المرأة العظيمة قراءة في حياة السيِّدة زينب بنت علي عليهما السلام

المرأة العظيمة  قراءة في حياة السيِّدة زينب  بنت علي عليهما السلام0%

المرأة العظيمة  قراءة في حياة السيِّدة زينب  بنت علي عليهما السلام مؤلف:
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 312

المرأة العظيمة  قراءة في حياة السيِّدة زينب  بنت علي عليهما السلام

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ حسن الصفار
تصنيف: الصفحات: 312
المشاهدات: 118632
تحميل: 7409

توضيحات:

المرأة العظيمة قراءة في حياة السيِّدة زينب بنت علي عليهما السلام
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 312 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 118632 / تحميل: 7409
الحجم الحجم الحجم
المرأة العظيمة  قراءة في حياة السيِّدة زينب  بنت علي عليهما السلام

المرأة العظيمة قراءة في حياة السيِّدة زينب بنت علي عليهما السلام

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وعن الإمام جعفر بن محمّد قال : (أُتي - عليٌّ - بخبيص فأبى أنْ يأكله.

قالوا : تحرّمه؟

قال : لا ولكنّي أخشى أنْ تتوق إليه نفسي.

ثمّ تلا :( أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا ) (٢٤) (٢٥) .

هكذا كانت السيّدة زينب ترى حياة أبيها الخليفة، وكانت سياسة أبيها تنعكس بالطبع على حياتها،

فقد رُوي أنّ زوجها عبد الله بن جعفر أصابتْه حاجة وهو ثَرِيٌّ لكنّه يُنفق أمواله كَرَمَاً وَجُوْدَاً:

فجاء إلى عمّه أمير المؤمنين علي ليطلب منه معونة من بيت المال، وعبد الله عزيز على قلب عمّه، وهو زوج ابنته العزيزة الأثيرة زينب، فبماذا أجابه علي؟

لنقرأ نصّ الرواية:

قال عبد الله بن جعفر بن أبي طالب لعلي : يا أمير المؤمنين لو أمرتَ لي بمعونة فوالله ما عندي إلاّ أنْ أبيع بعض علوفتي.

وفي رواية : إلاّ أنْ أبيع دابّتي.

قال له علي :( لا والله ما أجد لك شيئاً إلاّ أنْ تأمر عمّك أنْ يسرق فيعطيك! ) (٢٦) .

فعليٌّ لا يجد لابن أخيه العزيز وزوج ابنته العزيزة عطاءً أكثر من حصّته المقرّرة كسائر المسلمين، ويعتبر أي عطاء إضافي نوعاً من السرقة من بيت المال!

____________________

(٢٤) المصدر السابق: ص ٩٠.

(٢٥) سورة الأحقاف: الآية: ٢٠.

(٢٦) الغارات: أبو إسحاق الثقفي: ج ١، ص ٦٦.

١٢١

وقال الإمام محمّد الباقر عليه‌السلام : (إنّ عليّاً وَلِيَ الخلافة خمس سنين وما وضع آجرة ولا لبنة على لبن، ولا أقطع قطيعاً، ولا أورث بيضاء ولا حمراء)(٢٧) .

وقصّة أخرى ينقلها التاريخ تحكي عن وضع بنات الإمام علي وعائلته أثناء خلافته، وكيف أنّهم لم يستفيدوا أيّ شيء مادّي من امتيازات الخلافة والسلطة:

عن علي بن أبي رافع قال : كنتُ على بيت مال علي بن أبي طالب وكاتبَه، وكان في بيت المال عقد لؤلؤ.

قال : فأرسلتْ إليّ بنتُ علي بن أبي طالبعليه‌السلام فقالتْ لي: بلغني أنّ في بيت مال أمير المؤمنين عقد لؤلؤ وهو في يدك، وأنا أحب أنْ تُعِيْرَنِيْهِ أتجمّل به في أيّام عيد الأضحى.

فأرسلتُ إليها، وقلتُ : عارية مضمونة يا ابنة أمير المؤمنين؟

فقالتْ : نعم، عارية مضمونة مردودة بعد ثلاثة أيّام.

فدفعتُه إليها.. وإنّ أمير المؤمنين رآه عليها فعرفه، فقال لها: (من أين صار إليك هذا العقد؟

فقالتْ : اسْتَعَرْتُهُ من ابن أبي رافع، خازن بيت مال أمير المؤمنين؛ لأتزيّن به في العيد ثمّ أَرُدُّهُ.

قال : فبعث إليّ أمير المؤمنين فجئتُه، فقال: أَتَخُون المسلمين يابن أبي رافع؟

فقلتُ : معاذ الله أنْ أخون المسلمين.

قال : كيف أعرتَ بنت أمير المؤمنين العقدَ الذي في بيت مال المسلمين بغير إذني ورضائي؟

فقلتُ : يا أمير المؤمنين إنّها ابنتك، وسألتْني أنْ أعيرها إيّاه تتزيّن به، فأعرتُها

____________________

(٢٧) علي من المهد إلى اللحد: القزويني: ص ١٤٠.

١٢٢

إيّاه عاريةً مضمونة مردودة، وضمنتُه في مالي، وعليّ أن أردّه مسلّماً إلى موضعه.

فقال : ردّه مِن يومك، وإيّاك أنْ تعود لِمِثْلِ هذا فتنالك عقوبتي، ثمّ أولى لابنتي لو كانت أخذتْ العقد على غير عارية مضمونة مردودة لكانتْ أذن أوّل هاشميّة قطعتُ يَدَهَا في سرقةٍ.

قال : فبلغ مقالتُه ابنتَه، فقالتْ له: يا أمير المؤمنين أنا ابنتُك وبضعةٌ منك فَمَنْ أحقّ بلبسه منّي؟

فقال لها أمير المؤمنين : يا بنت علي بن أبي طالب لا تذهبي بنفسك عن الحق، أَكُلُّ نساء المهاجرين تتزيّن في هذا العيد بمثل هذا؟

قال ابن أبي رافع : فقبضتُه منها ورددتُه إلى موضعه(٢٨) .

من كانت تلك البنت؟ هل هي زينب؟ أَمْ إحدى أخواتها؟ لعلّها لم تكن زينب؛ لأنّ تقواها ومعرفتها بسياسة أبيها تمنعها من ذلك.

والمهم أنْ نعرف أنّ زينب لم تنلْ من امتيازات الخلافة والحكم شيئاً، حتّى بمقدار سدّ عوز وحاجة بيتها، أو في حدود استعارة شيء من بيت المال كعارية مضمونة مردودة.

____________________

(٢٨) بحار الأنوار: المجلسي: ج ٤٠ ص ٣٣٨.

١٢٣

١٢٤

* من بيتها انطلق إلى الشهادة:

لقد واكبتْ السيّدة زينب حوالي ثلثي عمر أبيها وحياته:

- فحينما وُلدتْ في السنة الخامسة للهجرة كان عمر أبيها (٢٨ سنة).

- وعاصرتْه وهو يتقلّب بين المعارك والحروب في عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

- ثمّ عايشتْ معه مصيبة فَقْد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله والأحداث التي تَلَتْهَا، من مصادرة حقّه في الخلافة.

- ومِن ثَمّ انعزاله وانكفاؤه لفترة في منزله، وخاصّةً عند فقْد شريكة حياته الزهراءعليها‌السلام .

- ورافقتْ أباها حينما تولّى الخلافة والحكم، وصحبتْه إلى الكوفة.

- وبالتالي عايشتْ الظروف الصعبة القاسية التي مرت بأبيها فترة السنوات الخمس، من تمرد الناكثين والمارقين والقاسطين، حيث اضطرّ الإمام علي لخوض ثلاث معارك مؤلمة:

١ - معركة الجَمَل:

حيث تحالفت السيّدة عائشة بنت أبي بكر زوج رسول الله مع طلحة بن عبد الله التيمي، والزبير بن العوّام ابن عمّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، تحالفتْ معهما للتمرّد على سلطة الإمام علي، وكانا قد بايعاه، فسارتْ معهما إلى

١٢٥

البصرة تُحرّض الناس ضدّ الإمام وتدعوهم لقتاله تحت شعار المطالبة بدم الخليفة عثمان، واحتشد معها (ثلاثون ألف مقاتل )، وقد سعى الإمام وحاول التفاوض والحوار معهم لإعادتهم إلى جادّة الحقّ والشرعيّة، لكنّهم أصرّوا على القتال والمواجهة، فزحف إليهم الإمام علي في (عشرين ألف مقاتل )، ودارتْ بين الطرفين معركة حامية الوطيس تكشّفتْ عن سقوطحوالي ( ١٨ ألف قتيل( ١٣ ألف من أصحاب الجمل )، و(٥ آلاف من أصحاب علي )، وقُتل طلحة والزبير في المعركة، وعُقر الجمل الذي كانت تمتطيه عائشة، وسُمِّيَتْ المعركة باسمه. وكان ذلك في يوم الخميس العاشر من جمادي الثانية سنة(٣٦ ه-).

٢ - معركة صِفِّين:

من عهد الخليفة عمر بن الخطّاب كان معاوية والياً على الشام، وقد ازداد نفوذه وصلاحيّاته أيّام ابن عمّه الخليفة عثمان بن عفّان، وقد علم أنّ الإمام عليّاً لنْ يُقرّه على منصبه، ولنْ يفسح له المجال ليلعب كما يحلو له وكما كان في العهد السابق، إضافة إلى ما يعتمل في نفسه من حقد وعداء للإمام علي؛ لذلك رفض بيعة الإمام وأعلن التمرّد وشجّعه على ذلك ما أقدمتْ عليه عائشة وطلحة والزبير، فعبّأ أهل الشام وما حولها وقاد منهم جيشاً لَجِبَاً، يبلغ عدد مقاتليه (٨٥ ألف جندي ).

وزحف معاوية بجيشه إلى منطقة يُقال لها صفّين قرب الرقة، حيث استقبله الإمام بجيش قوامه تسعون ألفاً، ولم تُجْدِ محاولات الإمام في الموعظة والإرشاد والتفاوض والحوار شيئاً؛ لذلك نشبتْ المعركة في أوّل يوم من ذي الحجّة سنة (٣٦ ه-)، أي بعد حوالي خمسة أشهر من معركة الجمل، وانتهتْ في (١٣ شهر صفر - سنة ٣٧ ه-) عبر قضيّة التحكيم المشهورة، وبعد أنْ تساقط من المسلمين (٧٠ ألف قتيلاً )، و(٤٥ ألف من جيش معاوية )، و(٢٥ ألفاً من معسكر الإمام علي )، من بينهم خيار أصحاب الإمام وأحبّته كعمّار بن ياسر وهاشم المرقال.

١٢٦

٣ - معركة النَهْرَوَان:

لقد قَبل الإمام علي بالتحكيم بعد رفع المصاحف من قِبل أهل الشام، مضطرّاً لرغبة أكثريّة أتباعه في ذلك، لكنّ طائفة من جيشه غيّروا رأيهم بعد ذلك ورأوا أنّ القبول بالتحكيم كان خطأ كما هو رأي الإمام علي في البداية، وطالبوا الإمام:

- بالتراجع.

- ونقض نتيجة التحكيم.

- والاعتراف بأنّه كان مخطئاً في موقفه.

وشكّلوا لهم تجمّعاً مضادّاً منشقّاً على الإمام، وبدأوا يثيرون الفتنة، ويمارسون الإرهاب، فبعث لهم الإمام الرسل والوسطاء المفاوضين حتّى يرتدعوا عن غَيِّهم وردّ على إشكالاتهم وشُبَهِهِمْ مراراً في خطبه وأحاديثه، فلمّا أصرّوا على البَغْي وممارسة الإرهاب، زحف عليهم الإمام بجيشه في منطقة (النهروان ) بين بغداد وحلوان، وكانوا (أربعة آلاف رجل )، تراجع منهم ألف ومائتان بعد خطب الإمام ومحاولاته لهدايتهم، أمّا الباقي فقد بادروا إلى الحرب ورمَوا معسكر الإمام بالنبال، فحمل عليهم الإمام بجيشه وأبادهم ولم يفلتْ منهم إلاّ أقل من عشرة أشخاص.

وتُعرَف هذه الواقعة بواقعة الخوارج، وقد حصلتْ بعد شهور قلائل من انتهاء واقعة صفّين وفي نفس سنة (٣٧ ه-).

لقد كانت هذه المعارك مؤلمة جدّاً لنفس الإمام وموجِعة لقلْبه، إنّه كان يحمل للأمّة منهج إنقاذ وخلاص، ويخطّط لتطبيق العدل والمساواة والحرِّيَّة، وأنْ يُكمل مسيرة الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله في بناء خير أُمّة أُخْرِجَتْ للناس، لكن الانتهازيّين والمصلحيّين والحاقِدين والجُهَلاَء عرقلوا برنامجه الطَموح، ووضعوا العقبات الكأداء في طريقه اللاحب، وأضاعوا على الأمّة والبشريّة جمعاء فرصة ذهبيّة تاريخيّة.

وأصبح علي يقلّب كفّيه حسرةً على واقع الأمّة المُؤسف، ويجترّ آهاته وآلامه؛ لفقده خيرة أصحابه في تلك المعارك المفروضة عليه، ولمّا أصاب معسكره وجمهوره مِن تعب وتردُّد وتقاعس، ولممارسات معاوية الاستفزازية التخريبيّة بغاراته على البلدان الخاضعة لحكم الإمام.

١٢٧

ولم تكن السيّدة زينب بعيدة عن الآم أبيها ومعاناته، فهي تسمعه أو يَبْلغها عنه ما كان يخطب به جمهوره على منبر الكوفة، وهو يصرخ فيهم موبّخاً معاتباً يستثير همهم ويستنهض حميّتهم قائلاً:

يا أشباه الرجال ولا رجال !

حلوم الأطفال، عقول ربّات الحجال!

لوددتُ أنّي لم أَرَكُم وَلَمْ أَعْرِفْكم مَعْرِفَةً والله جرّت ندماً، وأعقبت سدما!

قاتلكم الله!

لقد ملأتم قلبي قيحاً وشحنتم صدري غيظاً، وجرّعتموني نُغَبَ التهمام أنفاساً، وأفسدتُم عليّ رأيي بالعصيان والخذلان..)(٢٩) .

ويأتيه خبر إحدى غارات معاوية وعبثه وفساده في منطقة الأنبار، فيمتلئ قلبُه حزناً وأَلَمَاً لِمَا أصاب الناس الآمنين من بَطْش جيش معاوية، ويتمنّى الموت ولا يراه كثيراً أمام تحمّل هذه الآلام والمآسي، وتسمع زينب أباها وهو يبثّ همومه ومعاناته قائلاً:

(ولقد بلغني أنّ الرجل منهم -من جيش معاوية - كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة، فينتزع حِجْلها وقلبها، وقلائدها ورعثها، ما تمتنع منه إلاّ بالاسترجاع والاسترحام.

فلو أنّ امرءاً مسلماً مات مِن بعد هذا أسفاً ما كان به ملوماً، بل كان به عندي جديراً!

فياعجباً! عجباً والله يميت القلب ويجلب الهم)(٣٠) .

ويبلغها عن أبيها موقفه على مصارع خُلّص أصحابه في صفّين كعمّار بن ياسر

____________________

(٢٩) نهج البلاغة: الإمام علي: الخطبة رقم: ٢٧.

(٣٠) المصدر السابق.

١٢٨

وهاشم المرقال، وهو يتضجّر من الحياة ويتمنّى الموت، وينشد باكياً:

أَلاَ أيّها الموت الذي لستَ تَارِكِي

أَرِحْنِي فَقَد أَفْنَيْتَ كُلَّ خَلِيْلِ

أَرَاكَ بَصِيْرَاً بِالذِيْنَ أُحِبُّهُم

كَأَنَّكَ تَنْحُو نَحْوَهُمْ بِدَلِيْلِ

لقد اشتدّتْ محنة الإمام وأحاطتْ به الآلام، فصار يستعجل الرحيل عن هذه الدنيا وأهلها، ويتشوّق إلى لقاء الله، لكن عبر أفضل سبيل وأسرع طريق وهو الشهادة، فهو يكره مغادرة الحياة بموت بارد ساذج، ويرغب العروج إلى الله متوشّحاً برداء الشهادة مضمّخاً بدمها الطاهر.. أَوَ لَيْسَ هو القائل:

- (إنّ أكرمَ الموت القتلُ).

- (والذي نفس ابن أبي طالب بيده، لأَلْف ضَرْبَةٍ بالسيفِ أَهْوَنُ عَلَيَّ مِن مِيْتَةٍ عَلَى الفِرَاشِ فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللهِ)(٣١) .

وهو الذي كان يدعو ربّه قائلاً: (اللهمّ... فارْزُقْنَا الشهادة)(٣٢) .

بالطبع كان عشق علي وشوقه للشهادة عميقاً في نفسه منذ أيّام شبابه، ولم يكن شيئاً مستجدّاً طارئاً على نفسه بعد أنْ كبرتْ سِنّه واشتدّتْ معاناته، وهذا ما يؤكّده الإمام حين ينقل إحدى ذكرياته مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فيقول:

(فقلتُ: يا رسول الله، أَوَليس قد قلتَ لي يوم أُحُد حيث استشهد مَن أستشهد من المسلمين، وحِيْزَتْ عنّي الشهادة، فشقّ ذلك عليّ، فقلتَ لي: أبشر فإنّ الشهادة من ورائك؟

فقال لي: إنّ ذلك لكذلك، فكيف صبرك إذن؟

فقلتُ: يا رسول الله، ليس هذا من مواطن الصبر ولكن من مواطِن البُشرى

____________________

(٣١) المصدر السابق: الخطبة رقم: ١٢٣.

(٣٢) المصدر السابق: الخطبة رقم: ١٧١.

١٢٩

والشكر)(٣٣) .

وحانت ساعة اللقاء.. واقترب موعد الرحيل. ودنتْ لحظة الفوز بالشهادة التي طالما انتظرها الإمام.. كان ذلك في فجر ليلة التاسع عشر من شهر رمضان المبارك (سنة ٤٠ ه- ).

وشاء القدر أنْ يكون علي تلك الليلة ضيف ابنته زينب، وأنْ ينطلق للشهادة من بيتها.. وتسجّل لنا روايات التاريخ بعض اللقطات عن تلك الليلة الخطيرة والساعات الحسّاسة في بيت العقيلة زينب، فقد كان الإمام يفطر في شهر رمضان (ليلة عند الحسن، وليلة عند الحسين، وليلة عند عبد الله بن جعفر زوج زينب ابنته لأجلها )(٣٤) .

وكانت ليلة التاسع عشر من رمضان حيث يتناول الإمام إفطاره عند ابنته زينب كما تُشير إلى ذلك بعض روايات (بحار الأنوار )، وإنْ كانت بعض الروايات تقول إنّه كان عند ابنته أُمّ كلثوم، وحسب تحقيقات العلاّمة الشيخ جعفر النقدي فإنّه غالباً ما يطلق على زينب الكبرى أُمّ كلثوم في لسان الروايات(٣٥) .

ولاحظتْ السيّدة زينب أنّ أباها تلك الليلة كان في وضع استثنائي، وحال لم تعهده منه، تقول:

لم يزل أبي تلك الليلة قائماً وقاعداً وراكعاً وساجداً، ثمّ يخرج ساعة بعد ساعة يقلّب طَرْفه في السماء وينظر الكواكب وهو يقول: (والله ما كَذبتُ ولا كُذِبْتُ وإنّها الليلة التي وُعدتُ بها... هي والله الليلة التي وعدني بها حبيبي رسول الله).

____________________

(٣٣) المصدر السابق: الخطبة رقم: ١٥٦.

(٣٤) بحار الأنوار: المجلسي: ج ٤١، ص ٣٠٠.

(٣٥) زينب الكبرى: جعفر النقدي: ص ١٧ / ١٨ / ٢٥ / ٣٨.

١٣٠

ثمّ يعود إلى مصلاّه ويقول: (اللّهمّ بارك لي في الموت، اللّهم بارك لي في لقائك)، ويكثر من قول: (إنّا لله وإنّا إليه راجعون)، و (لا حولَ ولا قوّةَ إلاّ بالله العليّ العظيم)... ويستغفر الله كثيراً.

تقول السيّدة زينب : فلمّا رايتُه في تلك الليلة قلقاً متململاً كثير الذكر والأستغفار، أرقت معه ليلتي.. وقلتُ: يا أبتاه مالي أراك هذه الليلة لا تذوق طعم الرقاد؟ يا أبا مالك تنعى نفسك؟

قال : (بنيّة قد قرب الأجل وانقطع الأمل).

قالتْ : فبكيتُ.

فقال لي : (يا بنيّة لا تبكي، فإنّي لم أقل لك ذلك إلاّ بما عهد إليّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ).

ثمّ إنّه نعس وطوى ساعة، ثمّ استيقظ من نومه، وقال: (يا بُنَيّة إذا قرب الأذان فاعلميني...)، ثمّ رجع إلى ما كان عليه أوّل الليل من الصلاة والدعاء والتضرّع إلى الله سبحانه وتعالى.

قالت : فجعلتُ أرقب الأذان، فلمّا لاح الوقت أتيتُه ومعي إناء فيه ماء، ثمّ أيقظتُه، فأسبغ الوضوء، وقام ولبس ثيابه، وفتح بابه ثمّ نزل إلى الدار، وكان في الدار أوزٌ قد أُهْدِيْنَ إلى أخي الحسينعليه‌السلام ، فلمّا نزل خرجْنَ وراءه وَرَفْرَفْنَ، وصِحْنَ في وجهه، ولم يَحْدُث ذلك من قَبل، فقالعليه‌السلام : (لا اله إلاّ الله، صوارخ تتبعها نوائح وفي غداة غد يظهر القضاء).

فقلتُ : يا أبتاه هكذا تتطيّر؟

قال : (يا بنيّة ما منّا أهل البيت مَن يتطيّر ولا يُتَطَيّر به، ولكنْ قول جرى على لساني).

ثمّ قال : (يا بنيّة بحقّي عليك إلاّ ما أطلقتيه، وقد حبستِ ما ليس له لسان، ولا يقدر على الكلام، إذا جاع أو عطش، فأطعميه واسقيه، وإلاّ خلّي سبيله يأكل من

١٣١

حشائش الأرض).

فلمّا وصل إلى الباب فعالجه ليفتحه، فتعلّق الباب بمئزره فانْحَلّ مئزره حتّى سقط، فأخذه وشدّه وهو يقول:

أُشْدُد حَيَازِيْمَكَ لِلْمَوْتِ

فَإِنَّ المَوْتَ لاَقِيْكَا

وَلاَ تَجْزَعْ مِنَ المَوْتِ

إذا حَلَّ بِنَادِيْكَا

كَمَا أَضْحَكَكَ الدَهْرُ

كَذَاك الدَهْر يُبْكِيْكَا

ثمّ قال : (اللّهم بارك لنا في الموت، اللّهم بارِك لِي فِي لِقَائِكَ).

قالت : وكنتُ أمشي خلفه، فلمّا سمعتُه يقول ذلك، قلتُ: واغوثاه يا أبتاه أراك تنعى نفسك منذ الليلة!!

قال : (يا بنيّة ما هو بنعاء، ولكنّها دلالات وعلامات للموت يتبع بعضها بعضاً...) ثمّ فتح الباب وخرج(٣٦) .

وما هي إلا فترة بسيطة من الوقت وإذا بالسيّدة زينب تسمع نعي أبيها علي، حيث ضربه (عبد الرحمن بن ملجم ) من أتباع الخوارج بالسيف على هامته حين رفع رأسه من السجدة الأولى من الركعة الأولى لصلاة الصبح، ووقع الإمام علي في محرابه صريعاً قائلاً: (فزتُ وربِّ الكعبة).

ونُقل الإمام إلى داره حيث فارقتْ روحُه الحياة بعد يومين من إصابته، أي في (الحادي والعشرين من شهر رمضان المبارك ).

وقُبيل وفاته عَرَقَ جبينُه فجعل يمسح العرق بيده، فقالت السيّدة زينب: يا أَبَه أراك تمسح جبينك؟

قال : (يا بنيّة، سمعتُ جدّك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: (إنّ

____________________

(٣٦) علي من المهد إلى اللحد: القزويني: ص ٥٥٩.

١٣٢

المؤمن إذا نزل به الموت، ودنتْ وفاته، عرق جبينُه، كاللؤلؤ الرطب، وسكن أنينه).

فقامتْ زينب وألقتْ بنفسها على صدر أبيها وقالتْ: يا أَبَه حدّثتْني أُمّ أيمن بحديث كربلاء وقد أحببتُ أنْ أسمعه منك.

فقال : (يا بنيّة، الحديث كما حدّثتْكِ أُمّ أيمن، وكأنّي بِكِ وبنساء أهلك لَسَبَايَا بهذا البلد، خاشعين، تخافون أنْ يتخطّفكم الناس، فصبراً صبراً).

وهكذا ودّعت السيّدة زينب أباها عليّاً، ورُزِئَتْ بفقده، ولك أنْ تتصوّر مدى الحزن والألم الذي أحاط بها بعد أنْ فارقتْ أباها الذي كان مَلأَ حياتها ووجودها، وكانت متعلّقة به أشدّ التعلّق كما كان يحبّها أشدّ الحب.

ولكن كما قال أبوها علي عند فقده أمّها الزهراء:

لِكُلِّ اجْتِمَاعٍ مِنْ خَلِيْلَيْنِ فرْقَةٌ

وَكُلُّ الذِي دُوْنَ الفِرَاق قَلِيْلُ

وَإنّ افْتِقَادِي فَاطَمَاً بَعْدَ أَحْمَدٍ

دَلِيْلٌ عَلَى أَنْ لاَ يَدُوْم خَلِيْلُ

١٣٣

١٣٤

* امتداد لشخصيّة أبيها:

عاصرتْ السيِّدة زينب أباها لخمس وثلاثين عاماً، كانت خلالها القريبة إلى قلبه والعزيزة عليه، وكان هو الأقرب إلى نفسها، والأشدّ تأثيراً عليها؛ لذلك تقمّصتْ السيّدة زينب شخصيّة أبيها علي في شجاعته وإقدامه، وفي فصاحته وبيانه، وفي عبادته وانقطاعه إلى الله، وفي سائر الفضائل والخصال الكريمة التي ورثتْها زينب من أبيها علي، بعد أنْ تربّتْ في أحضانه وتتلمذتْ على يديه طوال خمس وثلاثين سنة.

ففي مجال البلاغة والفصاحة يقول العلاّمة الشيخ جعفر النقدي بعد أنْ يتحدّث عن بلاغة علي وبيانه : فاعلم أنّ هذه الفصاحة العلويّة، والبلاغة المرتضويّة، قد ورثتْها هذه المخدّرة الكريمة، بشهادة العرب أهل البلاغة والفصاحة أنفسهم، فقد تواترتْ الروايات عن العلماء وأرباب الحديث بأسانيدهم عن حذلم بن كثير، قال:

قدمتُ الكوفة في المحرّم سنة إحدى وستّين عندما انصرف علي بن الحسين من كربلاء ومعهم الأجناد، يحيطون بهم، وقد خرج الناس للنظر إليهم، فلمّا أقبل

١٣٥

بهم على الجمال بغير وطاء، وجعلنَ نساء الكوفة يبكين وينشدنَ، فسمعتُ علي بن الحسين يقول بصوت ضئيل وقد أنهكته العلّة، وفي عنقه الجامعة ويده مغلولة إلى عنقه: (إنّ هؤلاء النسوة يبكينَ فَمَنْ قَتَلَنَا؟).

قال : ورأيتُ زينب بنت علي، ولم أرَ خَفِرَة أَنْطَقَ منها، كأنّها تُفْرِغ عن لسان أمير المؤمنين.

وهذا حذلم بن كثير من فصحاء العرب أخذه العجب من فصاحة زينب وبلاغتها، وأخذتْه الدهشة من براعتها وشجاعتها الأدبيّة، حتّى أنّه لم يتمكّن أنْ يشبّهها إلاّ بأبيها سيّد البلغاء والفصحاء، فقال:كأنّها تُفْرِغ عن لسان أمير المؤمنين (٣٧) .

وفي جانب العبادة والمناجاة والتضرّع كانت تحفظ العديد من أدعية ومناجاة أبيها علي، وتواظب على قراءتها، فقد رُوي عنها أنّها كانت تدعو بعد صلاة العشاء بدعاء أبيها علي وهو: (اللّهم إنّي أسألك يا عالم الأمور الخفيّة، ويا مَن الأرض بعزّته مدحيّة، ويا مَن الشمس والقمر بنور جلاله مشرقة مضيئة...)، إلى آخر الدعاء(٣٨) .

كما كانت تناجي ربّها بمناجاة أبيها علي، وهي قصيدة روحيّة تفيض خشوعاً وتضرّعاً لله سبحانه، مطلعُها:

لَكَ الحَمدُ يا ذا الجودِ والمَجدِ وَالعُلا

تَبارَكتَ تُعطي مَن تَشاءَ وَتَمنَعُ(٣٩)

وكانت تلهج أيضاً بأبيات حكميّة وعظيّة لأبيها علي، جاء فيها:

وَكَم لِلّهِ مِن لُطفٍ خَفيٍّ

يَدِقُّ خَفاهُ عَن فَهمِ الذَكيِّ

____________________

(٣٧) زينب الكبرى: جعفر النقدي: ص ٤٨.

(٣٨) عقلية بني هاشم: الهاشمي: ص ١٦.

(٣٩) المصدر السابق: ص ١٦.

١٣٦

وَكَم يُسرٍ أَتى مِن بَعدِ عُسرٍ

فَفَرَّجَ كُرْبةَ القَلبُ الشَجيِّ

وَكَم أَمرٍ تُساءُ بِهِ صَباحاً

وَتَأتيكَ المَسَرَّةُ بِالعَشيِّ

إِذا ضاقَت بِكَ الأَحوالُ يَوماً

فَثِق بِالواحِدِ الفَردِ العَلِيِّ(٤٠)

هكذا تُتابع السيّدة زينب خُطَى أبيها علي، وتتقمّص شخصيّته وتلهج بأدعيته وكلماته.

____________________

(٤٠) المصدر السابق: ص ١٩.

١٣٧

١٣٨

في محنة أخيها الحسن

١٣٩

١٤٠