المرأة العظيمة قراءة في حياة السيِّدة زينب بنت علي عليهما السلام

المرأة العظيمة  قراءة في حياة السيِّدة زينب  بنت علي عليهما السلام0%

المرأة العظيمة  قراءة في حياة السيِّدة زينب  بنت علي عليهما السلام مؤلف:
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 312

المرأة العظيمة  قراءة في حياة السيِّدة زينب  بنت علي عليهما السلام

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ حسن الصفار
تصنيف: الصفحات: 312
المشاهدات: 118945
تحميل: 7426

توضيحات:

المرأة العظيمة قراءة في حياة السيِّدة زينب بنت علي عليهما السلام
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 312 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 118945 / تحميل: 7426
الحجم الحجم الحجم
المرأة العظيمة  قراءة في حياة السيِّدة زينب  بنت علي عليهما السلام

المرأة العظيمة قراءة في حياة السيِّدة زينب بنت علي عليهما السلام

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وذكرت (مها ) - المعروفة بأبحاثها المشتركة مع أبرز علماء فيزياء الفضاء من فرنسا واليابان والصين والأتحاد السوفيتي(سابقاً) وألمانيا - أنّها غالباً ما تجد نفسها المرأة الوحيدة في المؤتمرات العلميّة الدوليّة، وتعتقد أنّ النساء العربيّات أكثر إقداماً على العلوم من الغربيّات، وإنّ نسبتهنّ في الكلّيّات العلميّة العربيّة لا تقل كثيراً عن الرجال، وإنّهنّ لو أُعطين الفرصة فسيحقّقنَ الكثير.

وتعدّ (مها) العالمة المصريّة التي أصدرتْ إلى الآن(٢١٠ بحثاً ) من أبرز المتخصّصين في ظاهرة (الشفق القطبي ) الجوِّيَّة المحاطة بالغموض والأساطير.

وإضافة إلى اللجنة الاستشاريّة في (ناسا) تشغل عضويّة (هيئة علوم الكمبيوتر المتقدّمة ) وهي مسؤولة التنسيق عن الإفادة من علوم فيزياء الفضاء في (المؤسّسة القوميّة للعلوم )، التي تعتبر من أهمّ مراكز إعداد القرار العلمي في الولايات المتّحدة.

و (مها) حفيدة فلاح مِن قرية (مطوبس ) غير البعيدة عن الإسكندرية في مصر(٦) .

فساحة العلم مفتوحة أمام المرأة، وميدان المعرفة متسع لمشاركتها، واهتمامها بطلب العلم وتلقّي المعرفة واجب شرعي عليها أكثر ممّا هو حقّ لها، كما ينصّ الحديث الشريف: (طَلَبُ العِلْمٍ فَرِيْضَةٌ على كلِّ مُسْلِمٍ وَمُسْلِمَةٍ)، لكنّ ظروف التخلّف والانحطاط هي التي جعلتْ المرأة عندنا أسيرة الجهل، محرومة من نعمة المعرفة والعلم غالباً.

وقراءة شخصيّة السيّدة زينب تعطي لأمّتنا دفعة انطلاق لتجاوز هذا الواقع الخاطئ، فقد اهتمّتْ السيّدة زينب بتلقّي العلم والمعرفة منذ نعومة أظفارها وفي وقت مبكّر من حياتها، فإنّها روتْ عن أمّها فاطمة الزهراء(٧) .

____________________

(٦) جريدة (الحياة) اليوميّة، تصدر في لندن تاريخ: (٢٢ - ١٢ - ١٤١١ ه-).

(٧) معجم رجال الحديث: الخوئي: ج ٢٣، ص ١٩.

٢٦١

وقال الطبرسي: إنّها روتْ أخباراً كثيرة عن أمّها الزهراء(٨) .

بالطبع كان عمرها عند وفاة أمّها السادسة.

وفي طليعة ما روت عن أمّها الزهراء خطبتها العظيمة في الاحتجاج على الخليفة الأوّل أبي بكر حول منطقة فدك، التي كانت تحت يد الزهراء فصادرها الخليفة وضمّها إلى بيت المال.. وخطبة الزهراء هذه طويلة مفصّلة تتضمّن -أ زيادة على موضوعها الأساس حول فدك - الكثير من المفاهيم والتعاليم الإسلاميّة، وكلّ أسانيد هذه الخطبة تنتهي إلى السيّدة زينب، فهي التي حفظتْ خطبة أمّها وانتقلتْ عبرها إلى الأجيال.

وقد أشار ابن أبي الحديد المعتزلي إلى أسانيد الخطبة المنتهية كلّها إلى السيّدة زينب، نقلاً عن أبي بكر الجوهري، والذي وصفه بقوله: عالم محدّث، كثر الأدب، ثقة ورع، أثنى عليه المحدّثون، ورووا عنه مصنّفاته(٩) .

ويذكر أبو الفرج الأصفهاني لخطبة الزهراء سنداً آخر عن ابن عبّاس بروايته عن السيّدة زينب قال: والعقيلة هي التي روى ابن عبّاس عنها كلام فاطمة في فدك، فقال: (حَدّثَتْنِي عقيلتُنا زينب بنت علي )(١٠) .

وكما روتْ عن أمّها الزهراء، فقد روتْ أيضاً عن أبيها علي، وعن أخوَيها الحسنَين(١١) .

وروتْ عن مولى لجدّها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ذكر ابن عساكر أنّ اسمه (طهمان ) أو (ذكوان ) (١٢) .

لكنّ الشيخ النقدي نقل عن كتاب (الورع ) لأحمد بن حنبل أنّ اسم ذلك

____________________

(٨) أدب الطفّ: جواد شبر: ج ١، ص ٢٤٣.

(٩) شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد: ج ١٦، ص ٢١٠ - ٢١١.

(١٠) مقاتل الطالبيين: الأصفاني: ص ٩١.

(١١) زينب الكبرى: النقدي: ص ٣٥.

(١٢) تاريخ مدينة دمشق: ابن عساكر: تراجم النساء، ص ١١٩.

٢٦٢

المولى (ميمون ) أو (مهران )، فقال: ومَن ذلك ما في كتاب (الورع) لأحمد بن حنبل المطبوع بمصر حديثاً عن عطاء بن السائب قال: حدّثتْني أمّ كلثوم ابنة علي - هي زينب - قال: أتيتُها بصدقة كان أمر بها.قالت: احذر شبابنا فإنّ ميموناً أو مهران أخبرني أنّه مرّ على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال: (يا ميمون أو يا مهران إنّا أهل بيت نُهينا عن الصدقة، وإنّ موالينا مِن أنفسنا فلا تأكل الصدقة)(١٣) .

وروتْ أيضاً عن فُضْلَيَات نساء عصرها ك-:

- أمّ أيمن مولاة النبي وحاضنته.

- وأمّ سَلَمَة زوج رسول الله.

- وأُمّ هاني بنت أبي طالب(١٤) .

- وأسماء بنت عميس أُمّ عبد الله بن جعفر(١٥) .

ولم تختزن السيّدة زينب العلم لنفسها أو تحتكره لذاتها، بل أفاضتْ من معارفها ومرويّاتها على أبناء الأمّة، فكانت تتحدّث ليس فقط للنساء، بل حدّثتْ العديد من رجالات بيتها وسائر الأصحاب والتابعين.

فقد روى عنها:

- جابر.

- وعبّاد العامري(١٦) .

- وابن أخيها علي بن الحسين زين العابدين(١٧) .

- وروى عنها حبر الأمّة عبد الله بن عباس(١٨) .

- وزوجها عبد الله بن جعفر(١٩) .

- وروى عنها محمّد بن عمرو الهاشمي.

- وعطاء بن السائب(٢٠) .

- وروى عنها أحمد بن محمّد بن جابر.

- وزيد بن علي بن الحسين(٢١) .

____________________

(١٣) زينب الكبرى: النقدي: ص ٣٨.

(١٤) المصدر السابق: ص ٣٥ - ٤١.

(١٥) تراجم النساء: ابن عساكر: ص ١١٩.

(١٦) معجم رجال الحديث: الخوئي: ج ٢٣، ص ١٩٠.

(١٧) أدب الطف: جواد شبر: ج ١، ص ٢٣٨.

(١٨) مقاتل الطالبيّين: الأصفهاني: ص ٩١.

(١٩) زينب الكبرى: النقدي: ص ٣٥.

(٢٠) تراجم النساء: ابن عساكر: ص ١١٩.

(٢١) زينب الكبرى: النقدي: ص ٣٧.

٢٦٣

وروت عنها بنت أخيها فاطمة بنت الحسين(٢٢) ، وقد مرّ علينا سابقاً أنّها كانت مهتمّة بتعليم النساء وتثقيفهنّ ضمن مجالسها العلميّة.

ويكفي لأدراك مقام زينب الريادي في ميدان المعرفة والعلم أنْ نتأمّل ما رواه الصدوق محمّد بن بابويه (طاب ثراه) من أنّه كانت لزينب نيابة خاصّة عن الإمام الحسينعليه‌السلام بعد شهادته، وكان الناس يرجعون إليها في الحلال والحرام حتى برئ زين العابدين(٢٣) .

كما أنّ شهادة الإمام زين العابدين في حقّها لم تكن جزافاً ولا مبالغة وهو الإمام المعصوم حيث قال لها:( أنتِ بِحَمْدِ اللهِ عَالِمَةٌ غَيْر مُعَلَّمَةٍ وَفَهِمَةٌ غَيْر مُفَهَّمَةٍ ) (٢٤) .

____________________

(٢٢) تراجم النساء: ابن عساكر: ص ١١٩.

(٢٣) زينب الكبرى: النقدي: ص ٣٥.

(٢٤) المصدر السابق ص ٣٤.

٢٦٤

في محراب العبادة

عبادة الخالق والقرب منه هي المرتكز والمحور في الشخصيّة الإيمانيّة، بل هي مقياس الإنسانيّة والتحرّر في شخصيّة الإنسان، فالبديل عن التعبّد لله والخضوع له هو العبوديّة للشهوات وللمصالح المادِّيَّة الزائلة.

إنّ التعبّد لله يعني انسجام الإنسان مع فطرته النقيّة، واستجابته لنداء عقله الصادق بأنّ للحياة خالقاً يمسك بأزمّتها وإليه مصيرها.

والتعبّد لله هو النبع الذي يروي منه الإنسان ظمأه الروحي، ويتزوّد من دفقاته بدوافع الخير ونوازع الصلاح، فكلّما أقبل الإنسان على ربّه، وأخلص في عبادته، تجلّتْ إنسانيّته أكثر، وتجسّدتْ القِيَم الخَيِّرة في شخصيّته، ففي الحديث القدسي الذي ينقله الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله عن الله سبحانه أنّه قال:

(لا يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتّى أُحبّه فأكون أنا سمعه الذي يَسمع به، وبصره الذي يُبصر به، ولسانه الذي ينطق به، وقلبه الذي يعقل به، فإذا

٢٦٥

دعاني أجبته، وإذا سألني أعطيته)(٢٥) .

والسيّدة زينب وهي العالمة بالله و( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) (٢٦) ، وهي الناشئة في أجواء الأيمان والعبادة والتقوى، كانت قمّة سامقة في عبادتها وخضوعها للخالق عزّ وجلّ.

كانت ثانية أمّها الزهراء في العبادة. وكانت تؤدّي نوافل الليل كاملة في كلّ أوقاتها، حتّى أنّ الحسينعليه‌السلام عندما ودّع عياله الوداع الأخير يوم عاشوراء قال لها: (يا أختاه لا تنسيني في نافلة الليل). كما ذكر ذلك البيرجندي، وهو مدوّن في كتب السِيَر(٢٧) .

وعن عبادة السيّدة زينب ليلة الحادي عشر من المحرّم يقول الشيخ محمّد جواد مغنية:

وأي شيء أدل على هذه الحقيقة من قيامها بين يدي الله للصلاة ليلة الحادي عشر من المحرّم، ورجالها بلا رؤوس على وجه الأرض تسفي عليهم الرياح، ومن حولها النساء والأطفال في صياح وبكاء ودهشة وذهول، وجيش العدو يحيط بها من كلّ جانب... إنّ صلاتها في مثل هذه الساعة تماماً كصلاة جدّها رسول الله في المسجد الحرام، والمشركون من حوله يرشفونه بالحجارة، ويطرحون عليه رحم شاة، وهو ساجد لله عز وعلا، وكصلاة أبيها أمير المؤمنين في قلب المعركة بصفّين، وصلاة أخيها سيّد الشهداء يوم العاشر والسهام تنهال عليه كالسيل.

ولا تأخذك الدهشة - أيّها القارئ الكريم - إذا قلتُ: إنّ صلاة السيّدة زينب ليلة الحادي عشر من المحرّم كانت شكراً لله على ما أنعم، وإنّها كانت تنظر إلى تلك الأحداث على أنّها نعمة خصّ الله بها أهل بيت النبوّة من دون الناس أجمعين، وأنّه لولاها لَمَا كانت لهم هذه المنازل والمراتب عند الله والناس(٢٨) .

____________________

(٢٥) ميزان الحكمة: الري شهري: ج ٨، ص ١١١.

(٢٦) سورة فاطر: آية: ٢٨.

(٢٧) أدب الطف: جواد شبّر: ج ١، ص ٢٤٢.

(٢٨) مع بطلة كربلاء: مغنية: ص ٤٢.

٢٦٦

وروي عن ابنة أخيها فاطمة بنت الحسين قولها: (وأمّا عمّتي زينب فإنّها لم تزل قائمة في تلك الليلة في محرابها تستغيث إلى ربّها، فما هدأتْ لنا عين ولا سكنتْ لنا رَنّة )(٢٩) .

* أمّا كيف كانت تتخاطب السيّدة زينب مع ربّها؟ وبماذا كانت تناجيه؟ فإنّ المصادر التاريخيّة قد احتفظتْ لنا ببعض القطع والفقرات من أدعيتها ومناجاتها، نذكر منها ما يلي:

(يا عمادَ مَن لا عماد له، ويا ذُخر مَن لا ذخر له، ويا سَنَد مَن لا سند له، ويا حِرْز الضعفاء، ويا كَنْز الفقراء، ويا سميع الدعاء، ويا مجيب دعوة المضطرّين، ويا كاشف السوء، ويا عظيم الرجاء، ويا منجي الغرقَى، ويا منقذ الهَلْكَى، يا مُحْسِن، يا مُجْمِل، يا مُنْعِم، يا متفضّل، أنت الذي سجد لك سوادُ الليل، وضوءُ النهار، وشعاعُ الشمس، وحَفِيْفُ الشجر، ودويّ الماء، يا الله يا الله الذي لم يكن قبله قبل، ولا بعده بعد، ولا نهاية له، ولا حدّ ولا كفؤ ولا نِدَّ، بحرمة اسمك الذي في الآدميين معناه المرتدي بالكبرياء والنور والعظمة، محقّق الحقائق، ومبطل الشرك والبوائق، وبالاسم الذي تدوم به الحياة الدائمة الأزليّة، التي لا موت معها ولا فناء، وبالروح المقدّسة الكريمة، وبالسمع الحاضر والنظر النافذ، وتاج الوقار، وخاتم النبوّة، وتوثيق العهد، ودار الحيوان، وقصور الجمال، ويا لله لا شريك له)(٣٠) .

ومن الأدعية والتسبيحات التي كانت تواظب على قراءتها هو:

(سبحان مَن لبس العزّ وتردى به، سبحان مَن تعطّف بالمجد والكرم، سبحان مَن لا ينبغي التسبيح إلاّ له (جلّ جلاله)، سبحان مَن أحصى كلّ شيء عدداً بعلمه وخلقه وقدرته، سبحان ذي العزّة والنعم، اللهم، إنّي أسألك بمعاقد العزّ مِن عرشك، ومنتهى الرحمة من كتابك، وباسمك الأعظم، وجدك

____________________

(٢٩) زينب الكبرى: النقدي: ص ٦٢.

(٣٠) عقيلة الطهر والكرم: موسى محمّد علي: ص ٧٠.

٢٦٧

الأعلى، وكلماتك التامّات التي تمّت صدقاً وعدلاً، أنْ تصلّى على محمّد وآل محمّد الطيبين الطاهرين، وأنْ تجمع لي خيرَي الدنيا والآخرة، بعد عمر طويل، اللهمّ أنت الحيّ القيّوم، أنت هديتني، وأنت تطعمني وتسقيني، وأنت تُميتني برحمتك يا أرحم الراحمين)(٣١) .

ومن أدعية أبيها التي كانت تدعو بها بعد صلاة العشاء:

(اللّهمّ إنّي أسألك يا عالم الأمور الخفيّة، ويا مَن الأرض بعزّته مدحيّة، ويا مَن الشمس والقمر بنور جلاله مشرقة مضيئة، ويا مقبلاً على كلّ نفس مؤمنة زكيّة، ويا مسكّن رعب الخائفين وأهل التقيّة، يا مَن حوائج الخلق عنده مقضيّة، يا مَن ليس له بوّاب ينادى، ولا صاحب يغشى، ولا وزير يؤتى، ولا غير ربّ يدعى، يا مَن لا يزداد على الإلحاح إلاّ كرماً وجوداً، صلّ على محمّد وآل محمّد وأعطني سؤلي إنّك على كلّ شيء قدير)(٣٢) .

____________________

(٣١) عقيلة بني هاشم: علي الهاشمي: ص ١٥.

(٣٢) المصدر السابق: ص ١٦.

٢٦٨

صبر وشجاعة

معروف أنّ المرأة تمتاز برقّة المشاعر، وشفافيّة العواطف، ممّا يساعدها على القيام بدور الأمومة الحانية؛ لذلك يكون تأثيرها العاطفي أسرع وأعمق من الرجل غالباً.

وإذا كانت تلك الحالة تمثّل الاستعداد الأَوّلي في نفس المرأة، فلا يعني ذلك أنّها تأسُر المرأة وتَقعد بها عن درجات الصمود والصبر العالية، فبإمكان المرأة حينما تمتلك قوّة الإرادة ونفاذ الوعي وسموّ الهدف، أنْ تضرب أروع الأمثلة في الصبر والشجاعة أمام المواقف الصعبة القاسية.

وهذا ما أثبتتْه السيّدة زينب في مواجهتها للآلام والأحداث العنيفة التي صدمتها في باكر حياتها وكانت هي الختم لسنوات عمرها، لقد أبدتْ السيّدة زينب تجلّداً وصبراً قياسياً في واقعة كربلاء وما أعقبها من مصائب، وإلاّ فكيف استطاعتْ أنْ تنظر إلى أخيها الحسين ممزّق الأشلاء يسبح في بُرْكة من الدماء، وحوله بقيّة رجالات وشباب أسرتها من أخوتها وأبناء إخوتها وأبناء

٢٦٩

عمومتها وأبنائها، ثمّ تحتفظ بكامل السيطرة على أعصابها وعواطفها، لتقول كلمة لا يقولها الإنسان إلاّ في حالة التأنّي والثبات والاطمئنان، وهي قولها: (اللّهمّ تَقَبَّل مِنَّا هَذَا القليل من القربان )(٣٣) .

وأكثر من ذلك فهي تصبّر ابن أخيها الإمام زين العابدين حينما رأتْه مضطرباً بالغ التأثّر عند مروره على جثث القتلى - كما مرّ علينا سابقاً -.

ويعبّر الشيخ النقدي عن فظيع مصائب السيّدة زينب وعظيم تحمّلها لها بقوله:

وبالجملة فإنّ مصائب هذه الحرّة الطاهرة زادتْ على مصائب أخيها الحسين الشهيد أضعافاً مضاعفة، فإنّها شاركتْه في جميع مصائبه، وانفردتْ عنهعليها‌السلام بالمصائب التي رأتْها بعد قَتْله من النَهْب والسَلب والضرب وحرق الخيام، والأَسْر، وشَمَاتة الأعداء.

أمّا القتل فإنّ الحسين قُتل ومضى شهيداً إلى روح وريحان، وجنّة ورضوان، وكانت زينب في كلّ لحظة من لحظاتها تُقْتَل قَتْلاً معنويّاً بين أولئك الظالمين، وتذري دماء القلب من جفونها القريحة(٣٤) .

وأيّ مستوى من الصبر عند السيّدة زينب حينما تصف ما رأته من مصائب بأنّه شيء جميل: (والله ما رأيتُ إلاّ جميلاً ) ردّاً على سؤال ابن زياد لها:كيف رأيتِ صُنْع الله بأخيك؟

____________________

(٣٣) زينب الكبرى: النقدي: ص ٧٥.

(٣٤) زينب الكبرى: النقدي: ص ٩٧.

٢٧٠

عفّة ومهابة

عفّة المرأة لا تعني الانكفاء والانطواء، ولا تعني الجمود والأحجام عن تحمّل المسؤوليّة وممارسة الدور الاجتماعي، وقد رأينا السيّدة زينب وهي تمارس دورها الاجتماعي في أعلى المستويات.

لكنّ العفّة تعني: عدم الابتذال، وتعني حفاظ المرأة على رزانتها وجدِّيَّة شخصيّتها أمام الآخرين.

فإذا استلزم الأمر أنْ تخرج المرأة إلى ساحة المعركة فلا تتردّد في ذلك، وإذا كانت هناك مصلحة في التخاطب مع الرجال فلا مانع، وهكذا في سائر المجالات النافعة والمفيدة.

أمّا الابتذال واستعراض القوام والمفاتن أمام الرجال، فهو مناف للعفّة والحشمة.

وبعد أنْ استقْرأْنا دور السيّدة زينب ومواقفها العلميّة والسياسيّة والاجتماعيّة، فلنتأمّل الآن ما يقوله أحد المعاصرين لها والمجاورين لمنزلِها برهةً من الزمن، ليتّضح لنا معنى العفّة والاحتشام عند السيّدة زينب.

حدّث يحيى المازني قال:

كنت في جوار أمير المؤمنين في المدينة مدّةً مديدة

٢٧١

وبالقرب من البيت الذي تسكنه زينب ابنته، فلا والله ما رأيتُ لها شخصاً ولا سمعتُ لها صوتاً(٣٥) .

____________________

(٣٥) المصدر السابق: ص ٢٢.

٢٧٢

زهد وعطاء

كانت زينب تعيش في كنف زوجها (عبد الله بن جعفر ) في المدينة، وهو رجل مُوسر غني، وباذل كريم - كما سبق الحديث عنه - لكنّ حياة الراحة والرفاه - حيث البيت الواسع والخدم والحشم، والمال والثروة - لم تتمكّن من قلب السيّدة زينب، فتخلّتْ عن كلّ تلك الأجواء المريحة، واختارتْ السفر مع أخيها الحسين، حيث المصاعب والمشاق والآلام المتوقّعة، لم يكن قلب زينب متعلّقاً بشيء من متاع الدنيا، بل كانت نفسها منشدّة إلى آفاق السموّ والرفعة.

ورُوي عن الإمام زين العابدين أنّه قال عنها: (إنّها ما ادّخرتْ شيئاً مِن يومها لغدها أبداً)(٣٦) .

ونُقل عنها أنّها كانت أثناء سفر الأسر إلى الشام، كانت تتنازل في غالب الأيّام عن حصّتها من الطعام لصالح الأطفال الجائعين والجائعات من الأُسارى وتطوي يومها جائعة، حتّى أنّ الجوع كان يقعد بها عن التمكّن من أداء صلاة الليل قياماً فتؤدّيها وهي جالسة(٣٧) .

وقد مرّ علينا سابقاً أنّها حينما رجعتْ إلى المدينة مع قافلة السبايا نزعتْ حُلِيّها وحليّ أختها لتقدّمه هديّة ل-(النعمان بن بشير )، مكافأةً له على حسن صحبته ورفقته.

____________________

(٣٦) المصدر السابق: ص ٦١.

(٣٧) المصدر السابق: ص ٦٣.

٢٧٣

٢٧٤

إلى الرفيق الأعلى

٢٧٥

٢٧٦

إذا كان الموت شبحاً مرعباً لكلّ إنسان، وإذا كانت مفارقة الحياة أقسى وأشد ما يزعج الإنسان، فإنّ الأمر كان مختلفاً لدى السيّدة زينب.. فالموت بالنسبة لها كان يعني لقاء الله والاقتراب أكثر من رحمته، والموت عند السيّدة زينب قنطرة ومعبر إلى جنّة الله العريضة الواسعة ونعيمه السرمدي الخالد.

وكانت ترى في الموت وسيلة نقل سريعة توصلها إلى رحاب أحبّتها السابقين، حيث تلقى جدّها النبي وأمّها الزهراء وأباها المرتضى وأخوَيها العزيزَين.

لقد طال فراقها لجدّها المصطفى وأمّها البتول، فامتلأت نفسها شوقاً إلى لقائهما، لكنّ ستار الحياة يفصل بينها وبينهما، فمتى يُماط هذا الستار ليكتحل ناظرها برويتهما؟

والموت بعد ذلك أصبح الوسيلة الوحيدة المتاحة للسيّدة زينب للإعلان عن احتجاجها ورفضها وسخطها على واقع الألم والضَيم والعناء.

لكنّ الأمر بيد الله، فهو وحده يقرّر الآجال وبيده الموت والحياة.. وحينما قدّر الله تعالى لها الرحيل عن دار الدنيا، استقبلتْ قضاءَه بصدر رحب، فذلك

٢٧٧

ينسجم مع ما يجري في أعماق نفسها من مشاعر وخلجات.

وأسلمتْ الروح لله.. ورجعتْ نفسها المطمئنّة إلى الحقّ راضيةً مرضيّةً لتدخل جنّة الله بسعادة وهناء، ولتلاقي صفوة عباده الأعزّاء محمّد وفاطمة وعلي والحسن والحسين.

إنّه لا يمكننا تصوير مدى سعادة السيّدة زينب بعروج روحها إلى الملكوت الأعلى.

هل نشبّه تلك اللحظات بوصول المسابق إلى نهاية شوط السباق ناجحاً منتصراً؟ فهو وإنْ كان حين الوصول في غاية التعب والمشقّة لِمَا بذله مِن جهد، لكنّه فور وصوله سينقلب إلى حالة أخرى هي ذروة السعادة ومنتهى الراحة.

نعم.. لقد أكملتْ السيّدة زينب امتحانها بنجاح، وقطعتْ شوط الحياة الصعب بإخلاص ويقين، وطوتْ ستّة عقود من سِنِيّ الدنيا في جهاد رسالي متواصل.

واختلف المؤرّخون في تحديد سنة وفاتها، والأرجح عند كثير من الباحثين أنّها تُوفّيت (سنة: ٦٢ ه- / الموافق: ٦٨٣ م )(١) ، بينما ذهب آخرون إلى أنّ وفاتها (سنة: ٦٥ ه- ).

ويتّفق المؤرّخون على أنّ وفاتها كانت في (الخامس عشر من شهر رجب )(٢) .

وهكذا انتقلتْ العقيلة زينب إلى الرفيق الأعلى.. وبقي ذكرها خالداً ينير للبشريّة طريق الكرامة والمجد.

____________________

(١) زينب الكبرى: النقدي: ص ١٢٢. السيّدة زينب: بنت الشاطئ: ص ١٥٥.

(٢) المصدران السابقان. مع بطلة كربلاء: مغنية: ص ٩٠.

٢٧٨

مقامات شامخة

من إشراقات عظمة السيّدة زينب أنْ تتنافس البقاع والبلدان على ادّعاء شرف احتضان مرقدها ومثواها. ففي أكثر من بلد تُقام الأضرحة وتشمخ القباب والمنائر باسم السيّدة زينب.

لقد اختلف المؤرّخون في مكان وفاة السيّدة زينب ومحلّ قبرها، وشاء الله تعالى أنْ يكون ذلك سبباً لإظهار عظمتها وإبراز شأنها ومجدها.

* ونتحدّث في السطور التالية عن أبرز المقامات المشادة باسم السيّدة زينبعليها‌السلام :

* في دمشق الشام:

تشير بعض الروايات إلى أنّ عبد الله بن جعفر رحل عن المدينة وأنتقل مع السيّدة زينب زوجته إلى ضيعة كان يمتلكها قرب دمشق في قرية يُقال لها (راوية )، وقد تُوفّيت السيّدة زينب في هذه القرية ودُفنتْ في المرقد المعروف باسمها.

وتختلف الروايات في سبب هجرة عبد الله بن جعفر إلى هذه القرية وفي تاريخ تلك الهجرة ووفاة السيّدة زينب، لكنّ العديد من المؤلّفين ذكروا أنّ ذلك بسبب

٢٧٩

مجاعة حصلتْ في المدينة، وإنّ ذلك كان في (سنة:٦٥ ه- ) وبعضهم قال إنّ ذلك في (سنة:٦٢ ه- ).

- يقول العلاّمة الشيخ فرج العمران - خلال بحث له عن الموضوع -:

فالأرجح عندي أنّهاعليها‌السلام تُوفّيت في الشام في النصف من شهر رجب من العام الخامس والستين من الهجرة وهو عام المجاعة، وذلك بمحضر زوجها الجواد عبد الله بن جعفر، ودُفنت في إحدى قُراه المعروفة براوية من غوطة دمشق، المشتهرة الآن بقرية الست(٣) .

ويقع مقام السيّدة زينب في الجهة الشرقيّة الجنوبية على بعد سبعة كيلو مترات من دمشق، وقد أصبحتْ المنطقة تُعرف كلّها باسم (السيّدة زينب).

وتبلغ مساحة المقام وملحقاته حوالي ال- (١٥٠٠٠ متر مربع )، ويتّسع لخمسة آلاف شخص.

- وقد زار هذا المشهد الرحّالة الشهير ابن جبير المتوفّى (سنة:٦١ ٤ ه-)، وقال عنه في رحلته المعروفة عند ذكر المزارات الشاميّة:

(ومن مشاهد أهل البيت مشهد أُمّ كلثوم بنت علي، ويُقال لها زينب الصغرى، وأُمّ كلثوم كنية أوقعها عليها النبي لشبهها بابنته أُمّ كلثوم ومشهدها الكريم قبلي البلد يُعرف براوية على مقدار فرسخ، وعليه مسجد كبير، وخارجه أوقاف، وأهل هذه الجهات يعرفونه بقبر الست، ومشينا إليه وبِتْنَا به وتبرّكنا برؤيته)(٤) .

- كما زار هذا المشهد الرحّالة ابن بطوطة المتوفّى (٧٧ ٠ ه-)، وقال عند ذكر مزارات دمشق:

(بقرية القبلي وعلى فرسخ منها مشهد أُمّ كلثوم بنت علي بن أبي طالب من فاطمة، ويُقال إنّ اسمها زينب، وكنّاها رسول الله لشبهها بخالتها أُمّ كلثوم بنت رسول الله، وعليه مسجد كبير وله مساكن وله أوقاف، ويسمّيه أهل دمشق

____________________

(٣) وفاة زينب الكبرى: الشيخ فرج العمران: ص ٦٥.

(٤) مرقد العقيلة زينب: محمّد حسنين السابقي: ص ١٠٩، نقلاً عن رحلة ابن جبير: ص ٢٦٩.

٢٨٠