المرأة العظيمة قراءة في حياة السيِّدة زينب بنت علي عليهما السلام

المرأة العظيمة  قراءة في حياة السيِّدة زينب  بنت علي عليهما السلام0%

المرأة العظيمة  قراءة في حياة السيِّدة زينب  بنت علي عليهما السلام مؤلف:
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 312

المرأة العظيمة  قراءة في حياة السيِّدة زينب  بنت علي عليهما السلام

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ حسن الصفار
تصنيف: الصفحات: 312
المشاهدات: 118629
تحميل: 7409

توضيحات:

المرأة العظيمة قراءة في حياة السيِّدة زينب بنت علي عليهما السلام
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 312 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 118629 / تحميل: 7409
الحجم الحجم الحجم
المرأة العظيمة  قراءة في حياة السيِّدة زينب  بنت علي عليهما السلام

المرأة العظيمة قراءة في حياة السيِّدة زينب بنت علي عليهما السلام

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

بابه: باب زينب بنت الزهراء(٢٤) .

وكان عبد الله بن جعفر منقطعاً إلى عمّه أمير المؤمنينعليه‌السلام ، ثمّ إلى الحسنَينعليهما‌السلام ، وله في الجمل وصفّين والنهروان ذِكْر مشهور.

وأشار ابن عبد ربّه الأندلسي إلى أنّ عبد الله بن جعفر كان كاتباً لعمّه الإمام علي فترة خلافته(٢٥) .

ويقول السيد الخوئي (قده) عن شخصيّة عبد الله بن جعفر:

جلالة عبد الله بن جعفر الطياّر بن أبي طالب بمرتبة لا حاجة معها إلى الإطراء. وممّا يدلّ على جلالته أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام كان يتحفّظ عليه من القتل، كما كان يتحفّظ على الحسن والحسينعليهما‌السلام ومحمّد بن الحنفيّة(٢٦) .

أمّا عدم خروجه مع الحسينعليه‌السلام إلى كربلاء فقد قيل:

إنّه كان مكفوف البصر، ولمّا نُعي إليه الحسين، وبلغه قتْل ولدَيه (عون ومحمّد) كان جالساً في بيته، ودخل عليه الناس يعزّونه فقال غلامه أبو اللسلاس: هذا ما لقينا من الحسين. فحذفه عبد الله بنعله، وقال له: يابن اللخناء أللحسين تقول هذا، والله لو شهدتُه لَمَا فارقتُه حتّى أُقتل معه، والله إنّهما لمِمّا يسخى بالنفس عنهما: ويهوّن عليّ المصاب بهما أنّهما أُصِيْبَا مع أخي وابن عمّي مواسِيَيْنِ له صابِرَين معه.

ثمّ إنّه أقبل على الجلساء فقال: الحمد لله اعزز عليّ بمصرع الحسين إنْ لم أكنْ واسيتُ الحسين بيدي فقد واسيتُه بِوُلْدِي(٢٧) .

بقي أنْ نشير إلى عبد الله بن جعفر قد تزوّج في حياة السيّدة زينب بنساء

____________________

(٢٤) مقاتل الطالبيِّين: الأصفهاني: ص ٩١ - ٩٢.

(٢٥) العقد الفريد: الأندلسي: ج ٤، ص ١٦٤.

(٢٦) معجم رجال الحديث: السيّد الخوئي: ج ١٠، ص ١٣٨.

(٢٧) المصدر السابق: ص ٨٨.

١٠١

أخريات منهنّ: الخوصاء بنت حفصة بن ثقيف بن ربيعة من بني بكر بن وائل، ومنها وَلَدُهُ محمّد الشهيد في كربلاء، وكذلك أخوه عبيد الله الذي ذكرتْ بعضُ المصادر أنّه الشهيد الثالث من أولاد عبد الله بن جعفر في كربلاء(٢٨) .

تلك هي بعض الملامح والمعالم من حياة عبد الله بن جعفر، قرين السيّدة زينب وشريك حياتها.

وقد تُوفّي سنة (٨٠ ه ) أو أربع أو خمس وثمانين، في خلافة عبد الملك بن مروان، وصلّى عليه السجّاد أو الباقرعليهما‌السلام وأمير المدينة يومئذٍ أبان بن عثمان بن عفّان، والذي أَبَّنَهُ بقوله: كنتَ والله خيراً لا شرّ فيك، وكنتَ والله شريفاً واصلاً براً(٢٩) .

____________________

(٢٨) في رحاب السيّدة زينب: بحر العلوم: ص ٣٦.

(٢٩) زينب الكبرى: جعفر النقدي: ص ٩٠.

١٠٢

أولاد السيِّدة زينب:

مَن يتأمّل نضال السيِّدة زينب وأدوارها الرساليّة العظيمة يكاد يغفل عن أنّ لها أبناءً، كانت تتحمّل مسؤوليّة رعايتهم وتربيتهم، لتكون العقيلة زينبعليها‌السلام قدوة كاملة متكاملة للمرأة المسلمة الطموحة، والتي تقوم بكل الأعباء والمهام العائليّة المنزليّة والدينيّة الاجتماعية، ولنتعرّف الآن على ثمرات فؤادها وفلذّات كبدها:

١ - عون بن عبد الله بن جعفر:

كان مع أمّه زينب في صحبة خاله الإمام الحسين، وقد نال شرف الشهادة في كربلاء، وفجعتْ به أُمّه زينب إلى جنب فجائعها الأخرى. وقد برز إلى ساحة الجهاد، فجعل يُقاتل قتال الأبطال وهو يرتجز:

إنْ تنكروني فأنا ابن جعفر

شهيد صدق في الجنان أزهر

يطير فيها بجناح أخضر

كفى بهذا شرفاً في المحشر

وتمكّن الشاب البطل مِن قتل ثلاثة فوارس، وثمانية عشر راجلاً. ثمّ ضربه

١٠٣

عبد الله بن قطنة الطائي النبهاني بسيفه فقتله.

وقد ورد ذكر عون في الزيارة الواردة في الناحية المقدّسة، أي عن الإمام الثاني عشر المهدي المنتظرعليه‌السلام حيث قال: (السلام على عون بن عبد الله بن جعفر الطيار في الجنان، حليف الإيمان، ومنازل الأقران، الناصح للرحمن، التالي للمثان، لعن الله قاتله عبد الله بن قطنة النبهاني)(٣٠) .

٢ - محمّد:

وقد ذكره العديد من الباحثين في حياة السيّدة زينب، ك-:

- السبط ابن الجوزي في (تذكرة الخواص، ص ١١٠)(٣١) .

- وذكره السيّد الهاشمي في كتابه (عقيلة بني هاشم، ص ٣٦).,

- والدكتورة بنت الشاطئ في (السيّدة زينب، ص ٥٠).

- والشيخ محمّد جواد مغنية (مع بطلة كربلاء، ص ٣٦).

- و م. صادق (زينب وليدة النبوّة والإمامة، ص ٦٢) وكُتّاب آخرون.

ولكن يبدو أنّ لعبد الله بن جعفر ولداً آخر اسمه محمّد من زوجة أخرى هي (الخوصاء من بني بكر بن وائل )، وقد استشهد مع الإمام الحسينعليه‌السلام في كربلاء، ممّا سبّب الاشتباه عند بعض الباحثين، فاعتبروا ولدَي عبد الله بن جعفر الشهيدَين بكربلاء اعتبروهما ولدي السيّدة زينبعليها‌السلام ، لكنّ التحقيق يثبت أنّ (عوناً ) فقط هو ابن السيّدة زينب، أمّا أخوه محمّد فهو ابن ضرّتها (الخوصاء)، كما نصّ على ذلك الباحثون حول شهداء كربلاء(٣٢) .

٣ - عبّاس:

ذكر المؤرّخون اسمه دون الإشارة إلى شيء من حياته وسيرته.

____________________

(٣٠) بحار الأنوار: ج٤٥، ص٦٨.

(٣١) المصدر السابق: ص ١٢٨.

(٣٢) يُراجَع: (إبصار العين في أنصار الحسين) للشيخ محمّد السماوي: ص ٤٠، و(حياة الإمام الحسين): للشيخ باقر شريف القرشي: ج ٣، ص ٢٥٩.

١٠٤

٤ - علي:

المعروف بالزينبي، وفي نسله الكثرة والعدد، وفي ذرِّيَّته الذيل الطويل والسلالة الباقية، وهو كما في (عمدة الطالب) أحد أرجاء آل أبي طالب الثلاثة.

وفي (تاج العروس) مادّة (زينب):

(والزينبيّون بطن من وُلد علي الزينبي بن عبد الله الجواد بن جعفر الطيّار، نسبةً إلى أُمِّه زينب بنت سيّدنا عليرضي‌الله‌عنه ، وأُمّها فاطمةرضي‌الله‌عنه ، وولد علي هذا أحد أَرْحَاءِ آل أبي طالب الثلاثة)(٣٣) .

ويقول عنه السيّد الهاشمي:

وأمّا علي بن عبد الله فهو المعروف بالزينبي، نسبةً إلى أُمّه زينب بنت عليعليهما‌السلام ذكروا(٣٤) أنّه كان ثلاثة في عصر واحد بني عم، يرجعون إلى أصل قريب، كلّهم يُسمّى عليّاً، وكلّهم يصلح للخلافة، وهم: (علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب(السجّاد)، وعلي بن عبد الله بن العبّاس، وعلي بن عبد الله بن جعفر الطيّار )، ولكنّ إمام المسلمين وقتئذٍ كان السجّاد زين العابدين، يعظّمه القريب والبعيد، وتعنّوا له كبار المسلمين، وقد تزوّج علي بن عبد الله بن جعفر، لبابة بنت عبد الله بن عبّاس (حبر الأُمّة)، وكان نسل عبد الله بن جعفر منه، والسادة الزينبيّة كثيرون في: (العراق، وفارس، ومصر، والحجاز، والأفغان، والهند )، وقد جعل الله البركة في نسل هذه السيّدة الطاهرة، وطيّب سلالتها (٣٥) .

وقال ابن عنبة:

كان علي الزينبي يُكنّى أبا الحسن، وكان سيّداً كريماً(٣٦) .

وقد ألّف الحافظ جلال الدين السيوطي (٨٤٩ - ٩١١ ه-) رسالة حول ذُرِّيَّة السيِّدة زينب، سمّاها: (العجاجة الزرنبية في السلالة الزينبيّة )(٣٧) .

____________________

(٣٣) زينب الكبرى: جعفر النقدي: ص ١٢٧.

(٣٤) نقل ذلك الأزورقاني من كتاب: (المصابيح): لأبي بكر الورّاق.

(٣٥) عقيلة بني هاشم: الهاشمي: ص ٤٠.

(٣٦) عقيلة الطهر والكرم: موسى محمّد علي: ص ١١٤.

(٣٧) مجلّة (الموسم): ص ٨٥٨.

١٠٥

٥ - أُمّ كلثوم:

أم كلثوم: وهي البنت الوحيدة كما يبدوا للسيّدة زينب، ولا بدّ وأنّها قد ورثتْ شمائل أُمِّها، وتحلّتْ بمكارم أخلاق أبيها؛ ولذلك تسابق الخاطبون لطلب يدها، وكان من جملتهم معاوية بن أبي سفيان، خطبها أيّام سلطته لولده يزيد، وكلّف واليه على المدينة مروان بن الحكم أنْ يخطبها من أبيها ليزيد بن معاوية، فقال أبوها عبد الله بن جعفر: إنّ أمرها ليس إليّ، إنّما هو إلى سيّدنا الحسين وهو خالها. فأخبر الحسين بذلك، فقال: (أستخير الله تعالى اللهمّ وفّق لهذه الجارية رضاك من آل محمّد.

فلمّا اجتمع الناس في مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أقبل مروان حتّى جلس إلى الحسينعليه‌السلام وقال:

إنّ أمير المؤمنين معاوية أمرني بذلك، وأنْ أجعل مهرها حكم أبيها بالغاً ما بلغ، مع صلح ما بين هذَين الحَيَّيْن، مع قضاء دَيْنِه، واعلم أنّ مَن يغبطكم بيزيد أكثر مِمَّن يغبطه بكم، والعجب كيف يستمهر يزيد وهو كفؤ مَن لا كفؤ له، وبوجهه يستسقي الغمام، فردّ خيراً يا أبا عبد الله.

فقال الحسين : (الحمد لله الذي اختارنا لنفسه، وارتضانا لدينه، واصطفانا على خلقه.

ثم قال : يا مروان قد قلتَ فسمعنا.

أمّا قولك: مهرها حكم أبيها بالغاً ما بلغ، فلعمري لو أردنا ذلك ما عدونا سُنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في بناته ونسائه وأهل بيته، وهو اثنتا عشرة أوقيّة يكون اربعمائة وثمانين درهماً.

وأمّا قولك: مع قضاء دين أبيها، فمتى كنّ نساؤنا يقضين عنّا ديوننا؟

١٠٦

وأمّا صلح ما بين هذَين الحَيَّين، فإنّا قوم عاديناكم في الله، ولم نكن نصالحكم للدنيا، فلعمري لقد أعيا النسب فكيف السبب؟

وأمّا قولك: والعجب كيف يستمهر يزيد؟ فقد استمهر مَن هو خير من يزيد، ومِن أبي يزيد، ومِن جدّ يزيد!

وأمّا قولك: إنّ يزيد كفؤ مَن لا كفؤ له، فَمَنْ كان كفوه قبل اليوم فهو كفؤه اليوم ما زادتْه إمارتُه في الكفاءة شيئاً.

وأمّا قولك: وجهه يستسقى به الغمام: فإنّما كان ذلك وجه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وأمّا قولك: مَن يغبطنا به أكثر مِمَّن يغبطه بنا، فإنّما يغبطنا به أهل الجهل ويغبطه بنا أهل العقل.

ثمّ قال عليه‌السلام : فاشهدوا جميعاً إنّي قد زوّجت أُمّ كلثوم بنت عبد الله بن جعفر مِن ابن عمّها القاسم بن محمّد بن جعفر، على أربعمائة وثمانين درهماً، وقد نحلتها ضيعَتَين بالمدينة - أو قال أرضي العقيق - وإنّ غلّتها بالسنة ثمانية آلاف دينار ففيهما لهما غنى إنْ شاء الله تعالى).

فتغيّر وجه مروان، وقال:

أَرَدْنَا صِهْرَكُم لِنَجِد وُدّاً

قَد أخلقه بِهِ حَدَثُ الزَمَانِ

فَلَمّا جِئْتُكُم فَجَبهْتُمُونِي

وَبُحْتُم بِالضَمِيْرِ مِن الشَنَانِ

فأجابه ذكوان مولى بني هاشم:

أَمَاطَ اللهُ عَنْهُم كُلّ رِجْسٍ

وَطَهَّرَهُم بِذَلِكَ فِي المَثَانِي

فَمَالَهُم سِوَاهُم مِنْ نَظِيْرٍ

وَلاَ كُفْؤٍ هُنَاكَ وَلاَ مُدَانِي

أَتَجْعَلُ كُلَّ جَبَّارٍ عَنِيْدٍ

إِلَى الأَخْيَارِ مِنْ أَهْلِ الجِنَانِ(٣٨)

____________________

(٣٨) زينب الكبرى: جعفر النقدي: ص ١٢٩.

١٠٧

١٠٨

مع أبيها علي

١٠٩

١١٠

طبيعي أنْ تنشدّ البنت لأبيها وتتعلّق به، وخاصّةً إذا ما فقدتْ البنتُ أُمَّها، فسيصبح أبوها حينئذٍ هو المنبع الوحيد للعاطفة والحنان والرعاية تجاهها.

وفي علاقة السيّدة زينب بأبيها علي بن أبي طالب هناك عامل إضافي، يتمثّل في الصفات والسمات النفسيّة والأخلاقيّة التي يتمتّع بها الإمام علي، والتي تفرض حبّه وعشقه وإكباره على كلّ مَنْ الْتَقَى به أو عاشره أو سمع عنه.

بل إنّ أيَّ واحدة من سوابقه ومناقبه لَحَرِيَّةٌ بإخضاع النفوس والقلوب لمكانته وجلالته، كما يقول أبو الطفيل: قال بعض أصحاب النبي:لقد كان لعلي من السوابق ما لو أنّ سابقه منها بين الخلائق لَوَسَعَتْهُم خيراً (١) .

ومَن عرف عليّاً أو تعرّف عليه فلم يهيمن حبّ علي على قلبه، فذلك دلالة على انحراف في طبعه وخلل في ذاته.

____________________

(١) أُسْد الغابة في معرفة الصحابة: ابن الأثير: ج ٣، ص ٥٩٨.

١١١

وهل يكره الخير عاقل؟!

أو هل يبغض النور سويّ؟

لذلك قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله للإمام علي : (لا يحبّك إلاّ مؤمن، ولا يبغضك إلاّ منافق)(٢) .

وقال أبو سعيد الخدري : كنا نعرف المنافقين - نحن معاشر الأنصار - ببغضهم علي بن أبي طالب(٣) .

وحتّى ألدّ خصومه وأعدائه معاوية بن أبي سفيان، لم يستطع كتمان إعجابه بشخصيّتهعليه‌السلام ، حيث قال لمّا بلغه قَتْله:

ذَهَبَ الفِقْه والعِلْم بموت ابن أبي طالب.

فقال له أخوه عتبة : لا يسمع هذا منك أهل الشام؟

فقال له : دعني عنك(٤) .

وحينما وصف ضرار بن ضمرة شخصيّةَ الإمام علي بمحضر معاوية بعد وفاة الإمام، بكى معاويةُ ووكفتْ دموعه على لحيته ما يملكها، وجعل ينشّفها بكمّه، وقد اختنق القوم بالبكاء، وقال معاوية:

رحم الله أبا الحسن والله كذلك، فكيف حزنك عليه يا ضرار؟ قال: حزن مَن ذُبح ولدُها بحجرها فهي لا ترقأ عبرتُها ولا يسكن حزنها(٥) .

وإذا كانت شخصيّة علي تأسر حتّى قلوب أعدائه - فضلاً عن أصحابه وأتباعه - فما هو مدى تأثير شخصيّته على ابنته القريبة منه والمتعلّقة به؟

____________________

(٢) المصدر السابق: ص ٦٠٢.

(٣) المصدر السابق: ص ٦٠٧.

(٤) أئمّتنا: علي دخيّل: ج ١، ص ٩١.

(٥) المصدر السابق: ص ٩٢.

١١٢

نحاول في السطور التالية أنْ نقتطف من ذاكرة التاريخ ما سجّلته من صور ولقطات عن تلك العلاقة الإيمانيّة الإنسانيّة الحميمة، بين السيّدة زينب وأبيها الإمامعليهما‌السلام ؛ لنرى كيف عاشتْ السيّدة زينب في ظلّ أبيها:

* الحفاظ على مهابة زينب وصونها:

حدّث يحيى المازني قال:

كنت في جوار أمير المؤمنينعليه‌السلام في المدينة مدّة مديدة وبالقرب من البيت الذي تسكنه زينب ابنته، فلا والله ما رأيتُ لها شخصاً ولا سمعتُ لها صوتاً، وكانت إذا أرادتْ الخروج لزيارة جدّها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله تخرج ليلاً، والحسن عن يمينها، والحسين عن شمالها، وأمير المؤمنين أمامها، فإذا قربتْ من القبر الشريف سبقها أمير المؤمنينعليه‌السلام فأخمد ضوء القناديل.

فسأله الحسن مرّة عن ذلك؟

فقال : (أخشى أنْ ينظر أحدٌ إلى شخص أختك زينب)(٦) .

* سيّدةُ بيتِ أبيها:

تزوّج الإمام عليعليه‌السلام بعد فقد الزهراءعليها‌السلام أكثر من زوجه، لكنّ أيّاً من زوجاته لم تكن لتأخذ مكان السيّدة زينب وموقعها في بيت أبيها، فهي سيّدة البيت بما تمثّله من امتداد لأُمّها الزهراء وبما تمتلكه من صفات ومؤهّلات، وبما تتمتّع به من محبّة واحترام متبادل مع أبيها وأخوَيها الحسنَين.

____________________

(٦) زينب الكبرى: جعفر النقدي: ص ٢٢.

١١٣

وحتّى بعد زواجها بابن عمّها عبد الله بن جعفر، فإنّها لم تنقطع عن بيت أبيها، ولم تشغلْها التزاماتها الزوجيّة والعائليّة عن أداء دورها المميّز في بيت علي.

يقول السيّد بحر العلوم:

ورغم أنّ زينب عاشتْ في بيت الزوجيّة، لكنّ الزواج لم يشغلْها عن تحمّل مسؤوليات بيت أبيها علي، فهي بنت الزهراء، وحفيدة خديجة، وتحمّل المسؤوليّة من خصال ربّات هذا البيت. وزينب عقيلة بني هاشم، وسيّدة البيت العلوي، وزعيمتْ القوم، رغم أنّها تزوّجتْ، وانتقلتْ إلى بيت ابن جعفر، إلاّ أنّها لم تتخلَّ عن المسؤوليّة، لتدير بيت أبيها، وتهتمّ بشؤون أخوَيها، وتصبح المسؤولة عنهم أوّلاً وآخراً(٧) .

وتقول بنت الشاطئ:

ولم يفرّق الزواج بين زينب وأبيها وإخوتها، فقد بلغ مِن تعلّق الإمام علي بابنته وابن أخيه أنْ أبقاها معه، حتّى إذا وَلِيَ أمر المسلمين وانتقل إلى الكوفة، انتقلا معه، فعاشا في مقرّ الخلافة، موضع رعاية أمير المؤمنين وإعزازه، ووقف عبد الله بجانب عمّه في نضاله الحربي، فكان أميراً بين أُمراء جيشه في صفّين.

وعرف الناس مكانة عبد الله من بيت النبوّة، فكانوا يلتمسون لديه الوسيلة إلى أمير المؤمنين، والى ولدَيه الحسن والحسين، فلا يردّ له طلب ولا يخيب رجاء.

جاء في (الإصابة: ج ٤ ص ٤٨) نقلاً عن محمّد بن سيرين:

أنّ دهقاناً من أهل السواد كلّم ابن جعفر في أنْ يكلّم عليّاً في حاجة، فكلّمه، فقضاها، فبعث إليه الدهقان أربعين ألفاً فردّها قائلاً: إنّا لا نبيع معروفاً(٨) .

____________________

(٧) في رحاب السيّدة زينب: بحر العلوم: ص ٣٧.

(٨) السيّدة زينب: عائشة عبد الرحمان بنت الشاطئ: ص ٥٠.

١١٤

* في موكب أبيها إلى الكوفة:

بعد أنْ اختارتْه جماهير الأمّة حاكماً وخليفة، وبايعه الناس برغبتهم واختيارهم، وبشكل لا شبيه له في تاريخ المسلمين، وذلك في شهر ذي الحجة سنة (٣٥ ه- ) في أعقاب مقتل الخليفة عثمان بن عفّان.

قرّر الإمام علي الانتقال إلى الكوفة لمواجهة التطوّرات السياسيّة، حيث نكث بعض مبايعيه بيعته ك- (طلحة، والزبير )، واستقطبوا معهم السيّدة (عائشة ) زوج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، واتّخذوا البصرة بؤرة لتمرّدهم عليه، كما كان معاوية يعبّئ أهل الشام ضدّ خلافة الإمام.

وكان الإمام مدركاً لِمَا ينتظره من أوضاع خطيرة في عاصمة خلافته الجديدة (الكوفة )، ولكنّه قرّر أنْ يصطحب معه ابنته زينب، فهو يريدها إلى جانبه في الظروف الحساسة والحرجة، وهي تصعب عليها مفارفة أبيها والابتعاد عنه.

وهكذا ودّعت السيّدة زينب مسقط رأسها ومرتع طفولتها ومثوى جدّها وأُمّها المدينة المنوّرة، ورافقتْ أباها في رحلته إلى الكوفة بمعيّة زوجها عبد الله بن جعفر.

ويصف الشيخ النقدي ظروف سفر السيِّدة زينب في موكب أبيها بقوله:

سافرتْ زينب هذه السفرة وهي في غاية العز، ونهاية الجلالة والاحتشام، يسير بها موكب فخم رهيب من مواكب المعالي والمجد، محفوف بأبّهة الخلافة، محاط بهيبة النبوّة، مشتمل على السكينة والوقار، فيه أبوها الكرّار أمير المؤمنين، وإخوتها، الحسنان سيِّدا شباب أهل الجنّة، وحامل الراية العظمى (محمّد بن الحنفيّة )، وقمر بني هاشم (العبّاس بن علي )، وزوجها الجواد (عبد الله بن جعفر )، وأبناء عمومتها (عبد الله بن عبّاس، وعبيد الله ) وأخوتهما، وبقيّة أبناء (جعفر الطيار، وعقيل بن أبي طالب )، وغيرهم من فتيان بني هاشم، وأتباعهم من رؤساء القبائل، وسادات العرب، مدجَّجين بالسلاح، غاصّين في الحديد، والرايات ترفرف على رؤوسهم،

١١٥

وتخفق على هاماتهم، وهي في غبطة وفرح وسرور(٩) .

* مدرستها العلميّة:

لم تكن دار علي في الكوفة مجرّد مركز للسلطة والحكم، ولا كان وجوده الشريف منحصراً في شخصيّته ودوره كحاكم وقائد، بل كانت داره مركز إشعاع للمعرفة والفكر، وكان دوره في التوجيه الروحي الفكري لا يقلّ عن دوره في الزعامة السياسيّة الاجتماعيّة.

ولكي تنتشر المعرفة في جميع أوساط المجتمع، وحتّى لا يحرم أحد من حقّه في الثقافة والوعي، عَهَدَ الإمام علي إلى ابنته العقيلة زينب أنْ تتصدّى لتعليم النساء، وأنْ تبثّ المعرفة والوعي في صفوفهنّ.

فكانت العقيلة زينب تفسّر لهنّ القرآن الكريم، وتروي لهنّ أحاديث جدّها المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأخبار أُمّها الزهراءعليها‌السلام ، وتوجيهات أبيها المرتضىعليه‌السلام .

فقد ورد أنّه كان لها مجلس في بيتها أيّام إقامة أبيهاعليه‌السلام في الكوفة، وكانت تفسّر القرآن للنساء، وقد دخل عليها أبوها ذات يوم وهي تفسّر بداية سورة الكهف وسورة مريم( كهيعص ) (١٠) (١١) .

____________________

(٩) زينب الكبرى: جعفر النقدي: ص ٩٢.

(١٠) سورة مريم: الآية: ١.

(١١) زينب الكبرى: جعفر النقدي: ص ٣٦.

١١٦

* امتيازات الخلافة والحكم:

الوصول إلى سِدّه الخلافة والحكم يعني الحصول على الامتيازات والمكاسب المادِّيَّة والسياسيّة والاجتماعيّة، فالحكم تتمركز بيده القوّة وتكون تحت تصرّفه الثروة والإمكانات، فيعيش في أعلى درجة من الراحة والرفاه، وتنعم عائلته وأقرباؤه وأعوانه بصنوف النِعَم والامتيازات، من مناصب وإقطاعات وعطاءات وهِبَات.

هذا ما ينقله التاريخ لنا من تلاعب الحكّام الأمويّين والعبّاسيين وغيرهم في الماضي بثروات الأُمّة، وبناء القصور بها، والاستيلاء على الأراضي، واكتناز الثروات، وبسْط الموائد الفاخرة.

فقد كان شباب بني مروان أيّام حكمهم يرفلون في الوشي كأنّهم الدنانير الهرقْليّة، وكان مروان بن أبان بن عثمان يلبس سبعة أقمص كأنّها درج، بعضها أقصر من بعض، وفوقها رداء عدني بألفَي درهم، أمّا نساؤهم فقد كنّ يلبسْنَ الديباج والحرير(١٢) .

____________________

(١٢) حياة الإمام الباقر: باقر شريف القرشي: ج ٢، ص ١٥١.

١١٧

ولمّا تزوّج مصعب بن الزبير بعائشة بنت طلحة، أمهرها بألف ألف درهم، وأهدى لها ثماني حبّات من اللؤلؤ، قيمتها عشرون ألف دينار، وكانتْ تحجّ ومعها ستون بغلة، عليها الهوادج والرحائل(١٣) .

وكان معاوية بن أبي سفيان يقول : الأرض لله، وأنا خليفة الله، فما آخذ من مال الله فهو لي، وما تركتُه كان جائزاً لي(١٤) .

وكتب معاوية إلى زياد بن أبيه عامله على العراق : أنْ يصطفي له الصفراء والبيضاء، فأوعز زياد إلى عمّاله بذلك، وأمرهم أنْ لا يقسموا بين المسلمين ذهباً ولا فضّة(١٥) .

وكذلك كان الحال لدى حكام بني العباس : فقد ورد أنّ هارون الرشيد كان يُنفق كلّ يوم على موائد طعامه عشرة آلاف درهماً، وربّما اتّخذ له الطبّاخون ثلاثين لوناً من الطعام(١٦) .

وقد شُغف هارون الرشيد بالجواهر والأحجار الثمينة : فاشترى خاتماً بمائة ألف دينار، وكان عنده قضيب زمرّد أطول من ذراع، وعلى رأسه تمثال طائر مِن ياقوت أحمر لا تقدير لثمنه؛ نظراً لنفاسته، وقد قُيّم الطائر وحده بمائة ألف دينار(١٧) .

ويتحدّث التاريخ عن ترف وإسراف زوجته زبيدة : فقد اشترتْ غلاماً ضرّاباً على العود مجيداً، بثلاثمائة ألف درهم، واتّخذتْ الخفاف - الأحذية - المرصّعة بالجوهر تلبسها في قصرها، واتّخذتْ سبحة من يواقيت رمّانيّة كالبنادق، اشترتْها بخمسين ألف دينار. وصنعتْ لها بساطاً من الديباج جَمَع صورةَ كلّ حيوان مِن جميع الأجناس، وصورة كلّ طائر من الذهب وأَعْيُنُها من يواقيت وجواهر، يُقال إنّها أَنفقتْ عليها نحواً من ألف ألف دينار، واتّخذت آلِهَ من الذهب المرصّع

____________________

(١٣) المصدر السابق: ص ١٥٢.

(١٤) حياة الإمام موسى بن جعفر: باقر شريف القرشي: ج ١، ص ٣٠١.

(١٥) المصدر السابق: ص ٣٠١.

(١٦) المصدر السابق: ج ٢، ص ٣٩.

(١٧) المصدر السابق: ص ٤٦.

١١٨

بالجوهر، والثوب من الوشي الرفيع يزيد ثمنه على خمسين ألف دينار(١٨) .

ولم تقتصر مظاهر البذخ وحياة الترف على الخلفاء والحاكمين وعوائلهم ، بل شملتْ وزراءهم وأعوانهم، فقد كانت لأمّ جعفر الوزير البرمكي للعبّاسيين مائة وصيفة، لباس كلّ واحدة وحليّها خلاف لباس الأُخرى وحُلِيِّها(١٩) .

هكذا يعيش الخلفاء ونساؤهم وعوائلهم، فكيف كان يعيش علي بن أبي طالب مع نسائه وعائلته أيّام خلافته؟ وماذا نالتْ ابنته زينب من امتيازات الخلافة والحكم، وهي كبرى بنات الخليفة، وحبيبة قلبه، وسيّدة بيته؟

* لنستعرض بعض ما ينقله لنا التاريخ عن حياة علي أثناء خلافته، لنرى الظروف والأوضاع التي عايشتْها السيّدة زينب في ظلّ خلافة أبيها، في الجانب الحياتي المادّي:

كان علي يوزّع ما في بيت المال أُسبوعيّاً كلّ جمعة، ثمّ يكنس بيت المال وينضحه بالماء، ثمّ يصلّي فيه ركعتَين ويقول: (اشهد لي يوم القيامة أنّي لم أحبس فيك المال على المسلمين)(٢٠) .

وعن الشعبي قال:

دخلتُ الرّحبة وأنا غلام في غلمان، فإذا أنا بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب على صرّتَين من ذهب وفضّة، فقسّمه بين الناس حتّى لم يبقَ منه شيء، ورجع ولم يحمل إلى بيته منه شيئاً، فرجعتُ إلى أبي،فقلتُ : لقد رأيتُ خيرَ الناس أو أحمق الناس.

قال : ومَن هو يا بُنَي؟

قلت : رأيتُ أميرَ المؤمنين عليّاً، فقصصتُ عليه الذي رأيتُه يصنع.

فبكى وقال :

____________________

(١٨) المصدر السابق: ص ٤٨.

(١٩) المصدر السابق: ص ٥٠.

(٢٠) الغارات: أبو إسحاق الثقفي (المتوفَّى: ٢٨٣ ه-): ج ١، ص ٤٩.

١١٩

يا بُنَي، بل رأيتَ اليوم خيرَ الناس(٢١) .

وعن أبي رجاء يزيد بن محجن:

أنّ عليّاً أخرج سيفاً له إلى السوق فقال: (مَن يشتري منّي سيفي هذا؟ فوالذي نفسي بيده لو أنّ معي ثمن إزار لما بعته!)

قال أبو رجاء: فقلتُ: يا أمير المؤمنين أنا أبيعك إزاراً وأُنْسِئُك ثَمَنَه إلى عطائك.

فبعتُه إزاراً إلى عطائه، فلمّا قبض عطاءه أعطاني حقّي(٢٢) .

وعن سويد بن غفلة قال:

دخلتُ على أمير المؤمنينعليه‌السلام فإذا بين يديه قعب لبن، أجد ريحه من شدّة حموضته، وفي يده رغيف ترى قشار الشعير على وجهه، وهو يكسره ويستعين أحياناً بركبته، وإذا جاريته فضّة قائمة على رأسه، فقلتُ لها: يا فضّة أَمَا تتّقون الله في هذا الشيخ؟ لو نخلتم دقيقه.

فقالت : إنّا نكره أنْ يؤجر ونأثم، وقد أخذ علينا أنْ لا ننخل له دقيقاً ما صَحِبْنَاهُ.

فقال علي : (ما يقول؟

قالتْ : سَلْهُ.

فقلتُ له : ما قلتُ لها: لو ينخلون دقيقك.

فبكى، ثمّ قال : بأبي وأُمّي مَن لم يشبع ثلاثاً متوالية مِن خبز برّ حتّى فارق الدنيا، ولم يُنخَل دقيقه - يعني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله )(٢٣) .

____________________

(٢١) المصدر السابق: ص ٥٤.

(٢٢) المصدر السابق: ص ٦٣.

(٢٣) المصدر السابق: ص ٨٧.

١٢٠