المرأة العظيمة قراءة في حياة السيِّدة زينب بنت علي عليهما السلام

المرأة العظيمة  قراءة في حياة السيِّدة زينب  بنت علي عليهما السلام0%

المرأة العظيمة  قراءة في حياة السيِّدة زينب  بنت علي عليهما السلام مؤلف:
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 312

المرأة العظيمة  قراءة في حياة السيِّدة زينب  بنت علي عليهما السلام

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ حسن الصفار
تصنيف: الصفحات: 312
المشاهدات: 118657
تحميل: 7409

توضيحات:

المرأة العظيمة قراءة في حياة السيِّدة زينب بنت علي عليهما السلام
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 312 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 118657 / تحميل: 7409
الحجم الحجم الحجم
المرأة العظيمة  قراءة في حياة السيِّدة زينب  بنت علي عليهما السلام

المرأة العظيمة قراءة في حياة السيِّدة زينب بنت علي عليهما السلام

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

لا بدّ وأنّ العائلة قد استبشرتْ وابتهجتْ بولادة السيّدة زينبعليها‌السلام ؛ لأنّها أوّل طفلة يحتفي بها بيت علي وفاطمةعليه‌السلام ، فقد سبق وإنْ ازدان البيت الطاهر بوليدَين صبيَّين هما:

- الحسنعليه‌السلام ، الذي وُلِدَ منتصف شهر رمضان في السنة الثالثة للهجرة.

- والحسينعليه‌السلام ، الذي وُلِدَ في الثالث من شعبان للسنة الرابعة من الهجرة.

وتأتي الآن زينبعليه‌السلام في السنة الخامسة كما يرجّح ذلك المحقّقون(١) ، وبعد عام أو أكثر أنجبتْ السيِّدة الزهراءعليه‌السلام بنتاً أُخرى، هي: أُمّ كلثوم لتكون شقيقة لأختها زينبعليه‌السلام .

وخلافاً لِمَا كان منتشراً عند بعض العرب في الجاهليّة من التشاؤم والاستياء عند ولادة البنت، واعتبارها مولوداً ناقص القيمة والشأن، بل قد تُسَبِّب لهم العار والفضيحة، كما أنّها لا تنفعهم في المعارك والحروب؛ ولذلك كان بعضهم يَئِدُهَا عند ولادتها بقتلها أو بدفنها حيّة، كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم بقوله: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا

____________________

(١) زينب الكبرى: النقدي: ص ١٨.

٤١

بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ)(٢) .

خلافاً لذلك فقد أرسى الإسلام ثقافة سلوكيّة جديدة في المجتمع الإسلامي تدين تلك النظرة الاحتقاريّة للبنت، وتجعلها مساوية في الشأن والقيمة للولد، وأكثر من ذلك فإنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يتحدّث عن البنات بايجابيّة أكبر، ويربّي المسلمين على أنْ يكونوا أكثر احتفاءً وسروراً بقدوم البنت.

* وننقل هنا بعض الأحاديث والنصوص الواردة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعن الأئمّة الطاهرينعليهم‌السلام :

- بُشّر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بابنةٍ فنظر إلى وجوه أصحابه فرأى الكراهة فيهم، فقال: ما لكم؟! ريحانة أشمّها ورزقها على الله عزّ وجل. وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أبا بنات(٣) .

-عن حذيفة بن اليمان قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (خير أولادكم البنات)(٤) .

-عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : (نِعم الَولِد البنات المخدّرات، مَن كانت عنده واحدة جعلها الله ستراً من النار، ومَن كانت عنده اثنتان أدخله الله بهما الجنّة، ومَن يكن له ثلاث أو مثلهنّ من الأخوات وُضع عنه الجهاد والصدقة)(٥) .

-عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : (مَن عال ابنتَين أو ثلاثاً كان معي في الجنّة)(٦) .

____________________

(٢) سورة النحل: الآيات: ٥٨ - ٥٩.

(٣) وسائل الشيعة: الحر العاملي: ج ١٥، ص ١٠٢.

(٤) بحار الأنوار: المجلسي: ج ١٠١، ص ٩١.

(٥) المصدر السابق: ص ٩١.

(٦) الطفل نشوءه وتربيته: مؤسّسة البعثة: ص ٢٧٢.

٤٢

-وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (مَن كانت له ابنة واحدة كانت خيراً له من: ألف جنّة، وألف غزوة، وألف بَدَنَة، وألف ضيافة)(٧) .

-عن الإمام موسى بن جعفر عن آبائه عليهم‌السلام قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (ومِن يُمْن المرأة أنْ يكون بِكْرُها جاريةً) يعني أوّل ولدها(٨) .

-عن ابن عبّاس قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (مَن دخل السوق فاشترى تحفةً فحملها إلى عياله، كان كحامل صدقة إلى قوم محاويج، ولْيَبْدَأ بالأُناث قبل الذكور، فإنّه مَن فَرَّحَ أُنثى فكأنّما أَعْتَقَ رقبة من وُلد إسماعيل)(٩) .

وسبب آخر يؤكّد على حتميّة السرور والابتهاج الذي غمر البيت النبوي عند ولادة زينب، هو المعرفة المسبقة التي أوحاها الله تعالى لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالمكانة العظيمة والدور الريادي الذي ستقوم به هذه الوليدة في الأُمّة الإسلاميّة؛ لذلك تشير إحدى الروايات إلى أنّ تسمية السيّدة زينبعليها‌السلام قد تمّت من قبل الله تعالى، يقول العلاّمة الشيخ جعفر النقدي ما نصّه:

(لمّا وُلدتْ زينبعليه‌السلام جاءتْ بها أمُّها الزهراءعليها‌السلام إلى أبيها أمير المؤمنينعليه‌السلام ،وقالتْ : (سمّ هذه المولودة).

فقال : (ما كنتُ لأسبق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ).

وكان في سفر له، ولمّا جاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وسأله عليٌّ عن اسمها، فقال: (ما كنتُ لأسبق ربّي تعالى).

____________________

(٧) المصدر السابق: ص ٢٧٢.

(٨) المصدر السابق: ص ٢٧٣.

(٩) بحار الأنوار: المجلسي: ج ١٠١، ص ١٠٤.

٤٣

فهبط جبرئيل يقرأ على النبي السلام من الله الجليل، وقال له: (سمّ هذه المولودة زينب، فقد اختار الله لها هذا الاسم). ثمّ أخبره بما يجري عليها من المصائب، فبكى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله (١٠) .

ولم يذكر الشيخ النقدي مصدر هذه الرواية، لكنّ العلاّمة الشيخ محمّد جواد مغنية نقل الرواية في كتابه: (الحسين وبطلة كربلاء ) عن جريدة (الجمهوريّة ) المصريّة (٣١ - ١٠ - ١٩٧٢ م)، للكاتب المصري يوسف محمود.

ويقول العلاّمة السيد محمّد كاظم القزويني: سمّاها جدُّها الرسول زينباً، والكلمة مركبة من زين الأب)(١١) .

وتتحدّث الكاتبة الأديبةعائشة بنت الشاطئ عن الأجواء التي سادتْ البيت النبوي عند ولادة السيدة زينب، فتقول:

وبدا كأنّ كلّ شيء يعد الوليد بحياة سعيدة، وأقبل المهنّئون من بني هاشم والصحابة، يباركون هذه الزهرة المتفتّحة في بيت الرسول، تنشر في المهد عبير المنبت الطيّب، وتلوح في طلعتها المشرقة ووجهها الصبيح ملامحُ آباء وأجداد لها كرام.

لكنّهم فوجئوا - لو صدقت الأخبار - بظلال حزينة تلفّ المهد الجميل! ظلال ربّما لا يكون لأكثرها مكان في كتاب تاريخ يكتب للتحقيق العلمي، لكن لها مكانها في النفس البشريّة، ووقْعها على الوجدان.

حدّثوا أنّ نبوءةً ذاعتْ عند مولد الطفلة، تُشير إلى دورها الفاجع في مأساة (كربلاء )، وتحدّث بظهر الغيب عمّا ينتظرها في غَدِهَا من مِحَن وآلام.

كانت المأساة معروفة فيما يقولون، قبل موعدها بأكثر من نصف قرن من

____________________

(١٠) زينب الكبرى: النقدي: ص ١٦.

(١١) فاطمة الزهراء من المهد إلى اللحد: القزويني: ص ٢٢٩.

٤٤

الزمان، ففي (سنن ابن حنبل: ج ١ ص ٨٥ ) أنّ جبرئيل أخبر محمّداً بمصرع الحسين وآل بيته في كربلاء.

وينقل ابن الأثير في (الكامل ) أنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أعطى زوجه أُمّ سَلَمَة تراباً حمله له أمين الوحي من التربة التي سيراق فوقها دم الحسين، وقال لها: (إذا صار هذا التراب دماً فقد قُتل الحسين). وإنّ أُمّ سَلَمَة حفظتْ ذلك التراب في قارورة عندها، فلمّا قُتل الحسين صار التراب دماً، فعلمتْ أنّ الحسين قُتل، وأذاعتْ في الناس النبأ.

وسوف نسمع المؤرّخين بعد ذلك في حوادث عامَي: (٦٠ - ٦١) يذكرون أنّ (زهير بن القين البجلي ) وهو عثماني الهوى خرج من مكّة بعد أنْ حجّ عام (٦٠)، فصادف خروجه مسير الحسين إلى العراق، فكان زهير يُساير الحسين إلاّ أنّه لا ينزل معه، فاستدعاه الحسين يوماً فشقّ عليه ذلك، ثمّ أجابه، فلمّا خرج من عنده أقبل على أصحابه، فقال:

(من أحب منكم أنْ يتبعني وإلاّ فإنّه آخر العهد).

ثمّ راح يروي لهم قصّة قديمة من عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : قال إنّه خرج مع جماعة من المسلمين في غزوة لهم فظفروا وأصابوا غنائم فرحوا بها، وكان معهم (سلمان الفارسي ) فأشار إلى أنّ الحسين سيُقتل: ثمّ قال سلمان لأصحابه: (إذا أدركتم سيّد شباب أهل محمّد فكونوا أشدّ فرحاً بقتالكم معه، منكم بما أصبتم اليوم من الغنائم).

قال ابن الأثير : وتوجّه زهير - بعد أنْ حدّث أصحابه بحديث سلمان الفارسي - فودّع أهله وطلّق زوجته مخافة أنْ يلحقها أذى، ولزم الحسينعليه‌السلام حتّى قُتل معه.

وكان الحسينعليه‌السلام - فيما يروي المؤرّخون - يعلم منذ طفولته بما قُدّر له، كما كان دور أخته زينب حديث القوم منذ وُلدتْ. فهم يذكرون أنّ سلمان الفارسي أقبل على

٤٥

علي بن أبي طالبعليه‌السلام يهنِّئه بوليدته، فألفاه واجماً حزيناً، يتحدّث عمّا سوف تلقى ابنته في كربلاء.

وبكى عليٌّ الفارسُ الشجاعُ ذو اللواء المنصور، والملقّب بأسد الإسلام.

أكانتْ هذه الروايات جميعاً من مخترعات الرواة ومبتدعات السمّار؟

أكانت من إضافات المنقّبين وتصوّرات المتحدِّثين عن الكرامات؟

أكانت من شطحات الواهمين ورؤى المغرَقين في الخيال؟

ذلك ما اطمأنّ إليه المستشرقون وقرّره:

- (رونالدسون) في كتابه (عقيدة الشيعة).

- و (لامنس) في(فاطمة وبنات محمّد).

أمّا المؤرّخون المسلمون، فما يشكّ أكثرهم في أنّ هذه الروايات كلّها صادقة لا ريب فيها، وقلّ منهم مَن وقف عند خبر منها مرتاباً أو متسائلاً. وليس الأقدمون وحدهم هم الذين نزّهوا مثل هذه الروايات عن الشك، بل إنّ مِن كُتّاب العصر مَن لا يقل عنهم إيماناً بتلك الظلال التي أحاطتْ بمولد زينب.

فهذا الكاتب الهندي المسلم (محمّد الحاج سالمين ) يصف في الفصل الأوّل من كتابه:

(سيّدة زينب)( sayyidah zeinab ).

كيف استقبلتْ الوليدة بالدموع والهموم، ثمّ يمضي - بعد أنْ ينقل بعض المرويّات عن النّبوءة المشئومة - فيمثّل النبي العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله وقد انحنى على حفيدته يقبّلها بقلب حزين وعينَين دامعتَين، عالِماً بتلك الأيّام السود التي تنتظرها وراء الحجب.

ويمضي (سالمين) فيتساءل : (ترى إلى أي مدى كان حزنه حين رأى بظهر الغيب تلك المذبحة الشنعاء التي تنتظر الغالي! وكم اهتزّ قلبه الرقيق الحاني وهو يطالع في وجه الوليدة الحلوة صورة المصير الفاجع المنتظر؟!(١٢) .

____________________

(١٢) السيّدة زينب: عائشة بنت الشاطئ: ص ٢٨.

٤٦

الأجواء العائليّة

لا شكّ أنّ البيئة والأجواء العائليّة التي ينشأ فيها الإنسان تلعب دوراً أساسيّاً في بناء شخصيّته، فهي التي تَغرس في نفسه قِيَمَها وأفكارها، وتربيه على سلوكيّاتها وعاداتها.

ولنلقِ الآن نظرة عابرة على الأجواء العائلية التي نشأت من خلالها السيّدة زينبعليها‌السلام .

* الوضع الحياتي المعيشي:

قد تختلف تأثيرات حياة الترف والرفاه على نفس الطفل عن تأثيرات حياة التقشّف والبساطة:

١ - ففي الحالة الأولى ينشأ الطفل على الدّلع والدلال، وينعدم لديه الشعور بقيمة الأشياء لتوفّرها أمامه، ولا تنمو في نفسه حسّاسيّة ولا شفافيّة تجاه حالات الفقر والحرمان؛ لأنّه لم يتذوّق مرارتها، كما أنّ مشاكل الحياة قد تصدمه بقوّة؛ لعدم استعداده النفسي لمواجهة الصعوبات والمشاكل.

٢ - أمّا في الحالة الثانية، فإنّ شخصيّة الطفل قد تكون أكثر اتّزاناً وأقوى جلداً، وأقل استهانة بالأشياء والأمور، وأقرب إلى التفاعل النفسي مع الطبقات المحرومة والضعيفة في المجتمع.

كما أنّنا يجب أنْ نُفرّق بين البساطة والتقشّف اللذين يفرضهما الفقر والحاجة وبينها في حالة الاختيار والطواعية، ففي أُولى الحالتَين قد تُسبّب حالة البساطة والتقشّف عند الإنسان وجود التطلّعات والتمنِّيات لرغد العيش ورفاهية الحياة، كما قد يتسرّب إلى نفس الطفل شيء من عدم الارتياح تجاه الموسِرين المترَفين، كأرضيّة للحقد والحسد والانتقام.

بينما توجد حالة البساطة المختارة كنمط للحياة عند العائلة توجد المشاعر والانعكاسات الايجابيّة، دون تلك السلبيّات، حيث يرى الطفل أنّ عائلته تمتلك القدرة على الرفاه لكنّها لا ترغبه لمنطلقات أخلاقيّة، كما لو كانت العائلة تُؤْثر

٤٧

الفقراء والمحتاجين، وتجود على الضعفاء والمعوزين.

والسيّدة زينب نشأتْ في أفضل جوّ عائلي من هذا الجانب، فأسرتها لم تكن فقيرة مَعُوَزة، فلربّما سمعتْ زينب في فترة طفولتها عن ثروات جدّتها خديجة، كما ترى الموقع القيادي لجدِّها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث ولدتْ ونشأتْ في فترة الانتصارات العسكريّة والسياسيّة، والتي كانت تعود على المسلمين بالغنائم الكثيرة، ولجدّها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فيها التصرّف المطلق، إلى جانب استعداد المسلمين لبذل كلّ إمكانيّاتهم ووضْعها تحت تصرّف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وتلاحظ السيّدة زينب امتلاك عائلتها لبعض الإمكانيّات ثمّ تنازلها عنها لصالح الآخرين، ويخلّد القرآن الحكيم نموذجاً لهذه الحالة عند عائلة زينب مشيداً بها في سورة الإنسان، حيث يقول تعالى:( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوراً ) (١٣) .

ففي كثير من التفاسير أنّ هذه الآيات نزلتْ في حق أهل البيتعليهم‌السلام ، ونثبت منها عبارة الرازي بنصّها:

- ذكر الواحدي من أصحابنا - أي السُنّة - وصاحب (الكشاف) من المعتزلة:

أنّ الحسن والحسين مَرِضَا فعادهما الرسول في أناس معه، فقالوا: يا أبا الحسن لو نذرتَ على ولدك.

فنذر علي وفاطمة وجارية لهما، إنْ شفاهما الله تعالى أنْ يصوموا ثلاثة أيّام، فَشُفِيَا، فاستقرض علي ثلاثة أصوع من شعير، فطحنتْ فاطمة صاعاً، واختبزتْ خمسة أقراص على عددهم، ووضعوها بين أيديهم ليفطروا، فوقف عليهم سائل، فقال: السلام عليكم يا أهل بيت محمّد، مسكين أطعموني، أطمعكم الله من

____________________

(١٣) سورة الإنسان: الآيات: ٧ - ٩.

٤٨

الجنّة.

فآثروه ولم يذوقوا إلاّ الماء، وأصبحوا صائمين، فلمّا أَمْسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم وقف يتيم فآثروه، وجاءهم أسير في الليلة الثالثة، ففعلوا مثل ذلك، فلمّا أصبحوا أبصرهم رسول الله يرتعشون كالفراخ، فقال: (ما أشد ما يسوءني ما أرى بكم).

فنزل جبرئيل وقال: (خذها يا محمّد، هنّاك الله في أهل بيتك)، فقرأ هذه السورة(١٤) .

وقد سجّل الشيخ الأميني في موسوعته (الغدير) قائمة تحتوي على المصادر التي روتْ هذه الحادثة من كتب التفسير والحديث لأهل السُنّة والجماعة، بلغتْ (٣٤ مصدراً )(١٥) .

ونموذج آخر تسجّله الروايات يعطينا صورة عن بساطة الحياة والزهد المتعمد الذي اختارته عائلة زينب، انطلاقاً من منهجيّة خاصّة في فهْم الحياة والتعامل معها.

- عن زرارة عن أبي جعفر الباقرعليه‌السلام قال:

كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إذا أراد سفراً سلّم على مَن أراد التسليم عليه من أهله، ثمّ يكون آخر مَن يُسَلِّم عليه فاطمة، فيكون وجهه إلى سفره مِن بيتها، وإذا رجع بدأ بها - أي يزورها قبل كلّ أحد - فسافر مرّة وقد أصاب علي شيئاً من الغنيمة ورفعه إلى فاطمة، فأخذتْ سوارين من فضّة، وعلّقتْ على بابها سِتراً - أي ألبستْ الباب ثوباً للزينة - فلمّا قدم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله دخل المسجد، فتوجّه نحو بيت فاطمة كما كان يصنع، فقامتْ إلى أبيها صبابة وشوقاً إليه، فنظر فإذا في يدها سواران من فضّة وإذا على بابها سِتْرٌ، فقعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله

____________________

(١٤) التفسير الكاشف: محمّد جواد مغنية: ج ٧، ص ٤٨٣.

(١٥) الغدير: عبد الحسين الأميني: ج ٣، ص ١٠٧ - ١١١.

٤٩

حيث ينظر إليها، فبكتْ فاطمة وحزنتْ، وقالتْ: (ما صُنِعَ هذا بي قَبْلها).

فدعت ابنَيها، فنزعتْ الستر عن بابها، وخلعتْ السوارين مِن يَدَيْها، ثمّ دفعتْ السوارين إلى احدهما والسِتْر إلى الآخر، ثمّ قالتْ لهما:

(انطلقا إلى أبي فاقْرِئاه السلام، وقولا له: ما أحدثنا بعدك غير هذا، فشأنك به).

فجاءاه فأبلغاه ذلك عن أمّهما، فقبلهما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله والتزمهما وأقعد كلّ واحد منهما على فخذه، ثمّ أمر بذينك السوارين فكُسِرَا فجعلهما قطعاً، ثمّ دعا أهل الصفة وهم قوم من المهاجرين لم يكن لهم منازل ولا أموال فقسّمه بينهم.

-وروى ابن شاهين في (مناقب فاطمة) عن أبي هريرة وثوبان هذا الحديث، مع تغيير يسير إلى أنْ قال: قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (فعلتْ فداها أبوها - ثلاث مرات - مالآل محمّد والدنيا؟ فإنّهم خلقوا للآخرة وخلقتْ الدنيا لهم).

-وفي رواية أحمد بن حنبل : (فإنّ هؤلاء أهل بيتي ولا أحبّ أنْ يأكلوا طيّباتهم في حياتهم الدنيا).

وقد روى هذا الحديث:

- الخطيب العمري في (مشكاة المصابيح).

- والطبري في (ذخائر العقبى).

- والثوري في (نهاية الإرب).

- والقندوزي في (ينابيع المودّة).

- والطبراني في (المعجم الكبير).

- والزبيدي في (أتحاف السادة) وغيرهم(١٦) .

لم تكن عائلة زينب تمتلك بيتاً تقطنه، لكنّ أحد الصحابة المتمكّنين من أهل المدينة وهو (حارثة بن النعمان ) وضع أحد منازله تحت تصرّف عليّ حينما أراد الزواج من بنت الرسول فاطمة، وبعد فترة بنى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بيتاً ملاصقاً لمسجده له باب شارع إلى المسجد، كبقيّة الحجرات التي بناها لزوجاته، وانتقلتْ عائلة زينب إلى ذلك البيت الجديد الملاصق لبيت الله المجاور

____________________

(١٦) الزهراء من المهد إلى اللحد: القزويني: ص ٢٧٩.

٥٠

لبيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (١٧) .

ويُروى أنّ سلمان الفارسي رأى فاطمة الزهراء مرّة فبكى، وقال: (إنّ قيصر وكسرى في السندس والحرير وابنة محمّد في ثياب بالية )(١٨) .

* الانسجام والمحبّة:

لماذا نرى بعض الناس وديعين أليفين قادرين على التعاون والانسجام مع الآخرين، ونرى بعض الآخر عدائيِّين مزعجين يتعاملون مع الآخرين بخشونة وقسوة؟

إنّ مِن أبرز العوامل والأسباب التي تؤثّر في صنع نفسيّة الإنسان وتوجيهها نحو الألفة والوداعة، أو العداء والإساءة، هي الأجواء العائليّة التي يعيشها الإنسان في طفولته، فإذا عاش الطفل جوّاً عائليّاً تسوده المحبّة والانسجام، فإنّه يتربّى ضمن ذلك النموذج، أمّا إذا ما نشأ في أجواء المشاحنة والبغضاء بين أبيه وأُمّه، أو بينه وبين والدَيه، أو فيما بين إخوته، فإنّ ذلك يزرع في نفسه بذور الحقد والقسوة، ويدفعه لممارسة العنف والإيذاء، دفاعاً عن ذاته وحقوقه.

يقول الأستاذ الفلسفي:

(إنّ سلوك جميع أفراد البشر وأساليب معاشرتهم مع الناس إنّما هو خلاصة للأساليب التربويّة التي اتُّخِذتْ معهم في دور الطفولة، من قِبل الآباء أو الأمّهات في الأسرة، أو من قِبل المعلّمين في المدرسة. فكل خير أو شر لقّنوه إيّاهم في أيّام الطفولة يظهر على سلوكهم عند الكبر، وعندما يصبحون أعضاء في هذا المجتمع الإنساني الكبير. وبعبارة أُخرى: فإنّ الوضع الروحي والخلقي والسلوكي للناس في كلّ عصر إنّما هو حصيلة البذور التربويّة التي نثرت في أدمغتهم أيّام الطفولة)(١٩) .

____________________

(١٧) الزهراء من المهد إلى اللحد: القزويني: ص ١٨٨ - ٢١٣.

(١٨) مع بطلة كربلاء: محمّد جواد مغنية: ص ٢٥.

(١٩) الطفل بين الوراثة والتربية: محمّد تقي فلسفي: ج ٢، ص ٧٠.

٥١

لذلك يؤكّد الإسلام على أنْ يغمر الأطفال بالعطف والحنان، وأنْ يُتعامل معهم الوالدان بالمحبّة والشفقة، وأنْ يجنّبوا أبناءهم حصول المشاكل أمامهم.

وقد عاشتْ السيِّدة زينب وترعرعتْ في جوٍّ يغمره العطف والحنان، وتسوده المحبّة والانسجام، فعمدا البيت وقطباه - علي وفاطمة والدا زينب - كانت علاقتهما قمّة في الصفاء والحب، لا تدانيها أيّة علاقة زوجيّة في تاريخ البشر.

يقول الإمام عليعليه‌السلام عن حياته مع الزهراءعليها‌السلام :

(فوالله ما أغضبْتُها ولا أكرهْتُها على أمر حتّى قبضها الله عز وجل، ولا أغضبتْني ولا عصتْ لي أمراً، لقد كنتُ أنظر إليها فتنكشف عنّي الهموم والأحزان)(٢٠) .

وفي آخر ساعة من حياتها تخاطب الزهراء عليّاًعليهما‌السلام قائلة:

(يابن عم! ما عهدتَني كاذبة ولا خائنة ولا خالفتُك منذ عاشرتني).

فيجبيها الإمام علي : (معاذ الله أنت أعلم بالله وأبر وأتقى وأكرم وأشدّ خوفاً من الله مِن أنْ أُوبّخك بمخالفتي)(٢١) .

* الأجواء الرساليّة:

نشأتْ العقيلة زينب ضمن عائلة قد نذرت نفسها للجهاد في سبيل الله، وتربّتْ في أجواء رساليّة، ما كان يدور فيها غير الاهتمامات القيميّة المبدئيّة، فجدّها الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله قاد بنفسه حوالي (٢٨ غزوة ومعركة )(٢٢) ، وأبوها الإمام عليعليه‌السلام رافق الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في جميع تلك المعارك عدا

____________________

(٢٠) فاطمة الزهراء من المهد إلى اللحد: القزويني: ص ٢١٢.

(٢١) المصدر السابق: ص ٦٠٩.

(٢٢) الرسول القائد: محمود شيت خطاب: ص ٤٣١.

٥٢

واحدة، وهي غزوة تبوك، حيث تخلّف بأمر من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

كما قاد الإمام بنفسه العديد من السرّايا والمعارك المحدودة. إنّ ذلك يعني أنّ زينب وعائلتها كانوا يعيشون ظروف الجهاد في أغلب فترات حياتهم، فحينما يغادرهم الجدّ أو الأب إلى ساحة المعركة فستكون نفوسهم منشدّة ومرتبطة بما يدور على ساحات القتال. ولا يقتصر الأمر على تفاعل الأسرة مع قضايا الحرب والجهاد، بل إنّها كانت معنيّة بكل أوضاع المجتمع، فعائلة زينب هي في موقع القيادة والقلب.

وهكذا عاشت السيّدة زينبعليها‌السلام فترة طفولتها في بيت تتموّج فيه هموم مجتمعها، وفي أجواء مفعمة بالمسؤوليّة والتضحية.

٥٣

٥٤

الفاجعة الكبرى

٥٥

٥٦

بعد خمس سنوات عاشتْها زينب في كنف عائلتها الحنون، وفي ظلّ أجواء المحبّة والعطف، حيث كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يظلّل بيت زينب برعايته، ويغمر أفراد ذلك البيت بعنايته وإجلاله. فلا يكاد يمرّ يوم لا يلتقي فيه محمّد بأهل بيته، وإذا ما سافر كان بيتهم آخر محطّة ينطلق منها لسفره، وإذا ما عاد كان بيتهم أوّل منزل يدخله.

-روى الحاكم في(المستدرك) بسنده عن أبي ثعلبة الخشني : كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إذا رجع من غزوة أو سفر أتى المسجد فصلّى فيه ركعتَين، ثمّ ثنّى بفاطمة، ثمّ يأتي أزواجه.

-وبسنده عن ابن عمران : إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان إذا سافر كان آخر الناس عهداً به فاطمة، وإذا قدم مِن سفر كان أوّل الناس به عهداً فاطمة)(٢٣) .

____________________

(٢٣) أعيان الشيعة: السيّد محسن الأمين: ج ١، ص ٣٠٧.

٥٧

ويقول الشيخ مغنية:

وكان النبي لا يصبر عن بيته هذا، ولا يشغله عنه شاغل، خاصّةً بعد أنْ نبتتْ فيه رياحينه، فإذا دخله قبل هذا، وشمّ ذاك وابتسم لتلك... ودخله ذات يوم فأخذ الحسنَ وحمله، فأخذ عليٌّ الحسين وحمله، فأخذتْ فاطمةُ زينبَ وحملتها(٢٤) ، فاهتزّتْ أركان البيت طرباً لجوّ الصفوة المختارة، وابتهاج الرسول بآله وابتهاجهم به، وتدلّنا هذه الظاهرة وكثير غيرها أنّ محمّداً كان أكثر الأنبياء غبطة وسعادة بأهل بيته)(٢٥) .

وشاء الله سبحانه وتعالى أنْ يكون حظ السيِّدة زينب من تلك الحياة الهانئة السعيدة محدوداً بالسنوات الخمس الأُولى من حياتها، فما أنْ دخلتْ السنة (الحادية عشر للهجرة )، وتصرّمتْ أيّام شهرها الثاني (شهر صفر )، إلاّ وشمس السعادة في بيت زينب قد آذنت بالغروب، فرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يلبّي نداء ربّه ويفارق الحياة ويلتحق بالرفيق الأعلى في (الثامن والعشرين من شهر صفر ) سنة(١١ ه-).

وإذا كان فَقْد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يُشكِّل صدمة كبرى وفاجعة مهولة عظمى على المسلمين جميعاً، فإنّه - ولا شك - أشد وقْعاً وأعظم أثراً على أهل بيته الملتصقين به والمتنعّمين برعايته وعطفه.

وزينب الصغيرة في السن، المرهفة الإحساس، الرقيقة المشاعر، وجدتْ نفسها في مواجهة هذه الرزيّة الكبرى، ورأتْ كيف انقلبتْ الأجواء في بيتها رأساً على عقب، من بهجةٍ وغبطةٍ وسرورٍ إلى كآبة وحزن واضطراب.

لقد صحبتْ زينب أمّها الزهراء وهي تنكبّ على أبيها رسول الله عند مصارعته لسكرات الموت نادبة : (واويلتاه لموت خاتم الأنبياء، وامصيبتاه لممات خير الأتقياء، ولانقطاع سيّد

____________________

(٢٤) بحار الأنوار: المجلسي: ج ١٠، ص ٥٨.

(٢٥) مع بطلة كربلاء: محمّد جواد مغنية: ص ٢٢.

٥٨

الأصفياء، واحسرتاه لانقطاع الوحي من السماء، فقد حرمتُ اليوم كلامك)(٢٦) .

ورأتْ زينبُ أخوَيها الحسنَين حينما أَلْقَيَا بنفسَيهما على جدِّهما الرسول يودِّعانه وهما يَذرفان الدموع، فجعل يقبّلهما وهما يقبّلانه، وأراد عليّ أنْ يُنَحِّيهما عنه، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : (دعهما يتمتّعان منّي وأتمتّع منهما فستصيبهما بعدي أُثْرَة)(٢٧) .

وتوالتْ مشاهد الألم والحسرة أمام ناظري زينب، فهذه أُمّها الزهراء تنكبّ على جثمان أبيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد وفاته تبكي أَمَرّ البكاء، قائلة : (وا أبتاه، إلى جبرئيل أنعاه، وا أبتاه جَنّة الفردوس مأواه، وا أبتاه أجاب ربّاً دعاه)(٢٨) .

وتقول أيضاً : (وا أبتاه وا رسول الله، وانبيّ الرحمتاه، الآن لا يأتي الوحي، الآن ينقطع عنّا جبرئيل، اللهمّ أَلْحِق روحي بروحه، واشفعني بالنظر إلى وجهه، ولا تحرمني أجره وشفاعته يوم القيامة)(٢٩) .

وهذا أبوها علي بن أبي طالب عليه‌السلام وهو الجبل الأشم في صموده وبطولته، لكنّه تذوب نفسه أمام هذه المصيبة، فيقول : (إنّ الصبر لجميل إلاّ عنك، وإنّ الجزع لقبيح إلاّ عليك، وإنّ المصاب بك لجليل، وإنّه قبلك وبعدك لجلل)(٣٠) .

وقال أيضاً وهو يلي غسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وتجهيزه : (بأبي أنت وأمّي يا رسول الله، لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوّة والإنباء وأخبار السماء، خصّصتَ حتّى صرتُ مسلّياً عمّن سواك، وعممتَ حتى صار الناس

____________________

(٢٦) حياة الإمام الحسن: باقر شريف القرشي: ج ١، ص ١٣٣.

(٢٧) المصدر السابق: ص ١٣٤.

(٢٨) المصدر السابق: ص ١٣٦.

(٢٩) حياة الإمام الحسين: باقر شريف القرشي: ج ١، ص ٢٢١.

(٣٠) نهج البلاغة: الإمام علي: قصار الحِكَم، رقم: ٢٩٢.

٥٩

فيك سواء، ولولا أنّك أمرتَ بالصبر، ونهيتَ عن الجزع، لأنفذنا عليك ماء الشؤون، ولكان الداء مماطلاً، والكمد محالفاً، وقلاّ لك، ولكنّه ما لا يملك ردّه، ولا يُستطاع دفعه، بأبي أنت وأمي، اُذكرنا عند ربّك، واجعلني مِن بالك)(٣١) .

ويتحدّث الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام عن مدى وقْع المأساة على بيت زينب، فيقول لمّا مات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : (عاشتْ فاطمة عليها السلام بعد أبيها خمسة وسبعين يوماً، لم تُرَ كاشرة ولا ضاحكة ، تأتي قبور الشهداء في كلّ جمعةٍ مرّتين: الاثنين والخميس، فتقول : (ها هنا كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ها هنا كان المشركون).

وقال ابن شهر اشوب في(المناقب):

رُوِيَ أنّها مازالتْ بعد أبيها معصّبة الرأس، ناحلة الجسم، منهدّة الركن، باكية العين، محترّة القلب، يُغشى عليها ساعة بعد ساعة، وتقول لولديها: (أين أبوكما الذي كان يكرمكما ويحمكما مرّة بعد مرة؟ أين أبوكما الذي كان أشدّ الناس شفقة عليكما فلا يدعكما تمشيان على الأرض، ولا أراه يفتح هذا الباب أبداً ولا يحملكما على عاتقه كما لم يزل يفعل بكما).

ورُوي أنّه لمّا قُبض النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله امتنع بلال من الأذان، وقال: لا أُؤذّن لأحد بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإنّ فاطمة قالتْ ذات يوم: (أشتهي أنْ أسمع صوت مؤذّن أبي بأذان).

فبلغ ذلك بلالاً فأخذ في الأذان، فلمّا قال: الله أكبر الله أكبر. ذكرتْ أباها وأيّامه، فلم تتمالك من البكاء، فلمّا بلغ إلى قوله: أشهد أنّ محمّداً رسول

____________________

(٣١) المصدر السابق: الخطبة رقم: ٢٣٥.

(٣٢) حياة الإمام الحسين: باقر شريف القرشي: ج ١، ص ٢٢٥.

٦٠