المرأة العظيمة قراءة في حياة السيِّدة زينب بنت علي عليهما السلام

المرأة العظيمة  قراءة في حياة السيِّدة زينب  بنت علي عليهما السلام0%

المرأة العظيمة  قراءة في حياة السيِّدة زينب  بنت علي عليهما السلام مؤلف:
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 312

المرأة العظيمة  قراءة في حياة السيِّدة زينب  بنت علي عليهما السلام

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ حسن الصفار
تصنيف: الصفحات: 312
المشاهدات: 118654
تحميل: 7409

توضيحات:

المرأة العظيمة قراءة في حياة السيِّدة زينب بنت علي عليهما السلام
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 312 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 118654 / تحميل: 7409
الحجم الحجم الحجم
المرأة العظيمة  قراءة في حياة السيِّدة زينب  بنت علي عليهما السلام

المرأة العظيمة قراءة في حياة السيِّدة زينب بنت علي عليهما السلام

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فلماذا يُحرَمون من الحج مع الإمام؟!

وقد رافق الإمام في سفره عدد كبير من أهل بيته رجالاً ونساءً، وجماعة من أنصاره وأتباعه، وفي إحدى مراحل الطريق وصلتْ إلى الإمام الحسين أنباء التطوّرات الخطيرة في الكوفة، وسيطرة الأمويّين عليها، ومقتل سفيره مسلم بن عقيل، ورغم تألّمه لِمَا حَدَثَ إلاّ أنّه صمّم على الاستمرار في حركته ومسيرته.

وحينما علمتْ السلطة الأمويّة باتجاه الحسين إلى العراق، بعثتْ بعض الفرق والمَفَارِز العسكريّة؛ لتمنع الإمام الحسين من دخول الكوفة.

وبعدما تجاوزتْ قافلة الإمام الحسين موقعاً يُقال له (شراف )، واجهتْهم فرقة عسكريّة من الجيش الأموي تضمّ زُهاء (ألف فارس بقيادة الحرّ بن يزيد الرياحي )، وكان جنود الفرقة يعانون من الظمأ الشديد في حرّ الصحراء اللاهب، فأنقذهم الإمام من الموت المحتّم، وبذل لهم ما يحتاجون من الماء، ثمّ بدأ يحاورهم موضّحاً لهم أسباب قدومه إلى العراق، لكنّهم أصرّوا على أنْ يستسلم لهم لِيَقْدِمُوا به على ابن زياد والِي الأمويّين على الكوفة، كما لم يسمحوا له بالرجوع من حيث أتى، وحصل الاتّفاق أنْ تسير قافلة الإمام الحسين في طريق لا يُدْخِلُهُ الكوفة كما يريدون هم، ولا يُرْجِعُهُ إلى الحجاز كما يريده الإمام.

* في كربلاء:

ووصلتْ إلى قائد الفرقة الأمويّة رسالة من عبيد الله بن زياد، تأمره بإبقاء الحسين في فيافي الصحراء، وعدم إجباره على الدخول إلى الكوفة، خلافاً لقراره السابق، ولعلّه فكّر في أنّ دخول الحسين إلى الكوفة قد يؤدّي إلى تطوّرات غير محسوبة، فمواجهته في الصحراء وبعيداً عن الجمهور أفضل.

وعلى إثر الأمر الجديد أرادتْ الفرقة العسكريّة أنْ تُعَرْقِل سيْر الإمام وتمنعه، بينما كان الإمام يريد مواصلة السير، ومع المشادّة وتوتّر الأجواء وصلوا إلى منطقة على شاطئ الفرات، وسأل الإمام عن اسم تلك المنطقة، فأُجيب إنّها كربلاء، فأمر بالنزول فيها، فهي الأرض التي اختارها الله لتكون مسرح ثورته، وميدان

١٦١

شهادته، وموضع قبره.

- وإذا كانت كربلاء في الجغرافيا مجرّد بقعة محدودة من الأرض.

- وإذا كانت في التاريخ قد سُجّلت باعتبارها مسرحاً لأهمّ حدث ديني سياسي في الأمّة الإسلاميّة بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

- وإذا كانت قد أصبحتْ قبلة للمؤمنين يؤمّونها ويقصدونها بقلوبهم وعواطفهم وأبدانهم.

- وإذا كانت كربلاء قد أضحتْ وَتَرَاً حزيناً تَعزف عليه قرائحُ الشعراء والأدباء، وملحمة بطوليّة يستلهم منها الثوّار والمصلحون.

فإنّها عند أهل البيتعليهم‌السلام أعمق من كلّ ذلك وأكبر، فليستْ هناك قضيّة أو حادثة نالتْ من الاهتمام والتركيز لدى أهل البيت ما نالتْه قضيّةُ كربلاء.

فقَبْل وقوع الحادثة كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يتحدّث عنها ويشرح بعض تفاصيلها ويبيّن أهمِّيَّتها وأبعادها.. وكذلك الإمام علي والسيّدة الزهراء والإمام الحسن.. وبعد الحادثة كان أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام يُجَدِّدون ذكراها ويحيون وقائعها ويأمرون الناس بتخليدها وتعظيمها.

- رُوي أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أعطى أُمّ سَلَمَة تُراباً من تربة الحسين، حَمَلَهُ إليه جبرئيلُ، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لأُمّ سَلَمَة: إذا صار هذا التراب دَمَاً فقد قُتِلَ الحسين). فحفظتْ أُمّ سَلَمَة ذلك التراب في قارورة عندها، فلمّا قُتل الحسين صار التراب دَمَاً، فأعلمتْ الناسَ بقتْله أيضاً(١٩) .

- وأخرج ابن سعد عن أُمّ سَلَمَة أيضاً قالتْ: قال رسول الله (صلى الله عليه

____________________

(١٩) الكامل في التاريخ: ابن الأثير: ج ٤، ص ٩٣.

١٦٢

وآله): (أخبرني جبريلُ أنّ الحسين يُقْتَل بِأَرْضِ العراق، فقلتُ لجبريل: أَرِنِي تُرْبَةَ الأرض التي يُقْتَلُ فيها، فَجَاءَ، فهذه تربتها)(٢٠) .

- وأخرج ابن سعد أيضاً والطبراني في (الكبير ) عن عائشة عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: (أخبرني جبريل أنّ ابني الحسين يُقتل بعدي بأرضِ الطفّ، وجاءني بهذه التربة وأخبرني أنّ فيها مضجعَه)(٢١) .

- وأخرج البغوي، وابن السكن، والباوردي، وابن مندة، وابن عساكر، والطبراني في (الكبير )، بإسناد رجاله ثقات عن أُمّ سَلَمَة: (إنّ ابني هذا - يعني الحسين - يُقتل بأرضٍ من أرض العراق، يُقال لها كربلاء، فَمَ شَهِدَ ذلك منكم فَلْيَنْصُرْهُ)(٢٢) .

- وأخرج أحمد، وأبو يعلى، والبزاز، والطبراني في (الكبير )، بإسناد رجاله ثقات، عن نجي الحضرمي أنّه سار مع علي، وكان صاحب مطهرته، فلمّا حاذى نينوى، وهو منطلق إلى صفِّين، فنادى عليٌّ: (اصبر أبا عبد الله، اصبر أبا عبد الله بشطّ الفرات.

قلتُ : وما ذاك؟

قال : دخلتُ على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ذات يوم وإذا عيناه تذرفان، قلتُ: يا نبيّ الله أأغضبك أحد؟ ما شأن عينيك تفيضان؟

قال: بل قام من عندي جبريل فحدّثني أنّ الحسين يُقتل بشطّ الفرات، قال: فهل لك أنْ أشممك من تربته؟ قلتُ: نعم! فمدّ يده فقبض قبضة من تراب فأعطانيها فلم أملك عيني أنْ فاضتا)(٢٣) .

____________________

(٢٠) درّ السحابة في مناقب القرابة والصحابة: محمّد بن علي الشوكاني: ص ٢٩٤.

(٢١) المصدر السابق.

(٢٢) المصدر السابق.

(٢٣) المصدر السابق: ص ٢٩٧.

١٦٣

- وفي (تذكرة الخواص: ص ٢٦٠ ) أنّه لمّا قيل للحسين هذه أرض كربلاء أخذ ترابها فشمّه: وقال: (والله هي الأرض التي أخبر بها جبرئيلُ رسولَ الله أنّني أُقْتَلُ فيها).

وجاء في (حياة الحيوان: للدميري ج ١ ص ٦٠ ) أنّ الحسين سأل عن اسم المكان: فقيل له: كربلاء.

فقال: (ذات كرب وبلاء، لقد مرّ أبي بهذا المكان عند مسيره إلى صفّين وأنا معه، فوقف وسأل عنه فأخبروه باسمه، فقال: هاهنا محطّ رحالهم، وهاهنا مهراق دمائهم!... فَسُئل عن ذلك؟ فقال: نفر مِن آل محمّد ينزلون هاهنا... ثمّ أمر بأثقاله فحطّت في ذلك المكان).

وكذلك جاء في (مختصر صفة الصفوة)(٢٤) . وكان وصول الإمام الحسين إلى كربلاء في (اليوم الثاني من شهر المحرم: سنة ٦١ ه- ).

* عاشوراء:

زحفتْ القوّات العسكريّة الأمويّة لتحاصر الحسين وأصحابه في كربلاء، واختلف المؤرّخون في عدد أفراد القوّات الزاحفة نحو كربلاء، ولعلّ القول الأقرب والأصح هو (ثلاثون ألف مقاتل )(٢٥) ، بينما كان عدد أفراد معسكر الحسين لا يزيد على ثمانين رجلاً. بينما فرضت السلطات الحصار على الكوفة وحالة الطوارئ في داخلها؛ حتّى لا يتسلّل منها أحد للالتحاق بالإمام الحسين. وكانت قيادة الجيش الأموي بعهدةعمر بن سعد.

وتحدّث الإمام الحسين للجيش الأموي الزاحف لقتاله مراراً، ليعرّفهم بنفسه

____________________

(٢٤) حياة الإمام الحسين: القرشي: ج ٣، ص ٩١.

(٢٥) المصدر السابق: ص ١٢٢.

١٦٤

وليشرح لهم مبرّرات وأهداف موقفه المعارض للسلطة الأمويّة، وليوضّح لهم سوء الواقع المعاش في ظلّ الأمويّين، ومسؤوليّة الثورة والرفض لظلمهم وطغيانهم.

لكنّ خطابات الإمام لم تؤثّر إلاّ في عدد قليل محدود من أفراد الجيش كالحرّ بن يزيد الرياحي قائد الفرقة العسكريّة التي واجهتْ الإمام في الطريق، فقد تأثّر بموقف الإمام وخطاباته، وتمرّد على معسكره والتحق بمعسكر الإمام الحسين.

وتشديداً للحصار على الإمام الحسين وأصحابه، فقد احتلّ الجيش الأموي شاطئ الفرات، ومنعوا الحسين وأصحابه وعياله من الوصول إلى الماء، منذ اليوم السابع من المحرّم.

وفي صبيحة اليوم العاشر من المحرّم بدأ الجيش الأموي هجومَه على معسكر الإمام الحسين، فتبادر أصحاب الإمام ورجالات أسرته الهاشميّة للدفاع عن وجود الإمام وعياله وعن أنفسهم، وسطّروا من خلال معركة دفاعهم المقدّس ملحمةً خالدةً من البطولة والفداء لم يعرف التاريخ لها نظيراً، وبعد ظُهْر اليوم العاشر من المحرّم كان جميع الأصحاب والأنصار قد عانقوا الشهادة، وصدقوا ما عاهدوا الله عليه، بينما بقي الإمام الحسين يواجه القوم بمفرده وخلفه نساؤه وعياله قد أقضّهم العطش والظمأ، وآلمهم الحزن والمصاب، وأصبحوا ينتظرون مستقبلاً مأساويّاً بعد فَقْد رجالاتهم وحُمَاتهم.

وتصدّى الإمام لمواجهة القوم وقتالهم، غير آبه بكثرة جموعهم، ولا نالتْ المصائب والآلام من عزيمته وشجاعته، حتّى أذن الله له بلقائه، فوقع صريعاً شهيداً على بَوْغَاء كربلاء، مضمّخاً بدمائه الشريفة، شاهداً على انحراف الأمّة عن رسالة جدّه، راسماً لأجيال البشريّة طريق الثورة والنضال دفاعاً عن المبدأ والكرامة.

ولم يكتفِ الجيش الأموي الظالم بقتل الإمام وأصاحبه جميعاً، بل قتلوا حتّى الأطفال الرُضّع كعبد الله الرضيع ابن الإمام الحسين وهو دون العام من عمره، حيث ذبحوه على صدر أبيه الحسين، ولم يسلم من رجالات معسكر الحسين إلاّ ولده علي بن الحسين زين العابدين؛ لأنّه كان عليلاً مريضاً.

١٦٥

وأجهزوا على الجثث الطاهرة للإمام الحسين وأصحابه يحتزّون رؤوسهم ثمّ وطأوا جسد الإمام بخيولهم، وأغاروا على خيم نساء الحسين وأطفاله، وأحرقوها بالنار، وسلبوا ما فيها من متاع، وما على النساء والأطفال من حُلِيٍّ وَحُلَلٍ!!

لقد ارتكب الجيش الأموي الباغي في كربلاء جرائم فظيعة، لا يصحّ ارتكابها حتّى مع الأعداء الكافرين، فضلاً عن عترة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لذلك أصبحتْ كربلاء تمثّل أفظع مأساة في تاريخ البشر، وفي ذات الوقت فهي أروع ملحمة في سجلّ البطولة والفداء والصمود.

* قافلة السبايا:

وفي اليوم (الحادي عشر من المحرّم ) قام الجيش الأموي بمواراة جثث قتلاهم، بينما تركوا الأجساد الطاهرة للإمام الحسين وأصحابه على صعيد كربلاء تسفي عليهم الرياح دون مواراة.

وساروا بنساء الحسين وأطفاله سبايا كأُسارى إلى الكوفة تتقدّمهم رؤوس الحسين وأصحابه، معلّقة على رؤوس الرماح، وكان عدد السبايا عشرين امرأة عدا الصبيّة، وقد سَيَّرُوْهُنَّ على الجمال بغير وطاء(٢٦) وساقوهنّ بكلّ عنف وشِدّة، وأدخلوا السبايا إلى الكوفة في اليوم (الثاني عشر ) وسط مظاهر الفرح والبهجة بانتصار الظالمين على أهل البيت.

وبعد أنْ بقيتْ السبايا أيّاماً في الكوفة يعانينَ الإذلال والآلام سيَّروهنّ إلى الشام مع رؤوس الشهداء، فكانت رحلة مُضْنِيَة مرهِقة لتلك النساء المفجوعات، والصبايا اليتيمات.. ولَقِيْنَ في الشام ضروب الشماتة والإهانة، وخاصّة في مجلس الطاغية يزيد بن معاوية.

ومع أنّ دمشق كانت عاصمة الأمويّين، وأجواؤها كانت معبّأة ضدّ أهل

____________________

(٢٦) المصدر السابق: ص ٣٢١.

١٦٦

البيتعليهم‌السلام ، إلاّ أنّ مأساة السبايا، وأخبار كربلاء، وخطابات الإمام زين العابدين والسيّدة زينب وأُمّ كثلوم، كلّ ذلك ترك أثراً في جمهور الشام، وخلّف تيّاراً من الإنكار والرفض لسياسات يزيد بن معاوية، وخوفاً من تنامي ذلك التيّار أمر يزيد بإعادة السبايا إلى المدينة المنوّرة حسب طلبهم.

وهكذا عادت قافلة السبايا إلى المدينة تشكو إلى رسول الله ما أصابهم من ظلم وضَيْم واضطهاد لا شبيه له في التاريخ.

وبعد قراءة هذه السطور المتقضية السريعة من كتاب الثورة الحسينيّة الذي لم تستوفِ الأجيال قراءته، يمكننا الآن التحدّث عن دور السيّدة زينبعليها‌السلام في تلك الثورة العظيمة.

١٦٧

١٦٨

الدَور المنتظَر

قضيّة كربلاء بأحداثها المروعة لم تكن مفاجئة للسيّدة زينب، ودورها في تلك الواقعة لم يكن عفويّاً ولا من وحي الصُدْفة. فقد كانت مهيّأة نفسيّاً وذهنيّاً لتلك الواقعة، وكانت تعلم منذ طفولتها الباكرة بأنّ تلك الحادثة ستقع وأنّها ستلعب فيها دوراً رئيسيّاً بارزاً.

صحيح أنّ أحداث كربلاء قبل وقوعها كانت في رَحِم الغيب ولا يعلم الغيب إلاّ الله، ولكن مِن الصحيح أيضاً أنّ الله تعالى قد كشف لنبيّه الأعظم أستار الغيب، وأظهره عليه، يقول تعالى:( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ ) (٢٧) .

وثابت عند المسلمين أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قد أخبر أصحابه بالعديد من المغيّبات، وأنبأهم بأنّها ستقع، وأدركوا وقوعها بالفعل، وذلك ممّا لا نقاش في ثبوته بين المسلمين.

ومن المغيّبات التي تحدّث عنها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله واقعة كربلاء، كما أشارتْ إلى ذلك العديد من المصادر الموثوقة عند المسلمين من كتب الحديث.

____________________

(٢٧) سورة الجن: الآيات: ٢٦ - ٢٧.

١٦٩

وأهل البيت المعنيّون بتلك الواقعة كانوا في طليعة مَن أحاطهم الرسولُ بها علماً، كما تؤكّد ذلك مختلف المصادر الحديثيّة والتاريخيّة.

فطبيعي إذاً أنْ تكون السيّدة زينب في أجواء تلك النبوءة، وعلى معرفة بالخطوط العامّة للحادثة، بل وببعض تفاصيلها وجزئيّاتها.

وقد صرّحتْ العقيلة زينب بمعرفتها المسبقة بواقعة كربلاء، في الحديث الذي نقله الشيخ الأقدم أبو القاسم جعفر بن محمّد بن جعفر بن موسى بن قولوية القمّي (المتوفى سنة: ٣٦٧ ه- أو ٣٦٨ ه- ) في كتابه (كامل الزيارة ) وهو كتاب اعتمد كبار العلماء على رواياته وأسانيده. والحديث مروي بسند متّصل إلى الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليه‌السلام قال:

(إنّه لَمّا أصابنا بالطف ما أصابنا، وقُتل أبيعليه‌السلام ، وقُتل مَن كان معه مِن وُلده وإخوته وسائر أهله، وحُملتْ حَرَمُهُ ونساؤه على الأقتاب يُراد بنا الكوفة، فجعلتُ أنظر إليهم صرعى، ولم يُوارَوا، فَيَعْظُمُ ذلك في صدري، ويشتدّ لِمَا أرى منهم قلقي، فكادتْ نفسي تخرج، وتبيّنتْ ذلك منّي عمّتي زينب بنت علي الكبرى، فقالتْ: ما لي أراك تجود بنفسك يا بقيّة جدّي وأبي وإخوتي؟

فقلتُ: وكيف لا أجزع ولا أهلع، وقد أرى سيّدي وإخوتي وعمومتي، ووُلد عمّي وأهلي مصرّعين بدمائهم مرمّلين بالعَرَاء، مسلّبين لا يكفّنون ولا يُوَارَون، ولا يعرج عليهم أحد، ولا يقربهم بشر، وكأنّهم أهل بيت من الديلم والخزر؟

فقالتْ: لا يجزعنّك ما ترى: فوالله إنّ ذلك لعهد من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى جدّك وأبيك وعمّك.. ولقد أخذ الله ميثاق أناس من هذه الأمّة لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض، وهم معرفون في أهل السماوات، إنّهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرّقة فيوارونها، وهذه الجسوم المضرّجة، وينصبون لهذا الطف

١٧٠

علماً لقبر أبيك سيّد الشهداء، لا يُدْرَسُ أثره، ولا يصفو رسمُه، على كرور الليالي والأيّام، وليجتهدنّ أئمّة الكفر، أشياع الضلالة، في محوه وتطميسه، فلا يزداد أثره إلاّ ظهوراً، وأَمْره إلاّ علوّاً.

فقلتُ : وما هذا العهد وما هذا الخبر؟

فقالتْ : حدّثتْني أُمّ أيمن - مولاة رسول الله - أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله زار منزل فاطمة في يوم من الأيّام. وتستمر السيّدة زينب في حديثها الطويل لابن أخيها زين العابدين نقلاً عن أُمْ أيمن وهي تعدّد ما يجري على أهل البيت من حوادث بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حسب ما أخبر به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ومن بين تلك الحوادث واقعة كربلاء.

ثمّ تعقب السيّدة زينب على ما نقلتْه عن أُمّ أيمن بقولها: (فلمّا ضَرب ابنُ ملجم لعنه الله) أبيعليه‌السلام ورأيتُ أثر الموت منه.

قلتُ : يا أبه حدّثتْني أُمّ أيمن بكذا وكذا، وقد أحببتُ أنْ أسمعه منك.

فقال : يا بنيّة الحديث كما حدّثتْكِ أُمّ أيمن، وكأنّي بك وببنات أهلك سبايا بهذا البلد - أي الكوفة - أذلاّء خاشعين)(٢٨) .

____________________

(٢٨) بحار الأنوار: المجلسي: ج ٢٨، ص ٥٥ - ٦٠.

١٧١

١٧٢

المبادرة والاختيار

قد يجد الإنسان نفسه في معمعة معركة لم يكن مختاراً للدخول فيها، وقد يُصبح متورّطاً في مشكلة فُرضتْ عليه دون قصد منه.

ويحصل هذا غالباً بالنسبة للمرأة، فبحكم تبعيّتها للرجل أباً كان أو زوجاً أو ولداً، قد تجد نفسها محشورة في معركته دون سابق وعي أو اختيار من قِبلها.

فهل كان حضور السيّدة زينب ودورها في ثورة كربلاء شيئاً من هذا القبيل؟

بقراءة واعية لدور السيّدة زينب ولمواقفها وكلماتها خلال أحداث الواقعة يتجلّى للباحث أنّ السيِّدة زينب قد اختارتْ دورها في هذه الثورة العظيمة بوعي سابق وإدراك عميق، وأنّها كانت المبادرة للمشاركة كما احتفظت بزمام المبادرة في مختلف المواقع والوقائع الثوريّة.

ويحدّثنا التاريخ أنّ السيّدة زينب هي التي قرّرت وأرادتْ الخروج مع أخيها الحسين في ثورته، مع أنّها من الناحية الدينيّة والاجتماعيّة في عهدة زوجها عبد الله بن جعفر والذي كان مكفوف البصر، كما كانت ربّة منزلها والقائمة بشؤون أبنائها، وكلّ ذلك كان يمنع التحاقها بركب أخيها الحسين.. لكنّها قرّرتْ تجاوز

١٧٣

كلّ تلك العوائق واستأذنتْ زوجها في الخروج مع أخيها، فأذنَ لها بذلك، بل وأمر ولدَيه عون ومحمّد بالالتحاق بقافلة الثورة.

ولأنّ سفر الإمام الحسين كان محفوفاً بالمخاطر، فقد اقترح عليه شيوخ بني هاشم أنْ لا يصطحب معه أحداً من النساء والعيال، ولكنّ السيّدة زينب كانت بالمرصاد لمثل هذه المقترحات التي تحول بينها وبين المشاركة في المسيرة المقدّسة.

فهذا عبد الله بن عبّاس - وبعد أنْ عجز عن إقناع الإمام الحسين بالعودة عن قرار الخروج إلى الثورة - يناقشه في حمل النساء والعيال معه قائلاً:إنْ كنتَ سائراً فلا تَسِر بنسائك وصِبْيَتِكَ، فإنّي لخائف أنْ تُقتل كما قُتل عثمان، ونساؤه ووُلده ينظرون إليه (٢٩) .

ومحمّد بن الحنفية أخو الإمام الحسين طرح على الإمام نفس التساؤل بعدما أخبره الإمام الحسين بعزمه على الخروج قائلاً: (أتاني رسول الله وقال لي: يا حسين أخرج فإنّ الله شاء أنْ يراك قتيلاً). فتساءل محمّد بن الحنفية: فما معنى حمل هؤلاء النسوة والأطفال وأنت خارج على مثل هذا الحال؟

وكان جواب الإمام على تساؤل هؤلاء المشفقين على مستقبل نسائه وعائلته أشدّ إثارةً وغرابة، حيث قالعليه‌السلام : (قد شاء الله أنْ يراهنّ سبايا)(٣٠) .

ويَروي الشيخ النقدي أنّ السيّدة زينب اعترضتْ على نصيحة ابن عبّاس للإمام بأنْ لا يحمل معه النساء: فسمع ابن عبّاس بكاءً من ورائه وقائلة تقول: يابن عبّاس تشير على شيخنا وسيّدنا أنْ يخلفنا هاهنا ويمضي وحده؟ لا والله بل نحيا معه ونموت معه، وهل أبقى الزمان لنا غيره؟ فالتفتَ ابن عبّاس وإذا المتكلّمة هي زينب(٣١) .

____________________

(٢٩) حياة الإمام الحسين: القرشي: ج ٣، ص ٢٧.

(٣٠) المصدر السابق: ص ٣٢.

(٣١) زينب الكبرى: النقدي: ص ٩٤.

١٧٤

وكما أنّ أصل اشتراكها في الثورة كان بقرارها الواعي، فإنّ أغلب مواقفها في ميادين الثورة كانت تنبثق من مبادراتها الوثّابة الشجاعة فيه، التي تهرع نحو أخيها الحسين حينما تَدْلَهمّ المصائب والخطوب؛ لتشاركه المواجهة.

وهي في يوم عاشوراء تتحدّى الآلام والظروف العصيبة لتمارس دورها البطولي العظيم، مع أنّ بعض ما أصابها يكفيها عذراً للانشغال بأحزانها والابتعاد عن ساحة المعركة.

ثمّ وما الذي دفعها للخطابة أمام جمهور الكوفة؟

ومَن كان يتوقّع - مِن مثلها - خطابها الناري في مجلس يزيد بن معاوية؟

لقد كانت ظروف السبي والأسر، وطبيعة الخفارة والخدر لدى السيّدة زينب، وأجواء الشماتة والعَدَاء المحيطة بها في الكوفة والشام.. لقد كان كلّ ذلك أو بعض ذلك يكفي دافعاً نحو الانكفاء على الذات ومعالجة الهموم والحزن.. لكنّ العقيلة زينب تسامتْ على كلّ ذلك، وامتلكتْ زمام المبادرة، مسيطرةً على كلّ ما حولها من ظروف وأوضاع.

ولأنّها كانت مختارة ومبادرة عن سابق وعي وتصميم، فإنّها كانت تنظر إلى ما واجهتْه من آلام ومآسٍ قاسية تتصدّع لهولها الجبال الرواسي، تنظر إليها بايجابيّة واطمئنان، وتعتبرها ابتلاءً وامتحاناً إليها لا بدّ لها من النجاج فيه.

بل إنّها وفي أشدّ المواقف وأفظعها تضرّع إلى الله شاكرة حامدة آلاء نِعَمِهِ، معلنةً تقبّلها لقضاء الله، واستعدادها لتحمّل الأكثر من ذلك في سبيله.

فحينما حدثتْ الفاجعة الكبرى بمقتل أخيها الحسين بعد قتل كلّ رجالات بيتها وأنصارهم، خرجت السيّدة زينب تعدو نحو ساحة المعركة تبحث عن جسد أخيها الحسين غير عابئة بصفوف الجيش الأموي المدجّج بالسلاح، فلمّا وقفتْ على جثمان أخيها العزيز الذي مزّقتْه السيوف، جعلتْ تُطيل النظر إليه، ثمّ رفعتْ بصرها نحو السماء وهي تدعو بحرارة ولهفة: (اللهمّ تقبّل منّا هذا القربان )(٣٢) .

____________________

(٣٢) حياة الإمام الحسين: القرشي: ج ٣، ص ٣٠٤.

١٧٥

إنّ ذروة المأساة وقمّة المصبية هو مورد للتقرّب إلى الله تعالى عند السيّدة زينب.. وذلك هو قمّة الوعي وأعلى مستويات الإرادة والاختيار.

وحينما يسألها (عبيد الله بن زياد ) أمير الكوفة وواجهة السلطة الأمويّة في مجلسه سؤال الشامت المغرور بالنصر الزائف قائلاً: كيف رأيت فعل الله بأخيك؟

فإنّها تجيبه فوراً ومن أعماق قلبها بجرأة وصمود قائلة: (ما رأيتُ إلاّ جميلاً، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاجّ وتُخاصَم فانظر لِمَنْ الفَلَج يومئذ، ثكلتْك أمّك يا ابن مرجانة )(٣٣) .

وتختم خطابها في مجلس يزيد بن معاوية بتأكيد رؤيتها الايجابيّة لِمَا حصل لها ولأهل بيتها من مصائب وآلام حيث تقول: (والحمد لله ربّ العالمين، الذي ختم لأوّلنا بالسعادة والمغفرة، ولآخرنا بالشهادة والرحمة، ونسأل الله أنْ يُكمِل لهم الثواب، ويُوجِب لهم المزيد، ويحسن علينا الخلافة إنّه رحيم ودود، وحسبنا الله ونعم الوكيل )(٣٤) .

فزينب لم تكن مستدرَجة، ولم تجد نفسها متورِّطة في معركة فُرضتْ عليها، بل اقتحمتْ ساحة الثورة بملء إرادتها وكامل اختيارها، وهنا تتجلّى عظمة السيّدة زينب.

____________________

(٣٣) المصدر السابق: ص ٣٤٤.

(٣٤) المصدر السابق: ص ٣٨٠.

١٧٦

سلاح المظلوميّة

في المعركة بين الحقّ والباطل يستخدم كلٌّ من طَرَفَي الصراع جميع ما يُتاح له من أسلحة وما بحوزته من إمكانيّات؛ ليقضي على خصمه أو لِيُوقِع به أكبر قدر ممكن من الخسائر.

وإذا كانت الأسلحة المادِّيَّة المستخدمة في القتال على أرض المعركة متشابهة كالسيوف والرماح، فإنّ الأسلحة المعنويّة ووسائل الاستقطاب للمؤيّدين وأساليب التأثير والتعامل مع الناس تكون متفاوتة مختلفة بين الطرفين، نتيجةً لاختلافهما في الأهداف الدافعة والقِيَم الحاكمة.

حيث تسعى كلّ جبهة لتعبئة أفرادها ورفع معنويّاتهم، كما تجتهد في استقطاب الجمهور والتأثير في الرأي العام لصالح موقفها.

ولتحقيق ذلك تستخدم جبهة الباطل أساليب الإغراء والمَكْر والخِدَاع؛ لإثارة الأهواء والرغبات في نفوس أتباعها، فتمنّيهم بالأموال والمناصب والامتيازات، وتُغريهم بانتصاراتها الزائفة وقوّتها الزائلة، بينما تشهر جبهة الحقّ سلاح الصدق والخلاص، وتستثير في نفوس أتباعها قِيَم الحقّ والعدل وروح التضحية والفداء.

١٧٧

ومِن أمضى أسلحة جبهة الحقّ التي تجلّت في ثورة الإمام الحسينعليه‌السلام هو سلاح المظلوميّة، بإبراز عدوانيّة الطرف الآخر وبشاعة جرائمه، وإظهار عمق المأساة وشدّة الآلام والمصائب التي تحمّلها معسكر الإمام الحسين.

والمظلوميّة:

- تستصرخ ضمائر الناس وتُوقِظ وجدانهم.

- وتدفعهم إلى الوقوف إلى جانب أهل الحقّ المظلومين.

- كما تستثير نقمتَهم وغضبَهم ضدّ المعتدين الظالمين.

- والمظلوميّة تُعَبِّئ الأتباع المناصرين وتدفعهم للالتفاف أكثر حول معسكرهم وقضيّتهم.

- كما تؤثّر في نفوس الجمهور ليتعاطف ويؤيّد المظلومين ضدّ الظالمين.

- بل وتمتدّ آثارها حتّى إلى معسكر العدو؛ لتحرّك فيه ضمائر بعض جنوده المخدوعين، فيتمرّدون على معسكرهم الظالم ويلتحقون بصفوف الثوّار المخلصين.

- وأكثر من ذلك، فإنّ تأثير المظلوميّة يتخطى الأزمنة والإعصار لِيَحشد أجيال البشريّة على مرّ التاريخ إلى جانب معسكر الحق.

وقد تحقّق كل ذلك وبأروع صورة في واقعة كربلاء، فبينما كانت السلطة الأمويّة تستعرض قوّتها العسكريّة أمام الناس؛ لترهبهم حتّى يقفوا إلى جانبها، وتمارس عليهم أشدّ ضغوط القَمْع.

وبينما كان الوالي الأموي على الكوفة عبيد الله بن زياد يغدق الأموال والرشوات على الزعماء والوجهاء، ويزيد في عطاء الجنود، ويَعِدُ القيادات ك-: (عمر بن سعد، وشِمْر بن ذي الجوشن، وشِبْث بن رِبْعِي ) بالمناصب والولايات.

في مقابل كلّ ذلك كان الإمام الحسين وأصحابه يبشّرون بالقِيَم السامية، ويخاطبون الضمائر الحرّة، ويبصّرون الناس بواقعهم ومسؤوليّاتهم، ويُلفتون الأنظار إلى جرائم السلطة الظالمة، وعدوانيّتها وجورها الذي تجاوز كلّ الحدود.

وكان سلاح المظلوميّة مؤثّراً جدّاً، فكلّما شاهد أصحاب الحسين ما يصيب إمامهم وعيالاته من الآلام والمصائب، استماتوا أكثر في الدفاع والتضحية والفداء، وازدادوا قناعة ويقيناً بعدالة قضيّتهم.

ويحدّثنا التاريخ كيف أنّ أفراداً بل قيادات من الجيش الأموي قد تأثّرتْ

١٧٨

لمظلوميّة الإمام الحسين، وغيّرت موقفها وتحوّلت إلى جانب المعسكر الحسيني.. ك-(الحر بن يزيد الرياحي ) وكان من قادة الجيش الأموي ومن أشجع أبطالهم، وهو الذي قاد أوّل فرقة عسكريّة حاصرتْ الإمام في الطريق - كما سبق -.

هذا الرجل حرّكت مظلوميّةُ الإمام وجدانَه ومشاعره وأيقظتْ ضميره، فألوى بعنان فرسه صوب الإمام وهو مُطْرِق برأسه إلى الأرض حياءً وندماً، فلمّا دَنَا من الإمام رفع صوتَه قائلاً:

(اللّهمّ إليك أُنيب فقد أرعبتُ قلوبَ أوليائك وأولادَ نبيّك، يا أبا عبد الله إنّي تائب فهل لي من توبة؟ ).

ونزل عن فرسه، فوقف قبال الإمام ودموعه تتبلور على وجهه، وجعل يخاطب الإمام ويتوسّل إليه بقوله:

(جعلني الله فداك يابن رسول الله أنا صاحبك الذي حبسك عن الرجوع، وجَعْجَعْتُ بك في هذا المكان، والله الذي لا اله إلاّ هو ما ظننتُ أنّ القوم يردّون عليك ما عرضْتَ عليهم أبداً، ولا يبلغون منك هذه المنزلة أبداً ).

لقد هزّه وأثاره ما بلغه القوم من الإمام، يعني ما أصاب الإمام منهم من المآسي والآلام.

ولم يكن الحرّ وحده قد تأثّر بمظلوميّة الإمام، بل إنّ حوالي ثلاثين فارساً آخر من الجيش الأموي قد اتّخذوا ذات الموقف والتحقوا بمعسكر الإمام(٣٥) .

أمّا انعكاس مظلوميّة الإمام الحسين وأصحابه وعيالاته على جماهير الأمّة آنذاك، فهذا ما تُحَدِّثُنَا عنه الانتفاضات والثورات التي انطلقتْ في مختلف أرجاء الأمّة كَرَدّ فِعْل على مقتل الإمام الحسين بتلك الصورة الفظيعة، ك-:

- ثورة التوّابين والتي كان شعارها: (يا لثارات الحسين ).

- وثورة المختار الثقفي.

- وثورة أهل المدينة.

ولا تزال مظلوميّة الإمام الحسين حيّة مؤثّرة في القلوب والنفوس على مرّ

____________________

(٣٥) المصدر السابق: ص ١٩٦ - ١٩٨.

١٧٩

العصور والأجيال، إلى يومنا هذا والى أنْ يَرِثَ الله الأرض ومّن عليها..

وأبرع وأكثر مِن شَهْرِ سلاحِ المظلوميّة واستخدمه في واقعة كربلاء هي السيّدة زينب.. حيث كانت تسلّط الأضواء وتُلفِتْ الأنظار إلى مواقع الظُلامة، وقامتْ بدور تأجيج العواطف وإلهاب المشاعر أثناء الواقعة، وبعد الواقعة في الكوفة والشام وحينما عادتْ إلى المدينة، بل كرّستْ باقي أيّام حياتها للقيام بهذا الدور العظيم.

إنّ المواقف العاطفيّة الوجدانيّة التي قامتْ بها السيّدة زينب، حيث كانت تبكي وتتألّم وتنعي وتندب وتستغيث وتستصرخ، لم تكن مجرّد ردود أفعال عاطفيّة على ما واجهتْه من مآسي وآلام، بل كانت تلك المواقف فوق ذلك سلاحاً مشرعاً تُصَوِّبُهُ نحو الظلم والعدوان، وتُدافع به عن معسكر الحقّ والرسالة.

ولنقف الآن بعض العَيّنات والنماذج من تلك المواقف الزينبية:

* ترى الإمام ينعى نفسه:

الحسين في نظر السيّدة زينب ليس مجرّد أخ عزيز، ومكانته في نفسها لا تتحدّد في كونه الإمام القائد والمفترض الطاعة فقط، بل فوق ذلك كلّه أنّه يجسّد ويمثّل شخصيّة جدّها رسول الله، وأبيها الإمام علي، وأمّها فاطمة الزهراء، وأخيها الإمام الحسن، أنّه البقيّة والامتداد للبيت النبوي العظيم.

لذلك حينما رأتْه ينعى بنفسه وينتظر الشهادة، أدركتْ مدى الخسارة التي تحلّ بها وبالوجود عند فقده، فقد رأتْ الحسين (ليلة العاشر من المحرّم )، وهو يعالج سيفه ويصلحه في خيمته ويقول:

يا دَهرُ أُفٍّ لَكَ مِن خَليلِ

كَم لَكَ بالإِشراقِ وَالأَصيلِ

مِن صاحِبٍ وَطالبٍ قَتيلِ

وَالدَهرُ لا يَقنَعُ بِالبَديلِ

وَإنّما الأَمرُ إِلى الجَليلِ

وَكُلُّ حَيٍّ سالِكُ السَبيلِ

١٨٠