المرأة العظيمة قراءة في حياة السيِّدة زينب بنت علي عليهما السلام

المرأة العظيمة  قراءة في حياة السيِّدة زينب  بنت علي عليهما السلام0%

المرأة العظيمة  قراءة في حياة السيِّدة زينب  بنت علي عليهما السلام مؤلف:
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 312

المرأة العظيمة  قراءة في حياة السيِّدة زينب  بنت علي عليهما السلام

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ حسن الصفار
تصنيف: الصفحات: 312
المشاهدات: 118949
تحميل: 7427

توضيحات:

المرأة العظيمة قراءة في حياة السيِّدة زينب بنت علي عليهما السلام
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 312 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 118949 / تحميل: 7427
الحجم الحجم الحجم
المرأة العظيمة  قراءة في حياة السيِّدة زينب  بنت علي عليهما السلام

المرأة العظيمة قراءة في حياة السيِّدة زينب بنت علي عليهما السلام

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الأمّة بذرِّيَّته وعترته، بل اعتبرها الذكر الحكيم أجراً للرسالة:( قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (٦٦) .

لكنّ عسكر بني أُمَيَّة قد جاوز كلّ الحدود والأعراف وتقاليد الحروب في تعامله مع أهل البيت.. حيث لم يكتفوا بقتل الحسين وأصحابه، وإنّما هجموا بعد ذلك على خيام النساء والأطفال والتي كانت تضمّ حرائر الرسالة ومخدّرات النبوّة.

ويسجّل السيّد المقرّم وَصْفاً لهذا الهجوم اعتماداً على مصادر عديدة أشار إليها، ننقل منه ما يلي:

لمّا قُتل أبو عبد اللهعليه‌السلام ، مال الناس على ثقله ومتاعه، وانتهبوا ما في الخيام وأضرموا النار فيها، وتسابق القوم على سلب حرائر الرسول، فَفَرَرْنَ بناتُ الزهراء حواسر مسلّبات باكيات، وإنّ المرأة لَتُسْلَب مَقْنَعَتُهَا من رأسها، وخاتمها من إصبعها، وقُرْطِهَا من أذنها، والخلخال من رِجْلِها.

أخذ رجلٌ قرطَين لأمّ كلثوم وخَرَمَ أُذُنَها، وجاء آخر إلى فاطمة ابنة الحسين فانتزع خلخالها وهو يبكي.

قالتْ له : مالك تبكي؟!

فقال : كيف لا أبكي وأنا أسلب ابنة رسول الله؟

قالتْ له : دعني إذاً.

قال : أخاف أنْ يأخذه غيري(٦٧) .

بهذه الروح العدوانيّة هجموا على الخيمة التي كان فيها الإمام زين العابدين، وجرّوه مِن على فراش مرضه، وجرّد شِمْر بن ذي الجوشن سيفه يريد قتله! فنهره حميد بن مسلم قائلاً:

____________________

(٦٦) سورة الشورى: الآية: ٢٣.

(٦٧) مقتل الحسين: المقرّم: ص ٣٠٠.

٢٠١

(يا سبحان الله! أتقتل الصبيان؟ إنّما هو صبي مريض! ).

فأجابه شمر بدناءة : إنّ ابن زياد أمر بقتل أولاد الحسين. وكاد السيف أنْ يقع على رقبة الإمام وينهي حياته، لو لا تدخّل العقيلة زينب حيث تعلّقتْ به لتحميه وتدفع عنه القتل، صارخة بالظالمين القساة: (لا يُقتل حتّى أُقْتَل دونه )(٦٨) .

ولمّا رأوا السيف لا يصل إلى زين العابدين إلاّ عبر جسد السيّدة زينب، اضطرّوا للتراجع عن قَتْله وكفّوا عنه.

* إنقاذ الإمام من بطش ابن زياد:

أدار عبيد الله بن زياد بصرَه يتصفّح وجوه السبايا وبقيّة أهل البيت، حينما أُوقفوا أمامه في قصره بالكوفة، فرأى الإمام زين العابدين وقد أنهكتْه العلّة، فسأله: مَن أنت؟

قال : أنا علي بن الحسين.

فقال ابن زياد : أَوَلَم يَقتل الله علي بن الحسين؟

أجابه الإمام بهدوء وأناة : كان لي أخ أكبر منّي يسمّى عليّاً قتله الناس.

فردّ ابن زياد غاضباً : الله قتله.

أجابه الإمام بشجاعة وثبات :( اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ) (٦٩) ( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ ) (٧٠) .

ولم يتحمّل ابن زياد أنْ يردّ عليه الإمام ردّاً قرآنيّاً منطقيّاً، يفحمه ويكشف جهله،فصاح منفعلاً : وبك جرأة على ردّ جوابي؟! وفيك بقيّة للردّ عليّ؟!

ونادى بأحد جلاّديه : خُذْ هذا الغلام واضرب عنقه.

____________________

(٦٨) حياة الإمام الحسين: القرشي: ج ٣، ص ٣٠٢، و مقتل الحسين: المقرّم: ص ٣٠١.

(٦٩) سورة الزمر: الآية: ٤٢.

(٧٠) سورة آل عمران: الآية: ١٤٥.

٢٠٢

فتسابق الجلاوزة لأخذ الإمام للقتل، وأصبحتْ حياة الإمام في خطر حقيقي، وهنا تدخّلتْ السيّدة زينب؛ لتمارس دورها في حماية الإمام وإنقاذ حياته، حيث أخذتْ الإمام واعتنقتْه لتمنع الجلاوزة مِن أخذه، ثمّ التفتتْ إلى ابن زياد قائلة: (حسبك يابن زياد مِن دمائنا ما سفكتْ، وهل أبقيتَ أحداً غير هذا؟ فإنْ أردتَ قَتْلَه فاقْتُلْني معه ).

وأحبطتْ محاولة ابن زياد، حيث اضطرّ للتراجع عن قرار قَتْل الإمام،وقال متعجّباً : دعوه لها، يا للرحم ودّت أنّها تُقْتَل معه(٧١) .

____________________

(٧١) الكامل في التاريخ: ابن الأثير: ج ٤، ص ٨٢. و مقتل الحسين: المقرّم: ص ٣٢٥.

٢٠٣

٢٠٤

الإعلام للثورة

٢٠٥

٢٠٦

لقد واكب الإمام الحسين معركة أبيه الإمام علي ضدّ التسلّط الأموي الذي كان يتمثّل في معاوية بن أبي سفيان... ورأى الإمام الحسين كيف بالغ معاوية واجتهد في استخدام أساليب التضليل الإعلامي والفكري ليربح المعركة على الإمام علي.. ومع أنّ الإمام علي يمثّل الخلافة الشرعيّة للمسلمين، ومع ما لشخصيّته من مميّزات وتاريخ عظيم لا يمكن إنكاره، ومع أنّ معاوية كان في موقع المتمرّد والمنشقّ على جماعة المسلمين.. مع كلّ ذلك إلاّ أنّه استطاع التأثير على قطّاع واسع من أبناء الأمّة؛ ليقفوا إلى جانبه ويدعموه في صراعه ضدّ الشرعيّة.. واستمراره في الولاية على الشام رغم عزله من قِبل الخليفة الشرعي، بل وتمكّنه مِن تحشيد الجيوش لمحاربة الإمام علي في صفّين، وبعد ذلك اتّساع رقعة سيطرته ونفوذه في العديد من الأقطار، وحَسْمه الموقف مع الإمام الحسن لصالح استئثاره بالسلطة وتخلّي الإمام الحسن عنها عبر مسألة الصلح المعروف.

كلّ ذلك دليل على نجاح وتأثير الأساليب والخطط والممارسات التي قام بها معاوية بن أبي سفيان، ومِن أبرزها محاولات الخداع والتضليل الديني والإعلامي، فقد شجّع طبقة من الوضّاعين وصنّاع الأحاديث الملفّقة الكاذبة في مدح معاوية وبني أُمَيَّة وسلطتهم، وذمّ الإمام علي وأهل البيت، وبذل لهم

٢٠٧

الأموال على ذلك.

يقول ابن أبي الحديد المعتزلي:

وذكر شيخنا أبو جعفر الإسكافي (توفي: ٢٤٠ ه- ) رحمه الله تعالى: أنّ معاوية وضع قوماً من الصحابة وقوماً من التابعين على رواية أخبار قبيحة في عليعليه‌السلام تقتضي الطعن فيه والبراءة منه، وجعل لهم على ذلك جُعلاً يُرغب في مِثْله، فاختلقوا ما أرضاه، منهم:

- أبو هريرة.

- وعمرو بن العاص.

- والمغيرة بن شعبة.

- ومن التابعين عروة بن الزبير(١) .

قال: وقد صحّ أنّ بني أميّة منعوا من إظهار فضائل عليعليه‌السلام ، وعاقبوا على ذلك الراوي له، حتّى إنّ الرجل إذا روى عنه حديثاً لا يتعلّق بفضله بل بشرائع الدين لا يتجاسر عن ذكر اسمه - أي اسم علي - فيقول: عن أبي زينب(٢) .

وكتب معاوية إلى عمّاله في جميع الأفاق:

أنْ انظروا مِن قِبلكم مِن شيعة عثمان ومحبّيه وأهل ولايته، والذين يروون فضائله ومناقبه، فأَدْنُوا مجالسهم وقرّبوهم وأكرموهم، واكتبوا لي بكلّ ما يروي كلّ رجل منهم، واسمه واسم أبيه وعشيرته.

ففعلوا ذلك، حتّى أكثروا في فضائل عثمان ومناقبه؛ لِمَا كان يبعثه إليهم معاوية من الصلات والكساء والحباء والقطائع، ويفيضه في العرب منهم والموالي، فكثّر ذلك في كلّ مصر، وتنافسوا في المنازل والدنيا، فليس يجيء أحد مردود من الناس عاملاً من عمّال معاوية، فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلاّ كُتب اسمه وقرّبه وشفّعه، فلبثوا بذلك حيناً.

ثمّ كتب إلى عمّاله أنّ الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كلّ مصر وفي كلّ وجه وناحية، فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأوّلين، ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب - يعني

____________________

(١) شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد: ج ٤، ص ٦٣.

(٢) المصدر السابق: ص ٧٣.

٢٠٨

الإمام علي - إلاّ وتأتوني بمناقض له في الصحابة، فإنّ هذا أحبّ إليّ وأقرّ لعيني، وأدحض لحجّة أبي تراب وشيعته، وأشدّ إليهم من مناقب عثمان وفضله.

فقرئتْ كتبه على الناس، فرويتْ أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها، وجد الناس في رواية ما يجري هذا المجرى، حتّى أشادوا بذكر ذلك على المنابر، وأُلقي إلى معلّمي الكتاتيب، فعلَّموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع، حتّى رووه وتعلّموه كما يتعلّمون القرآن، وحتّى علّموه بناتهم ونساءهم وخدمهم وحشمهم، فلبثوا بذلك ما شاء الله(٣) .

والى جانب الأحاديث الملفّقة الموضوعة فقد استخدم معاوية وسيلة إعلاميّة أخرى، هي توظيف القصّاصين الذين يحدّثون الناس بالقضايا والوقائع التي تريد السلطة الترويج لها.

قال الأستاذ أحمد أمين:

وأمّا قصص الخاصّة فهو الذي جعله معاوية، ولّى رجلاً على القصص فإذا سلّم من صلاة الصبح جلس وذكر الله عزّ وجل وحمده ومجّده وصلّى على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ودعا للخليفة ولأهل ولايته وحشمه وجنوده، ودعا على أهل حربه وعلى المشركين كافّة(٤) .

ولا بدّ أنّ هذا الدعاء كان استهلالاً يبتدئ به القاص ثمّ يأخذ بعده في قصصه(٥) .

كما أحاط معاوية سلطته بمجموعة من الشعراء المرتزقة ك-: (الأخطل، ومسكين الدارمي )، يقول (بروكلمان): وكان.. - معاوية - أبداً قادراً على أنّ يفيد ممّا كان لشعراء عصره مِن تأثير عظيم في الرأي العام بسبيل مصالحه العائليّة(٦) .

ولمعرفة الإمام الحسين بهذه السياسة الأمويّة في تضليل الناس وخداعهم كان

____________________

(٣) المصدر السابق: ج ١١، ص ٤٤ - ٤٥.

(٤) فجر الإسلام: أحمد أمين: ص ١٥٩.

(٥) ثورة الحسين: محمّد مهدي شمس الدين: ص ١١٩.

(٦) تاريخ الشعوب الإسلاميّة: كارل بروكلمان: ص ١٢٤.

٢٠٩

لا بدّ له من التفكير في مستقبل ثورته المقدّسة، وكيفيّة حمايتها وصيانتها من تأثير الإعلام الأموي الحاكم.

فالأمويّون لنْ يكتفوا بقتل الإمام الحسين، وهم يعلمون بمكانته لدى الأمّة، بل سيلجأون لتشويه ثورته وإسقاط شخصيّته بمختلف وسائلهم وأساليبهم الماكرة، كما صنعوا مع أبيه الإمام علي من قبل.

فكيف يُفشل الإمامُ الحسين مخطّطهم الإعلامي المضاد؟

وكيف يُجهِض محاولاته في تشويه صورة الثائرين؟

وكيف تصل أهداف ثورته ومنطلقاتها إلى أسماع الجمهور المسلم؟

وكانت إجابة الإمام الحسين على هذه التساؤلات إجابةً حكيمة قويّة، هي استعانته بأخته السيّدة زينب لتقوم بذلك الدور العظيم.

فالحسين بنفسه كان يوضّح للأمّة أسباب ثورته وأهداف حركته، وكان يكشف للناس انحرافات الحكم الأموي وفساده، ويؤكّد على المسؤوليّة الملقاة على كاهل المسلمين للتصدّي لهذا الجور والظلم.

لقد تصدّى الإمام بنفسه للقيام بالمهمّة الإعلاميّة:

- يوم كان في المدينة المنوّرة.

- وحين انتقل إلى مكّة المكرّمة والتقى بجموع الحجيج.

- وأثناء سيره إلى العراق.

- وفي أرض كربلاء.

- وحتّى قُبيل شهادته بلحظات كان يخاطب الجيش الأموي محرّضاً وموجّهاً.

لكنّ حاجة الثورة إلى الإعلام بعد شهادته ستكون أشدّ وأكبر؛ لأنّ الأمويّين ستأخذهم نشوة الانتصار الظاهري، وسيجعلون مِن سحق المعسكر الحسيني مثلاً وعِبرة لإرهاب مَن يفكّر في معارضتهم والوقوف أمام بَغْيهم وفسادهم.

فالإعلام بعد الشهادة أكثر أهمِّيَّة منه قبلها.

ومَن غير السيّدة زينب تُسنَد إليه هذه المهمّة الخطيرة؟

ومَن سواها يُجيد القيام بهذا الدور العظيم؟

٢١٠

خطابها في الكوفة

وغادرتْ السيّدة زينب كربلاء بعد ظهر اليوم (الحادي عشر من المحرّم )، مثقلةً بما لا تتحمّله الجبال الرواسي من الهموم والأحزان، فلأوّل مرّة في حياتها تسافر دون أنْ يحيط بها رجالات أسرتها وحماة خدرها، وهي قد رُزئتْ بأفجع مصيبة يمكن أنْ تحلّ بإنسان، حيث فقدتْ أكثر من (سبعة عشر بطلاً من أهلها ) ما على وجه الأرض لهم شبيه، إضافةً إلى حوالي (السبعين من أنصارهم ) والمدافعين عنهم، وشاهدتْ السيّدة زينب مصارعهم على بوغاء كربلاء بتلك الصورة الفظيعة.

وكانت الأربع والعشرون ساعة التي سبقتْ سفرها إلى الكوفة من أصعب وأشدّ الساعات التي مرّت عليها في حياتها، حيث أَحرق الظالمون خيامها، وهجموا عليها مع باقي نساء ويتامى عشيرتها، وسلبوا كل ما لديهنّ من الحُلِيّ والحُلَل.

ودخلتْ السيّدة زينب الكوفة صباح اليوم (الثاني عشر من المحرّم )، تُحيط بها كلّ تلك الهموم والآلام، وتُثْقِل كاهلها تلك المصائب والأحزان.

من جهة أخرى فقد خطط حاكم الكوفة عبيد الله بن زياد للاستفادة من وصول سبايا الحسين في إظهار قوّة السلطة وتصميمها على سحق أيّ محاولة تمرّد أو

٢١١

معارضة، وأنْ يجعل من قدوم السبايا تظاهرة لإدانة تحرّك الإمام الحسين وثورته، وللاحتفاء بانتصاره الزائف على ثورة الحقّ والعدل، في غمرة هذه الأجواء دخلتْ السيّدة زينب الكوفة مع السبايا على جِمال غير مهيّأة لإراحة راكبيها، وفي حال مأساوي فظيع.

وللسيّدة زينب في الكوفة تاريخ وذكريات، فقد كانت سيّدة الكوفة أيّام خلافة أبيها أمير المؤمنين علي قبل (عشرين سنة ) من دخولها الآن.. فلا بدّ وأنْ تستعيد في نفسها صور تلك الأيّام، وأنْ تثور في قلبها ومخيّلتها الذكريات.. ففي تلك المحلّة كانت تقيم، وذاك محراب أبيها علي ومنبره في مسجد الكوفة.. وهذه الأزقّة التي كان يسلكها أبوها علي.. وهذا باب دارها الذي كان يقصده السائلون والمحتاجون.

وتتوالى الصور والذكريات في مخيّلة السيّدة زينب، ولعلّها تتمنّى وترغب في أنْ تسرح بفكرها وتسترسل بمشاعرها مع تلك الصور والذكريات العزيزة، لكنّ سياط الواقع الأليم تنتزعها من تلك الذكريات انتزاعاً.

عن حذلم بن كثير قال:

قدمت الكوفة (سنة: ٦١ ه- ) عند مجيء علي بن الحسين من كربلاء إلى الكوفة ومعه النسوة، وقد أحاط بهم الجنود، وقد خرج الناس للنظر إليهم، وكانوا على جمال بغير وطاء، فجعلنَ نساء أهل الكوفة يَبكينَ ويَندبْنَ.

ورأيتُ علي بن الحسين قد أنهكتْه العلّة، وفي عنقه الجامعة، ويده مغلولة إلى عنقه، وهو يقول بصوت ضعيف: (إنّ هؤلاء يبكون وينوحون من أجلنا فمن قتلنا؟).

قال حذلم بن كثير: ورأيتُ زينب بنت علي، ولم أرَ خفرة أنطق منها، كأنّها تُفْرِغ عن لسان أبيها أمير المؤمنين، وقد أومأت إلى الناس أنْ اسكتوا، فارتدّتْ الأنفاس، وسكنتْ الأصوات، فقالت: (الحمد لله والصلاة على أبي محمّد وآله الطيبين الأخيار.

٢١٢

أَمّا بعد: يا أهل الكوفة يا أهل الخَتْل والغَدْر، أَتَبْكُوْنَ؟ فَلاَ رَقَأَتْ الدَمْعَة، وَلاَ هَدَأَتْ الرَنَّة، إِنَّمَا مَثَلُكُمْ كَمَثَلِ التِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثَا، تَتَّخِذُوْنَ أَيْمَانَكُم دَخَلاً بَيْنَكُم، أَلاَ وَهَل فِيْكُم إلاَّ الصَلِفُ والنَطِفْ، والكَذِب والشَنف، وَمَلَقِ الإِمَاء وَغَمْز الأَعْدَاء، أَوْ كَمَرْعَى عَلَى دِمْنَة، أَوْ كَقصَّة عَلَى مَلْحُوْدَة، أَلاَ سَاءَ مَا قَدَّمَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْكُم وَفِي العَذَابِ أَنْتُم خَالِدُوْنَ، أَتَبْكُوْنَ وَتَنْتَحِبُوْنَ؟! إِي وَالله فَابْكُوا كَثِيْراً وَاضْحَكُوا قَلِيْلاً، فَلَقَدْ ذَهَبْتُم بِعَارِهَا وَشَنارها، وَلَنْ تَرحضوها بغسل بعدها أَبَدَاً، وَأَنَّى تَرْحَضُونَ قَتْل سَلِيْل خَاتم النُبُوّة، وَمَعْدِن الرِسَالَةِ، وَسَيِّد شَبَابِ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَمَلاَذ خِيْرَتِكُم، وَمَفْزَع نَازِلَتِكُم، وَمَنَار حُجَّتِكُم، أَلاَ سَاءَ مَا تَزِرُوْنَ! وَبُعْدَاً لَكُمْ وَسحُقْاًَ، فَلَقَد خَابَ السَعْي، وَتَبّتْ الأَيْدِي، وَخَسِرَتْ الصَفْقَة، وَبُؤْتُمْ بِغَضَبٍ مِن اللهِ وَرَسُوْلِهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْكُمْ الذِلَّةُ وَالَمَسْكَنَةُ.

وَيْلَكُمْ يَا أَهْلَ الكُوْفَة! أَتَدْرُوْنَ أَيَّ كَبِدٍ لِرَسُوْلِ اللهِ فَرَيْتُمْ؟ وَأَيَّ كَرِيْمَةٍ لَهُ أَبْرَزْتُم؟ وَأَيَّ دَمٍ لَهُ سَفَكْتُمْ؟ وَأَيَّ حُرْمَةٍ لَهُ انْتَهَكْتُمْ؟ لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئَاً إِدَّا! تَكَادُ السَمَاوَات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ، وَتَنْشَقّ الأَرْضُ، وَتَخِرُّ

٢١٣

الجِبَالُهَدَّا !! وَلَقَدْ جِئْتُم بِهَا خَرْقَاء، شَوْقَاء، كَطِلاَعِ الأَرْضِ، وَملءِ السَمَاءِ، أَفَعَجِبْتُمْ أَنْ مَطَرَتْ السَمَاءُ دَمَاً، وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لاَ يُنْصَرُوْنَ، فَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكُم المهل، فإنّه لاّ يحفزه البدار، ولا يخاف فوت الثأر، وإنّ رَبَّكُمْ لَبِالْمِرْصَاد.

قال الراوي:

فوالله لقد رأيتُ الناس حيارى يبكون، قد ردّوا أيديهم في أفواههم، ورأيتُ شيخاً واقفاً إلى جنبي يبكي حتّى اخضلّتْ لحيتُه بالدموع، ويده مرفوعة إلى السماء وهو يقول: بأبي أنتم وأمّي كهولكم خير الكهول، وشبابكم خير الشباب، ونساؤكم خير النساء، ونسلكم خير النسل، لا يبور ولا يخزي أبداً.

فقال لها الإمام علي بن الحسين : (اسْكُتِي يَا عَمَّة، فَأَنْتِ بِحَمْدِ اللهِ عَالِمَةٌ غَيْرُ مُعَلَّمَةٍ، وَفَهِمَةٌ غَيْرُ مُفَهَّمَةٍ)(٧) .

مصادر الخطبة ورواتها:

لقد أوردتْ خطاب السيّدة زينب في الكوفة مصادر عديدة هي من أمّهات المراجع، ومن أبرز تلك المصادر:

١ - الشيخ الطوسي في: (أماليه).

٢ - أبو المؤيّد الموفّق بن أحمد الخوارزمي في الجزء الثاني من كتابه:

____________________

(٧) اعتمدنا في نقل النص على المصادر التالية:

أ - الاحتجاج: للطبرسي: ص ٣٠٣.

ب - حياة الإمام الحسين: للقرشي: ج ٣، ص ٣٣٤.

ج- - مقتل الحسين: للمقرّم: ص ٣١١.

د - زينب الكبرى: للنقدي: ص ٤٨.

٢١٤

(مقتل الحسين ).

٣ - أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر طيفور في: (بلاغات النساء ).

٤ - أبو عثمان الجاحظ في: (البيان والتبيين ).

٥ - الشيخ أحمد بن علي الطبرسي - من علماء القرن السادس - في كتابه: (الاحتجاج ).

لكنّ اسم الراوي الذي نقل عنه الخطاب يختلف من مصدر إلى آخر:

- فالشيخ الطبرسي ينقله عن (حذيم بن شريك الأسدي )، ويكرّر اسمَه ثلاث مرّات بين فقرات الرواية، كما ينقل عنه أيضاً خطاب الإمام زين العابدين في الكوفة(٨) . وحذيم بن شريك الأسدي ذكره الشيخ الطوسي في (رجاله ) في أصحاب الحسينعليه‌السلام (٩) .

- أمّا الشيخ النقدي فقد قال: إنّ الخطبة قد تواترت الروايات عن العلماء وأرباب الحديث بأسانيدهم عن (حذلم بن كثير )، وذكر أنّ حذلم بن كثير من فصحاء العرب.. وقال: إنّ الجاحظ رواها في كتابه (البيان والتبيين ) عن خزيمة الأسدي (١٠) .

- أمّا الشيخ القرشي فقد أثبت الرواية عن (جذلم بن بشير )(١١) . ولم يثبت السيّد المقرّم اسماً للراوي، واكتفى بعبارة: (يقول الراوي )(١٢) .

- وذكر أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر طيفور في كتابه (بلاغات النساء) سند الخطبة كما يلي: (عن سعيد بن محمّد الحميري - أبو معاذ - عن عبد الله بن عبد

____________________

(٨) الاحتجاج: الطبرسي: ج ١ ص ٣٠٣ - ٣٠٥.

(٩) أعيان الشيعة: السيّد محسن الأمين: ج ٤، ص ٦٠٦.

(١٠) زينب الكبرى: النقدي: ص ٤٩ - ٥٠.

(١١) حياة الإمام الحسين: القرشي: ج ٣، ص ٣٣٤.

(١٢) مقتل الحسين: المقرّم: ص ٣٣٤.

٢١٥

الرحمن - رجل من أهل الشام - عن شعبة، عن حذام الأسدي، وقال مرّة أخرى حذيم، قال: قَدِمْتُ الكوفة)(١٣) .

* آفاق الخطاب:

يمثّل خطاب السيّدة زينب في الكوفة أوّل تصريح وتعليق على واقعة كربلاء بعد حدوثها يصدر من أهل البيتعليهم‌السلام ، وتكمن أهمِّيَّة الخطاب في أنّه موجّه للمجتمع المسؤول عن ما حدث بصورة مباشرة، وهو المجتمع الكوفي.. والخطاب أيضاً يعتبر الجولة الأولى في معارك السيّدة زينب ضدّ الإجرام والظلم الأموي.

من هنا لا بدّ من قراءه الخطاب قراءة متأنّية واعية، ونسلّط هنا الأضواء على بعض آفاق ذلك الخطاب الهام:

* أوّلاً: تحمّل المجتمع الكوفي المسؤوليّة المباشرة عمّا حدث للإمام الحسين وأهل البيت وعن مصير الثورة المقدّسة:

فالكوفيّون هم الذين كاتبوا الحسين وألحّوا عليه بالقدوم إليهم، وبايعوا سفيرَه مسلم بن عقيل، فكيف خذلوا الإمام وتخلّوا عنه، واستسلموا لترهيب ابن زياد وترغيبه؟

ثمّ إنّ الجيش الذي زحف لقتال الإمام وصنع تلك الجريمة الكبرى، كان في أغلب قياداته وجنوده من أبناء المجتمع الكوفي.

وبعد كلّ ما حدث، لماذا يتفرّج الكوفيّون على نتائج الأحداث، وهم يرون رأس الإمام الحسين ورؤوس أهل بيته مرفوعة على أطراف الرماح تخترق شوارع بلدتهم، ويشاهدون نساء الحسين وعيالاته أسارى سبايا بين ظهرانيهم، فلماذا السكوت والخنوع والصمت على كلّ ما يجري؟ وماذا ينتظرون لكي تتحرّك غيرتهم الدينيّة وشيمتهم العربيّة؟

لذلك تنقل الرواية التي ضمّنتْ الخطاب قول الإمام زين العابدينعليه‌السلام معلّقاً على بكاء نساء أهل الكوفة: (إنّ هؤلاء يبكون وينوحون مِن

____________________

(١٣) بلاغات النساء: ابن طيفور: ص ٢٣.

٢١٦

أجلنا، فَمَنْ قَتَلَنَا؟)

وهذا ما ركّزت عليه السيّدة زينب في خطابها، إذ اعتبرتْ أهل الكوفة مسؤولين بشكل مباشر عن الفاجعة، ووجّهتْ إليهم أشدّ التوبيخ والذم.

فقالتْ عنهم : (أَهْل الخَتْل والغَدْر).

والختل : هو الخداع.

والغدر : هو الخيانة ونقض العهد.

فأهل الكوفة بدعوتهم الإمام للقدوم إليهم، وبمبايعتهم له والتزامهم بنصرته ثمّ التخلي عنه، بل والمشاركة في قتاله، قد مارسوا أسوأ أنواع الخداع والخيانة ونقض العهد.

واعتبرتْهم السيّدة زينب نموذجاً وتطبيقاً للمثل المعروف عن المرأة الحمقاء التي كانت تغزل مع جواريها إلى انتصاف النهار، ثمّ تأمرهنّ أنْ ينقضْنَ ما غزلْنَ، وهذا دأبها كلّ يوم.. وهو مثل ذكره القرآن الحكيم:( وَلاَ تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً ) (١٤) .

وكأنّ السيّدة زينب بقولها: (إنّمَا مَثَلُكُم كَمَثَلِ التِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثَاً) تُشير إلى أنّ أهل الكوفة قد تكرّر في تاريخهم وواقعهم أنّهم يقفون إلى جانب الحقّ ويقدّمون التضحيات، لكنّهم وفي ذروة الصراع مع أهل الباطل يتراجعون وينسحبون، ويضيّعون بذلك جهودهم وتضحياتهم ومستقبلهم:

- حصل ذلك في موقفهم مع الإمام علي، حيث خاضوا معه معركة الجَمَل ومعركة صفّين، وحينما لاح فجر النصر لهم بعد تضحياتهم الكبيرة استجابوا لخدعة معاوية برفع المصاحف وطلب التحكيم، فاغتالوا بذلك انتصارهم وأعطوا الفرصة لعدوهم.

- وكرّروا ذات الموقف مع الإمام الحسن حيث بايعوه والتفّوا حوله وزحفوا معه لمواجهة تمرّد معاوية، لكنّهم لمّا حانتْ ساعة المواجهة، تخاذلوا وهدّموا بذلك صرح الشرعيّة والقيادة الذي بَنَوه ببيعتهم للإمام الحسن.

- ومع الإمام الحسين مارسوا نفس الطريقة والحالة، فهم قد بايعوا الإمام وأقدموه إليهم، وكادتْ الكوفة أنْ تستعيد دورها القيادي بخضوها لسفير الإمام: مسلم بن عقيل، لكنّهم في اللحظات الأخيرة والحساسة، بدّدوا كلّ تلك الآمال،

____________________

(١٤) سورة النحل: آية: ٩٢.

٢١٧

واغتالوا مستقبلهم ومستقبل الأمّة.

اذاً، فهم كالتي نقضتْ غزلها من بعد قوّة أنكاثا، وزينب بهذا التمثيل تحاكي ما قاله أبوها من قَبل لذات المجتمع حين قال:

(أَمّا بعد: يَا أَهْلَ العِرَاق، فَإِنَّمَا أَنْتُمْ كَالمَرْأَةِ الحَامِل، حَمَلَتْ فَلَمَّا أَتَمَّتْ أَمْلَصَتْ، وَمَاتَ قيمها، وطال تأيمها، وورثها أبعدها)(١٥) .

أوليستْ زينب تُفرِغ عن لسان أبيها؟ كما قال الراوي.. وتوجّه زينب لهم التهمة بصراحة ووضوح في فقرات عديدة من خطابها: (فلقد ذهبتُم بِعارِها وشَنَارِها ).

(ويْلَكم يَا أهلَ الكوفة أَتَدرونَ أَيَّ كَبِدٍ لرسول اللهِ فَرَيْتُم ).

(لَقَد جِئْتُم شيئاً إِدّاً ).

(وَلَقَد جِئْتُم بِها حَرْقَاء شَوْهَاء )..

* ثانياً: التركيز على نقاط ضعف المجتمع الكوفي ومساوئ أخلاقه:

فالجريمة لم تنطلق من فراغ، وإنّما هي نتيجة طبيعية لتلك الأخلاقيّات المنحرفة، وتنبّههم إلى أبرز مساوئ أخلاقهم بقولها: (وَهَل فِيْكُم إلاَّ الصَلِفُ والنَطِف، والكَذِب والشَنف، وَمَلَقِ الإِمَاء وَغَمْز الأَعْدَاء، أَوْ كَمَرْعَى عَلَى دِمْنَة، أَوْ كَقصَّة عَلَى مَلْحُوْدَة ).

و (الصلف ): هو التمدّح بما ليس في الذات أو فوق ما في الذات إعجاباً وتكبّراً(١٦) .

ومَن يقرأ رسائل الكوفيّين للإمام الحسين، وكلماتهم أثناء مبايعتهم والتفافهم حول سفيره مسلم بن عقيل، والتي ادّعوا فيها إخلاصهم وتفانيهم واستعدادهم للتضحية فداءً للإمام الحسين، وأكّدوا فيها تصميمهم على مقاتلة الأعداء وإلحاق الهزيمة بهم. ومَن يلاحظ حقيقة موقفهم وواقعهم فيما بعد تجاه الإمام الحسين، يرى بوضوح أنّهم يتّصفون بالصلف كما قالتْ عنهم السيّدة زينب، وقد سبقها أبوها الإمام علي في اكتشاف هذه الصفة السلبيّة للمجتمع الكوفي في قوله لهم:

____________________

(١٥) نهج البلاغة: الإمام علي: الخطبة رقم: ٧١.

(١٦) المنجد في اللغة.

٢١٨

(كلامكم يوهي الصمّ الصلاب، وفِعْلُكُم يُطْمِعُ فِيْكُم الأعداء! تقولون في المجالس كَيْت وكيت، فإذا جاء القتال قُلْتُم: حيدي حياد)(١٧) .

ولا غَرْوَ فإنّها تُفْرِغ عن لسان أبيها.

أمّا (النطف ): فهو التلطّخ بالعيب، أو القذف بالفجور.

و (الشنف ): بالتحريك البغض والتنكّر.

وتشير السيّدة زينب إلى ابتلائهم بمرض التملّق المفرط (ملق الإماء)، فالأمّة التي لا حول لها ولا قوّة تجد نفسها مضطرّة إلى إبداء أعلى درجة من الخضوع والطاعة والانقياد لسيّدها، وتُبالغ في جلب ودّه ورضاه، والمجتمع الكوفي كان كذلك في تعامله مع السلطة المهيمنة عليه آنذاك.

و (الغمز ): الطعن بالشر.

(كَمَرْعَى عَلَى دِمْنَة، أَوْ كَقصَّة عَلَى مَلْحُوْدَة ): تشير بذلك إلى حالة الازدواجيّة التي كان يعاني منها المجتمع الكوفي، فظاهره حسن يُغري، بينما ما تنطوي عليه النفوس سيّء خبيث، وتشبّههم بالزرع الأخضر في مكان أوساخ الحيوانات وفضلاتها (مرعى على دمنة )، وبالقبر المجصَّص ظاهره بالجص الجميل المنظر، ولكن ماذا في حفره القبر غير الرفاة المتفسّخة لجسد الميّت (كقصة على ملحودة ).

ويُعلّق السيّد المقرّم على هذه الفقرة بقوله:

والذي أراه أنّ النكتة في هذه الاستعارة: إنّ القصة بلغة الحجاز الجص، والملحودة القبر لكونه ذا لحد، فكأنّ القبر يتزيّن ظاهره بياض الجص ولكنّ داخله جيفة قذرة، وأهل الكوفة وإنْ تزيّن ظاهرهم بالإسلام، إلاّ أنّ قلوبهم كجِيَفِ الموتى؛ بسبب قيامهم بأعمال الجاهليّة الوخيمة العاقبة، من الغدر وعدم الثبات على المبادىء الصحيحة، وقد انفردتْ (متمّمة الدعوة الحسينيّة ) بهذه النكات البديعة

____________________

(١٧) نهج البلاغة: الإمام علي: الخطبة رقم: ٢٩.

٢١٩

التي لم يسبقها مَهَرَةُ البلغاء إليها؛ لأنّها ارتضعتْ در (الصديقة الكبرى)، التي أخرستْ الفصحاء بخطابها المرتجل(١٨) .

* ثالثاً: توضيح أبعاد الفاجعة:

فما حدث في كربلاء لم يكن أمراً سهلاً، وليس شيئاً عاديّاً بسيطاً، إنّه كارثة مروّعة، وفجيعة عظمى، وجريمة نكراء. والسلطة الحاكمة قد تحاول تبسيط ما حدث، فهو تمرّد على النظام اضطرّ الجيش إلى قمعه ليس إلاّ!

لكنّ السيّدة زينب في خطابها أوضحتْ للناس الأبعاد الحقيقية لِمَا حدث حين قالتْ: (فَلَقَدْ ذَهَبْتُم بِعَارِهَا وَشَنارها، وَلَنْ تَرحضوها بغسل بعدها أَبَدَاً ).

فالفظائع التي ارتُكِبَتْ في كربلاء بحقّ أهل البيت، تمثّل جريمة نكراء تسوّد وجوه وتاريخ أصحابها بالعار والشنار وهو أقبح العيب، ولا يمكن إزالة وتطهير آثار تلك الجريمة أبداً.

ثمّ تخاطبهم قائلة: (ويلكم يا أهل الكوفة! أتدرون أيَّ كبد لرسول اللهِ فَرَيْتُم ).

فبالمقياس الديني أنّهم قد اعتدوا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فالحسين سبطه وحبيبه والعزيز على قلبه، وعيال الحسين وثقله، هم حرمة رسول الله.. فكيف يسمحون لأنفسهم كمسلمين أنْ يقترفوا ذلك؟

إنّها جريمة في مستوى الشرك بالله سبحانه؛ لذلك تصفها السيّدة زينب بما وصف به القرآن شرك الكافرين وادّعاهم أنّ لله ولداً:( وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً ) (١٩) .

كما تشير السيّدة زينب إلى أنّهم مارسوا الجريمة بأكبر قدر من الحقد والبشاعة: (ولقد جئتم بها خرقاء وشوهاء ).

____________________

(١٨) مقتل الحسين: المقرّم: ص ٣١٢.

(١٩) سورة مريم: آية: ٨٨ - ٨٩.

٢٢٠