الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد الجزء ٢

الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد0%

الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام
الصفحات: 563

الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد

مؤلف: أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان العكبرى البغدادى (الشيخ المفيد)
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف:

الصفحات: 563
المشاهدات: 173100
تحميل: 8968


توضيحات:

الجزء 1 المقدمة الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 563 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 173100 / تحميل: 8968
الحجم الحجم الحجم
الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد

الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد الجزء 2

مؤلف:
العربية

باب طَرَفٍ من الأخبارِ عن مناقب أَبي جعفر عليه السلامُ

ودلائِلهِ ومُعْجِزاتِه

وكانَ المأمونُ قد شُعِفَ(١) بأَبي جعفرعليه‌السلام لمّا رَأى مِن فضلهِ مع صِغَر سنِّه، وبُلوغِه في العلمِ والحكمةِ والأَدبِ وكمالِ العقلِ ما لم يُساوِه فيه أحدٌ من مشايخ أَهلِ الزمانِ، فزوّجه ابْنَتَه أُمَّ الفضلِ وحَمَلَها معه إِلى المدينةِ، وكان مُتَوَفِّراً على إكرامِه وتعظيمِه وِإجلالِ قَدْرِه.

روى الحسنُ بن محمّد بن سليمان، عن عليّ بن إبراهيم بن هاشم، عن أَبيه، عن الريان بن شبيب قالَ: لمّا أَرادَ المأمونُ أَن يُزوِّج ابْنَتَه أمَّ الْفَضْل أَبا جعفر محمد بن عليّعليهما‌السلام بَلَغَ ذلك العباسيّين فغَلُظَ عليهم واسْتَكْبَروه، وخافُوا أَنْ يَنْتَهِيَ الأمرُ معه إِلى ما انتَهى مع الرضاعليه‌السلام فخاضوا في ذلك، واجْتَمَعَ منهم أَهلُ بيته الأدْنَونَ منه فقالوا له: ننشدُك اللّهَ - يا أَميرَ المؤمنين - (أَنْ تُقيمَ )(٢) على هذا الأمرِ الذي قد عَزَمْتَ عليه من تزويج ابن الرضا، فإنّا نخَافُ أَن يَخْرُجَ به عنّا أَمرٌ قد ملَّكَنَاهُ اللّهُ، ويُنْزَعَ مِنّا عزٌّ قد أَلبَسَناه اللهُّ وقد عَرَفْتَ ما بيننا وبين هؤلاء القوم قديماً وحديثاً، وما كان عليه الخلفاءُ الراشدون قَبْلَكَ من تبعيدهم والتصغيرِ بهم، وقد كُنّا في وَهْلةٍ من عَمَلِك مع الرضا ما عَمِلْتَ، حتى كَفانَا اللّهُ المهمَّ من ذلك، فاللّهَ اللّهَ أَنْ تَرُدَّنا إِلى غمٍّ قد

__________________

(١) شعفت به وبحبه أي غشّى الحبُّ القلب من قوقه. «القاموس - شعف - ٣: ١٥٩ ».

(٢) في هامش «ش»: أي أن لا تقيم.

٢٨١

انْحَسَرَ عنّا، واصْرِفْ رَأْيَك عن ابن الرضا واعْدِلْ إِلى مَنْ تراه من أَهل بيتك يَصْلَحً لذلك دونَ غيره.

فقالَ لهم المأمونُ: أَمّا ما بينكم وبينَ ال أَبي طالب فأَنتُمُ السَبَبُ فيه، ولو أَنْصَفْتُمُ القَوْمَ لكانَ أَولى بكم، وأَمّا ما كان يَفْعَله مَنْ كانَ قبلي بهم فقد كانَ قاطِعاً للرحِم، أَعوذ باللهِّ من ذلك، وواللّهِ ما نَدِمْتُ على ما كانَ منّي من استخلافِ الرضا، ولقد سَألته أنْ يَقوُمَ بالأمْرِ وانزَعُه عن نفسي فأَبى، وكانَ أَمْرُ اللّهِ قَدَراً مَقْدُوراً، وأَمّا أَبوجعفر محمّدُ بن عليّ فقد اخْترْته لتبريزه على كافةِ أَهْلِ الْفَضْلِ في العلمِ والْفَضْلِ مع صِغَرِ سِنِّه، والأعجُوبة فيه بذلك، وأَنا أَرْجُو أَنْ يَظْهَرَ للناسِ ما قد عَرَفْتُه منه فيَعْلَموا أَنّ الرأيَ ما رَأَيْتُ فيه.

فقالوُا: إِنَ هذا الصبي وانْ راقَكَ منه هَدْيُه، فإِنّه صبيٌّ لا معرفةَ له ولا فِقْهَ، فأَمْهِلْه ليتأَدَّبَ ويَتَفَقَّهَ في الدين، ثم اصْنَعْ ما تراه بعد ذلك.

فقالَ لهم: ويحْكُم إِنّني أَعْرَفُ بهذا الفتى منكم، وِانّ هذا من أَهل بَيْتٍ عِلْمُهم من اللّه ومَوادِّه والهامه، لم يَزَلْ آباؤه أَغنياءَ في علمِ الدينِ والأدبِ عن الرعايا الناقصةِ عن حدِّ الكمالِ، فانْ شِئْتُمْ فامْتَحِنُوا أَبا جعفرٍ بما يَتَبَيٌنُ لكم به ما وَصَفْتُ من حالِه.

قالوا له: قد رَضِيْنا لك يا أَميرَ المؤمنين ولانفُسِنا بامْتِحانِه، فخلِّ بيننا وبينه لنَنْصِبَ مَنْ يَسْأله بحَضْرَتِك عن شيءٍ من فِقْه الشريعة، فإِنْ أَصابَ في الجواب عنه لم يَكُنَْ لنا اعتراض في أَمْرِه وظَهَرَ للخاصةِ والعامةِ سَديد رَأْي أَميرِ المؤمنين، وإنْ عَجَزَ عن ذلك فقد كُفْينا الخَطْبَ في معناه.

فقالَ لهم المأمونُ: شأنَكم وذاك متى أَرَدْتُم. فخَرجوا من عنده

٢٨٢

وأَجْمَعَ رَأيهُم على مسألةِ يحيى بن أَكْثَم وهويومئذٍ قاضي القضاة(١) على أَنْ يَسْألَه مسألةً لا يَعْرِفُ الجوابَ فيها، ووَعَدوهُ باَمْوالٍ نفيسةٍ على ذلك، وعادُوا إلى المأمونِ فَسَأَلوه أَنْ يَخْتارَ لهم يوماً للاجتماع، فأَجابَهُم إلى ذلك.

واجْتَمَعُوا في اليوم الذي اتفَقوا عليه، وحَضَرَ معهم يحيى بن أَكْثَم، وأَمَرَ المأمونُ أَنْ يُفْرَشَ لأبي جعفرعليه‌السلام َدست(٢) ، وتُجْعَلَ له فيه مِسْوَرتان(٣) ، ففُعِلَ ذلك، وخَرَجَ أَبو جعفرعليه‌السلام وهويومئذٍ ابنُ تسع سنين وأشهُر، فجَلَسَ بين المِسْوَرتَيْن، وجَلَسَ يحيى بن أكثم بين يديه، وقامَ الناسُ في مَراتبِهِم والمأمونُ جالسٌ في دَست مُتَّصِل بدَست أَبي جعفرعليه‌السلام .

فقالَ يحيى بن أَكثم للمأمونِ: يَأذَنُ لي أَمير المؤمنينَ أَنْ أَسْأَلَ أَبا جعفر؟ فقالَ له المأمونُ: اسْتَأْذِنْه في ذلك، فاَقْبَلَ عليه يحيى بن أَكثم فقالَ: أَتَاْذَنُ لي - جُعِلْتُ فداك - في مَسْألَةٍ؟ فقالَ له أَبوجعفرعليه‌السلام : «سَلْ إِنْ شِئْتَ » قالَ يحيى: ما تَقولُ - جُعِلْتُ فداك - في مُحرِمِ قَتَلَ صَيْداً؟

فقال له أَبو جعفر: «قَتَلَه في حِلٍّ أَو حَرَم؟ عالماً كانَ المُحْرِمُ أَم جاهلاً؟ قَتَلَه عَمْداً أَو خَطَأ؟ حُراً كانَ المُحْرِمُ أَم عَبْدا ً؟ صَغيراً كانَ أَم كبيراً؟ مُبْتَدِئاً بالقتلِ أَمْ مُعيداً؟ مِنْ ذَواتِ الطيرِ كانَ الصيدُ أَمْ من غيرِها؟ مِنْ صِغارِ الصيد كانَ أَم كِبارِها(٤) مصُرّاً على ما فَعَلَ أَو نادِماً؟ في

__________________

(١) في « م» وهامش « ش»: الزمان.

(٢) أي جانب من البيت، وهي فارسية معرّبة.

(٣) في هامش «ش»: المسورة: متكأ من أدَم.

(٤) في «م» وهامش «ش»: كباره.

٢٨٣

الليلِ كانَ قَتْلَهُ للصيدِ أَم نَهاراً؟ مُحْرِماً كانَ بالعُمْرةِ إذْ قَتَلَه أَو بالحجِّ كانَ مُحْرِماً»؟

فتَحَيَّرَيحيى بن أَكثم وبانَ في وجهه الْعَجْزُ والانقطاعُ ولَجْلَجَ حتى عَرَفَ جمَاعَةُ أَهْلِ المجلس أمْرَه، فقالَ المأمونُ: الحمدُ لله على هذه النعمة والتوفيقِ لي في الرأْي. ثم نَظَرَ إِلى أَهْلِ بَيْتِه وقالَ لهم: أَعَرَفتمُ الآنَ ما كُنْتُم تُنْكِرُونَه؟

ثم أَقْبَلَ على أَبي جعفرعليه‌السلام فقالَ له: أَتَخْطُب يا أَبا جعفر؟ قالَ: «نعم يا أميرَ المؤمنين » فقالَ له المأمونُ: اُخْطُبْ، جُعِلْتُ فداكَ لِنَفْسِكَ، فقد رَضيتُكَ لِنَفْسي وأَنا مُزَوِّجُكَ أُمَّ الفَضْل ابَنتي وِان رَغَمَ قومٌ لذلك.

فقال أَبو جعفرعليه‌السلام : «الحمد للهّ إِقراراً بنعمتِه، ولا إِلهَ إلا اللّه إِخْلاصاً لوَحْدانِيتهِ، وصَلىّ اللّهُ على محمّدٍ سيِّدِ بَرِيَّتِه والأصْفياءِ من عترتهِ.

أَمّا بَعْدُ: فقد كانَ من فَضْل اللّه على الأنام أَنْ أَغناهُم بالحلالِ عن الحَرامِ، فقالَ سُبْحانَه:( وَأَنكَحُوا الأيَامىَ مِنْكُمْ وَألصّالحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَآئِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَليمٌ ) (١) ثمَّ إِنَّ محمّد بن عليّ بن موسى يَخْطُبُ أُمَّ الفَضْلِ بنْتَ عبداللهِّ المأمونِ، وقد بَذَلَ لها من الصداقِ مَهْرَ جَدَّتِه فاطمة بنت محمّدعليهما‌السلام وهو خمسمائة درهم جياداً، فهَلْ زَوَّجْتَه يا أَميرَ المؤمنين بها على هذا الصداقِ المذكور؟ ».

__________________

(١) النور ٢٤: ٣٢.

٢٨٤

قالَ المأمونُ: نعم، قد زَوَجْتُك أَبا جعفرأُم الفضل ابْنَتي على هذا الصداق المذكور، فهل قَبِلْتَ النكاحَ؟

قالَ أًبو جعفرعليه‌السلام : «قد قَبِلْتُ ذلك ورَضِيتُ به».

فاَمَرَ المأمونُ أَنْ يَقْعُدَ الناسُ على مَراتِبهِم في الخاصّةِ والعامّةِ.

قالَ الريان: ولم نَلْبثْ أَنْ سَمِعْنا أَصْواتاً تُشْبِهُ أَصْواتَ المَلاحينَ في مُحاوَراتهم، فإذا الخدم يَجُرُّون سفينةً مَصْنُوعةً من فِضَةٍ مَشْدُودةٍ بالحِبالِ من الإبريسم على عَجلٍ مملؤةً من الغاليةِ(١) ، فأمَرَ المأمونُ أنْ تُخْضَبَ لِحَى الخاصّة من تلك الغاليةِ، ثُمَّ مُدَّت إِلى دارِ العامّة فطُيِّبوا منها، ووُضِعَتِ الموائدُ فأكَلَ الناسُ، وخَرَجَتِ الجوائزُ إِلى كُلِّ قوم على قدرهم، فلما تَفَرَّقَ الناسُ وبَقِيَ من الخاصةِ مَنْ بَقي، قالَ المأمونُ لأبي جعفر: إِنْ رَأيتَ - جُعِلْتُ فداك - أنْ تَذْكُرَ الفِقْهَ فيما فَصلْته من وُجُوه قَتْلِ المُحْرمِ الصيدَ لِنَعْلَمَه ونَسْتَفيدَه.

فقالَ أَبو جعفرعليه‌السلام : «نعم» إِنَ المُحرمَ إذا قَتَلَ صَيْداً في الحِل وكانَ الصَيْدُ من ذواتِ الطَّيْرِ وكانَ من كِبارِها فعليه شاةٌ، فإِنْ كانَ أَصابَه في الحَرَم فعليه الجزاءُ مُضاعَفاً، وإذا قَتَلَ فَرْخاً في الحِلِّ فعليه حَمْل قد فُطِمَ منَ اللبن، وإذا قَتَله في الحرم فعليه الحمْلُ وقيمةُ الفَرْخِ، وان كانَ من الوحْشِ وكانَ حمارَ وَحْشٍ فعليَه بَقَرَةٌ، وِان كانَ نَعامةً فعليه بدنة، وإن كانَ ظَبْياً فعليه شاةٌ، فإِن قَتَلَ شَيئأ من ذلك في الحَرَمِ فعليه الجزاءُ مُضاعَفأ هَدْياً بالغَ الكعبةِ، وِاذا أَصابَ المُحْرِمُ ما يجب عليه

__________________

(١) الغالية: ضرب من الطيب مركب من مسك وعنبر وكافور ودهن البان وعود. «مجمع البحرين - غلا - ١: ٣١٩».

٢٨٥

الهَدْي فيه وكانَ إِحْرامُه للحجِّ نَحَرَه بمنى، وان كانَ إِحرامُه للعُمْرة نَحَرَه بمكّةَ. وجزاءُ الصَيْدِ على العالِم والجاهِل سواء، وفي العَمْدِ له المأثَمُ، وهو موضوعٌ عنه في الخَطَأ، والكفّارةُ على الحرِّ في نفسه، وعلى السيد في عبدِه، والصغيرُ لا كفّارةَ عليه، وهي على الكبير واجبة، والنادِمُ يَسْقُطُ بنَدمِه عنه عقابُ الآخِرَة، والمُصِرُّ يجب عليه العقابُ في الآخِرَةِ».

فقالَ له المأمونُ: أَحْسَنْتَ - أَبا جعفر - أحْسَنَ اللهُ إِليك، فإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَسْألَ يحيى عن مسألةٍ كما سَأَلك.

فقالَ أَبو جعفر ليحيى: «أَسْأَلُك؟».

قالَ: ذلك إِليك - جُعِلْتُ فداك - فإِنْ عَرَفْتُ جوابَ ما تَسْأَلُني عنه وِالا اسْتَفَدْتُه منك.

فقالَ له أَبو جعفرعليه‌السلام : «خَبِّرْني عن رجل نَظَرَ إِلى امْرأةٍ في أَوّل النهارِ فكانَ نَظَرُه إِليها حراماً عليه، فلمّا ارْتَفَعَ النهارُ حَلَتْ له، فلمّا زالَتِ الشمسُ حَرُمَتْ عليه، فلمّا كانَ وَقْتَ العصرِ حَلَّتْ له، فلما غَربتَ الشمسُ حرُمتْ عليه، فلما دَخَلَ عليه وَقْتُ العشاءِ الآخرةِ حَلَّتْ له، فلمّا كانَ انْتِصاف الليلِ حَرُمَتْ عليه، فلما طَلَعَ الفجرُ حَلَّتْ له، ما حالُ هذه المرأة وبماذا حلَتْ له وحَرُمَتْ عليه؟».

فقالَ له يحيى بن أكثم: لا واللهِ ما أَهْتَدي إِلى جواب هذا السؤالِ، ولا أعَرِفُ الوجهَ فيه، فإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُفيدَناه.

فقالَ له أَبوجعفرعليه‌السلام : «هذه أمَةٌ لرجلٍ من الناسِ نَظَرَ إِليها أجنبيٌّ في أَوّل النهارِ فكانَ نَظَرُه إِليها حراماً عليه، فلمّا ارْتَفَعَ النهار

٢٨٦

ابْتاعَها من مولاها فحلَّتْ له، فلمّا كانَ الظهرُ أَعْتَقَها فحَرُمَتْ عليه، فلمّا كانَ وَقْتُ العصرِ تَزوَّجَها فحَلَّتْ له، فلمّا كانَ وَقْتُ المغرب ظاهَرَ منها فَحرُمَتْ عليه، فلمّا كانَ وَقْتُ العشاءِ الآخرةِ كَفَّرَعن الظِهارِ فَحلَتْ له، فلمّا كانَ نصفُ الليل طَلَّقها واحدةً فَحرُمَتْ عليه، فلمّا كانَ عند الفَجْرِ راجَعَها فحلَّتْ له ».

قالَ: فاَقْبَل المأمونُ على مَنْ حَضَرَه من أَهْل بيته فقالَ لهم: هل فيكم أحدٌ يجُيبُ عن هذه المسألةِ بمِثْل هذا الجواب، أَو يَعْرفُ القولَ فيما تَقَدَّم من السؤالِ؟!
قالوُا: لا واللهِ، إن أَميرَ المؤمنين أعْلَمُ وما رَأى.

فقالَ لهم: ويَحْكم، إِنَّ أَهْلَ هذا البيتِ خُصُّوا من الخَلْقِ بما تَرَوْنَ من الْفَضلِ، وإن صِغَرَ السِنِّ فيهم لا يَمْنَعُهُمْ من الكَمالِ، أَما عَلِمْتمْ أَنَّ رسولَ اللهِصلى‌الله‌عليه‌وآله افْتَتَحَ دَعْوَتَه بدعاءِ أَميرِ المؤمنين عليِّ بن أَبي طالبعليه‌السلام وهو ابن عَشْرِ سنينَ، وقَبِلَ منه الإسلامَ وحَكَمَ له به، ولم يَدْعُ أَحَداً في سنِّه غيره. وبايَعَ الحسنَ والحسينَعليهما‌السلام وهما ابنا دونَ الستّ سنين ولُم يبايِعْ صبيّاً غيْرَهما، أَفلا تَعْلَمونَ الأن ما اخْتَصَّ اللهُ به هؤلاءِ القومَ، وأَنهُم ذريّةٌ بَعْضُها من بعضٍ، يَجْري لآخِرِهم ما يَجْري لأوَلِّهم؟!

قالوُا: صَدَقْتَ يا أَميرَ المؤمنين، ثمَّ نَهَضَ القَوْمُ.

فلمّا كانَ من الغدِ اُحْضِرَ الناسُ، وحَضَرَ أَبو جعفرعليه‌السلام ، وصارَ القُوّادُ والحُجّابُ والخاصّةُ والعُمّالُ لتَهْنِئَةِ المأمون وأبي جعفرعليه‌السلام ، فأخْرِجَتْ ثلاثةُ أَطباق من الفِضَّةِ فيها بَنادِقُ مِسكٍ

٢٨٧

وزَعْفَرانٍ معجون، في أجوافِ تلك البَنادِق رِقاع مكتوبةٌ بأَمْوالٍ جزيلةٍ وعطايا سَنِيَّة واِقطاعاتٍ، فأَمَرَ المأمونُ بنَثْرِها على القوم مِنْ خاصَتِهِ، فكانَ كُلُّ من وَقَعَ في يَدِه بُندُقة، أَخْرَجَ الرُقْعَةَ التي فيها والْتَمَسَه فاُطلِقَ له. ووُضِعَتِ البدَر، فنُثِرَ ما فيها على القُوّادِ وغيرِهم، وانْصَرَفَ الناسُ وهم أغنياءُ بالجوَائزِ والعطايا. وتَقََمَ المأْمونُ بالصدَقَةِ على كافةِ المساكين. ولم يَزَلْ مُكْرماً لأبي جعفرعليه‌السلام مُعظِّماً لقَدْرِه مدَّةَ حياتِه، يؤثرهُ على ولده وجماعةِ أَهل بَيْتِهِ(١) .

وقد رَوَى الناسُ: أَنَّ أُمَّ الفَضْلِ بنتَ المأمون كَتَبَتْ إلى أَبيها من المدينةِ تَشْكُو أَبا جعفرعليه‌السلام وتَقُولُ: إِنَه يَتَسَرّى(٢) علي ويغيرُني، فكتَبَ إِليها المأمونُ: يا بُنيّة، إنّا لم نُزَوِّجُك أَبا جعفرلتُحَرِّمي(٣) عليه حلالاً، فلا تُعاوِدي لِذكْرِ ما ذَكَرْتِ بعدَها(٤) .

ولمّا تَوَجَّه أَبو جعفرعليه‌السلام من بغداد منصرِفاً من عند المأمون ومعه أُمُّ الفضلِ قاصداً بها المدينةَ، صارَ إِلى شارع باب الكوفةِ ومعه الناس يُشَيّعونَه، فانْتهَى إِلى دار المُسيّب عند مَغيب الشمس، نَزَلَ ودَخَلَ

__________________

(١) اعلام الورى: ٣٣٥، الاحتجاج: ٤٤٣، مثله، وذكر نحوه القمي في تفسيره ١: ١٨٢، والمسعودي في اثبات الوصية: ١٨٩، والطبري في دلائل الامامة: ٢٠٦، والمصنف في الاختصاص: ٩٨، وابن الصباغ في الفصول المهمة: ٢٦٧.

(٢) السُّرّيّة: الجارية المتخذه للجماع منسوبة الى السر «القاموس ٢:٤٧، لسان العرب ٤: ٣٥٨».

(٣) في «م» وهامش «ش»: لنحرّم.

(٤) مناقب ال ابي طالب ٤: ٣٨٢، الفصول المهمة: ٢٧٠، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٥٠: ٧٩ / ٥.

٢٨٨

المسْجدَ، وكانَ في صَحْنِه نَبْقَةٌ(١) لم تَحْمِلْ بعدُ، فدعا بكوُزٍ فيه ماءٌ فتَوَضَّأ في أَصْل النَبْقَةِ فصلى بالناسِ صلاةَ المغربِ، فقَرَأَ في الأولى منها الحمد وِإذا جاء نصرُ اللهّ، وقَرَأ في الثانية الحمد وقُلْ هو الله أحد، وقَنَتَ قَبْلَ ركوعِه فيها، وصَلّى الثالثة وتشًهَّدَ وسلَّمَ، ثم جَلَسَ هُنيهَةً يَذْكُرُ اللهَ تعالى، وقامَ من غير تعقيبٍ فصَلى النوافلَ أَربَعَ ركعاتٍ، وعَقَّبَ بَعْدَها وسَجَدَ سَجْدَتَي الشُكر، ثم خَرَجَ. فلمّا انتَهى إِلى النَبْقَةِ رَآها الناسُ وقد حَمَلَتْ حَمْلاً حَسَناً فتَعجّبُوا من ذلك وأَكَلُوا منها فوَجَدُوه نَبْقاً حُلْواً لا عَجْمَ له.

وودَّعُوه ومَضىعليه‌السلام من وَقْتِه إِلى المدينةِ، فلم يَزَلْ بها إِلى أَنْ أَشْخَصَه المُعتصم في أَوّلِ سنةِ عشرين(٢) ومائتين إِلى بغداد، فأَقامَ بها حتى تُوُفّي في اخرِ ذي القعدة من هذه السنةِ، فدُفِنَ في ظَهْرِ جَدِّه أَبي الحسن موسىعليه‌السلام (٣) .

أَخْبَرَني أَبو القاسم جعفرُ بن محمد، عن محمد بن يعقوب، عن أحمدَ بن إِدريس، عن محمد بن حسّان، عن عليِّ بن خالد قالَ: كُنْتُ بالعَسْكَر(٤) فبَلَغَني أَنَ هناكَ رَجُلاً مَحْبوساً أُتي به من ناحية الشام مَكْبُولاً، وقالُوا: إِنَه تَنَبأ. قالَ: فَأَتَيْتُ البابَ ودارَيْتُ البوابينَ حتى وَصَلْتُ إِليه، فإِذا رَجُلٌ له فَهْمٌ وعَقْلٌ، فقُلْتُ له: يا هذا ما قِصَتُك؟ فقالَ: إِنّي كُنْتُ رَجُلاً بالشام أَعبُدُ اللّهَ في الموضع الذي يُقالُ: إِنّه نُصِبَ فيه رَأْسُ الحسين

__________________

(١) النبقة: النَبق - بفتح النون وكسر الباء، وقد تسكّن: ثمر السدر «النهاية - نبق - ٥: ١٠ ».

(٢) كان في النَسخ: سنة خمس وعشرين، وما أثبتناه هو الصواب بقرينة ما في ص ٢٧٣ و ٢٩ من هذا الجزء؛ وانظر: الكافي ١: ٤١١ و ٤١٦ / ١٢، تاريخ أهل البيت (ع): ٨٥.

(٣) اعلام الورى: ٣٣٨، مناقب ال ابي طالب ٤: ٣٩٠، الفصول المهمة: ٢٧٠، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٥٠: ٨٩.

(٤) العسكر: سامراء.

٢٨٩

عليه‌السلام ، فبَيْنا أَنا ذات ليلةٍ في موضعي مُقْبلٌ على المحرابِ أَذْكُرُ اللهَّ تعالى، إِذْ رَأَيْتُ شخصاً بين يَدَيَّ، فنَظَرْتُ إِليَه فقال لي: «قُمْ »، فقُمْتُ معه فمَشى بي قليلاً فإِذا أَنَا في مسجد الكوفةِ، فقالَ لي: «أتَعْرِفُ هذا المسجد؟» فقُلْتُ: نعَمْ هذا مسجدُ الكوفة، قالَ: فصَلّى فصَلَّيْتُ معه ثم انْصَرَفَ وانْصرَفْتُ معه، فمَشى قليلاً فإِذا نحن بمسجد الرسولعليه‌السلام فسلّم على رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله وصلّى وصلّيت معه، ثمَّ خَرَجِ وخَرَجْتُ فمَشى قليلاً فإِذا أَنا بمكّة، فطافَ بالبيت وطُفْتُ معه، ثم خرَجَ فمَشى قليلاً فإِذا أَنا بموضعي الذي كُنْتُ أَعْبُدُ اللّهَ تعالى فيه بالشام، وغابَ الشخصُ عن عَيني، فبَقيتُ مُتَعَجِّباً حولاً ممّا رَأَيْتُ.

فلمّا كانَ في العام المقبل رَأيْتُ ذلكَ الشخصَ فاسْتَبْشَرْتُ به، ودَعاني فأَجَبْتُه، ففَعَلَ كما فَعَلَ في العام الماضي، فلمّا أَرادَ مُفارقَتي بالشام قُلْتُ له: سأَلْتُكَ بحقّ الذي أَقْدَرَك على ما رَأَيْتُ منك إِلا أَخْبَرتَني مَنْ أَنت؟ فقالَ: «أَنا محمّدُ بن عليّ بن موسى بن جعفرِ».

فَحدّثْتُ مَنْ كانَ يَصيرُإِلَيَّ بخَبَرِه، فرُقِيَ ذلك إِلى محمد بن عبدالملك الزيّات، فبَعَثَ إِلَيَّ فأخَذَني وكَبلَني في الحديد وحَمَلَنيَ إلى العراقِ وحُبِسْتُ كما ترى، وَادُّعِيَ عَلَيَّ المحالُ.

فقُلْتُ له: فأَرْفَعُ عنك قصّةً إِلى محمد بن عبد الملك الزيّات.

فقالَ: افْعَل.

فكَتَبْتُ عنه قصةً شرًحْتُ أَمْرَه فيها ورَفَعْتُها الى محمد بن عبد الملك الزيّات، فوَقَّعَ في ظَهْرِها: قُلْ للَذي أَخْرَجَك من الشام في ليلةٍ إِلى

٢٩٠

الكوفة ومن الكوفة إِلى المدينة ومن المدينة الى مكّة ورَدَّكَ من مكّة إِلى الشام، أَنْ يُخْرِجَكَ من حَبْسِك هذا.

قالَ عليُّ بن خالد: فغَمَّني ذلك من أَمْره ورَققْتُ له وانْصَرَفْتُ مَحْزُوناً عليه. فلمّا كانَ من الغدِ باكَرْتُ الحَبْسَ لأعْلِمَهُ بالحال وآمرُه بالصبرِ والعزاءِ، فوَجَدْتُ الجُنْدَ وأَصحابَ الحَرَسِ وأَصحابَ السجنِ وخَلْقاً عظيماً من الناسِ يُهْرَعونَ، فسَأَلْتُ عن حالِهم فقيلَ لي: المحمول من الشام المُتَنَبِّى افْتُقِدَ البارحةُ من الحَبْسِ، فلا يُدْرى أخُسِفَتْ به الأرض أَو اخْتَطًفَتْه الطيرُ!

وكانَ هذا الرجلُ - أَعْني عليَّ بن خالد - زيديّاً، فقالَ بالإمامةِ لمّا رَأَى ذلك وحَسُنَ اعْتقادُه(١) .

أَخبرني أَبو القاسم جعفرُ بن محمد، عن محمد بن يعقوب، عن الحسين بن محمد، عن معلّى بن محمد، عن محمد بن عليّ، عن محمد بن حمزة، عن محمد بن عليّ الهاشمي قالَ: دخَلْتُ على أَبي جعفرعليه‌السلام صَبيحةَ عُرْسِهِ ببنتِ المأمون، وكُنت تَناوَلت من الليلِ دَواءً، فاوّل مَنْ دَخَلَ عليه في صَبيحتهِ أَنا وقَدْ أَصابَني العَطَشُ، وكَرِهْتُ أَنْ أَدْعُوَ بالماءِ، فنَظَرَ أَبو جعفرعليه‌السلام في وَجْهي وقالَ: «أَراك عَطْشان؟» قُلْتُ: أَجَلْ، قالَ: «يا غلامُ اسْقِنا ماء » فقًلْتُ في نفسي: الساعة يَأْتُونَه بماءٍ مسمومٍ واغْتَمَمْتُ لذلك، فأَقْبَلَ الغلامُ ومعه الماءُ، فتَبَسَّمَ في وَجْهي

__________________

(١) بصائر الدرجات: ٤٢٢ / ١، الكافي ١: ٤١١ / ١، دلائل الامامة: ٢١٤، الاختصاص: ٣٢٠، اعلام الورى: ٣٣٢، الخرائج والجرائح ١:٣٨٠ / ١٠، واخرج نحوه ابن الصباغ في الفصول المهمة: ٢٧١، ومختصراً في مناقب آل ابي طالب ٤: ٣٩٣، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٥٠: ٤٠.

٢٩١

ثمَّ قالَ: «يا غلامُ ناوِلني الماءَ» فتَناوَلَ الماء فشَرِبَ ثمّ ناوَلَني فشَرِبْتُ، وأَطَلْتُ عندَه فعَطِشْتُ، فدَعا بالماءِ ففَعَلَ كما فَعَلَ في المرّة الأولى فشَرِبَ ثم ناوَلني وتَبَسمَ.

قالَ محمّدُ بن حمزة: فقالَ لي محمّد بن عليّ الهاشمي: واللّهِ إنني أَظُنُّ أَنّ أَبا جعفر يَعْلَمُ ما في النفوسِ كما تَقُول الرافِضةُ(١) .

أَخْبَرَني أَبو القاسم جعفرُ بن محمد، عن محمد بن يعقوب، عن عدّةٍ من أَصحابه، عن أَحمدَ بن محمد، عن الحجّال وعمرو بن عثمان، عن رجل من أَهل المدينة، عن المُطَرِّفي قالَ: مَضى أَبو الحسن الرضاعليه‌السلام وَلي عليه أَربعةُ آلاف درهم لم يَكُنْ يَعرِفُها غَيْري وغَيْرُه، فأَرْسَلَ إلي أَبو جعفرعليه‌السلام : «إذا كان في غدٍ فَأْتِني» فأَتَيْتُه من الغدِ فقالَ لي: «مضَى أَبو الحسن ولكَ عليه أَربعةُ الاف درهمٍ؟» فقُلْتُ: نعَمْ، فرَفَعَ المُصَلّى الذي كانَ تحْتَه فإذا تحته دنانير فدَفَعها إلَيّ، فكانَ قيمتُها في الوقت أَربعةَ آلاف درهم(٢) .

أَخْبَرَني أَبو القاسم، عن محمد بن يعقوب، عن الحسين بن محمد، عن معلّى بن محمد، [ عن عليّ بن أسباط ](٣) قالَ: خَرَجَ عَلَيَّ أَبو جعفر عليه

__________________

(١) الكافي ١: ٤١٤ / ٦، دلائل الامامة:٢١٥، الخرائج والجرائح ١: ٣٧٩ / ٩، ورواه بحذف اوله ابن شهرآشوب في المناقب ٤: ٣٩٠، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٥٠: ٥٤ / ٢٨.

(٢) الكافي ١:٤١٥ / ١١، اعلام الورى: ٣٣٤، وذكره باختلاف يسير ابن شهرآشوب في المناقب ٤: / ٣٩١، ونحوه في الخرائج والجرائح١: ٣٧٨ / ٧، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٥٠: ٥٤ / ٢٩.

(٣) ما ببن المعقوفتين سقط من السند في النسخ مع انّه الراوي للخبر في المصادر، وقد نقل العلامة المجلسي في البحار الخبرعن الارشاد، وفيه: معلى بن محمد عن ابن اسباط، وهو اختصارعلي ابن اسباط كما هو المعلوم من دأبه.

٢٩٢

السلامُ ( حدثانَ مَوْتِ أَبيه )(١) فنَظَرْتُ إلى قَدِّهِ لأصِفَ قامَتَه لأصْحابي(٢) ، فقَعَدَ ثمَّ قالَ: «يا علي(٣) ، إنَّ اللهّ احْتَجَّ في الإمامةِ بمثل ما احْتَجَّ به في النُبُوَّةِ فقال:( وَآتَينَاهُ الحُكْمَ صَبِيّاً ) (٤) »(٥) .

أَخْبَرَني أَبو القاسم، عن محمد بن يعقوب، عن عليّ بن محمد، عن سهل بن زياد، عن داود بن القاسم الجعفَري قالَ: دَخَلْتُ على أَبي جعفرعليه‌السلام ومعي ثلاثُ رِقاعٍ غير مُعَنْوَنَةٍ واشْتَبَهَتْ عَلَيَّ فاغْتَمَمْتُ فتَناوَلَ إحداها وقالَ: «هذه رقعةُ رَيّان بن شبيب » ثُمَّ تناوَلَ الثانيةَ فقالَ: «هذه رقعةُ فلانٍ » فبُهِتُ أَنْظُرُ إِليه، فتَبَسَّمَ وأَخَذَ الثالثةَ فقالَ: «هذه رُقْعةُ فلان »فقلْتُ: نعَمْ جُعِلْتُ فداك.

فأَعْطاني ثلاث مائة دينار وأَمَرَني أَنْ أَحْمِلَها إِلى بعضِ بني عمّه وقالَ: «أَما إنَّه سَيَقُولُ لك: دُلَّني على حَريفٍ يَشْتَري لي بها مَتاعاً فدُلَّه عليه » قالَ: فأتيته بالدنانير فقالَ لي: يا أَبا هاشم دُلّنِي على حريفٍ يشتري لي بها متاعاً، فقُلْتُ: نعَمْ.

وكَلَّمَني في الطريقِ جَمّالٌ سَأَلَني أَنْ أُخاطِبَهُ في إِدْخالِه مع بَعْضِ

__________________

(١) في هامش «ش»: قريباً من موت ابيه.

(٢) في هامش «ش»: لاصحابنا.

(٣)كذا في «ح » لكن لم يأت فيه بعلي بن اسباط كما مرّ، والمناسب لعدم وجوده هو (يا معلى) وكان في «م» و «ش» في الاصل: يا علي، ثم صحح فيهما بـ (معلّى).

(٤) مريم ١٩: ١٢.

(٥) ذكر الخبر الصفار في بصائر الدرجات: ٢٥٨ / ١٠، والكليني في الكافي ١: ٣١٥ / ٧ و ٤١٣ / ٣، والمسعودي في اثبات الوصية: ١٨٤، والطبرسي في مجمع البيان ٣: ٥٠٦، والراوندي في الخرائج والجرائح ١: ٣٨٤ / ١٤، وابن شهراشوب في المناقب ٤: ٣٨٩، باختلاف يسير، ونقله المجلسي في البحار ٥٠: ٣٧ / ١.

٢٩٣

أَصْحابه في أُمُورِه، فدَخَلْت عليه لأكلَمَهُ فوَجَدْتُه يَأْكُلُ ومعه جماعةٌ، فلَمْ أَتمَكَّن من كلامه، فقالَ: «يا أبا هاشم كُلْ »، ووَضَعَ بين يَدَيَّ ما آكُلُ منه، ثم قالَ ابتداءً من غير مسألةٍ: «يا غلامُ اُنْظُر الجمّالَ الذي أَتانا به أَبو هاشم فضُفَه إِليك ».

قالَ أَبو هاشم: ودَخَلْتُ معه ذاتَ يوم بُسْتاناً، فقُلْتُ له: جُعِلْتُ فدِاك، إِنّي مُولَع بأَكْلِ الطينِ، فادْعُ اللّهَ لي، فسَكَتَ ثمَّ قالَ لي بعدَ أَيامٍ ابتداءً منه: «يا أَبا هاشم، قد أَذهَبَ اللهّ عنك أَكْلَ الطينِ » قالَ أَبوهاشم:فما شيءٌ أَبْغَضُ إِلَيَّ منه اليومَ(١) .

والأخْبارُ في هذا المعنى كثيرةٌ، وفيما أَثْبَتْناه منها كفايةٌ فيما قَصَدْنا له إِنْ شاءَ اللهُّ.

__________________

(١) الكافي ١: ٤١٤ / ٥، والطبرسي في اعلام الورى: ٣٣٣ عن كتاب اخبار ابي هاشم ألجعفري، والقطب الراوندي في الخرائج والجرائح ٢: ٦٦٤ - ٦٦٥ / ١ و ٢ و ٣ و ٤، وابن شهرآشوب في المناقب ٤: ٣٩٠، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٥٠: ٤١ / ٤، ٥، ٦، ٧.

٢٩٤

باب ذِكْرِ وفاةِ أبي جعفر عليه السلامُ،

ومَوْضِعَ قَبْرهِ، وذِكْرِ ولدهِ

قد تَقَدَّمَ القولُ في مَوْلدِ أَبي جعفرعليه‌السلام وذَكَرْنا أَنّه وُلِدَ بالمدينةِ، وأنه قبِضَ ببغداد.

وكانَ سَبَبُ وُروده إِليها إِشخاصَ المعتصم له من المدينة، فوَردَ بغداد لليلتين بَقِيَتا من المحرَّم من سنة عشرين ومائتين، وتُوُفَيَ بها في ذي القعدة من هذه السنة.
وقيل: إِنَّه مَضى مَسْمُوماً(١) ولم يَثْبُتْ بذلك عندي خبرفأشْهَدُ به.

ودفِنَ في مقابر قُريش في ظَهْرِ جَدِّه أَبي الحسن موسى بن جعفرعليهما‌السلام ، وكانَ له يومَ قُبِضَ خمسٌ وعشرون سنة وأَشْهُر.

وكان منعوتاً بالمْنتَجَب والمرتَضى، وخَلَّفَ بعده من الولد عليّاً ابْنَه الإمام من بعده، وموسى، وفاطمة واُمامة ابنتَيْه، ولم يُخَلِّفْ ذَكَراً غيرَ مَنْ سمّيناه.

__________________

(١) كما في تفسير العياشي ١: ٣٢٠، ونقله ابن شهرآشوب عن ابن عياش في المناقب ٤: ٣٧٩.

٢٩٥

٢٩٦

باب ذِكْرِ الإمام بعد أبي جعفر محمّد بنِ عليّ عليهما السلامُ

وتاريخ مَوْلدِه، ودلائلِ إِمامَتهِ، وطَرَفٍ من أخْبارِه،

ومُدّةِ إِمامَتهِ، ومَبْلَغِ سنِّه، وذِكْرِ وفاتِه وسَببها،

ومَوْضِعِ قَبْرِه، وعَدَدِ أولادهِ، ومُخْتصر من أخْبارِه

وكان الأمامُ بعد أَبي جعفرعليه‌السلام ابنَه أَبا الحسن عليَّ بن محمّد، لاجتماع خصال الإمامة فيه، وتكامل فَضْلِه، وأنه لا وارثَ لمقام أَبيه سواه، وثُبوتِ النصِّ عليه بالإمامةِ والإشارةِ اليه من أَبيه بالخلافةِ.

وكانَ مَولده بِصَريا(١) من المدينة للنصف من ذي الحجة سنة اثْنَتَيْ عشرة ومائتين، وتُوُفِّيَ بُسر مَن رَأَى في رجب سنة أَربع وخمسين ومائتين، وله يومئذٍ إِحدى وأَربعون سنة وأشهر. وكانَ المتوكّلُ قد أشْخَصَه مع يحيى بن هَرْثمة بن أَعْيَن من المدينة إِلى سُرَّمَنْ رأى، فأَقامَ بها حتى مَضى لسبيله. وكانَتْ مُدّةُ إِمامتِه ثلاثاً وثلاثين سنة، وأُمُّه أمّ ولدٍ يقالُ لها: سُمَانة.

__________________

(١) صريا: هي قرية اسسها موسى بن جعفرعليه‌السلام على ثلاثة اميال من المدينة. «مناقب آل أبي طالب ٤: ٣٨٢».

٢٩٧

باب طَرَفٍ من الخبر في النصٌ عليه بالإمامةِ والإشارةِ إليه بالخلافةِ

أَخْبَرَني أَبو القاسم جعفرُ بن محمد، عن محمد بن يعقوب، عن عليّ ابن إبراهيم، عن أَبيه، عن إسماعيل بن مهران قال: لمّا أُخْرجَ أَبو جعفرعليه‌السلام من المدينة إلى بغداد في الدفعة الأولة من خَرْجَتَيه قُلْت له عند خُروجِه: جُعِلْتُ فداك، إِنّي أَخافُ عليك مِنْ هذا الوجه، فإِلى مَنِ الأمْرُ بعدك؟ قالَ: فكَرَّ بوجهه إِلَيَّ ضاحكاً وقالَ: « ليس حيث(١) ظَنَنْتَ في هذه السنة»، فلمّا اسْتُدْعِيَ به إِلى المعتصم صِرْتُ إليه فقلْتُ له: جُعِلْتُ فداك، أَنت خارج، فإِلى مَنْ هذا الأمرُ من بعدك؟ فبَكى حتى اخْضَلّتْ لِحْيَته ثم الْتَفَتَ إِلَيَّ فقالَ: «عند هذه يُخافُ عَلَيَّ، الأمرُ مِنْ بعدي إِلى ابْني عليّ »(٢) .

أَخْبَرَني أَبو القاسم جعفرُ بن محمد، عن محمد بن يعقوب، عن الحسين(٣) بن محمد، عن الخيراني، عن أَبيه أَنّه قالَ: كُنْتُ أَلزمُ بابَ أَبي جعفرعليه‌السلام للخِدْمَةِ التي وُكِّلْتُ بها، وكان أحمدُ بن محمّد بن

__________________

(١) في هامش «ش» و «م»: كما.

(٢) الكافي ١: ٢٦٠ / ١، اعلام الورى: ٣٣٩، مناقب آل أبي طالب ٤: ٤٠٨، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٥٠:١١٨ / ٢، وذكر ابن الصباغ في الفصول المهمة: ٢٧٧ خروج الامامعليه‌السلام المرة الثانية من المدينة فقط.

(٣) كذا في «ح » وهو محتمل «ش»، وفي «م»: الحسن، والصواب ما أثبتناه موافقاً للكافي.

٢٩٨

عيسى الأشعريّ يجيء في السَحَر من اخِرِ كلِّ ليلة ليَتَعَرَّفَ خَبَرَعِلّةِ أَبي جعفرعليه‌السلام ، وكانَ الرسولُ الذي يَخْتَلِفُ بين أَبي جعفر وبين الخيراني إذا حَضَرَ قامَ أَحمدُ وخَلا به.

قالَ الخيراني: فَخَرَجَ ذاتَ ليلة وقامَ أحمدُ بن محمّد بن عيسى عن المَجْلِس، وخَلا بي الرسول، واسْتَدارَ أحمدُ فوَقَفَ حيثُ يَسْمَعُ الكلامَ، فقالَ الرسول: إِنَّ مولاك يَقْرَأُ عليك السلامَ، ويَقُولُ لك: «إِنّي ماضٍ، والأمْرُ صائِرٌ إلى اِبني عليٍّ، وله عليكم بعدي ما كانَ لي عليكم بعدَ أَبي ».

ثم مَض الرسولُ ورَجَعَ أحمدُ إِلى مَوْضِعهِ، فقالَ لي: ما الَّذي قالَ لك؟ قُلْتُ: خَيْراً، قالَ: قد سَمِعْتُ ما قالَ، وأَعادَ عليٌ ما سَمِعَ، فقُلْتُ له: قد حَرَّمَ اللهُّ عليك ما فَعَلْتَ، لأنَّ اللهَّ تعالى يقولُ:( وَلاَ تَجَسَّسُوا ) (١) فإِذا سَمِعْتَ فاحْفَظِ الشهادةَ لَعَلَّنا نَحْتاجُ إِليها يوماً ما، وايّاك أَنْ تُظهِرَها إِلى وقتها.

قالَ: وأَصْبَحْتُ وكَتَبْتُ نُسّخةَ الرسالة في عَشْر رِقاع، وخَتَمْتُها ودَفَعُتُها إِلى عَشرة من وُجوه أَصحابنا، وقُلْتُ: إِن حَدَث بي حَدَثُ الموت قَبْلَ أَنْ أطالِبكم بها فافْتَحُوها وَاعْمَلوا بما فيها.

فلمّا مَضى أبو جعفرعليه‌السلام لَمْ أَخْرُجْ من مَنْزلي حتى عَرَفْتُ أَنّ رؤساء العصابة قد اجْتَمَعوا عند محمّد بن الفرَج(٢) ، يتفاوَضون في الأمْرِ. وكَتَبَ إلَيَّ محمّدُ بن الفَرج يُعْلِمُني باجْتماعِهم عندَه ويقولُ:

__________________

(١) الحجرات ٤٩: ١٢.

(٢) هو محمد بن الفَرج الرُخجي من اصحاب الرضا والجواد والهاديعليهم‌السلام .

٢٩٩

لولا مخافةُ الشُهرة لَصِرْتُ معهم إليك، فاُحِبّ أَنْ تَرْكَبَ إِلَيَّ. فرَكِبتُ وصِرْتُ إِليه، فوَجَدْتُ القَوْمَ مُجْتَمعينَ عِنْدَه، فتجاريْنا في الباب(١) ، فوَجَدْتُ أَكْثَرَهم قد شَكُّوا، فقُلْتُ لمَنْ عندَه الرِقاعُ - وهم حُضورٌ -:أَخْرِجُوا تلك الرِقاعَ، فاَخْرَجُوها، فقُلْتُ لهم: هذا ما أمرْتُ به.

فقالَ بَعْضهم: قد كُنّا نحِبُّ أَنْ يَكُونَ معك في هذا الأمرِآخَرُ ليتأكَدَ القولُ.

فقُلْتُ لهم: قد أَتاكُم اللهُّ بما تُحِبُّونَ، هذا أَبو جعفرٍ الأشعريّ يَشْهَدُ لي بسماعِ هذه الرسالةِ فاسْأَلُوه، فسَأَلَه القومُ فَتَوَقَّفَ عن الشهادةِ، فدَعَوْتُه إلى المباهَلة، فخافَ منها وقَالَ: قد سَمِعْتُ ذلك، وهي مَكرمةٌ كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ تَكُونَ لرجلٍ من العربِ، فاَمّا مع المباهَلة فلا طريقَ إلى كتمان الشهادة، فلم يَبْرَحِ القومُ حتى سَلَّموا لأبي الحسنعليه‌السلام (٢) .

والأخبارُ في هذه الباب كثيرةٌ جدّاً إنْ عَمِلْنا على إثباتها طالَ بها الكتابُ، وفي إجماعِ العصابةِ على إمامةِ أَبي الحسنعليه‌السلام ، وعَدَمِ مَنْ يَدَّعيها سواه في وقته مِمَّنْ يَلْتَبِسُ الأمْرُ فيه غنىً عن إيراد الأخْبارِ بالنصوصِ على التفصيلِ.

__________________

(١) في هامش «ش»: الباب: صاحب السرّ الذي يتوصل إلى الامام به.

(٢) الكافي ١: ٢٦٠ / ٢، اعلام الورى:٣٤٠، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٥٠: ١١٩ / ٣.

٣٠٠