المرأة العظيمة قراءة في حياة السيِّدة زينب بنت علي عليهما السلام

المرأة العظيمة  قراءة في حياة السيِّدة زينب  بنت علي عليهما السلام12%

المرأة العظيمة  قراءة في حياة السيِّدة زينب  بنت علي عليهما السلام مؤلف:
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 312

المرأة العظيمة قراءة في حياة السيِّدة زينب بنت علي عليهما السلام
  • البداية
  • السابق
  • 312 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 125274 / تحميل: 8611
الحجم الحجم الحجم
المرأة العظيمة  قراءة في حياة السيِّدة زينب  بنت علي عليهما السلام

المرأة العظيمة قراءة في حياة السيِّدة زينب بنت علي عليهما السلام

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

بابه: باب زينب بنت الزهراء(٢٤) .

وكان عبد الله بن جعفر منقطعاً إلى عمّه أمير المؤمنينعليه‌السلام ، ثمّ إلى الحسنَينعليهما‌السلام ، وله في الجمل وصفّين والنهروان ذِكْر مشهور.

وأشار ابن عبد ربّه الأندلسي إلى أنّ عبد الله بن جعفر كان كاتباً لعمّه الإمام علي فترة خلافته(٢٥) .

ويقول السيد الخوئي (قده) عن شخصيّة عبد الله بن جعفر:

جلالة عبد الله بن جعفر الطياّر بن أبي طالب بمرتبة لا حاجة معها إلى الإطراء. وممّا يدلّ على جلالته أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام كان يتحفّظ عليه من القتل، كما كان يتحفّظ على الحسن والحسينعليهما‌السلام ومحمّد بن الحنفيّة(٢٦) .

أمّا عدم خروجه مع الحسينعليه‌السلام إلى كربلاء فقد قيل:

إنّه كان مكفوف البصر، ولمّا نُعي إليه الحسين، وبلغه قتْل ولدَيه (عون ومحمّد) كان جالساً في بيته، ودخل عليه الناس يعزّونه فقال غلامه أبو اللسلاس: هذا ما لقينا من الحسين. فحذفه عبد الله بنعله، وقال له: يابن اللخناء أللحسين تقول هذا، والله لو شهدتُه لَمَا فارقتُه حتّى أُقتل معه، والله إنّهما لمِمّا يسخى بالنفس عنهما: ويهوّن عليّ المصاب بهما أنّهما أُصِيْبَا مع أخي وابن عمّي مواسِيَيْنِ له صابِرَين معه.

ثمّ إنّه أقبل على الجلساء فقال: الحمد لله اعزز عليّ بمصرع الحسين إنْ لم أكنْ واسيتُ الحسين بيدي فقد واسيتُه بِوُلْدِي(٢٧) .

بقي أنْ نشير إلى عبد الله بن جعفر قد تزوّج في حياة السيّدة زينب بنساء

____________________

(٢٤) مقاتل الطالبيِّين: الأصفهاني: ص ٩١ - ٩٢.

(٢٥) العقد الفريد: الأندلسي: ج ٤، ص ١٦٤.

(٢٦) معجم رجال الحديث: السيّد الخوئي: ج ١٠، ص ١٣٨.

(٢٧) المصدر السابق: ص ٨٨.

١٠١

أخريات منهنّ: الخوصاء بنت حفصة بن ثقيف بن ربيعة من بني بكر بن وائل، ومنها وَلَدُهُ محمّد الشهيد في كربلاء، وكذلك أخوه عبيد الله الذي ذكرتْ بعضُ المصادر أنّه الشهيد الثالث من أولاد عبد الله بن جعفر في كربلاء(٢٨) .

تلك هي بعض الملامح والمعالم من حياة عبد الله بن جعفر، قرين السيّدة زينب وشريك حياتها.

وقد تُوفّي سنة (٨٠ ه ) أو أربع أو خمس وثمانين، في خلافة عبد الملك بن مروان، وصلّى عليه السجّاد أو الباقرعليهما‌السلام وأمير المدينة يومئذٍ أبان بن عثمان بن عفّان، والذي أَبَّنَهُ بقوله: كنتَ والله خيراً لا شرّ فيك، وكنتَ والله شريفاً واصلاً براً(٢٩) .

____________________

(٢٨) في رحاب السيّدة زينب: بحر العلوم: ص ٣٦.

(٢٩) زينب الكبرى: جعفر النقدي: ص ٩٠.

١٠٢

أولاد السيِّدة زينب:

مَن يتأمّل نضال السيِّدة زينب وأدوارها الرساليّة العظيمة يكاد يغفل عن أنّ لها أبناءً، كانت تتحمّل مسؤوليّة رعايتهم وتربيتهم، لتكون العقيلة زينبعليها‌السلام قدوة كاملة متكاملة للمرأة المسلمة الطموحة، والتي تقوم بكل الأعباء والمهام العائليّة المنزليّة والدينيّة الاجتماعية، ولنتعرّف الآن على ثمرات فؤادها وفلذّات كبدها:

١ - عون بن عبد الله بن جعفر:

كان مع أمّه زينب في صحبة خاله الإمام الحسين، وقد نال شرف الشهادة في كربلاء، وفجعتْ به أُمّه زينب إلى جنب فجائعها الأخرى. وقد برز إلى ساحة الجهاد، فجعل يُقاتل قتال الأبطال وهو يرتجز:

إنْ تنكروني فأنا ابن جعفر

شهيد صدق في الجنان أزهر

يطير فيها بجناح أخضر

كفى بهذا شرفاً في المحشر

وتمكّن الشاب البطل مِن قتل ثلاثة فوارس، وثمانية عشر راجلاً. ثمّ ضربه

١٠٣

عبد الله بن قطنة الطائي النبهاني بسيفه فقتله.

وقد ورد ذكر عون في الزيارة الواردة في الناحية المقدّسة، أي عن الإمام الثاني عشر المهدي المنتظرعليه‌السلام حيث قال: (السلام على عون بن عبد الله بن جعفر الطيار في الجنان، حليف الإيمان، ومنازل الأقران، الناصح للرحمن، التالي للمثان، لعن الله قاتله عبد الله بن قطنة النبهاني)(٣٠) .

٢ - محمّد:

وقد ذكره العديد من الباحثين في حياة السيّدة زينب، ك-:

- السبط ابن الجوزي في (تذكرة الخواص، ص ١١٠)(٣١) .

- وذكره السيّد الهاشمي في كتابه (عقيلة بني هاشم، ص ٣٦).,

- والدكتورة بنت الشاطئ في (السيّدة زينب، ص ٥٠).

- والشيخ محمّد جواد مغنية (مع بطلة كربلاء، ص ٣٦).

- و م. صادق (زينب وليدة النبوّة والإمامة، ص ٦٢) وكُتّاب آخرون.

ولكن يبدو أنّ لعبد الله بن جعفر ولداً آخر اسمه محمّد من زوجة أخرى هي (الخوصاء من بني بكر بن وائل )، وقد استشهد مع الإمام الحسينعليه‌السلام في كربلاء، ممّا سبّب الاشتباه عند بعض الباحثين، فاعتبروا ولدَي عبد الله بن جعفر الشهيدَين بكربلاء اعتبروهما ولدي السيّدة زينبعليها‌السلام ، لكنّ التحقيق يثبت أنّ (عوناً ) فقط هو ابن السيّدة زينب، أمّا أخوه محمّد فهو ابن ضرّتها (الخوصاء)، كما نصّ على ذلك الباحثون حول شهداء كربلاء(٣٢) .

٣ - عبّاس:

ذكر المؤرّخون اسمه دون الإشارة إلى شيء من حياته وسيرته.

____________________

(٣٠) بحار الأنوار: ج٤٥، ص٦٨.

(٣١) المصدر السابق: ص ١٢٨.

(٣٢) يُراجَع: (إبصار العين في أنصار الحسين) للشيخ محمّد السماوي: ص ٤٠، و(حياة الإمام الحسين): للشيخ باقر شريف القرشي: ج ٣، ص ٢٥٩.

١٠٤

٤ - علي:

المعروف بالزينبي، وفي نسله الكثرة والعدد، وفي ذرِّيَّته الذيل الطويل والسلالة الباقية، وهو كما في (عمدة الطالب) أحد أرجاء آل أبي طالب الثلاثة.

وفي (تاج العروس) مادّة (زينب):

(والزينبيّون بطن من وُلد علي الزينبي بن عبد الله الجواد بن جعفر الطيّار، نسبةً إلى أُمِّه زينب بنت سيّدنا عليرضي‌الله‌عنه ، وأُمّها فاطمةرضي‌الله‌عنه ، وولد علي هذا أحد أَرْحَاءِ آل أبي طالب الثلاثة)(٣٣) .

ويقول عنه السيّد الهاشمي:

وأمّا علي بن عبد الله فهو المعروف بالزينبي، نسبةً إلى أُمّه زينب بنت عليعليهما‌السلام ذكروا(٣٤) أنّه كان ثلاثة في عصر واحد بني عم، يرجعون إلى أصل قريب، كلّهم يُسمّى عليّاً، وكلّهم يصلح للخلافة، وهم: (علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب(السجّاد)، وعلي بن عبد الله بن العبّاس، وعلي بن عبد الله بن جعفر الطيّار )، ولكنّ إمام المسلمين وقتئذٍ كان السجّاد زين العابدين، يعظّمه القريب والبعيد، وتعنّوا له كبار المسلمين، وقد تزوّج علي بن عبد الله بن جعفر، لبابة بنت عبد الله بن عبّاس (حبر الأُمّة)، وكان نسل عبد الله بن جعفر منه، والسادة الزينبيّة كثيرون في: (العراق، وفارس، ومصر، والحجاز، والأفغان، والهند )، وقد جعل الله البركة في نسل هذه السيّدة الطاهرة، وطيّب سلالتها (٣٥) .

وقال ابن عنبة:

كان علي الزينبي يُكنّى أبا الحسن، وكان سيّداً كريماً(٣٦) .

وقد ألّف الحافظ جلال الدين السيوطي (٨٤٩ - ٩١١ ه-) رسالة حول ذُرِّيَّة السيِّدة زينب، سمّاها: (العجاجة الزرنبية في السلالة الزينبيّة )(٣٧) .

____________________

(٣٣) زينب الكبرى: جعفر النقدي: ص ١٢٧.

(٣٤) نقل ذلك الأزورقاني من كتاب: (المصابيح): لأبي بكر الورّاق.

(٣٥) عقيلة بني هاشم: الهاشمي: ص ٤٠.

(٣٦) عقيلة الطهر والكرم: موسى محمّد علي: ص ١١٤.

(٣٧) مجلّة (الموسم): ص ٨٥٨.

١٠٥

٥ - أُمّ كلثوم:

أم كلثوم: وهي البنت الوحيدة كما يبدوا للسيّدة زينب، ولا بدّ وأنّها قد ورثتْ شمائل أُمِّها، وتحلّتْ بمكارم أخلاق أبيها؛ ولذلك تسابق الخاطبون لطلب يدها، وكان من جملتهم معاوية بن أبي سفيان، خطبها أيّام سلطته لولده يزيد، وكلّف واليه على المدينة مروان بن الحكم أنْ يخطبها من أبيها ليزيد بن معاوية، فقال أبوها عبد الله بن جعفر: إنّ أمرها ليس إليّ، إنّما هو إلى سيّدنا الحسين وهو خالها. فأخبر الحسين بذلك، فقال: (أستخير الله تعالى اللهمّ وفّق لهذه الجارية رضاك من آل محمّد.

فلمّا اجتمع الناس في مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أقبل مروان حتّى جلس إلى الحسينعليه‌السلام وقال:

إنّ أمير المؤمنين معاوية أمرني بذلك، وأنْ أجعل مهرها حكم أبيها بالغاً ما بلغ، مع صلح ما بين هذَين الحَيَّيْن، مع قضاء دَيْنِه، واعلم أنّ مَن يغبطكم بيزيد أكثر مِمَّن يغبطه بكم، والعجب كيف يستمهر يزيد وهو كفؤ مَن لا كفؤ له، وبوجهه يستسقي الغمام، فردّ خيراً يا أبا عبد الله.

فقال الحسين : (الحمد لله الذي اختارنا لنفسه، وارتضانا لدينه، واصطفانا على خلقه.

ثم قال : يا مروان قد قلتَ فسمعنا.

أمّا قولك: مهرها حكم أبيها بالغاً ما بلغ، فلعمري لو أردنا ذلك ما عدونا سُنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في بناته ونسائه وأهل بيته، وهو اثنتا عشرة أوقيّة يكون اربعمائة وثمانين درهماً.

وأمّا قولك: مع قضاء دين أبيها، فمتى كنّ نساؤنا يقضين عنّا ديوننا؟

١٠٦

وأمّا صلح ما بين هذَين الحَيَّين، فإنّا قوم عاديناكم في الله، ولم نكن نصالحكم للدنيا، فلعمري لقد أعيا النسب فكيف السبب؟

وأمّا قولك: والعجب كيف يستمهر يزيد؟ فقد استمهر مَن هو خير من يزيد، ومِن أبي يزيد، ومِن جدّ يزيد!

وأمّا قولك: إنّ يزيد كفؤ مَن لا كفؤ له، فَمَنْ كان كفوه قبل اليوم فهو كفؤه اليوم ما زادتْه إمارتُه في الكفاءة شيئاً.

وأمّا قولك: وجهه يستسقى به الغمام: فإنّما كان ذلك وجه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وأمّا قولك: مَن يغبطنا به أكثر مِمَّن يغبطه بنا، فإنّما يغبطنا به أهل الجهل ويغبطه بنا أهل العقل.

ثمّ قال عليه‌السلام : فاشهدوا جميعاً إنّي قد زوّجت أُمّ كلثوم بنت عبد الله بن جعفر مِن ابن عمّها القاسم بن محمّد بن جعفر، على أربعمائة وثمانين درهماً، وقد نحلتها ضيعَتَين بالمدينة - أو قال أرضي العقيق - وإنّ غلّتها بالسنة ثمانية آلاف دينار ففيهما لهما غنى إنْ شاء الله تعالى).

فتغيّر وجه مروان، وقال:

أَرَدْنَا صِهْرَكُم لِنَجِد وُدّاً

قَد أخلقه بِهِ حَدَثُ الزَمَانِ

فَلَمّا جِئْتُكُم فَجَبهْتُمُونِي

وَبُحْتُم بِالضَمِيْرِ مِن الشَنَانِ

فأجابه ذكوان مولى بني هاشم:

أَمَاطَ اللهُ عَنْهُم كُلّ رِجْسٍ

وَطَهَّرَهُم بِذَلِكَ فِي المَثَانِي

فَمَالَهُم سِوَاهُم مِنْ نَظِيْرٍ

وَلاَ كُفْؤٍ هُنَاكَ وَلاَ مُدَانِي

أَتَجْعَلُ كُلَّ جَبَّارٍ عَنِيْدٍ

إِلَى الأَخْيَارِ مِنْ أَهْلِ الجِنَانِ(٣٨)

____________________

(٣٨) زينب الكبرى: جعفر النقدي: ص ١٢٩.

١٠٧

١٠٨

مع أبيها علي

١٠٩

١١٠

طبيعي أنْ تنشدّ البنت لأبيها وتتعلّق به، وخاصّةً إذا ما فقدتْ البنتُ أُمَّها، فسيصبح أبوها حينئذٍ هو المنبع الوحيد للعاطفة والحنان والرعاية تجاهها.

وفي علاقة السيّدة زينب بأبيها علي بن أبي طالب هناك عامل إضافي، يتمثّل في الصفات والسمات النفسيّة والأخلاقيّة التي يتمتّع بها الإمام علي، والتي تفرض حبّه وعشقه وإكباره على كلّ مَنْ الْتَقَى به أو عاشره أو سمع عنه.

بل إنّ أيَّ واحدة من سوابقه ومناقبه لَحَرِيَّةٌ بإخضاع النفوس والقلوب لمكانته وجلالته، كما يقول أبو الطفيل: قال بعض أصحاب النبي:لقد كان لعلي من السوابق ما لو أنّ سابقه منها بين الخلائق لَوَسَعَتْهُم خيراً (١) .

ومَن عرف عليّاً أو تعرّف عليه فلم يهيمن حبّ علي على قلبه، فذلك دلالة على انحراف في طبعه وخلل في ذاته.

____________________

(١) أُسْد الغابة في معرفة الصحابة: ابن الأثير: ج ٣، ص ٥٩٨.

١١١

وهل يكره الخير عاقل؟!

أو هل يبغض النور سويّ؟

لذلك قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله للإمام علي : (لا يحبّك إلاّ مؤمن، ولا يبغضك إلاّ منافق)(٢) .

وقال أبو سعيد الخدري : كنا نعرف المنافقين - نحن معاشر الأنصار - ببغضهم علي بن أبي طالب(٣) .

وحتّى ألدّ خصومه وأعدائه معاوية بن أبي سفيان، لم يستطع كتمان إعجابه بشخصيّتهعليه‌السلام ، حيث قال لمّا بلغه قَتْله:

ذَهَبَ الفِقْه والعِلْم بموت ابن أبي طالب.

فقال له أخوه عتبة : لا يسمع هذا منك أهل الشام؟

فقال له : دعني عنك(٤) .

وحينما وصف ضرار بن ضمرة شخصيّةَ الإمام علي بمحضر معاوية بعد وفاة الإمام، بكى معاويةُ ووكفتْ دموعه على لحيته ما يملكها، وجعل ينشّفها بكمّه، وقد اختنق القوم بالبكاء، وقال معاوية:

رحم الله أبا الحسن والله كذلك، فكيف حزنك عليه يا ضرار؟ قال: حزن مَن ذُبح ولدُها بحجرها فهي لا ترقأ عبرتُها ولا يسكن حزنها(٥) .

وإذا كانت شخصيّة علي تأسر حتّى قلوب أعدائه - فضلاً عن أصحابه وأتباعه - فما هو مدى تأثير شخصيّته على ابنته القريبة منه والمتعلّقة به؟

____________________

(٢) المصدر السابق: ص ٦٠٢.

(٣) المصدر السابق: ص ٦٠٧.

(٤) أئمّتنا: علي دخيّل: ج ١، ص ٩١.

(٥) المصدر السابق: ص ٩٢.

١١٢

نحاول في السطور التالية أنْ نقتطف من ذاكرة التاريخ ما سجّلته من صور ولقطات عن تلك العلاقة الإيمانيّة الإنسانيّة الحميمة، بين السيّدة زينب وأبيها الإمامعليهما‌السلام ؛ لنرى كيف عاشتْ السيّدة زينب في ظلّ أبيها:

* الحفاظ على مهابة زينب وصونها:

حدّث يحيى المازني قال:

كنت في جوار أمير المؤمنينعليه‌السلام في المدينة مدّة مديدة وبالقرب من البيت الذي تسكنه زينب ابنته، فلا والله ما رأيتُ لها شخصاً ولا سمعتُ لها صوتاً، وكانت إذا أرادتْ الخروج لزيارة جدّها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله تخرج ليلاً، والحسن عن يمينها، والحسين عن شمالها، وأمير المؤمنين أمامها، فإذا قربتْ من القبر الشريف سبقها أمير المؤمنينعليه‌السلام فأخمد ضوء القناديل.

فسأله الحسن مرّة عن ذلك؟

فقال : (أخشى أنْ ينظر أحدٌ إلى شخص أختك زينب)(٦) .

* سيّدةُ بيتِ أبيها:

تزوّج الإمام عليعليه‌السلام بعد فقد الزهراءعليها‌السلام أكثر من زوجه، لكنّ أيّاً من زوجاته لم تكن لتأخذ مكان السيّدة زينب وموقعها في بيت أبيها، فهي سيّدة البيت بما تمثّله من امتداد لأُمّها الزهراء وبما تمتلكه من صفات ومؤهّلات، وبما تتمتّع به من محبّة واحترام متبادل مع أبيها وأخوَيها الحسنَين.

____________________

(٦) زينب الكبرى: جعفر النقدي: ص ٢٢.

١١٣

وحتّى بعد زواجها بابن عمّها عبد الله بن جعفر، فإنّها لم تنقطع عن بيت أبيها، ولم تشغلْها التزاماتها الزوجيّة والعائليّة عن أداء دورها المميّز في بيت علي.

يقول السيّد بحر العلوم:

ورغم أنّ زينب عاشتْ في بيت الزوجيّة، لكنّ الزواج لم يشغلْها عن تحمّل مسؤوليات بيت أبيها علي، فهي بنت الزهراء، وحفيدة خديجة، وتحمّل المسؤوليّة من خصال ربّات هذا البيت. وزينب عقيلة بني هاشم، وسيّدة البيت العلوي، وزعيمتْ القوم، رغم أنّها تزوّجتْ، وانتقلتْ إلى بيت ابن جعفر، إلاّ أنّها لم تتخلَّ عن المسؤوليّة، لتدير بيت أبيها، وتهتمّ بشؤون أخوَيها، وتصبح المسؤولة عنهم أوّلاً وآخراً(٧) .

وتقول بنت الشاطئ:

ولم يفرّق الزواج بين زينب وأبيها وإخوتها، فقد بلغ مِن تعلّق الإمام علي بابنته وابن أخيه أنْ أبقاها معه، حتّى إذا وَلِيَ أمر المسلمين وانتقل إلى الكوفة، انتقلا معه، فعاشا في مقرّ الخلافة، موضع رعاية أمير المؤمنين وإعزازه، ووقف عبد الله بجانب عمّه في نضاله الحربي، فكان أميراً بين أُمراء جيشه في صفّين.

وعرف الناس مكانة عبد الله من بيت النبوّة، فكانوا يلتمسون لديه الوسيلة إلى أمير المؤمنين، والى ولدَيه الحسن والحسين، فلا يردّ له طلب ولا يخيب رجاء.

جاء في (الإصابة: ج ٤ ص ٤٨) نقلاً عن محمّد بن سيرين:

أنّ دهقاناً من أهل السواد كلّم ابن جعفر في أنْ يكلّم عليّاً في حاجة، فكلّمه، فقضاها، فبعث إليه الدهقان أربعين ألفاً فردّها قائلاً: إنّا لا نبيع معروفاً(٨) .

____________________

(٧) في رحاب السيّدة زينب: بحر العلوم: ص ٣٧.

(٨) السيّدة زينب: عائشة عبد الرحمان بنت الشاطئ: ص ٥٠.

١١٤

* في موكب أبيها إلى الكوفة:

بعد أنْ اختارتْه جماهير الأمّة حاكماً وخليفة، وبايعه الناس برغبتهم واختيارهم، وبشكل لا شبيه له في تاريخ المسلمين، وذلك في شهر ذي الحجة سنة (٣٥ ه- ) في أعقاب مقتل الخليفة عثمان بن عفّان.

قرّر الإمام علي الانتقال إلى الكوفة لمواجهة التطوّرات السياسيّة، حيث نكث بعض مبايعيه بيعته ك- (طلحة، والزبير )، واستقطبوا معهم السيّدة (عائشة ) زوج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، واتّخذوا البصرة بؤرة لتمرّدهم عليه، كما كان معاوية يعبّئ أهل الشام ضدّ خلافة الإمام.

وكان الإمام مدركاً لِمَا ينتظره من أوضاع خطيرة في عاصمة خلافته الجديدة (الكوفة )، ولكنّه قرّر أنْ يصطحب معه ابنته زينب، فهو يريدها إلى جانبه في الظروف الحساسة والحرجة، وهي تصعب عليها مفارفة أبيها والابتعاد عنه.

وهكذا ودّعت السيّدة زينب مسقط رأسها ومرتع طفولتها ومثوى جدّها وأُمّها المدينة المنوّرة، ورافقتْ أباها في رحلته إلى الكوفة بمعيّة زوجها عبد الله بن جعفر.

ويصف الشيخ النقدي ظروف سفر السيِّدة زينب في موكب أبيها بقوله:

سافرتْ زينب هذه السفرة وهي في غاية العز، ونهاية الجلالة والاحتشام، يسير بها موكب فخم رهيب من مواكب المعالي والمجد، محفوف بأبّهة الخلافة، محاط بهيبة النبوّة، مشتمل على السكينة والوقار، فيه أبوها الكرّار أمير المؤمنين، وإخوتها، الحسنان سيِّدا شباب أهل الجنّة، وحامل الراية العظمى (محمّد بن الحنفيّة )، وقمر بني هاشم (العبّاس بن علي )، وزوجها الجواد (عبد الله بن جعفر )، وأبناء عمومتها (عبد الله بن عبّاس، وعبيد الله ) وأخوتهما، وبقيّة أبناء (جعفر الطيار، وعقيل بن أبي طالب )، وغيرهم من فتيان بني هاشم، وأتباعهم من رؤساء القبائل، وسادات العرب، مدجَّجين بالسلاح، غاصّين في الحديد، والرايات ترفرف على رؤوسهم،

١١٥

وتخفق على هاماتهم، وهي في غبطة وفرح وسرور(٩) .

* مدرستها العلميّة:

لم تكن دار علي في الكوفة مجرّد مركز للسلطة والحكم، ولا كان وجوده الشريف منحصراً في شخصيّته ودوره كحاكم وقائد، بل كانت داره مركز إشعاع للمعرفة والفكر، وكان دوره في التوجيه الروحي الفكري لا يقلّ عن دوره في الزعامة السياسيّة الاجتماعيّة.

ولكي تنتشر المعرفة في جميع أوساط المجتمع، وحتّى لا يحرم أحد من حقّه في الثقافة والوعي، عَهَدَ الإمام علي إلى ابنته العقيلة زينب أنْ تتصدّى لتعليم النساء، وأنْ تبثّ المعرفة والوعي في صفوفهنّ.

فكانت العقيلة زينب تفسّر لهنّ القرآن الكريم، وتروي لهنّ أحاديث جدّها المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأخبار أُمّها الزهراءعليها‌السلام ، وتوجيهات أبيها المرتضىعليه‌السلام .

فقد ورد أنّه كان لها مجلس في بيتها أيّام إقامة أبيهاعليه‌السلام في الكوفة، وكانت تفسّر القرآن للنساء، وقد دخل عليها أبوها ذات يوم وهي تفسّر بداية سورة الكهف وسورة مريم( كهيعص ) (١٠) (١١) .

____________________

(٩) زينب الكبرى: جعفر النقدي: ص ٩٢.

(١٠) سورة مريم: الآية: ١.

(١١) زينب الكبرى: جعفر النقدي: ص ٣٦.

١١٦

* امتيازات الخلافة والحكم:

الوصول إلى سِدّه الخلافة والحكم يعني الحصول على الامتيازات والمكاسب المادِّيَّة والسياسيّة والاجتماعيّة، فالحكم تتمركز بيده القوّة وتكون تحت تصرّفه الثروة والإمكانات، فيعيش في أعلى درجة من الراحة والرفاه، وتنعم عائلته وأقرباؤه وأعوانه بصنوف النِعَم والامتيازات، من مناصب وإقطاعات وعطاءات وهِبَات.

هذا ما ينقله التاريخ لنا من تلاعب الحكّام الأمويّين والعبّاسيين وغيرهم في الماضي بثروات الأُمّة، وبناء القصور بها، والاستيلاء على الأراضي، واكتناز الثروات، وبسْط الموائد الفاخرة.

فقد كان شباب بني مروان أيّام حكمهم يرفلون في الوشي كأنّهم الدنانير الهرقْليّة، وكان مروان بن أبان بن عثمان يلبس سبعة أقمص كأنّها درج، بعضها أقصر من بعض، وفوقها رداء عدني بألفَي درهم، أمّا نساؤهم فقد كنّ يلبسْنَ الديباج والحرير(١٢) .

____________________

(١٢) حياة الإمام الباقر: باقر شريف القرشي: ج ٢، ص ١٥١.

١١٧

ولمّا تزوّج مصعب بن الزبير بعائشة بنت طلحة، أمهرها بألف ألف درهم، وأهدى لها ثماني حبّات من اللؤلؤ، قيمتها عشرون ألف دينار، وكانتْ تحجّ ومعها ستون بغلة، عليها الهوادج والرحائل(١٣) .

وكان معاوية بن أبي سفيان يقول : الأرض لله، وأنا خليفة الله، فما آخذ من مال الله فهو لي، وما تركتُه كان جائزاً لي(١٤) .

وكتب معاوية إلى زياد بن أبيه عامله على العراق : أنْ يصطفي له الصفراء والبيضاء، فأوعز زياد إلى عمّاله بذلك، وأمرهم أنْ لا يقسموا بين المسلمين ذهباً ولا فضّة(١٥) .

وكذلك كان الحال لدى حكام بني العباس : فقد ورد أنّ هارون الرشيد كان يُنفق كلّ يوم على موائد طعامه عشرة آلاف درهماً، وربّما اتّخذ له الطبّاخون ثلاثين لوناً من الطعام(١٦) .

وقد شُغف هارون الرشيد بالجواهر والأحجار الثمينة : فاشترى خاتماً بمائة ألف دينار، وكان عنده قضيب زمرّد أطول من ذراع، وعلى رأسه تمثال طائر مِن ياقوت أحمر لا تقدير لثمنه؛ نظراً لنفاسته، وقد قُيّم الطائر وحده بمائة ألف دينار(١٧) .

ويتحدّث التاريخ عن ترف وإسراف زوجته زبيدة : فقد اشترتْ غلاماً ضرّاباً على العود مجيداً، بثلاثمائة ألف درهم، واتّخذتْ الخفاف - الأحذية - المرصّعة بالجوهر تلبسها في قصرها، واتّخذتْ سبحة من يواقيت رمّانيّة كالبنادق، اشترتْها بخمسين ألف دينار. وصنعتْ لها بساطاً من الديباج جَمَع صورةَ كلّ حيوان مِن جميع الأجناس، وصورة كلّ طائر من الذهب وأَعْيُنُها من يواقيت وجواهر، يُقال إنّها أَنفقتْ عليها نحواً من ألف ألف دينار، واتّخذت آلِهَ من الذهب المرصّع

____________________

(١٣) المصدر السابق: ص ١٥٢.

(١٤) حياة الإمام موسى بن جعفر: باقر شريف القرشي: ج ١، ص ٣٠١.

(١٥) المصدر السابق: ص ٣٠١.

(١٦) المصدر السابق: ج ٢، ص ٣٩.

(١٧) المصدر السابق: ص ٤٦.

١١٨

بالجوهر، والثوب من الوشي الرفيع يزيد ثمنه على خمسين ألف دينار(١٨) .

ولم تقتصر مظاهر البذخ وحياة الترف على الخلفاء والحاكمين وعوائلهم ، بل شملتْ وزراءهم وأعوانهم، فقد كانت لأمّ جعفر الوزير البرمكي للعبّاسيين مائة وصيفة، لباس كلّ واحدة وحليّها خلاف لباس الأُخرى وحُلِيِّها(١٩) .

هكذا يعيش الخلفاء ونساؤهم وعوائلهم، فكيف كان يعيش علي بن أبي طالب مع نسائه وعائلته أيّام خلافته؟ وماذا نالتْ ابنته زينب من امتيازات الخلافة والحكم، وهي كبرى بنات الخليفة، وحبيبة قلبه، وسيّدة بيته؟

* لنستعرض بعض ما ينقله لنا التاريخ عن حياة علي أثناء خلافته، لنرى الظروف والأوضاع التي عايشتْها السيّدة زينب في ظلّ خلافة أبيها، في الجانب الحياتي المادّي:

كان علي يوزّع ما في بيت المال أُسبوعيّاً كلّ جمعة، ثمّ يكنس بيت المال وينضحه بالماء، ثمّ يصلّي فيه ركعتَين ويقول: (اشهد لي يوم القيامة أنّي لم أحبس فيك المال على المسلمين)(٢٠) .

وعن الشعبي قال:

دخلتُ الرّحبة وأنا غلام في غلمان، فإذا أنا بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب على صرّتَين من ذهب وفضّة، فقسّمه بين الناس حتّى لم يبقَ منه شيء، ورجع ولم يحمل إلى بيته منه شيئاً، فرجعتُ إلى أبي،فقلتُ : لقد رأيتُ خيرَ الناس أو أحمق الناس.

قال : ومَن هو يا بُنَي؟

قلت : رأيتُ أميرَ المؤمنين عليّاً، فقصصتُ عليه الذي رأيتُه يصنع.

فبكى وقال :

____________________

(١٨) المصدر السابق: ص ٤٨.

(١٩) المصدر السابق: ص ٥٠.

(٢٠) الغارات: أبو إسحاق الثقفي (المتوفَّى: ٢٨٣ ه-): ج ١، ص ٤٩.

١١٩

يا بُنَي، بل رأيتَ اليوم خيرَ الناس(٢١) .

وعن أبي رجاء يزيد بن محجن:

أنّ عليّاً أخرج سيفاً له إلى السوق فقال: (مَن يشتري منّي سيفي هذا؟ فوالذي نفسي بيده لو أنّ معي ثمن إزار لما بعته!)

قال أبو رجاء: فقلتُ: يا أمير المؤمنين أنا أبيعك إزاراً وأُنْسِئُك ثَمَنَه إلى عطائك.

فبعتُه إزاراً إلى عطائه، فلمّا قبض عطاءه أعطاني حقّي(٢٢) .

وعن سويد بن غفلة قال:

دخلتُ على أمير المؤمنينعليه‌السلام فإذا بين يديه قعب لبن، أجد ريحه من شدّة حموضته، وفي يده رغيف ترى قشار الشعير على وجهه، وهو يكسره ويستعين أحياناً بركبته، وإذا جاريته فضّة قائمة على رأسه، فقلتُ لها: يا فضّة أَمَا تتّقون الله في هذا الشيخ؟ لو نخلتم دقيقه.

فقالت : إنّا نكره أنْ يؤجر ونأثم، وقد أخذ علينا أنْ لا ننخل له دقيقاً ما صَحِبْنَاهُ.

فقال علي : (ما يقول؟

قالتْ : سَلْهُ.

فقلتُ له : ما قلتُ لها: لو ينخلون دقيقك.

فبكى، ثمّ قال : بأبي وأُمّي مَن لم يشبع ثلاثاً متوالية مِن خبز برّ حتّى فارق الدنيا، ولم يُنخَل دقيقه - يعني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله )(٢٣) .

____________________

(٢١) المصدر السابق: ص ٥٤.

(٢٢) المصدر السابق: ص ٦٣.

(٢٣) المصدر السابق: ص ٨٧.

١٢٠

وعن الإمام جعفر بن محمّد قال : (أُتي - عليٌّ - بخبيص فأبى أنْ يأكله.

قالوا : تحرّمه؟

قال : لا ولكنّي أخشى أنْ تتوق إليه نفسي.

ثمّ تلا :( أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا ) (٢٤) (٢٥) .

هكذا كانت السيّدة زينب ترى حياة أبيها الخليفة، وكانت سياسة أبيها تنعكس بالطبع على حياتها،

فقد رُوي أنّ زوجها عبد الله بن جعفر أصابتْه حاجة وهو ثَرِيٌّ لكنّه يُنفق أمواله كَرَمَاً وَجُوْدَاً:

فجاء إلى عمّه أمير المؤمنين علي ليطلب منه معونة من بيت المال، وعبد الله عزيز على قلب عمّه، وهو زوج ابنته العزيزة الأثيرة زينب، فبماذا أجابه علي؟

لنقرأ نصّ الرواية:

قال عبد الله بن جعفر بن أبي طالب لعلي : يا أمير المؤمنين لو أمرتَ لي بمعونة فوالله ما عندي إلاّ أنْ أبيع بعض علوفتي.

وفي رواية : إلاّ أنْ أبيع دابّتي.

قال له علي :( لا والله ما أجد لك شيئاً إلاّ أنْ تأمر عمّك أنْ يسرق فيعطيك! ) (٢٦) .

فعليٌّ لا يجد لابن أخيه العزيز وزوج ابنته العزيزة عطاءً أكثر من حصّته المقرّرة كسائر المسلمين، ويعتبر أي عطاء إضافي نوعاً من السرقة من بيت المال!

____________________

(٢٤) المصدر السابق: ص ٩٠.

(٢٥) سورة الأحقاف: الآية: ٢٠.

(٢٦) الغارات: أبو إسحاق الثقفي: ج ١، ص ٦٦.

١٢١

وقال الإمام محمّد الباقر عليه‌السلام : (إنّ عليّاً وَلِيَ الخلافة خمس سنين وما وضع آجرة ولا لبنة على لبن، ولا أقطع قطيعاً، ولا أورث بيضاء ولا حمراء)(٢٧) .

وقصّة أخرى ينقلها التاريخ تحكي عن وضع بنات الإمام علي وعائلته أثناء خلافته، وكيف أنّهم لم يستفيدوا أيّ شيء مادّي من امتيازات الخلافة والسلطة:

عن علي بن أبي رافع قال : كنتُ على بيت مال علي بن أبي طالب وكاتبَه، وكان في بيت المال عقد لؤلؤ.

قال : فأرسلتْ إليّ بنتُ علي بن أبي طالبعليه‌السلام فقالتْ لي: بلغني أنّ في بيت مال أمير المؤمنين عقد لؤلؤ وهو في يدك، وأنا أحب أنْ تُعِيْرَنِيْهِ أتجمّل به في أيّام عيد الأضحى.

فأرسلتُ إليها، وقلتُ : عارية مضمونة يا ابنة أمير المؤمنين؟

فقالتْ : نعم، عارية مضمونة مردودة بعد ثلاثة أيّام.

فدفعتُه إليها.. وإنّ أمير المؤمنين رآه عليها فعرفه، فقال لها: (من أين صار إليك هذا العقد؟

فقالتْ : اسْتَعَرْتُهُ من ابن أبي رافع، خازن بيت مال أمير المؤمنين؛ لأتزيّن به في العيد ثمّ أَرُدُّهُ.

قال : فبعث إليّ أمير المؤمنين فجئتُه، فقال: أَتَخُون المسلمين يابن أبي رافع؟

فقلتُ : معاذ الله أنْ أخون المسلمين.

قال : كيف أعرتَ بنت أمير المؤمنين العقدَ الذي في بيت مال المسلمين بغير إذني ورضائي؟

فقلتُ : يا أمير المؤمنين إنّها ابنتك، وسألتْني أنْ أعيرها إيّاه تتزيّن به، فأعرتُها

____________________

(٢٧) علي من المهد إلى اللحد: القزويني: ص ١٤٠.

١٢٢

إيّاه عاريةً مضمونة مردودة، وضمنتُه في مالي، وعليّ أن أردّه مسلّماً إلى موضعه.

فقال : ردّه مِن يومك، وإيّاك أنْ تعود لِمِثْلِ هذا فتنالك عقوبتي، ثمّ أولى لابنتي لو كانت أخذتْ العقد على غير عارية مضمونة مردودة لكانتْ أذن أوّل هاشميّة قطعتُ يَدَهَا في سرقةٍ.

قال : فبلغ مقالتُه ابنتَه، فقالتْ له: يا أمير المؤمنين أنا ابنتُك وبضعةٌ منك فَمَنْ أحقّ بلبسه منّي؟

فقال لها أمير المؤمنين : يا بنت علي بن أبي طالب لا تذهبي بنفسك عن الحق، أَكُلُّ نساء المهاجرين تتزيّن في هذا العيد بمثل هذا؟

قال ابن أبي رافع : فقبضتُه منها ورددتُه إلى موضعه(٢٨) .

من كانت تلك البنت؟ هل هي زينب؟ أَمْ إحدى أخواتها؟ لعلّها لم تكن زينب؛ لأنّ تقواها ومعرفتها بسياسة أبيها تمنعها من ذلك.

والمهم أنْ نعرف أنّ زينب لم تنلْ من امتيازات الخلافة والحكم شيئاً، حتّى بمقدار سدّ عوز وحاجة بيتها، أو في حدود استعارة شيء من بيت المال كعارية مضمونة مردودة.

____________________

(٢٨) بحار الأنوار: المجلسي: ج ٤٠ ص ٣٣٨.

١٢٣

١٢٤

* من بيتها انطلق إلى الشهادة:

لقد واكبتْ السيّدة زينب حوالي ثلثي عمر أبيها وحياته:

- فحينما وُلدتْ في السنة الخامسة للهجرة كان عمر أبيها (٢٨ سنة).

- وعاصرتْه وهو يتقلّب بين المعارك والحروب في عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

- ثمّ عايشتْ معه مصيبة فَقْد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله والأحداث التي تَلَتْهَا، من مصادرة حقّه في الخلافة.

- ومِن ثَمّ انعزاله وانكفاؤه لفترة في منزله، وخاصّةً عند فقْد شريكة حياته الزهراءعليها‌السلام .

- ورافقتْ أباها حينما تولّى الخلافة والحكم، وصحبتْه إلى الكوفة.

- وبالتالي عايشتْ الظروف الصعبة القاسية التي مرت بأبيها فترة السنوات الخمس، من تمرد الناكثين والمارقين والقاسطين، حيث اضطرّ الإمام علي لخوض ثلاث معارك مؤلمة:

١ - معركة الجَمَل:

حيث تحالفت السيّدة عائشة بنت أبي بكر زوج رسول الله مع طلحة بن عبد الله التيمي، والزبير بن العوّام ابن عمّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، تحالفتْ معهما للتمرّد على سلطة الإمام علي، وكانا قد بايعاه، فسارتْ معهما إلى

١٢٥

البصرة تُحرّض الناس ضدّ الإمام وتدعوهم لقتاله تحت شعار المطالبة بدم الخليفة عثمان، واحتشد معها (ثلاثون ألف مقاتل )، وقد سعى الإمام وحاول التفاوض والحوار معهم لإعادتهم إلى جادّة الحقّ والشرعيّة، لكنّهم أصرّوا على القتال والمواجهة، فزحف إليهم الإمام علي في (عشرين ألف مقاتل )، ودارتْ بين الطرفين معركة حامية الوطيس تكشّفتْ عن سقوطحوالي ( ١٨ ألف قتيل( ١٣ ألف من أصحاب الجمل )، و(٥ آلاف من أصحاب علي )، وقُتل طلحة والزبير في المعركة، وعُقر الجمل الذي كانت تمتطيه عائشة، وسُمِّيَتْ المعركة باسمه. وكان ذلك في يوم الخميس العاشر من جمادي الثانية سنة(٣٦ ه-).

٢ - معركة صِفِّين:

من عهد الخليفة عمر بن الخطّاب كان معاوية والياً على الشام، وقد ازداد نفوذه وصلاحيّاته أيّام ابن عمّه الخليفة عثمان بن عفّان، وقد علم أنّ الإمام عليّاً لنْ يُقرّه على منصبه، ولنْ يفسح له المجال ليلعب كما يحلو له وكما كان في العهد السابق، إضافة إلى ما يعتمل في نفسه من حقد وعداء للإمام علي؛ لذلك رفض بيعة الإمام وأعلن التمرّد وشجّعه على ذلك ما أقدمتْ عليه عائشة وطلحة والزبير، فعبّأ أهل الشام وما حولها وقاد منهم جيشاً لَجِبَاً، يبلغ عدد مقاتليه (٨٥ ألف جندي ).

وزحف معاوية بجيشه إلى منطقة يُقال لها صفّين قرب الرقة، حيث استقبله الإمام بجيش قوامه تسعون ألفاً، ولم تُجْدِ محاولات الإمام في الموعظة والإرشاد والتفاوض والحوار شيئاً؛ لذلك نشبتْ المعركة في أوّل يوم من ذي الحجّة سنة (٣٦ ه-)، أي بعد حوالي خمسة أشهر من معركة الجمل، وانتهتْ في (١٣ شهر صفر - سنة ٣٧ ه-) عبر قضيّة التحكيم المشهورة، وبعد أنْ تساقط من المسلمين (٧٠ ألف قتيلاً )، و(٤٥ ألف من جيش معاوية )، و(٢٥ ألفاً من معسكر الإمام علي )، من بينهم خيار أصحاب الإمام وأحبّته كعمّار بن ياسر وهاشم المرقال.

١٢٦

٣ - معركة النَهْرَوَان:

لقد قَبل الإمام علي بالتحكيم بعد رفع المصاحف من قِبل أهل الشام، مضطرّاً لرغبة أكثريّة أتباعه في ذلك، لكنّ طائفة من جيشه غيّروا رأيهم بعد ذلك ورأوا أنّ القبول بالتحكيم كان خطأ كما هو رأي الإمام علي في البداية، وطالبوا الإمام:

- بالتراجع.

- ونقض نتيجة التحكيم.

- والاعتراف بأنّه كان مخطئاً في موقفه.

وشكّلوا لهم تجمّعاً مضادّاً منشقّاً على الإمام، وبدأوا يثيرون الفتنة، ويمارسون الإرهاب، فبعث لهم الإمام الرسل والوسطاء المفاوضين حتّى يرتدعوا عن غَيِّهم وردّ على إشكالاتهم وشُبَهِهِمْ مراراً في خطبه وأحاديثه، فلمّا أصرّوا على البَغْي وممارسة الإرهاب، زحف عليهم الإمام بجيشه في منطقة (النهروان ) بين بغداد وحلوان، وكانوا (أربعة آلاف رجل )، تراجع منهم ألف ومائتان بعد خطب الإمام ومحاولاته لهدايتهم، أمّا الباقي فقد بادروا إلى الحرب ورمَوا معسكر الإمام بالنبال، فحمل عليهم الإمام بجيشه وأبادهم ولم يفلتْ منهم إلاّ أقل من عشرة أشخاص.

وتُعرَف هذه الواقعة بواقعة الخوارج، وقد حصلتْ بعد شهور قلائل من انتهاء واقعة صفّين وفي نفس سنة (٣٧ ه-).

لقد كانت هذه المعارك مؤلمة جدّاً لنفس الإمام وموجِعة لقلْبه، إنّه كان يحمل للأمّة منهج إنقاذ وخلاص، ويخطّط لتطبيق العدل والمساواة والحرِّيَّة، وأنْ يُكمل مسيرة الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله في بناء خير أُمّة أُخْرِجَتْ للناس، لكن الانتهازيّين والمصلحيّين والحاقِدين والجُهَلاَء عرقلوا برنامجه الطَموح، ووضعوا العقبات الكأداء في طريقه اللاحب، وأضاعوا على الأمّة والبشريّة جمعاء فرصة ذهبيّة تاريخيّة.

وأصبح علي يقلّب كفّيه حسرةً على واقع الأمّة المُؤسف، ويجترّ آهاته وآلامه؛ لفقده خيرة أصحابه في تلك المعارك المفروضة عليه، ولمّا أصاب معسكره وجمهوره مِن تعب وتردُّد وتقاعس، ولممارسات معاوية الاستفزازية التخريبيّة بغاراته على البلدان الخاضعة لحكم الإمام.

١٢٧

ولم تكن السيّدة زينب بعيدة عن الآم أبيها ومعاناته، فهي تسمعه أو يَبْلغها عنه ما كان يخطب به جمهوره على منبر الكوفة، وهو يصرخ فيهم موبّخاً معاتباً يستثير همهم ويستنهض حميّتهم قائلاً:

يا أشباه الرجال ولا رجال !

حلوم الأطفال، عقول ربّات الحجال!

لوددتُ أنّي لم أَرَكُم وَلَمْ أَعْرِفْكم مَعْرِفَةً والله جرّت ندماً، وأعقبت سدما!

قاتلكم الله!

لقد ملأتم قلبي قيحاً وشحنتم صدري غيظاً، وجرّعتموني نُغَبَ التهمام أنفاساً، وأفسدتُم عليّ رأيي بالعصيان والخذلان..)(٢٩) .

ويأتيه خبر إحدى غارات معاوية وعبثه وفساده في منطقة الأنبار، فيمتلئ قلبُه حزناً وأَلَمَاً لِمَا أصاب الناس الآمنين من بَطْش جيش معاوية، ويتمنّى الموت ولا يراه كثيراً أمام تحمّل هذه الآلام والمآسي، وتسمع زينب أباها وهو يبثّ همومه ومعاناته قائلاً:

(ولقد بلغني أنّ الرجل منهم -من جيش معاوية - كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة، فينتزع حِجْلها وقلبها، وقلائدها ورعثها، ما تمتنع منه إلاّ بالاسترجاع والاسترحام.

فلو أنّ امرءاً مسلماً مات مِن بعد هذا أسفاً ما كان به ملوماً، بل كان به عندي جديراً!

فياعجباً! عجباً والله يميت القلب ويجلب الهم)(٣٠) .

ويبلغها عن أبيها موقفه على مصارع خُلّص أصحابه في صفّين كعمّار بن ياسر

____________________

(٢٩) نهج البلاغة: الإمام علي: الخطبة رقم: ٢٧.

(٣٠) المصدر السابق.

١٢٨

وهاشم المرقال، وهو يتضجّر من الحياة ويتمنّى الموت، وينشد باكياً:

أَلاَ أيّها الموت الذي لستَ تَارِكِي

أَرِحْنِي فَقَد أَفْنَيْتَ كُلَّ خَلِيْلِ

أَرَاكَ بَصِيْرَاً بِالذِيْنَ أُحِبُّهُم

كَأَنَّكَ تَنْحُو نَحْوَهُمْ بِدَلِيْلِ

لقد اشتدّتْ محنة الإمام وأحاطتْ به الآلام، فصار يستعجل الرحيل عن هذه الدنيا وأهلها، ويتشوّق إلى لقاء الله، لكن عبر أفضل سبيل وأسرع طريق وهو الشهادة، فهو يكره مغادرة الحياة بموت بارد ساذج، ويرغب العروج إلى الله متوشّحاً برداء الشهادة مضمّخاً بدمها الطاهر.. أَوَ لَيْسَ هو القائل:

- (إنّ أكرمَ الموت القتلُ).

- (والذي نفس ابن أبي طالب بيده، لأَلْف ضَرْبَةٍ بالسيفِ أَهْوَنُ عَلَيَّ مِن مِيْتَةٍ عَلَى الفِرَاشِ فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللهِ)(٣١) .

وهو الذي كان يدعو ربّه قائلاً: (اللهمّ... فارْزُقْنَا الشهادة)(٣٢) .

بالطبع كان عشق علي وشوقه للشهادة عميقاً في نفسه منذ أيّام شبابه، ولم يكن شيئاً مستجدّاً طارئاً على نفسه بعد أنْ كبرتْ سِنّه واشتدّتْ معاناته، وهذا ما يؤكّده الإمام حين ينقل إحدى ذكرياته مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فيقول:

(فقلتُ: يا رسول الله، أَوَليس قد قلتَ لي يوم أُحُد حيث استشهد مَن أستشهد من المسلمين، وحِيْزَتْ عنّي الشهادة، فشقّ ذلك عليّ، فقلتَ لي: أبشر فإنّ الشهادة من ورائك؟

فقال لي: إنّ ذلك لكذلك، فكيف صبرك إذن؟

فقلتُ: يا رسول الله، ليس هذا من مواطن الصبر ولكن من مواطِن البُشرى

____________________

(٣١) المصدر السابق: الخطبة رقم: ١٢٣.

(٣٢) المصدر السابق: الخطبة رقم: ١٧١.

١٢٩

والشكر)(٣٣) .

وحانت ساعة اللقاء.. واقترب موعد الرحيل. ودنتْ لحظة الفوز بالشهادة التي طالما انتظرها الإمام.. كان ذلك في فجر ليلة التاسع عشر من شهر رمضان المبارك (سنة ٤٠ ه- ).

وشاء القدر أنْ يكون علي تلك الليلة ضيف ابنته زينب، وأنْ ينطلق للشهادة من بيتها.. وتسجّل لنا روايات التاريخ بعض اللقطات عن تلك الليلة الخطيرة والساعات الحسّاسة في بيت العقيلة زينب، فقد كان الإمام يفطر في شهر رمضان (ليلة عند الحسن، وليلة عند الحسين، وليلة عند عبد الله بن جعفر زوج زينب ابنته لأجلها )(٣٤) .

وكانت ليلة التاسع عشر من رمضان حيث يتناول الإمام إفطاره عند ابنته زينب كما تُشير إلى ذلك بعض روايات (بحار الأنوار )، وإنْ كانت بعض الروايات تقول إنّه كان عند ابنته أُمّ كلثوم، وحسب تحقيقات العلاّمة الشيخ جعفر النقدي فإنّه غالباً ما يطلق على زينب الكبرى أُمّ كلثوم في لسان الروايات(٣٥) .

ولاحظتْ السيّدة زينب أنّ أباها تلك الليلة كان في وضع استثنائي، وحال لم تعهده منه، تقول:

لم يزل أبي تلك الليلة قائماً وقاعداً وراكعاً وساجداً، ثمّ يخرج ساعة بعد ساعة يقلّب طَرْفه في السماء وينظر الكواكب وهو يقول: (والله ما كَذبتُ ولا كُذِبْتُ وإنّها الليلة التي وُعدتُ بها... هي والله الليلة التي وعدني بها حبيبي رسول الله).

____________________

(٣٣) المصدر السابق: الخطبة رقم: ١٥٦.

(٣٤) بحار الأنوار: المجلسي: ج ٤١، ص ٣٠٠.

(٣٥) زينب الكبرى: جعفر النقدي: ص ١٧ / ١٨ / ٢٥ / ٣٨.

١٣٠

ثمّ يعود إلى مصلاّه ويقول: (اللّهمّ بارك لي في الموت، اللّهم بارك لي في لقائك)، ويكثر من قول: (إنّا لله وإنّا إليه راجعون)، و (لا حولَ ولا قوّةَ إلاّ بالله العليّ العظيم)... ويستغفر الله كثيراً.

تقول السيّدة زينب : فلمّا رايتُه في تلك الليلة قلقاً متململاً كثير الذكر والأستغفار، أرقت معه ليلتي.. وقلتُ: يا أبتاه مالي أراك هذه الليلة لا تذوق طعم الرقاد؟ يا أبا مالك تنعى نفسك؟

قال : (بنيّة قد قرب الأجل وانقطع الأمل).

قالتْ : فبكيتُ.

فقال لي : (يا بنيّة لا تبكي، فإنّي لم أقل لك ذلك إلاّ بما عهد إليّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ).

ثمّ إنّه نعس وطوى ساعة، ثمّ استيقظ من نومه، وقال: (يا بُنَيّة إذا قرب الأذان فاعلميني...)، ثمّ رجع إلى ما كان عليه أوّل الليل من الصلاة والدعاء والتضرّع إلى الله سبحانه وتعالى.

قالت : فجعلتُ أرقب الأذان، فلمّا لاح الوقت أتيتُه ومعي إناء فيه ماء، ثمّ أيقظتُه، فأسبغ الوضوء، وقام ولبس ثيابه، وفتح بابه ثمّ نزل إلى الدار، وكان في الدار أوزٌ قد أُهْدِيْنَ إلى أخي الحسينعليه‌السلام ، فلمّا نزل خرجْنَ وراءه وَرَفْرَفْنَ، وصِحْنَ في وجهه، ولم يَحْدُث ذلك من قَبل، فقالعليه‌السلام : (لا اله إلاّ الله، صوارخ تتبعها نوائح وفي غداة غد يظهر القضاء).

فقلتُ : يا أبتاه هكذا تتطيّر؟

قال : (يا بنيّة ما منّا أهل البيت مَن يتطيّر ولا يُتَطَيّر به، ولكنْ قول جرى على لساني).

ثمّ قال : (يا بنيّة بحقّي عليك إلاّ ما أطلقتيه، وقد حبستِ ما ليس له لسان، ولا يقدر على الكلام، إذا جاع أو عطش، فأطعميه واسقيه، وإلاّ خلّي سبيله يأكل من

١٣١

حشائش الأرض).

فلمّا وصل إلى الباب فعالجه ليفتحه، فتعلّق الباب بمئزره فانْحَلّ مئزره حتّى سقط، فأخذه وشدّه وهو يقول:

أُشْدُد حَيَازِيْمَكَ لِلْمَوْتِ

فَإِنَّ المَوْتَ لاَقِيْكَا

وَلاَ تَجْزَعْ مِنَ المَوْتِ

إذا حَلَّ بِنَادِيْكَا

كَمَا أَضْحَكَكَ الدَهْرُ

كَذَاك الدَهْر يُبْكِيْكَا

ثمّ قال : (اللّهم بارك لنا في الموت، اللّهم بارِك لِي فِي لِقَائِكَ).

قالت : وكنتُ أمشي خلفه، فلمّا سمعتُه يقول ذلك، قلتُ: واغوثاه يا أبتاه أراك تنعى نفسك منذ الليلة!!

قال : (يا بنيّة ما هو بنعاء، ولكنّها دلالات وعلامات للموت يتبع بعضها بعضاً...) ثمّ فتح الباب وخرج(٣٦) .

وما هي إلا فترة بسيطة من الوقت وإذا بالسيّدة زينب تسمع نعي أبيها علي، حيث ضربه (عبد الرحمن بن ملجم ) من أتباع الخوارج بالسيف على هامته حين رفع رأسه من السجدة الأولى من الركعة الأولى لصلاة الصبح، ووقع الإمام علي في محرابه صريعاً قائلاً: (فزتُ وربِّ الكعبة).

ونُقل الإمام إلى داره حيث فارقتْ روحُه الحياة بعد يومين من إصابته، أي في (الحادي والعشرين من شهر رمضان المبارك ).

وقُبيل وفاته عَرَقَ جبينُه فجعل يمسح العرق بيده، فقالت السيّدة زينب: يا أَبَه أراك تمسح جبينك؟

قال : (يا بنيّة، سمعتُ جدّك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: (إنّ

____________________

(٣٦) علي من المهد إلى اللحد: القزويني: ص ٥٥٩.

١٣٢

المؤمن إذا نزل به الموت، ودنتْ وفاته، عرق جبينُه، كاللؤلؤ الرطب، وسكن أنينه).

فقامتْ زينب وألقتْ بنفسها على صدر أبيها وقالتْ: يا أَبَه حدّثتْني أُمّ أيمن بحديث كربلاء وقد أحببتُ أنْ أسمعه منك.

فقال : (يا بنيّة، الحديث كما حدّثتْكِ أُمّ أيمن، وكأنّي بِكِ وبنساء أهلك لَسَبَايَا بهذا البلد، خاشعين، تخافون أنْ يتخطّفكم الناس، فصبراً صبراً).

وهكذا ودّعت السيّدة زينب أباها عليّاً، ورُزِئَتْ بفقده، ولك أنْ تتصوّر مدى الحزن والألم الذي أحاط بها بعد أنْ فارقتْ أباها الذي كان مَلأَ حياتها ووجودها، وكانت متعلّقة به أشدّ التعلّق كما كان يحبّها أشدّ الحب.

ولكن كما قال أبوها علي عند فقده أمّها الزهراء:

لِكُلِّ اجْتِمَاعٍ مِنْ خَلِيْلَيْنِ فرْقَةٌ

وَكُلُّ الذِي دُوْنَ الفِرَاق قَلِيْلُ

وَإنّ افْتِقَادِي فَاطَمَاً بَعْدَ أَحْمَدٍ

دَلِيْلٌ عَلَى أَنْ لاَ يَدُوْم خَلِيْلُ

١٣٣

١٣٤

* امتداد لشخصيّة أبيها:

عاصرتْ السيِّدة زينب أباها لخمس وثلاثين عاماً، كانت خلالها القريبة إلى قلبه والعزيزة عليه، وكان هو الأقرب إلى نفسها، والأشدّ تأثيراً عليها؛ لذلك تقمّصتْ السيّدة زينب شخصيّة أبيها علي في شجاعته وإقدامه، وفي فصاحته وبيانه، وفي عبادته وانقطاعه إلى الله، وفي سائر الفضائل والخصال الكريمة التي ورثتْها زينب من أبيها علي، بعد أنْ تربّتْ في أحضانه وتتلمذتْ على يديه طوال خمس وثلاثين سنة.

ففي مجال البلاغة والفصاحة يقول العلاّمة الشيخ جعفر النقدي بعد أنْ يتحدّث عن بلاغة علي وبيانه : فاعلم أنّ هذه الفصاحة العلويّة، والبلاغة المرتضويّة، قد ورثتْها هذه المخدّرة الكريمة، بشهادة العرب أهل البلاغة والفصاحة أنفسهم، فقد تواترتْ الروايات عن العلماء وأرباب الحديث بأسانيدهم عن حذلم بن كثير، قال:

قدمتُ الكوفة في المحرّم سنة إحدى وستّين عندما انصرف علي بن الحسين من كربلاء ومعهم الأجناد، يحيطون بهم، وقد خرج الناس للنظر إليهم، فلمّا أقبل

١٣٥

بهم على الجمال بغير وطاء، وجعلنَ نساء الكوفة يبكين وينشدنَ، فسمعتُ علي بن الحسين يقول بصوت ضئيل وقد أنهكته العلّة، وفي عنقه الجامعة ويده مغلولة إلى عنقه: (إنّ هؤلاء النسوة يبكينَ فَمَنْ قَتَلَنَا؟).

قال : ورأيتُ زينب بنت علي، ولم أرَ خَفِرَة أَنْطَقَ منها، كأنّها تُفْرِغ عن لسان أمير المؤمنين.

وهذا حذلم بن كثير من فصحاء العرب أخذه العجب من فصاحة زينب وبلاغتها، وأخذتْه الدهشة من براعتها وشجاعتها الأدبيّة، حتّى أنّه لم يتمكّن أنْ يشبّهها إلاّ بأبيها سيّد البلغاء والفصحاء، فقال:كأنّها تُفْرِغ عن لسان أمير المؤمنين (٣٧) .

وفي جانب العبادة والمناجاة والتضرّع كانت تحفظ العديد من أدعية ومناجاة أبيها علي، وتواظب على قراءتها، فقد رُوي عنها أنّها كانت تدعو بعد صلاة العشاء بدعاء أبيها علي وهو: (اللّهم إنّي أسألك يا عالم الأمور الخفيّة، ويا مَن الأرض بعزّته مدحيّة، ويا مَن الشمس والقمر بنور جلاله مشرقة مضيئة...)، إلى آخر الدعاء(٣٨) .

كما كانت تناجي ربّها بمناجاة أبيها علي، وهي قصيدة روحيّة تفيض خشوعاً وتضرّعاً لله سبحانه، مطلعُها:

لَكَ الحَمدُ يا ذا الجودِ والمَجدِ وَالعُلا

تَبارَكتَ تُعطي مَن تَشاءَ وَتَمنَعُ(٣٩)

وكانت تلهج أيضاً بأبيات حكميّة وعظيّة لأبيها علي، جاء فيها:

وَكَم لِلّهِ مِن لُطفٍ خَفيٍّ

يَدِقُّ خَفاهُ عَن فَهمِ الذَكيِّ

____________________

(٣٧) زينب الكبرى: جعفر النقدي: ص ٤٨.

(٣٨) عقلية بني هاشم: الهاشمي: ص ١٦.

(٣٩) المصدر السابق: ص ١٦.

١٣٦

وَكَم يُسرٍ أَتى مِن بَعدِ عُسرٍ

فَفَرَّجَ كُرْبةَ القَلبُ الشَجيِّ

وَكَم أَمرٍ تُساءُ بِهِ صَباحاً

وَتَأتيكَ المَسَرَّةُ بِالعَشيِّ

إِذا ضاقَت بِكَ الأَحوالُ يَوماً

فَثِق بِالواحِدِ الفَردِ العَلِيِّ(٤٠)

هكذا تُتابع السيّدة زينب خُطَى أبيها علي، وتتقمّص شخصيّته وتلهج بأدعيته وكلماته.

____________________

(٤٠) المصدر السابق: ص ١٩.

١٣٧

١٣٨

في محنة أخيها الحسن

١٣٩

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312