المرأة العظيمة قراءة في حياة السيِّدة زينب بنت علي عليهما السلام

المرأة العظيمة  قراءة في حياة السيِّدة زينب  بنت علي عليهما السلام12%

المرأة العظيمة  قراءة في حياة السيِّدة زينب  بنت علي عليهما السلام مؤلف:
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 312

المرأة العظيمة قراءة في حياة السيِّدة زينب بنت علي عليهما السلام
  • البداية
  • السابق
  • 312 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 125256 / تحميل: 8610
الحجم الحجم الحجم
المرأة العظيمة  قراءة في حياة السيِّدة زينب  بنت علي عليهما السلام

المرأة العظيمة قراءة في حياة السيِّدة زينب بنت علي عليهما السلام

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

فلماذا يُحرَمون من الحج مع الإمام؟!

وقد رافق الإمام في سفره عدد كبير من أهل بيته رجالاً ونساءً، وجماعة من أنصاره وأتباعه، وفي إحدى مراحل الطريق وصلتْ إلى الإمام الحسين أنباء التطوّرات الخطيرة في الكوفة، وسيطرة الأمويّين عليها، ومقتل سفيره مسلم بن عقيل، ورغم تألّمه لِمَا حَدَثَ إلاّ أنّه صمّم على الاستمرار في حركته ومسيرته.

وحينما علمتْ السلطة الأمويّة باتجاه الحسين إلى العراق، بعثتْ بعض الفرق والمَفَارِز العسكريّة؛ لتمنع الإمام الحسين من دخول الكوفة.

وبعدما تجاوزتْ قافلة الإمام الحسين موقعاً يُقال له (شراف )، واجهتْهم فرقة عسكريّة من الجيش الأموي تضمّ زُهاء (ألف فارس بقيادة الحرّ بن يزيد الرياحي )، وكان جنود الفرقة يعانون من الظمأ الشديد في حرّ الصحراء اللاهب، فأنقذهم الإمام من الموت المحتّم، وبذل لهم ما يحتاجون من الماء، ثمّ بدأ يحاورهم موضّحاً لهم أسباب قدومه إلى العراق، لكنّهم أصرّوا على أنْ يستسلم لهم لِيَقْدِمُوا به على ابن زياد والِي الأمويّين على الكوفة، كما لم يسمحوا له بالرجوع من حيث أتى، وحصل الاتّفاق أنْ تسير قافلة الإمام الحسين في طريق لا يُدْخِلُهُ الكوفة كما يريدون هم، ولا يُرْجِعُهُ إلى الحجاز كما يريده الإمام.

* في كربلاء:

ووصلتْ إلى قائد الفرقة الأمويّة رسالة من عبيد الله بن زياد، تأمره بإبقاء الحسين في فيافي الصحراء، وعدم إجباره على الدخول إلى الكوفة، خلافاً لقراره السابق، ولعلّه فكّر في أنّ دخول الحسين إلى الكوفة قد يؤدّي إلى تطوّرات غير محسوبة، فمواجهته في الصحراء وبعيداً عن الجمهور أفضل.

وعلى إثر الأمر الجديد أرادتْ الفرقة العسكريّة أنْ تُعَرْقِل سيْر الإمام وتمنعه، بينما كان الإمام يريد مواصلة السير، ومع المشادّة وتوتّر الأجواء وصلوا إلى منطقة على شاطئ الفرات، وسأل الإمام عن اسم تلك المنطقة، فأُجيب إنّها كربلاء، فأمر بالنزول فيها، فهي الأرض التي اختارها الله لتكون مسرح ثورته، وميدان

١٦١

شهادته، وموضع قبره.

- وإذا كانت كربلاء في الجغرافيا مجرّد بقعة محدودة من الأرض.

- وإذا كانت في التاريخ قد سُجّلت باعتبارها مسرحاً لأهمّ حدث ديني سياسي في الأمّة الإسلاميّة بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

- وإذا كانت قد أصبحتْ قبلة للمؤمنين يؤمّونها ويقصدونها بقلوبهم وعواطفهم وأبدانهم.

- وإذا كانت كربلاء قد أضحتْ وَتَرَاً حزيناً تَعزف عليه قرائحُ الشعراء والأدباء، وملحمة بطوليّة يستلهم منها الثوّار والمصلحون.

فإنّها عند أهل البيتعليهم‌السلام أعمق من كلّ ذلك وأكبر، فليستْ هناك قضيّة أو حادثة نالتْ من الاهتمام والتركيز لدى أهل البيت ما نالتْه قضيّةُ كربلاء.

فقَبْل وقوع الحادثة كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يتحدّث عنها ويشرح بعض تفاصيلها ويبيّن أهمِّيَّتها وأبعادها.. وكذلك الإمام علي والسيّدة الزهراء والإمام الحسن.. وبعد الحادثة كان أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام يُجَدِّدون ذكراها ويحيون وقائعها ويأمرون الناس بتخليدها وتعظيمها.

- رُوي أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أعطى أُمّ سَلَمَة تُراباً من تربة الحسين، حَمَلَهُ إليه جبرئيلُ، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لأُمّ سَلَمَة: إذا صار هذا التراب دَمَاً فقد قُتِلَ الحسين). فحفظتْ أُمّ سَلَمَة ذلك التراب في قارورة عندها، فلمّا قُتل الحسين صار التراب دَمَاً، فأعلمتْ الناسَ بقتْله أيضاً(١٩) .

- وأخرج ابن سعد عن أُمّ سَلَمَة أيضاً قالتْ: قال رسول الله (صلى الله عليه

____________________

(١٩) الكامل في التاريخ: ابن الأثير: ج ٤، ص ٩٣.

١٦٢

وآله): (أخبرني جبريلُ أنّ الحسين يُقْتَل بِأَرْضِ العراق، فقلتُ لجبريل: أَرِنِي تُرْبَةَ الأرض التي يُقْتَلُ فيها، فَجَاءَ، فهذه تربتها)(٢٠) .

- وأخرج ابن سعد أيضاً والطبراني في (الكبير ) عن عائشة عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: (أخبرني جبريل أنّ ابني الحسين يُقتل بعدي بأرضِ الطفّ، وجاءني بهذه التربة وأخبرني أنّ فيها مضجعَه)(٢١) .

- وأخرج البغوي، وابن السكن، والباوردي، وابن مندة، وابن عساكر، والطبراني في (الكبير )، بإسناد رجاله ثقات عن أُمّ سَلَمَة: (إنّ ابني هذا - يعني الحسين - يُقتل بأرضٍ من أرض العراق، يُقال لها كربلاء، فَمَ شَهِدَ ذلك منكم فَلْيَنْصُرْهُ)(٢٢) .

- وأخرج أحمد، وأبو يعلى، والبزاز، والطبراني في (الكبير )، بإسناد رجاله ثقات، عن نجي الحضرمي أنّه سار مع علي، وكان صاحب مطهرته، فلمّا حاذى نينوى، وهو منطلق إلى صفِّين، فنادى عليٌّ: (اصبر أبا عبد الله، اصبر أبا عبد الله بشطّ الفرات.

قلتُ : وما ذاك؟

قال : دخلتُ على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ذات يوم وإذا عيناه تذرفان، قلتُ: يا نبيّ الله أأغضبك أحد؟ ما شأن عينيك تفيضان؟

قال: بل قام من عندي جبريل فحدّثني أنّ الحسين يُقتل بشطّ الفرات، قال: فهل لك أنْ أشممك من تربته؟ قلتُ: نعم! فمدّ يده فقبض قبضة من تراب فأعطانيها فلم أملك عيني أنْ فاضتا)(٢٣) .

____________________

(٢٠) درّ السحابة في مناقب القرابة والصحابة: محمّد بن علي الشوكاني: ص ٢٩٤.

(٢١) المصدر السابق.

(٢٢) المصدر السابق.

(٢٣) المصدر السابق: ص ٢٩٧.

١٦٣

- وفي (تذكرة الخواص: ص ٢٦٠ ) أنّه لمّا قيل للحسين هذه أرض كربلاء أخذ ترابها فشمّه: وقال: (والله هي الأرض التي أخبر بها جبرئيلُ رسولَ الله أنّني أُقْتَلُ فيها).

وجاء في (حياة الحيوان: للدميري ج ١ ص ٦٠ ) أنّ الحسين سأل عن اسم المكان: فقيل له: كربلاء.

فقال: (ذات كرب وبلاء، لقد مرّ أبي بهذا المكان عند مسيره إلى صفّين وأنا معه، فوقف وسأل عنه فأخبروه باسمه، فقال: هاهنا محطّ رحالهم، وهاهنا مهراق دمائهم!... فَسُئل عن ذلك؟ فقال: نفر مِن آل محمّد ينزلون هاهنا... ثمّ أمر بأثقاله فحطّت في ذلك المكان).

وكذلك جاء في (مختصر صفة الصفوة)(٢٤) . وكان وصول الإمام الحسين إلى كربلاء في (اليوم الثاني من شهر المحرم: سنة ٦١ ه- ).

* عاشوراء:

زحفتْ القوّات العسكريّة الأمويّة لتحاصر الحسين وأصحابه في كربلاء، واختلف المؤرّخون في عدد أفراد القوّات الزاحفة نحو كربلاء، ولعلّ القول الأقرب والأصح هو (ثلاثون ألف مقاتل )(٢٥) ، بينما كان عدد أفراد معسكر الحسين لا يزيد على ثمانين رجلاً. بينما فرضت السلطات الحصار على الكوفة وحالة الطوارئ في داخلها؛ حتّى لا يتسلّل منها أحد للالتحاق بالإمام الحسين. وكانت قيادة الجيش الأموي بعهدةعمر بن سعد.

وتحدّث الإمام الحسين للجيش الأموي الزاحف لقتاله مراراً، ليعرّفهم بنفسه

____________________

(٢٤) حياة الإمام الحسين: القرشي: ج ٣، ص ٩١.

(٢٥) المصدر السابق: ص ١٢٢.

١٦٤

وليشرح لهم مبرّرات وأهداف موقفه المعارض للسلطة الأمويّة، وليوضّح لهم سوء الواقع المعاش في ظلّ الأمويّين، ومسؤوليّة الثورة والرفض لظلمهم وطغيانهم.

لكنّ خطابات الإمام لم تؤثّر إلاّ في عدد قليل محدود من أفراد الجيش كالحرّ بن يزيد الرياحي قائد الفرقة العسكريّة التي واجهتْ الإمام في الطريق، فقد تأثّر بموقف الإمام وخطاباته، وتمرّد على معسكره والتحق بمعسكر الإمام الحسين.

وتشديداً للحصار على الإمام الحسين وأصحابه، فقد احتلّ الجيش الأموي شاطئ الفرات، ومنعوا الحسين وأصحابه وعياله من الوصول إلى الماء، منذ اليوم السابع من المحرّم.

وفي صبيحة اليوم العاشر من المحرّم بدأ الجيش الأموي هجومَه على معسكر الإمام الحسين، فتبادر أصحاب الإمام ورجالات أسرته الهاشميّة للدفاع عن وجود الإمام وعياله وعن أنفسهم، وسطّروا من خلال معركة دفاعهم المقدّس ملحمةً خالدةً من البطولة والفداء لم يعرف التاريخ لها نظيراً، وبعد ظُهْر اليوم العاشر من المحرّم كان جميع الأصحاب والأنصار قد عانقوا الشهادة، وصدقوا ما عاهدوا الله عليه، بينما بقي الإمام الحسين يواجه القوم بمفرده وخلفه نساؤه وعياله قد أقضّهم العطش والظمأ، وآلمهم الحزن والمصاب، وأصبحوا ينتظرون مستقبلاً مأساويّاً بعد فَقْد رجالاتهم وحُمَاتهم.

وتصدّى الإمام لمواجهة القوم وقتالهم، غير آبه بكثرة جموعهم، ولا نالتْ المصائب والآلام من عزيمته وشجاعته، حتّى أذن الله له بلقائه، فوقع صريعاً شهيداً على بَوْغَاء كربلاء، مضمّخاً بدمائه الشريفة، شاهداً على انحراف الأمّة عن رسالة جدّه، راسماً لأجيال البشريّة طريق الثورة والنضال دفاعاً عن المبدأ والكرامة.

ولم يكتفِ الجيش الأموي الظالم بقتل الإمام وأصاحبه جميعاً، بل قتلوا حتّى الأطفال الرُضّع كعبد الله الرضيع ابن الإمام الحسين وهو دون العام من عمره، حيث ذبحوه على صدر أبيه الحسين، ولم يسلم من رجالات معسكر الحسين إلاّ ولده علي بن الحسين زين العابدين؛ لأنّه كان عليلاً مريضاً.

١٦٥

وأجهزوا على الجثث الطاهرة للإمام الحسين وأصحابه يحتزّون رؤوسهم ثمّ وطأوا جسد الإمام بخيولهم، وأغاروا على خيم نساء الحسين وأطفاله، وأحرقوها بالنار، وسلبوا ما فيها من متاع، وما على النساء والأطفال من حُلِيٍّ وَحُلَلٍ!!

لقد ارتكب الجيش الأموي الباغي في كربلاء جرائم فظيعة، لا يصحّ ارتكابها حتّى مع الأعداء الكافرين، فضلاً عن عترة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لذلك أصبحتْ كربلاء تمثّل أفظع مأساة في تاريخ البشر، وفي ذات الوقت فهي أروع ملحمة في سجلّ البطولة والفداء والصمود.

* قافلة السبايا:

وفي اليوم (الحادي عشر من المحرّم ) قام الجيش الأموي بمواراة جثث قتلاهم، بينما تركوا الأجساد الطاهرة للإمام الحسين وأصحابه على صعيد كربلاء تسفي عليهم الرياح دون مواراة.

وساروا بنساء الحسين وأطفاله سبايا كأُسارى إلى الكوفة تتقدّمهم رؤوس الحسين وأصحابه، معلّقة على رؤوس الرماح، وكان عدد السبايا عشرين امرأة عدا الصبيّة، وقد سَيَّرُوْهُنَّ على الجمال بغير وطاء(٢٦) وساقوهنّ بكلّ عنف وشِدّة، وأدخلوا السبايا إلى الكوفة في اليوم (الثاني عشر ) وسط مظاهر الفرح والبهجة بانتصار الظالمين على أهل البيت.

وبعد أنْ بقيتْ السبايا أيّاماً في الكوفة يعانينَ الإذلال والآلام سيَّروهنّ إلى الشام مع رؤوس الشهداء، فكانت رحلة مُضْنِيَة مرهِقة لتلك النساء المفجوعات، والصبايا اليتيمات.. ولَقِيْنَ في الشام ضروب الشماتة والإهانة، وخاصّة في مجلس الطاغية يزيد بن معاوية.

ومع أنّ دمشق كانت عاصمة الأمويّين، وأجواؤها كانت معبّأة ضدّ أهل

____________________

(٢٦) المصدر السابق: ص ٣٢١.

١٦٦

البيتعليهم‌السلام ، إلاّ أنّ مأساة السبايا، وأخبار كربلاء، وخطابات الإمام زين العابدين والسيّدة زينب وأُمّ كثلوم، كلّ ذلك ترك أثراً في جمهور الشام، وخلّف تيّاراً من الإنكار والرفض لسياسات يزيد بن معاوية، وخوفاً من تنامي ذلك التيّار أمر يزيد بإعادة السبايا إلى المدينة المنوّرة حسب طلبهم.

وهكذا عادت قافلة السبايا إلى المدينة تشكو إلى رسول الله ما أصابهم من ظلم وضَيْم واضطهاد لا شبيه له في التاريخ.

وبعد قراءة هذه السطور المتقضية السريعة من كتاب الثورة الحسينيّة الذي لم تستوفِ الأجيال قراءته، يمكننا الآن التحدّث عن دور السيّدة زينبعليها‌السلام في تلك الثورة العظيمة.

١٦٧

١٦٨

الدَور المنتظَر

قضيّة كربلاء بأحداثها المروعة لم تكن مفاجئة للسيّدة زينب، ودورها في تلك الواقعة لم يكن عفويّاً ولا من وحي الصُدْفة. فقد كانت مهيّأة نفسيّاً وذهنيّاً لتلك الواقعة، وكانت تعلم منذ طفولتها الباكرة بأنّ تلك الحادثة ستقع وأنّها ستلعب فيها دوراً رئيسيّاً بارزاً.

صحيح أنّ أحداث كربلاء قبل وقوعها كانت في رَحِم الغيب ولا يعلم الغيب إلاّ الله، ولكن مِن الصحيح أيضاً أنّ الله تعالى قد كشف لنبيّه الأعظم أستار الغيب، وأظهره عليه، يقول تعالى:( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ ) (٢٧) .

وثابت عند المسلمين أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قد أخبر أصحابه بالعديد من المغيّبات، وأنبأهم بأنّها ستقع، وأدركوا وقوعها بالفعل، وذلك ممّا لا نقاش في ثبوته بين المسلمين.

ومن المغيّبات التي تحدّث عنها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله واقعة كربلاء، كما أشارتْ إلى ذلك العديد من المصادر الموثوقة عند المسلمين من كتب الحديث.

____________________

(٢٧) سورة الجن: الآيات: ٢٦ - ٢٧.

١٦٩

وأهل البيت المعنيّون بتلك الواقعة كانوا في طليعة مَن أحاطهم الرسولُ بها علماً، كما تؤكّد ذلك مختلف المصادر الحديثيّة والتاريخيّة.

فطبيعي إذاً أنْ تكون السيّدة زينب في أجواء تلك النبوءة، وعلى معرفة بالخطوط العامّة للحادثة، بل وببعض تفاصيلها وجزئيّاتها.

وقد صرّحتْ العقيلة زينب بمعرفتها المسبقة بواقعة كربلاء، في الحديث الذي نقله الشيخ الأقدم أبو القاسم جعفر بن محمّد بن جعفر بن موسى بن قولوية القمّي (المتوفى سنة: ٣٦٧ ه- أو ٣٦٨ ه- ) في كتابه (كامل الزيارة ) وهو كتاب اعتمد كبار العلماء على رواياته وأسانيده. والحديث مروي بسند متّصل إلى الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليه‌السلام قال:

(إنّه لَمّا أصابنا بالطف ما أصابنا، وقُتل أبيعليه‌السلام ، وقُتل مَن كان معه مِن وُلده وإخوته وسائر أهله، وحُملتْ حَرَمُهُ ونساؤه على الأقتاب يُراد بنا الكوفة، فجعلتُ أنظر إليهم صرعى، ولم يُوارَوا، فَيَعْظُمُ ذلك في صدري، ويشتدّ لِمَا أرى منهم قلقي، فكادتْ نفسي تخرج، وتبيّنتْ ذلك منّي عمّتي زينب بنت علي الكبرى، فقالتْ: ما لي أراك تجود بنفسك يا بقيّة جدّي وأبي وإخوتي؟

فقلتُ: وكيف لا أجزع ولا أهلع، وقد أرى سيّدي وإخوتي وعمومتي، ووُلد عمّي وأهلي مصرّعين بدمائهم مرمّلين بالعَرَاء، مسلّبين لا يكفّنون ولا يُوَارَون، ولا يعرج عليهم أحد، ولا يقربهم بشر، وكأنّهم أهل بيت من الديلم والخزر؟

فقالتْ: لا يجزعنّك ما ترى: فوالله إنّ ذلك لعهد من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى جدّك وأبيك وعمّك.. ولقد أخذ الله ميثاق أناس من هذه الأمّة لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض، وهم معرفون في أهل السماوات، إنّهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرّقة فيوارونها، وهذه الجسوم المضرّجة، وينصبون لهذا الطف

١٧٠

علماً لقبر أبيك سيّد الشهداء، لا يُدْرَسُ أثره، ولا يصفو رسمُه، على كرور الليالي والأيّام، وليجتهدنّ أئمّة الكفر، أشياع الضلالة، في محوه وتطميسه، فلا يزداد أثره إلاّ ظهوراً، وأَمْره إلاّ علوّاً.

فقلتُ : وما هذا العهد وما هذا الخبر؟

فقالتْ : حدّثتْني أُمّ أيمن - مولاة رسول الله - أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله زار منزل فاطمة في يوم من الأيّام. وتستمر السيّدة زينب في حديثها الطويل لابن أخيها زين العابدين نقلاً عن أُمْ أيمن وهي تعدّد ما يجري على أهل البيت من حوادث بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حسب ما أخبر به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ومن بين تلك الحوادث واقعة كربلاء.

ثمّ تعقب السيّدة زينب على ما نقلتْه عن أُمّ أيمن بقولها: (فلمّا ضَرب ابنُ ملجم لعنه الله) أبيعليه‌السلام ورأيتُ أثر الموت منه.

قلتُ : يا أبه حدّثتْني أُمّ أيمن بكذا وكذا، وقد أحببتُ أنْ أسمعه منك.

فقال : يا بنيّة الحديث كما حدّثتْكِ أُمّ أيمن، وكأنّي بك وببنات أهلك سبايا بهذا البلد - أي الكوفة - أذلاّء خاشعين)(٢٨) .

____________________

(٢٨) بحار الأنوار: المجلسي: ج ٢٨، ص ٥٥ - ٦٠.

١٧١

١٧٢

المبادرة والاختيار

قد يجد الإنسان نفسه في معمعة معركة لم يكن مختاراً للدخول فيها، وقد يُصبح متورّطاً في مشكلة فُرضتْ عليه دون قصد منه.

ويحصل هذا غالباً بالنسبة للمرأة، فبحكم تبعيّتها للرجل أباً كان أو زوجاً أو ولداً، قد تجد نفسها محشورة في معركته دون سابق وعي أو اختيار من قِبلها.

فهل كان حضور السيّدة زينب ودورها في ثورة كربلاء شيئاً من هذا القبيل؟

بقراءة واعية لدور السيّدة زينب ولمواقفها وكلماتها خلال أحداث الواقعة يتجلّى للباحث أنّ السيِّدة زينب قد اختارتْ دورها في هذه الثورة العظيمة بوعي سابق وإدراك عميق، وأنّها كانت المبادرة للمشاركة كما احتفظت بزمام المبادرة في مختلف المواقع والوقائع الثوريّة.

ويحدّثنا التاريخ أنّ السيّدة زينب هي التي قرّرت وأرادتْ الخروج مع أخيها الحسين في ثورته، مع أنّها من الناحية الدينيّة والاجتماعيّة في عهدة زوجها عبد الله بن جعفر والذي كان مكفوف البصر، كما كانت ربّة منزلها والقائمة بشؤون أبنائها، وكلّ ذلك كان يمنع التحاقها بركب أخيها الحسين.. لكنّها قرّرتْ تجاوز

١٧٣

كلّ تلك العوائق واستأذنتْ زوجها في الخروج مع أخيها، فأذنَ لها بذلك، بل وأمر ولدَيه عون ومحمّد بالالتحاق بقافلة الثورة.

ولأنّ سفر الإمام الحسين كان محفوفاً بالمخاطر، فقد اقترح عليه شيوخ بني هاشم أنْ لا يصطحب معه أحداً من النساء والعيال، ولكنّ السيّدة زينب كانت بالمرصاد لمثل هذه المقترحات التي تحول بينها وبين المشاركة في المسيرة المقدّسة.

فهذا عبد الله بن عبّاس - وبعد أنْ عجز عن إقناع الإمام الحسين بالعودة عن قرار الخروج إلى الثورة - يناقشه في حمل النساء والعيال معه قائلاً:إنْ كنتَ سائراً فلا تَسِر بنسائك وصِبْيَتِكَ، فإنّي لخائف أنْ تُقتل كما قُتل عثمان، ونساؤه ووُلده ينظرون إليه (٢٩) .

ومحمّد بن الحنفية أخو الإمام الحسين طرح على الإمام نفس التساؤل بعدما أخبره الإمام الحسين بعزمه على الخروج قائلاً: (أتاني رسول الله وقال لي: يا حسين أخرج فإنّ الله شاء أنْ يراك قتيلاً). فتساءل محمّد بن الحنفية: فما معنى حمل هؤلاء النسوة والأطفال وأنت خارج على مثل هذا الحال؟

وكان جواب الإمام على تساؤل هؤلاء المشفقين على مستقبل نسائه وعائلته أشدّ إثارةً وغرابة، حيث قالعليه‌السلام : (قد شاء الله أنْ يراهنّ سبايا)(٣٠) .

ويَروي الشيخ النقدي أنّ السيّدة زينب اعترضتْ على نصيحة ابن عبّاس للإمام بأنْ لا يحمل معه النساء: فسمع ابن عبّاس بكاءً من ورائه وقائلة تقول: يابن عبّاس تشير على شيخنا وسيّدنا أنْ يخلفنا هاهنا ويمضي وحده؟ لا والله بل نحيا معه ونموت معه، وهل أبقى الزمان لنا غيره؟ فالتفتَ ابن عبّاس وإذا المتكلّمة هي زينب(٣١) .

____________________

(٢٩) حياة الإمام الحسين: القرشي: ج ٣، ص ٢٧.

(٣٠) المصدر السابق: ص ٣٢.

(٣١) زينب الكبرى: النقدي: ص ٩٤.

١٧٤

وكما أنّ أصل اشتراكها في الثورة كان بقرارها الواعي، فإنّ أغلب مواقفها في ميادين الثورة كانت تنبثق من مبادراتها الوثّابة الشجاعة فيه، التي تهرع نحو أخيها الحسين حينما تَدْلَهمّ المصائب والخطوب؛ لتشاركه المواجهة.

وهي في يوم عاشوراء تتحدّى الآلام والظروف العصيبة لتمارس دورها البطولي العظيم، مع أنّ بعض ما أصابها يكفيها عذراً للانشغال بأحزانها والابتعاد عن ساحة المعركة.

ثمّ وما الذي دفعها للخطابة أمام جمهور الكوفة؟

ومَن كان يتوقّع - مِن مثلها - خطابها الناري في مجلس يزيد بن معاوية؟

لقد كانت ظروف السبي والأسر، وطبيعة الخفارة والخدر لدى السيّدة زينب، وأجواء الشماتة والعَدَاء المحيطة بها في الكوفة والشام.. لقد كان كلّ ذلك أو بعض ذلك يكفي دافعاً نحو الانكفاء على الذات ومعالجة الهموم والحزن.. لكنّ العقيلة زينب تسامتْ على كلّ ذلك، وامتلكتْ زمام المبادرة، مسيطرةً على كلّ ما حولها من ظروف وأوضاع.

ولأنّها كانت مختارة ومبادرة عن سابق وعي وتصميم، فإنّها كانت تنظر إلى ما واجهتْه من آلام ومآسٍ قاسية تتصدّع لهولها الجبال الرواسي، تنظر إليها بايجابيّة واطمئنان، وتعتبرها ابتلاءً وامتحاناً إليها لا بدّ لها من النجاج فيه.

بل إنّها وفي أشدّ المواقف وأفظعها تضرّع إلى الله شاكرة حامدة آلاء نِعَمِهِ، معلنةً تقبّلها لقضاء الله، واستعدادها لتحمّل الأكثر من ذلك في سبيله.

فحينما حدثتْ الفاجعة الكبرى بمقتل أخيها الحسين بعد قتل كلّ رجالات بيتها وأنصارهم، خرجت السيّدة زينب تعدو نحو ساحة المعركة تبحث عن جسد أخيها الحسين غير عابئة بصفوف الجيش الأموي المدجّج بالسلاح، فلمّا وقفتْ على جثمان أخيها العزيز الذي مزّقتْه السيوف، جعلتْ تُطيل النظر إليه، ثمّ رفعتْ بصرها نحو السماء وهي تدعو بحرارة ولهفة: (اللهمّ تقبّل منّا هذا القربان )(٣٢) .

____________________

(٣٢) حياة الإمام الحسين: القرشي: ج ٣، ص ٣٠٤.

١٧٥

إنّ ذروة المأساة وقمّة المصبية هو مورد للتقرّب إلى الله تعالى عند السيّدة زينب.. وذلك هو قمّة الوعي وأعلى مستويات الإرادة والاختيار.

وحينما يسألها (عبيد الله بن زياد ) أمير الكوفة وواجهة السلطة الأمويّة في مجلسه سؤال الشامت المغرور بالنصر الزائف قائلاً: كيف رأيت فعل الله بأخيك؟

فإنّها تجيبه فوراً ومن أعماق قلبها بجرأة وصمود قائلة: (ما رأيتُ إلاّ جميلاً، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاجّ وتُخاصَم فانظر لِمَنْ الفَلَج يومئذ، ثكلتْك أمّك يا ابن مرجانة )(٣٣) .

وتختم خطابها في مجلس يزيد بن معاوية بتأكيد رؤيتها الايجابيّة لِمَا حصل لها ولأهل بيتها من مصائب وآلام حيث تقول: (والحمد لله ربّ العالمين، الذي ختم لأوّلنا بالسعادة والمغفرة، ولآخرنا بالشهادة والرحمة، ونسأل الله أنْ يُكمِل لهم الثواب، ويُوجِب لهم المزيد، ويحسن علينا الخلافة إنّه رحيم ودود، وحسبنا الله ونعم الوكيل )(٣٤) .

فزينب لم تكن مستدرَجة، ولم تجد نفسها متورِّطة في معركة فُرضتْ عليها، بل اقتحمتْ ساحة الثورة بملء إرادتها وكامل اختيارها، وهنا تتجلّى عظمة السيّدة زينب.

____________________

(٣٣) المصدر السابق: ص ٣٤٤.

(٣٤) المصدر السابق: ص ٣٨٠.

١٧٦

سلاح المظلوميّة

في المعركة بين الحقّ والباطل يستخدم كلٌّ من طَرَفَي الصراع جميع ما يُتاح له من أسلحة وما بحوزته من إمكانيّات؛ ليقضي على خصمه أو لِيُوقِع به أكبر قدر ممكن من الخسائر.

وإذا كانت الأسلحة المادِّيَّة المستخدمة في القتال على أرض المعركة متشابهة كالسيوف والرماح، فإنّ الأسلحة المعنويّة ووسائل الاستقطاب للمؤيّدين وأساليب التأثير والتعامل مع الناس تكون متفاوتة مختلفة بين الطرفين، نتيجةً لاختلافهما في الأهداف الدافعة والقِيَم الحاكمة.

حيث تسعى كلّ جبهة لتعبئة أفرادها ورفع معنويّاتهم، كما تجتهد في استقطاب الجمهور والتأثير في الرأي العام لصالح موقفها.

ولتحقيق ذلك تستخدم جبهة الباطل أساليب الإغراء والمَكْر والخِدَاع؛ لإثارة الأهواء والرغبات في نفوس أتباعها، فتمنّيهم بالأموال والمناصب والامتيازات، وتُغريهم بانتصاراتها الزائفة وقوّتها الزائلة، بينما تشهر جبهة الحقّ سلاح الصدق والخلاص، وتستثير في نفوس أتباعها قِيَم الحقّ والعدل وروح التضحية والفداء.

١٧٧

ومِن أمضى أسلحة جبهة الحقّ التي تجلّت في ثورة الإمام الحسينعليه‌السلام هو سلاح المظلوميّة، بإبراز عدوانيّة الطرف الآخر وبشاعة جرائمه، وإظهار عمق المأساة وشدّة الآلام والمصائب التي تحمّلها معسكر الإمام الحسين.

والمظلوميّة:

- تستصرخ ضمائر الناس وتُوقِظ وجدانهم.

- وتدفعهم إلى الوقوف إلى جانب أهل الحقّ المظلومين.

- كما تستثير نقمتَهم وغضبَهم ضدّ المعتدين الظالمين.

- والمظلوميّة تُعَبِّئ الأتباع المناصرين وتدفعهم للالتفاف أكثر حول معسكرهم وقضيّتهم.

- كما تؤثّر في نفوس الجمهور ليتعاطف ويؤيّد المظلومين ضدّ الظالمين.

- بل وتمتدّ آثارها حتّى إلى معسكر العدو؛ لتحرّك فيه ضمائر بعض جنوده المخدوعين، فيتمرّدون على معسكرهم الظالم ويلتحقون بصفوف الثوّار المخلصين.

- وأكثر من ذلك، فإنّ تأثير المظلوميّة يتخطى الأزمنة والإعصار لِيَحشد أجيال البشريّة على مرّ التاريخ إلى جانب معسكر الحق.

وقد تحقّق كل ذلك وبأروع صورة في واقعة كربلاء، فبينما كانت السلطة الأمويّة تستعرض قوّتها العسكريّة أمام الناس؛ لترهبهم حتّى يقفوا إلى جانبها، وتمارس عليهم أشدّ ضغوط القَمْع.

وبينما كان الوالي الأموي على الكوفة عبيد الله بن زياد يغدق الأموال والرشوات على الزعماء والوجهاء، ويزيد في عطاء الجنود، ويَعِدُ القيادات ك-: (عمر بن سعد، وشِمْر بن ذي الجوشن، وشِبْث بن رِبْعِي ) بالمناصب والولايات.

في مقابل كلّ ذلك كان الإمام الحسين وأصحابه يبشّرون بالقِيَم السامية، ويخاطبون الضمائر الحرّة، ويبصّرون الناس بواقعهم ومسؤوليّاتهم، ويُلفتون الأنظار إلى جرائم السلطة الظالمة، وعدوانيّتها وجورها الذي تجاوز كلّ الحدود.

وكان سلاح المظلوميّة مؤثّراً جدّاً، فكلّما شاهد أصحاب الحسين ما يصيب إمامهم وعيالاته من الآلام والمصائب، استماتوا أكثر في الدفاع والتضحية والفداء، وازدادوا قناعة ويقيناً بعدالة قضيّتهم.

ويحدّثنا التاريخ كيف أنّ أفراداً بل قيادات من الجيش الأموي قد تأثّرتْ

١٧٨

لمظلوميّة الإمام الحسين، وغيّرت موقفها وتحوّلت إلى جانب المعسكر الحسيني.. ك-(الحر بن يزيد الرياحي ) وكان من قادة الجيش الأموي ومن أشجع أبطالهم، وهو الذي قاد أوّل فرقة عسكريّة حاصرتْ الإمام في الطريق - كما سبق -.

هذا الرجل حرّكت مظلوميّةُ الإمام وجدانَه ومشاعره وأيقظتْ ضميره، فألوى بعنان فرسه صوب الإمام وهو مُطْرِق برأسه إلى الأرض حياءً وندماً، فلمّا دَنَا من الإمام رفع صوتَه قائلاً:

(اللّهمّ إليك أُنيب فقد أرعبتُ قلوبَ أوليائك وأولادَ نبيّك، يا أبا عبد الله إنّي تائب فهل لي من توبة؟ ).

ونزل عن فرسه، فوقف قبال الإمام ودموعه تتبلور على وجهه، وجعل يخاطب الإمام ويتوسّل إليه بقوله:

(جعلني الله فداك يابن رسول الله أنا صاحبك الذي حبسك عن الرجوع، وجَعْجَعْتُ بك في هذا المكان، والله الذي لا اله إلاّ هو ما ظننتُ أنّ القوم يردّون عليك ما عرضْتَ عليهم أبداً، ولا يبلغون منك هذه المنزلة أبداً ).

لقد هزّه وأثاره ما بلغه القوم من الإمام، يعني ما أصاب الإمام منهم من المآسي والآلام.

ولم يكن الحرّ وحده قد تأثّر بمظلوميّة الإمام، بل إنّ حوالي ثلاثين فارساً آخر من الجيش الأموي قد اتّخذوا ذات الموقف والتحقوا بمعسكر الإمام(٣٥) .

أمّا انعكاس مظلوميّة الإمام الحسين وأصحابه وعيالاته على جماهير الأمّة آنذاك، فهذا ما تُحَدِّثُنَا عنه الانتفاضات والثورات التي انطلقتْ في مختلف أرجاء الأمّة كَرَدّ فِعْل على مقتل الإمام الحسين بتلك الصورة الفظيعة، ك-:

- ثورة التوّابين والتي كان شعارها: (يا لثارات الحسين ).

- وثورة المختار الثقفي.

- وثورة أهل المدينة.

ولا تزال مظلوميّة الإمام الحسين حيّة مؤثّرة في القلوب والنفوس على مرّ

____________________

(٣٥) المصدر السابق: ص ١٩٦ - ١٩٨.

١٧٩

العصور والأجيال، إلى يومنا هذا والى أنْ يَرِثَ الله الأرض ومّن عليها..

وأبرع وأكثر مِن شَهْرِ سلاحِ المظلوميّة واستخدمه في واقعة كربلاء هي السيّدة زينب.. حيث كانت تسلّط الأضواء وتُلفِتْ الأنظار إلى مواقع الظُلامة، وقامتْ بدور تأجيج العواطف وإلهاب المشاعر أثناء الواقعة، وبعد الواقعة في الكوفة والشام وحينما عادتْ إلى المدينة، بل كرّستْ باقي أيّام حياتها للقيام بهذا الدور العظيم.

إنّ المواقف العاطفيّة الوجدانيّة التي قامتْ بها السيّدة زينب، حيث كانت تبكي وتتألّم وتنعي وتندب وتستغيث وتستصرخ، لم تكن مجرّد ردود أفعال عاطفيّة على ما واجهتْه من مآسي وآلام، بل كانت تلك المواقف فوق ذلك سلاحاً مشرعاً تُصَوِّبُهُ نحو الظلم والعدوان، وتُدافع به عن معسكر الحقّ والرسالة.

ولنقف الآن بعض العَيّنات والنماذج من تلك المواقف الزينبية:

* ترى الإمام ينعى نفسه:

الحسين في نظر السيّدة زينب ليس مجرّد أخ عزيز، ومكانته في نفسها لا تتحدّد في كونه الإمام القائد والمفترض الطاعة فقط، بل فوق ذلك كلّه أنّه يجسّد ويمثّل شخصيّة جدّها رسول الله، وأبيها الإمام علي، وأمّها فاطمة الزهراء، وأخيها الإمام الحسن، أنّه البقيّة والامتداد للبيت النبوي العظيم.

لذلك حينما رأتْه ينعى بنفسه وينتظر الشهادة، أدركتْ مدى الخسارة التي تحلّ بها وبالوجود عند فقده، فقد رأتْ الحسين (ليلة العاشر من المحرّم )، وهو يعالج سيفه ويصلحه في خيمته ويقول:

يا دَهرُ أُفٍّ لَكَ مِن خَليلِ

كَم لَكَ بالإِشراقِ وَالأَصيلِ

مِن صاحِبٍ وَطالبٍ قَتيلِ

وَالدَهرُ لا يَقنَعُ بِالبَديلِ

وَإنّما الأَمرُ إِلى الجَليلِ

وَكُلُّ حَيٍّ سالِكُ السَبيلِ

١٨٠

فلمّا سمعتْ السيّدة زينب هذه الأبيات أحسّتْ أنّ شقيقها عازم على الموت ومصمِّم على الشهادة، فأعولتْ قائلة:

(واثكلاه! واحزناه! ليت الموت أعدمني الحياة، يا حسيناه، يا سيّداه، يا بقيّة أهل بيتاه، استسلمتُ ويئستُ من الحياة، اليوم مات جدّي رسول الله، وأمّي فاطمة الزهراء، وأبي علي، وأخي الحسن، يا بقيّة الماضين، وثمال الباقين ).

فقال لها الإمام : (يا أخيّه لا يذهبنّ بِحِلْمِكِ الشيطان).

فأجابتْه بِأَسَى والْتِيَاع: (أتغتصب نفسك اغتصاباً، فذاك أطول لحزني، وأشجى لقلبي )(٣٦) .

وقد أرادت السيّدة زينب في هذا الموقف أنْ تبيّن خطورة الجريمة التي عزم الجيش الأموي على ارتكابها، إنّها تستهدف رسول الله وابنتَه الزهراء وأخاه عليّاً وسِبْطَه الحسن عبر قَتْل مَن يمثّلهم ويجسّدهم جميعاً آنذاك، وهو الإمام الحسينعليه‌السلام .

* عند مصرع العبّاس:

لم يكن العبّاس بن علي جنديّاً عاديّاً في معسكر الإمام الحسين، بل كان قائد القوات العسكريّة الحسينيّة، وصاحب اللواء، وكان ذا شخصيّة عظيمة، وللسيّدة زينب به علاقة حميمة، وقد احتفظ به الإمام الحسين إلى جانبه، فلم يأذن له بالنزول إلى ساحة المعركة إلاّ بعد قَتْل كلّ رجاله وأنصاره، فكان آخر بطل يُقاتل بين يَدَي الحسين؛ لذلك كان مقتله إيذاناً بانهيار المعسكر الحسيني، كما صرّح بذلك الإمام الحسين، حيث وقف على مصرع أخيه العبّاس قائلاً: (الآن انْكَسَرَ ظَهْرِي، وقلّتْ حِيْلَتِي).

وحينما علمتْ السيّدة زينب بمقتل أخيها العبّاس، أظلمّتْ الدنيا في عَيْنها، فاندفعتْ صارخة: (واأخاه، واعبّاساه، واضَيْعَتنا بعدك )(٣٧) .

____________________

(٣٦) المصدر السابق: ص ١٧٢.

(٣٧) المصدر السابق: ص ٢٦٩.

١٨١

* أمام الفاجعة الكبرى:

لا يمكن أنْ تمرّ على إنسان لحظة أقسى وأصعب من تلك اللحظات الأليمة التي مرّتْ على السيّدة زينب، حينما وقع أخوها الحسين شهيداً، ووقفتْ على مصرعه.

إنّها تعرف قيمة الحسين ومكانته عند الله سبحانه، وعند جدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفي البيت العلوي.. وهي تُدرك عظمة الحسين من خلال صفاته الفريدة ومميّزاته الخاصّة.. وهي تَعِي موقعيّة الحسين كامتداد للنبوّة ومجسّد للإمامة وحجّة لله على الخلق، وتَعلم السيّدة زينب أنّ قتْل الحسين يمثّل انتهاك أعظم حرمة، وارتكاب أكبر جريمة، وإنّ ذلك يعني الوصول إلى قمّة الارتداد عن الدين والتنكّر للرسالة.

ثمّ إنّ قتْل الحسين يعني اغتيال أعزّ شيء على قلبها وأقرب شيء إلى نفسها في هذه الحياة.. والحسين هو الولي لها المحامي لخدرها، وبقتله تصبح تحت رحمة الأعداء الظَلَمَة الجُفَاة.. فَمَنْ سيحمي خِدْرها، ويصون عِزَّها، ويدافع عمّنْ معها من نساء وأطفال؟

والحسين لم يُقْتَل بالشكل المتداول في معارك القتال، بل:

- أمعن القوم في تمزيق جِسْمه بمختلف أدوات الحرب.

- فقد أصاب سهمٌ فَمَهُ الطاهر فتفجّر دَمُهُ الشريف.

- وأصاب سهم جبهته الشريفة المشرقة بنور الإمامة.

- ورماه رِجس بسهم محدّد له ثلاث شُعَب، فاستقرّ في قلبه الشريف، وأخرج الإمام السهم مِن قفاه فانبعث دَمُهُ كالميزاب، فأخذ الإمام من دَمِهِ الطاهر ولطّخ به وجهه ولحيته، وهو يقول: (هكذا أكون حتّى ألقى الله وجدّي رسول الله، وأنا مُخَضّب بِدَمِي).

- وهجمتْ على ريحانة رسول الله تلك العصابة المجرمة مِن كلّ جانب، وهم يُوْسِعُونَهُ ضرباً بالسيوف وطعناً بالرماح، فضربه أحدُهم بالسيف على كفّه اليُسرى، وضربة آخر على عاتقه، وكان مِن أحقد أعدائه عليه الخبيث (سنان بن

١٨٢

أنس )، فقد أخذ يضربه تارةً بالسيف وأخرى طعنةً بالرمح!!

يقول بعض المؤرّخين : إنّه لم يُضرب أحدٌ في الإسلام كما ضُرب الحسين، فقد وُجد فيه مائة وعشرون جراحة ما بين ضربة سيف وطعنة رمح، ورمية سهم(٣٨) .

أمّا كيف ومتى علمتْ السيّدة زينب بمقتل أخيها الحسين؟ فإنّ المصادر التاريخيّة تُشير إلى أنّ فرس الحسين - بعد أنْ وقع الحسين من على ظهره إلى الأرض، ومزّقتْه سيوفُ القوم ورماحُهم - صبغ ناصيتَه بدم الإمام الشهيد وركض مسرعاً نحو خيمة الحسين، كأنّه يريد إعلام النساء بمقتل الإمام.. وبالفعل كان رجوع فرس الإمام من دون الإمام نذير سوء لِمَنْ في الخيام بأنّهم قد فقدوا عِزَّهم وزعيمهم.

وهنا خرجتْ العقيلة زينب مهرولة نحو مصرع أخيها الحسين. فَمَنْ يا تُرى يستطيع وصْف تلك اللحظات القاسية والموقف الصعب؟ لقد وجدتْ العقيلة نفسها أمام لحظة تاريخيّة حسّاسة خطيرة، وأمام موقف عظيم، لا بدّ وأنْ تُسَجِّل شهادتها عليه للتاريخ، فصاحت هاتفةً من أعماق قلبها:

(وامحمداه! واأبتاه! واعلياه! واجعفراه! واحمزتاه! هذا حسين بالعراء صريع بكربلاء! ليت السماء أطبقتْ على الأرض! وليتَ الجبال تَدَكْدَكَتْ على السهل!! ).

وانتهتْ نحو الحسين وقد دنا منه عمر بن سعد قائد الجيش الأموي في جماعة من أصحابه، والحسين يجود بنفسه! فصاحتْ السيّدة زينب: (أي عمر أَيُقْتَلُ أبو عبد الله وأنت تنظر إليه؟ ).

فصرف وجهه عنها، ودموعه تسيل على لحيته!!

____________________

(٣٨) المصدر السابق: ص ٢٨٤ - ٢٨٩.

١٨٣

والتفتتْ السيّدة زينب إلى حشود الجيش الأموي صارخةً بهم: (ويحكم، أَمَا فيكم مسلم؟. ) فلم يجبْها أحد(٣٩) .

إنّ هول المصيبة وعظم الفاجعة وقسوة الحدث، لم يشغل كلّ ذلك العقيلةَ زينب عن أداء دورها الرسالي الخطير في إعلان الظلامة وتأجيج العواطف وإلهاب المشاعر، حتّى في نفوس الأعداء الظالمين.

* نظرة وداع:

بعد ظهر اليوم (الحادي عشر من المحرّم ) عزم الجيش الأموي على مغادرة أرض كربلاء، وقد حملوا معهم نساءَ الحسين وأهلَ بيته وصِبْيَتَهُم، ومرّوا بقافلة الأرامل المثكولات والأيتام المفجوعين على أرض المعركة، وحيث تُشرق على ساحتها جثث الشهداء وأجسام القتلى من أهل البيت، وكان منظراً مذهلاً للنساء والأطفال: فالأجساد بلا رؤوس.. والأشلاء موزّعة.. والدماء تصبغ البسيطة.

ويبدو أنّ قيادة الجيش الأموي أرادتْ أنْ تُدخِل الرعب والفزع إلى نفوس العائلة الحسينيّة، وأنْ تُحْدِث الهزيمة والانهيار التام في نفوس أفرادها؛ حتّى يدخلوا الكوفة وهم في منتهى الإذلال والهوان.

وتأمّلتْ العقيلة زينب ذلك الموقف الرهيب، حيث ترى أرض الشهادة ترتسم على ربوعها أفظع مأساة، وتنظر إلى النساء والأطفال وقد عَلَتْهنّ الكآبة والدهشة.. ومن جانب آخر ترى الجيش الأموي يبالغ في إظهار نشوة انتصاره الزائف، ويستعرض قوّته وقدرته الغاشمة.

فمزّقتْ العقيلة زينب أجواء الرهبة والألم، واندفعتْ تُشْهِر سلاح المظلوميّة لتصوّبه تِجَاه المتغطرسين المغرورين، ولتثبّت لهم أنّهم ضعفاء مهزومون وإنْ توهّموا النصر.. فأطلقتْ صوتَها الشجاع المدوي قائلة: (يا محمّداه هذا حسينٌ بالعراء، مرمّل بالدماء، مقطّع الأعضاء، وبناتُك سبايا، وذرِّيَّتُك مقتّلة ).

____________________

(٣٩) مقتل الحسين: السيّد عبد الرزّاق المقرّم: ص ٢٨٤.

١٨٤

يقول الرواة : فأبكتْ كلّ عدوٍّ وصديق، حتّى جَرَتْ دموع الخيل على حوافرها(٤٠) .

* في مجلس يزيد:

لقد فضح الأمويّون أنفسُهم - حينما دفعهم حقدهم على أهل البيت - حماقتَهم إلى تسيير نساء الحسين وعيالاته سبايا بتلك الحالة الفظيعة.. فموكب السبايا كان تظاهرة إعلاميّة تؤجّج المشاعر وتُلْهِب العواطف ضدّ السلطة الظالمة، والعقيلة زينب لم تترك فرصة ولا مُنَاسَبَة أثناء رحلتها الشاقّة المؤلِمة - إلى الكوفة ومنها إلى الشام مروراً بسائر البلدان والمناطق - إلاّ واستثمرتْها في إعلان مظلوميّتهم، وتبيين عمق المأساة التي حلّتْ بهم.

وحتّى في مجلس يزيد بن معاوية، والذي قد خطّط ليكون دخول السبايا إلى مجلسه مهرجاناً يحتفل فيه بانتصاره على الحسين، فأحضر كبار قادة جيشه وزعماء الشام، وأحاط نفسه بأجواء من الهيبة المصطنَعة.

لكنّ العقيلة زينب أفسدتْ عليه كلّ ما صنع، وأفشلتْ مهرجانه الضخم حين نظرتْ إلى رأس أخيها الحسين بين يدي يزيد، فانتصبتْ قائمة وأجهشتْ بالبكاء، وأهوتْ إلى جيبها فشقّتْهُ، ونادتْ بصوت حزين يُقرح القلوب: (يا حسيناه، يا حبيب رسول الله، يا ابن مكّة ومنى، يا ابن فاطمة الزهراء سيّدة النساء، يا ابن بنت المصطفى ).

قال الراوي : فأبكتْ والله كلَّ مَن كان في المجلس، ويزيد ساكت(٤١) .

وجميل ما قالتْه الأديبة بنت الشاطئ حول هذا الدور الزينبي، حيث كتبتْ تقول : لم تمضِ زينب إلاّ بعد أنْ أفسدتْ على ابن زياد، ويزيد، وبني أميّة، لذّةَ النصر، وسكبتْ قطرات من السمّ الزعاف في كؤوس الظافرين!

فكانت فرحة لم تطل وكان نصراً مؤقّتاً، لم يلبث أنْ أفضى إلى هزيمة قضتْ

____________________

(٤٠) المصدر السابق: ص ٣٠٧.

(٤١) زينب الكبرى: النقدي: ص ١١٤.

١٨٥

آخر الأمر على دولة بني أميّة.

فلم تكد زينب تخرج من عند يزيد حتّى أحسّ أنّ سروره بمقتل الحسين قد شابه كَدَرٌ خَفِي، ظلّ يزداد حتّى استحال إلى ندم، كدر صفو الأعوام الثلاثة الأخيرة من حياته(٤٢) .

* أشعلت ثورة المدينة:

وانتهتْ بها رحلة الألم والعناء إلى المدينة المنوّرة مسقط رأسها وربوع صباها ودار أهلها.. بعد فراق وغياب جاوز (السبعة أشهر )، حيث خرجتْ من المدينة مع أخيها الحسين (أواخر شهر رجب، وعادات بعد انتهاء شهر صفر ).

وفرق كبير بين موكب خروجها المهيب من المدينة يحيط بها إخوتها وأبناؤها وأبناء إخوتها ورجالات عشيرتها.. وبين قافلة الأسر التي عادتْ ضمنها تلوذ بها الأرملات المثكولات والصبايا اليتيمات المفجوعات.

لقد هرعتْ عند دخولها المدينة إلى مسجد جدّها رسول الله - حيث مثواه الأقدس - وأخذتْ بعضادتَي باب المسجد منادية: (يا جدّاه إنّي ناعية إليك أخي الحسين )(٤٣) .

وأصبح برنامجها اليومي والدائم في المدينة المنوّرة تذكير جماهير الأمّة بمظلوميّة الحسين وأهل بيته، وتخليد المأساة العظيمة في كربلاء، لتؤجّج بذلك العواطف وتُلْهِب المشاعر، وتحرّض الناس على الحكم الفاسد الظالم.

ويذكر السيّد الشريف يحيى بن الحسن، من أحفاد الإمام زين العابدين علي بن الحسين، وهو المعروف بالعبيدلي النسّابة (٢١٤ ه- - ٢٧٧ ه- / ٨٢٩ م - ٨٩٠ م ) في رسالته المشهورة (أخبار الزينبيّات )، يذكر فيها أنّ السيّدة زينب وهي بالمدينة كانت تؤلّب الناس على القيام بأخذ ثار الحسين، فكتب والي المدينة (عمرو بن سعيد الأشدق ) إلى يزيد يعلمه بالخبر.. فكتب إليه يزيد: أنْ

____________________

(٤٢) السيّدة زينب: عائشة عبد الرحمان بنت الشاطئ: ص ١٥٨.

(٤٣) مقتل الحسين: المقرّم: ص ٣٧٦.

١٨٦

فرّق بينها وبين الناس.. فأمرها الوالي بالخروج من المدينة(٤٤) .

لقد أشعلتْ السيّدة زينب الثورة وفجّرتها في المدينة ضدّ الحكم الأموي، فكان لها دور المحرّك للثورة التي عمّتْ المدينة المنوّرة سنة (٦٣ ه- )، حيث تمرّد أهل المدينة على الحكم الأموي وطردوا واليه وجميع بني أُمَيَّة، وبايعوا (عبد الله بن حنظلة ) غسيل الملائكة، فبعث يزيد إلى المدينة جيشاً ضخماً يبلغ (١٢ ألفاً ) بقيادة (مسلم بن عقبة )، فقضى على التمرّد وسيطر على المدينة، وأباح مسلم المدينة ثلاثاً لجيشه، يقتلون الناس ويأخذون المتاع والأموال.. ودعا مسلم الناس إلى البيعة ليزيد على أنّهم خول - أي عبيد - له يحكم في دمائهم وأموالهم وأهلهم مَن شاء، فَمَنْ امتنع مِن ذلك قَتَلَهُ.

عرفت الواقعة باسم (واقعة الحرّة )، والتي حصلت (لليلتين بقيتا من ذي الحجّة )، وعرف مسلم بن عقبة بعد الواقعة باسم مسرف (٤٥) .

____________________

(٤٤) أخبار الزينبيّات: العبيدلي: مطبوع ضمن مجلّة (الموسم)، العدد: ٤.

(٤٥) الكامل في التاريخ: ابن الأثير: ج ٤، ص ١٢٠.

١٨٧

١٨٨

* واستشهد ولدها عون:

شاء الله سبحانه وتعالى أنْ تجتمع على قلب السيّدة زينب يوم كربلاء ألوان المصائب والفجائع، وأنْ تكون المَثَل والقدوة في تقديم الضحايا والقرابين على مذبح العدل والحرِّيَّة في سبيل الله.

فقد رُزئت بقتل ستّة من إخوتها، في طليعتهم عماد عزّها الحسين بن علي، وقمر بني هاشم العبّاس بن علي، وتشير بعض المصادر إلى أنّ من استشهد من إخوة زينب يوم كربلاء عشرة،

أمّا الستّة الذين تتّفق اغلب المصادر على شهادتهم في كربلاء فهم ما يلي :

١ - الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب.

٢ - العبّاس بن علي بن أبي طالب.

٣ - جعفر بن علي بن أبي طالب.

٤ - عبد الله بن علي بن أبي طالب.

٥ - عثمان بن علي بن أبي طالب.

٦ - محمّد الأصغر بن علي بن أبي طالب.

١٨٩

وهناك أسماء أخرى تضيفها بعض المصادر كإخوة للسيّدة زينب نالوا شرف الشهادة أيضاً في كربلاء، هي كما يلي:

٧ - أبو بكر بن علي بن أبي طالب.

٨ - عبد الله بن علي بن أبي طالب - غير المذكور سابقاً -.

٩ - عمر بن علي بن أبي طالب.

١٠ - إبراهيم بن علي أبي طالب(٤٦) .

كما فُجعت بمقتل مجموعة من أبناء إخوتها، تُجمِع المصادر على خمسة، منهم ثلاثة من أولاد أخيها الحسن، وهم:

١ - أبو بكر بن الحسن بن علي.

٢ - عبد الله بن الحسن بن علي.

٣ - القاسم بن الحسن بن علي.

واثنان من أولاد أخيها الحسين هم:

٤ - علي بن الحسين الأكبر.

٥ - عبد الله بن الحسين(٤٧) .

إضافة إلى سائر رجالات أسرتها من الهاشميّين، والذين يتراوح عددهم جميعاً بين السبعة عشر والسبعة والعشرين بطلاً حسب اختلاف المصادر والروايات التاريخيّة(٤٨) .

ومع ما لمصرع هؤلاء الأعزّة من تأثير فظيع على النفس، إلاّ أنّ لِفَقْدِ الولد لوعة خاصّة لم يسلم منها قلب السيّدة زينب، فقد فُجعت بمقتل ولدها وفلذة كبدها

____________________

(٤٦) أنصار الحسين: محمّد مهدي شمس الدين: ص ١٣١ - ١٣٧.

(٤٧) المصدر السابق.

(٤٨) المصدر السابق.

١٩٠

عون بن عبد الله بن جعفر، حيث قدّمته شهيداً بين يدي خاله الإمام الحسين.

وبرز عون إلى ساحة المعركة يقاتل الأعداء، وهو يرتجز:

إنْ تنكروني فأنا ابنُ جَعْفَر

شَهِيْد صِدْقٍ فِي الجِنَانِ أَزْهَر

يَطِيْرُ فِيْهَا بِجَنَاحٍ أَخْضَر

كفَى بِهَذَا شَرَفَاً مِنْ مَعْشَر

فحمل عليه عبد الله بن قطنة الطائي فقتله، وقد رثاه سليمان بن قتة بقوله:

واندبي إنْ بكيت عوناً أخاه

ليس فيما ينوبهم بخذول

فلعمري لقد أصبت ذوي القمر

بي فبكي على المصاب الطويل(٤٩)

ونقل أبو الفرج الأصفهاني أنّ قاتِل عون هو عبد الله بن قطنة التيهاني(٥٠) .

وفي بعض المصادر : جاءت الفقرة الأخيرة من رجز عون:

...................................

كفى بهذا شرفاً في المحشر

وإنّه قتل من الأعداء ثلاثة فوارس وثمانية عشر راجلاً، وعن الاسفرائيني أنّه قَتَلَ ستّة وعشرين فارساً(٥١) .

ولم تقل كتب السِيَر والمقاتل عن العقيلة زينب أنّها أعولتْ على مقتل ولدها أو أشارتْ إليه في ندبتها ومأتمها.

قال السيّد عبد العزيز سيّد الأهل : لم يسمع لها بُكاءً حين قُتل ولدها عون بمثل ما بكتْ به أخاها وأولاد أخيها(٥٢) .

____________________

(٤٩) حياة الإمام الحسين: القرشي: ج ٣، ص ٢٥٨.

(٥٠) مقاتل الطالبيّين: الأصفهاني: ص ٩١.

(٥١) وسيلة الدارَين: الزنجاني: ص ٢٤١.

(٥٢) زينب عقيلة بني هاشم: سيّد الأهل: ص ٨.

١٩١

ويبدو أنّ لعبد الله بن جعفر ولداً آخر اسمه عون الأصغر وأمّه (جمانة بنت المسيّب بن نجبة الفزاري )، من هنا حصل خلط في كلام الرواة والمؤرّخين بين عون الذي أُمّه زينب وهو الشهيد في كربلاء، وبين أخيه عون الذي أُمّه جمانة، ولم يتأكّد استشهاده في كربلاء(٥٣) ، كما استشهد لعبد الله بن جعفر ولد آخر في كربلاء هو محمّد بن عبد الله بن جعفر، لكنّ أُمّه (الخوصاء بنت حفصة بن ثقيف من بكر بن وائل )، وليستْ السيّدة زينب كما توهّم بعض الكُتّاب، وأيضاً ذكرتْ بعض المصادر شهيداً آخر من وُلد عبد الله بن جعفر في كربلاء وهو عبيد الله بن عبد الله بن جعفر، إلاّ أنّ ذلك غير مؤكّد، وأُمّه ليستْ زينب أيضاً بل الخوصاء السابق ذكرها(٥٤) .

____________________

(٥٣) نَفَسُ المَهْمُوم: الشيخ عبّاس القمّي: ص ٣١٧.

(٥٤) أنصار الحسين: شمس الدين: ص ١٣٣ - ١٣٥.

١٩٢

رعاية القافلة

كان لا بدّ وأنْ يفكّر الإمام الحسين في مصير عائلته ومستقبلهم بعد شهادته، فهو كأبٍ غيور عطوف يهمّه أنْ تتوفّر لعائلته بعده أنسب الظروف الممكنة، كما أنّه يعرف طبيعة أعدائه القساة الظالمين والذين سوف يصبّون جام غضبهم وحقدهم على عائلته المنكوبة، والأهمّ من كلّ ذلك فهو يريد من هذه العائلة أنْ تؤدّي دوراً جهاديّاً في خدمة نهضته المقدّسة؛ ولذلك اصطحبهم معه، وقال لِمَنْ أشار عليه بتركهم في المدينة: (قد شاء الله أنْ يراهنّ سبايا)(٥٥) .

كلّ ذلك يستلزم وجود رعاية لهذه القافلة من الأرامل والأيتام، وقيادة تواصل إدارة المعركة مع الأعداء الظالمين.

وتشير بعض المصادر إلى أنّ عدد النساء اللاتي كنّ مع الإمام الحسين في كربلاء يتجاوز الأربعين امرأة كما ذكر أسماءهنّ وتفاصيل حالاتهن الشيخُ المازندراني(٥٦) عدا الصبايا الصغيرات في السن، والأطفال الذكور.

بالطبع فإنّ الإمام زين العابدين هو الوارث الشرعي والوصي لأبيه، لكن ما

____________________

(٥٥) حياة الإمام الحسين: القرشي: ج ٣، ص ٣٢.

(٥٦) معالي السبطين: محمّد مهدي المازندراني: ج ٢، ص ١٤١.

١٩٣

يعانيه من المرض يحول بينه وبين التصدّي لرعاية القافلة، إضافة إلى تربّص العسكر بحياته، وطلبهم أدنى مبرّر للقضاء عليه.

فبقيتْ السيّدة زينب هي المرشّح الوحيد والكفوء للقيام بهذا الدور؛ لذلك أوصاها الإمام برعاية القافلة، ونهضتْ بهذه المسؤوليّة على أفضل وجه، فكانت مرجع النساء والأطفال، يلوذون بها في حوائجهم وشؤونهم وتتحمّل هي مسؤوليّة رعايتهم والدفاع عنهم.

وفيما يلي نلتقط بعض الصور لدور الرعاية الزينبية:

* تَمْنَع عبد الله بن الحسن:

وهو غلام في الحادية عشر من عمره، وابن للإمام الحسن بن علي، لَمّا رأى عمّه الحسين وحيداً وسط المعركة وقد أحاط به الأعداء، لم تسمح له نفسه بالتفرّج على ما يجري في ساحة المعركة، ودفعتْه أريحيّته وشهامته ليركض نحو المعركة ويفدي عمّه الحسين بنفسه.

ولمّا لمحه الحسين مهرولاً باتجاهه نادى بأخته زينب أنْ تمارس دورها في حماية ورعاية الأطفال، وأنْ تمنعه من الخروج إلى المعركة قائلاً: (احبسيه ).

فسارعتْ العقيلة زينب للحيلولة بينه وبين التوجّه إلى المعركة، لكنّ الغلام امتنع عليها وأفلتَ منها واشتدّ نحو عمّه الحسين حيث لَقِيَ مصرعَه في حِجْر عَمِّه الحسين(٥٧) .

* ليلة الحادي عشر:

لا شكّ أنّها كانت ليلة موحشة عصيبة على عيالات الحسين، حيث وَطْأَة الفاجعة شديدة على نفوسهم، وقد فقدوا كلّ الولاة الحُمَاة، وحُرِقَتْ خيامهم وأَخْبِيَتُهم، وأصبحنَ النساء والأطفال يلوذون ببعضهم البعض في تلك الفلاة

____________________

(٥٧) تاريخ الأمم والملوك: الطبري: ج ٦، ص ٢٥٩.

١٩٤

الموحشة، التي خيّم عليها ظلام الليل، مع ما نالهم من اعتداءات العسكر ضرباً وسلباً وشتماً.

ومن تلك الليلة بدأت العقيلة زينب ممارسة دورها الشاق العظيم في رعاية الركب الحسيني.

يقول الشيخ القرشي:

أمّا حفيدة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وشقيقة الحسين العقيلة زينب فإنّها ما هنت ولا استكانتْ أمام تلك الأهوال القاصمة، فقد أسرعتْ تلتقط الأطفال الذين هاموا على وجوههم في البيداء، وتجمع العيال في تلك البيداء الموحشة، وهي تسلّيهم وتصبّرهم على تلك الرزايا، وقد أنفقت تلك الليلة ساهرة على حراستهم(٥٨) .

* تُسَلِّي الإمامَ زين العابدين:

حينما غادرتْ قافلةُ السبايا أرضَ كربلاء مرّوا بالنساء والأطفال على ساحة المعركة فكان المنظر مهيباً مفزعاً، حيث شاهدتْ العائلة أجسام الأحبّة مضرّجة بالدماء، مقطّعة الأشلاء، فانفجر الركب عويلاً وبكاءً، وأخذ الجزع والألم مِن نفس الإمام زين العابدين مأخذاً شديداً؛ لِمَا يراه من حال جثث أبيه وأعمامه وأخواته ورجال وأشبال أسرته وأنصارهم الكرام، ولِمَا يلاحظه من افْتِجَاع النساء والعيال والأطفال.

وهنا كان دور زينب القائدة التي تتسامى على الآلام، وتسيطر على مشاعرها بصورة مذهلة، حيث احتفظتْ برباطة جأشها، وكظمتْ كلّ ما يعتمل في نفسها من الحزن والألم، واتّجهت نحو ابن أخيها الإمام زين العابدين تسلّيه وتصبّره وتطمّنه بالمستقبل المشرق لثورة أبيه الحسين، وحدّثتْه بحديث طويل جاء فيه:

(مالي أراك تجود بنفسك يا بقيّة جدّي وأبي وإخوتي، فوالله إنّ هذا لعهد من الله إلى جدّك وأبيك، ولقد أخذ الله ميثاق أناس لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض

____________________

(٥٨) حياة الإمام الحسين: القرشي: ج ٣، ص ٣٠٨.

١٩٥

وهم معروفون في أهل السماوات، إنّهم يجمعون هذه الأعضاء المقطّعة والجسوم المضرّجة فيوارونها وينصبون بهذا الطف عَلَمَاً لقبر أبيك سيّد الشهداء، لا يُدرس أثره ولا يُمحى رسمه على كرور الليالي والأيّام، وليجتهدنّ أئمّة الكفر وأشياع الضلال في مَحْوه وطَمْسه فلا يُزداد أثره إلاّ علوّاً )(٥٩) .

* تَمْنَع الأطفال مِن تناول الصدقة:

حينما دخلتْ قافلةُ السبايا إلى الكوفة كان أثر الإجهاد والعناء والإرهاق واضحاً على الأطفال والصِبْيَة في القافلة، كما كانوا يعانون من الجوع... ولاحظتْ ذلك بعض نساء أهل الكوفة، فصرنَ يقدّمن التمر والخبز إلى الأطفال والصبايا، فتناول منه بعضهم، لكنّ السيّدة زينب رفضتْ ذلك ومنعتْ الأطفال عن تناول صدقات الناس قائلة: (إنّ الصدقة حرام علينا أهل البيت ).

ولمّا سمعتْ الصِبْيَة مقالةَ العقيلة، رَمَى كلُّ واحد منهم ما في يده أو فمه من الطعام. وراح يقول لصاحبه: إنّ عمّتي تقول: (إنّ الصدقة حرام علينا أهل البيت )(٦٠) .

* ترفض استقبال الشامتات:

في الكوفة أمر ابن زياد بحبس السبايا في دار إلى جنب المسجد الأعظم، وازدحمْنَ نساء أهل الكوفة للدخول على السيّدة زينب والسبايا في سجنهنّ، فرفضتْ السيّدة زينب أنْ تدخل عليهنّ غير المملوكات ومَن كُنّ مسبيّات في الماضي؛ لتمنع بذلك دخول النساء الشامتات والمتفرّجات على مأساة أهل البيت، حيث صاحتْ السيّدة زينب بالناس: (لا تَدخل علينا إلاّ مملوكة أو أُمّ وَلد، فإنّهنّ سُبِيْنَ كما سُبِيْنَا )(٦١) .

____________________

(٥٩) مقتل الحسين: المقرّم: ص ٣٠٨.

(٦٠) حياة الإمام الحسين: القرشي: ج ٣، ص ٣٣٤. و مقتل الحسين: المقرّم: ص ٣١٠.

(٦١) مقتل الحسين: المقرّم: ص ٣٢٦.

١٩٦

* ملاذ العيال:

حينما يواجه أحد من عيالات الحسين أيّ مشكلة، فإنّ الملجأ والملاذ هي العقيلة زينب، ففاطمة بنت الحسين لمّا سمعتْ الرجل الشامي يطلبها من يزيد قائلاً:هب لي هذه الجارية لتكون خادمة عندي.

فإنّها لاذتْ بعمّتها زينب، محتميةً بها، لاجئة إليها، فتصدّت العقيلة زينب للموقف متحدِّية سلطان يزيد وبطشه.

* مكافأة الحرس:

بعدما لاحظ يزيد أنّ الحالة المأساويّة لسبايا أهل البيت أثارتْ عليه النقمة والغضب وردّات الفعل العنيفة من قِبل الناس، عَمَدَ أخيراً إلى تحسين أوضاع العائلة الحسينيّة واستجاب لرغبتهم في الرجوع إلى المدينة، وأمر (النعمان بن بشير ) أنْ يجهّزهم بما يُصلحهم، ويسيّر معهم رجلاً أميناً من الشام ومعه خيل يَسِيْر بهم إلى المدينة.

وخلافاً للمعاملة الخشنة التي عانتْ معها قافلة السبايا في مسيرهم إلى الشام، فقد كان هذا المكلَّف بِرَكْبِهِم في عودتهم إلى المدينة لَبِقَاً في التعامل، لَيِّنَاً في أخلاقه معهم، فكان يسايرهم ليلاً فيكونون أمامه بحيث لا يفوتون طرفه، فإذا نزلوا تنحّى عنهم هو وأصحابه، فكانوا حولهم كهيئة الحرس، وكان يسألهم عن حاجتهم ويلطف بهم.

فلمّا وصلوا إلى المدينة أرادتْ العقيلة زينب مكافأته على حسن تعامله وجميل صنعه، ولم يكن لديها مال تقدّمه إليه، لكنّها عَمَدَتْ إلى بعض ما تبقّى من حُلِيّ لدى أختها فاطمة وقدّمتْه إليه معتذرةً قائلة: (هذا جزاؤك بصحبتك إيّانا بالحسن من الفعل ).

فتأثّر الرجل من مبادرة السيّدة زينب واعتذر عن قبولها قائلاً:لو كان الذي صنعتُ إنّما هو للدنيا كان في حُلِيْكُنَّ هذا ما يرضيني دونه ،

١٩٧

ولكن والله ما فعلتُه إلاّ لله ولقرابتكم من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٦٢) .

تجدر الإشارة إلى أنّ النعمان بن بشير هو الذي رافق موكب العائلة إلى المدينة، وهو أنصاري مدني يَكُنّ مشاعر الاحترام لأهل البيت، وهو كان والياً على الكوفة حينما دخلها سفير الحسين مسلم بن عقيل، ولم يتّخذ ضدّ مسلم إجراءات قمعيّة كما كان يرغب الأمويّون، فعزله يزيد عن ولاية الكوفة وولي عبيد الله بن زياد مكانه، وحينما سمع النعمان مقالة الأمويّين عنه أنّه ضعيف أو متضعّف، قال: لأنْ أكون ضعيفاً وأنا في طاعة الله أحبُّ إليّ من أنْ أكون قويّاً في معصيته(٦٣) .

____________________

(٦٢) تاريخ الأمم والملوك: الطبري: ج ٦، ص ٢٦٦.

(٦٣) زينب عقيلة بني هاشم: عبد العزيز سيّد الأهل: ص ١٠٠.

١٩٨

حماية الإمام

مع أنّ الإمام علي بن الحسين زين العابدين كان حاضراً في واقعة كربلاء، وكان في عزّ عمره وشبابه في (الثانية والعشرين ) من العمر. ومع أنّ الشباب الهاشميّين حتّى الأصغر منه سِنَّاً كانوا يتسابقون إلى المعركة، وكان الجيش الأموي لا يتوقّف عن إطلاق النار على أيّ هاشمي مهما كان عمره وسنّه ولو كان طفلاً رضيعاً.. مع كلّ ذلك فقد شاءتْ حكمة الله سبحانه حِفْظ حياة الإمام زين العابدين، عبر إصابته بالعلّة والمرض، فأصبح ملازماً للخيمة على فراش المرض، حيث أقعده المرض عن حَمْل السلاح والنزول إلى ساحة المعركة؛ ليكون هو الخَلَف والبقيّة، ولتستمرّ به الإمامة والزعامة الدينيّة في ذرِّيَّة الحسين.

وحينما استشهد الإمام الحسين وهجم الجيش الأموي على خيامه وعياله، وأصبحوا أُسارى في أيدي الظالمين كانت حياة الإمام زين العابدين معرّضة للخطر في كلّ لحظة من اللحظات، لكنّ السيّدة زينب قامتْ بدور الحماية والدفاع عن الإمام في تلك الظروف القاسية الصعبة، وأنقذ الله تعالى حياة الإمام بمبادرتها ومواقفها الشجاعة أكثر من مرّة.

١٩٩

* عند استغاثة الحسين:

تلك كانت ساعة حرجة حسّاسة، حيث بقي الحسين وحيداً فريداً في ساحة المعركة، بعد أنْ تهاوى كلّ أصحابه وأهل بيته شهداء مضرّجين بدمائهم، ويَرى خلفه النساء والأطفال تتعالى صيحاتهم وبكاؤهم، وأمامه الأعداء يشرعون سيوفهم للانقضاض عليه.

وهنا رفع الحسين صوتَه مستغيثاً يطلب مَن ينصره ويعينه في ذلك الموقف الصعب الأليم قائلاً: (هل من ذابٍّ يذبّ عن حَرَمِ رسول الله؟ هل مِن موحّدٍ يخاف الله فينا؟ هل مِن مغيث يرجو الله في إغاثتنا؟ ).

واخترق نداء الحسين أستار خيام عيالاته ونسائه، فاستشعروا المصيبة والفاجعة، وارتفع بكاؤهم ونحيبهم، وكان لنداء الاستغاثة وقْع كبير على قلب الإمام زين العابدين، فقد آلمه وأحزنه أنْ يكون مريضاً مقعداً لا يقدر على حمْل السيف وقتال الأعداء، لكنّه مع ذلك تحامل على مرضه، ووثب من فراشه، ومشى خطوات يتوكّأ على عصا ويجرّ سيفه، فرمقه الحسين وتأثر لمنظره وهيئته، ونادى بأخته أُمّ كلثوم: (خذيه واحبسيه؛ لِئَلاّ تخلو الأرض مِن نَسْل آل محمّد).

وأرجعتْه إلى الخيمة، وهو يقول: (ياعمّتاه ذريني أُقاتل بين يدي ابن رسول الله )(٦٤) . ويؤكّد السيّد المقرّم أنّ أُمّ كلثوم هذه هي السيّدة زينب(٦٥) .

* عند هجوم العسكر على الخيام:

هل كان متوقّعاً أنْ يحصل لأهل البيت ما حصل لهم في كربلاء من المآسي، وعلى أيدي أناس يدّعون الإسلام، ويمثّلون السلطة الرسميّة لحكم المسلمين؟ ولمّا يمضي على وفاة الرسول أكثر من نصف قرن من الزمن، وهو الذي طالما أوصى

____________________

(٦٤) بحار الأنوار: المجلسي: ج ٤٥، ص ٤٦. و مقتل الحسين: المقرّم: ص ٢٧١.

(٦٥) مقتل الحسين: المقرّم: ص ٣١٦.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312