المرأة العظيمة قراءة في حياة السيِّدة زينب بنت علي عليهما السلام

المرأة العظيمة  قراءة في حياة السيِّدة زينب  بنت علي عليهما السلام12%

المرأة العظيمة  قراءة في حياة السيِّدة زينب  بنت علي عليهما السلام مؤلف:
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 312

المرأة العظيمة قراءة في حياة السيِّدة زينب بنت علي عليهما السلام
  • البداية
  • السابق
  • 312 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 125233 / تحميل: 8605
الحجم الحجم الحجم
المرأة العظيمة  قراءة في حياة السيِّدة زينب  بنت علي عليهما السلام

المرأة العظيمة قراءة في حياة السيِّدة زينب بنت علي عليهما السلام

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

7 - في قصر بني مقاتل:

وفي قصر بني مقاتل رأى فسطاطاً مضروباً، ورُمحاً مركوزاً، وفرساً واقفاً، فسأل عنه فقيل: هو لعبيد الله بن الحُرّ الجعفي، وبعث إليه الحجّاج بن مسروق الجعفي، فسأله ابن الحُرّ عمّا وراءه؟

قال: هدية إليك وكرامة، إن قبلتها. هذا حسين يدعوك إلى نُصرته، فإن قاتلت بين يديه أُجِرت، وإن قُتلت استشهدت.

فقال ابن الحُرّ: والله ما خرجتُ مِن الكوفة إلاّ لكثرة ما رأيته خارجاً لـمُحاربته، وخذلان شيعته، فعلمت أنّه مقتول ولا أقدر على نصره، ولست أُحبّ أن يراني وأراه(1) .

فأعاد الحجّاج كلامه على الحسين، فقام (صلوات الله عليه) ومشى إليه في جماعة من أهل بيته وصحْبه، فدخل عليه الفسطاط فوسَّع له عن صدر المجلس.

يقول ابن الحُرّ: ما رأيت أحداً قطّ، أحسن مِن الحسين ولا أملأ للعَين منه، ولا رققتُ على أحدٍ قطّ رقّتي عليه حين رأيته يمشي والصبيان حَوله، ونظرت إلى لحيَته فرأيتها كأنّها جناح غراب، فقلت له أَسَواد أم خضاب؟.

قال: (يا ابن الحُرّ، عجَّلَ عليّ الشيب)، فعرفت أنّه خضاب(2) .

ولمّا استقر المجلس بأبي عبد الله، حمَد الله وأثنى عليه، ثُمّ قال: (يابن الحرّ، إنّ أهل مِصْركم كتبوا إليّ أنّهم مجتمعون على نصرتي، وسألوني القدوم عليهم، وليس الأمر على ما زعموا(3) . وإنّ عليك ذنوباً كثيرة، فهل لك مِن توبة تُمحي بها ذنوبك؟!).

____________________

(1)الأخبار الطوال: ص 249.

(2)خزانة الأدب للبغدادي: 1 / 298، ط بولاق. وأنساب الأشراف: 5 / 291.

(3)نفس المهموم: ص104.

١٦١

قال: وما هي يا ابن رسول الله؟ فقال: (تنصر ابن بنت نبيّك وتُقاتل معه)(1) .

فقال ابن الحُرّ: والله إنّي لأعلم أنّ مَن شايعك كان السعيد في الآخرة، ولكن ما عسى أن أُغني عنك، ولم أُخلّف لك بالكوفة ناصراً؟ فأُنشدك الله أن تحملني على هذه الخطّة، فإنّ نفسي لا تسمح بالموت، ولكن فرَسي هذه (الملحقة) - والله - ما طلبت عليها شيئاً قطّ إلاّ لحِقته، ولا طلبني أحد وأنا عليها إلاّ سبقته، فخُذها فهي لك.

قال الحسين: (أمّا إذا رغبت بنفسك عنّا، فلا حاجة لنا في فرَسك(2) ولا فيك، وما كنتُ مُتّخذ الـمُضلّين عضداً(3) . وأنّي أنصحك كما نصحتني، إن استطعت أن لا تسمع صراخنا ولا تشهد وقعتنا، فافعل، فو الله لا يسمع واعيتنا أحد ولا ينصرنا إلاّ أكبّه الله في نار جهنّم)(4) .

وندِم ابن الحُرّ على ما فاته مِن نصرة الحسينعليه‌السلام فأنشأ:

أيا لَك حسرةً ما دمتُ حيّاً

تردَّد بين صدري والتراقي

غَداة يقولُ لي بالقصر قولاً

أتتـركنا وتعزم بالفِراقِ

حسينٌ حين يطلب بذْل نصري

على أهل العداوة والشِقاقِ

فلو فلَقَ التلهّف قلب حُرٍّ

لهَمَّ اليوم قلبي بانفلاقِ

ولو واسيتُه يوماً بنفسي

لنلتُ كرامة يوم التلاقِ

مع ابن محمّد تُفديه نفسي

فودّع ثُمّ أسرع بانطلاق

لقد فاز الأُلى نصروا حُسيناً

وخاب الآخَرون ذَووا النفاق(5)

____________________

(1)أسرار الشهادة: ص233.

(2)الأخبار الطوال: ص249.

(3)أمالي الصدوق: ص94 (المجلس 30).

(4)خزانة الأدب: 1 / 298.

(5)مقتل الخوارزمي: 1 / 228. وذكره الدينوري في الأخبار الطوال: ص258.

١٦٢

وفي هذا الموضع اجتمع به عمرو بن قيس المشرقي وابن عمّه، فقال لهما الحسين: (جئتما لنُصرتي؟!) قالا له: إنّا كثيروا العيال، وفي أيدينا بضائع للناس، ولم ندرِ ماذا يكون، ونَكْره أن نُضيِّع الأمانة.

فقال لهماعليه‌السلام : (انطلقا، فلا تسمعا لي واعية ولا ترَيا لي سواداً، فإنّه مَن سمع واعيتنا أو رأى سوادنا فلم يُجيبنا، كان حقّاً على الله عزّ وجلّ أن يكبّه على مِنْخريه في النار)(1) .

8 - في منزل شراف:

وفي (شراف) طلع عليهم الحُرّ الرياحي بألف فارس، بعثه ابن زياد ليحبس الحسينعليه‌السلام عن الرجوع إلى المدينة أينما يجده، أو يقْدِم به إلى الكوفة.

فسقاهم الحسينعليه‌السلام ماءً، وكانوا عطاشى، ثُمّ خطب فيهم الحسينعليه‌السلام وقال:

(إنّها معذرة إلى الله عزّ وجلّ وإليكم، وإنّي لم آتكم حتّى أتتني كُتبُكم، وقدِمت بها عليَّ رُسلُكم، أن اقدم علينا فإنّه ليس لنا إمام، ولعلّ الله أن يجمعنا بك على الهدى، فإن كنتم على ذلك، فقد جئتكم، فاعطوني ما أطمئنّ به مِن عهودكم ومواثيقكم، وإن كنتم لمقدَمي كارهين، انصرفت عنكم)(2) .

9 - في منزل البيضة:

وفي منزل البيضة، خطب الحسينعليه‌السلام في أصحاب الحُرّ فقال:

(أيّها الناس، إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: (مَن رأى سُلطاناً جائراً، مُستحِلاًّ لحرام الله،

____________________

(1)مقتل الحسين: للسّيد عبد الرزاق المقرّم: 202 - 205.

(2)مقتل الحسين: للسيّد عبد الرزاق المقرّم: 195.

١٦٣

ناكثاً عهده، مُخالِفاً لسُنّة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يُغيِّر عليه بفِعلٍ ولا قول، كان حقّاً على الله أن يُدخله مَدخله.

ألا وأنّ هؤلاء قد لزِموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمان، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله، وحرّموا حلاله، وأنا أحقّ من غيّر، وقد أتتني كُتبكم، وقدِمَت عليَّ رسُلُكم أنّكم لا تسلّموني ولا تخذلوني، فإن تممتُم على بيعتكم تصيبوا رُشدكم، فأنا الحسين بن عليّ وأمّي فاطمة بنت رسول الله. نفسي مع أنفسكم وأهلي مع أهليكم، ولكم فيَّ أُسوة، وإن لم تفعلوا، ونقضْتُم عهدكم، وخلعتُم بيعتي مِن أعناقكم، فلَعمري ما هي لكم بنُكر. لقد فعلتموها، بأبي وأخي وابن عمّي مُسلم. فالمغرور مَن اغترّ بكم. فحظّكم أخطأتم، ونصيبكم ضيّعتم، ومَن نكث فإنّما ينكث على نفسه، وسيغني الله عنكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته)(1) .

10 - في كربلاء:

وفي كربلاء أقبل حبيب بن مظاهر الأسدي إلى الحسين بن عليّعليهما‌السلام ، فقال: هاهنا حيّ مِن بني أسد بالقرب منّا، أتأذن لي أن أسير إليهم أدعوهم إلى نصرتك؟ فعسى الله أن يدفع بهم عنك بعض ما تكره، فقال له الحسينعليه‌السلام : قد أذِنتُ لك يا حبيب.

قال: فخرج حبيب بن مظاهر في جوف الليل متنكّراً حتّى صار إلى أولئك القوم، فحيّاهم وحيّوه وعرفوا أنّه مِن بني أسد، فقالوا: ما حاجتك؟ يا ابن عمّ! فقال: حاجتي إليكم قد أتيتكم بخير ما أتى به وافدٌ إلى قوم، أتيتكم أدعوكم إلى نصرة ابن بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّه في عصابة مِن المؤمنين، الرجُل منهم خيرٌ

____________________

(1)الطبري 6 / 229. ومقتل الحسين / للمقرّم: ص198.

١٦٤

مِن ألف رجُل، لن يخذلوه ولن يُسلموه وفيهم عينٌ نظرَت، وهذا عمَر(1) بن سعد قد أحاط به في اثنين وعشرين ألف، وأنتم قومي وعشيرتي، وقد جئتكم بهذه النصيحة، فأطيعوني اليوم في نصرته تنالون غداً شرفاً في الآخرة، فإنّي أُقسم بالله أنّه لا يُقتَل منكم رجُل مع ابن بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله صابراً محتسباً، إلاّ كان رفيق محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله في أعلى علّيين.

قال: فوَثب رجُل مِن بني أسد يُقال له بشر بن عبيد الله فقال: والله أنا أوّل مَن أجاب إلى هذه الدعوة، ثمّ أنشأ يقول:

قد علِم القوم إذا توَاكلوا

وأحجم الفُرسان أو تناصلوا

إنّي شجاع بطل مقاتل

كأنّني ليث عرين باسل

قال: ثمّ تبادر رجال الحيّ مع حبيب بن مظاهر الأسدي.

قال: وخرج رجُل مِن الحيّ في ذلك الوقت حتّى صار إلى عمَر(2) بن سعد في جوف الليل فخبّره بذلك، فأرسل عمَر رجُلاً من أصحابه يُقال له الأزرق بن حرب الصيداوي، فضمّ إليه أربعة آلاف فارس، ووجّه به في الليل إلى حيّ بني أسد مع الرجُل الذي جاء بالخبر.

قال: فبينما القوم في جوف الليل قد أقبلوا يريدون معسكر الحسين، إذ استقبلهم جُند عمَر بن سعد على شاطىء الفرات، قال: فتناوش القوم بعضهم [بعضاً] واقتتلوا قتالاً شديداً، صاح به حبيب بن مظاهر: ويلك يا أزرق ما لك ولنا دعْنا؟ قال: واقتتلوا قتالاً شديداً.

فلمّا رأى القوم ذلك انهزموا راجعين إلى منازلهم، فرجع حبيب بن مظاهر إلى الحسينعليه‌السلام ، فأعلمه بذلك الخبر فقال: لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم(3) .

____________________

(1)في النُسخ: عمْرو.

(2)في النُسخ: عمْرو.

(3)كتاب الفتوح لابن الأعثم الكوفي: ج5 / 159 - 162، ط 1.

١٦٥

11 - وفي كربلاء دعا الحسينعليه‌السلام بدَواة وبيضاء، وكتَب إلى أشراف الكوفة ممّن كان يظنّ أنّه على رأيه:

(بسم الله الرحمن الرحيم، مِن الحسين بن عليّ إلى سليمان بن صرد الخزاعي(1) .

أمّا بعد فقد علِمتُم أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قد قال في حياته: مَن رأى سلطاناً جائراً إلى آخِر ما ذكره في خطبة الأصحاب).

يوم عاشوراء:

وللحسينعليه‌السلام يوم عاشوراء استنصاران واستغاثة:

وفيما يلي تفصيل كلٍّ مِن الاستنصارين والإستغاثة الحسينية في يوم عاشوراء.

12 - الاستنصار الأوّل يوم عاشوراء:

دعا الحسينعليه‌السلام براحلته يوم عاشوراء، فركِبها ونادى بصوتٍ عال يسمعه جُلُّهم:

(أيّها الناس اسمعوا قولي ولا تعجلوا حتّى أعِظكم بما هو حقّ لكم عليّ، وحتّى اعتذر إليكم من مقْدمي عليكم، فإن قبلتم عذري وصدّقتم قولي وأعطيتموني النَصف من أنفسكم، كنتم بذلك أسعد، ولم يكن لكم عليّ سبيل، وإن لم تقبلوا منّي العذر، ولم تعطوا النَصف مِن أنفسكم).( فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ

____________________

(1)نفس المهموم: ص 207، البحار 44 / 382.

١٦٦

وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمّةً ثُمّ اقْضُوا إِلَيّ وَلاَ تُنظِرُونِ ) (1) ( إِنّ وَلِيّيَ اللّهُ الّذِي نَزّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلّى الصّالِحِينَ ) (2) .

فلمّا سمعْنَ النساء هذا منه صحْنَ وبَكين وارتفعت أصواتهم، فأرسل إليهنّ أخاه العباس وابنه عليّ الأكبر وقال لهما: (سكّتاهن فلَعمري ليكثُر بكاؤهنّ).

ولمّا سكتْنَ، حمَد الله وأثنى عليه وصلّى على محمّد وعلى الملائكة والأنبياء، وقال في ذلك ما لا يُحصى ذِكره، ولم يُسمَع متكلّم قبله ولا بعده أبلَغ منه في منْطقه(3) .

ثمّ قال: (الحمد لله الذي خلَق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال، متصرّفة بأهلها حالاً بعد حال، فالمغرور مَن غرّته والشقيّ مَن فتنته، فلا تغرّنكم هذه الدنيا فإنّها تقطع رجاء مَن ركن إليها، وتُخيّب طمَع مَن طمع فيها، وأراكم قد اجتمعتم على أمرٍ قد أسخطتُم الله فيه عليكم، وأعرَض بوجهه الكريم عنكم، وأحلّ بكم نقمته، وجنّبكم رحمته، فنِعم الربّ ربّنا وبئس العبيد أنتم، أقررتُم بالطاعة وآمنتم بالرسول محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ إنّكم زحفتم إلى ذرّيته وعترته تريدون قتْلهم، وقد استحوَذ عليكم الشيطان فأنساكم ذِكر لله العظيم، فتبّاً لكم ولِما تريدون، إنّا لله وإنّا إليه راجعون، هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم فبُعداً للقوم الظالمين)(4) .

(أيّها الناس، انسبوني مَن أنا، ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها، وانظروا هل يحلّ لكم قتْلي وانتهاك حُرمتي؟ ألستُ ابن بنت نبيّكم وابن وصيّة وابن عمّه

____________________

(1)يونس / 71.

(2)الأعراف / 196.

(3)تاريخ الطبري: 6 / 242.

(4)مقتل محمّد بن أبي طالب.

١٦٧

وأوّل المؤمنين بالله والمصدّق لرسوله بما جاء مِن عند ربّه؟ أوَ ليس حمزة سيد الشهداء عمّ أبي، أو ليس جعفر الطيّار عمّي، أوَ لم يبلغكم قول رسول الله لي ولأخي: هذان سيّدا شباب أهل الجنّة؟

فإن صدّقتموني بما أقول، وهو الحقّ فوَ الله ما تعمّدت الكذِب منذ علِمتُ أنّ الله يمْقت عليه أهله، ويضرّ به مَن اختلقه، وإن كذّبتموني فإنّ فيكم مَن إن سألتموه عن ذلك أخبركم، سلوا جابر بن عبدالله الأنصاري، وأبا سعيد الخدري، وسهل بن سعد الساعدي، وزيد بن أرقم، وأنس ابن مالك، يخبرونكم إنّهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله لي ولأخي، أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي).

فقال الشمر: هو يعبُد الله على حرْف إن كان يدري ما يقول.

فقال له حبيب بن مظاهر: والله إنّي أراك تعبُد الله على سبعين حرفاً، وأنا أشهد أنّك صادق، ما تدري ما يقول، قد طبَع الله على قلبك.

ثمّ قال الحسينعليه‌السلام : (فإن كنتم في شكٍّ مِن هذا القول أفتشكّون أنّي ابن بنت نبيّكم؟ فوَ الله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبيٍّ غيري فيكم ولا في غيركم، ويْحَكم! أتطلبوني بقتيل منكم قتلته، أو مالٍ لكم استهلكته، أو بقصاص جراحة؟) فأخذوا لا يكلّمونه.

فنادى: ياشبث بن ربعي، ويا حجار بن أبجر، ويا قيس بن الأشعث، ويا زيد ابن الحارث، ألم تكتبوا إليّ أن أقدِم قد أينع الثمار واخضرّ الجناب، وإنما تقدِم على جُندٍ لك مجنّدة.

فقالوا: لم نفعل.

قال: سبحان الله، بلى والله لقد فعلتم. ثمّ قال: (أيّها الناس، إذا كرهتموني، فدَعوني أنصرف عنكم إلى مأمَني مِن الأرض، فقال له قيس بن الأشعث: أوَ لا تنزل على حُكم بني عمّك؟ فإنّهم لن يروك إلاّ ما تحبّ، ولن يصل إليك منهم مكروه.

١٦٨

فقال الحسينعليه‌السلام : أنت أخو أخيك أتُريد أن يطلبك بنو هاشم أكثر مِن دم مسلم بن عقيل؟ لا والله لا أُعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا إفرّ فِرار العبيد (1)، عِباد الله( إنّي عُذْت بربّي وربِّكم أنْ ترْجِمُونِ ) أعوذ بربّي وربّكم مِن كلّ متكبّر لا يؤمن بيوم الحساب(2) .

13 - الاستنصار الثاني في يوم عاشوراء:

ثمّ إنّ الحسينعليه‌السلام ركِبَ فرَسه، وأخذ مصحفاً ونشَره على رأسه، ووقف بإزاء القوم وقال: (يا قوم، إنّ بيني وبينكم كتاب الله، وسنّة جدّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله )(3) .

ثمّ استشهدهم عن نفسه المقدّسة، وما عليه من سيف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ودرعه وعمامته، فأجابوه بالتصديق. فسألهم عمّا أقدمهم على قتله، قالوا: طاعة للأمير عبيد الله بن زياد، فقالعليه‌السلام :

(تبّاً لكم أيّها الجماعة وترَحاً! أحين استصرختمونا والهين فأصرخناكم موجِفين، سللتُم علينا سيفاً لنا في أَيمانكم، وحششتُم علينا ناراً اقتدحناها على

____________________

(1)بالفاء الموحّدة فيما رواه ابن نما في مثير الأحزان: ص26، وهو أصحّ ممّا يمضي على الألسُن، ويوجد في بعض المقاتل بالقاف مِن الإقرار؛ لأنّه على هذا تكون الجملة الثانية غير مفيدة إلاّ ما أفادته التي قبلها، بخلاف على قراءة (الفرار) فإنّ الجملة الثانية تفيد أنّه لا يفرّ من الشدّة والقتل كما يصنعه العبيد، وهو معنى غير ما تؤدّي إليه الجملة التي قبلها، على أنّه يوجد في كلام أمير المؤمنين ما يشهد له، ففي تاريخ ابن الأثير: ج3 ص148، وشرح نهج البلاغة: ج1 ص 104 المطبعة الأميرية: أنّ أمير المؤمنين قال في مصقلة بن هبيرة لمّا فرّ إلى معاوية: ما له فَعل فِعْل السيّد، وفرّ فِرار العبد، وخان خيانة الفاجر؟

(2)مقتل الحسين للسيّد عبد الرزاق المقرّم: 254 - 257.

(3)تذكرة الخواص: ص143.

١٦٩

عدوّنا وعدوّكم؟ فأصبحتم ألباً لأعدائكم على أوليائكم بغير عدْلٍ أفشَوه فيكم، ولا أمَل أصبح لكم فيهم، فهلاّ لكم الوَيلات، تركتمونا، والسيف مشيم، والجأش طامن، والرأي لمّا يُستحصف، ولكن أسرعتم كطَيرة(1) الدبا، وتداعيتم عليها، كتهافت الفَراش، ثمّ نفضتموها، فسُحقاً لكم يا عبيد الأمَة وشذّاذ الأحزاب، ونبَذة الكتاب، ومحرّفي الكلِم، وعصبة الإثم، ونفثة الشيطان، ومطفئي السُنن! وَيحَكم! أهؤلاء تعضدون وعنّا تتخاذلون؟ أجَل والله غدرٌ فيكم قديم وشِجَت عليه أُصولكم، وتأزّرت فروعكم، فكنتم أخبث ثمَر، شجىً للناظر وأكْلة للغاصب).

(ألا وإنّ الدعيَّ ابن الدعيّ قد ركَز بين اثنتين بين السِلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجورٌ طابت وطهُرَت وأنوفٌ حَمِية ونفوس أبيّة مِن أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام، ألا وإنّي زاحف بهذه الأُسرة على قلّة العدد وخذلان الناصر)(2) .

14 - الاستغاثة الأخيرة للحسينعليه‌السلام يوم عاشوراء:

ولمّا نظر الحسينعليه‌السلام كثرة مَن قُتل مِن أصحابه، قبض على شيبته المقدّسة وقال: (اشتدّ غضب الله على اليهود إذ جعلوا له ولداً، واشتدّ غضبه على النصارى إذ جعلوه ثالث ثلاثة، واشتد غضبه على المجوس إذ عبَدوا الشمس والقمر دونه، واشتد غضبه على قوم اتّفقت كلمتهم على قتْل ابن بنت نبيّهم، أما والله لا أُجيبهم

____________________

(1)بالكسر فالفتح (تاج العروس).

(2)نقلناها من اللهوف: ص54، ورواها ابن العساكر في تاريخ الشام: ج4 ص333، والخوارزمي في المقتل: ج2 ص6.

١٧٠

إلى شيءٍ يريدون حتّى ألقى الله وأنا مخضّب بدمي)، ثمّ صاح: أما مِن مغيث يغيثنا، أما مِن ذابٍّ يذبّ عن حُرَم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (1) ، فبكت النساء وعَلا صراخهنّ.

وسمع الأنصاريّان سعد بن الحارث وأخوه أبو الحتوف استنصار الحسين واستغاثته وبكاء عياله وكانا مع ابن سعد، فمالا بسيفهما على أعداء الحسين، وقاتلا حتّى قُتلا(2) .

قال السيّد (رضي عنه الله): ولمّا رأى الحسينعليه‌السلام مصارع فتيانه وأحبّته عزم على لقاء القوم بمُهجته ونادى: هل مِن ذابٍّ يذبّ عن حُرَم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، هل مِن موحّد يخاف الله فينا، هل مغيث يرجو الله بإغاثتنا، هل مِن معين يرجو ما عند الله في إعانتنا. فارتفعت أصوات النساء بالعويل، فتقدّم إلى باب الخيمة وقال لزينب: ناوليني ولَدي الصغير حتّى أودّعه، فأخَذه وأومأ إليه ليُقبّله، فرماه حرملة بن كاهل الأسدي بسهْمٍ، فوقع في نحره، فذبحه(3) .

فقالعليه‌السلام لزينب: خُذيه، ثمّ تلقّى الدم بكفّيه، فلمّا امتلأت رمى بالدم نحو السماء، ثمّ قال: هوّن عليّ ما نزل بي أنّه بعَين الله(4) .

وحكى السبط في التذكرة عن هشام بن محمّد الكعبي قال: لمّا رآهم الحسينعليه‌السلام مصرّين على قتْله، أخذ المصحف ونشره وجعله على رأسه ونادى: (بيني وبينكم كتاب الله وجدّي محمّد رسول الله، يا قوم بم تستحلّون دمي؟)، فَساقَ الكلام(5) إلى أن قال: فالتفت الحسينعليه‌السلام ، فإذا بطفل له يبكي عطشاً،

____________________

(1)اللهوف: ص57.

(2)الحدايق الوردية (مخطوط).

(3)الملهوف: ص102.

(4)الملهوف: ص103.

(5)هذا كلامهعليه‌السلام الذي ساقه: ألست ابن بنت نبيّكم، ألَم يبلغكم قول جدّي فيَّ وفي أخي =

١٧١

فأخذه على يده وقال: يا قوم إن لم ترحموني فارحموا هذا الطفل، فرماه رجُل منهم بسهْم فذبَحه، فجعل الحسينعليه‌السلام يبكي ويقول: (اللهم اُحكم بيننا وبين قومٍ دعونا لينصرونا فقتلونا). فنوديَ مِن الهواء: دعْه يا حسين فإنّ له مرضعاً في الجنّة.

ثمّ قال: ورماه حُصَين بن تميم بسَهْم فوقع في شفتَيه، فجعل الدم يسيل مِن شفتيه وهو يبكي ويقول: (اللهم أشكو إليك ما يُفعل بي وبإخوَتي وولْدي وأهلي - الخ)(1) .

15 - استنصار زهير (رحمه الله) يوم عاشوراء:

وخرج إليهم زهير بن القين على فرَس ذنوب، وهو شاكٍ في السلاح فقال: (يا أهل الكوفة نذار لكم مِن عذاب الله نذار، إنّ حقّاً على المسلم نصيحة أخيه المسلم، ونحن حتّى الآن إخوة على دينٍ واحد ما لم يقع بيننا وبينكم السيف، وأنتم للنصيحة منّا أهل، فإذا وقع السيف انقطعت العصمة وكنّا أُمّة وأنتم أُمّة. إن الله ابتلانا وإيّاكم بذرّية نبيّه محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لينظر ما نحن وأنتم عاملون، إنّا ندعوكم إلى نصرهم وخذلان الطاغية يزيد وعبيد الله بن زياد، فإنّكم لا تدركون منهما إلاّ سوء عُمر سلطانهما، لَيسملان أعْينكم ويقطّعان أيديَكم وأرْجُلِكم، ويمثّلان

____________________

= (هذان سيّدا شباب أهل الجنة)، إن لم تصدّقوني فاسألوا جابراً وزيد بن أرقم وأبا سعيد الخدري، أليس جعفر الطيّار عمّي؟ فناداه شمر: الساعة ترد الهاوية. فقال الحسينعليه‌السلام : الله أكبر أخبرني جدّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: رأيت كأنّ كلباً وَلغ في دماء أهل بيتي وما أخالك إلاّ إيّاه. فقال شمر: أنا أعبُد الله على حرف إن كنتُ أدري ما تقول. فالتفت الحسين فإذا بطفل له - الخ (منه). تذكره الخواص: 143.

(1)تذكرة الخواص / ص143.

١٧٢

بكم، ويرفعانكم على جذوع النخل، ويقتلان أماثلكم وقرّاءكم أمثال حجر بن عدي وأصحابه وهاني بن عروة وأشباهه).

فسبّوه وأثنوا على عبيد الله بن زياد ودَعوا له وقالوا: لا نبرح حتّى نقتل صاحبك ومَن معه، أو نبعث به وبأصحابه إلى عبيد الله بن زياد سِلماً.

فقال زهير: عباد الله إنّ وُلد فاطمة أحقّ بالودّ والنصر مِن ابن سميّة، فإن لم تنصروهم فأُعيذكم بالله أن تقتلوهم، فخلّوا بين هذا الرجُل وبين يزيد، فلَعمري إنّه لَيرضى من طاعتكم بدون قتْل الحسينعليه‌السلام .

فرماه الشمر بسهم وقال: اسكُت أسكَت الله نامتك، أبرمتنا بكثرة كلامك.

فقال زهير: يابن البوّال على عقِبَيه ما إيّاك أُخاطب، إنّما أنت بهيمة، والله ما أظنّك تُحكِم من كتاب الله آيتين، فأبشر بالخزي يوم القيامة والعذاب الأليم.

فقال الشمر: إنّ الله قاتِلك وصاحبك عن ساعة.

فقال زهير: أفبالموت تخوّفني؟ فو الله للموت معه أحبّ إليَّ مِن الخُلد معكم، ثمّ أقبل على القوم رافعاً صوته وقال:

عِباد الله لا يغرّنكم عن دينكم هذا الجلَف الجافي وأشباهه، فو الله لا تنال شفاعة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله قوماً هرقوا دماء ذرّيته وأهل بيته، وقتلوا مَن نصرَهم وذبّ عن حريمهم.

فناداه رجُل مِن أصحابه أنّ أبا عبدالله يقول لك: أقبِل، فلَعمري لئن كان مؤمن آل فرعون نصح قومه وأبلغ في الدعاء، فلقد نصحت هؤلاء وأبلغت لو نفع النُصح والإبلاغ(1) .

____________________

(1)تاريخ الطبري 6 / 243.

١٧٣

ب - الدلالات

الدلالات الأربعة لخطاب الاستنصار الحسيني

لخطاب الاستنصار الحسيني أربع دلالات:

1 - الدلالة السياسية 2 - الدلالة الحركية 3 - الدلالة الولائية 4 - الدلالة الشمولية.

وفيما يلي توضيح وشرح لهذه الدلالات الأربعة التي يتضمّنها الخطاب الحسيني.

1 - المضمون السياسي لخطاب الاستنصار الحسيني

الاستنصار، والتعبئة، وتحشيد الرأي العام، والإعلام ضدّ الطاغية، مِن مقوّمات كلّ مواجهة سياسية ضد نظام حاكم، يحكم بالظلم.

فإنّ الصراع على الحكم بين الحاكم والمعارضة صراع غير متكافئ من الناحية الميدانية.

ذلك أنّ الحاكم يملك من القوّة والمال والإعلام والسلطان ما لا يتملّكه المعارضة.

ولا غِنى للمعارضة، أيّة معارضة، في معركة من هذا القبيل مِن أن تعمل كلّ جهدها، وتسعى لكسب الرأي العام إلى جانبها، وكسب القوّة والاستنصار،

١٧٤

وتحشيد الرأي العام والتعبئة.

ونحن على يقين أنّ الحسينعليه‌السلام لم يكن يفكّر، يوم أقدم على الخروج... في أن يهزم طاغية عصره في مواجهة عسكرية ميدانية، ولا نحتاج إلى محاسبات عسكرية وسياسية؛ لنعرف أنّ الحسينعليه‌السلام لم يكن بصدد إسقاط يزيد، وانتزاع السلطان والـمُلك والحُكم مِن يده، وهو أَولى به مِن غيره.

وإنّما كان الحسينعليه‌السلام يفكّر في أمرين أحدهما سياسي، والآخَر حرَكيّ.

أمّا الهدف السياسي مِن حركة الحسينعليه‌السلام : وهو إلغاء شرعية الخلافة الأُمَوية وفضْح يزيد، وكسْر هيبته وعزله سياسياً واجتماعياً.

وأمّا الهدف الحرَكي فهو توعية الناس، وكسْر حاجز الخوف، وتحريك الناس وتثويرهم؛ لإسقاط نظام الطاغية، واستنهاض الأمّة، وإعادة إرادتها المسلوبة ووَعيِها المسلوب إليها.

والهدف الأوّل هدف سياسي بالتأكيد، والحسينعليه‌السلام يدخل في مواجهة سياسية مع أعْتى نظام سياسي وأشرسه، والاستنصار جزء مِن هذه المعركة.

والاستنصار دعوة إلى تطويق النظام الأُمَوي ومحاصرته وعزله، وتحجيم دَوره وإلغاء شرعيّته... وهو جزء مِن رسالة الإمام الحسينعليه‌السلام في هذه المعركة الشاملة.

2 - المضمون الحركي لخطاب الاستنصار الحسيني

والدلالة الأخرى لخطاب الاستنصار الحسيني هي الدلالة الحركية...

ولتوضيح ذلك لا بدّ أن نرسم الإطار العام لخروج الحسينعليه‌السلام ، وعناصر هذا الإطار ثلاثة:

1 - رفض البيعة ليزيد: وقد أعلن الحسينعليه‌السلام رفضه لبيعة يزيد عندما أرسَل

١٧٥

الوليد والي بني أُميّة في المدينة، يطالبه بالبيعة بعد هلاك معاوية، وكان ذلك بحضور مروان بن الحكم، فامتنع الحسينعليه‌السلام مِن البيعة، وقال مثْلي لا يبايع سرّاً، فإذا دعوت الناس دعوتنا معهم.

فاقتنع الوليد، لكن مروان ابتدره قائلاً: إن فارقك الساعة، ولم يبايع لم تقدر منه على مثلها حتّى تكثر القتلى بينكم، ولكن احبس الرجل حتّى يبايع أو تضرب عُنقه.

فقال الحسينعليه‌السلام : يابن الزرقاء(1) أنت تقتلني أمْ هو، كذِبتَ وأثِمْت.

ثمّ أقبل على الوليد، وقال: أيّها الأمير إنّا أهل بيت النبوّة ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، بنا فتح الله وبنا يختم، ويزيد رجُل شارب الخمور، وقاتل النفس المحترمة، معلِن بالفِسق، ومثْلي لا يبايع مثْله، ولكن نصبح وتصبحون(2) .

وفي كربلاء خطَب الحسينعليه‌السلام وقال: (إنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد خيَّر بين السِلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة يأبى الله لنا ذلك ورسولُه وحجورٌ طابت وطهُرَت).

2 - إعلان الرفض: لم يتكتّم الحسينعليه‌السلام برفضْه البيعة، وعرَف الناس جميعاً أنّ الحسينعليه‌السلام ممتنع عن البيعة، ونصَحه بعض الناس بالبيعة وآخَرون أن يُخفي نفسه عن الأمصار.

ولكن الحسينعليه‌السلام أعلن أنّه يرفض البيعة ويريد الخروج إلى مكّة، وترَك وصيّته إلى بني هاشم وكافّة المسلمين عند أخيه محمّد بن الحنفية، وغادر المدينة

____________________

(1)الزرقاء جدّة مروان وكانت مِن البغايا المعروفات. الفخرية: 88.

(2)مقتل الحسين للسيد عبد الرزاق المقرّم، عن الطبري وابن الأثير، والإرشاد، وأعلام الورى، ومثير الأحزان لابن نما الحلّي.

١٧٦

إلى مكّة، سالكاً الطريق العام الذي يسلكه الناس، ويراه الناس فيه، فقيل له لو تنكّبت الطريق الأعظم، كما فعل ابن الزبير قال: لا والله لا أُفارقه حتّى يقضي الله ما هو قاضٍ(1) .

ودخل مكّة، وهو يقرأ:

( وَلَمّا تَوَجّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى‏ رَبّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السّبِيلِ ) (2) .

ونزل دار العباس بن عبد المطّلب(3) ، واختلف إليه أهل مكّة ومَن بها مِن المعتمرين وأهل الآفاق، وكان ابن الزبير يأتي إلى الحسينعليه‌السلام فيمَن يأتيه.

وكان بإمكان الحسينعليه‌السلام أن يأخذ بنصيحة مَن ينصحه، بإخفاء نفسه، فيخفي نفسه عن الأنظار، ويذهب إلى بعض الثغور، ويبتعد عن الأضواء، وبذلك يسلَم مِن أذى بني أُمية وكَيدهم، وكان لا يخفى هذا الوجه على الحسينعليه‌السلام ، كما صرّح بذلك لجُملةٍ مِن الذين نصحوه، ولكنّه أصرّ أن يرفض البيعة، وأصرّ أن يُعلِن رفْضه، ويبقى تحت الأضواء، ويصارح الناس برأيه في يزيد وبيعته، وبأنّه أحقّ بذلك مِن كلّ إنسان آخَر على وجه الأرض.

3 - الخروج والثورة: وأصرّ الحسينعليه‌السلام بعد ذلك أن يخرج مِن الحجاز إلى العراق؛ ليواجه فيه بني أُمية.

وإذا أنعمنا النظر في كلمات أولئك الذين نصحوا الحسينعليه‌السلام بالامتناع عن الخروج إلى العراق، نجد أنّ كلامهم يتضمّن ثلاث نقاط.

الأُولى: إنّ خروج الحسينعليه‌السلام إلى العراق بمعنى الثورة(4) والمواجهة

____________________

(1)إرشاد المفيد.

(2)القصص / 22.

(3)تاريخ ابن العساكر: 4: 328.

(4)انظر نصيحة محمد بن الحنفية للحسينعليه‌السلام في المدينة - الكامل في التاريخ لابن الأثير 4: 7، =

١٧٧

بعَينها لنظام بني أُمية.

والثانية: إنّ شيعة الحسينعليه‌السلام في العراق إذا وفَوا للحسينعليه‌السلام بعهودهم ومواثيقهم، فلن يستطيعوا أن يدفعوا عن الحسينعليه‌السلام كيد بني أُمية ومكْرهم وشرّهم، ولن يغلبوا سلطان بني أُمية على العراق.

والثالثة: وبناءً على ذلك فإنّ الحسينعليه‌السلام إذا خرج إلى العراق فهو مقتول لا محالة.

ولم تكن هذه الحقائق تخفى على الإمامعليه‌السلام ، ولم يكن يجهل الإمامعليه‌السلام أنّ خروجه إلى العراق بمعنى الخروج على سلطان بني أُمية علانية، ولم تكن تخفى على الحسينعليه‌السلام عاقبة هذا الخروج.

ولا يصحّ ما يرويه بعض الناس أنّ الحسينعليه‌السلام طلب منهم أن يُخلوا له الطريق إلى بعض الثغور، بعيداً عن الأضواء، وبعيداً عن التصدّي والمواجهة، فلا يعطيهم يده للبيعة، ولا يتصدّى للخروج والمواجهة.

روى الطبري وابن الأثير عن عقبة بن سمعان أنّه قال: صحبت حسيناً، فخرجت معه مِن المدينة إلى مكّة ومِن مكّة إلى العراق، ولم أُفارقه حتّى قُتِلعليه‌السلام ، وليس مِن مخاطبته الناس كلمة بالمدينة، ولا بمكّة، ولا في الطريق ولا بالعراق، ولا في معسكرٍ إلى يوم قتله إلاّ وقد سمعتُها. لا والله ما أعطاهم ما يتذاكر الناس وما يزعمون مِن أن يضع يده في يد يزيد بن معاوية، ولا أن

____________________

ونصيحته له في مكّة - البحار: 44، ونصيحة عبدالله بن جعفر الطيّار له بالامتناع عن الخروج إلى العراق - الطبري 6: 219، ونصيحة عبدالله بن العباس له - الكامل في التاريخ لابن الأثير 4: 16، ونحن نشكّ في صدْق كلّ هؤلاء في نصيحتهم للحسينعليه‌السلام ، ولا نشكّ أنّ الحسينعليه‌السلام لم يكن يخفى عليه هذا الوجه مِن الرأي.

١٧٨

يُسيّروه إلى ثغْر مِن ثغور المسلمين، ولكنّه قال: (دعوني في هذه الأرض حتّى ننظر ما يصير أمر الناس)(1) .

وكان مِن رأي محمّد بن الحنفية أن يُخفي الحسينعليه‌السلام نفسه عن الأنظار، ويبتعد عن أجواء المواجهة والتصدّي، ويلتحق بالجبال وشُعَب الجبال، ويخرج مِن بلد إلى آخَر، حتّى ينظر ما يصير إليه أمر الناس(2) .

فأبى الحسينعليه‌السلام وأصرّ على الخروج.

ونصَحه ابن عباس أن يسير إلى اليمن، فإنّ بها حصوناً وشِعاباً وهي أرض عريضة طويلة، ولأبيهعليه‌السلام بها شيعة، وهو عن الناس في عزلة.

فقال له الحسينعليه‌السلام : (يابن العمّ إنّي والله أعلم إنّك ناصح مشفق، وقد أزمعت على المسير)(3) .

إذن فإنّ الحسينعليه‌السلام كان يقصد الخروج ويريده، وهو على عِلم بكلّ لوازمه وتبِعاته وعواقبه.

هذا هو الإطار العام لحركة الإمام الحسينعليه‌السلام وموقفه مِن المدينة إلى كربلاء، وفي هذا الإطار نستطيع أن نفْهم الاستنصار الحسيني.

إنّ الحسين يعلم أنّه إن خرَج إلى العراق يُقتل لا محالة، وكلّ القرائن والدلائل تشير إلى هذه الحقيقة.

إذن فإنّ الحسينعليه‌السلام يطلب النصر بالقتْل والدم. ولم يكن يفطَن يومئذٍ ابنُ عباس وعبدالله بن جعفر الطيّار ومحمّد بن الحنفية لهذه الوسيلة التي اتّخذها

____________________

(1)تاريخ الطبري 7: 314، والكامل في التاريخ لابن الأثير 4: 15.

(2)تاريخ الطبري 6: 191، وأنساب الأشراف 4: 15.

(3)الكامل في التاريخ لابن الأثير 4: 16.

١٧٩

الحسينعليه‌السلام يومئذٍ طريقاً إلى النصر.

لقد كان الحسينعليه‌السلام شاهداً لنجاح المؤامرة الأُموية، التي قادها آل أبي سفيان للانقلاب على الأعقاب... وقد فقدت الأمّة في عرضها العريض حصانتها تجاه هذه المؤامرة، وعاد الضمير الإسلامي لا يملك الدرجة الكافية من المناعة والمقاومة.

ولا يختلف في ذلك أهل العراق عن أهل الشام، وأهل مصر عن أهل الحجاز، فأراد الحسينعليه‌السلام أن يُحدث هزّة بشهادته وشهادة الثُلّة الطيّبة مِن أهل بيته وأصحابه في الضمير الإسلامي، ويُعيد إليهم ما سلَبه منهم آل أبي سفيان مِن ضمائرهم وعزائمهم ورُشدهم.

وقد كان الذي يريده الحسينعليه‌السلام بمصرعه ومصرع أهل بيته وأصحابه والمأساة التي يتناقلها أهل السِيَر، فأحدث في الضمير الإسلامي هزّةً عنيفة، وصحوة ضميرٍ كانت مبدأ كثير مِن البركات والثورات والوعي واليقظة السياسية في تاريخ الإسلام.

المؤامرة الأُموية على دم الحسينعليه‌السلام

وقد خطّط آل أبي سفيان لإهدار دم الحسينعليه‌السلام في مكّة في موسم الحج، وبلغ الحسينعليه‌السلام أنّ يزيد أنفَذ عمرو بن سعيد بن العاص في عسكر، وأمّره على الحج ووَلاّه أمْر الموسم، وأوصاه بالفتْك بالحسين أينما وجدَهُ(1) ، فعجّل الحسين بالخروج مِن مكّة قبل الوقوف بعرَفات يوم الترْوية، ولم يُمكّن بني أُمية مِن اغتياله فيذهب دمه هدراً؛ وبذلك أحبط المؤامرة التي خطّط لها بنو أُمية.

____________________

(1)مقتل الحسين للسيد عبد الرزاق المقرّم / ص172، والمنتخب / ص172.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

قبر الست أمّ كلثوم)(٥) .

- وذكر هذا المشهد الباحث الدمشقي عثمان بن أحمد السويدي الحوراني المتوفّى (سنة:٩٧ ٠ ه- - أو١٠٠٣ ه-) في كتابه (الإشارات إلى أماكن الزيارات) قال:

(ومنها قرية يُقال لها (راوية)، بها السيّدة زينب أُمّ كلثوم ابنة علي بن أبي طالب، تُوفّيت بغوطة دمشق عقيب محنة أخيها الحسين، ودُفنتْ في هذه القرية، ثمّ سُمِّيَتْ القرية باسمها، وهي الآن معروفة ب- (قبر الست) )(٦) .

- وقال العلاّمة السيّد محسن الأمين العاملي:

يوجد في قرية تسمى (راوية) على نحو فرسخ من دمشق إلى جهة الشرق قبر ومشهد يُسمّى: (قبر الست)، ووُجد على هذا القبر صخرة رأيتُها وقرأتُها كُتب عليها: هذا قبر السيّدة زينب المكنّاة بأُمّ كلثوم بنت سيّدنا عليرضي‌الله‌عنه ، وليس فيها تاريخ وصورة خطّها تدل على أنّها كُتبتْ بعد الستمائة من الهجرة)(٧) .

وإنْ كان السيّد الأمين يرجّح أنّ القبر لزينب الصغرى أخت السيّدة زينب الكبرى.

وورد أنّ السيّدة نفيسة صاحبة المقام المعروف في القاهرة بنت حسن الأنور بن زيد الأبلج بن الحسن بن علي بن أبي طالب قد زارتْ هذا المشهد في قرية (راوية) (سنة: ١٩٣ ه- )(٨) .

وقرب (سنة: ٥٠٠ ه- ) شيّد رجل قرقوبي من أهل حلب بمشهدها جامعاً كبيراً، من أشهر جوامع دمشق(٩) .

____________________

(٥) المصدر السابق: ص ١١٠، عن رحلة ابن بطّوطة: ج ١، ص ٦١.

(٦) المصدر السابق: نقلاً عن الإشارات: ص ١٨، طبع دمشق، ١٣٠٢ ه-.

(٧) أعيان الشيعة: محسن الأمين: ج ٧، ص ١٣٦.

(٨) مرقد العقيلة زينب: السابقي: ص ١٤١ / ث.

(٩) المصدر السابق.

٢٨١

وزار هذا المشهد الرحّالة أبو بكر الهروي المتوفّى (٦١١ ه- )، وذكره في كتابه المعروف ب- (الإشارات إلى معرفة الزيارات ) (١٠) .

وفي (سنة: ٧٦٨ ه- ) أوقف على هذا المشهد - باعتباره مرقداً للسيّدة زينب الكبرى - نقيبُ الأشراف السيّد حسين الموسوي، من كبار أعلام دمشق في زمانه، جميعَ ما كان يملكه من البساتين والأراضي، وكتب صَكّاً طويلاً عليه شهادات سبعة من قضاة دمشق الكبار في زمانهم، ونسخة هذا الصك محفوظة عند سَدَنَة المقام، ومذكور نصّه في بعض المؤلّفات(١١) .

- وقد جدّد السيّد حسين الموسوي عمارة هذا المشهد (سنة: ٧٦٨ ه- ).

- وفي (سنة: ١٣٠٢ ه- ) جدّد القبّة الكريمة السلطان عبد العزيز خان العثماني، بإعانة التجّار والأثرياء.

- وفي (سنة: ١٣٥٤ ه- ) أنشأ سادة آل نظام غُرَفَاً كثيرة حول المقام؛ لإراحة الزائرين، وجدّدوا المدخل الشريف بنفقتهم.

- وفي (سنة: ١٣٧٠ ه- ) شكّل الإمام السيّد محسن الأمين العاملي لجنة من خيار التجّار وأهل الثروة؛ لتعمير الحرم والصحن والأروقة برئاستهرحمه‌الله (١٢) . وكان للحاج محمّد مهدي البهبهانيرحمه‌الله دور أساسي في هذه العمارة والتجديد.

- وفي (سنة: ١٣٧٠ ه- ) أهدى التاجر الباكستاني محمّد علي حبيب مؤسّس المصرف المعروف باسمه (حبيب بنك )، أهدى قفصاً ثميناً وزنه اثنا عشر طنّاً لينصب على قبرها؛ لأنّ الله قد شفا ولده الوحيد من الشلل بعد أنْ عجز عنه الأطباء ببركة السيّدة زينب، وقد نصب هذا القفص الفضّي المذهّب المُحَلّى بالجواهر الكريمة النادرة في احتفال رسمي وشعبي.

____________________

(١٠) المصدر السابق.

(١١) المصدر السابق: ص ١٤٥.

(١٢) المصدر السابق: ص ٢٢٧.

٢٨٢

وأرّخه الخطيب الشيخ علي البازي النجفي بقوله:

هذا ضريح زينب قف عنده

واستغفر الله لكلّ مذنب

ترى الملا طُرّاً وأملاك السما

أرّخ (وقوفاً في ضريح زينب)

(١٣٧٠ ه-)(١٣) .

- وفي (سنة: ١٣٧٣ ه- ) أهدى جماعة من التجّار الإيرانيّين صندوقاً ثميناً من أورع أمثلة الصناعة الإيرانيّة المعروفة، ومِن صنع الفنّان الإيراني الحاج محمّد سميع، والذي بقي في صنع هذا الصندوق ثلاثين شهراً، وقدّر ثمنه بمائتي ألف ليرة سوريّة آنذاك، وعليه غطاء من البلّور، أحضرتْه بعثة إيرانيّة برئاسة ضابط إيراني كبير، وأُقيم يوم وصوله ونصبه على قبر السيدة زينب احتفال مهيب، ترأّسه السيّد صبري العسلي رئيس وزارة سوريا.

وأرّخه الشاعر النجفي السيّد محمّد الحلّي بقوله:

صندوق زينب قد بدتْ

للفن فيه علائمُ

صنعتْه أيدي المخلصين

فحار فيه العالَمُ

حيث احتوى جثمانَها

أرّخت راق الخاتم

(١٣٧٣ ه-)(١٤) .

- وأهدى بعض تجّار إيران (سنة: ١٣٨٠ ه- ) لمشهدها باباً ذهبيّاً رائعاً(١٥) .

وللمقام مئذنتان شامختان بارتفاع (٥٤ متراً).

- وفي (عام: ١٣٨٠ ه- ) أهدي للحرم باب ذهبي للمدخل الغربي، وبابان مذهّبان بالميناء للمدخل الشمالي والقبلي.

- كما تمّ في هذا العام (١٤١٣ ه- ) إكساء قبّة المقام من الخارج بالذهب.

____________________

(١٣) أدب الطف: جواد شبّر: ج ١، ص ٢٥١.

(١٤) مرقد العقيلة زينب: السابقي: ص ٢٣١.

(١٥) المصدر السابق.

٢٨٣

٢٨٤

* المشهد الزينبي في القاهرة:

بناءً على الرواية التي تقول بأنّ السيّدة زينب حينما غادرتْ المدينة المنوّرة بضغطٍ من والي المدينة الأموي (عمرو بن سعيد الأشدق )، فإنّها توجّهتْ إلى مصر واستقبلها الوالي (مسلمة بن مخلّد )، وأنزلها داره بالحمراء في القاهرة، وبعد إحدى عشر شهراً وخمسة عشر يوماً توفّيتْ في (١٥ / رجب / سنة: ٦٢ ه- )، وصلّى عليها الوالي مسلمة بن مخلّد، ودفنها بمخدعها من الدار حسب وصيّتها (١٦) .

وعلى هذا يقع ضريح السيّدة زينب في الجهة البحريّة من دار مسلمة بن مخلّد الأنصاري، وبمرور السنين والعهود على هذه الدار اندثر جزء كبير منها، إلاّ ما كان من الضريح الطاهر فإنّه كان معظّماً مقصوداً بالزيارة، وموضع تبجيل واحترام الخاصّة والعامّة من الناس، الذين كانوا يتعاهدونه بالتعمير والإصلاح، ويتناوب على خدمة هذا المشهد أناس انقطعوا لهذا العمل، ويُصرف عليهم من وجوه الخير ومِن ريع الأعيان والممتلكات التي أُوقفتْ على هذا الضريح الطاهر.

- وفي زمن دولة أحمد بن طولون (٢٥٤ - ٢٩٣ ه- / ٨٦٨ - ٩٠٥ م ) أُجري على هذا المشهد الطاهر ما أُجري على المشاهد الأخرى من عمارة وترميم.

____________________

(١٦) أخبار الزينبيّات: العبيدلي: مجلّة (الموسم)، عدد: ٤.

٢٨٥

فلمّا جاءتْ الدولة الفاطميّة (٣٥٨ - ٥٦٧ ه- / ٩٦٩ - ١١٧١ م ) كان أوّل مَن بنى عمارة جليلة عظيمة على هذا المشهد من خلفاء الفاطميّين (أبو تميم معد نزار بن المعز )، وذلك في (سنة: ٣٦٩ ه- ).

- وقد ذكر الرحّالة الأديب، أبو عبد الله الكوهيني الفاسي الأندلسي، أنّه دخل القاهرة في (١٤ / محرم / ٣٦٩ ه- )، وأنه دخل مشهد السيدة زينب بنت علي، فوجده داخل دار كبيرة وهو في طرفها البحري، يشرف على الخليج، قال: وعاينّا الضريح، وشممنا منه رائحة طيبة، ورأينا بأعلاه قبة من الجص، وفي صدر الحجرة ثلاثة محاريب، وعلى كلّ ذلك نقوش في غاية الإتقان، وعلى باب الحجرة مكتوب:

(هذا ما أمر به عبد الله ووليه أبو تميم أمير المؤمنين... أمر بعمارة هذا المشهد على مقام السيّدة الطاهرة بنت البتول، زينب بنت الإمام علي بن أبي طالب (صلوات الله تعالى عليها وعلى آبائها الطاهرين وأبنائها المكرمين) ).

- وفي أيّام الحاكم بأمر الله، أوقف على المشهد الزينبي عدّة ضياع وأسواق ومحال تجارية؛ ليصرف ريعها على خدمات المشهد.

- وفي القرن السادس الهجري أيّام الملك سيف الدين أبي بكر بن أيوب أجرى الشريف فخر الدين ثعلب الجعفري أمير القاهرة ونقيب الأشراف الزينبيّين بها عمارة وإصلاحاً على هذا المشهد.

- واهتمّ الأمير علي باشا الوزير والي مصر مِن قِبل السلطان سليمان خان بن السلطان سليم الفاتح بتعمير المشهد وتشييده، وجعل له مسجداً يتّصل به وذلك في (سنة: ٩٥٦ ه- ).

وفي (سنة: ١١٧٤ ه- ) أعاد الأمير عبد الرحمن كتخدا القازدوغلي بناءَ المسجد وتشييد أركانه، وأنشأ به ساقية وحوضاً للطهارة والوضوء، وبنى مقام السيّد محمّد العتريس المتوفّى أواخر القرن السابع، والذي كان ملازماً لخدمة المشهد الزينبي.

- وفي (سنة: ١٢١٠ ه- ) جُدِّدتْ المقصورة الشريفة التي تحيط بالتابوت الطاهر

٢٨٦

المقام فوق القبر، وصُنعتْ من النحاس الأصفر، ووُضع فوق بابها لوحة نحاسيّة كتب عليها: (يا سيّدة زينب، يا بنت فاطمة الزهراء مددكِ ١٢١٠ ه- ). وما زالت اللوحة على الضريح الشريف حتّى اليوم.

- وحدث في (سنة: ١٢١٢ ه- ) أنْ تصدّعت جدران المسجد، فانتدبتْ حكومة المماليك، عثمان بك المرادي لتجديده وإعادة بنائه، إلاّ أنّ العمل توقّف بسبب الحملة الفرنسيّة على مصر، وبعدها استؤنف العمل، إلاّ أنّه لم يتم، فأكمله بعد ذلك يوسف باشا الوزير (سنة: ١٢١٦ ه- )، وأرّخ ذلك بأبيات من الشعر خُطّت على لوح من الرخام نصّها:

نور بنت النبي زينب يعلو

مسجداً فيه قبرها والمزارُ

قد بناه الوزير صدر المعالي

يوسف وهو للعلى مختار

زاد إجلاله كما قلت وأُرّخ

مسجد مشرق به أنوار

وبعد ذلك أصبح هذا المشهد محلّ رعاية الحكام في مصر من أسرة محمّد علي:

- ففي (سنة: ١٢٧٠ ه- ) شرع الخديوي عبّاس باشا الأوّل في إصلاحه، ووضع حجر الأساس ولكنّ الموت عاجله.

- فقام الخديوي محمّد سعيد باشا في (سنة: ١٢٧٦ ه- ) بإتمام ما بدأه سلفه، وكتب على باب المقام الزينبي هذا البيت من الشعر:

يا زائريها قفوا بالباب وابتهلوا

بنت الرسول لهذا القطر مصباح

- وفي (سنة: ١٢٩١ ه- ) أمر الخديوي إسماعيل بتحديد الباب المقابل لباب القبّة وجعله من الرخام.. وفي هذه المناسبة قال السيّد علي أبو النصر مؤرّخاً تجديد هذا الباب:

٢٨٧

مقام به بنت الإمام كأنّما

هو الروضة الفيحاء باليمن مونقه

على بابها لاح القبول لزائر

ونور الهدى أهدى سناه ورونقه

بأمر الخديوي جدّدتْه يدُ العلا

فكانت بأسباب الرضا متوثّقه

وفي حلية التجديد قلتُ مؤرّخاً

شموس الحلى في باب زينب مشرقه

(١٢٩٤ ه-)

- وفي نفس (العام: ١٢٩٤ ه- ) جُدّد الباب المقابل لباب الضريح على الهيئة الموجودة الآن.

* أمّا المسجد القائم حالياً فقد تمّ إنشاؤه على مراحل ثلاث:

- فبني الجزء الأوّل منه وهو المطل على الميدان المعروف باسم ميدان السيّدة زينب في عهد الخديوي توفيق (سنة: ١٣٠٢ه- )، وكتب على أبواب القبّة الشريفة التي تضمّ الضريح أبياتاً من الشعر:

مقام به بنت الإمام كأنّما

هو الروضة الفيحاء باليمن مونقه

على بابها لاح القبول لزائر

ونور الهدى أهدى سناه ورونقه

بأمر الخديوي جدّدتْه يدُ لعلا

فكانت بأسباب الرضا متوثّقه

وفي حلية التجديد قلتُ مؤرّخاً

شموس الحلى في باب زينب مشرقه

- وظلّ المسجد على تلك الحال، حتّى تمّت توسعته من الجهة القبليّة بمساحة

٢٨٨

( ١٥٠٠ متر مربّع ) تقريباً في عهد الملك فاروق الأوّل، وافتتح للصلاة في (يوم الجمعة: ١٩ / ذي الحجة / ١٣٦٠ ه- = ١٩٤٢ م ).

- ولمّا رأتْ حكومة الرئيس جمال عبد الناصر زيادة إقبال الناس على هذا المسجد حتّى ضاق عن أنْ يتّسع للآلاف منهم، خاصّة في أيّام الجمع والأعياد، أمرتْ بإجراء توسعة عظيمة بلغت حوالي (٢٥٠٠ متر مربع ) من الجهة القبليّة.. وبذلك اتّصل المسجد الزينبي بمسجد الزعفراني المجاور له، كما أُقيمتْ به دورة مياه كبيرة للطهارة والوضوء، ومكتبة ضخمة تضمّ عشرات الآلاف من المجلّدات، وأُلحق بها قاعة فسيحة للمطالعة، واكتملتْ هذه التوسعة (سنة: ١٣٨٩ ه- - ١٩٦٩ م )، فأصبحتْ مساحة المشهد الزينبي وملحقاته تزيد على (٧٠٠٠ آلاف متراً مربّعاً ).

- أما المئذنة التي تعتبر فريدة في نوعها لِمَا تتحلّى به من نقوش وزخارف عربيّة جميلة، فإنّ ارتفاعها يقرب من (٤٥ متراً )(١٧) .

____________________

(١٧) علي أحمد الشلبي رئيس مجلس إدارة المسجد الزينبي بالقاهرة، في مقاله له في مجلّة (الموسم) العدد: ٤ (من صفحة ٨٦٥ إلى صفحة ٨٨٠). نقلنا عنه بتصرّف واختصار.

٢٨٩

٢٩٠

* في سنجار شمال العراق:

سنجار مدينة معروفة في شمال العراق، تقع جنوب نصيبين عن يمين الطريق إلى الموصل، اشتهرتْ بكونها مدينة الطرق والقوافل منذ القديم؛ لأنّها سيطرتْ على الطريق بين العراق وسورية، وتقع فيها جبال سنجار التي يبلغ ارتفاعها نحو (٤٨٠٠ قدم ).

واشتهر في سنجار الكثير من المراقد والأضرحة المنسوبة لآل البيت، والتي عمّرها الفاطميّون والبويهيّون والحمدانيّون والعقيليّون.

وتخضع هذه المقامات الآن لنفوذ اليزيديين، وهؤلاء لهم ديانة معروفة خاصّة بهم، لكنّهم يعظّمون ويحترمون هذه المقامات وأصحابها، ومن تلك المشاهد المرقد المنسوب للسيّدة زينب الكبرى بنت علي، على أساس أنّها توفّيت في هذه المنطقة عند مرور السبايا بعد واقعة الطفّ.

ويقع الضريح المنسوب للسيّدة زينب على ربوة عالية في مدخل المدينة، وهو فناء واسع، وفيه غرفة مستطيلة الشكل في وسطها القبر المشيّد من الحجر والجص، وفي الغرفة محراب صغير، وتغطّيها قبّة مظهرها الخارجي مضلّع مخروطي الشكل.

وتدلّ الكلمات المنقوشة على مدخل الرواق إلى يسار غرفة القبر على أنّ هذا

٢٩١

البناء من قبل الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ أيّام ملكه لبلاد سنجر( ٦٣٧ - ٦٥٧ ه- / ١٢٣٩ - ١٢٥٩ م )، وتاريخ البناء الأصلي هو (سنة: ٦٤٤ ه- ).

- وعند زحف التتار واستيلائهم على سنجار (سنة: ٦٦٠ ه- ) أصابه الخراب، لكنّه جُدِّد فيما بعد ومِن قِبل نائب التتر وهو من العجم، يُقال قوام الدين محمّد اليزدي.

- وجُدِّد مرّة أخرى كما يتّضح من نصٍّ مكتوب على لوحة رخاميّة موجودة على جدار غرفة الضريح من خارج البناء تقول: (جَدَّد مزار الست زينب بنت علي العبد الفقير سيدي باشا بن خداد.. ثمان عشر شهر ربيع الأخر سنة: ١١٠٥ ه- ).

وتعلو المشهد قبّتان:

إحداهما: نصف كرويّة تغطّي غرفة من غرف الضريح المتعدّدة، والقبّة محاريّة الشكل.

أمّا القبّة الثانية : فهي قبّة غرفة الضريح، وتبدو من الخارج مضلّعة مخروطيّة الشكل.

وفي المشهد عدّة محاريب تعلوها كتابات لآيات قرآنية(١٨) .

____________________

(١٨) بحث الدكتور حسن كامل شميساني في مجلّة (الموسم) العدد: ٤، ص ٩٢٤، نقلنا عنه باختصار وتصرّف.

٢٩٢

شيء من التحقيق

لقد بذل العديد من العلماء والباحثين جهودهم، وخاضوا غمار البحث والتحقيق لمحاكمة الروايات والنقول التاريخيّة حول قبر السيّدة زينب الكبرى.

وإذا كان المقام المنسوب لها في سنجار شمال العراق لا تسنده رواية تاريخيّة فيما يتوفّر من مصادر إلاّ ما يتداول ويتوارث على أَلْسِنَة أهالي تلك المنطقة، فإنّ الآراء التي ناقشها العلماء والباحثون تنحصر في ثلاثة احتمالات:

١ - المدينة المنوّرة.

٢ - مصر.

٣ - دمشق.

* أوّلاً: المدينة المنوّرة:

-دافع العلاّمة السيّد محسن الأمين العاملي عن هذا الرأي ؛ باعتبار أنّ المدينة هي موطن السيّدة زينب، وأنّ من الثابت عودتها إلى المدينة بعد واقعة كربلاء، فاستصحاباً نحكم بأنّ وفاتها وقبرها في المدينة المنوّرة ما لم يثبت العكس، وقال نصّه: (يجب أنْ يكون قبرها في المدينة المنوّرة فإنّه لم يثبت أنّها بعد رجوعها للمدينة

٢٩٣

خرجتْ منها، وإنْ كان تاريخ وفاتها ومحلّ قبرها بالمدينة مجهولَين، ويجب أنْ يكون قبرها بالبقيع، وكم من أهل البيت أمثالها مَن جُهِلَ محلّ قبره وتاريخ وفاته، خصوصاً النساء)(١٩) .

-وناقش هذا القول البحّاثة الشيخ محمّد حسنين السابقي بما يلي : (نحن لا ننكر أنْ يكون مدفنها الطاهر في البقيع في المدينة المنوّرة، إذ هي وطنها الكريم، وبها قبور إخوتها وشيوخ قومها وجدّها وأمّها، ولكنْ بشرط أنْ يقوم عليه دليل قاطع أو نصٍ تاريخي.

لأنّ قبور البقيع ذكرها المؤرّخون قديماً وحديثاً يذكرها ابن النجّار في (تاريخه)، والسمهودي في تاريخه الحافل (وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى )، في باب مخصوص لذكر مزارات أهل البيت والصحابة، ولا نجد فيها قبر العقيلة زينب لا في القبور المعمورة ولا المطموسة.

ولكان لمرقدها ذكر ولو في القرون الأولى، كما بقي لِمَنْ دونها في الرتبة من بني هاشم، بل ولِمَنْ يَمُتّ إليهم بالولاء أيضاً، على أنّ الذين ذهبوا إلى هذا القول إنّما مستندهم الاستصحاب الأصولي، وهو أنّه ثبت أنّ العقيلة زينب دخلتْ المدينة بعد محنة أخيها ورجوعها من الشام وكانت بالمدينة في قيد الحياة، ثمّ شككنا هل ماتت في الشام أم لا؟ فالاستصحاب يقول: الأصل عدم موتها بالشام بل بالمدينة حتّى يحصل لنا شيء يزيل هذا الشك ويثبت لنا باليقين أنّها ماتت بالشام.

وهذا الدليل لا غبارَ عليه في نفسه، ولكنْ لا يُستدَل بمثله في القضايا التاريخيّة، ولو قلنا به فثبت ما أزال هذا الشكّ بما رواه (ابن طولون الدمشقي ) من ذهابها إلى الشام وموتها بها، وعليه أكثر الفقهاء المجتهدين الأصوليّين(٢٠) .

____________________

(١٩) أعيان الشيعة: محسن الأمين: ج ٧، ص ١٤٠.

(٢٠) مرقد العقيلة زينب: السابقي: ص ١٠٢.

٢٩٤

* ثانياً: بين القاهرة ودمشق:

وإذا لم يكن هناك أثر نقلي يتحدّث عن قبر للسيّدة زينب كبرى في المدينة المنوّرة، ولا يوجد مقام ظاهر يُنسب لها هناك، فإنّ الأمر ليس كذلك فيما يرتبط بمصر والشام، حيث توجد روايات ونصوص تاريخيّة يَستدلّ بها أنصار كلّ من الرأيَين، كما يتعالى في سماء القاهرة ودمشق مقامان شامخان ينسبان للسيّدة زينب، وتؤمّهما جماهير المؤمنين ويقصدهما الزائرون.

لكنّ المطالعة الدقيقة والبحث الموضوعي في أدلّة الطرفين يرجّح كفّة الاطمئنان إلى أنّ مشهد الراوية في دمشق هو الأقرب إلى الصحّة والواقع؛ وذلك لتظافر الأدلّة في كتب المؤرّخين والرحّالة والسّائحين منذ القرون السابقة وإلى الآن، ولضعف مستند القائلين بسفر السيّدة زينب الكبرى إلى مصر وموتها فيها، وللاحتمال الكبير في أنْ يكون المقام في مصر لزينب أخرى من أهل البيت.

وقد أفرد بعض العلماء كتباً ورسائل لتحقيق هذا الموضوع:

- ومن أبرزهم العلاّمة المرحوم الشيخ فرج العمران القطيفي (١٣٢١ ه- ) والذي ألّف رسالة تحت عنوان (المرقد الزينبي ) (سنة: ١٣٧٧ ه- / وطبعها في النجف الأشراف / العراف )، وكانت نتيجة البحث التي انتهى إليها في رسالته هو ترجيح المقام الزينبي في دمشق، وأنّه للسيّدة زينب الكبرى.

- والبحث الآخر والأعمق هو للبحّاثة الباكستاني الشيخ محمّد حسنين السابقي، ويقع في أكثر من (٢٤٠ صفحة )، وقد طُبع في بيروت (سنة: ١٣٩٩ ه- ١٩٧٩ م )، ونقتبس منه الفقرات التالية بشيء من التصرّف والاختصار:

إنّ رحلة السيّدة العقلية إلى مصر وإقامتها هناك وتلبيتها لداعي حماها وحديث مدفنها بها قضيّة من أهمّ القضايا التي لا يفوّت ذكرها كلّ مؤرخ يقظان، ولا أقلّ من أنْ يذكره، والمؤرّخين الذين نشأوا في مصر خان ولكنّهم بأجمعهم لم

٢٩٥

يشيروا إليه أدنى إشارة.

وتتجلّى هذه الحقيقة بعدما نرى اهتمام المصريّين بإحاطة الأخبار وضبط الحوادث المتعلّقة ببلادهم.

- فأوّل مدوّن لتاريخ مصر في الإسلام هو: (عبد الرحمن بن عبد الحكم المصري المتوفى: ٢٥٧ ه- )، له في تاريخ مصر كتاب حافل سمّاه: (منهج السالك في أخبار مصر والقرى والممالك )، ذكر فيه تراجم كثير من الصحابة ممّن دخل مصر.

- وتبعه (أبو عمرو محمّد بن يوسف الكندي المتوفّى: ٣٥٤ ه- ) وله عدّة تأليفات في تاريخ مصر.

- ثمّ برع في تدوين أخبار مصر والإحاطة بحوادثها (أبو محمّد حسن بن إبراهيم بن ذولاق الليثي المصري المتوفّى: ٣٨٧ ه- ).

- ثمّ تلاه في هذا الموضوع (عزّ الملك محمّد بن عبد الله بن أحمد الحرّاني المسبحي المتوفّى سنة: ٤٢٠ ه- ).

- ثمّ المؤرّخ المتتبّع القاضي (أبو عبد الله محمد بن سلامة القضاعي الشافعي المتوفى: ٤٥٣ ه- )، ولم يقصر همّه على ضبط الحوادث التاريخيّة فقط، بل ألّف في المزارات المقصودة للزيارة والتبرّك التي تُشدّ إليها الرحال، وله في هذا الموضوع كتاب (أُنس الزائرين ) ترجم فيه للسيّدة نفيسة وعيّن مدفنها، وليس فيه لقبر زينب الكبرى عين ولا أثر.

- ثمّ اعطف إلى (المقريزي، والسيوطي، والقلقشندي ) وغيرهم، لم نجد أحداً من هؤلاء أنّه ذكر دخول السيّدة زينب الكبرى في مصر ومدفنها بها.

على أنّ هناك جماعة من مؤرّخي مصر ممّن أفرد تأليفه في تحقيق المزارات والقبور والمساجد ك-:

ابن يونس / والهتناني / والقرشي صاحب (المزارات المصريّة ) / وابن سعد النسّابة صاحب (مزارات الأشراف ) / وابن عطايا / والحموي الذي ذكر جملة من مزارات مصر / وموفّق الدين صاحب (مرشد الزوّار ).

ترى هؤلاء الإعلام يترجمون أصحاب القبور ويميّزون بين المزارات الصحيحة والمزوّرة من العلويّين وغيرهم في مصر.

٢٩٦

ولم يذكر أحدُ من هؤلاء أنّ العقيلة زينب الكبرى بنت أمير المؤمنين مدفونة في مصر(٢١) .

* إنّ كبار المؤرّخين المطّلعين على تاريخ مصر بدقّة وتحقيق لم يصح لديهم دخول أيّ ولد لأمير المؤمنين لصلبه في مصر:

-قال الحافظ (أبو طاهر أحمد بن محمد السلفي المتوفّى: ٥٧٦ ه-) : - لم يمت له - أي لعلي - ولد لصلبه في مصر.

-قال الحافظ المؤرّخ (أبو محمّد حسن بن إبراهيم بن زولاق الليثي المصري المتوفّى: ٣٨٧ ه-) : أوّل مَن دخل مصر مِن وُلد علي سكينة بنت علي بن الحسين. وبه قال السخاوي.

-وفي لفظ آخر للسخاوي : إنّ المنقول عن السلف أنّه لم يمت أحد من أولاد علي لصلبه في مصر.

فكيف من المعقول أنْ تدخل العقيلة زينب مصر وتقيم هناك زهاء السنة، ثمّ تُقْبَر على مرأى من المحاشد الجمّة ومسمع، ولا يَعرف أمرها أحدٌ من المؤرّخين الذين عهْدهم قريب بتلك الحادثة المهمّة.

-والإمام الشافعي : كان يتجاهر بالولاء لأهل البيت، وقد ورد في سيرته أنّه كان يزور السيّدة نفيسة، لكنْ لم يرد أنّه زار السيّدة زينب هناك(٢٢) .

-كما دخل مصر جملة من الرحّالين كابن جبير وابن بطّوطة وابن شاهين : وذكروا ما شاهدوا من القبور المعروفة المقصودة للزيارة في عهدهم، ولكنْ لا تجد أحداً منهم يذكر قبر السيّدة زينب الكبرى في مصر.. اللّهمّ إلاّ الرحّالة الكوهيني الفاسي

____________________

(٢١) المصدر السابق: ص ٢٩ - ٣١.

(٢٢) المصدر السابق: ص ٣٢ - ٣٣.

٢٩٧

الأندلسي، الذي دخل القاهرة في(١٤ / محرم / ٣٦٩ ه- )(٢٣) .

إنّ الاشتباه بوجود قبر العقيلة زينب نشأ لتعدّد المسمّيات بزينب من العلويّات وغيرهم المدفونات بمصر، والذهن أسرع تبادراً عند سماع الاسم إلى أشهر الأفراد وأكملها.

ومن المعلوم أنّ عادة العامّة والخاصّة جرتْ أنّهم ينسبون العلويّين إلى رسول الله وأمير المؤمنين بلا واسطة(٢٤) .

والظاهر أنّ المشهد الزينبي المعروف في القاهرة هو للسيّدة زينب بنت يحيى المتوّج بن الحسن الأنور بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب(٢٥) .

والمصدر الأساس لدعوى هجرة السيّدة زينب الكبرى إلى مصر وموتها ودفنها فيها رسالة (أخبار الزينبيّات ) للنسّابة العبيدلي، وحول هذه الرسالة ومؤلّفها ورواتها - وبالخصوص الرواية المتعلّقة بهذا الموضوع - حولها كلام عند أهل التحقيق سَنَدَاً وَمَتْنَاً(٢٦) .

____________________

(٢٣) المصدر السابق: ص ٣٣.

(٢٤) المصدر السابق: ص ٥٤.

(٢٥) المصدر السابق: ص ٥٩.

(٢٦) المصدر السابق: ص ٧٥ - ١٠١.

٢٩٨

مصادر الكتاب

٢٩٩

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312