن استمروا في غيهم وتنكّروا لتوبتهم ، فإنّ العذاب الشديد سينالهم في الدّارين( وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ) وإذا كانوا يظنون أنّ أحدا يستطيع أن يمدّ لهم يد العون مقابل العذاب ا لإلهي فإنّهم في خطأ كبير ، فإنّ العذاب إذا نزل بهم فساء صباح المنذرين :( وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ) .

من الواضح بديهة أنّ عذاب هؤلاء في الآخرة معلوم ، وهو نار جهنم ، أمّا عذابهم في الدنيا فهو فضيحتهم ومهانتهم وتعاستهم وأمثال ذلك.

* * *

١٣٠

الآيات

( وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (78) )

سبب النّزول

المعروف بين المفسّرين أنّ هذه الآيات نزلت في رجل من الأنصار يدي ثعلبة بن حاطب ، وكان رجلا فقيرا يختلف إلى المسجد دائما ، وكان يصر على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يدعو له بأن يرزقه الله مالا وفيرا ، فقال له النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه» أو ليس الأولى لك أن تتأسى بنبيّ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتحيا حياة بسيطة وتقنع بها؟ لكن ثعلبة لم يكف ولم يصرف النظر عن أمله ، وأخيرا قال للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : والّذي بعثك بالحق نبيّا ، لئن رزقني الله لأعطين كل الحقوق وأؤدي كل الواجبات ، فدعا له النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فلم يمض زمان ـ وعلى رواية ـ حتى توفي ابن عم له ، وكان غنيّا جدّا ،

١٣١

فوصلت إليه ثروة عظيمة ، وعلى رواية أخرى أنّه اشترى غنما ، فلم تزل تتوالد حتى أصبح حفظها ورعايتها في المدينة أمرا غير ممكن ، فاضطر أن يخرج إلى أطراف المدينة ، فألهته أمواله عن حضور الجماعة ، بل وحتى الجمعة.

وبعد مدّة أرسل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عاملا إلى ثعلبة ليأخذ الزكاة منه ، غير أن هذا الرجل البخيل الذي عاش لتوّه حياة الرفاه امتنع من أداء حقوق الله تعالى ، ولم يكتف بذلك ، بل اعترض على حكم الزّكاة وقال : إنّ حكم الزكاة كالجزية ، أي أنّنا أسلمنا حتى لا نؤدي الجزية ، فإذا وجبت علينا الزكاة فأي فرق بيننا وبين غير المسلمين؟

قال هذا في الوقت الذي لم يفهم معنى الجزية ولا معنى الزكاة ، أو أنّه فهمه ، إلّا أن حبّ الدنيا وتعلقه بها لم يسمح له ببيان الحقيقة وإظهار الحق ، فلمّا بلغ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما قاله قال : «يا ويح ثعلبة! يا ويح ثعلبة» ، فنزلت هذه الآيات.

وقد ذكرت أسباب أخر لنزول هذه الآيات تشابه قصّة ثعلبة مع اختلاف يسير.

ويفهم من أسباب النزول المذكورة ومن مضمون الآيات أنّ هذا الشخص ـ أو الأشخاص المذكورين ـ لم يكونوا من المنافقين في بداية الأمر ، لكنّهم لهذه الأعمال ساروا في ركابهم.

التّفسير

المنافقون وقلّة الاستيعاب :

هذه الآيات في الحقيقة تضع إصبعها على صفة أخرى من صفات المنافقين السيّئة ، وهي أنّ هؤلاء إذا مسّهم البؤس والفقر والمسكنة عزفوا على وتر الإسلام بشكل لا يصدق معه أحد أنّ هؤلاء يمكن أن يكونوا يوما من جملة المنافقين ، بل ربّما ذمّوا ولاموا الذين يمتلكون الثروات والقدرات الواسعة على عدم استثمارها في خدمة المحرومين ومساعدة المحتاجين!

١٣٢

إلّا أنّ هؤلاء أنفسهم ، إذا تحسّن وضعهم المادي فإنّهم سينسون كل عهودهم ومواثيقهم مع الله والناس ، ويغرقون في حبّ الدنيا ، وربّما تغيّرت كل معالم شخصياتهم ، ويبدؤون بالتفكير بصورة أخرى وبمنظار مختلف تماما ، وهكذا يؤدي ضعف النفس هذا إلى حبّ الدنيا والبخل وعدم الإنفاق وبالتالي يكرّس روح النفاق فيهم بشكل يوصد أمامهم أبواب الرجوع إلى الحق.

فالآية الأولى تتحدث عن بعض المنافقين الذين عاهدون الله على البذل والعطاء لخدمة عباده إذا ما أعطاهم الله المال الوفير( وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ) .

إلّا أنّهم يؤكّدون هذه الكلمات والوعود ما دامت أيديهم خالية من الأموال( فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ) غير أن عملهم هذا ومخالفتهم للعهود التي قطعوها على أنفسهم بذرت روح النفاق في قلوبهم وسيبقى إلى يوم القيامة متمكنا منهم( فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ ) وإنّما استحقوا هذه العاقبة السيئة غير المحمودة( بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ ) .

وفي النهاية وبّخت الآية هؤلاء النفر ولامتهم على النوايا السيئة التي يضمرونها ، وعلى انحرافهم عن الصراط المستقيم ، واستفهمت بأنّهم( أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ) .

* * *

ملاحظات

وهنا يجب الانتباه إلى عدّة ملاحظات :

1 ـ يمكن أن نرى بوضوح تام من خلال جملة( فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ ) أنّ النسبة والعلاقة بين الكثير من الذنوب والصفات السيئة ، بل وحتى بين الكفر

١٣٣

والنفاق ، هي نسبة وعلاقة العلة والمعلول ، لأنّ الجملة الآنفة الذكر تبيّن وتقول بصراحة : إنّ سبب النفاق الذي نبت في قلوبهم وحرفهم عن الجادة هو بخلهم ونقضهم لعهودهم ، وكذلك الذنوب والمخالفات الأخرى التي ارتكبوها ، ولهذا فإنّنا نقرأ في بعض العبارات أن الكبائر في بعض الأحيان تكون سببا في أن يموت الإنسان وهو غير مؤمن ، إذ ينسلخ منه روح الإيمان بسببها.

2 ـ إنّ المقصود من( يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ ) والذي يعود ضميره إلى الله سبحانه وتعالى هو يوم القيامة ، لأن تعبير( لِقاءَ رَبِّهِ ) وأمثاله في القرآن يستعمل عادة في موضوع القيامة. صحيح أن فترة العمل ـ التي هي الحياة الدنيا ـ تنتهي بموت الإنسان ، وبموته يغلق ملف أعماله الصالحة والطالحة ، إلّا أن آثار تلك الأعمال تبقى تؤثر في روح الإنسان إلى يوم القيامة.

وقد احتمل جماعة أنّ ضمير (يلقونه) يعود إلى البخل ، فيكون المعنى : حتى يلاقوا جزاء بخلهم وعقابه. ويحتمل كذلك أن يكون المراد من لقاء الله : لحظة الموت. إلّا أن جميع هذه خلاف ظاهر الآية ، والظاهر ما قلناه.

ولنا بحث في أنّه ما هو المقصود من لقاء الله في ذيل الآية (64) من سورة البقرة.

3 ـ ويستفاد أيضا ـ من الآيات أعلاه ـ أنّ نقض العهود والكذب من صفات المنافقين ، فهؤلاء سحقوا جميع العهود المؤكدة مع ربّهم ولم يعيروها أية أهمية ، فإنّهم يكذبون حتى على ربّهم ، والحديث المعروف المنقول عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يؤكّد هذه الحقيقة ، حيث

يقولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «للمنافق ثلاث علامات : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان»(1) .

ومن الملفت للنظر وجود هذه العلامات الثلاث مجتمعة في القصّة المذكورة ـ قصّة ثعلبة ـ فإنّه كذب ، وأخلف وعده ، وخان أمانة الله ، وهي الأموال التي رزقه الله

__________________

(1) مجمع البيان ، ذيل الآية.

١٣٤

إيّاها ، وهي في الحقيقة أمانة الله عنده.

وقد ورد الحديث المذكور في الكافي بصورة أشد تأكيدا عن الإمام الصادقعليه‌السلام عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث يقول : «ثلاث من كن فيه كان منافقا ، وإن صام وصلى وزعم أنّه مسلم : من إذا ائتمن خان ، وإذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف»(1) .

نذكر هنا أن من الممكن أن تصدر الذنوب المذكورة من المؤمنين ، إلّا أنّها نادرة ، أمّا استمرار صدورها فهو علامة روح النفاق في ذلك الشخص.

4 ـ وهنا ملاحظة أخرى ينبغي أن ننبه عليها ، وهي أن ما قرأناه في هذه الآيات ليس بحثا تاريخيا مختصا بحقبة مضت من الزمان ، بل هو بيان واقع أخلاقي واجتماعي يوجد في كل عصر وزمان ، وفي كل مجتمع ـ بدون استثناء ـ توجد نماذج كثيرة تمثل هذا الواقع.

إذا لا حظنا واقعنا الذي نعيشه ودققنا فيه ـ وربّما إذا نظرنا إلى أنفسنا ـ فسنكتشف نماذج من أعمال ثعلبة بن حاطب ، وطريقة تفكيره في صور متعددة وأشخاص مختلفين ، فإنّ الكثيرين في الأوضاع العادية أو عند إعسارهم وفقرهم يكونون من المؤمنين المتحرقين على دينهم والثابتين على عهدهم حيث يحضرون في الحلقات الدينية ، وينضوون تحت كل لواء يدعو إلى الإصلاح وإنقاذ المجتمع ، ويضمون أصواتهم إلى كل مناد الحق والعدالة ، ولا يألون جهدا في سبيل أعمال الخير ، ويصرخون ويقفون بوجه كل فساد.

أمّا إذا فتحت أمامهم أبواب الدنيا ونالوا بعض العناوين والمراكز القيادية أو تسلطوا على رقاب الناس ، فستتغير صورهم وسلوكهم ، والأدهى من كل ذلك أن تتبدل ماهيتهم ، وعندئذ سيخمد لهيب عشقهم لله ، ويهدأ ذلك الهيجان والتحرق على دين الله ، وتفتقدهم تلك الحلقات والجلسات الدينية ، فلا يساهمون في أية خطة إصلاحية ولا يسعون من أجل ذلك الحق ، ولا تثبت لهم قدم في مواجهة

__________________

(1) سفينة البحار ، ج 2 ، ص 607.

١٣٥

الباطل.

هؤلاء وقبل أن يصلوا الى مآربهم لم يكن لهم محل من الإعراب ، أو أثر في المجتمع ، لذا سيعاهدون الله وعباده بألف عهد وميثاق بأنّهم إن تمكنوا من الأمر ، أو امتلأت أياديهم من القدرات والأموال فسيفعلون كذا وكذا ، ويتوسلون للوصول الى أهدافهم بطرح آلاف الإشكالات والانتقادات فى حق المتصدين ويتهمونهم بعدم معرفتهم بإدارة الأمور ، وعدم إحاطتهم بوظائفهم وواجباتهم ، أمّا إذا وصلوا الى ما يرومونه وتمكنوا من الأمر ، فسينسون كل تلك الوعود والعهود ويتنكرون لها ، وستتبخر كل تلك الإيرادات والانتقادات وتذوب كما يذوب الجليد في حرارة الصيف.

نعم ، إنّ ضعف النفس هذا واحدة من العلامات البارزة والواضحة للمنافقين ، وهل النفاق إلّا كون صاحبه ذا وجهين ، وبتعبير آخر : هل هو إلّا ازدواج الشخصية؟ إن سيرة هكذا أفراد وتأريخهم نموذج للشخصية المزدوجة ، لأن الإنسان الأصيل ذو الشخصية المتينة لا يكون مزدوج الشخصية.

ولا شك أنّ للنفاق درجات مختلفة ، كالإيمان ، تماما ، فالبعض قد ترسخت فيهم هذه الخصلة الخبيثة الى درجة اقتلعت كل زهور الإيمان بالله من قلوبهم ، ولم تبق لها أثرا ، بالرغم من أنّهم ألصقوا أنفسهم بالمؤمنين وادعوا أنّهم منهم.

لكن البعض الآخر مع أنّهم يملكون إيمانا ضعيفا ، وهم مسلمون بالفعل ، إلّا أنّهم يرتكبون أعمالا تتفق مع سلوك المنافقين ، وتفوح منها رائحة الازدواجية ، فهؤلاء ديدنهم الكذب ، إلّا أن ظاهرهم الصدق والصلاح ، ومثل هؤلاء يصدق عليهم أيضا أنّهم منافقون وذوو وجهين.

أليس الذي عرف بالأمانة لظاهره الصالح ، واستطاع بذلك أن يكسب ثقة واطمئنان الناس فأودعوه أماناتهم ، إلّا أنّه يخونهم في أماناتهم ، هو في واقع الحال مزدوج الشخصية؟

١٣٦

وكذلك الذين يقطعون العهود والمواثيق ، لكنّهم لا يفون بها مطلقا ، ألا يعتبر عملهم عمل المنافقين؟

إن من أكبر الأمراض الاجتماعية ، ومن أهم عوامل تخلف المجتمع وجود أمثال هؤلاء المنافقين في المجتمعات البشرية ونحن نستطيع أن نحصي الكثير منهم في مجتمعاتنا الاسلامية إذا كنّا واقعيين ولم نكذب على أنفسنا. والعجب أنّنا رغم كل هذه العيوب والمخازي والبعد عن روح التعليمات والقوانين الإسلامية ، فإننا نحمّل الإسلام تبعة تخلفنا عن الركب الحضاري الأصيل!

* * *

١٣٧

الآيتان

( الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (80) )

سبب النّزول

وردت عدّة روايات في سبب نزول هذه الآيات في كتب التّفسير والحديث ، يستفاد من مجموعها أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قد صمّم على إعداد جيش المسلمين لمقابلة العدو ـ وربّما كان ذلك في غزوة تبوك ـ وكان محتاجا لمعونة الناس في هذا الأمر ، فلما أخبرهم بذلك سارع الأغنياء إلى بذل الكثير من أموالهم ، سواء كان هذا البذل من باب الزكاة أو الإنفاق ، ووضعوا هذه الأموال تحت تصرف النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

أمّا الفقراء ، كأبي عقيل الأنصاري أو سالم بن عمير الأنصاري ، لما لم يجدوا ما ينفقونه لمساعدة جنود الإسلام ، فقد عمدوا إلى مضاعفة عملهم ، واستقاء الماء

١٣٨

ليلا ، فحصلوا على صاعين من التمر ، فادخروا منه صاعا لمعيشتهم ومعيشة أهليهم ، وأتوا بالآخر إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقدموه ، وشاركوا بهذا الشيء اليسير ـ الذي لا قيمة له ظاهرا ـ في هذا المشروع الإسلامي الكبير.

غير أنّ المنافقين الذين لا همّ لهم إلّا تتبع ما يمكن التشهير به بدلا من التفكير بالمساهمة الجدية فإنّهم عابوا كلا الفريقين ، أمّا الأغنياء فاتهموهم بأنّهم إنّما ينفقون رياء وسمعة، وأمّا الفقراء الذين لا يستطيعون إلّا جهدهم ، والذين قدموا اليسير وهو عند الله كثير ، فإنهم سخروا منهم بأن جيش الإسلام هل يحتاج إلى هذا المقدار اليسير؟ فنزلت هذه الآيات ، وهددتهم تهديدا شديدا وحذرتهم من عذاب الله.

التّفسير

خبث المنافقين :

في هذه الآيات إشارة إلى صفة أخرى من الصفات العامّة للمنافقين ، وهي أنّهم أشخاص لجوجون معاندون وهمهم التماس نقاط ضعف في أعمال الآخرين واحتقار كل عمل مفيد يخدم المجتمع ومحاولة إجهاضه بأساليب شيطانية خبيثة من أجل صرف الناس عن عمل الخير وبذلك يزرعون بذور النفاق وسوء ظن في أذهان المجتمع ، وبالتالي إيقاف عجلة الإبداع وتطور المجتمع وخمول الناس وموت الفكر الخلّاق.

لكن القرآن المجيد ذم هذه الطريقة غير الإنسانية التي يتبعها هؤلاء ، وعرّفها للمسلمين لكي لا يقعوا في حبائل مكر المنافقين ومن ناحية أخرى أراد أن يفهم المنافقون أن سهمهم لا يصيب الهدف في المجتمع الإسلامي.

ففي البداية يقول : إنّ هؤلاء( الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ

١٣٩

أَلِيمٌ ) .

«يلمزون» مأخوذة من مادة (لمز) بمعنى تتبع العيوب والعثرات ، و «المطوّعين» مأخوذة من مادة (طوع) على وزن (موج) بمعنى الطاعة ، لكن هذه الكلمة تطلق عادة على الأفراد الذين دأبهم عمل الخيرات ، وهم يعملون بالمستحبات علاوة على الواجبات.

ويستفاد من الآية أعلاه أنّ المنافقين كانوا يعيبون جماعة ، ويسخرون من الأخرى ، ومن المعلوم أن السخرية كانت تنال الذين يقدمون الشيء القليل ، والذين لا يجدون غيره ليبذلوه في سبيل الإسلام ، وعلى هذا لا بدّ أن يكون لمزهم وطعنهم مرتبطا بأولئك الذين قدموا الأموال الطائلة في سبيل خدمة الإسلام العزيز ، فكانوا يرمون الأغنياء بالرياء ، ويسخرون من الفقراء لقلّة ما يقدمونه.

ونلاحظ في الآية التي تليها تأكيدا أشد على مجازاة هؤلاء المنافقين ، وتذكر آخر تهديد بتوجيه الكلام وتحويله من الغيبة إلى الخطاب ، والمخاطب هذه المرّة هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت :( اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ) .

وإنّما لن يغفر الله لهم لأنّهم قد أنكروا الله ورسالة رسوله ، واختاروا طريق الكفر ، وهذا الإختيار هو الذي أرداهم في هاوية النفاق وعواقبه المشؤومة( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ) . ومن الواضح أن هداية الله تشمل السائرون في طريق الحق وطلب الحقيقة ، أمّا الفساق والمجرمون والمنافقون فإنّ الآية تقول :( وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ ) .

* * *

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

وحده يعلم النتائج.

هنا لم يجد الإمام بدّاً من القبول، لكنّه اشترط أن يحدّد لابنة المأمون صداقاً مساوياً لصداق جدّته الزهراءعليها‌السلام ، وهو خمسمئة درهمٍ. ورضي المأمون.

أقام المأمون بهذه المناسبة احتفالاً عظيماً، هيّأ له جميع مظاهر الأبّهة والجلال، وأمر الخدم والحشم بارتداء الملابس الفاخرة، وراحوا يستقبلون الضيوف ويوزّعون عليهم الهدايا الثّمينة؛ ثمّ فرشت الموائد الحافلة بأفخر الطعام، وأكل الناس.

بقي الإمام يكتم سخطه من هذه المصاهرة، ومن الأعباء التي خلّفتها له، وأحسّ بتسلّط المأمون عليه، وكم كان يتمنّى لو بقي في المدينة فهو يدرك أنّ الذي فعل بالإمام الرضاعليه‌السلام ، من صنوف المكرو التّآمر ما فعل، حتى لقد اغتاله أخيراً بأسلوب جبان غادرٍ، هو نفسه المأمون الذي يصاهره الآن، ولعلّه أصبح أكثر إصراراً على المضيّ في خططه الماكرة، الرامية إلى اجتثاث أمر الإمامة من الجذور، ما دام يرى فيها خطراً جدّياً يتهدّد وجوده ومستقبله في

٢٠١

الحكم فكّر الإمام بكلّ هذا، لكنّه لم يستطع حيال الأمر شيئاً غير الصبر، وأسلم أمره لله سبحانه.

ودارت الأيام وكبرت (أمّ الفضل) وكبر الإمام، وتمّ الزواج.

عاش الإمام الجوادعليه‌السلام في بغداد مدّة من الزّمن بعد زواجه، وقد حاول المأمون جرّه إلى المجالس التي يقيمها العباسيّون، لكنّه لم ينجح، فقد حرص الإمام على تجنّبها والابتعاد عنها ما وسعه ذلك، وإذا صادف حضوره بعضها، فقد كان يستغلّ وجوده لإزجاء النّصح والموعظة الحسنة، ومناظرة أصحاب الأفكار والعقائد المنحرفة، وكانت تلك الفترة - رغم ما تخلّلها من مضايقاتٍ - فترةً هادئةً إجمالاً، انصرف فيهاعليه‌السلام إلى القيام بالإرشاد والتوجيه، إلى ما فيه صلاح الإسلام والمسلمين.

وقبل وفاة المأمون بعامٍ واحدٍ تقريباً، خرج الإمام من بغداد ترافقه زوجته قاصدين مكّة للحجّ، وبعد أداء الحجّ توجّه إلى المدينة، وبقي فيها حتى وفاة المأمون، واستلام المعتصم للحكم بعده.

الإمامعليه‌السلام والمعتصم

كان المعتصم أكثر ظلماً وجوراً من أخيه المأمون، وكان يكثر من اللّهو والشرب ورحلات الصيد، لكنّه كان يهاب الإمامعليه‌السلام ، ويخشى تأثيره على الناس، وما يلمسه من احترامهم له والتفافهم حوله، فأصرّ على استقدامه ثانيةً إلى بغداد، وذلك لنفس الأسباب التي سبقت من قبل.

خلّف الإمام في المدينة ابنه أبا الحسن عليّاً الهاديعليهما‌السلام ، بعد أن أوصى له بالإمامة من بعده، وتوجّه إلى العراق. وكان المعتصم لمّا يزل يتحيّن الفرص للتخلّص منه، يساعده في ذلك ابن أخيه جعفر بن المأمون، ويعقوب بن داود كبير فقهاء القصر، وغيرهما من الأعوان.

كان ابن داود يحقد على الإمام لأنّه يرى في وجوده تحديداً لنفوذه بين العامّة، وتهديداً لمركزه لدى المعتصم، وقد جرت بينهما مناظرات عدّة، كان ابن داود يخرج منها منهزماً أمام قوّة الحقّ والمنطق والصواب، وحدث مرّة أن أتي بسارقٍ إلى مجلس المعتصم، فطلب من الفقهاء رأيهم في كيفيّة إقامة

٢٠٢

الحدّ على السارق، فأشار عليه ابن داود أن يقطع يده من الرّسغ، وأقرّه على رأيه أكثر العلماء، بينما أشار بعضهم بقطع يد السارق من الساعد. هنا التفت المعتصم إلى الإمام يطلب رأيه، فأشار عليه بقطع أصابع اليد فقط، لأنّ قطع اليد من الرّسغ يزيل موضعاً من مواضع السجود السبعة، وهو راحة اليد.

أعجب المعتصم برأي الإمام وأخذ به، متجاهلاً آراء الفقهاء الآخرين، فعظم الأمر على ابن داود، فلأوّل مرّةٍ يهمل المعتصم فتواه ويأخذ بفتوى غيره، والإمام هو السّبب في ذلك، فصار يتحيّن الفرص للإيقاع به، واستطاع آخر الأمر أن يوغر عليه صدر المعتصم، ويوقظ عنده هاجس الخوف على الحكم، والخوف من اتّساع نفوذ العلويين، وذكّره بما كان يفعله أسلافه من العباسيّين بحقّ أهل بيت الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله فصمّم المعتصم على الغدر بالإمام، وأقدم على دسّ السمّ له في الطعام، بالطريقة الجبانة الغادرة نفسها، ويقال إنّ أداته في فعلته النكراء تلك، كانت زوجة الإمام أمّ الفضل، نظراً لما تكنّه من حقدٍ على الإمام، لتفضيله أمّ الإمام الهادي عليها. وتوفّيعليه‌السلام

٢٠٣

متأثّراً بالسمّ في اليوم السادس من ذي الحجة سنة ٢٢٠ للهجرة، وهو في ريعان شبابه، ودفن في الكاظميّة إلي جوار جدّه الإمام الكاظمعليهما‌السلام .

الأثر الطيّب

كانت حياتهعليه‌السلام صورةً عن حياة آبائه الأطهار، عاشها في أداء الرسالة وتأدية الأمانة، رغم المصاعب والشدائد التي كانت تحيط به، وقد اجتمع حوله الناس، وروى عنه الرواة عشرات الأحاديث في مختلف المواضيع. وأثرت عنه أقوال تعدّ من أبلغ الحكم والمواعظ.

قال له أحد أصحابه يوماً: يا مولاي، إنّي لأرّجو أن تكون القائم من آل بيت محمد، الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وجوراً، فقالعليه‌السلام :

ما منّا إلا قائم بأمر الله، وهادٍ إلى دين الله، ولكنّ القائم الذي يطهّر الله به الأرض من أهل الكفر والجحود، ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً، هو الذي تخفى على الناس ولادته، ويغيب عنهم شخصه، وهو الذي تطوى له الأرض، ويذلّ له كلّ صعب، يجتمع إليه من

٢٠٤

أصحابه عدّة أهل بدر، ثلاثمئةٍ وثلاثة عشر رجلاً من أقاصي الأرض. وذلك قول الله:( أينما تكونوا يأت بكم الله جميعاً، إن الله على كلّ شيءٍ قدير ) . فإذا اجتمعت له هذه العدّة من أهل الإخلاص، أظهر الله أمره، وإذا كمل له العقد وهو عشره آلاف رجل، خرج بإذن الله، فلا يزال يقتل أعداء الله، حتى يرضى الله.

ومن الأقوال المأثورة عنه قولهعليه‌السلام :

حسب المرء من كمال المروءة تركه ما لا يجمل به، ومن حيائه أن لا يلقى أحداً بما يكره ومن سخائه برّه بمن يجب حقّه عليه، وإخراجه حقّ الله من ماله، ومن إسلامه تركه ما لا يعنيه، وتجنّبه الجدال والمراء في دينه، ومن كرمه إيثاره على نفسه، ومن صبره قلّة شكواه، ومن إنصافه قبول الحقّ إذا بان له ومن شكره معرفة إحسان من أحسن إليه ومن سلامته قلّة حفظه لعيوب غيره، وعنايته بإصلاح عيوبه.

وقالعليه‌السلام : العامل بالظلم والمعين له والرّاضي به شركاء.

وقالعليه‌السلام أيضاً: من عمل بغير علمٍ كان ما يفسد أكثر مما يصلح، إيّاك ومصاحبة الشّرير، فإنّه كالسيف

٢٠٥

المسلول، يحسن منظره ويقبح أثره عز المؤمن غناه عن الناس.

وقد أحاطت كلماتهعليه‌السلام بجميع الجوانب التي تشدّ الإنسان إلى الخلق الكريم، والأدب الرفيع، والسلوك القويم، وكلّ ما يرفع من شأن الإنسان، ويوفّر له السعادة، والكرامة، في دنياه وآخرته.

لهذا ونحوه، وهب الأئمة من أهل البيتعليهم‌السلام حياتهم ووجودهم، وتحمّلوا في سبيل ذلك كلّ أنواع الظلم والجور والتّشريد، ورحلوا عن دنيا الناس بأجسادهم، وظلّوا فيها أحياء بسيرتهم ومبادئهم وتعاليمهم، التي تلهم الأجيال كلّ معاني الخير والنبل والفضيلة، في كلّ زمانٍ ومكانٍ.

٢٠٦

الإمام علي الهاديعليه‌السلام

الاسم: الإمام علي الهاديعليه‌السلام

اسم الأب: الإمام محمد الجوادعليه‌السلام

اسم الأم: سمانة

تاريخ الولادة: ١٥ ذي الحجة سنة ٢١٤ للهجرة

محل الولادة: صريا (من ضواحي المدينة)

تاريخ الاستشهاد: الثالث من رجب سنة ٢٥٤ للهجرة

محل الاستشهاد: سامرّاء

محل الدفن: سامرّاء.

(صريا) المزرعة المباركة

بسم الله الرحمن الرحيم

( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون )

كانت هذه الآية الكريمة نبراساً لأئمة الهدى ومصابيح الأمّة في سعيهم وعملهم، فقد عملوا بها وعلّموا الناس، وأرشدوهم لما فيه هدايتهم، وما فيه رضى الله ورسوله، وبيّنوا لهم شرف العمل وقيمته من خلال الارتباط بالأرض، والقيام بزراعتها وإصلاحها، كما عملوا بأيديهم في غرس الأشجار، فكانوا نموذجاً للمزارعين العاملين في رعاية الأرض والاستفادة من خيراتها. وكانت المزارع التي أنشاها الإمام الكاظمعليه‌السلام خير مثال على ذلك. فقد أنشأ عدّة مزارع منها مزرعة (صريا) بالقرب من المدينة المنوّرة، وقد تعهّدها بعده الأئمة الأطهار من ولدهعليهم‌السلام ، وقد أحب الإمام الجواد هذه المزرعة

٢٠٧

حبّاً جمّاً، وقضى فيها معظم أوقاته عاملاً ومزارعاً ومرشداً، وخصّص فيها لزوجته الثانية (سمانة) منزلاً أقامت فيه، وتحوّلت (صريا) بفضل جهوده إلى ضيعة يتردّد عليها محبّو الإمام وأنصاره، وفي هذه المزرعة ولد الهاديعليه‌السلام وأسموه عليّاً.

أمضى عليّ الهادي طفولته بهدوء إلى جوار أمّه وأبيه، وبين الفلاّحين العاملين في المزرعة، وفي أحضان الطّبيعة أطلق بواكير تأمّلاته في عظمة الخالق. لكنّ الأيام الهادئة لم تطل، فقد استقدم أبوه إلى بغداد بأمر من المعتصم العباسيّ. وغادر (صريا) مخلّفاً فيها ولده الهادي وأمّه سمانة، وكانت هذه الرحلة إلى بغداد آخر عهده بالمزرعة ومن فيها. فقد استشهدعليه‌السلام ودفن في الكاظميّة قرب بغداد، وكان قبل سفره قد أوصى بالإمامة لابنه الهاديعليهما‌السلام ، وكان للهادي من العمر ست سنواتٍ.

الإمامة

كلّف المعتصم - الحاكم العباسيّ - رجلاً يثق به بالقيام على تعليم الإمام الهادي، بغية الابتعاد به عن خطّ أهل البيت، وتقريبه من خطّ العباّسيين، وحثّه على

٢٠٨

إطاعة الحكّام والاعتراف بشرعيّتهم، غير أنّه اصطدم بما يتمتّع به الامام من ذكاء، وما رضعه من معرفةٍ امتاز بها أهل هذا البيت الكريم وتوارثوها، خلفاً عن سلفٍ، ورغم توفّر هذا الرجل على تعليم الإمام فقد فوجئ يوماً - إذ طلب منه إسماعه بعض ما علّمه إيّاه - بجواب الإمام قائلاً: بل سلني عن آياتٍ من القرآن الكريم أتلها عليك. وقد نسي هذا الرجل أو تناسى قول رسول ربّ العالمين، في حديث قدسيٍّ ردّده في مناسباتٍ كثيرةٍ:

(إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي، كتاب الله وعترتي أهل بيتي). ونسي أو تناسى أنّ أهل هذا البيت حملوا عن رسول الله علوم النبيين، وعقلوا عنه أحكام الدنيا والدين.

بقي الإمام الهادي في المدينة يمارس مهمّات الإمامة بهدوءٍ لم يخل من رقابة شديدة فرضت عليه من قبل السلطة، حتى جاوز العشرين من عمره، وقد اتّسعت شهرته، وصار القريب والبعيد يرجعون إليه في أمور دينهم، ويستعينون به على ما يعترضهم من مشاكل في أمور دنياهم.

فرن كبير

مات المعتصم العباسي، وخلفه في الحكم هارون بن محمّد، الملقّب بالواثق، وكان الواثق رجل لهو ومجون وطرب، انصرف إليها وترك أمور الحكم يصرّفها وزيره (الزّيّات)، وكان الزّيّات رجلاً قاسياً، فتح السجون لخصوم الواثق، وأنشأ في أحدها فرناً كبيراً جهّزه بمختلف آلات ووسائل التعذيب، وكان من ضحايا هذا السجن أخو الواثق نفسه، ويلقّب بالمتوكّل، وقد لقي المتوكّل الكثير من صنوف التعذيب على يدي (الزّيّات) نظراً للخلاف المستحكم بين الأخوين، ولتنافسهما الشديد على الحكم.

لم يطل حكم الواثق، فقد مات بعد حوالي ست سنواتٍ، وخلفه أخوه المتوكّل، الذي افتتح عهده بالانتقام من وزير أخيه، إذ رماه في الفرن الذي أعدّه الوزير نفسه، وكانت نهاية هذا الوزير الجبّار مصداقاً للقول: (من حفر بئراً لأخيه وقع فيها ).

الحقد على الشهداء كما على الأحياء

وبعد أن استقرّ الأمر للمتوكّل، وجّه سهام حقده نحو آل محمد سلام الله عليهم، فقد كان يكنّ لهم

٢٠٩

كرهاً شديداً، فاق فيه من سبقه من الحكّام، وقد بلغ به التعصب والحقد أن أسفر عن عدائه فأمر بهدم قبر الحسين سيّد الشهداءعليه‌السلام ، وسوّى الضريح الشريف بالتراب، وأمر بحرث الأرض وزرعها لتضيع معالمه، كما قتل عدداً كبيراً من زوّاره، لأنّ زيارة الشّهداء تؤجّج نار الثورة والغضب ضدّ الطغيان والطغاة في كلّ عصر، وتلهب المشاعر ضد الظلم والظالمين، ورغم كل تلك القسوة، بقيت قوافل الزّوار تتوافد إلى هذا المكان الشريف دون انقطاعٍ( ويأبى الله إلاّ أن يتمّ نوره ولو كره الكافرون ) .

قال أحد الشّعراء مستنكراً جريمة المتوكّل:

تالله إن كانت أميّة قد أتت

قتل ابن بنت نبيّها مظلوما

فلقد أتته بنو أبيه بمثله

فغدا لعمرك قبره مهدوما

أسفوا على ألاّ يكونوا شاركوا

في قتله فتتبعوه رميماً

يشبّه الشاعر ما فعله الأمويّون بحقّ أهل البيت من قتلٍ وسبيٍ وتشريد، بما قام به العباسيون بعدهم، من

٢١٠

هدم قبور من استشهد من الأئمة، وإلحاق الأذى بمن كان منهم حيّاً، رغم قرابتهم، وادّعائهم محبّتهم.

التفت المتوكل بعدها إلى الأحياء، فقد كان ما يصل إليه عن التفاف الناس حول الإمام الهادي يشغل تفكيره ويثير غضبه، لكنّه لم يكن يملك عليه حجةٍ يتذرّع بها، أو ذنباً يأخذه به، فرأى أن يلجأ إلى الأسلوب القديم الذي اتّبعه أسلافه، وهو أن يستقدم الإمام إليه، مدّعياً محبّته، والرّغبة في القرب منه، فكتب إليه كتاباً ملأه بالدّجل والخداع وممّا جاء فيه: أميرالمؤمنين مشتاق إليك فإن نشطت لزيارته والمقام قبله ما أحببت، شخصت ومن اخترت من أهل بيتك على مهل وطمأنينة، ترحل إذا شئت، وتنزل إذا شئت، كيف شئت فاستخر الله حتى توافي أميرالمؤمنين، فما أحد من إخوانه وولده وأهل بيته وخاصّته ألطف منك منزلةً عنده والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.

وأوفد المتوكل إلى الإمامعليه‌السلام أحد رجاله ويدعى يحيى بن هرثمة، فحمّله كتابه إليه، وأمره بتفتيش دار الإمام تفتيشاً دقيقاً، لأنّه علم أنّ الإمام يجمع السلاح والمال والرجال للثورة عليه. ولمّا دخل

٢١١

المدينة أحسّ الناس بالشرّ، وخافوا على الإمامعليه‌السلام ، لأنّهم يعرفون مشاعر المتوكّل نحو أهل البيتعليه‌السلام ، لكنّ ابن هرثمة طمأن الناس بأنّه لم يؤمر فيه بسوءٍ ولا مكروهٍ، لكنّه مع هذا دخل البيت وفتّشه، فلم يعثر فيه إلا على مصاحف وأدعيةٍ وكتبٍ علميّة.

أما الإمامعليه‌السلام فقد كان يعلم أنّ الأسلوب الهادئ الليّن، الذي خاطبه به المتوكّل في كتابه إليه، ليس إلا نفاقاً يخفي تحته ما يعلمه الجميع من شدّة عداوة المتوكّل لعليّ وآل علي، وكلّ من يتّصل بهم بنسب أو سبب، كما يعلم أيضاً أن المتوكّل لا يمكن أن يدعه آمناً في مدينة جدّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولابدّ من الاستجابة لطلبه، وهكذا كان، وتوجّه الإمام إلى بغداد مع مبعوث المتوكّل.

في الطريق إلى سامرّاء

يروي ابن هرثمة أنّهم بينما كانوا في الطريق، والسماء صاحية، والشمس طالعة، إذ وضع الإمام عليه ما يقيه المطر، فعجب ابن هرثمة لفعل الإمام، فلم تكن إلاّ هنيهة حتى جاءت سحابة، واكفهرّ الجوّ، وسقط مطر غزير. فالتفت الإمام إلى ابن هرثمة قائلاً:

٢١٢

أنا أعلم أنّك قد أنكرت ما رأيت، وتوهّمت أنّي قد علمت من الأمر ما لا تعلمه، وليس ذلك كما ظننت؛ ولكنّي نشأت بالبادية، فأنا أعرف الرياح التي يكون في عقبها المطر، فلما أصبحت، هبّت ريح شممت منها رائحة المطر، فتأهبت لذلك، وكان الأمر كما رأيت.

إنّ لأهل البيت عشرات الكرامات، وليس ذلك بغريب على من اصطفاهم الله من عباده، وجعلهم حججه على خلقه، والأدلاّء على طاعته، وهم من نذروا أنفسهم لله، واستجابوا لأمره ونهيه، وإنّ في سيرتهم، ومواقفهم من الظلم والظالمين، وتضحياتهم في سبيل الله وخير الناس، خير دليل على عظمتهم، عليهم رضوان الله وسلامه.

ويتابع يحيى ابن هرثمة روايته عن رحلة الإمام إلى سامرّاء، فيتحدّث عن وصولهم إلى بغداد (وكانت تدعى دار السلام(، فخرج الناس لاستقبالهم، يتقدّمهم إسحاق بن إبراهيم الطاهري، والي بغداد، الذي خاطب ابن هرثمة قائلاً: يا يحيى، إنّ هذا الرجل قد ولده رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والمتوكّل من تعلم، فإن حرّضته على قتله كان رسول الله خصمك، فأجابه يحيى: والله

٢١٣

ما وقفت منه إلا على كل أمرٍ جميلٍ.

يقول ابن هرثمة: صرنا إلى سامرّاء، وبدأت بوصيف التّركيّ، وكنت من أصحابه، فقال لي: (والله لئن سقطت من رأس هذا الرجل شعرة، لا يكون المطالب بها غيري.

فعجبت من توافقهما في الرّاي؛ ولمّا دخلت على المتوكّل سألني عنه. فأخبرته بحسن سيرته، وسلامة طريقه، وورعه وزهده؛ وأنّي فتّشت داره فلم أجد فيها غير المصاحف وكتب العلم، وأنّ أهل المدينة خافوا عليه لمّا وردت المدينة، وضجّوا بأجمعهم، ولم يهدأوا إلا بعد أن حلفت لهم بأنّ الأمير لا يريد به سوءاً فأكرمه المتوكّل، وأنزله في دارٍ قد أعدّها له.

ويروى أنّ المتوكّل لم يأذن للإمامعليه‌السلام بالدخول عليه، في اليوم الذي وصل به إلى سامرّاء، بل أنزله في خانٍ يعرف بخان الصّعاليك، فأقام فيه يومه، وفي اليوم الثاني أذن له بالدخول عليه، ثم أفرد له داراً ليسكن فيها.

الإمام في سامرّاء

خلال وجود الإمام في سامرّاء، كان المتوكّل يتظاهر بتعظيمه وإكرامه، لكنّه كان يراقب جميع تحرّكاته وتصرّفاته. وكان أنصار الإمام يتّصلون به في الغالب عن طريق الكتابة والمراسلة. وكان المتوكّل يستدعيه إلى مجلسه بين الحين والآخر. وكان كثيراً ما يأمر رجاله بالإغارة على دار الإمام وتفتيشها، بحثاً عن المال والسلاح، فيقابلهم الإمامعليه‌السلام بهدوءٍ وثقةٍ، ويساعدهم في التفتيش أحياناً.

ويروى في هذا المقام أن أحد رجال المتوكّل ويدعى (البطحانيّ)، وكان يضمر للإمام عداوةً شديدةً، سعى بالإمام إلى المتوكل قائلاً: إنّ عنده أموالاً وسلاحاً، فأمر المتوكل حاجبه واسمه سعيد بالهجوم على الدار ليلاً، فقصد الحاجب دار الإمام مع رجاله، وصعدوا على سطحها بواسطة سلّم أحضروه معهم، لكنّهم لم يروا طريقهم في الظلام، فنادى الإمام الحاجب قائلاً: يا سعيد، مكانك حتّى يأتوك بشمعةٍ، ثم أتوا له بشمعةٍ فنزل مع رجاله، ووجد الإمام مرتدياً جبّةً وقلنسوةً من صوفٍ، وهو متوجّه إلى القبلة للصلاة،

٢١٤

فقال لسعيدٍ: دونك البيوت، (أي الغرف أمامك ففتّشها(، وبعد التّفتيش لم يجدوا ما أتوا في طلبه من مال وسلاح، سوى بعض الكتب، فاعتذر سعيد من الإمام بحجة أنّه مأمور، فأجابهعليه‌السلام :( وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون ) .

وفي مرّة أخرى، أحضر الإمام إلى مجلس المتوكل، وكان يجلس إلى مائدةٍ وفي يده كأس من الشراب، فأجلسه إلى جانبه وقدّم له الكأس التي في يده، لكنّه طلب إعفاءه فأعفاه، غير أنّه طلب أن ينشده شعراً يستحسنه، فاعتذر ثانيةً، لكنّه ألحّ عليه ولم يقبل له عذراً، فأنشده:

باتوا على قلل الأجبال تحرسهم

غلب الرجال فما أغنتهم القلل

واستنزلوا بعد عزٍّ عن معاقلهم

فأودعوا حفراً يا بئس ما نزلوا

ناداهم صارخ من بعد ما قبروا

أين الأسرة والتيجان والحلل

أين الوجوه التي كانت منعّمةً

من دونها تضرب الأستار والكلل

٢١٥

فأفصح القبر عنهم حين ساء لهم

تلك الوجوه عليها الدّود ينتقل

قد طال ما أكلوا دهراً وما شربوا

فأصبحوا بعد طول الأكل قد أكلوا

وطالما عمروا دوراً لتحضنهم

ففارقوا الدّور والأهلين وانتقلوا

وطالما كنزوا الأموال وادّخروا

فخلّفوها على الأعداء وارتحلوا

أضحت منازلهم قفراً معطّلةً

وساكنوها إلى الأجداث قد رحلوا

يصف اللإمام في هذه الأبيات مظاهر القوّة والعظمة لدى الحكّام، ويصف قصورهم وحياتهم المترفة، ثم يصور زوال كلّ هذه النعم ونهاية أصحابها إلى القبور، تعدو عليهم الدّيدان فتأكل وجوههم وأعضاءهم، بعد أن كانوا يأكلون الناس وأموالهم. وواضح أنّ الإمامعليه‌السلام يرمي إلى عظة المتوكّل ونصحه، وردعه عن مجونه وآثامه.

أمّا المتوكّل الذي لم يكن يتوقّع من الإمام أن ينشده شعراً من هذا النوع، فقد بكى بكاءً شديداً، وأمر

٢١٦

برفع الشراب من مجلسه، واعتذر من الإمام، وودّعه مكرّماً.

لقد حاول المتوكّل إذلال الإمام أمام حاشيته، فقدّم له الشراب وهو يعلم أنّ الإمام يرى أنّ شارب الخمر كعابد الوثن، ولمّا أبى، طلب أن ينشده شعراً في وصف الخمر والجواري، ولم يكن يتوقّع أن يصفعه الإمامعليه‌السلام هذه الصفعة، أو أن يجرؤ على صبّ هذه الصّواعق عليه، لكنّه أمام هذا الوصف الرّائع للجبابرة في حياتهم وبعد موتهم، ولتلك الوجوه الناعمة الطريّة يعبث فيها الدود، لم يستطع إلاّ التّأثر بهذه الحقائق الواضحة، والبكاء من شدّة الخوف والجزع ممّا ينتظره غير بعيدٍ.

أعماله ومآثرهعليه‌السلام

انصرف الإمام الهاديعليه‌السلام إلى خدمة الإسلام الحنيف، عن طريق الدفاع عن أصوله ونشر فروعه، فناظر المشكّكين وتصدّى للمحرفين المنحرفين، بالإجابة عن أسئلتهم بالأسلوب الهادئ الرّصين، المدعوم بالحجّة والمنطق، وكانت الرّسائل تصله من مختلف أنحاء العالم الإسلاميّ، ويتلقّى

٢١٧

الأموال الشرعيّة فيصرفها في وجوهها وعلى المصالح الإسلامية العامّة.

ومن مواقفه المشهودة، موقفه من الغلوّ والغلاة، والذي اتّسم بالصّلابة والصراحة، وقد شهّر بهم واعتبرهم من المنحرفين عن الخطّ الرّساليّ. الذي دافع عنه الأئمةعليهم‌السلام بكلّ قوّةٍ.

قال لشخص أفرط في الثّناء عليه ما معناه: إنّ كثرة التّملّق تثير الظنّ والريبة، فإذا أحببت أخاك فلا تتملّقه، بل أحسن إليه عملاً ونيّةً.

ومن أقوالهعليه‌السلام : من أطاع الخالق لم يبال بسخط المخلوقين من كان على بيّنة من ربّه هانت عليه مصائب الدنيا من جمع لك ودّه ورأيه فاجمع له طاعتك، ومن هانت عليه نفسه فلا تأمن شرّه، ومن رضي عن نفسه كثر السّاخطون عليه.

وقالعليه‌السلام : المصيبة للصابر واحدة، وللجازع اثنتان. (الجازع: نقيض الصابر(. وقال أيضاً: الجهل والبخل أذمّ الأخلاق، والطمع سجيّة سيئة. والهزء فكاهة السّفهاء وصناعة الجهّال.

الشهادة

ذكرنا أنّ الإمام الهاديعليه‌السلام أقام في المدينة مع أبيه الإمام الجواد في بداية حياته، وحين بلغ السادسة من العمر توفّي أبوه، وبقى في المدينة حتى بلغ العشرين من عمره، وكان ذلك في أيّام المعتصم العباسيّ، وذكرنا أيضاً أنّ المتوكّل استقدمه إلى سامراء، وبقي فيها طيلة حكمه حتى قتل المتوكّل بيد ابنه، وخلفه من بعده المنتصر والمستعين بالله والمعتزّ، ويبدو من تاريخ حياتهعليه‌السلام ، أنّ السنين السبع التي قضاها في أيّام الحكّام الثلاثة المذكورين، كانت فترةً هادئةً، لم يشهد فيها من الوشايات والمضايقات ما شهده أيّام المتوكل، وقد اكتفى الحكّام الثلاثة بفرض الإقامة الجبريّة عليه في سامرّاء، والدليل على ذلك هو بقاؤه في سامرّاء، في حين أنّه كان دائماً يحنّ إلى مدينة جدّه المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله ولا يرضى عنها بديلاً.

والهدوء الذي نعم به في هذه الفترة، لا يعود إلى طيبة أولئك الحكّام، إنّما سببه أنّ سلطة الحكّام العباسيّين كانت قد تقلّصت وضعفت، وصار الحاكم لا يملك غير الاسم فقط، بينما غدت السلطة في أيدي

٢١٨

القوّاد الأتراك وغيرهم، فهم الذين كانوا يأمرون وينهون، ويعيّنون ويعزلون، حتى أنّهم إذا غضبوا من الحاكم نفسه، عزلوه أو قتلوه، وعيّنوا غيره؛ كما حدث للمستعين بالله، حيث عزلوه وعيّنوا مكانه المعتزّ بعد أن كان معتقلاً.

وفي عهد المعتزّ توفّي الإمام الهاديعليه‌السلام ، متأثّراً بالسمّ الذي يقال إنّ المعتزّ دسّه له في طعامه، وكالعادة أصدر القضاة وكبار رجالات القصر شهاداتهم بأنّ الإمامعليه‌السلام مات ميتةً طبيعيّةً. وعند انتشار خبر وفاته اجتمع في داره نفر كبير من الهاشميّين والعباسيّين، كما حرص رجال المعتزّ أنفسهم على حضور مأتمه والسّير في جنازته. وقد صلّى على جثمانه الطاهر ابنه أبو محمد الحسن العسكريعليهما‌السلام ، ودفن في بيته في سامراء سنة ٢٥٤ للهجرة.

جعفر الكذّاب

ترك الإمام الهاديعليه‌السلام أربعة أبناءٍ وبنتاً واحدة. أكبرهم الإمام العسكريعليه‌السلام ، وقد عرف عن أبنائه الآخرين الصّلاح والتّقوى والذّكر الطيب، غير واحدٍ منهم وهو جعفر.

٢١٩

كان جعفر سيّئ السّمعة والسيرة، يثير الفتن، وينسج الأكاذيب. حتى سمّي بجعفر الكذّاب. ويذكّرنا جعفر بابن نبي الله نوحعليه‌السلام ، فقد كان أيضاً ولداً غير صالح، وكانت نهاية جعفر إلى الإهمال، وانصراف الناس عنه، رغم أنّه ابن إمام وأخو إمام.

ومن هنا يتبيّن أنّ العمل الصّالح والتقوى هما مقياس القرب إلى الله تعالى والبعد عنه سبحانه، وأنّ النّسب وإن كان فرعاً من أصلٍ طيّبٍ طاهرٍ، فلن يفيد المرء إذا كانت سيرته غير ذلك.

وإنّ محبّتنا واحترامنا لأهل البيتعليهم‌السلام ، واتّخاذنا إيّاهم قدوةً ومثالاً، إنّما ترجع إلى سيرتهم ومواقفهم العظيمة، وما عرف عنهم من صلاح وتقوى وإيمان لم يكن لغيرهم من العالمين، وكانوا بالحقّ فروعاً طيّبةً من شجرة طيّبة مباركةٍ، طهّرها ربّ العالمين بقوله في محكم كتابه:( إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرّجس أهل البيت، ويطهركم تطهيراً ) . وصدق الله العظيم.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247